فهرس تفسير الطبري للسور 18 - تفسير الطبري سورة الكهف
تفسير سورة الكهف بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله عز ذكره : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ( 1 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خص برسالته محمدا وانتخبه لبلاغها عنه، فابتعثه إلى خلقه نبيا مرسلا وأنـزل عليه كتابه قيما، ولم يجعل له عوجا. وعنى بقوله عز ذكره: قَيِّمًا معتدلا مستقيما، وقيل: عنى به: أنه قيم على سائر الكتب يصدقها ويحفظها. * ذكر من قال عنى به معتدلا مستقيما: حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا يقول: أنـزل الكتاب عدلا قيما، ولم يجعل له عوجا، فأخبر ابن عباس بقوله هذا مع بيانه معنى القيم أن القيم مؤخر بعد قوله، ولم يجعل له عوجا، ومعناه التقديم بمعنى: أنـزل الكتاب على عبده قيما. حدثت عن محمد بن زيد، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله قَيِّمًا قال: مستقيما. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا : أي معتدلا لا اختلاف فيه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا قال: أنـزل الله الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْـزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا . قال: وفي بعض القراءات: « ولكن جعله قيما » . والصواب من القول في ذلك عندنا : ما قاله ابن عباس، ومن قال بقوله في ذلك، لدلالة قوله: ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ) فأخبر جل ثناؤه أنه أنـزل الكتاب الذي أنـزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم قَيِّمًا مستقيما لا اختلاف فيه ولا تفاوت، بل بعضه يصدق بعضا، وبعضه يشهد لبعض، لا عوج فيه، ولا ميل عن الحق، وكسرت العين من قوله ( عِوَجًا ) لأن العرب كذلك تقول في كل اعوجاج كان في دين، أو فيما لا يرى شخصه قائما، فيُدْرَك عِيانا منتصبا كالعاج في الدين، ولذلك كُسِرت العين في هذا الموضع، وكذلك العِوَج في الطريق، لأنه ليس بالشخص المنتصب ، فأما ما كان من عِوَج في الأشخاص المنتصبة قياما، فإن عينها تفتح كالعَوج في القناة، والخشبة، ونحوها، وكان ابن عباس يقول في معنى قوله ( وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ) : ولم يجعل له ملتبسا. ذكر من قال ذلك: حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ ، عن ابن عباس وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا ولم يجعل له ملتبسا. ولا خلاف أيضا بين أهل العربية في أن معنى قوله قَيِّمًا وإن كان مؤخرا، التقديم إلى جنب الكتاب، وقيل إنما افتتح جلّ ثناؤه هذه السورة بذكر نفسه بما هو له أهل، وبالخبر عن إنـزال كتابه على رسوله إخبارا منه للمشركين من أهل مكة، بأن محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المشركين كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء علمهموها اليهود من قريظة والنضير، وأمروهم بمسآلتهموه عنها، وقالوا: إن أخبركم بها فهو نبيٌّ ، وإن لم يخبركم بها فهو متقوّل، فوعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للجواب عنها موعدا، فأبطأ الوحي عنه بعض الإبطاء، وتأخّر مجيء جبرائيل عليه السلام عنه عن ميعاده القوم، فتحدث المشركون بأنه أخلفهم موعده، وأنه متقوّل، فأنـزل الله هذه السورة جوابا عن مسائلهم، وافتتح أوّلها بذكره ، وتكذيب المشركين في أحدوثتهم التي تحدثوها بينهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، قال: ثني شيخ من أهل مصر، قدم منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس ، فيما يروي أبو جعفر الطبري قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعُقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد، وصِفُوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألوا أحبار يهودَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهنّ، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فَرَأوا فيه رأيكم: سلوه عن فِتية ذهبوا في الدهر الأوَّل، ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف، بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك، فإنه نبيّ فاتَّبعوه، وإن هو لم يخبركم، فهو رجل متقوّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فأقبل النضْر وعقبة حتى قَدِما مكة على قريش، فقالا يا معشر قريش: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهودَ أن نسأله، عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُخْبِرُكُمْ غَدًا بِمَا سألْتُمْ عَنْهُ ، ولم يستثن فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يُحدِث الله إليه في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وَعَدَنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْثُ الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبرائيل عليه السلام ، من الله عزّ وجلّ، بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفِتية والرجل الطوّاف، وقول الله عزّ وجلّ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا [ قال ابن إسحاق: فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنـزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ) يعني محمدا إنك رسولي في تحقيق ما سألوا عنه من نبوّته وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا : أي معتدلا لا اختلاف فيه. القول في تأويل قوله تعالى : قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ( 2 ) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ( 3 ) يقول تعالى ذكره: أنـزل على عبده القرآن معتدلا مستقيما لا عوج فيه لينذركم أيها الناس بأسا من الله شديدا ، وعنى بالبأس العذاب العاجل، والنكال الحاضر والسطوة ، وقوله: ( مِنْ لَدُنْهُ ) يعني: من عند الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق ( لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا ) عاجل عقوبة في الدنيا، وعذابا في الآخرة. ( مِنْ لَدُنْهُ ) : أي من عند ربك الذي بعثك رسولا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، بنحوه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( مِنْ لَدُنْهُ ) : أي من عنده. فإن قال قائل: فأين مفعول قوله ( لِيُنْذِرَ ) فإن مفعوله محذوف اكتفى بدلالة ما ظهر من الكلام عليه من ذكره، وهو مضمر متصل بينذر قبل البأس، كأنه قيل: لينذركم بأسا، كما قيل: يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [ آل عمران: 175 ] إنما هو: يخوّفكم أولياءه. وقوله: ( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ ) يقول: ويبشر المصدقين الله ورسوله ( الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ ) وهو العمل بما أمر الله بالعمل به، والانتهاء عما نهى الله عنه ( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) يقول: ثوابا جزيلا لهم من الله على إيمانهم بالله ورسوله، وعملهم في الدنيا الصالحات من الأعمال، وذلك الثواب: هو الجنة التي وعدها المتقون. وقوله: ( مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ) خالدين، لا ينتقلون عنه، ولا ينقلون، ونصب ماكثين على الحال من قوله: ( أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ) في هذه الحال في حال مكثهم في ذلك الأجر. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سَلَمة، عن ابن إسحاق ( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ) : أي في دار خلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به عن الله، وعملوا بما أمرتهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ( 4 ) يقول تعالى ذكره: يحذر أيضا محمد القوم ( الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) من مشركي قومه وغيرهم، بأسَ الله وعاجل نقمته، وآجل عذابه، على قيلهم ذلك. كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) يعني قريشا في قولهم: إنما نعبد الملائكة، وهنّ بنات الله . القول في تأويل قوله تعالى : مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا ( 5 ) وقوله : ( مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ) يقول: ما لقائلي هذا القول، يعني قولهم ( اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) ( بِهِ ) : يعني بالله من علم، والهاء في قوله ( بِهِ ) من ذكر الله, وإنما معنى الكلام: ما لهؤلاء القائلين هذا القول بالله إنه لا يجوز أن يكون له ولد من علم، فلجهلهم بالله وعظمته قالوا ذلك. وقوله ( ولا لآبائِهمْ ) يقول: ولا لأسلافهم الذين مضوا قبلهم على مثل الذي هم عليه اليوم، كان لهم بالله وبعظمته علم، وقوله: ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدنيين والكوفيين والبصريين: ( كَبُرَتْ كَلِمَةً ) بنصب كلمةً بمعنى: كبُرت كلمتهم التي قالوها كلمةً على التفسير، كما يقال: نعم رجلا عمرو، ونعم الرجل رجلا قام، ونعم رجلا قام، وكان بعض نحوييّ أهل البصرة يقول: نُصبت كلمة لأنها في معنى: أكْبِر بها كلمة ، كما قال جل ثناؤه وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا وقال: هي في النصب مثل قول الشاعر: ولقـدْ عَلِمْـتُ إذَا اللِّقاحُ تَرَوَّحتْ هَدَجَ الرّئــــالِ تكُـــبُّهُنَّ شَـــمالا أي تكبهنّ الرياح شمالا فكأنه قال: كبرت تلك الكلمة، وذُكِر عن بعض المكيين أنه كان يقرأ ذلك: ( كَبُرَتْ كَلِمَةٌ ) رفعا ، كما يقال: عَظُمَ قَولك وكَبُر شأنُك. وإذا قرئ ذلك كذلك لم يكن في قوله ( كَبُرَتْ كَلِمةٌ ) مُضمر، وكان صفة للكلمة. والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ: ( كَبُرَتْ كَلِمةً ) نصبا لإجماع الحجة من القراء عليها، فتأويل الكلام: عَظُمت الكلمة كلمة تخرج من أفواه هؤلاء القوم الذين قالوا: اتخذ الله ولدا، والملائكة بنات الله. كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( كَبُرَتْ كَلِمةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) قولهم: إن الملائكة بنات الله، وقوله: ( إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا ) يقول عز ذكره: ما يقول هؤلاء القائلون اتخذ الله ولدا بقيلهم ذلك إلا كذبا وفرية افتروها على الله. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ( 6 ) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ( 7 ) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ( 8 ) يعني تعالى ذكره بذلك: فلعلك يا محمد قاتلٌ نفسك ومهلكها على آثار قومك الذين قالوا لك لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا تمردا منهم على ربهم، إن هم لم يؤمنوا بهذا الكتاب الذي أنـزلته عليك، فيصدقوا بأنه من عند الله حزنا وتلهفا ووجدا، بإدبارهم عنك، وإعراضهم عما أتيتهم به وتركهم الإيمان بك. يقال منه: بخع فلان نفسه يبخعها بخعا وبخوعا، ومنه قول ذي الرُّمة: ألا أَيُّهَــذَا البــاخِعُ الوَجْـدُ نَفْسَـهُ لِشَــيْءٍ نَحَتْـهُ عَـنْ يديـه المقـادر يريد: نحته فخفف. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: ( بَاخِعٌ ) قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ) يقول: قاتل نفسك. حدثنا الحسن بن يحيى ، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. وأما قوله: ( أَسَفًا ) فإنّ أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: فلعلك باخع نفسك إن لم يؤمنوا بهذا الحديث غضبا. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) قال : غضبا. وقال آخرون: جَزَعا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( أَسَفًا ) قال: جَزعا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: معناه: حزنا عليهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( أَسَفًا ) قال: حزنا عليهم. وقد بينا معنى الأسف فيما مضى من كتابنا هذا ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وهذه معاتبة من الله عزّ ذكره على وجده بمباعدة قومه إياه فيما دعاهم إليه من الإيمان بالله، والبراءة من الآلهة والأنداد، وكان بهم رحيما. وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ) يعاتبه على حزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم: أي لا تفعل. وقوله: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا ) يقول عز ذكره: إنا جعلنا ما على الأرض زينة للأرض ( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) يقول: لنختبر عبادنا أيهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فيها بطاعتنا. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا ) قال: ما عليها من شيء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا ) ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « إنَّ الدُّنْيا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، وَإنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفَكُمْ فِيها، فَناظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فاتَّقُوا الدُّنْيا، واتَّقُوا النِّساء » . وأما قوله: ( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) فإن أهل التأويل قالوا في تأويله نحو قولنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو عاصم العسقلاني، قال: ( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) قال: أترك لها. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ) اختبارا لهم أيهم أتبع لأمري وأعمل بطاعتي. وقوله: ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) يقول عز ذكره: وإنا لمخرّبوها بعد عمارتناها بما جعلنا عليها من الزينة، فمصيروها صعيدا جرزا لا نبات عليها ولا زرع ولا غرس، وقد قيل: إنه أريد بالصعيد في هذا الموضع: المستوي بوجه الأرض، وذلك هو شبيه بمعنى قولنا في ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك، وبمعنى الجرز، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، فال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) يقول: يهلك كلّ شيء عليها ويبيد. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( صَعِيدًا جُرُزًا ) قال: بلقعا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) والصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) يعني: الأرض إن ما عليها لفان وبائد، وإن المرجع لإليّ، فلا تأس، ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( صَعِيدًا جُرُزًا ) قال: الجرز: الأرض التي ليس فيها شيء، ألا ترى أنه يقول: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا قال: والجرز: لا شيء فيها، لا نبات ولا منفعة، والصعيد: المستوي. وقرأ: لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا قال: مستوية: يقال: جُرِزت الأرض فهي مجروزة، وجرزها الجراد والنعم، وأرَضُون أجراز: إذا كانت لا شيء فيها ، ويقال للسنة المجدبة: جُرُز وسنون أجراز لجدوبها ويبسها وقلة أمطارها، قال الراجز: قَدْ جَرَفَتْهُنَّ السُّنُونَ الأجْرَازْ يقال: أجرز القوم: إذا صارت أرضهم جُرُزا، وجَرَزوا هم أرضهم: إذا أكلوا نباتها كله. القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ( 9 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا، فإن ما خلقت من السماوات والأرض، وما فيهنّ من العجائب أعجب من أمر أصحاب الكهف، وحجتي بكل ذلك ثابتة على هؤلاء المشركين من قومك، وغيرهم من سائر عبادي. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) قال محمد بن عمرو في حديثه، قال: ليسوا عجبا بأعجب آياتنا ، وقال الحارث في حديثه بقولهم: أعجب آياتنا: ليسوا أعجب آياتنا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) كانوا يقولون هم عجب. حدثنا بشر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) أي وما قدروا من قَدْر فيما صنعت من أمر الخلائق، وما وضعت على العباد من حججي ما هو أعظم من ذلك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عَجَبا، فإن الذي آتيتك من العلم والحكمة أفضل منه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ) يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم. وإنما قلنا: إن القول الأول أولى بتأويل الآية، لأنّ الله عزّ وجلّ أنـزل قصة أصحاب الكهف على نبيه احتجاجا بها على المشركين من قومه على ما ذكرنا في الرواية عن ابن عباس، إذ سألوه عنها اختبارا منهم له بالجواب عنها صدقه، فكان تقريعهم بتكذييهم بما هو أوكد عليهم في الحجة مما سألوا عنهم، وزعموا أنهم يؤمنون عند الإجابة عنه أشبه من الخبر عما أنعم الله على رسوله من النعم. وأما الكهف، فإنه كهف الجبل الذي أوى إليه القوم الذين قصّ الله شأنهم في هذه السورة. وأما الرقيم، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيّ به، فقال بعضهم : هو اسم قرية، أو واد على اختلاف بينهم في ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن عبد الأعلى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن الشيباني، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: يزعم كعب أن الرقيم: القرية. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) قال: الرقيم: واد بين عُسْفان وأيَلة دون فلسطين، وهو قريب من أيَلة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت أبي، عن عطية، قال: الرقيم: واد. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) كنَّا نحدّث أن الرقيم: الوادي الذي فيه أصحاب الكهف. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله ( الرَّقِيمِ ) قال: يزعم كعب: أنها القرية. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ، في قوله: ( الرَّقِيمِ ) قال: يقول بعضهم: الرقيم: كتاب تبانهم ، ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم. حدثنا عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان ، قال: سمعت الضحاك يقول: أما الكهف: فهو غار الوادي، والرقيم : اسم الوادي. وقال آخرون: الرقيم: الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) يقول: الكتاب. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: ثنا أبي، عن ابن قيس، عن سعيد بن جبير، قال: الرقيم: لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه على باب الكهف. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرقيم: كتاب، ولذلك الكتاب خبر فلم يخبر الله عن ذلك الكتاب وعنا فيه، وقرأ: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ . وقال آخرون: بل هو اسم جبل أصحاب الكهف. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الرقيم: الجبل الذي فيه الكهف. قال أبو جعفر: وقد قيل إن اسم ذلك الجبل: بناجلوس. حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس: وقد قيل: إن اسمه بنجلوس. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجَبئي أن اسم جبل الكهف: بناجلوس. واسم الكهف: حيزم. والكلب : حُمران. وقد روي عن ابن عباس في الرقيم ما حدثنا به الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه، إلا حنانا، والأوّاه، والرقيم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم، أكتاب، أم بنيان؟ . وأولى هذه الأقوال بالصواب في الرقيم أن يكون معنيا به: لوح، أو حجر، أو شيء كُتب فيه كتاب، وقد قال أهل الأخبار: إن ذلك لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أوَوْا إلى الكهف. ثم قال بعضهم: رُفع ذلك اللوح في خزانة الملك، وقال بعضهم: بل جُعل على باب كهفهم، وقال بعضهم: بل كان ذلك محفوظا عند بعض أهل بلدهم ، وإنما الرقيم: فعيل، أصله: مرقوم، ثم صُرف إلى فعيل، كما قيل للمجروح: جريح، وللمقتول: قتيل، يقال منه: رقمت كذا وكذا: إذا كتبته، ومنه قيل للرقم في الثوب رقم، لأنه الخطّ الذي يعرف به ثمنه ، ومن ذلك قيل للحيَّة: أرقم، لما فيه من الآثار ، والعرب تقول: عليك بالرقمة، ودع الضفة: بمعنى عليك برقمة الوادي حيث الماء، ودع الضفة الجانبة. والضفتان: جانبا الوادي، وأحسب أن الذي قال الرقيم: الوادي، ذهب به إلى هذا، أعني به إلى رقمة الوادي. القول في تأويل قوله تعالى : إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ( 10 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا حين أوى الفتية أصحاب الكهف إلى كهف الجبل، هربا بدينهم إلى الله، فقالوا إذ أووه: ( رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) رغبة منهم إلى ربهم، في أن يرزقهم من عنده رحمة ، وقوله وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ) يقول: وقالوا: يسر لنا بما نبتغي وما نلتمس من رضاك والهرب من الكفر بك، ومن عبادة الأوثان التي يدعونا إليها قومنا، ( رَشَدا ) يقول: سدادا إلى العمل بالذي تحبّ. وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفِتية إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه ، فقال بعضهم: كان سبب ذلك، أنهم كانوا مسلمين على دين عيسى، وكان لهم ملك عابد وَثَن، دعاهم إلى عبادة الأصنام، فهربوا بدينهم منه خشية أن يفتنهم عن دينهم، أو يقتلهم، فاستخفوا منه في الكهف. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو في قوله: أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانت الفِتية على دين عيسى على الإسلام، وكان ملكهم كافرا، وقد أخرج لهم صنما، فأبَوا، وقالوا: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا قال: فاعتزلوا عن قومهم لعبادة الله، فقال أحدهم: إنه كان لأبي كهف يأوي فيه غنمه، فانطلقوا بنا نكن فيه، فدخلوه، وفُقدوا في ذلك الزمان فطُلبوا، فقيل: دخلوا هذا الكهف، فقال قومهم: لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشدّ من أن نردم عليهم هذا الكهف، فبنوه عليهم ثم ردموه ، ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى، ورفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم ، فقال بعضهم لبعض: كَمْ لَبِثْتُمْ ؟ فـ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ حتى بلغ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وكان ورق ذلك الزمان كبارا، فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام وشراب ، فلما ذهب ليخرج، رأى على باب الكهف شيئا أنكره ، فأراد أن يرجع، ثم مضى حتى دخل المدينة، فأنكر ما رأى، ثم أخرج درهما، فنظروا إليه فأنكروه، وأنكروا الدرهم، وقالوا: من أين لك هذا ، هذا من ورِق غير هذا الزمان، واجتمعوا عليه يسألونه، فلم يزالوا به حتى انطلفوا به إلى ملكهم ، وكان لقومهم لوح يكتبون فيه ما يكون، فنظروا في ذلك اللوح، وسأله الملك، فأخبره بأمره، ونظروا في الكتاب متى فقد، فاستبشروا به وبأصحابه، وقيل له: انطلق بنا فأرنا أصحابك، فانطلق وانطلقوا معه، ليريهم، فدخل قبل القوم، فضرب على آذانهم، فقال الذين غلبوا على أمرهم: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: مَرِج أمر أهل الإنجيل وعظُمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم على ذلك بقايا على أمر عيسى ابن مريم، متمسكون بعبادة الله وتوحيده، فكان ممن فعل ذلك من ملوكهم، ملك من الروم يقال له: دَقْيَنوس، كان قد عبد الأصنام، وذبح للطواغيت، وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين عيسى ابن مريم ، كان ينـزل في قرى الروم، فلا يترك في قرية ينـزلها أحدا ممن يدين بدين عيسى ابن مريم إلا قتله، حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، حتى نـزل دقينوس مدينة الفِتية أصحاب الكهف، فلما نـزلها دقينوس كبر ذلك على أهل الإيمان، فاستخْفُوا منه وهربوا في كلّ وجه. وكان دقينوس قد أمر حين قدمها أن يتبع أهل الإيمان فيُجمعوا له، واتخذ شُرَطا من الكفَّار من أهلها، فجعلوا يتبعون أهل الإيمان في أماكنهم التي يستخفون فيها، فيستخرجونهم إلى دقينوس، فقدمهم إلى المجامع التي يذبح فيها للطواغيت فيخيرهم بين القتل، وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ويُفْظَع بالقتل فيَفتِتن. ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل ، فلما رأى ذلك أهل الصلابة من أهل الإيمان بالله، جعلوا يُسْلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقتلون ويقطعون، ثم يربط ما قطع من أجسادهم، فيعلَّق على سور المدينة من نواحيها كلها، وعلى كلّ باب من أبوابها، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان، فمنهم من كفر فتُرك، ومنهم من صُلب على دينه فقُتل ، فلما رأى ذلك الفِتية أصحاب الكهف، حزنوا حزنا شديدا، حتى تغيرت ألوانهم، ونَحِلت أجسامهم، واستعانوا بالصلاة والصيام والصدقة، والتحميد، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، والبكاء، والتضرّع إلى الله، وكانوا فتية أحداثا أحرارا من أبناء أشراف الروم. فحدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: لقد حُدّثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانه وضح الورق ، قال ابن عباس: فكانوا كذلك في عبادة الله ليلهم ونهارهم، يبكون إلى الله، ويستغيثونه، وكانوا ثمانية نفر : مَكْسِلمينا، وكان أكبرهم، وهو الذي كلم الملك عنهم، ومُحْسيميلنينا، وَيمليخا، ومَرْطوس، وكشوطوش، وبيرونس، ودينموس، ويطونس قالوس فلما أجمع دقينوس أن يجمع أهل القرية لعبادة الأصنام، والذبح للطواغيت، بكوا إلى الله وتضرعوا إليه، وجعلوا يقولون: اللهم رب السماوات والأرض، لن ندعو من دونك إلها لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وادفع عنهم البلاء وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك، ومُنِعوا عبادتك إلا سرّا، مستخفين بذلك، حتى يعبدوك علانية، فبينما هم على ذلك، عرفهم عُرفاؤهم من الكفار، ممن كان يجمع أهل المدينة لعبادة الأصنام، والذبح للطواغيت، وذكروا أمرهم، وكانوا قد خَلوا في مُصَلّى لهم يعبدون الله فيه، ويتضرّعون إليه، ويتوقَّعون أن يُذْكَروا لدقينوس، فانطلق أولئك الكفرة حتى دخلوا عليهم مُصلاهم، فوجدوهم سجودا على وجوههم يتضرّعون، ويبكون، ويرغبون إلى الله أن ينجيهم من دقينوس وفتنته، فلما رآهم أولئك الكفرة من عُرفائهم قالوا لهم: ما خَلَّفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه! ثم خرجوا من عندهم، فرفعوا أمرهم إلى دقينوس، وقالوا: تجمع الناس للذبح لآلهتك، وهؤلاء فِتية من أهل بيتك، يسخَرون منك، ويستهزئون بك، ويعصون أمرك، ويتركون آلهتك، يَعمِدون إلى مُصَلّى لهم ولأصحاب عيسى ابن مريم يصلون فيه، ويتضرّعون إلى إلههم وإله عيسى وأصحاب عيسى، فلم تتركهم يصنعون هذا وهم بين ظَهراني سلطانك ومُلكك، وهم ثمانية نفر: رئيسهم مكسلمينا، وهم أبناء عظماء المدينة؟ فلما قالوا ذلك لدقينوس، بعث إليهم، فأتي بهم من المصلَّى الذي كانوا فيه تفيض أعينهم من الدموع مُعَفرة وجوههم في التراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم أُسْوة لسَراة أهل مدينتكم، ولمن حضر منَّا من الناس؟ اختاروا مني: إما أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح الناس، وإما أن أقتلكم! فقال مكسلمينا: إن لنا إلها نعبده ملأ السموات والأرض عظَمتُه، لن ندعو من دونه إلها أبدا، ولن نقر بهذا الذي تدعونا إليه أبدا، ولكنا نعبد الله ربنا، له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا، إياه نعبد، وإياه نسأل النجاة والخير. فأما الطواغيت وعبادتها، فلن نقرّ بَها أبدا، ولسنا بكائنين عُبَّادا للشياطين، ولا جاعلي أنفسنا وأجسادنا عُبادا لها، بعد إذ هدانا الله له رهبتَك، أو فَرَقا من عبودتك، اصنع بنا ما بدا لك، ثم قال أصحاب مكسلمينا لدقينوس مثل ما قال، قال: فلما قالوا ذلك له، أمر بهم فنـزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم، ثم قال: أما إذ فعلتم ما فعلتم فإني سأؤخركم أن تكونوا من أهل مملكتي وبطانتي، وأهل بلادي، وسأفرُغ لكم، فأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن أعجِّل ذلك لكم إلا أني أراكم فتيانا حديثة أسنانُكم، ولا أحبُّ أن أهلككم حتى أستأنّي بكم، وأنا جاعل لكم أجلا تَذكرون فيه، وتراجعون عقولكم، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة، فنـزعت عنهم، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده، وانطلق دقينوس مكانه إلى مدينة سوى مدينتهم التي هم بها قريبا منها لبعض ما يريد من أمره. فلما رأى الفتية دقينوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكر بهم، فأتمروا بينهم أن يأخذ كلّ واحد منهم نفقة من بيت أبيه، فيتصدّقوا منها، ويتزوّدوا بما بقي، ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له: بنجلوس فيمكثوا فيه، ويعبدوا الله حتى إذا رجع دقينوس أتوه فقاموا بين يديه، فيصنع بهم ما شاء، فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كلّ فتى منهم، فأخذ من بيت أبيه نفقة، فتصدّق منها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، واتبعهم كلْب لهم، حتى أتوا ذلك الكهف، الذي في ذلك الجبل، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد، ابتغاء وجه الله تعالى، والحياة التي لا تنقطع، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له يمليخا، فكان على طعامهم، يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا من أهلها، وذلك أنه كان من أجملهم وأجلدهم، فكان يمليخا يصنع ذلك، فإذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها، ثم يأخذ ورقه، فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا، ويتسمَّع ويتجسَّس لهم الخبر، هل ذكر هو وأصحابه بشيء في ملإ المدينة، ثم يرجع إلى أصحابه بطعامهم وشرابهم، ويخبرهم بما سمع من أخبار الناس، فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثم قدم دقينوس الجبَّار المدينة التي منها خرج إلى مدينته، وهي مدينة أفَمْوس ، فأمر عظماء أهلها، فذبحوا للطواغيت، ففزع في ذلك أهل الإيمان، فتخبئوا في كل مخبأ ، وكان يمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ببعض نفقتهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أن الجبار دقينوس قد دخل المدينة، وأنهم قد ذكروا وافتقدوا والتمسوا مع عظماء أهل المدينة ليذبحوا للطواغيت ، فلما أخبرهم بذلك، فزعوا فزعا شديدا، ووقعوا سجودا على وجوههم يدعون الله، ويتضرّعون إليه، ويتعوّذون به من الفتنة ، ثم إن يمليخا قال لهم: يا إخوتاه، ارفعوا رؤوسكم، فاطعَموا من هذا الطعام الذي جئتكم به، وتوكلوا على ربكم ، فرفعوا رؤوسهم، وأعينهم تفيض من الدمع حذرا وتخوّفا على أنفسهم، فطعموا منه، وذلك مع غروب الشمس، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون، ويذكر بعضهم بعضا على حزن منهم، مشفقين مما أتاهم به صاحبهم من الخبر، فبينا هم على ذلك، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابهم ما أصابهم وهم مؤمنون مُوقنون، مصدّقون بالوعد، ونفقتهم موضوعة عندهم ، فلما كان الغد فقدهم دقينوس، فالتمسهم فلم يجدهم، فقال لعظماء أهل المدينة: لقد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا يظنون أن بي غضبا عليهم فيما صنعوا في أوّل شأنهم، لجهلهم ما جهلوا من أمري، ما كنت لأجهل عليهم في نفسي، ولا أؤاخذ أحدا منهم بشيء إن هم تابوا وعبدوا آلهتي، ولو فعلوا لتركتهم، وما عاقبتهم بشيء سلف منهم، فقال له عظماء أهل المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مَردة عُصاة، مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم، وقد كنتَ أجَّلتهم أجلا وأخَّرتهم عن العقوبة التي أصبت بها غيرهم، ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل، ولكنهم لم يتوبوا ولم ينـزعوا ولم يندموا على ما فعلوا، وكانوا منذ انطلقت يبذرون أموالهم بالمدينة ، فلما علموا بقدومك فرّوا فلم يُروا بعد ، فإن أحببت أن تُؤْتَى بهم، فأرسل إلى آبائهم فامتحنهم، واشدُد عليهم يدُلوك عليهم، فإنهم مختبئون منك، فلما قالوا ذلك لدقينوس الجبار، غضب غضبا شديدا. ثم أرسل إلى آبائهم، فأتي بهم فسألهم عنهم وقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوا أمري، وتركوا آلهتي ، ائتوني بهم، وأنبئوني بمكانهم ، فقال له آباؤهم: أما نحن فلم نعص أمرك ولم نخالفك، قد عبدنا آلهتك وذبحنا لهم، فلم تقتلنا في قوم مردة، قد ذهبوا بأموالنا فبذّروها وأهلكوها في أسواق المدينة، ثم انطلقوا، فارتقوا في جبل يدعى بنجلوس، وبينه وبين المدينة أرض بعيدة هرَبا منك، فلما قالوا ذلك خلَّى سبيلهم، وجعل يأتمر ماذا يصنع بالفتية، فألقى الله عز وجل في نفسه أن يأمر بالكهف فيُسدّ عليهم كرامة من الله، أراد أن يكرمهم، ويكرم أجساد الفتية، فلا يجول، ولا يطوف بها شيء، وأراد أن يحييهم، ويجعلهم آية لأمة تُستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. فأمر دقينوس بالكهف أن يسدّ عليهم، وقال: دعوا هؤلاء الفتية المَرَدة الذين تركوا آلهتي فليموتوا كما هم في الكهف عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروا لأنفسهم قبرا لهم ، ففعل بهم ذلك عدوّ الله، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، وقد تَوَفّى الله أرواحهم وفاة النوم، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، قد غَشَّاه الله ما غشاهم، يُقلَّبون ذات اليمين وذات الشمال ، ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقينوس يكتمان إيمانهما: اسم أحدهما بيدروس، واسم الآخر: روناس ، فأتمرا أن يكتبا شأن الفتية أصحاب الكهف، أنسابهم وأسماءهم وأسماء آبائهم، وقصة خبرهم في لوحين من رَصاص، ثم يصنعا له تابوتا من نحاس، ثم يجعلا اللوحين فيه، ثم يكتبا عليه في فم الكهف بين ظهراني البنيان، ويختما على التابوت بخاتمهما، وقالا لعل الله أن يُظْهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة، فيعلم من فتح عليهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم، ففعلا ثم بنيا عليه في البنيان، فبقي دقينوس وقرنه الذين كانوا منهم ما شاء الله أن يبقوا، ثم هلك دقينوس والقرن الذي كانوا معه، وقرون بعده كثيرة، وخلفت الخلوف بعد الخلوف. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: كان أصحاب الكهف أبناء عظماء مدينتهم، وأهل شرفهم، فخرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد، فقال رجل منهم هو أسنهم: إني لأجد في نفسي شيئا ما أظنُّ أن أحدا يجده، قالوا: ماذا تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي ربّ السماوات والأرض، وقالوا: نحن نجد ، فقاموا جميعا، فقالوا: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا فاجتمعوا أن يدخلوا الكهف، وعلى مدينتهم إذ ذاك جبار يقال له دقينوس، فلبثوا في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا رقدا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: كان أصحاب الكهف فتيانا ملوكا مُطَوّقين مُسَوّرين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب، وأخرجوا معهم آلهتم التي يعبدون ، وقذف الله في قلوب الفتية الإيمان فآمنوا، وأخفى كلّ واحد منهم الإيمان عن صاحبه، فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر إيمان بعضهم لبعض: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظلّ شجرة، فجلس فيه، ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر منه، فجاء حتى جلس إليه، ثم خرج الآخرون، فجاؤوا حتى جلسوا إليهما، فاجتمعوا، فقال بعضهم: ما جمعكم؟ وقال آخر: بل ما جمعكم؟ وكل يكتم إيمانه من صاحبه مخافة على نفسه، ثم قالوا: ليخرج منكم فَتَيان، فيخْلُوَا، فيتواثقا أن لا يفشيَ واحد منهما على صاحبه، ثم يفشي كل واحد منهما لصاحبه أمره، فإنا نرجو أن نكون على أمر واحد ، فخرج فتيان منهم فتواثقا، ثم تكلما، فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه، فأقبلا مستبشرَين إلى أصحابهما قد اتفقا على أمر واحد، فإذا هم جميعا على الإيمان، وإذا كهف في الجبل قريب منهم، فقال بعضهم لبعض: ائتوا إلى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا فدخلوا الكهف، ومعهم كلب صيدهم فناموا، فجعله الله عليهم رقدة واحدة، فناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، قال: وفقدهم قومُهم فطلبوهم وبعثوا البرد، فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم ، فلما لم يقدروا عليهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان أبناء ملوكنا، فَقَدناهم في عيد كذا وكذا في شهر كذا وكذا في سنة كذا وكذا، في مملكة فلان ابن فلان ، ورفعوا اللوح في الخزانة ، فمات ذلك الملك وغلب عليهم ملك مسلم مع المسلمين، وجاء قرن بعد قرن، فلبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا. وقال آخرون: بل كان مصيرهم إلى الكهف هربا من طلب سلطان كان طلبهم بسبب دَعوى جناية ادّعى على صاحب لهم أنه جناها. ذكر من قال ذلك: * حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني إسماعيل بن شروس، أنه سمع وهب بن منبه يقول: جاء حواريّ عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلا سجد له ، فكره أن يدخلها، فأتى حَمَّاما، فكان فيه قريبا من تلك المدينة، فكان يعمل فيه يؤاجر نفسه من صاحب الحمام ، ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة ودرّ عليه الرزق، فجعل يعرض عليه الإسلام، وجعل يسترسل إليه، وعلقه فتية من أهل المدينة، وجعل يخبرهم خبر السماء والأرض وخبر الآخرة، حتى آمنوا به وصدّقوه، وكانوا على مثل حاله في حُسْن الهيئة ، وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي لا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت ، فكان على ذلك حتى جاء ابن الملك بامرأة، فدخل بها الحمام، فعيره الحواريّ، فقال: أنت ابن الملك ، وتدخل معك هذه النكداء ، فاستحيا، فذهب فرجع مرّة أخرى، فقال له مثل ذلك، فسبه وانتهره ولم يلتفت حتى دخل ودخلت معه المرأة، فماتا في الحمام جميعا ، فأتي الملك، فقيل له: قتل صاحب الحمام ابنك، فالتُمس، فلم يقدر عليه هَربا، قال: من كان يصحبه؟ فسموا الفتية، فالتمسوا، فخرجوا من المدينة، فمروا بصاحب لهم في زرع له، وهو على مثل أمرهم، فذكروا أنهم التُمسوا، فانطلق معهم الكلب ، حتى أواهم الليل إلى الكهف، فدخلوه، فقالوا: نبيت ههنا الليلة ، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم، فضرب على آذانهم، فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف ، فكلما أراد رجل أن يدخل أرعب، فلم يطق أحد أن يدخله، فقال قائل: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى ، قال: فابن عليهم باب الكهف، ودعهم فيه يموتوا عطشا وجوعا، ففعل. القول في تأويل قوله تعالى : فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ( 11 ) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ( 12 ) يعني جل ثناؤه بقوله: ( فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ ) : فضربنا على آذانهم بالنوم في الكهف : أي ألقينا عليهم النوم، كما يقول القائل لآخر: ضربك الله بالفالج، بمعنى ابتلاه الله به، وأرسله عليه. وقوله: ( سِنِينَ عَدَدًا ) يعني سنين معدودة، ونصب العدد بقوله ( فَضَرَبْنَا ) . وقوله: ( ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى ) يقول: ثم بعثنا هؤلاء الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف بعد ما ضربنا على آذانهم فيه سنين عددا من رقدتهم، لينظر عبادي فيعلموا بالبحث، أيُّ الطائفتين اللتين اختلفتا في قدر مبلغ مكث الفتية في كهفهم رقودا ( أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) يقول: أصوب لقدر لبثهم فيه أمدا ، ويعني بالأمد: الغاية، كما قال النابغة: إلا لِمِثْلِــكَ أوْ مَــنْ أنْـتَ سـابِقُهُ سَـبْقَ الجَـوَادِ ِإذا اسْـتَوْلَى على الأمَدِ وذُكر أن الذين اختلفوا في ذلك من أمورهم، قوم من قوم الفتية، فقال بعضهم: كان الحزبان جميعا كافرين. وقال بعضهم: بل كان أحدهما مسلما، والآخر كافرا. * ذكر من قال كان الحزبان من قوم الفتية: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ) من قوم الفتية. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ) يقول: ما كان لواحد من الفريقين علم، لا لكفارهم ولا لمؤمنيهم. وأما قوله: ( أمَدًا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه، فقال بعضهم: معناه: بعيدا. ذكر من قال ذلك: حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ) يقول: بعيدا. وقال آخرون: معناه: عددا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أمَدًا ) قال: عددا. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وفي نصب قوله ( أمَدًا ) وجهان:أحدهما أن يكون منصوبا على التفسير من قوله ( أحْصَى ) كأنه قيل: أيّ الحزبين أصوب عددا لقدر لبثهم. وهذا هو أولى الوجهين في ذلك بالصواب، لأن تفسير أهل التفسير بذلك جاء. والآخر: أن يكون منصوبا بوقوع قوله ( لَبِثُوا ) عليه، كأنه قال: أيّ الحزبين أحصى للبثهم غاية. القول في تأويل قوله تعالى : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ( 13 ) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ( 14 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: نحن يا محمد نقص عليك خبر هؤلاء الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف بالحق، يعني: بالصدق واليقين الذي لا شك فيه ( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ) يقول: إن الفتية الذين أوَوْا إلى الكهف الذين سألك عن نبئهم الملأ من مشركي قومك، فتية آمنوا بربهم، ( وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ) يقول: وزدناهم إلى إيمانهم بربهم إيمانا، وبصيرة بدينهم، حتى صبروا على هجران دار قومهم، والهرب من بين أظهرهم بدينهم إلى الله ، وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش ولينه، إلى خشونة المكث في كهف الجبل. وقوله: ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) يقول عز ذكره: وألهمناهم الصبر، وشددنا قلوبهم بنور الإيمان حتى عزفت أنفسهم عما كانوا عليه من خفض العيش. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة ( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ) يقول: بالإيمان. وقوله: ( إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول: حين قاموا بين يدي الجبار دقينوس، فقالوا له إذ عاتبهم على تركهم عبادة آلهته ( رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول: قالوا ربنا ملك السماوات والأرض وما فيهما من شيء، وآلهتك مربوبة، وغير جائز لنا أن نترك عبادة الربّ ونعبد المربوب ( لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ) يقول: لن ندعو من دون ربّ السموات والأرض إلها، لأنه لا إله غيره، وإن كلّ ما دونه فهو خلقه ( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) يقول جل ثناؤه: لئن دعونا إلها غير إله السماوات والأرض، لقد قلنا إذن بدعائنا غيره إلها، شططا من القول: يعني غاليا من الكذب، مجاوزا مقداره في البطول والغلوّ: كما قال الشاعر: ألا يـا لَقَـوْمي قـد أشْـطَتْ عَوَاذِلي ويــزْعُمْنَ أنْ أوْدَى بِحَـقِّي بـاطلي يقال منه: قد أشط فلان في السوم إذا جاوز القدر وارتفع، يشط إشطاطا وشططا. فأما من البعد فإنما يقال: شط منـزل فلان يشطّ شطوطا ، ومن الطول: شطت الجارية تشطّ شطاطا وشطاطة: إذا طالت. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( شَطَطا ) قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) يقول كذبا. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ) قال: لقد قلنا إذن خطأ، قال: الشطط: الخطأ من القول. القول في تأويل قوله تعالى : هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ( 15 ) يقول عز ذكره مخبرا عن قيل الفتية من أصحاب الكهف: هؤلاء قومنا اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونها من دونه ( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) يقول: هلا يأتون على عبادتهم إياها بحجة بينة ، وفي الكلام محذوف اجتزئ بما ظهر عما حذف، وذلك في قوله: ( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) فالهاء والميم في « عليهم » من ذكر الآلهة، والآلهة لا يؤتى عليها بسلطان، ولا يسأل السلطان عليها، وإنما يسأل عابدوها السلطان على عبادتهموها، فمعلوم إذ كان الأمر كذلك، أن معنى الكلام: لولا يأتون على عبادتهموها، واتخاذهموها آلهة من دون الله بسلطان بين. وبنحو ما قلنا في معنى السلطان، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ) يقول: بعذر بين. وعنى بقوله عز ذكره: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) ومن أشدّ اعتداء وإشراكا بالله، ممن اختلق، فتخرّص على الله كذبا، وأشرك مع الله في سلطانه شريكا يعبده دونه، ويتخده إلها. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا ( 16 ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل بعض الفتية لبعض: وإذا اعتزلتم أيها الفتية قومكم الذين اتخذوا من دون الله آلهة ( وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ) يقول: وإذا اعتزلتم قومكم الذين يعبدون من الآلهة سوى الله، فـ « ما » إذ كان ذلك معناه في موضع نصب عطفا لها على الهاء، والميم التي في قوله ( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ) وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ) وهي في مصحف عبد الله: « ومَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله » هذا تفسيرها. وأما قوله: ( فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) فإنه يعني به: فصيروا إلى غار الجبل الذي يسمى بنجلوس، ( يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) يقول: يبسط لكم ربكم من رحمته بتيسيره لكم المخرج من الأمر الذي قد رُمِيتم به من الكافر دقينوس وطلبه إياكم لعرضكم على الفتنة. وقوله: ( فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) جواب لـ « إذ » ، كأن معنى الكلام: وإذ اعتزلتم أيها القوم قومكم، فأْوُوا إلى الكهف ، كما يقال: إذ أذنبت فاستغفر الله وتب إليه. وقوله: ( وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ) يقول: وييسر لكم من أمركم الذي أنتم فيه من الغمِّ والكرب خوفا منكم على أنفسكم ودينكم مرفقا، ويعني بالمرفق: ما ترتفقون به من شيء، وفي المرفق من اليد وغير اليد لغتان: كسر الميم وفتح الفاء، وفتح الميم وكسر الفاء ، وكان الكسائي يُنكر في مِرْفَق الإنسان الذي في اليد إلا فتح الفاء وكسر الميم ، وكان الفرّاء يحكي فيهما، أعني في مرفق الأمر واليد اللغتين كلتيهما، وكان ينشد في ذلك قول الشاعر: بت أجافي مرفقا عن مرفقي ويقول: كسر الميم فيه أجود. وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول في قوله: ( مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ) شيئا ترتفقون به مثل المقطع، ومرفقا جعله اسما كالمسجد، ويكون لغة، يقولون: رفق يرفق مرفقا، وإن شئت مرفقا تريد رفقا ولم يُقْرأ. وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء أهل المدينة: « وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أمْرِكُمْ مِرْفَقا » بفتح الميم وكسر الفاء، وقرأته عامة قراء العراق في المصرين ( مِرْفَقا ) بكسر الميم وفتح الفاء. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان بمعنى واحد، قد قرأ بكل واحدة منهما قراء من أهل القرآن، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الذي أختار في قراءة ذلك: ( وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ) بكسر الميم وفتح الفاء، لأن ذلك أفصح اللغتين وأشهرهما في العرب، وكذلك ذلك في كل ما ارتفق به من شيء. القول في تأويل قوله تعالى : وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ( 17 ) يقول تعالى ذكره ( وَتَرَى الشَّمْسَ ) يا محمد ( إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) يعني بقوله: ( تَزَاوَرُ ) : تعدل وتميل، من الزور: وهو الْعَوج والميل ، يقال منه: في هذه الأرض زَوَر: إذا كان فيها اعوجاج، وفي فلان عن فلان ازورار، إذا كان فيه عنه إعراض ، ومنه قول بشر بن أبي خازم: يَــؤُمُّ بِهــا الحُــدَاةُ مِيـاهَ نَخْـلٍ وفيهـــا عَـــنْ أبــانَين ازْوِرَارُ يعني: إعراضا وصدا. وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء المدينة ومكة والبصرة: « تزَّاور » بتشديد الزاي، بمعنى: تتزاور بتاءين، ثم أدغم إحدى التاءين في الزاي، كما قيل: تظَّاهرون عليهم. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: ( تَزَاوَرُ ) بتخفيف التاء والزاي، كأنه عنى به تفاعل من الزور ، ورُوي عن بعضهم: « تَزْوَرّ » بتخفيف التاء وتسكين الزاي وتشديد الراء مثل تحمرُّ، وبعضهم : تَزْوَارّ: مثل تحمارّ. والصواب من القول في قراءه ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان، أعني ( تَزَاوَرُ ) بتخفيف الزاي، و ( تزَّاوَرُ ) بتشديدها معروفتان، مستفيضة القراءة بكلّ واحدة منهما في قرّاء الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب. وأما القراءتان الأخريان فإنهما قراءتان لا أرى القراءة بهما، وإن كان لهما في العربية وجه مفهوم، لشذوذهما عما عليه قرأة الأمصار. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ) قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير ، قال: ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) قال: تميل. حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس ( تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) يقول: تميل عنهم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) يقول: تميل عن كهفهم يمينا وشمالا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) يقول: تميل ذات اليمين، تدعهم ذات اليمين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) قال: تميل عن كهفهم ذات اليمين. حُدثت عن يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم، ولو أنهم لا يقلَّبون لأكلتهم الأرض، قال: وذلك قوله: ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) . حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: ( تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ) تميل. وقوله: ( وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) يقول تعالى ذكره:وإذا غربت الشمس تتركهم من ذات شمالهم. وإنما معنى الكلام: وترى الشمس إذا طلعت تعدل عن كهفهم، فتطلع عليه من ذات اليمين، لئلا تصيب الفتية، لأنها لو طلعت عليهم قبالهم لأحرقتهم وثيابهم، أو أشحبتهم ، وإذا غربت تتركهم بذات الشمال، فلا تصيبهم ، يقال منه:قرضت موضع كذا: إذا قطعته فجاوزته ، وكذلك كان يقول بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة ، وأما الكوفيون فإنهم يزعمون أنه المحاذاة، وذكروا أنهم سمعوا من العرب قرضته قُبُلا ودبرا، وحذوته ذات اليمين والشمال، وقُبلا ودبرا: أي كنت بحذائه ، قالوا: والقرض والحذو بمعنى واحد ، وأصل القرض: القطع، يقال منه: قرضت الثوب: إذا قطعته ، ومنه قيل للمقراض: مقراض، لأنه يقطع ، ومنه قرض الفأر الثوب ، ومنه قول ذي الرُّمَّة: إلـى ظُعْـن يَقْـرِضْنَ أجْوَاز مُشْرِفٍ شِــمالا وعـن أيمـانِهنَّ الفـوارِسُ يعنى بقوله: يَقْرِضْنَ: يقطعن. وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثني أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) يقول : تذرهم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال ( وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ) تتركهم ذات الشمال. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( تَقْرِضُهُمْ ) قال: تتركهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) يقول: تدعهم ذات الشمال. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمر، عن قتادة، قوله: ( تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ) قال: تدعهم ذات الشمال. حدثنا ابن سنان القَزّاز، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: أخبرنا محمد بن مسلم بن أبي الوضَّاح عن سالم، عن سعيد بن جبير ( وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ) قال: تتركهم. وقوله: ( وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) يقول: والفتية الذين أووا إليه في متسع منه يُجْمَع: فَجَوات، وفِجَاء ممدودا. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) يقول: في فضاء من الكهف، قال الله ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ) . حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا محمد بن أبي الوضاح، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير ( وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) قال: المكان الداخل. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد ( وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) قال: المكان الذاهب. حدثني ابن سنان، قال: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا محمد بن مسلم أبو سعيد بن أبي الوضَّاح، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير ( فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) قال: في مكان داخل. وقوله: ( ذلك من آيات الله ) يقول عز ذكره: فعلنا هذا الذي فعلنا بهؤلاء الفتية الذين قصصنا عليكم أمرهم من تصييرناهم، إذ أردنا أن نضرب على آذانهم بحيث تزاور الشمس عن مضاجعهم ذات اليمين إذا هي طلعت، وتقرضهم ذات الشمال إذا هي غَرَبت، مع كونهم في المتسع من المكان، بحيث لا تحرْقهم الشمس فتُشحبهم، ولا تبلى على طول رقدتهم ثيابهم، فتعفَّن على أجسادهم، من حجج الله وأدلته على خلقه، والأدلة التي يستدل بها أولو الألباب على عظيم قدرته وسلطانه، وأنه لا يعجزه شيء أراده ، وقوله ( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) يقول عزّ وجلّ: من يوفقه الله للاهتداء بآياته وحججه إلى الحق التي جعلها أدلة عليه، فهو المهتدي : يقول: فهو الذي قد أصاب سبيل الحقّ ( وَمَنْ يُضْلِلِ ) يقول: ومن أضله الله عن آياته وأدلته ، فلم يوفقه للاستدلال بها على سبيل الرشاد ( فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ) يقول: فلن تجد له يا محمد خليلا وحليفا يرشده لإصابتها، لأن التوفيق والخِذْلان بيد الله، يوفق من يشاء من عباده، ويخذل من أراد ، يقول: فلا يَحْزنُك إدبار من أدبر عنك من قومك وتكذيبهم إياك ، فإني لو شئت هديتهم فآمنوا، وبيدي الهداية والضلال. القول في تأويل قوله تعالى : وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ( 18 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وتحسب يا محمد هؤلاء الفتية الذين قصصنا عليك قصتهم، لو رأيتهم في حال ضربنا على آذانهم في كهفهم الذي أووا إليه أيقاظا. والأيقاظ: جمع يَقِظ ، ومنه قول الراجز: وَوَجـــدُوا إخْـــوَتهُمْ أيْقاظـــا وسَــيْفَ غَيَّــاظٍ لَهُــمْ غَيَّاظــا وقوله: ( وَهُمْ رُقُودٌ ) يقول: وهم نيام ، والرقود: جمع راقد، كالجلوس: جمع جالس، والقعود: جمع قاعد ، وقوله وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ) يقول جل ثناؤه: ونقلب هؤلاء الفتية في رقدتهم مرّة للجنب الأيمن، ومرّة للجنب الأيسر. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله ( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ) وهذا التقليب في رقدتهم الأولى ، قال: وذكر لنا أن أبا عياض قال: لهم في كل عام تقليبتان. حُدثت عن يزيد، قال: أخبرنا سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ) قال: لو أنهم لا يقلَّبون لأكلتهم الأرض. وقوله: ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) اختلف أهل التأويل في الذي عنى الله بقوله: ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ ) فقال بعضهم: هو كلب من كلابهم كان معهم ، وقد ذكرنا كثيرا ممن قال ذلك فيما مضى ، وقال بعضهم: كان إنسانا من الناس طباخا لهم تَبِعهم. وأما الوصيد، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: هو الفناء. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( بالوَصِيد ) يقول: بالفِناء. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مَهديّ، قال: ثنا محمد بن أبي الوضَّاح، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) قال: بالفناء. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( بالوَصِيد ) قال: بالفناء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( بالوَصِيد ) قال: بالفناء. قال ابن جريج: يمسك باب الكهف. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) يقول: بفناء الكهف. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: ( بالوَصِيد ) قال: بفناء الكهف. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( بالوَصِيد ) قال: يعني بالفناء. وقال آخرون: الوَصِيد: الصعيد. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) يعني فناءهم، ويقال: الوصيد: الصعيد. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن هارون، عن عنترة ، عن سعيد بن جبير، في قوله: ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) قال : الوصيد: الصعيد. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، عن عمرو، في قوله: ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) قال: الوصيد: الصعيد، التراب. وقال آخرون: الوصيد الباب. ذكر من قال ذلك: حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا أبو عاصم ، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس ( وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) قال: بالباب، وقالوا بالفناء. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: الوصيد: الباب، أو فناء الباب حيث يغلق الباب، وذلك أن الباب يُوصَد، وإيصاده: إطباقه وإغلاقه من قول الله عز وجل: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ وفيه لغتان: الأصيد، وهي لغة أهل نجد، والوصيد: وهي لغة أهل تهامة وذُكِر عن أبي عمرو بن العلاء، قال: إنها لغة أهل اليمن، وذلك نظير قولهم: ورّخت الكتاب وأرخته، ووكدت الأمر وأكدته ، فمن قال الوصيد، قال: أوصدت الباب فأنا أُوصِده، وهو مُوصَد ، ومن قال الأصيد، قال: آصدت الباب فهو مُؤْصَد، فكان معنى الكلام: وكلبهم باسط ذراعيه بفناء كهفهم عند الباب، يحفظ عليهم بابه. وقوله : ( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا ) يقول: لو اطلعت عليهم في رقدتهم التي رقدوها في كهفهم، لأدبرت عنهم هاربا منهم فارّا، ( وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ) يقول: ولملئت نفسُك من اطلاعك عليهم فَزَعا، لما كان الله ألبسهم من الهيبة، كي لا يصل إليهم واصل، ولا تلمِسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه في الوقت الذي أراد أن يجعلهم عبرة لمن شاء من خلقه، وآية لمن أراد الاحتجاج بهم عليه من عباده، ليعلموا أن وعد الله حق، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ) فقرأته عامة قراء المدينة بتشديد اللام من قوله: ( وَلَمُلِّئْتَ ) بمعنى أنه كان يمتلئ مرّة بعد مرّة. وقرأ ذلك عامة قراء العراق: ( وَلَمُلِئْتَ ) بالتخفيف، بمعنى: لملئت مرّة، وهما عندنا قراءتان مستفيضتان في القراءة، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ( 19 ) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ( 20 ) يقول تعالى ذكره: كما أرقدنا هؤلاء الفتية في الكهف، فحفظناهم من وصول واصل إليهم، وعين ناظر أن ينظر إليهم، وحفظنا أجسامهم من البلاء على طول الزمان، وثيابهم من العفن على مرّ الأيام بقدرتنا ، فكذلك بعثناهم من رقدتهم، وأيقظناهم من نومهم، لنعرّفهم عظيم سلطاننا، وعجيب فعلنا في خلقنا، وليزدادوا بصيرة في أمرهم الذي هم عليه من براءتهم من عبادة الآلهة، وإخلاصهم لعبادة الله وحده لا شريك له، إذا تبيَّنوا طول الزمان عليهم، وهم بهيئتهم حين رقدوا ، وقوله: ( لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ) يقول: ليسأل بعضهم بعضا ( قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ) يقول عزّ ذكره: فتساءلوا فقال قائل منهم لأصحابه: ( كَمْ لَبِثْتُمْ ) وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول رقدتهم ( قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) يقول: فأجابه الآخرون فقالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم ، ظنا منهم أن ذلك كذلك كان، فقال الآخرون: ( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) فسلِّموا العلم إلى الله. وقوله: ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ) يعني مدينتهم التي خرجوا منها هِرابا، التي تسمى أفسوس ( فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) ذكر أنهم هبوا من رقدتهم جِياعا، فلذلك طلبوا الطعام. ذكر من قال ذلك، وذكر السبب الذي من أجله ذكر أنهم بعثوا من رقدتهم حين بعثوا منها: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني إسماعيل بن بشروس، أنه سمع وهب بن منبه يقول: إنهم غبروا، يعني الفتية من أصحاب الكهف بعد ما بني عليهم باب الكهف زمانا بعد زمان، ثم إن راعيا أدركه المطر عند الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتح ما أدخله فيه، وردّ إليهم أرواحهم في أجسامهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق يشتري طعاما ، فلما أتى باب مدينتهم، رأى شيئا يُنكره، حتى دخل على رجل فقال: بعني بهذه الدراهم طعاما، فقال: ومن أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس، فآوانا الليل، ثم أصبحوا، فأرسلوني، فقال: هذه الدراهم كانت على عهد مُلك فلان، فأنَّى لك بها، فرفعه إلى الملك، وكان ملكا صالحا، فقال: من أين لك هذه الورق؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس، حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا، ثم أمروني أن أشتريَ لهم طعاما ، قال: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف ، قال: فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل على أصحابي قبلكم ، فلما رأوه، ودنا منهم ضُرِب على أذنه وآذانهم، فجعلوا كلما دخل رجل أرعب، فلم يقدروا على أن يدخلوا عليهم، فبنوا عندهم كنيسة، اتخذوها مسجدا يصلون فيه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن عكرمة، قال: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام، فتعوّذوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب الله على سمعهم، فلبثوا دهرا طويلا حتى هلكت أمتهم، وجاءت أمة مسلمة، وكان ملكهم مسلما، فاختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: يبعث الروح والجسد جميعا ، وقال قائل: يُبعث الروح، فأما الجسد فتأكله الأرض، فلا يكون شيئا ، فشقّ على ملكهم اختلافهم، فانطلق فلبس المُسُوح، وجلس على الرَّماد ، ثم دعا الله تعالى فقال: أي ربّ، قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم آية تبين لهم، فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما، فدخل السوق، فجعل يُنكر الوجوه، ويعرف الطرق، ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرا، فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلا يشتري منه طعاما ، فلما نظر الرجل إلى الوَرِق أنكرها، قال: حسبت أنه قال: كأنها أخفاف الرُّبَع، يعني الإبل الصغار، فقال له الفتى: أليس ملككم فلانا؟ قال: بل ملكنا فلان ، فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك، فسأله، فأخبره الفتى خبر أصحابه، فبعث الملك في الناس، فجمعهم، فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله قد بعث لكم آية، فهذا رجل من قوم فلان، يعني ملكهم الذي مضى، فقال الفتى: انطلقوا بي إلى أصحابي ، فركب الملك، وركب معه الناس حتى انتهوا إلى الكهف ، فقال الفتى دعوني أدخل إلى أصحابي، فلما أبصرهم ضُرِب على أذنه وعلى آذانهم ، فلما استبطئوه دخل الملك، ودخل الناس معه، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا، غير أنها لا أرواح فيها، فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم ، قال قتادة: وعن ابن عباس، كان قد غزا مع حبيب بن مسلمة، فمرّوا بالكهف، فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أصحاب الكهف، فقال ابن عباس ، لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاث مئة سنة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق فيما ذكر من حديث أصحاب الكهف، قال: ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيذوسيس ، فلما ملك بقي ملكه ثمانيا وستين سنة، فتحزّب الناس في مُلكه، فكانوا أحزابا، فمنهم من يؤمن بالله، ويعلم أنّ الساعة حقّ، ومنهم من يكذّب، فكبر ذلك على الملك الصالح تيذوسيس، وبكى إلى الله وتضرّع إليه، وحزن حزنا شديدا لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون: لا حياة إلا الحياة الدنيا ، وإنما تُبعث النفوس، ولا تُبعث الأجساد، ونسُوا ما في الكتاب ، فجعل تيذوسيس يرسل إلى من يظنّ فيه خيرا، وأنهم أئمة في الحق، فجعلوا يكذّبون بالساعة، حتى كادوا أن يُحوّلوا الناس عن الحق وملةِ الحَواريين ، فلما رأى ذلك الملك الصالح تيذوسيس، دخل بيته فأغلقه عليه، ولبس مِسْحا وجعل تحته رمادا، ثم جلس عليه، فدأب ذلك ليله ونهاره زمانا يتضرّع إلى الله، ويبكي إليه مما يرى فيه الناس ، ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد، أراد أن يَظْهر على الفتية أصحاب الكهف، ويبين للناس شأنهم، ويجعلهم آية لهم، وحجة عليهم، ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن يستجيب لعبده الصالح تيذوسيس، ويتمّ نعمته عليه، فلا ينـزع منه مُلكه، ولا الإيمان الذي أعطاه، وأن يعبد الله لا يشرك به شيئا، وأن يجمع من كان تبدّد من المؤمنين، فألقى الله في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف ، وكان الجبل بنجلوس الذي فيه الكهف لذلك الرجل، وكان اسم ذلك الرجل أولياس، أن يهدم البنيان الذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين، فجعلا ينـزعان تلك الحجارة، ويبنيان بها تلك الحظيرة، حتى نـزعا ما على فم الكهف، حتى فتحا عنهم باب الكهف، وحجبهم الله من الناس بالرعب ، فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم غاية ما يمكنه أن يدخل من باب الكهف، ثم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف نائما ، فلما نـزعا الحجارة، وفتحا عليهم باب الكهف، أذن الله ذو القدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف، فجلسوا فرحين مُسْفِرة وجوههم طيِّبة أنفُسهم، فسلَّم بعضهم على بعض، حتى كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون لها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها ، ثم قاموا إلى الصلاة فصلّوا، كالذي كانوا يفعلون، لا يَرون، ولا يُرَى في وجوههم، ولا أبشارهم، ولا ألوانهم شيء يُنكرونه كهيئتهم حين رقدوا بعشيّ أمس، وهم يرون أن ملكهم دقينوس الجبار في طلبهم والتماسهم فلما قضوا صلاتهم كما كانوا يفعلون، قالوا ليمليخا، وكان هو صاحب نفقتهم، الذي كان يبتاع لهم طعامهم وشرابهم من المدينة، وجاءهم بالخبر أن دقينوس يلتمسهم، ويسأل عنهم: أنبئنا يا أخي ما الذي قال الناس في شأننا عشيّ أمس عند هذا الجبار، وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون، وقد خُيِّل إليهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها، حتى تساءلوا بينهم، فقال بعضهم لبعض: ( كَمْ لَبِثْتُمْ ) نياما؟ ( قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ) وكل ذلك في أنفسهم يسير. فقال لهم يمليخا: افتُقِدتم والتمستم بالمدينة، وهو يريد أن يُؤْتَى بكم اليوم، فتَذْبحُون للطواغيت، أو يقتُلُكم، فما شاء الله بعد ذلك ، فقال لهم مكسلمينا: يا إخوتاه اعلموا أنكم ملاقَوْن، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم عدوّ الله، ولا تُنكروا الحياة التي لا تبيد بعد إيمانكم بالله، والحياة من بعد الموت ، ثم قالوا ليمليخا: انطلق إلى المدينة فتسمَّع ما يقال لنا بها اليوم، وما الذي نُذكر به عند دقينوس، وتلطَّف، ولا يشعرَنّ بنا أحد، وابتع لنا طعاما فأتنا به، فإنه قد آن لك، وزدنا على الطعام الذي قد جئتنا به، فإنه قد كان قليلا فقد أصبحنا جياعا ، ففعل يمليخا كما كان يفعل، ووضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، وأخذ وَرِقا من نفقتهم التي كانت معهم، التي ضُربت بطابع دقينوس الملك، فانطلق يمليخا خارجا ، فلما مرّ بباب الكهف، رأى الحجارة منـزوعة عن باب الكهف. فعجب منها، ثم مرّ فلم يبال بها، حتى أتى المدينة مستخفيا يصدّ عن الطريق تخوّفا أن يراه أحد من أهلها، فيعرفه، فيذهب به إلى دقينوس ، ولا يشعر العبد الصالح أن دقينوس وأهل زمانه قد هَلكوا قبل ذلك بثلاثمائة وتسع سنين، أو ما شاء الله من ذلك ، إذ كان ما بين أن ناموا إلى أن استيقظوا ثلاثمائة وتسع سنين ، فلما رأى يمليخا باب المدينة رفع بصره، فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان، إذا كان ظاهرا فيها ، فلما رآها عجب وجعل ينظر مستخفيا إليها ، فنظر يمينا وشمالا فتعجب بينه وبين نفسه، ثم ترك ذلك الباب، فتحوّل إلى باب آخر من أبوابها، فنظر فرأى من ذلك ما يحيط بالمدينة كلها، ورأى على كلّ باب مثل ذلك ، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالمدينة التي كان يعرف، ورأى ناسا كثيرين محدثين لم يكن يراهم قبل ذلك، فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه، فجعل يعجب بينه وبين نفسه ويقول: يا ليت شعري، أما هذه عشية أمس، فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها ، وأما اليوم فإنها ظاهرة لعلّي حالم ، ثم يرى أنه ليس بنائم ، فأخذ كساءه فجعله على رأسه، ثم دخل المدينة، فجعل يمشي بين ظهراني سوقها، فيسمع أناسا كثيرا يحلفون باسم عيسى ابن مريم، فزاده فرقا ، ورأى أنه حيران، فقام مسندا ظهره إلى جدار من جُدُر المدينة ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا! أما عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قُتل ، وأما الغداة فأسمعهم، وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف، ثم قال في نفسه: لعلّ هذه ليست بالمدينة التي أعرف أسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم، والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا ، فقام كالحيران لا يتوجه وجها ، ثم لقي فتى من أهل المدينة، فقال له: ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ قال: اسمها أفسوس، فقال في نفسه: لعلّ بي مسا، أو بي أمر أذهب عقلي، والله يحق لي أن أسرع الخروج منها قبل أن أخزى فيها أو يصيبني شرّ فأهلك ، هذا الذي يحدّث به يمليخا أصحابه حين تبين لهم ما به ، ثم إنه أفاق فقال: والله لو عجلت الخروج من المدينة قبل أن يفطن بي لكان أكيس لي ، فدنا من الذين يبيعون الطعام، فأخرج الورِق التي كانت معه، فأعطاها رجلا منهم، فقال: بعني بهذه الورق يا عبد الله طعاما ، فأخذها الرجل، فنظر إلى ضرب الورق ونقشها، فعجب منها، ثم طرحها إلى رجل من أصحابه، فنظر إليها، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم من رجل إلى رجل، ويتعجبون منها، ثم جعلوا يتشاورون بينهم ويقول بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد أصاب كنـزا خبيئا في الأرض منذ زمان ودهر طويل ، فلما رآهم يتشاورون من أجله فرق فرقا شديدا، وجعل يرتعد ويظنّ أنهم قد فطنوا به وعرفوه، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقينوس يسلمونه إليه ، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه، فقال لهم وهو شديد الفرق منهم: أفضلوا عليّ، فقد أخذتم ورقي فأمسكوا، وأما طعامكم فلا حاجة لي به ، قالوا له: من أنت يا فتى، وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنـزا من كنوز الأوّلين، فأنت تريد أن تخفيه منا، فانطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه، نخف عليك ما وجدت، فإنك إن لا تفعل نأت بك السلطان، فنسلمك إليه فيقتلك ، فلما سمع قولهم، عجب في نفسه فقال : قد وقعت في كلّ شيء كنت أحذر منه ، ثم قالوا: يا فتى إنك والله ما تستطيع أن تكتم ما وجدت، ولا تظنّ في نفسك أنه سيخفى حالك ، فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم، وما يرجع إليهم، وفَرق حتى ما يحير إليهم جوابا ، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطوقوه في عنقه ، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة ملببا، حتى سمع به من فيها، فقيل: أخذ رجل عنده كنـز واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة، وما رأيناه فيها قطّ، وما نعرفه ، فجعل يمليخا لا يدري ما يقول لهم، مع ما يسمع منهم ، فلما اجتمع عليه أهل المدينة، فرق، فسكت فلم يتكلم ، ولو أنه قال إنه من أهل المدينة لم يصدّق ، وكان مستيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة، وأن حسبه من أهل المدينة من عظماء أهلها، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا، وقد استيقن أنه من عشية أمس يعرف كثيرا من أهلها، وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحدا ، فبينما هو قائم كالحيران ينتظر متى يأته بعض أهله، أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم، إذ اختطفوه فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها، وهما رجلان صالحان، كان اسم أحدهما أريوس، واسم الآخر أسطيوس ، فلما انطلق به إليهما، ظنّ يمليخا أنه ينطلق به إلى دقينوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه، فجعل يلتفت يمينا وشمالا وجعل الناس يسخرون منه، كما يسخر من المجنون والحيران، فجعل يمليخا يبكي ، ثم رفع رأسه إلى السماء وإلى الله، ثم قال: اللهمّ إله السماوات والأرض، أولج معي روحا منك اليوم تؤيدني به عند هذا الجبار، وجعل يبكي ويقول في نفسه: فرق بيني وبين إخوتي ، يا ليتهم يعلمون ما لقيت، وأني يُذهب بي إلى دقينوس الجبار ، فلو أنهم يعلمون، فيأتون، فنقوم جميعا بين يدي دقينوس ، فإنا كنا تواثقنا لنكوننّ معا، لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا، ولا نعبد الطواغيت من دون الله ، فرق بيني وبينهم، فلن يروني ولن أراهم أبدا ، وقد كنا تواثقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبدا ، يا ليت شعري ما هو فاعل بي؟ أقاتلي هو أم لا؟ ذلك الذي يحدّث به يمليخا نفسه فيما أخبر أصحابه حين رجع إليهم. فلما انتهى إلى الرجلين الصالحين أريوس وأسطيوس، فلما رأى يمليخا أنه لم يُذهب به إلى دقينوس، أفاق وسكن عنه البكاء ، فأخذ أريوس وأسطيوس الورِق فنظرا إليها وعجبا منها، ثم قال أحدهما: أين الكنـز الذي وجدت يا فتى، هذا الورِق يشهد عليك أنك قد وجدت كنـزا ، فقال لهما يمليخا: ما وجدت كنـزا ولكن هذه الورِق ورق آبائي، ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، وما أدري ما أقول لكم ، فقال له أحدهما: ممن أنت؟ فقال له يمليخا: ما أدري، فكنت أرى أني من أهل هذه القرية، قالوا: فمن أبوك ومن يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه، فلم يجدوا أحدا يعرفه ولا أباه ، فقال له أحدهما: أنت رجل كذاب لا تنبئنا بالحقّ ، فلم يدر يمليخا ما يقول لهم، غير أنه نكس بصره إلى الأرض ، فقال له بعض من حوله: هذا رجل مجنون ، فقال بعضهم: ليس بمجنون، ولكنه يحمق نفسه عمدا لكي ينفلت منكم ، فقال له أحدهما، ونظر إليه نظرا شديدا: أتظنّ أنك إذ تتجانن نرسلك ونصدّقك بأن هذا مال أبيك، وضرب هذه الورِق ونقشها منذ أكثر من ثلاثمائة سنة؟ وإنما أنت غلام شاب تظنّ أنك تأفكنا، ونحن شمط كما ترى، وحولك سُراة أهل المدينة، وولاة أمرها، إني لأظنني سآمر بك فتعذّب عذابا شديدا، ثم أوثقك حتى تعترف بهذا الكنـز الذي وجدت، فلما قال ذلك، قال يمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدقتكم عما عندي ، أرأيتم دقينوس الملك الذي كان في هذه المدينة عشية أمس ما فعل، فقال له الرجل: ليس على وجه الأرض رجل اسمه دقينوس، ولم يكن إلا ملك قد هلك منذ زمان ودهر طويل، وهلكت بعده قرون كثيرة ، فقال له يمليخا: فوالله إني إذا لحيران، وما هو بمصدّق أحد من الناس بما أقول ، والله لقد علمت، لقد فررنا من الجبار دقينوس، وإني قد رأيته عشية أمس حين دخل مدينة أفسوس، ولكن لا أدري أمدينة أفسوس هذه أم لا؟ فانطلقا معي إلى الكهف الذي في جبل بنجلوس أريكم أصحابي، فلما سمع أريوس ما يقول يمليخا قال: يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله جعلها لكم على يدي هذا الفتى، فانطلقوا بنا معه يرنا أصحابه، كما قال: فانطلق معه أريوس وأسطيوس، وانطلق معهم أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم، نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم. ولما رأى الفتية أصحاب الكهف يمليخا قد احتبس عليهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به، ظنوا أنه قد أُخِذ فذُهب به إلى ملكهم دَقْينوس الذي هربوا منه ، فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه، إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم، فظنوا أنهم رُسل الجبار دقينوس بعث إليهم ليُؤْتي بهم، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة، وسلَّم بعضهم على بعض، وأوصى بعضهم بعضا، وقالوا: انطلقوا بنا نأت أخانا يمليخا، فإنه الآن بين يدي الجبار دقينوس ينتظر متى نأته ، فبينما هم يقولون ذلك، وهم جلوس بين ظهراني الكهف، فلم يروا إلا أريوس وأصحابه وقوفا على باب الكهف، وسبقهم يمليخا، فدخل عليهم وهو يبكي ، فلما رأوه يبكي بكوا معه ، ثم سألوه عن شأنه، فأخبرهم خبره وقصّ عليهم النبأ كله، فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمان كله، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقا للبعث، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ثم دخل على إثر يمليخا أريوس، فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة، فقام بباب الكهف ، ثم دعا رجالا من عظماء أهل المدينة، ففتح التابوت عندهم، فوجدوا فيه لوحين من رصاص، مكتوبا فيهما كتاب، فقرأهما فوجد فيهما أن مكسلمينا، ومحسلمينا، ويمليخا، ومرطونس، وكسطونس، ويبورس، ويكرونس، ويطبيونس، وقالوش، كانوا فتية هربوا من ملكهم دقينوس الجبار، مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا هذا الكهف ، فلما أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسدّ عليهم بالحجارة، وإنا كتبنا شأنهم وقصة خبرهم، ليعلمه من بعدهم إن عثر عليهم. فلما قرءوه، عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية للبعث فيهم، ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ، ثم دخلوا على الفتية الكهف، فوجودهم جلوسا بين ظهرانيه، مُشرقة وجوههم، لم تبل ثيابهم ، فخرّ أريوس وأصحابه سجودا، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته ، ثم كلم بعضهم بعضا، وأنبأهم الفتية عن الذين لقوا من ملكهم دقينوس ذلك الجبار الذي كانوا هربوا منه ، ثم إن أريوس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح تيذوسيس، أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله، جعلها الله على ملكك، وجعلها آية للعالمين، لتكون لهم نورا وضياء، وتصديقا بالبعث، فاعجل على فتية بعثهم الله، وقد كان توفاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة ، فلما أتى الملك تيذوسيس الخبر، قام من المَسْندة التي كان عليها، ورجع إليه رأيه وعقله، وذهب عنه همه، ورجع إلى الله عزّ وجلّ، فقال: أحمدك اللهمّ ربّ السماوات والأرض، أعبدك، وأحمدك، وأسبح لك ، تطوّلت عليّ، ورحمتني برحمتك، فلم تطفئ النور الذي كنت جعلته لآبائي، وللعبد الصالح قسطيطينوس الملك، فلما نبأ به أهل المدينة ركبوا إليه، وساروا معه حتى أتوا مدينة أفسوس، فتلقاهم أهل المدينة، وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف حتى أتوه ، فلما رأى الفتية تيذوسيس، فرحوا به، وخرّوا سجودا على وجوههم ، وقام تيذوسيس قدامهم، ثم اعتنقهم وبكى، وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبحون الله ويحمدونه، ويقول: والله ما أشبه بكم إلا الحواريون حين رأوا المسيح ، وقال: فرج الله عنكم، كأنكم الذي تُدْعَون فتحْشَرون من القبور ، فقال الفتية لتيذوسيس: إنا نودّعك السلام، والسلام عليكم ورحمة الله، حفظك الله، وحفظ لك ملكك بالسلام، ونعيذك بالله من شرّ الجنّ والإنس ، فأمر بعيش من خُلَّر ونشيل إن أسوأ ما سلك في بطن الإنسان أن لا يعلم شيئا إلا كرامة إن أكرم بها، ولا هوان إن أهين به. فبينما الملك قائم، إذ رجعوا إلى مضاجعهم، فناموا، وتوفى الله أنفسهم بأمره، وقام الملك إليهم، فجعل ثيابه عليهم، وأمر أن يجعل لكلّ رجل منهم تابوت من ذهب ، فلما أَمْسَوا ونام، أتوه في المنام، فقالوا: إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة، ولكنا خُلقنا من تراب وإلى التراب نصير، فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله منه ، فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج، فجعلوهم فيه، وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم ، وأمر الملك فجعل كهفهم مسجدا يُصَلَّى فيه، وجعل لهم عيدا عظيما، وأمر أن يؤتى كلّ سنة ، فهذا حديث أصحاب الكهف. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: بعثهم الله - يعني الفتية أصحاب الكهف - وقد سلط عليهم ملك مسلم، يعني على أهل مدينتهم ، وسلَّط الله على الفتية الجوع، فقال قائل منهم: ( كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) قال: فردّوا علم ذلك إلى الله ، ( قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ) وإذا معهم ورِق من ضرب الملك الذي كانوا في زمانه ( فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) : أي بطعام ( وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) . فخرج أحدهم فرأى المعالم متنكرة حتى انتهى إلى المدينة، فاستقبله الناس لا يعرف منهم أحدا ، فخرج ولا يعرفونه، حتى انتهى إلى صاحب الطعام، فسامه بطعامه، فقال صاحب الطعام: هات ورقك ، فأخرج إليه الورق، فقال: من أين لك هذا الورق؟ قال: هذه ورِقُنا وورِق أهل بلادنا ، فقال: هيهات هذه الورِق من ضرب فلان بن فلان منذ ثلاثمائة وتسع سنين ، أنت أصبت كنـزا ، ولست بتاركك حتى أرفعك إلى الملك ، فرفعه إلى الملك، وإذا الملك مسلم وأصحابه مسلمون، ففرح واستبشر، وأظهر لهم أمره، وأخبرهم خبر أصحابه ، فبعثوا إلى اللوح في الخزانة، فأتوا به، فوافق ما وصف من أمرهم، فقال المشركون: نحن أحقّ بهم هؤلاء أبناء آبائنا، وقال المسلمون: نحن أحقّ بهم، هم مسلمون منا ، فانطلقوا معه إلى الكهف ، فلما أتوا باب الكهف قال: دعوني حتى أدخل على أصحابي حتى أبشرهم، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم ، فدخل فبشَّرهم، وقبض الله أرواحهم، قال: وعمى الله عليهم مكانهم، فلم يهتدوا، فقال المشركون: نبني عليهم بُنيانا، فإنهم أبناء آبائنا، ونعبد الله فيه، وقال المسلمون: نحن أحق بهم، هم منا، نبني عليهم مسجدا نصلي فيه، ونعبد الله فيه. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: إن الله تعالى بعثهم من رقدتهم ليتساءلوا بينهم كما بيَّنا قبل، لأن الله عزّ ذكره ، كذلك أخبر عباده في كتابه، وإن الله أعثر عليهم القوم الذين أعثرهم عليهم، ليتحقق عندهم ببعث الله هؤلاء الفتية من رقدتهم بعد طول مدتها بهيئتهم يوم رقدوا، ولم يشيبوا على مرّ الأيام والليالي عليهم، ولم يهرموا على كرّ الدهور والأزمان فيهم قدرته على بعث من أماته في الدنيا من قبره إلى موقف القيامة يوم القيامة، لأن الله عزّ ذكره بذلك أخبرنا، فقال: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا . واختلفت القراء في قراءة قوله: ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة وبعض العراقيين ( بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ ) بفتح الواو وكسر الراء والقاف. وقرأ عامة قراء الكوفة والبصرة ( بَورْقِكُمْ ) بسكون الراء، وكسر القاف. وقرأه بعض المكيين بكسر الراء ، وإدغام القاف في الكاف، وكلّ هذه القراءات متفقات المعاني، وإن اختلفت الألفاظ منها، وهنّ لغات معروفات من كلام العرب، غير أن الأصل في ذلك فتح الواو وكسر الراء والقاف، لأنه الورق، وما عدا ذلك فإنه داخل عليه طلب التخفيف. وفيه أيضا لغة أخرى وهو الوَرْق ، كما يقال للكَبِد كَبْد. فإذا كان ذلك هو الأصل، فالقراءة به إلي أعجب، من غير أن تكون الأخريان مدفوعة صحتهما، وقد ذكرنا الرواية بأن الذي بعث معه بالوَرِق إلى المدينة كان اسمه يمليخا. وقد: حدثني عبيد الله بن محمد الزهري، قال: ثنا سفيان، عن مقاتل ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ ) اسمه يمليخ. وأما قوله: ( فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم: معناه فلينظر أي أهل المدينة أكثر طعاما. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن عكرمة ( أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ) قال: أكثر. وحدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي حُصَين، عن عكرِمة مثله، إلا أنه قال: ( أيُّهُ أكْثَرُ ) . وقال آخرون: بل معناه: أيها أحلّ طعاما. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير: ( أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ) قال : أحلّ. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، مثله. وقال آخرون: بل معناه: أيها خير طعاما. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( أَزْكَى طَعَامًا ) قال: خير طعاما. وأولى الأقوال عندي في ذلك بالصواب: قول من قال: معنى ذلك: أحلّ وأطهر، وذلك أنه لا معنى في اختيار الأكثر طعاما للشراء منه إلا بمعنى إذا كان أكثرهم طعاما، كان خليقا أن يكون الأفضل منه عنده أوجد، وإذا شرط على المأمور الشراء من صاحب الأفضل، فقد أمر بشراء الجيد، كان ما عند المشتري ذلك منه قليلا الجيد أو كثيرا، وإنما وجه من وجه تأويل أزكى إلى الأكثر، لأنه وجد العرب تقول: قد زكا مال فلان: إذا كثر، وكما قال الشاعر: قَبائِلُنـــا سَــبْعٌ وأنْتُــمْ ثَلاثَــةٌ وَللسَّـبْعُ أزْكَـى مِـن ثَـلاثٍ وأطْيَبُ بمعنى: أكثر، وذلك وإن كان كذلك، فإن الحلال الجيد وإن قل، أكثر من الحرام الخبيث وإن كثر. وقيل: ( فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا ) فأضيف إلى كناية المدينة، والمراد بها أهلها، لأن تأويل الكلام: فلينظر أيّ أهلها أزكى طعاما لمعرفة السامع بالمراد من الكلام ، وقد يُحتمل أن يكونوا عنوا بقوله ( أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ) : أيها أحلّ، من أجل أنهم كانوا فارقوا قومهم وهم أهل أوثان، فلم يستجيزوا أكل ذبيحتهم. وقوله: ( فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) يقول: فليأتكم بقوت منه تقتاتونه ، وطعام تأكلونه. كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ( فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) قال: بطعام. وقوله: ( وَلْيَتَلَطَّفْ ) يقول: وليترفق في شرائه ما يشتري، وفي طريقه ودخوله المدينة ( وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ) يقول: ولا يعلمنّ بكم أحدا من الناس ، وقوله: ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ) يعنون بذلك: دقينوس وأصحابه، قالوا: إن دقينوس وأصحابه إن يظهروا عليكم، فيعلموا مكانكم، يرجموكم شتما بالقول. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله: ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ) قال: يشتموكم بالقول، يؤذوكم. وقوله: ( أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ) يقول: أو يردّوكم في دينهم، فتصيروا كفارا بعبادة الأوثان ( وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ) يقول:ولن تدركوا الفلاح، وهو البقاء الدائم والخلود في الجنان، إذن: أي إن أنتم عُدْتم في ملتهم أبدا: أيام حياتكم. القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ( 21 ) يقول تعالى ذكره: وكما بعثناهم بعد طول رقدتهم كهيئتهم ساعة رقدوا، ليتساءلوا بينهم، فيزدادوا بعظيم سلطان الله بصيرة، وبحسن دفاع الله عن أوليائه معرفة ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ) يقول: كذلك أطلعنا عليهم الفريق الآخر الذين كانوا في شكّ من قُدرة الله على إحياء الموتى، وفي مِرْية من إنشاء أجسام خلقه، كهيئتهم يوم قبضهم بعد البِلَى، فيعلموا أن وَعْد الله حق، ويُوقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ) يقول: أطلعنا عليهم ليعلم من كذب بهذا الحديث، أن وعد الله حقّ، وأن الساعة لا ريب فيها. وقوله: ( إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) يعني: الذين أعثروا على الفتية يقول تعالى: وكذلك أعثرنا هؤلاء المختلفين في قيام الساعة، وإحياء الله الموتى بعد مماتهم من قوم تيذوسيس، حين يتنازعون بينهم أمرهم فيما الله فاعل بمن أفناه من عباده، فأبلاه في قبره بعد مماته، أمنشئهم هو أم غير منشئهم ، وقوله ( فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا ) يقول: فقال الذين أعثرناهم على أصحاب الكهف: ابنوا عليهم بنيانا ( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) يقول: ربّ الفتية أعلم بالفتية وشأنهم ، وقوله: ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ) يقول جلّ ثناؤه: قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف ( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) . وقد اختلف في قائلي هذه المقالة، أهم الرهط المسلمون، أم هم الكفار؟ وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى، وسنذكر إن شاء الله ما لم يمض منه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ) قال: يعني عدوّهم. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: عمَّى الله على الذين أعثرهم على أصحاب الكهف مكانهم، فلم يهتدوا، فقال المشركون: نبني عليهم بنيانا، فإنهم أبناء آبائنا، ونعبد الله فيها، وقال المسلمون: بل نحن أحق بهم، هم منا، نبني عليهم مسجدا نصلي فيه، ونعبد الله فيه. القول في تأويل قوله تعالى : سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ( 22 ) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ( 23 ) يقول تعالى ذكره:سيقول بعض الخائضين في أمر الفتية من أصحاب الكهف، هم ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقول بعضهم: هم خمسة سادسهم كلبهم ( رَجْمًا بِالْغَيْبِ ) : يقول: قذفا بالظنّ غير يقين علم، كما قال الشاعر: وأجْعَلُ مِنِّي الحَقَّ غَيْبا مُرَجَّمَا وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ) : أي قذفا بالغيب. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( رَجْمًا بِالْغَيْبِ ) قال: قذفا بالظنّ. وقوله ( وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) يقول: ويقول بعضهم: هم سبعة وثامنهم كلبهم. ( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لقائلي هذه الأقوال في عدد الفتية من أصحاب الكهف رجما منهم بالغيب: ( رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ ) يقول: ما يعلم عددهم ( إِلا قَلِيلٌ ) من خلقه. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) يقول: قليل من الناس. وقال آخرون: بل عنى بالقليل: أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس ( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) قال: يعني أهل الكتاب ، وكان ابن عباس يقول: أنا ممن استثناه الله، ويقول: عدتهم سبعة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل ، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس ( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) قال: أنا من القليل، كانوا سبعة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: أنا من أولئك القليل الذين استثنى الله، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: قال ابن عباس: عدتهم سبعة وثامنهم كلبهم، وأنا ممن استثنى الله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ) قال: كان ابن عباس يقول: أنا من القليل، هم سبعة وثامنهم كلبهم. وقوله: ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) يقول عز ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا تمار يا محمد: يقول: لا تجادل أهل الكتاب فيهم، يعني في عدة أهل الكهف، وحُذِفت العِدّة اكتفاء بذكرهم فيها لمعرفة السامعين بالمراد. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ ) قال: لا تمار في عدتهم. وقوله: ( إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) اختلف أهل التأويل في معنى المراء الظاهر الذي استثناه الله، ورخص فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو ما قصّ الله في كتابه أبيح له أن يتلوه عليهم، ولا يماريهم بغير ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) يقول: حسبك ما قصصت عليك فلا تمار فيهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) يقول: إلا بما قد أظهرنا لك من أمرهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) : أي حَسْبُك ما قصصنا عليك من شأنهم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ ) قال: حَسْبُك ما قصصنا عليك من شأنهم. حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) يقول: حَسْبُك ما قصصنا عليك. وقال آخرون: المِراء الظاهر هو أن يقول ليس كما تقولون، ونحو هذا من القول. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا ) قال: أن يقول لهم: ليس كما تقولون ، ليس تعلمون عدتهم إن قالوا كذا وكذا فقل ليس كذلك، فإنهم لا يعلمون عدّتهم، وقرأ ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ) حتى بلغ ( رَجْمًا بِالْغَيْبِ ) . وقوله: ( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) يقول تعالى ذكره: ولا تستفت في عدّة الفتية من أصحاب الكهف منهم، يعني من أهل الكتاب أحدا، لأنهم لا يعلمون عدتهم، وإنما يقولون فيهم رجما بالغيب، لا يقينا من القول. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: ( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) قال: هم أهل الكتاب. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) من يهود. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) : من يهود، قال: ولا تسأل يهودَ عن أمر أصحاب الكهف، إلا ما قد أخبرتك من أمرهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) : من أهل الكتاب. كنا نحدّث أنهم كانوا بني الركنا والركنا: ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام، فتفرّدوا بدينهم، واعتزلوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب الله على أصمختهم، فلبثوا دهرا طويلا حتى هلكت أمَّتهم وجاءت أمَّة مسلمة بعدهم، وكان ملكهم مسلما. القول في تأويل قوله تعالى : إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ( 24 ) وهذا تأديب من الله عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عهد إليه أن لا يجزم على ما يحدث من الأمور أنه كائن لا محالة، إلا أن يصله بمشيئة الله، لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله. وإنما قيل له ذلك فيما بلغنا من أجل أنه وعد سائليه عن المسائل الثلاث اللواتي قد ذكرناها فيما مضى اللواتي، إحداهنّ المسألة عن أمر الفتية من أصحاب الكهف أن يجيبهم عنهنّ غد يومهم، ولم يستثن، فاحتبس الوحي عنه فيما قيل من أجل ذلك خمس عشرة، حتى حزنه إبطاؤه ، ثم أنـزل الله عليه الجواب عنهنّ، وعرف نبيه سبب احتباس الوحي عنه ، وعلَّمه ما الذي ينبغي أن يستعمل في عداته وخبره عما يحدث من الأمور التي لم يأته من الله بها تنـزيل، فقال: وَلا تَقُولَنَّ يا محمد لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا كما قلت لهؤلاء الذين سألوك عن أمر أصحاب الكهف، والمسائل التي سألوك عنها، سأخبركم عنها غدا ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) . ومعنى الكلام: إلا أن تقول معه: إن شاء الله، فترك ذكر تقول اكتفاء بما ذكر منه، إذ كان في الكلام دلالة عليه ، وكان بعض أهل العربية يقول: جائز أن يكون معنى قوله: ( إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ) استثناء من القول، لا من الفعل كأن معناه عنده: لا تقولنّ قولا إلا أن يشاء الله ذلك القول، وهذا وجه بعيد من المفهوم بالظاهر من التنـزيل مع خلافه تأويل أهل التأويل. وقوله: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) اختلف أهل التأويل في معناه، فقال بعضهم: واستثن في يمينك إذا ذكرت أنك نسيت ذلك في حال اليمين. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن هارون الحربيّ ، قال: ثنا نعيم بن حماد، قال: ثنا هشيم، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، في الرجل يحلف، قال له: أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) في ذلك قيل للأعمش سمعته من مجاهد، فقال: ثني به ليث بن أبي سليم، يرى ذهب كسائي هذا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ الاستثناء ، ثم ذكرت فاستثن. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه ، في قوله: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) قال: بلغني أن الحسن، قال: إذا ذكر أنه لم يقل: إن شاء الله، فليقل: إن شاء الله. وقال آخرون: معناه: واذكر ربك إذا عصيت. ذكر من قال ذلك: حدثني نصر بن عبد الرحمن، قال: ثنا حكام بن سلم، عن أبي سنان، عن ثابت، عن عكرمة، في قول الله: ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) قال: اذكر ربك إذا عصيت. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن أبي سنان، عن ثابت، عن عكرمة، مثله . وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: واذكر ربك إذا تركت ذكره، لأن أحد معاني النسيان في كلام العرب الترك، وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل. فإن قال قائل: أفجائز للرجل أن يستثني في يمينه إذ كان معنى الكلام ما ذكرت بعد مدة من حال حلفه؟ قيل: بل الصواب أن يستثني ولو بعد حِنثه في يمينه، فيقول: إن شاء الله ليخرج بقيله ذلك مما ألزمه الله في ذلك بهذه الآية، فيسقط عنه الحرج بتركه ما أمره بقيله من ذلك ، فأما الكفارة فلا تسقط عنه بحال، إلا أن يكون استثناؤه موصولا بيمينه. فإن قال: فما وجه قول من قال له: ثُنْياه ولو بعد سنة، ومن قال له ذلك ولو بعد شهر، وقول من قال ما دام في مجلسه؟ قيل: إن معناهم في ذلك نحو معنانا في أن ذلك له، ولو بعد عشر سنين، وأنه باستثنائه وقيله إن شاء الله بعد حين من حال حلفه، يسقط عنه الحرج الذي لو لم يقله كان له لازما ، فأما الكفارة فله لازمة بالحِنْث بكلّ حال، إلا أن يكون استثناؤه كان موصولا بالحلف، وذلك أنا لا نعلم قائلا قال ممن قال له الثُّنْيا بعد حين يزعم أن ذلك يضع عنه الكفارة إذا حنِث، ففي ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا في ذلك، وأن معنى القول فيه، كان نحو معنانا فيه. وقوله: ( وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ) يقول عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل ولعل الله أن يهديني فيسدّدني لأسدَّ مما وعدتكم وأخبرتكم أنه سيكون، إن هو شاء. وقد قيل: إن ذلك مما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقوله إذا نسي الاستثناء في كلامه، الذي هو عنده في أمر مستقبل مع قوله: إن شاء الله، إذا ذكر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن محمد، رجل من أهل الكوفة، كان يفسر القرآن، وكان يجلس إليه يحيى بن عباد، قال: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا قال فقال: وإذا نسي الإنسان أن يقول: إن شاء الله، قال: فتوبته من ذلك، أو كفارة ذلك أن يقول: ( عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ) . القول في تأويل قوله تعالى : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ( 25 ) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ( 26 ) اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) فقال بعضهم: ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن أهل الكتاب أنهم يقولون ذلك كذلك، واستشهدوا على صحة قولهم ذلك بقوله : ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) وقالوا: لو كان ذلك خبرا من الله عن قدر لبثهم في الكهف، لم يكن لقوله ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) وجه مفهوم، وقد أعلم الله خلقه مبلغ لبثهم فيه وقدره. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) هذا قول أهل الكتاب، فردّه الله عليهم فقال: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) . حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) قال: في حرف ابن مسعود : ( وَقَالُوا: وَلَبِثُوا ) يعني أنه قال الناس، ألا ترى أنه قال : ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) . حدثنا عليّ بن سهل، قال: ثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب عن مطر الورّاق، في قول الله: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ ) قال: إنما هو شيء قالته اليهود، فردّه الله عليهم وقال: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) . وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله عن مبلغ ما لبثوا في كهفهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) قال: عدد ما لبثوا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه، وزاد فيه ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) قال: وتسع سنين. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق بنحوه. حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثني الأجلح، عن الضحاك بن مزاحم، قال: نـزلت هذه الآية ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ ) فقالوا: أياما أو أشهرا أو سنين؟ فأنـزل الله: ( سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) . حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) قال: بين جبلين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله عزّ ذكره: ولبث أصحاب الكهف في كهفهم رقودا إلى أن بعثهم الله، ليتساءلوا بينهم، وإلى أن أعثر عليهم من أعثر، ثلاثمائة سنين وتسع سنين، وذلك أن الله بذلك أخبر في كتابه ، وأما الذي ذكر عن ابن مسعود أنه قرأ ( وَقَالُوا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) وقول من قال ذلك من قول أهل الكتاب، وقد ردّ الله ذلك عليهم، فإن معناه في ذلك: إن شاء الله كان أن أهل الكتاب قالوا فيما ذُكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاثمائة سنين وتسع سنين، فردّ الله ذلك عليهم، وأخبر نبيه أن ذلك قدر لبثهم في الكهف من لدن أووا إليه أن بعثهم ليتساءلوا بينهم ، ثم قال جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلى يومهم هذا، لا يعلم بذلك غير الله، وغير من أعلمه الله ذلك. فإن قال قائل: وما يدلّ على أن ذلك كذلك؟ قيل: الدالّ على ذلك أنه جلّ ثناؤه ابتدأ الخبر عن قدر لبثهم في كهفهم ابتداء، فقال: ) ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ) ولم يضع دليلا على أن ذلك خبر منه عن قول قوم قالوه، وغير جائز أن يضاف خبره عن شيء إلى أنه خبر عن غيره بغير برهان، لأن ذلك لو جاز جاز في كل أخباره ، وإذا جاز ذلك في أخباره جاز في أخبار غيره أن يضاف إليه أنها أخباره، وذلك قلب أعيان الحقائق وما لا يخيل فساده. فإن ظنّ ظانّ أن قوله: ( قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ) دليل على أن قوله: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) خبر منه عن قوم قالوه، فإن ذلك كان يجب أن يكون كذلك لو كان لا يحتمل من التأويل غيره ، فأما وهو محتمل ما قلنا من أن يكون معناه: قل الله أعلم بما لبثوا إلى يوم أنـزلنا هذه السورة، وما أشبه ذلك من المعاني فغير واجب أن يكون ذلك دليلا على أن قوله: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) خبر من الله عن قوم قالوه، وإذا لم يكن دليلا على ذلك، ولم يأت خبر بأن قوله: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) خبر من الله عن قوم قالوه، ولا قامت بصحة ذلك حجة يجب التسليم لها، صحّ ما قلنا، وفسد ما خالفه. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ ) فقرأت ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين ( ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ ) بتنوين : ثَلَاثَمِائَةٍ ، بمعنى: ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة ، وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة ( ثَلاثَ مِائَةِ سِنِينَ ) بإضافة ثلاثمائة إلى السنين: غير منون. وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه: ( ثَلاثَ مِائَةٍ ) بالتنوين ( سِنِينَ ) ، وذلك أن العرب إنما تضيف المئة إلى ما يفسرها إذا جاء تفسيرها بلفظ الواحد، وذلك كقولهم ثلاث مئة درهم، وعندي مئة دينار، لأن المئة والألف عدد كثير، والعرب لا تفسر ذلك إلا بما كان بمعناه في كثرة العدد، والواحد يؤدّى عن الجنس، وليس ذلك للقليل من العدد، وإن كانت العرب ربما وضعت الجمع القليل موضع الكثير، وليس ذلك بالكثير، وأما إذا جاء تفسيرها بلفظ الجمع، فإنها تنوّن، فتقول: عندي ألفٌ دراهمُ، وعندي مئةٌ دنانير، على ما قد وصفت. وقوله: ( لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول تعالى ذكره: لله علم غيب السماوات والأرض، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يخفى عليه شيء ، يقول: فسلموا له علم مبلغ ما لبثت الفتية في الكهف إلى يومكم هذا، فإن ذلك لا يعلمه سوى الذي يعلم غيب السماوات والأرض، وليس ذلك إلا الله الواحد القهار. وقوله: ( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) يقول: أبصر بالله وأسمع، وذلك بمعنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه. وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكلّ موجود، وأسمعه لكلّ مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع، تبارك وتعالى!. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ، في قوله: ( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ) قال: يرى أعمالهم، ويسمع ذلك منهم سميعا بصيرا. وقوله: ( مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ) يقول جلّ ثناؤه: ما لخلقه دون ربهم الذي خلقهم وليّ ، يلي أمرهم وتدبيرهم، وصرفهم فيما هم فيه مصرفون. ( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ) يقول: ولا يجعل الله في قضائه ، وحكمه في خلقه أحدا سواه شريكا، بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم، وتدبيرهم وتصريفهم فيما شاء وأحبّ. القول في تأويل قوله تعالى : وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( 27 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتبع يا محمد ما أنـزل إليك من كتاب ربك هذا، ولا تتركنّ تلاوته، واتباع ما فيه من أمر الله ونهيه، والعمل بحلاله وحرامه، فتكون من الهالكين ، وذلك أن مصير من خالفه، وترك اتباعه يوم القيامة إلى جهنم ( لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ) يقول: لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنـزلها عليك أهل معاصيه، والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك. وقوله: ( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) يقول: وإن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فتتبعه وتأتمّ به، فنالك وعيد الله الذي أوعد فيه المخالفين حدوده، لن تجد من دون الله موئلا تئل إليه ومعدلا تعدل عنه إليه، لأن قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه، لا يقدر أحد منهم على الهرب من أمر أراد به. وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: ( مُلْتَحَدًا ) قال أهل التأويل، وإن اختلفت ألفاظهم في البيان عنه. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان ، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: ( مُلْتَحَدًا ) قال: مَلْجَأ. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( مُلْتَحَدًا ) قال: ملجأ. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) قال: موئلا. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر ، عن قتادة، في قوله: ( مُلْتَحَدًا ) قال: ملجأ ولا موئلا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ، في قوله: ( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) قال: لا يجدون ملتحدا يلتحدونه، ولا يجدون من دونه ملجأ ولا أحدا يمنعهم ، والملتحد: إنما هو المفتعل من اللحد، يقال منه: لحدت إلى كذا: إذا ملت إليه ، ومنه قيل للحد: لحد، لأنه في ناحية من القبر، وليس بالشق الذي في وسطه، ومنه الإلحاد في الدين، وهو المعاندة بالعدول عنه ، والترك له. القول في تأويل قوله تعالى : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ( 28 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( واصْبِرْ ) يا محمد ( نَفْسَكَ مَعَ ) أصحابك ( الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) بذكرهم إياه بالتسبيح والتحميد والتهليل والدعاء والأعمال الصالحة من الصلوات المفروضة وغيرها ( يُرِيدُونَ ) بفعلهم ذلك ( وَجْهَهُ ) لا يريدون عرضا من عرض الدنيا. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في قوله ( يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) في سورة الأنعام، والصواب من القول في ذلك عندنا، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، والقرّاء على قراءة ذلك ( بالغَدَاةِ والعَشيّ ) ، وقد ذُكر عن عبد الله بن عامر وأبي عبد الرحمن السلمي أنهما كانا يقرآنه ( بالغَدَوةِ والعَشِيّ ) ، وذلك قراءة عند أهل العلم بالعربية مكروهة، لأن غدوة معرّفة، ولا ألف ولا لام فيها، وإنما يعرف بالألف واللام ما لم يكن معرفة ، فأما المعارف فلا تعرّف بهما ، وبعد، فإن غدوة لا تضاف إلى شيء، وامتناعها من الإضافة دليل واضح على امتناع الألف واللام من الدخول عليها، لأن ما دخلته الألف واللام من الأسماء صلحت فيه الإضافة ، وإنما تقول العرب: أتيتك غداة الجمعة، ولا تقول: أتيتك غدوة الجمعة، والقراءة عندنا في ذلك ما عليه القرّاء في الأمصار لا نستجيز غيرها لإجماعها على ذلك، وللعلة التي بيَّنا من جهة العربية. وقوله: ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) يقول جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: ولا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا محمد أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار، ولا تجاوزهم إليه ، وأصله من قولهم: عدوت ذلك، فأنا أعدوه: إذا جاوزته. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله: ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) قال: لا تجاوزهم إلى غيرهم. حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ ، عن ابن عباس، قوله: ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) يقول: لا تتعدّهم إلى غيرهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ، في قوله: ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ) ... الآية، قال: قال القوم للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا نستحيي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا، فجانبهم يا محمد، وجالس أشراف العرب، فنـزل القرآن ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) ولا تحقرهم، قال: قد أمروني بذلك، قال: ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) . حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، عن أبي حازم، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف ، أن هذه الآية لما نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) فخرج يلتمس، فوجد قوما يذكرون الله، منهم ثائر الرأس، وجافّ الجلد، وذو الثوب الواحد، فلما رآهم جلس معهم، فقال: « الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لي فِي أُمَّتِي مَنْ أمرني أنْ أصبِرَ نَفْسي مَعَهُ » ورُفعت العينان بالفعل، وهو لا تعد. وقوله: ( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم:لا تعدُ عيناك عن هؤلاء المؤمنين الذين يدعون ربهم إلى أشراف المشركين، تبغي بمجالستهم الشرف والفخر ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك، وقال بعضهم: بل من عظماء قبائل العرب ممن لا بصيرة لهم بالإسلام، فرأوه جالسا مع خباب وصهيب وبلال، فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا ، قالوا: فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله عليه: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ثم كان يقوم إذا أراد القيام، ويتركهم قعودا، فأنـزل الله عليه ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) الآيَةَ ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يريد زينة الحياة الدنيا: مجالسة أولئك العظماء الأشراف. وفد ذكرت الرواية بذلك فيما مضى قبل في سورة الأنعام. حدثني الحسين بن عمرو العنقزي، قال: ثني أبي، قال: ثنا أسباط بن نصر، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي، وكان قارئ الأزد عن أبي الكنود، عن خباب في قصة ذكرها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذكر فيها هذا الكلام مدرجا في الخبر ( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: تجالس الأشراف. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرت أن عيينة بن حصن قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم: لقد آذاني ريح سلمان الفارسي، فاجعل لنا مجلسا منك لا يجامعوننا فيه، واجعل لهم مجلسا لا نجامعهم فيه، فنـزلت الآية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أنه لما نـزلت هذه الآية قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: « الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أصبِرَ نَفْسِي مَعَه » . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ، في قوله ( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) قال: تريد أشراف الدنيا. حدثنا صالح بن مسمار، قال: ثنا الوليد بن عبد الملك، قال: سليمان بن عطاء، عن مسلمة بن عبد الله الجهنيّ ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي، عن سلمان الفارسي، قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا: يا نبيّ الله، إنك لو جلست في صدر المسجد، ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف، ولم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك، وأخذنا عنك ، فأنـزل الله : وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ، حتى بلغ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا يتهدّدهم بالنار ، فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، فقال: « الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يُمِتْني حتى أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَ رِجالٍ منْ أُمَّتي، مَعَكُمُ المَحْيا وَمَعَكُمُ المَماتُ » . وقوله: ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ) يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم:ولا تطع يا محمد من شغلنا قلبه من الكفار الذين سألوك طرد الرهط الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ عنك، عن ذكرنا، بالكفر وغلبة الشقاء عليه، واتبع هواه، وترك اتباع أمر الله ونهيه، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه، وهم فيما ذُكر: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم. حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أسباط، عن السدي، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود ، عن خباب ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ) قال: عُيينة، والأقرع. وأما قوله: ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: معناه: وكان أمره ضياعا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال ابن عمرو في حديثه قال: ضائعا. وقال الحارث في حديثه: ضياعا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: ضياعا. وقال آخرون: بل معناه: وكان أمره ندما. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثني، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا عباد بن راشد، عن داود ( فُرُطا ) قال: ندامة. وقال آخرون: بل معناه: هلاكا. ذكر من قال ذلك: حدثني الحسين بن عمرو، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أسباط ، عن السديّ، عن أبي سعيد الأزدي، عن أبي الكنود، عن خباب ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال: هلاكا. وقال آخرون: بل معناه: خلافا للحق. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد : ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال: مخالفا للحقّ، ذلك الفُرُط. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: ضياعا وهلاكا، من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا: إذا أسرف فيه وتجاوز قدره، وكذلك قوله ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفا قد تجاوز حدّه، فَضَيَّع بذلك الحقّ وهلك. وقد: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، قال: قيل له: كيف قرأ عاصم؟ فقال ( وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) قال أبو كريب: قال أبو بكر: كان عُيينة بن حصن يفخر بقول أنا وأنا. القول في تأويل قوله تعالى : وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ( 29 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتبعوا أهواءهم، الحقّ أيها الناس من عند ربكم، وإليه التوفيق والحذلان، وبيده الهدى والضلال يهدي من يشاء منكم للرشاد، فيؤمن، ويضلّ من يشاء عن الهدى فيكفر، ليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد لهواكم من كان للحقّ متبعا، وبالله وبما أنـزل علي مؤمنا، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا، فإنكم إن كفرتم فقد أعد لكم ربكم على كفركم به نار أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته، فإن لكم ما وصف الله لأهل طاعته. وروي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) يقول: من شاء الله له الإيمان آمن، ومن شاء الله له الكفر كفر، وهو قوله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وليس هذا بإطلاق من الله الكفر لمن شاء، والإيمان لمن أراد، وإنما هو تهديد ووعيد. وقد بين أن ذلك كذلك قوله: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا ) والآيات بعدها. كما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن عمر بن حبيب، عن داود، عن مجاهد، في قوله: ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) . قال: وعيد من الله، فليس بمعجزي. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) وقوله اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قال: هذا كله وعيد ليس مصانعة ولا مراشاة ولا تفويضا. وقوله: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا ) يقول تعالى ذكره: إنا أعددنا، وهو من العُدّة. للظالمين: الذين كفروا بربهم. كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال: للكافرين ، وقوله: ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) يقول: أحاط سرادق النار التي أعدّها الله للكافرين بربهم، وذلك فيما قيل: حائط من نار يطيف بهم كسرادق الفسطاط، وهي الحجرة التي تطيف بالفسطاط، كما قال رؤبة: يـا حَـكَمَ بـنَ المُنْـذِرِ بـنَ الجارُودْ سُــرادِقُ الفَضْــلِ عَلَيْـكَ مَمْـدُودْ وكما قال سلامة بن جندل: هُـوَ المُـولِجُ النُّعْمـانَ بيْتـا سَـماؤُهُ صُـدُورُ الفُيُـولِ بعـدَ بَيْـتٍ مُسَرْدَقَ يعني: بيتا له سرادق. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، في قوله: ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال: هي حائط من نار. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان ، عن معمر، عمن أخبره، قال ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) قال: دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي قال الله: ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ . وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك خبر يدلّ على أن معنى قوله ( أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) أحاط بهم ذلك في الدنيا، وأن ذلك السرادق هو البحر. ذكر من قال ذلك: حدثني العباس بن محمد والحسين بن نصر، قالا ثنا أبو عاصم، عن عبد الله بن أمية، قال: ثني محمد ابن حيي بن يعلى، عن صفوان بن يعلى، عن يعلى بن أمية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البَحْرُ هو جَهَنَّمُ » قال: فقيل له: كيف ذلك، فتلا هذه الآية، أو قرأ هذه الآية: ( نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ) ثم قال: والله لا أدْخُلُها أبَدًا أوْ ما دُمْتُ حَيًّا، ولا تُصِيبُني مِنْها قَطْرَة. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا يعمر بن بشر، قال: ثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا رشدين بن سعد، قال: ثني عمرو بن الحارث، عن أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « سُرَادِقُ النَّارِ أرْبَعَةُ جُدُرٍ، كِثْفُ كُلّ وَاحِد مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً » . حدثنا بشر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إن لِسُرَادِقِ النَّارِ أرْبَعَةَ جُدُرٍ، كِثْفُ كُلّ وَاحِد مِثْلُ مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ سَنَةً » . حدثنا بشر، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ماءٌ كالمُهْلِ » ، قال: « كَعَكَرِ الزَّيْتِ، فإذا قَرَّبَهُ إليه سقط فَرْوَةُ وَجْهِه فِيهِ » . وقوله: ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) يقول تعالى ذكره: وإن يستغث هؤلاء الظالمون يوم القيامة في النار من شدّة ما بهم من العطش، فيطلبونَ الماء يُغاثوا بماء المُهْل. واختلف أهل التأويل في المهل، فقال بعضهم: هو كلّ شيء أذيب وانماع. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قال: ذُكر لنا أن ابن مسعود أهديت إليه سِقاية من ذهب وفضة، فأمر بأخدود فخدّ في الأرض، ثم قذف فيه من جزل حطب، ثم قذف فيه تلك السقاية، حتى إذا أزبدت وانماعت قال لغلامه: ادع من يحضُرنا من أهل الكوفة، فدعا رهطا، فلما دخلوا عليه قال: أترون هذا؟ قالوا : نعم، قال: ما رأينا في الدنيا شبيها للمهل أدنى من هذا الذهب والفضة، حين أزبد وانماع. وقال آخرون: هو القيح والدم الأسود. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم، عن أبي بَزَة، عن مجاهد في قوله: ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) قال: القيح والدم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) قال: القيح والدم الأسود، كعكر الزيت ، قال الحارث في حديثه: يعني درديه. حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( كالمُهْلِ ) قال: يقول: أسود كهيئة الزيت. حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) ماء جهنم أسود، وهي سوداء، وشجرها أسود، وأهلها سود. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ ) قال: هو ماء غليظ مثل دردي الزيت. وقال آخرون: هو الشيء الذي قد انتهى حرّه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن جعفر وهارون بن عنترة، عن سعيد بن جبير، قال: المهل: هو الذي قد انتهى حرة. وهذه الأقوال وإن اختلفت بها ألفاظ قائليها، فمتقاربات المعنى، وذلك أن كل ما أذيب من رصاص أو ذهب أو فضة فقد انتهى حرّه، وأن ما أوقدت عليه من ذلك النار حتى صار كدردي الزيت، فقد انتهى أيضا حرّه. وقد: حُدثت عن معمر بن المثنى، أنه قال: سمعت المنتجع بن نبهان يقول: والله لفلان أبغض إليّ من الطلياء والمهل، قال: فقلنا له: وما هما؟ فقال: الجرباء، والملة التي تنحدر عن جوانب الخبزة إذا ملت في النار من النار، كأنها سهلة حمراء مدققة، فهي أحمره، فالمهل إذا هو كلّ مائع قد أوقد عليه حتى بلغ غاية حره، أو لم يكن مائعا، فانماع بالوقود عليه، وبلغ أقصى الغاية في شدّة الحرّ. وقوله: ( يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ) يقول جلّ ثناؤه: يشوي ذلك الماء الذي يغاثون به وجوههم. كما حدثني محمد بن خلف العسقلاني، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: ثنا بقية، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن بُسْر، هكذا قال ابن خلف عن أبي أمامة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قوله ( وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ قال: يقرب إليه فيتكرّهه، فإذا قرب منه، شوى وجهه، ووقعت فَرْوة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه ، يقول الله: ( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب ) . حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثني إبراهيم بن إسحاق الطالَقاني ويعمر بن بشر، قالا ثنا ابن المبارك، عن صفوان، عن عبد الله بن بُسْر، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن جعفر وهارون بن عنترة، عن سعيد بن جبير، قال هارون: إذا جاع أهل النار ، وقال جعفر: إذا جاء أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها، فاختلست جلود وجوههم، فلو أن مارا مار بهم يعرفهم، لعرف جلود وجوههم فيها، ثم يصبّ عليهم العطش، فيستغيثون، فيغاثون بماء كالمهل، وهو الذي قد انتهى حرّه، فإذا أدنوه من أفواههم انشوى من حرّه لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود. وقوله: ( بِئْسَ الشَّرَابُ ) يقول تعالى ذكره: بئس الشراب، هذا الماء الذي يغاث به هؤلاء الظالمون في جهنم الذي صفته ما وصف في هذه الآية. وقوله: ( وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) يقول تعالى ذكره: وساءت هذه النار التي أعتدناها لهؤلاء الظالمين مرتفقا ، والمرتفق في كلام العرب: المتكأ، يقال منه: ارتفقت إذا اتكأت، كما قال الشاعر: قــالَتْ لَــهُ وارْتَفَقَــتْ ألا فَتـى يَسُــوقُ بـالقَوْمِ غَـزَالاتِ الضُّحَـى أراد: واتكأت على مرفقها ، وقد ارتفق الرجل: إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم، وهو مرتفق، كما قال أبو ذؤيب الهذلي : نـامَ الخَلِيُّ وَبِتُّ اللَّيْـلَ مُرْتَفِقًــا كَأنَّ عَيْني فيها الصَّــابُ مَذْبُــوحُ وأما من الرفق فإنه يقال: قد ارتفقت بك مرتفقا، وكان مجاهد يتأول قوله: ( وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ) يعني المجتمع. * ذكر الرواية بذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( مُرْتَفَقا ) : أي مجتمعا. حدثني يعقوب، قال: ثنا معتمر، عن ليث، عن مجاهد ( وساءت مُرْتَفَقا ) قال: مجتمعا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله ، ولست أعرف الارتفاق بمعنى الاجتماع في كلام العرب، وإنما الارتفاق : افتعال، إما من المرفق، وإما من الرفق. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا ( 30 ) يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا بطاعة الله، وانتهوا إلى أمره ونهيه، إنا لا نضيع ثواب من أحسن عملا فأطاع الله، واتبع أمره ونهيه، بل نجازيه بطاعته وعمله الحسن جنات عدن تجري من تحتها الأنهار. فإن قال قائل: وأين خَبَر « إن » الأولى؟ قيل: جائز أن يكون خبرها قوله: ( إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا ) فيكون معنى الكلام: إنا لا نضيع أجر من عمل صالحا، فترك الكلام الأوّل، واعتمد على الثاني بنية التكرير، كما قيل : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ بمعنى: عن قتال فيه على التكرير، وكما قال الشاعر: إنَّ الخَلِيفَـــةَ إنَّ اللـــهَ سَــرْبَلَهُ سِـرْبالَ مُلْـك بِـهِ تُرْجَـى الخَـواتِيمُ ويروى: تُرْخَى ، وجائز أن يكون: ( إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) جزاء ، فيكون معنى الكلام: إن من عمل صالحا فإنا لا نضيع أجره، فتضمر الفاء في قوله « إنا » ، وجائز أن يكون خبرها: أولئك لهم جنات عدن، فيكون معنى الكلام: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أولئك لهم جنات عدن. القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ( 31 ) يقول تعالى ذكره: لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتُ عدن، يعني بساتين إقامة في الآخرة ، ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ ) يقول: تجري من دونهم ومن بين أيديهم الأنهار ، وقال جلّ ثناؤه: من تحتهم ، ومعناه: من دونهم وبين أيديهم، ( يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ ) يقول: يلبسون فيها من الحلي أساور من ذهب، والأساور: جمع إسوار. وقوله: ( وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ ) والسندس: جمع واحدها سندسة، وهي ما رقّ من الديباج ، والإستبرق: ما غلظ منه وثخُن ، وقيل: إن الإستبرق: هو الحرير ، ومنه قول المُرقش: تَــرَهُنَّ يَلْبَسْــنَ المَشــاعِرَ مَـرَّةٌ وإسْــتَبْرَقَ الدّيبـاجِ طَـوْرًا لِباسُـها يعني: وغليظ الديباج. وقوله: ( مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ ) يقول: متكئين في جنات عدن على الأرائك، وهي السرر في الحِجال، واحدتها: أريكة ، ومنه قول الشاعر: خُـدُودا جَـفَتْ فـي السَّيْرِ حتى كأنَّما يُبًاشــرن بــالمَعْزاءِ مَسّ الأرَائـك ومنه قول الأعشي: بيـنَ الّـرَواق وجـانِبِ مِـن سِـتْرها مِنْهــا وبيــن أرِيكَــةِ الأنْضَـادِ وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( عَلَى الأرَائِكِ ) قال: هي الحجال. قال معمر، وقال غيره: السرر في الحجال. وقوله: ( نِعْمَ الثَّوَابُ ) يقول: نعم الثواب جنات عدن، وما وصف جلّ ثناؤه أنه جعل لهؤلاء الذين آمنوا وعلموا الصالحات ( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) يقول: وحسنت هذه الأرائك في هذه الجنان التي وصف تعالى ذكره في هذه الآية متكأ.وقال جلّ ثناؤه: ( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ) فأنث الفعل بمعنى: وحسنت هذه الأرائك مرتَفَقا، ولو ذكر لتذكير المرتفق كان صوابا، لأن نعم وبئس إنما تدخلهما العرب في الكلام لتدلا على المدح والذم لا للفعل، فلذلك تذكرهما مع المؤنث، وتوحِّدهما مع الاثنين والجماعة. القول في تأويل قوله تعالى : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ( 32 ) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ( 33 ) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ( 34 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واضرب يا محمد لهؤلاء المشركين بالله، الذين سألوك أن تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، ( مَثَلا ) مثل ( رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ) أي جعلنا له بستانين من كروم ( وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ) يقول: وأطفنا هذين البستانين بنخل. وقوله: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ) يقول: وجعلنا وسط هذين البستانين زرعا ، وقوله: ( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ) يقول: كلا البستانين أطعم ثمره وما فيه من الغروس من النخل والكرم وصنوف الزرع. وقال: كلتا الجنتين، ثم قال: آتت، فوحَّد الخبر، لأن كلتا لا يفرد واحدتها، وأصله كلّ، وقد تفرد العرب كلتا أحيانا، ويذهبون بها وهي مفردة إلى التثنية ، قال بعض الرُّجاز في ذلك: فِـي كِـلْتَ رِجْلَيْهَـا سُـلامي وَاحـدَه كِلْتاهُمـــا مَقْرُونَـــةٌ بِزَائِـــدَهْ يريد بكلت: كلتا، وكذلك تفعل بكلتا وكلا وكل إذا أضيفت إلى معرفة، وجاء الفعل بعدهن ويجمع ويوحد ، وقوله: ( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) يقول: ولم تنقص من الأكل شيئا، بل آتت ذلك تاما كاملا ومنه قولهم: ظلم فلان فلانا حقَّه: إذا بخَسَهُ ونقصه، كما قال الشاعر: تَظَّلَمَنِــي مـالي كَـذَا وَلَـوَى يَـدِي لَـوَى يَـدَهُ اللـهُ الَّـذِي هُـوَ غالِبُـهْ وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا ) : أي لم تنقص، منه شيئا. وقوله: ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا ) يقول تعالى ذكره: وسيَّلنا خلال هذين البستانين نهرا، يعني بينهما وبين أشجارهما نهرا. وقيل: ( وَفَجَّرْنَا ) فثقل الجيم منه، لأن التفجير في النهر كله، وذلك أنه يميد ماء فيُسيل بعضه بعضا. وقوله: ( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق: « وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ » بضم الثاء والميم. واختلف قارئو ذلك كذلك، فقال بعضهم: كان له ذهب وفضة، وقالوا: ذلك هو الثمر، لأنها أموال مثمرة ، يعني مكثرة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ: ( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) قال: ذهب وفضة، وفي قول الله عزّ وجل: ( بِثُمُرِهِ ) قال: هي أيضا ذهب وفضة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله ( ثَمَرٌ ) قال: ذهب وفضة. قال: وقوله: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ هي هي أيضا. وقال آخرون: بل عُنِي به: المال الكثير من صنوف الأموال. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثني حجاج ، عن هارون، عن سعيد بن أبي عِروبة، عن قتادة، قال: قرأها ابن عباس: « وكَانَ لَهُ ثُمُرٌ » بالضمّ، وقال: يعني أنواع المال. حدثنا عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي ، عن ابن عباس: « وكانَ لَهُ ثُمُرٌ » يقول: مال. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، في قوله: « وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ » يقول: من كلّ المال. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ قال: الثمر من المال كله يعني الثمر، وغيره من المال كله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قال: « الثُّمُر » المال كله، قال: وكلّ مال إذا اجتمع فهو ثُمُر إذا كان من لون الثمرة وغيرها من المال كله. وقال آخرون: بل عُنِي به الأصل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ، في قوله: « وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ » الثمر الأصل ، قال وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ قال : بأصله ، وكأنّ الذين وجَّهوا معناها إلى أنها أنواع من المال، أرادوا أنها جمع ثمار جمع ثمر، كما يجمع الكتاب كتبا، والحمار حمرا ، وقد قرأ بعض من وافق هؤلاء في هذه القراءة « ثُمُرٌ » بضم الثاء وسكون الميم، وهو يريد الضمّ فيها، غير أنه سكنها طلب التخفيف ، وقد يحتمل أن يكون أراد بها جمع ثمرة، كما تجمع الخَشبة خَشَبا. وقرأ ذلك بعض المدنيين : ( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ) بفتح الثاء والميم، بمعنى جمع الثمرة، كما تجمع الخشبة خشبا ، والقصبة قَصبا. وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ « وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ » بضمّ الثاء والميم لإجماع الحجة من القرّاء عليه وإن كانت جمع ثمار ، كما الكتب جمع كتاب. ومعنى الكلام: ( وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ) منهما « ثُمُرٌ » بمعنى من جنتيه أنواع من الثمار وقد بين ذلك لمن وفق لفهمه، قوله: ( جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ) ثم قال: وكان له من هذه الكروم والنخل والزرع ثمر. وقوله: ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) يقول عزّ وجلّ: فقال هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب، لصاحبه الذي لا مال له وهو يخاطبه: ( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) يقول: وأعزّ عشيرة ورَهْطا، كما قال عُيينة والأقرع لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن سادات العرب، وأرباب الأموال، فنحّ عنا سلمان وخبَّابا وصُهيبا، احتقارا لهم، وتكبرا عليهم. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا ) وتلك والله أمنية الفاجر: كثرة المال، وعزّة النفر. القول في تأويل قوله تعالى : وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ( 35 ) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ( 36 ) يقول تعالى ذكره: هذا الذي جعلنا له جنتين من أعناب ( دَخَلَ جَنَّتَهُ ) وهي بستانه ( وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ) وظلمه نفسه: كفره بالبعث، وشكه في قيام الساعة، ونسيانه المعاد إلى الله تعالى، فأوجب لها بذلك سخط الله وأليم عقابه ، وقوله : ( قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ) يقول جلّ ثناؤه: قال لما عاين جنته، ورآها وما فيها من الأشجار والثمار والزروع والأنهار المطردة شكا في المعاد إلى الله: ما أظنّ أن تبيد هذه الجنة أبدا، ولا تفنى ولا تَخْرب ، وما أظنّ الساعة التي وعد الله خلقه الحشر فيها تقوم فتحدث، ثم تمنى أمنية أخرى على شكّ منه، فقال: ( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي ) فرجعت إليه، وهو غير موقن أنه راجع إليه ( لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ) يقول: لأجدنّ خيرا من جنتي هذه عند الله إن رددت إليه مرجعا ومردًا، يقول: لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلا ولي عنده أفضل منها في المعاد إن رددت إليه. كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ، في قوله: ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) قال: شكّ، ثم قال: ( وَلَئِنْ ) كان ذلك ثم ( رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ) ما أعطاني هذه إلا ولي عنده خير من ذلك. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) كفور لنعم ربه، مكذّب بلقائه : متمنّ على الله. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا ( 37 ) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ( 38 ) يقول تعالى ذكره: قال لصاحب الجنتين صاحبه الذي هو أقل منه مالا وولدا، ( وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) : يقول : وهو يخاطبه ويكلمه: ( أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ) يعني خلق أباك آدم من تراب ( ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ) يقول: ثم أنشأك من نطفة الرجل والمرأة ، ( ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا ) يقول: ثم عدلك بشرا سويا رجلا ذكرا لا أنثى، يقول: أكفرت بمن فعل بك هذا أن يعيدك خلقا جديدا بعد ما تصير رفاتا ( لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي ) يقول: أما أنا فلا أكفر بربي، ولكن أنا هو الله ربي، معناه أنه يقول: ولكن أنا أقول: هو الله ربي ( وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ) . وفي قراءة ذلك وجهان: أحدهما لكنّ هو الله ربي بتشديد النون وحذف الألف في حال الوصل، كما يقال: أنا قائم فتحذف الألف من أنا، وذلك قراءة عامة قراء أهل العراق. وأما في الوقف فإن القراءة كلها تثبت فيها الألف، لأن النون إنما شددت لاندغام النون من لكن، وهي ساكنة في النون التي من أنا، إذ سقطت الهمزة التي في أنا، فإذا وقف عليها ظهرت الألف التي في أنا، فقيل: لكنا، لأنه يقال في الوقف على أنا بإثبات الألف لا بإسقاطها. وقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز: ( لَكِنَّا ) بإثبات الألف في الوصل والوقف، وذلك وإن كان مما ينطق به في ضرورة الشعر، كما قال الشاعر: أنــا سَــيْفُ العَشِـيرَة فـاعْرِفُونِي حــميدا قــد تــذريت الســناما فأثبت الألف في أنا، فليس ذلك بالفصيح من الكلام، والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا ما ذكرنا عن العراقيين، وهو حذف الألف من « لكنّ » في الوصل، وإثباتها في الوقف. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا ( 39 ) يقول عز ذكره: وهلا إذ دخلت بستانك، فأعجبك ما رأيت منه، قلت ما شاء الله كان ، وفي الكلام محذوف استغني بدلالة ما ظهر عليه منه، وهو جواب الجزاء، وذلك كان. وإذا وجه الكلام إلى هذا المعنى الذي قلنا كانت « ما » نصبا بوقوع فعل الله عليه، وهو شاء ، وجاز طرح الجواب، لأن معنى الكلام معروف، كما قيل: فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض، وترك الجواب، إذ كان مفهوما معناه ، وكان بعض أهل العربية يقول « ما » من قوله: ( مَا شَاءَ اللَّهُ ) في موضع رفع بإضمار هو، كأنه قيل: قلت هو ما شاء الله ( لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ ) يقول: لا قوة على ما نحاول من طاعته إلا به. وقوله: ( إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا ) وهو قول المؤمن الذي لا مال له، ولا عشيرة، مثل صاحب الجنتين وعشيرته، وهو مثل سَلْمان وصُهَيب وخباب، يقول: قال المؤمن للكافر: إن ترن أيها الرجل أنا أقل منك مالا وولدا ، فإذا جعلت أنا عمادا نصبت أقل ، وبه القراءة عندنا، لأن عليه قراءة الأمصار، وإذا جعلته اسما رفعت أقل. القول في تأويل قوله تعالى : فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ( 40 ) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ( 41 ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن الموقن للمعاد إلى الله للكافر المرتاب في قيام الساعة: إن ترن أيها الرجل أنا أقلّ منك مالا وولدا في الدنيا، فعسى ربي أن يرزقني خيرا من بستانك هذا ( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا ) يعني على جنة الكافر التي قال لها: ما أظن أن تبيد هذه أبدا ( حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) يقول: عذابا من السماء ترمي به رميا، وتقذف. والحسبان: جمع حُسْبانة، وهي المرامي. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) عذابا. حُدثت عن محمد بن يزيد، عن جويبر، عن الضحاك، قال: عذابا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد ، في قوله: ( وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) قال: عذابا، قال: الحُسبان: قضاء من الله يقضيه. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الحُسبان: العذاب. حدثنا الحسن بن محمد، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ ) قال: عذابا. وقوله: ( فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ) يقول عز ذكره: فتصبح جنتك هذه أيها الرجل أرضا ملساء لا شيء فيها، قد ذهب كل ما فيها من غَرْس ونبت، وعادت خرابا بلاقع، زَلَقا، لا يثبت في أرضها قدم لاملساسها، ودروس ما كان نابتا فيها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ) : أي قد حصد ما فيها فلم يترك فيها شيء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: ( فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ) قال: مثل الجُرُز. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد، في قوله: ( فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ) قال: صعيدا زلقا وصعيدا جُرُزا واحد ليس فيها شيء من النبات. وقوله: ( أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ) يقول: أو يصبح ماؤها غائرا ، فوضع الغور وهو مصدر مكان الغائر، كما قال الشاعر: تَظَـــلُّ جِيَــادُهُ نَوْحــا عَلَيْــهِ مُقَلَّــــدَةً أعِنَّتَهـــا صُفُونـــا بمعنى نائحة ، وكما قال الآخر: هَــرِيقي مِــنْ دُمُوعِهِمـا سَـجَاما ضُبــاعَ وجَــاوِبي نَوْحــا قِيامَـا والعرب توحد الغَور مع الجمع والاثنين، وتذكر مع المذكر والمؤنث، تقول: ماء غور، وماءان غَوْر ومياه غَور. ويعني بقوله: ( غَوْرًا ) ذاهبا قد غار في الأرض، فذهب فلا تلحقه الرِّشاء. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا ) أي ذاهبا قد غار في الأرض. وقوله: ( فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ) يقول: فلن تطيق أن تدرك الماء الذي كان في جنتك بعد غَوْره، بطلبك إياه. القول في تأويل قوله تعالى : وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ( 42 ) يقول تعالى ذكره: وأحاط الهلاك والجوائح بثمره، وهي صنوف ثمار جنته التي كان يقول لها: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا فأصبح هذا الكافر صاحب هاتين الجنتين، يقلب كفيه ظهرا لبطن، تلهفا وأسفا على ذهاب نفقته التي أنفق في جنته ( وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) يقول: وهي خالية على نباتها وبيوتها. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ) : أي يصفق ( كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا ) متلهفا على ما فاته ، ( وَ ) هو ( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ) ويقول: يا ليتني ، يقول: يتمنى هذا الكافر بعد ما أصيب بجنته أنه لم يكن كان أشرك بربه أحدا، يعني بذلك: هذا الكافر إذا هلك وزالت عنه دنياه وانفرد بعمله، ودّ أنه لم يكن كفر بالله ولا أشرك به شيئا. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ( 43 ) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ( 44 ) يقول تعالى ذكره: ولم يكن لصاحب هاتين الجنتين فئة، وهم الجماعة ، كما قال عَجَّاح: كَمَا يَحُوزُ الفِئَةُ الكَمِيّ وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل، وإن خالف بعضهم في العبارة عنه عبارتنا، فإن معناهم نظير معنانا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله عز وجل: ( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) قال: عشيرته. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) : أي جند ينصرونه ، وقوله: ( يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) يقول: يمنعونه من عقاب الله وعذاب الله إذا عاقبه وعذّبه. وقوله ( وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ) يقول: ولم يكن ممتنعا من عذاب الله إذا عذّبه. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا ) : أي ممتنعا. وقوله: ( هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ ) يقول عزّ ذكره: ثم وذلك حين حلّ عذاب الله بصاحب الجنتين في القيامة. واختلفت القرّاء في قراءة قوله الولاية، فقرأ بعض أهل المدينة والبصرة والكوفة ( هُنَالِكَ الْوَلايَةُ ) بفتح الواو من الولاية، يعنون بذلك هنالك المُوالاة لله، كقول الله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وكقوله: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا يذهبون بها إلى الوَلاية في الدين. وقرأ ذلك عامَّة قراء الكوفة ( هُنالِك الوِلايَةُ ) بكسر الواو: من الملك والسلطان، من قول القائل: وَلِيتُ عمل كذا، أو بلدة كذا أليه ولاية. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ بكسر الواو، وذلك أن الله عقب ذلك خبره عن مُلكه وسلطانه، وأن من أحلّ به نقمته يوم القيامة فلا ناصر له يومئذ، فإتباع ذلك الخبر عن انفراده بالمملكة والسلطان أولى من الخبر عن الموالاة التي لم يجر لها ذكر ولا معنى، لقول من قال: لا يسمَّى سلطان الله ولاية، وإنما يسمى ذلك سلطان البشر، لأن الوِلاية معناها أنه يلي أمر خلقه منفردا به دون جميع خلقه، لا أنه يكون أميرا عليهم. واختلفوا أيضا في قراءة قوله ( الحَقِّ ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والعراق خفضا، على توجيهه إلى أنه من نعت الله، وإلى أن معنى الكلام: هنالك الولاية لله الحقّ ألوهيته، لا الباطل بطول ألوهيته التي يدعونها المشركون بالله آلهة ، وقرأ ذلك بعض أهل البصرة وبعض متأخري الكوفيين ( للهِ الحَقُّ ) برفع الحقّ توجيها منهما إلى أنه من نعت الولاية، ومعناه: هنالك الولاية الحقّ، لا الباطل لله وحده لا شريك له. وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب، قراءة من قرأه خفضا على أنه من نعت الله، وأن معناه ما وصفت على قراءة من قرأه كذلك. وقوله: ( هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا ) يقول عزّ ذكره: خير للمنيبين في العاجل والآجل ثوابا ( وَخَيْرٌ عُقْبًا ) يقول: وخيرهم عاقبة في الآجل إذا صار إليه المطيع له، العامل بما أمره الله، والمنتهي عما نهاه الله عنه ، والعقب هو العاقبة، يقال: عاقبة أمر كذا وعُقْباه وعُقُبه، وذلك آخره وما يصير إليه منتهاه. وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة ( عُقْبا ) بضم العين وتسكين القاف. والقول في ذلك عندنا ، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. القول في تأويل قوله تعالى : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ( 45 ) يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واضرب لحياة هؤلاء المستكبرين الذين قالوا لك: اطرد عنك هؤلاء الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ، إذا نحن جئناك الدنيا منهم مثلا يقول: شبها ( كَمَاءٍ أَنـزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ) يقول: كمطر أنـزلناه من السماء ( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ) يقول: فاختلط بالماء نبات الأرض ( فَأَصْبَحَ هَشِيمًا ) يقول: فأصبح نبات الأرض يابسا متفتتا ( تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ) يقول تطيره الرياح وتفرّقه ، يقال منه: ذَرَته الريح تَذْروه ذَرْوًا، وذَرتْه ذَرْيا، وأذرته تذْرِيهِ إذراء ، كما قال الشاعر: فَقُلْــتُ لَــهُ صَـوّبْ ولا تُجْهِدَنَّـهُ فَيُـذْرِكَ مِـنْ أُخْـرَى القَطـاةِ فَتزْلَقِ يقال: أذريت الرجل عن الدابة والبعير: إذا ألقيته عنه. وقوله: ( وكان الله على كل شيء مقتدرا ) يقول: وكان الله على تخريب جنة هذا القائل حين دخل جنته: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وإهلاك أموال ذي الأَمْوَالِ الباخلين بها عن حقوقها، وإزالة دنيا الكافرين به عنهم، وغير ذلك مما يشاء قادر، لا يعجزه شيء أراده، ولا يعْييه أمر أراده. يقول: فلا يفخر ذو الأموال بكثرة أمواله، ولا يستكبر على غيره بها، ولا يغترنّ أهل الدنيا بدنياهم، فإنما مَثَلُها مثل هذا النبات الذي حَسُن استواؤه بالمطر، فلم يكن إلا رَيْثَ أن انقطع عنه الماء، فتناهى نهايته، عاد يابسا تذروه الرياح، فاسدا، تنبو عنه أعين الناظرين ، ولكن ليعمل للباقي الذي لا يفنى، والدائم الذي لا يبيد ولا يتغير. القول في تأويل قوله تعالى : الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا ( 46 ) يقول تعالى ذكره: المال والبنون أيها الناس التي يفخر بها عيينة والأقرع، ويتكبران بها على سلمان وخباب وصهيب، مما يتزين به في الحياة الدنيا، وليسا من عداد الآخرة ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ) يقول: وما يعمل سلمان وخباب وصهيب من طاعة الله، ودعائهم ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، الباقي لهم من الأعمال الصالحة بعد فناء الحياة الدنيا، خير يا محمد عند ربك ثوابا من المال والبنين التي يفتخر هؤلاء المشركون بها، التي تفنى، فلا تبقى لأهلها ( وَخَيْرٌ أَمَلا ) يقول: وما يؤمل من ذلك سلمان وصهيب وخباب، خير مما يؤمل عيينة والأقرع من أموالهما وأولادهما. وهذه الآيات لمن لدن قوله: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ إلى هذا الموضع، ذُكر أنها نـزلت في عيينة والأقرع. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي، قال: ثنا أبي، قال: ثنا أسباط بن نصر، عن السدّي، عن أبي سعيد الأزدي، وكان قارئ الأزد، عن أبي الكنود، عن خباب في قوله: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ثم ذكر القصة التي ذكرناها في سورة الأنعام في قصة عيينة والأقرع، إلى قوله: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا قال: عيينة والأقرع وَاتَّبَعَ هَوَاهُ قال: قال: ثم قال ضرب لهم مثلا رجلين، ومثل الحياة الدنيا. واختلف أهل التأويل في المعني بالباقيات الصالحات، اختلافهم في المعنى بالدعاء الذي وصف جلّ ثناؤه به الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن طردهم، وأمره بالصبر معهم، فقال بعضهم: هي الصلوات الخمس ، وقال بعضهم: هي ذكر الله بالتسبيح والتقديس والتهليل، ونحو ذلك ، وقال بعضهم: هي العمل بطاعة الله ، وقال بعضهم: الكلام الطيب. * ذكر من قال: هي الصلوات الخمس: حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي، قال: ثنا يعقوب بن كاسب، قال: ثنا عبد الله بن عبد الله الأموي قال: سمعت عبد الله بن يزيد بن هرمز ، يحدّث عن عبيد الله بن عتبة، عن ابن عباس أنه قال: الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس. حدثني زريق بن إسحاق، قال : ثنا قبيصة عن سفيان، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، في قوله ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال: الصلوات الخمس. حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي، قال ثنا أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن الأعمش، عن أبي إسحاق عن عمرو بن شُرَحبيل في هذه الآية ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال: هي الصلوات المكتوبات. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان عن الحسن بن عبد الله، عن إبراهيم، قال ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) الصلوات الخمس. * حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال: الصلوات الخمس. * ذكر من قال: هنّ ذكر الله بالتسبيح والتحميد ونحو ذلك: حدثنا ابن حميد وعبد الله بن أبي زياد ومحمد بن عمارة الأسدي، قالوا: ثنا عبد الله بن يزيد، قال: أخبرنا حيوة. قال: أخبرنا أبو عقيل زهرة بن معبد القرشي من بني تيم من رهط أبي بكر الصديق، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان، يقول: قيل لعثمان: ما الباقيات الصالحات؟ قال: هنّ لا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا أبو زرعة، قال: ثنا حيوة، قال: ثنا أبو عقيل زهرة بن معبد، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان يقول: قيل لعثمان بن عفان: ما الباقيات الصالحات؟ قال: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده، والله أكبر، والحمد لله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. حدثني ابن عبد الرحيم البرْقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: ثنا نافع بن يزيد ورشدين بن سعد، قالا ثنا زهرة بن معبد، قال: سمعت الحارث مولى عثمان بن عفان يقول: قالوا لعثمان: ما الباقيات الصالحات؟ فذكر مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس، في قوله ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن عبد الملك، عن عطاء ، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا مالك، عن عمارة بن عبد الله بن صياد، عن سعيد بن المسيب، قال: ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُشَيم ، عن نافع بن سرجس، أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن الباقيات الصالحات، قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. قال ابن جريج، وقال عطاء بن أبي رَباح مثل ذلك. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال : ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الباقيات الصالحات: 0 سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني أبو صخر : أن عبد الله بن عبد الرحمن، مولى سالم بن عبد الله، حدثه قال: أرسلني سالم بن محمد بن كعب القُرَظي، فقال: قل له الْقَنِي عند زاوية القبر، فإن لي إليك حاجة، قال: فالتقيا، فسلم أحدهما على الآخر ، ثم قال سالم: ما تعدّ الباقيات الصالحات؟ فقال: لا إله إلا الله، والحمد لله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوّة إلا بالله، فقال له سالم: متى جعلت فيها لا حول ولا قوة إلا بالله؟ فقال: ما زلت أجعلها، قال: فراجعه مرّتين أو ثلاثا فلم ينـزع ، قال: فأثبت، قال سالم: أجل، فأثبت فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: « عُرِجَ بِي إلى السَّماءِ فَأُرِيتُ إبْرَاهِيمَ، فقالَ: يا جبْريلُ مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ فقالَ: مُحَمَّد، فَرَحَّبَ بِي وَسَهَّلَ، ثُمَّ قَالَ: مُرْ أُمَّتَكَ فَلْتُكْثِرْ مِنْ غِرَاسِ الجَنَّةِ، فإنَّ تُرْبَتَهَا طَيِّبَةٌ، وأرْضُها وَاسِعَةٌ، فَقُلْتُ: وَما غِرَاسُ الجَنَّةِ؟ قالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ » . وجدت في كتابي عن الحسن بن الصبَّاح البَزَّار، عن أبي نصر التمار، عن عبد العزيز بن مسلم، عن محمد بن عجلان، عن سعيد المَقُبْري، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سُبْحَانَ اللهِ، والحَمْدُ للهِ، ولا إلهَ إلا اللهُ، واللهُ أكْبَرُ مِنَ الباقِياتِ الصَّالِحاتِ » . حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة، في قوله: ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ ) قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، هنّ الباقيات الصالحات. حدثني يونس، قال : أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « اسْتَكْثِرُوا مِنَ الباقِياتِ الصَّالِحاتِ، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: المِلَّة، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: » التَّكْبِيرُ والتَّهْلِيلُ والتَّسْبِيحُ، والحَمْدُ، ولا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ « . » حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن عمارة بن صياد، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. حدثني ابن البَرْقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: ثني ابن عَجْلان، عن عمارة بن صياد، قال: سألني سعيد بن المسيب، عن الباقيات الصالحات، فقلت: الصلاة والصيام، قال: لم تصب ، فقلت : الزكاة والحج، فقال: لم تصب، ولكنهنّ الكلمات الخمس: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. * ذكر من قال: هي العمل بطاعة الله عزّ وجلّ: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا ) قال: الأعمال الصالحة: سبحان الله ، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. حدثني عليّ ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال: هي ذكر الله قول لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وتبارك الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله، وصلى الله على رسول الله والصيام والصلاة والحجّ والصدقة والعتق والجهاد والصلة، وجميع أعمال الحسنات، وهنّ الباقيات الصالحات، التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا ) قال: الأعمال الصالحة. * ذكر من قال: هي الكلم الطيب: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ) قال: الكلام الطيب. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هنّ جميع أعمال الخير، كالذي رُوي عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس، لأن ذلك كله من الصالحات التي تبقى لصاحبها في الآخرة، وعليها يجازى ويُثاب، وإن الله عزّ ذكره لم يخصص من قوله ( وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا ) بعضا دون بعض في كتاب، ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن ظنّ ظانّ أن ذلك مخصوص بالخبر الذي رويناه عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الخبر عن رسول الله صلى الله عليهوسلم إنما ورد بأن قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هنّ من الباقيات الصالحات، ولم يقل: هنّ جميع الباقيات الصالحات، ولا كلّ الباقيات الصالحات ، وجائز أن تكون هذه باقيات صالحات، وغيرها من أعمال البرّ أيضا باقيات صالحات. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ( 47 ) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ( 48 ) يقول تعالى ذكره: ( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ) عن الأرض، فنبسُّها بَسًّا، ونجعلها هباء منبثا ( وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً ) ظاهرة: وظهورها لرأي أعين الناظرين من غير شيء يسترها من جبل ولا شجر هو بروزها. وبنحو ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً ) قال: لا خَمْرَ فيها ولا غيابة ولا بناء، ولا حجر فيها. حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً ) ليس عليها بناء ولا شجر. وقيل: معنى ذلك: وترى الأرض بارزا أهلها الذين كانوا في بطنها، فصاروا على ظهرها. وقوله ( وَحَشَرْنَاهُمْ ) يقول: جمعناهم إلى موقف الحساب ( فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) ، يقول: فلم نترك، ولم نبق منهم تحت الأرض أحدا، يقال منه: ما غادرت من القوم أحدا، وما أغدرت منهم أحدا، ومن أغدرت قول الراجز: هَـلْ لـكِ والعـارِضُ مِنـكِ عـائِضُ فــي هَجْمَـةٍ يُغْـدِرُ مِنْهـا القـابِضُ وقوله: ( وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا ) يقول عزّ ذكره: وعُرض الخلق على ربك يا محمد صفا. ( لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) يقول عزّ ذكره : يقال لهم إذ عُرضوا على الله: لقد جئتمونا أيها الناس أحياء كهيئتكهم حين خلقناكم أوَّل مرة ، وحذف يقال من الكلام لمعرفة السامعين بأنه مراد في الكلام. وقوله: ( بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ) وهذا الكلام خرج مخرج الخبر عن خطاب الله به الجميع، والمراد منه الخصوص، وذلك أنه قد يرد القيامة خلق من الأنبياء والرسل، والمؤمنين بالله ورسله وبالبعث ، ومعلوم أنه لا يقال يومئذ لمن وردها من أهل التصديق بوعد الله في الدنيا، وأهل اليقين فيها بقيام الساعة، بل زعمتم أن لن نجعل لكم البعث بعد الممات، والحشر إلى القيامة موعدا، وأن ذلك إنما يقال لمن كان في الدنيا مكذّبا بالبعث وقيام الساعة. القول في تأويل قوله تعالى : وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( 49 ) يقول عزّ ذكره: ووضع الله يومئذ كتاب أعمال عباده في أيديهم، فأخذ واحد بيمينه وأخذ واحد بشماله ( فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) يقول عزّ ذكره: فترى المجرمين المشركين بالله مشفقين، يقول: خائفين وجلين مما فيه مكتوب من أعمالهم السيئة التي عملوها في الدنيا أن يؤاخذوا بها ( وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا ) يعني أنهم يقولون إذا قرءوا كتابهم، ورأوا ما قد كُتب عليهم فيه من صغائر ذنوبهم وكبائرها، نادوا بالويل حين أيقنوا بعذاب الله، وضجوا مما قد عرفوا من أفعالهم الخبيثة التي قد أحصاها كتابهم، ولم يقدروا أن ينكروا صحتها . كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا ) اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء، ولم يشتك أحد ظلما، فإياكم والمحقَّرات من الذنوب، فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه ، ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب لها مثلا يقول كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتى نـزلوا بفلاة من الأرض، وحضر صنيع القوم، فانطلق كلّ رجل يحتطب، فجعل الرجل يجيء بالعود، ويجيء الآخر بالعود، حتى جمعوا سوادا كثيرا وأجَّجوا نارا، فإن الذنب الصغير ، يجتمع على صاحبه حتى يهلكه ، وقيل: إنه عنى بالصغيرة في هذا الموضوع: الضحك. ذكر من قال ذلك: حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: ثنا عبد الله بن داود، قال: ثنا محمد بن موسى، عن الزيال بن عمرو، عن ابن عباس ( لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ) قال: الضحك. حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبي، قال: حدثتني أمي حمادة ابنة محمد، قالت: سمعت أبي محمد بن عبد الرحمن يقول في هذه الآية في قول الله عزّ وجلّ: ( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا ) قال: الصغيرة: الضحك. ويعني بقوله: ( مَالِ هَذَا الْكِتَابِ ) : ما شأن هذا الكتاب ( لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ) يقول: لا يبقي صغيرة من ذنوبنا وأعمالنا ولا كبيرة منها ( إِلا أَحْصَاهَا ) يقول: إلا حفظها ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا ) في الدنيا من عمل ( حَاضِرًا ) في كتابهم ذلك مكتوبا مثبتا، فجوزوا بالسيئة مثلها، والحسنة ما الله جازيهم بها ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) يقول: ولا يجازي ربك أحدا يا محمد بغير ما هو أهله، لا يجازي بالإحسان إلا أهل الإحسان، ولا بالسيئة إلا أهل السيئة، وذلك هو العدل. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ( 50 ) يقول تعالى ذكره مذكرًا هؤلاء المشركين حسد إبليس أباهم ومعلمهم ما كان منه من كبره واستكباره عليه حين أمره بالسجود له، وأنه من العداوة والحسد لهم على مثل الذي كان عليه لأبيهم: ( وَ ) اذكر يا محمد ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ ) الذي يطيعه هؤلاء المشركون ويتبعون أمره، ويخالفون أمر الله، فإنه لم يسجد له استكبارا على الله، وحسدا لآدم ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) . واختلف أهل التأويل في معنى قوله ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) فقال بعضهم: إنه كان من قبيلة يقال لهم الجنّ. وقال آخرون: بل كان من خزّان الجنة، فنسب إلى الجنة ، وقال آخرون: بل قيل من الجنّ، لأنه من الجنّ الذين استجنوا عن أعين بني آدم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن خلاد بن عطاء، عن طاوس، عن ابن عباس قال: كان اسمه قبل أن يركب المعصية عزازيل، وكان من سكان الأرض، وكان من أشدّ الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما، فذلك هو الذي دعاه إلى الكبر، وكان من حيّ يسمى جنا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجن ، خُلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث ، قال: وكان خازنا من خزّان الجنة. قال: وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحيّ ، قال: وخُلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت. حدثنا ابن المثنى، قال: ثني شيبان، قال: ثنا سلام بن مسكين، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، قال: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله: ( إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) قال: كان إبليس من خزّان الجنة، وكان يدبر أمر سماء الدنيا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة. وكان خازنا على الجنان، وكان له سلطان السماء الدنيا، وكان له سلطان الأرض، وكان فيما قضى الله أنه رأى أن له بذلك شرفا وعظمة على أهل السماء، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله ، فلما كان عند السجود حين أمره أن يسجد لآدم استخرج الله كبره عند السجود، فلعنه وأخَّره إلى يوم الدين، قال: قال ابن عباس: وقوله: ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) إنما سمي بالجنان أنه كان خازنا عليها، كما يقال للرجل: مكي، ومدني، وكوفي، وبصري، قاله ابن جريج. وقال آخرون: هم سبط من الملائكة قبيلة، وكان اسم قبيلته الجنّ. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن صالح مولى التوأمة، وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما، عن ابن عباس، قال: إن من الملائكة قبيلة من الجنّ، وكان إبليس منها، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فعصى، فسخط الله عليه فمسخه شيطانا رجيما، لعنه الله ممسوخا ، قال: وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإذا كانت خطيئته في معصية فارجه، وكانت خطيئة آدم في معصية، وخطيئة إبليس في كبر. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) قبيل من الملائكة يقال لهم الجنّ ، وقال ابن عباس: لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود ، وكان على خزانة السماء الدنيا ، قال: وكان قتادة يقول: جنّ عن طاعة ربه ، وكان الحسن يقول: ألجأه الله إلى نسبه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) قال: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجنّ. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن عوف، عن الحسن، قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجنّ، كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: كان إبليس على السماء الدنيا وعلى الأرض وخازن الجنان. حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) : كان ابن عباس يقول: إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنا على الجنان، وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض، وكان مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفا على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله، فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم، فاستكبر وكان من الكافرين، فذلك قوله للملائكة: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر. وقوله: ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) كان ابن عباس يقول: قال الله ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) لأنه كان خازنا على الجنان، كما يقال للرجل: مكيّ، ومدنيّ، وبصريّ، وكوفيّ. وقال آخرون: كان اسم قبيلة إبليس الجنّ ، وهم سبط من الملائكة يقال لهم الجنّ، فلذلك قال الله عزّ وجلّ ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) فنسبه إلى قبيلته. حدثنا ابن حميد، قال : ثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، في قوله ( كَانَ مِنَ الْجِنِّ ) قال: من الجنانين الذين يعملون في الجنان. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو سعيد اليحمدي إسماعيل بن إبراهيم، قال: ثني سوار بن الجعد اليحمدي، عن شهر بن حوشب، قوله: ( مِنَ الْجِنِّ ) قال: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض الملائكة، فذهب به إلى السماء. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) قال: كان خازن الجنان فسمي بالجنان. حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: ثنا أحمد بن بشير، عن سفيان بن أبي المقدام، عن سعيد بن جبير، قال: كان إبليس من خزنة الجنة. وقد بينا القول في ذلك فيما مضى من كتابنا هذا ، وذكرنا اختلاف المختلفين فيه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وقوله: ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) يقول: فخرج عن أمر ربه، وعدل عنه ومال، كما قال رؤبة: يَهْــوِينَ فـي نَجْـدٍ وغَـوْرًا غـائرَا فَوَاســقا عَــنْ قَصْدِهــا جَـوَائرَا يعني بالفواسق: الإبل المنعدلة عن قصد نجد، وكذلك الفسق في الدين إنما هو الانعدال عن القصد، والميل عن الاستقامة ، ويُحكى عن العرب سماعا: فسقت الرطبة من قشرها: إذا خرجت منه، وفسقت الفأرة: إذا خرجت من جحرها ، وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: إنما قيل: ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) لأنه مراد به: ففسق عن ردّه أمر الله، كما تقول العرب: اتخمت عن الطعام، بمعنى: اتخمت لما أكلته. وقد بيَّنا القول في ذلك، وأن معناه: عدل وجار عن أمر الله، وخرج عنه. وقال بعض أهل العلم بكلام العرب: معنى الفسق: الاتساع. وزعم أن العرب تقول: فسق في النفقة: بمعنى اتسع فيها. قال: وإنما سمي الفاسق فاسقا، لاتساعه في محارم الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) قال: في السجود لآدم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، في قوله ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) قال: عصى في السجود لآدم. وقوله: ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) يقول تعالى ذكره: أفتوالون يا بني آدم من استكبر على أبيكم وحسده، وكفر نعمتي عليه، وغره حتى أخرجه من الجنة ونعيم عيشه فيها إلى الأرض وضيق العيش فيها، وتطيعونه وذريّته من دون الله مع عدواته لكم قديما وحديثا، وتتركون طاعة ربكم الذي أنعم عليكم وأكرمكم، بأن أسجد لوالدكم ملائكته، وأسكنه جناته، وآتاكم من فواضل نعمه ما لا يحصى عدده، وذرّية إبليس: الشياطين الذين يغرّون بني آدم. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، عن مجاهد ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ) قال : ذرّيته: هم الشياطين، وكان يعدّهم « زلنبور » صاحب الأسواق ويضع رايته في كلّ سوق ما بين السماء والأرض، و « ثبر » صاحب المصائب، و « الأعور » صاحب الزنا و « مسوط » صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس، ولا يجدون لها أصلا و « داسم » الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر الله بصره من المتاع ما لم يرفع، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: ثنا حفص بن غياث، قال : سمعت الأعمش يقول: إذا دخلتُ البيت ولم أسلم، رأيت مطهرة، فقلت : ارفعوا ارفعوا، وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول: داسم داسم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، قال: هم أربعة ثبر، وداسم، وزلنبور، والأعور، ومسوط: أحدها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ) .... الآية، وهم يتوالدون كما تتوالد بنو آدم، وهم لكم عدوّ. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) وهو أبو الجنّ كما آدم أبو الإنس. وقال: قال الله لإبليس: إني لا أذرأ لآدم ذرّية إلا ذرأت لك مثلها، فليس من ولد آدم أحد إلا له شيطان قد قرن به. وقوله: ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ) يقول عزّ ذكره : بئس البدل للكافرين بالله اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله ، وهم لكم عدوّ من تركهم اتخاذ الله وليا باتباعهم أمره ونهيه، وهو المنعم عليهم وعلى أبيهم آدم من قبلهم، المتفضّل عليهم من الفواضل ما لا يحصى بدلا. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ) بئسما استبدلوا بعبادة ربهم إذ أطاعوا إبليس. القول في تأويل قوله تعالى : مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( 51 ) يقول عزّ ذكره: ما أشهدت إبليس وذرّيته ( خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ) يقول: ما أحضرتهم ذلك فأستعين بهم على خلقها ( وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ) يقول: ولا أشهدت بعضهم أيضا خلق بعض منهم، فأستعين به على خلقه، بل تفرّدت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير، يقول: فكيف اتخذوا عدوّهم أولياء من دوني، وهم خلق من خلق أمثالهم، وتركوا عبادتي وأنا المنعم عليهم وعلى أسلافهم، وخالقهم وخالق من يوالونه من دوني منفردا بذلك من غير معين ولا ظهير. وقوله: ( وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) يقول: وما كنت متخذ من لا يهدي إلى الحقّ، ولكنه يضلّ، فمن تبعه يجور به عن قصد السبيل أعوانا وأنصارا ، وهو من قولهم: فلان يعضد فلانا إذا كان يقوّيه ويعينه. وبنحو ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ) : أي أعوانا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله، وإنما يعني بذلك أن إبليس وذرّيته يضلون بني آدم عن الحقّ، ولا يهدونهم للرشد، وقد يحتمل أن يكون عنى بالمضلين الذين هم أتباع على الضلالة، وأصحاب على غير هدى. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ( 52 ) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ( 53 ) يقول عزّ ذكره ، ( وَيَوْمَ يَقُولُ ) الله عزّ ذكره للمشركين به الآلهة والأنداد ( نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) يقول لهم: ادعوا الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي في العبادة لينصروكم ويمنعوكم مني ( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) يقول: فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) فاختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: وجعلنا بين هؤلاء المشركين وما كانوا يدعون من دون الله شركاء في الدنيا يومئذ عداوة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: ثنا بشر بن المفضل، عن عوف، عن الحسن، في قول الله: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال: جعل بينهم عداوة يوم القيامة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عثمان بن عمر، عن عوف، عن الحسن ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال: عداوة. وقال آخرون: معناه: وجعلنا فعلهم ذلك لهم مَهْلِكا. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال: مَهْلِكا. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( مَوْبِقًا ) قال: هلاكا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال: الموبق: المهلك، الذي أهلك بعضهم بعضا فيه، أوبق بعضهم بعضا ، وقرأ ( وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ) . حُدثت عن محمد بن يزيد، عن جويبر، عن الضحاك ( مَوْبِقًا ) قال: هلاكا. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن عرفجة، في قوله ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال: مهلكا. وقال آخرون: هو اسم واد في جهنم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عمرو البِكَالّي: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال: واد عميق فُصِل به بين أهل الضلالة وأهل الهدى، وأهل الجنة، وأهل النار. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) ذكر لنا أن عمر البِكَالي حدّث عن عبد الله بن عمرو، قال: هو واد عميق فُرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عمر بن عبيد، عن الحجاج بن أرطاة، قال: قال مجاهد ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال: واديا في النار. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن ، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال: واديا في جهنم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا يزيد بن درهم، قال: سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله عزّ وجلّ ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ) قال: واد في جهنم من قيح ودم. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس، ومن وافقه في تأويل الموبق: أنه المهلك، وذلك أن العرب تقول في كلامها: قد أوبقت فلانا: إذا أهلكته ، ومنه قول الله عز وجل: أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا بمعنى: يهلكهن. ويقال للمهلك نفسه : قد وبق فلان فهو يوبق وبقا. ولغة بني عامر: يابق بغير همز. وحُكي عن تميم أنها تقول: ييبق. وقد حُكي وبق يبق وبوقا، حكاها الكسائي. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: الموبق: الوعد، ويستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر: وحـادّ شَـرَوْرَى فالسـتَّارَ فَلَـمْ يَدَعْ تِعــارًا لَــهُ والــوَاديَيْنِ بمَـوْبقِ ويتأوّله بموعد ، وجائز أن يكون ذلك المهلك الذي جعل الله جلّ ثناؤه بين هؤلاء المشركين، هو الوادي الذي ذكر عن عبد الله بن عمرو، وجائز أن يكون العداوة التي قالها الحسن. وقوله: ( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ) يقول: وعاين المشركون النار يومئذ ( فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ) يقول: فعلموا أنهم داخلوها. كما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله : ( فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا ) قال: علموا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن دراج، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: « إنَّ الكافرَ يَرَى جَهَنَّمَ فَيَظُنُّ أنَّها مُوَاقعَتُهُ منْ مَسيرَةِ أرْبَعينَ سَنَة » . وقوله: ( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ) يقول: ولم يجدوا عن النار التي رأوا معدلا يعدلون عنها إليه. يقول: لم يجدوا من مواقعتها بدّا، لأن الله قد حتم عليهم ذلك ، ومن المصرف بمعنى المعدل قول أبي كبير الهذليّ: أزُهَـيْرُ هَـلْ عَـنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ أمْ لا خُـــلُودَ لبـــاذِلٍ مُتَكَــلِّفِ القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا ( 54 ) يقول عزّ ذكره: ولقد مثلنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل ، ووعظناهم فيه من كلّ عظة، واحتججنا عليهم فيه بكل حجة ليتذكَّروا فينيبوا، ويعتبروا فيتعظوا، وينـزجروا عما هم عليه مقيمون من الشرك بالله وعبادة الأوثان ( وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا ) يقول: وكان الإنسان أكثر شيء مراء وخصومة، لا ينيب لحقّ، ولا ينـزجر لموعظة. كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال : قال ابن زيد، في قوله: ( وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا ) قال: الجدل: الخصومة، خصومة القوم لأنبيائهم، وردّهم عليهم ما جاءوا به. وقرأ: مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وقرأ: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ . وقرأ: ( حتى تُوَفَّي ) .. الآية: وَلَوْ نَـزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ ...الآية. وقرأ: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ قال: هم ليس أنت لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ . القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا ( 55 ) يقول عزّ ذكره: وما منع هؤلاء المشركين يا محمد الإيمان بالله إذ جاءهم الهدى بيان الله: وعلموا صحة ما تدعوهم إليه وحقيقته، والاستغفار مما هم عليه مقيمون من شركهم، إلا مجيئهم سنتنا في أمثالهم من الأمم المكذبة رسلها قبلهم، أو إتيانهم العذاب قُبلا. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: أو يأتيهم العذاب فجأة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا ) قال فجأة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: معناه: أو يأتيهم العذاب عيانا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا ) قال: قبلا معاينة ذلك القبل. وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته جماعة ذات عدد ( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا ) بضم القاف والباء، بمعنى أنه يأتيهم من العذاب ألوان وضروب، ووجهوا القُبُل إلى جمع قبيل، كما يُجمع القتيل القُتُل، والجديد الجُدُد ، وقرأ جماعة أخرى: « أو يَأتِيَهُمُ العَذَابُ قِبَلا » بكسر القاف وفتع الباء،. بمعنى أو يأتيهم العذاب عيانا من قولهم: كلمته قِبَلا. وقد بيَّنت القول في ذلك في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ( 56 ) يقول عزّ ذكره: وما نرسل رسلنا إلا ليبشروا أهل الإيمان والتصديق بالله بجزيل ثوابه في الآخرة، ولينذروا أهل الكفر به والتكذيب، عظيم عقابه، وأليم عذابه، فينتهوا عن الشرك بالله، وينـزجروا عن الكفر به ومعاصيه ( وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) يقول: ويخاصم الذين كذّبوا بالله ورسوله بالباطل، ذلك كقولهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن حديث فتية ذهبوا في أوّل الدهر لم يدر ما شأنهم، وعن الرجل الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وعن الروح، وما أشبه ذلك مما كانوا يخاصمونه به، يبتغون إسقاطه، تعنيتا له صلى الله عليه وسلم، فقال الله لهم: إنا لسنا نبعث إليكم رسلنا للجدال والخصومات، وإنما نبعثهم مبشرين أهل الإيمان بالجنة، ومنذرين أهل الكفر بالنار، وأنتم تجادلونهم بالباطل طلبا منكم بذلك أن تبطلوا الحقّ الذي جاءكم به رسولي ، وعنى بقوله: ( لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ) ليبطلوا به الحقّ ويزيلوه ويذهبوا به. يقال منه: دحض الشيء: إذا زال وذهب، ويقال: هذا مكان دَحْض: أي مُزِل مُزْلِق لا يثبت فيه خفّ ولا حافر ولا قدم ، ومنه قوله الشاعر: رَدِيــتُ ونجَّـى اليَشْـكُرِيّ حِـذَارُهُ وحـادَ كمـا حـادَ البَعيرُ عَن الدَّحْضِ ويروى: ونحَّى، وأدحضته أنا: إذا أذهبته وأبطلته. وقوله: ( وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ) يقول: واتخذوا الكافرون بالله حججه التي احتج بها عليهم، وكتابه الذي أنـزله إليهم، والنذر التي أنذرهم بها سخريا يسخرون بها، يقولون: إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا . القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ( 57 ) يقول عزّ ذكره: وأي الناس أوضع للإعراض والصدّ في غير موضعهما ممن ذكره بآياته وحججه، فدله بها على سبيل الرشاد، وهداه بها إلى طريق النجاة، فأعرض عن آياته وأدلته التي في استدلاله بها الوصول إلى الخلاص من الهلاك ( وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) يقول: ونسي ما أسلف من الذنوب المهلكة فلم يتب، ولم ينب. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ) : أي نسي ما سلف من الذنوب. وقوله: ( إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ) يقول تعالى ذكره: إنا جعلنا على قلوب هؤلاء الذين يعرضون عن آيات الله إذا ذكروا بها أغطية لئلا يفقهوه، لأن المعنى أن يفقهوا ما ذكروا به ، وقوله: ( وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ) يقول : في آذانهم ثقلا لئلا يسمعوه ( وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى ) يقول عزّ ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَإنْ تَدْعُ يا مُحَمَّد هؤلاء المعرضين عن آيات الله عند التذكير بها إلى الاستقامة على محجة الحق والإيمان بالله، وما جئتهم به من عند ربك ( فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ) يقول: فلن يستقيموا إذا أبدا على الحقّ، ولن يؤمنوا بما دعوتهم إليه، لأن الله قد طبع على قلوبهم، وسمعهم وأبصارهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ( 58 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وربك الساتر يا محمد على ذنوب عباده بعفوه عنهم إذا تابوا منها ( ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا ) هؤلاء المعرضين عن آياته إذا ذكروا بها بما كسبوا من الذنوب والآثام، ( لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ) ولكنه لرحمته بخلقه غير فاعل ذلك بهم إلى ميقاتهم وآجالهم، ( بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ) يقول: لكن لهم موعد، وذلك ميقات محلّ عذابهم، وهو يوم بدر ( لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ) يقول تعالى ذكره: لن يجد هؤلاء المشركون، وإن لم يعجل لهم العذاب في الدنيا من دون الموعد الذي جعلته ميقاتا لعذابهم، ملجأ يلجئون إليه، ومنجى ينجون معه، يعني أنهم لا يجدون معقلا يعتقلون به من عذاب الله ، يقال منه: وألت من كذا إلى كذا، أئل وءولا مثل وعولا ومنه قول الشاعر: لا وَاءَلَـــتْ نَفْسُـــكَ خَلَّيْتَهـــا للعــــامِريينَ وَلــــمْ تُكْـــلَمِ يقول: لا نجت ، وقول الأعشى: وَقَــدْ أُخــالس رَبَّ البَيْـتِ غَفْلَتَـهُ وقَــدْ يحـاذِر مِنِّـي ثَـمَّ مـا يَئِـلُ وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال : ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( مَوْئِلا ) قال: محرزا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني عليّ ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ) : يقول: ملْجأً. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ) : أي لن يجدوا من دونه وليا ولا ملْجأً. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا ) قال: ليس من دونه ملجأ يلجئون إليه. القول في تأويل قوله تعالى : وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ( 59 ) يقول تعالى ذكره: وتلك القرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة أهلكنا أهلها لما ظلموا، فكفروا بالله وآياته، ( وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ) يعني ميقاتا وأجلا حين بلغوه جاءهم عذاب فأهلكناهم به، يقول: فكذلك جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك يا محمد الذين لا يؤمنون بك أبدا موعدا، إذا جاءهم ذلك الموعد أهلكناهم سنتنا في الذين خلوا من قبلهم من ضربائهم . كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ) قال: أجلا. حدثنا القاسم، قال: ثني الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( لِمَهْلِكِهِمْ ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء الحجاز والعراق: « لِمُهْلَكِهِمْ » بضمّ الميم وفتح اللام على توجيه ذلك إلى أنه مصدر من أهلكوا إهلاكا ، وقرأه عاصم: « لِمَهْلَكِهِمْ » بفتح الميم واللام على توجيهه إلى المصدر من هلكوا هلاكا ومهلكا. وأولى القراءتين بالصواب عندي في ذلك قراءة من قرأه: « لِمُهْلَكِهِمْ » بضمّ الميم وفتح اللام لإجماع الحجة من القرّاء عليه، واستدلالا بقوله: ( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ ) فأن يكون المصدر من أهلكنا، إذ كان قد تقدّم قبله أولى. وقيل: أهلكناهم، وقد قال قبل: ( وَتِلْكَ الْقُرَى ) ، لأن الهلاك إنما حلّ بأهل القرى، فعاد إلى المعنى، وأجرى الكلام عليه دون اللفظ. وقال بعض نحويي البصرة: قال: ( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ) يعني أهلها، كما قال: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ولم يجئ بلفظ القرى، ولكن أجرى اللفظ على القوم، وأجرى اللفظ في القرية عليها إلى قوله الَّتِي كُنَّا فِيهَا ، وقال: ( أهْلَكْناهُمْ ) ولم يقل: أهلكناها حمله على القوم، كما قال: جاءت تميم، وجعل الفعل لبني تميم، ولم يجعله لتميم، ولو فعل ذلك لقال : جاء تميم، وهذا لا يحسن في نحو هذا، لأنه قد أراد غير تميم في نحو هذا الموضع، فجعله اسما، ولم يحتمل إذا اعتل أن يحذف ما قبله كله معنى التاء من جاءت مع بني تميم، وترك الفعل على ما كان ليعلم أنه قد حذف شيئا قبل تميم ، وقال بعضهم: إنما جاز أن يقال: تلك القرى أهلكناهم، لأن القرية قامت مقام الأهل، فجاز أن ترد على الأهل مرة وعليها مرة، ولا يجوز ذلك في تميم، لأن القبيلة تعرف به وليس تميم هو القبيلة، وإنما عرفت القبيلة به، ولو كانت القبيلة قد سميت بالرجل لجرت عليه، كما تقول: وقعت في هود، تريد في سورة هود، وليس هود اسما للسورة، وإنما عرفت السورة به، فلو سميت السورة بهود لم يجر، فقلت: وقعت في هود يا هذا، فلم يجر، وكذلك لو سمى بني تميم تميما لقيل: هذه تميم قد أقبلت، فتأويل الكلام: وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا، وجعلنا لإهلاكهم موعدا. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ( 60 ) يقول عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: واذكر يا محمد إذ قال موسى بن عمران لفتاه يوشع: ( لا أَبْرَحُ ) يقول: لا أزال أسير ( حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) . كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( لا أَبْرَحُ ) قال: لا أنتهي ، وقيل: عنى بقوله: ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) اجتماع بحر فارس والروم، والمجمع: مصدر من قولهم: جمع يجمع. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) والبحران: بحر فارس وبحر الروم، وبحر الروم مما يلي المغرب، وبحر فارس مما يلي المشرق. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قال: بحر فارس، وبحر الروم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قال: بحر الروم، وبحر فارس، أحدهما قِبَل المشرق، والآخر قِبَل المغرب. حدثني محمد بن سعد، قال : ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: ( مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن الضريس، قال: ثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب، في قوله: ( لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ) قال: طنجة. وقوله: ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) يقول: أو أسير زمانا ودهرا، وهو واحد، ويجمع كثيره وقليله: أحقاب وقد تقول العرب: كنت عنده حقبة من الدهر: ويجمعونها حُقبا. وكان بعض أهل العربية يوجه تأويل قوله ( لا أَبْرَحُ ) : أي لا أزول، ويستشهد لقوله ذلك ببيت الفرزدق: فَمـا بَرِحُـوا حـتى تَهـادَتْ نِساؤُهُمْ ببطْحَــاءِ ذِي قـارٍ عِيـابَ اللَّطـائِمِ يقول: ما زالوا. وذكر بعض أهل العلم بكلام العرب، أن الحقب في لغة قيس: سنة ، فأما أهل التأويل فإنهم يقولون في ذلك ما أنا ذاكره، وهو أنهم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو ثمانون سنة. ذكر من قال ذلك: حُدثت عن هشيم، قال: ثنا أبو بلج، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن عمرو، قال: الحقب: ثمانون سنة. وقال آخرون: هو سبعون سنة. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال: سبعين خريفا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون في ذلك، بنحو الذي قلنا. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال: دهرا. حدثنا أحمد بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( حُقُبا ) قال: الحقب: زمان. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) قال: الحقب: الزمان. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ( 61 ) يعني تعالى ذكره: فلما بلغ موسى وفتاه مجمع البحرين، كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ) قال: بين البحرين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقوله: ( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) يعني بقوله: نسيا: تركا. كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) قال: أضلاه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: أضلاه. قال بعض أهل العربية: إن الحوت كان مع يوشع، وهو الذي نسيه، فأضيف النسيان إليهما، كما قال يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ وإنما يخرج من الملح دون العذب. وإنما جاز عندي أن يقال: ( نَسِيا ) لأنهما كانا جميعا تزوّداه لسفرهما، فكان حمل أحدهما ذلك مضافا إلى أنه حمل منهما، كما يقال : خرج القوم من موضع كذا، وحملوا معهم كذا من الزاد، وإنما حمله أحدهما ولكنه لما كان ذلك عن رأيهم وأمرهم أضيف ذلك إلى جميعهم، فكذلك إذا نسيه حامله في موضع قيل: نسي القوم زادهم، فأضيف ذلك إلى الجميع بنسيان حامله ذلك، فيجرى الكلام على الجميع ، والفعل من واحد، فكذلك ذلك في قوله: ( نَسِيَا حُوتَهُمَا ) لأن الله عزّ ذكره خاطب العرب بلغتها، وما يتعارفونه بينهم من الكلام. وأما قوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فإن القول في ذلك عندنا بخلاف ما قال فيه، وسنبينه إن شاء الله تعالى إذا انتهينا إليه. وأما قوله: ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) فإنه يعني أن الحوت اتخذ طريقه الذي سلكه في البحر سربا. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) قال: الحوت اتخذ. ويعني بالسرب: المسلك والمذهب، يسرب فيه: يذهب فيه ويسلكه. ثم اختلف أهل العلم في صفة اتخاذه سبيله في البحر سربا، فقال بعضهم: صار طريقه الذي يسلك فيه كالجحر. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله ( سَرَبا ) قال: أثره كأنه جحر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: « ما انجابَ ماءٌ مُنْذُ كانَ النَّاسُ غيرُهُ ثَبَتَ مَكانُ الحُوتِ الَّذِي فِيهِ » فانْجابَ كالكُوّةِ حتى رَجَعَ إلَيْهِ مُوسَى، فَرأى مَسْلَكَهُ، فقالَ: ذلك ما كُنَّا نَبْغي « . » حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال : ثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) قال: جاء فرأى أثر جناحيه في الطين حين وقع في الماء، قال ابن عباس ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) وحلق بيده. وقال آخرون: بل صار طريقه في البحر ماء جامدا. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: سرب من الجرّ حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك، فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار ماء جامدا. وقال آخرون: بل صار طريقه في البحر حجرا. ذكر من قال ذلك:- حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال : ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: حمل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة. وقال آخرون: بل إنما اتخذ سبيله سربا في البرّ إلى الماء، حتى وصل إليه لا في البحر. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ) قال: قال : حشر الحوت في البطحاء بعد موته حين أحياه الله، قال ابن زيد، وأخبرني أبو شجاع أنه رآه قال: أتيت به فإذا هو شقة حوت وعين واحدة، وشق آخر ليس فيه شيء. والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: واتخذ الحوت طريقه في البحر سربا. وجائز أن يكون ذلك السرب كان بانجياب عن الأرض ، وجائز أن يكون كان بجمود الماء ، وجائز أن يكون كان بتحوله حجرا. وأصح الأقوال فيه ما رُوي الخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا عن أبيّ عنه. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ( 62 ) يقول تعالى ذكره: ( فَلَمَّا جَاوَزَا ) موسى وفتاه مجمع البحرين، ( قال ) موسى ( لفتاه ) يوشع ( آتِنَا غَدَاءَنَا ) يقول: جئنا بغدائنا وأعطناه، وقال: آتنا غداءنا، كما يقال: أتى الغداء وأتيته، مثل ذهب وأذهبته، ( لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) يقول: لقد لقينا من سفرنا هذا عناء وتعبا ، وقال ذلك موسى، فيما ذُكر، بعد ما جاوز الصخرة، حين ألقي عليه الجوع ليتذكر الحوت، ويرجع إلى موضع مطلبه. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ( 63 ) يقول تعالى ذكره: قال فتى موسى لموسى حين قال له: آتنا غداءنا لنطعم: أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت هنالك ( وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ ) يقول: وما أنساني الحوت إلا الشيطان ( أَنْ أَذْكُرَهُ ) فأن في موضع نصب ردّا على الحوت، لأن معنى الكلام: وما أنساني أن أذكر الحوت إلا الشيطان سبق الحوت إلى الفعل، وردّ عليه قوله ( أَنْ أَذْكُرَهُ ) وقد ذكر أن ذلك في مصحف عبد الله: وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان. حدثني بذلك بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، حدثني العباس بن الوليد قال: سمعت محمد بن معقل، يحدّث عن أبيه، أن الصخرة التي أوى إليها موسى هي الصخرة التي دون نهر الذئب على الطريق ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) يعجب منه. كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) قال: موسى يعجب من أثر الحوت في البحر ودوراته التي غاب فيها، فوجد عندها خضرا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله : ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) فكان موسى لما اتخذ سبيله في البحر عجبا، يعجب من سرب الحوت. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) قال: عجب والله حوت كان يوكل منه أدهرا، أيّ شيء أعجب من حوت كان دهرا من الدهور يؤكل منه، ثم صار حيا حتى حشر في البحر. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي ، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: جعل الحوت لا يمسّ شيئا في البحر إلا يبس حتى يكون صخرة، فجعل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعجب من ذلك. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا الحسن بن عطية، قال: ثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ) قال: يعني كان سرب الحوت في البحر لموسى عجبا. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ( 64 ) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ( 65 ) يقول تعالى ذكره: ف ( قال ) موسى لفتاه ( ذلك ) يعني بذلك: نسيانك الحوت ( مَا كُنَّا نَبْغِ ) يقول: الذي كنا نلتمس ونطلب، لأن موسى كان قيل له صاحبك الذي تريده حيث تنسى الحوت. كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ) قال موسى: فذلك حين أخبرت أني واجد خضرا حيث يفوتني الحوت. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: حيث يفارقني الحوت. وقوله: ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) يقول: فرجعا في الطريق الذي كانا قطعاه ناكصين على أدبارهما يمصان آثارهما التي كانا سلكاهما. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال : ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، قوله: ( قَصصًا ) قال: اتبع موسى وفتاه أثر الحوت، فشقا البحر راجعين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) قال: اتباع موسى وفتاه أثر الحوت بشقّ البحر، وموسى وفتاه راجعان وموسى يعجب من أثر الحوت في البحر، ودوراته التي غاب فيها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: رجعا عودهما على بدئهما ( فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) : « أيْ يَقُصَّانِ آثارَهما حتى انْتَهَيا إلى مَدْخَلِ الحوُت » . وقوله: ( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ) يقول: وهبنا له رحمة من عندنا ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) يقول: وعلمناه من عندنا أيضا علما. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) : أي من عندنا علما. وكان سبب سفر موسى صلى الله عليه وسلم وفتاه، ولقائه هذا العالم الذي ذكره الله في هذا الموضع فيما ذكر ، أن موسى سئل: هل في الأرض ، أعلم منك؟ فقال: لا أو حدّثته نفسه بذلك، فكره ذلك له، فأراد الله تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه. وقال آخرون: بل كان سبب ذلك أنه سأل الله جلّ ثناؤه أن يدله على عالم يزداد من علمه إلى علم نفسه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا يعقوب، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس، قال « : سأل موسى ربه وقال: ربّ أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني ، قال: فأيّ عبادك أقضي؟ قال: الذي يقضي بالحقّ ولا يتبع الهوى ، قال: أي ربّ أيّ عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علم نفسه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى، أو تردّه عن رَدى ، قال: ربّ فهل في الأرض أحد؟ قال: نعم ، قال: رب، فمن هو؟ قال: الخضر ، قال: وأين أطلبه؟ » قال: على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت، قال: فخرج موسى يطلبه ، حتى كان ما ذكر الله، وانتهى إليه موسى عند الصخرة، فسلم كلّ واحد منهما على صاحبه، فقال له موسى: إني أريد أن تستصحبني، قال : إنك لن تطيق صحبتي، قال: بلى، قال: فإن صحبتني فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ...إلى قوله: لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قال: فكان قول موسى في الجدار لنفسه، ولطلب شيء من الدنيا، وكان قوله في السفينة وفي الغلام لله، قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فأخبره بما قال أما السفينة وأما الغلام وأما الجدار، قال: فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحور، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه، قال: وبعث ربك الخُطَّاف فجعل يستقي منه بمنقاره، فقيل لموسى: كم ترى هذا الخطاف رَزَأَ من هذا الماء؟ قال: ما أقلّ ما رَزَأ، قال: يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء ، وكان موسى قد حدّث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه، أو تكلم به، فمن ثَم أمِرَ أن يأتي الخضر. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خطب موسى بني إسرائيل، فقال: ما أحد أعلم بالله وبأمره مني، فأوحى الله إليه أن يأتي هذا الرجل. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة أنه قيل له: إن آية لقيك إياه أن تنسى بعض متاعك ، فخرج هو وفتاه يوشع بن نون، وتزودا حوتا مملوحا، حتى إذا كانا حيث شاء الله، ردّ الله إلى الحوت روحه، فسرب في البحر، فاتخذ الحوت طريقه سربا في البحر، فسرب فيه فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ... حتى بلغ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا فكان موسى اتخذ سبيله في البحر عجبا، فكان يعجب من سرب الحوت. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال: لما اقتص موسى أثر الحوت انتهى إلى رجل، راقد قد سجى عليه ثوبه فسلم عليه موسى فكشف الرجل عن وجهه الثوب وردّ عليه السلام وقال: من أنت؟ قال: موسى، قال: صاحب بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: أوَما كان لك في بني إسرائيل شغل؟ قال: بلى ، ولكني أمرت أن آتيك وأصحبك، قال: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ، كما قصّ الله، حَتَّى بلغ فلما رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا صاحب موسى قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا يقول: نكرا قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ . حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى، فقال: كذب عدوّ الله. حدثنا أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ مُوسَى قامَ في بَنِي إسْرَائِيلَ خَطِيبا فَقِيلَ: أيُّ النَّاس أعْلَمُ؟ فَقالَ: أنا، فعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فقالَ: بَلَى عَبْدٌ لي عِنْدَ مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، فَقالَ: يا رَبّ كَيْفَ بِهِ؟ فَقِيلَ: تَأْخُذُ حُوتا، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، ثُمَّ قالَ لِفَتاهُ: إذَا فَقَدْتَ هَذَا الحُوتَ فَأَخْبِرْنِي، فانْطَلَقَا يَمْشيانِ عَلى ساحِلِ البَحْرِ حتى أتَيا صَخْرَةً، فَرَقَدَ مُوسَى، فاضْطَرَبَ الحُوتُ فِي المِكْتَلِ، فَخَرَجَ فَوَقَعَ فِي البَحْرِ، فأمْسَكَ اللهُ عَنْهُ جرْيَةَ المَاءِ، فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ، فَصَارَ للْحُوتِ سَرَبا وكانَ لَهُما عَجَبا ، ثُمَّ انْطَلَقا، فَلَمَّا كانَ حِينَ الغَدِ، قالَ مُوسَى لِفَتاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ، قال: وَلمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حتى جاوَزَ حَيْثُ أمَرَهُ اللهُ قالَ: فَقالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قال: فقال: ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ) . » قال: يَقُصَّانِ آثارَهما، قال: فآتيَا الصَّخْرَةَ، فإذَا رَجُلٌ نائمٌ مُسَجًى بِثَوْبِهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقالَ: وأنَّي بأرْضِنَا السَّلامُ؟ فَقالَ: أنا مُوسَى، قال: مُوسَى بَنِي إسْرائِيلَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: يا مُوسَى، إنّي عَلى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله ؛ عَلَّمَنِيهِ اللهُ لا تعْلَمُهُ، وأنْتَ عَلى عِلْمٍ من عِلْمِهِ عَلَّمَكَهُ لا أعْلَمُهُ، قالَ: فإنّي أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ، قال: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ، فانْطَلَقا يَمْشِيان عَلى السَّاحِل، فَعُرِفَ الخَضِرُ، فَحُمِلَ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ، فَوَقَعَ عَلى حَرْفِها فنَقَرَ، أو فَنَقَر فِي المَاءِ، فَقالَ الخَضِرُ لِمُوسَى: ما نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إلا مِقْدَارَ ما نَقَرَ أوْ نَقَصَ هَذَا العُصْفُورُ مِنَ البَحْرِ « . أبو جعفر الطبري يشكّ، وهو في كتابه نَقَر، قال: » فَبَيْنَما هُوَ إذْ لَمْ يَفْجَأهُ مُوسَى إلا وَهُوَ يَتِدُ وَتدًا أوْ يَنـزعُ تَخْتا مِنْها، فَقالَ لَهُ مُوسَى: حُمِلْنا بغَيرِ نَوْلٍ وتخْرِقُها لِتُغْرِقَ أهْلَها؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ، قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ، قالَ: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ، قالَ: وكانَتِ الأوَلى منْ مُوسَى نِسْيانا ، قالَ: ثُمَّ خَرَجا فانْطَلَقا يَمْشِيانِ، فَأبْصَرَا غُلاما يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ، فَأخَذَ برأْسه فَقَتَلَهُ، فَقالَ لَهُ مُوسَى : أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّهً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شيئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا . قالَ: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ، فَلَم يَجِدَا أحَدًا يُطْعِمُهُمْ ولا يَسْقِيهِمْ، فَوَجَدَا فِيها جِدَارًا يُرِيدُ أن يَنْقَضّ، فأقامَهُ بِيَدِهِ، قالَ: مَسَحَه بِيَدِهِ ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَمْ يُضَيِّفُونا وَلمْ يُنـزلُونا، لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ، قالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ، فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم : لَوَدِدْتُ أنَّهُ كانَ صَبَرَ حتى يَقُصَّ عَلَيْنا قَصَصهُم « . » حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، قال: جلست فأسْنَدَ ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا العباس، إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم عن كعب، أن موسى النبيّ الذي طلب العالم، إنما هو موسى بن ميشا ، قال سعيد ، قال ابن عباس: أنوف يقول هذا؟ قال سعيد: فقلت له نعم، أنا سمعت نوفا يقول ذلك، قال: أنت سمعته يا سعيد؟ قال: قلت: نعم، قال: كذب نوف ، ثم قال ابن عباس: حدثني أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ مُوسَى هُوَ نَبِي بَنِي إسْرَائِيلَ سألَ رَبَّهُ فَقالَ: أيْ رَبّ إنْ كانَ في عِبادِكَ أحَدٌ هُوَ أعْلَمُ مِنِّي فادْلُلْنِي عَلَيْهِ، فقَالَ لَهُ : نَعَمْ فِي عِبادِي مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ، ثُمَّ نَعَتَ لَهُ مَكانَهُ، وأذنَ لَهُ فَي لُقِيِّهِ ، فَخَرَجَ مُوسَى مَعَهُ فَتاه وَمَعَه ، حُوتٌ مَلِيحٌ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: إذَا حَيِيَ هَذَا الحُوتُ فِي مَكان فصاحبُك هُنالكَ وَقَدْ أدْرَكْتَ حاجَتَكَ ، فخَرَجَ مُوسَى وَمَعَهُ فَتَاهُ، وَمَعَهُ ذلكَ الحُوتُ يَحْمِلانِهِ، فَسارَ حتى جَهدَهُ السَّيْرُ، وانْتَهَى إلى الصَّخْرَةِ وَإلى ذلكَ المَاءِ، ماء الحَياةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ خَلَد. ولا يُقارِبُهُ شَيْءٌ مَيِّتٌ إلا حَييَ ، فَلَمَّا نـزلا وَمَسَّ الحُوتَ المَاءُ حَيِيَ، فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا ، فانْطَلَقا، فَلَمَّا جاوَزَا مُنْقَلَبَهُ قالَ مُوسَى: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ، قالَ الفَتى وَذَكَرَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قال ابن عباس: فظهر موسى على الصخرة حين انتهيا إليها، فإذا رجل متلفف في كساء له، فسلم موسى، فردّ عليه العالم، ثم قال له: وما جاء بك؟ إن كان لك في قومك لشغل؟ قال له موسى: جئتك لتعلمني مما علمت رشدا، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ، وكان رجلا يعلم علم الغيب قد علِّم ذلك، فقال موسى: بلى قال : وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا : أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل، ولم تُحط من علم الغيب بما أعلم قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا وإن رأيت ما يخالفني، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ وإن أنكرته حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، يتعرّضان الناس، يلتمسان من يحملهما، حتى مرّت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمرّ بهما من السفن شيء أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها، فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما، فلما اطمأنا فيها، ولجت بهما مع أهلها، أخرج منقارا له ومطرقة، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها، ثم أخذ لوحا فطبقه عليها، ثم جلس عليها يرقعها. قال له موسى ورأى أمرا فظع به : أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ : أي ما تركت من عهدك وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ثم خرجا من السفينة، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية فإذا غلمان يلعبون خلفها، فيهم غلام ليس في الغلمان أظرف منه، ولا أثرى ولا أوضأ منه، فأخذه بيده، وأخذ حجرا، قال: فضرب به رأسه حتى دمغه فقتله، قال: فرأى موسى أمرا فظيعا لا صبر عليه، صبيّ صغير لا ذنب له قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي صغيرة بغير نفس لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا : أي قد أعذرت في شأني فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فهدمه، ثم قعد يبنيه، فضجر موسى مما رآه يصنع من التكليف لما ليس عليه صبر، فقال: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا أي قد استطعمناهم فلم يطعمونا، وضفناهم فلم يضيفونا، ثم قعدت في غير صنيعة، ولو شئت لأعطيت عليه أجرا في عمله قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ، وفي قراءة أبيّ بن كعب: كلّ سفينة صالحة، وإنما عبتها لأردّه عنها، فسلمت حين رأى العيب الذي صنعت بها. وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْـزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي : أي ما فعلته عن نفسي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا فكان ابن عباس يقول: ما كان الكنـز إلا علما. » حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن الحسن بن عُمارة، عن أبيه، عن عكرِمة قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى يذكر من حديث، وقد كان معه ، فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال: شرب الفتى من الماء فخلِّد، فأخذه العالم فطابق به سفينة، ثم أرسله في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر أنـزل قومه مصر ، فلما استقرت بهم الدار أنـزل الله عليه أن وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ فخطب قومه، فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة، وذكَّرهم إذ أنجاهم الله من آل فرعون، وذكَّرهم هلاك عدوّهم، وما استخلفهم الله في الأرض، وقال: كلم الله نبيكم تكليما، واصطفاني لنفسه، وأنـزل عليّ محبة منه، وآتاكم الله من كل ما سألتموه، فنبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرءون التوراة، فلم يترك نعمة أنعمها الله عليهم إلا ذكرها، وعرّفها إياهم، فقال له رجل من بني إسرائيل: هم كذلك يا نبي الله، قد عرفنا الذي تقول، فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : لا فبعث الله جبرئيل إلى موسى عليهما السلام، فقال: إن الله يقول: وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى إن على شطّ البحر رجلا أعلم منك ، فقال ابن عباس: هو الخَضِر، فسأل موسى ربه أن يريه إياه، فأوحى الله إليه أن ائت البحر، فإنك تجد على شطّ البحر حُوتا، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثم الزم شطّ البحر، فإذا نسيت الحوت وهَلك منك، فثَمَّ تجد العبد الصالح الذي تطلب ، فلما طال سفر موسى نبيّ الله ونصب فيه، سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ قال الفتى: لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سَرَبا، فأعجب ذلك موسى فرجع حتى أتى الصخرة، فوجد الحوت يضرب في البحر، ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدّم عصاه يفرُج بها عن الماء يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة، فجعل نبيّ الله يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر، فلقي الخَضِر بها فسلم عليه، فقال الخضر: وعليك السلام، وأنى يكون هذا السلام بهذه الأرض، ومن أنت؟ قال: أنا موسى، فقال له الخضر: أصاحبُ بني إسرائيل؟ قال: نعم فرحب به، وقال: ما جاء بك؟ قال: جئتك على أن تعلمني مما علمت رُشدا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قال: لا تطيق ذلك، قال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا قال: فانطلق به وقال له: لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبيِّن لك شأنه، فذلك قوله: أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا فركبا في السفينة يريدان البرّ، فقام الخضر فخرق السفينة، فقال له موسى أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا . حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا ذُكِر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما قطع البحر وأنجاه الله من آل فرعون، جمع بني إسرائيل، فخطبهم فقال: أنتم خير أهل الأرض وأعلمه، قد أهلك الله عدوكم، وأقطعكم البحر، وأنـزل عليكم التوراة ، قال: فقيل له: إن ها هنا رجلا هو أعلم منك ، قال: فانطلق هو وفتاه يوشع بن نون يطلبانه، وتزوّدا سمكة مملوحة في مِكتل لهما، وقيل لهما: إذا نسيتما ما معكما لقيتما رجلا عالما يقال له الخضر ، فلما أتيا ذلك المكان، ردّ الله إلى الحوت روحه، فسرب له من الجسر حتى أفضى إلى البحر، ثم سلك فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا صار ماء جامدا ، قال: ومضى موسى وفتاه ، يقول الله عز وجل: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ... ثم تلا إلى قوله: ( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ) فلقيا رجلا عالما يقال له الخَضِر، فذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّمَا سُمِيَ الخَضِرُ خَضِرًا لأنهُ قَعَدَ على فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فاهْتَزَّتْ بِهِ خَضراء » . حدثني العباس بن الوليد، قال: ثنا أبي، قال: ثنا الأوزاعيّ، قال: ثنا الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس أنه تمارى هو والحرّ بن قيس بن حِصْن الفزاريّ في صاحب موسى، فقال ابن عباس: هو خَضِر، فمرّ بهما أبيّ بن كعب، فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « بَيْنا مُوسَى في مَلأ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذْ جاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: تَعْلَمُ مَكانَ أحَدٍ أعْلَمُ مِنْكَ؟ قال مُوسَى: لا فَأوْحَى اللهُ إلى مُوسَى: بَلى عَبْدُنا خَضِرٌ، فَسأَل مُوسَى السَّبِيلَ إلى لُقِيِّه، فجَعَلَ اللهُ لَهُ الحُوتَ آيَةً، وقِيلَ لَهُ: إذَا فَقَدْتَ الحُوتَ فارْجِعْ فإنَّكَ سَتَلْقاهُ، فكانَ مُوسَى يَتْبَعُ أثَرَ الحُوتِ في البحُرِ، فَقال فتَى مُوسَى لِمُوسَى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ، قالَ مُوسَى: ذلكَ ما كُنَّا نَبْغِ، فارْتَدَّا على آثارِهِما قَصَصًا، فَوَجَدَا عَبْدَنا خَضِرًا، وكانَ مِنْ شأْنِهما ما قَصَّ اللهُ في كِتابِهِ » . حدثني محمد بن مرزوق، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا عبد الله بن عمر النميري، عن يونس بن يزيد، قال: سمعت الزهريّ يحدّث، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس، أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى، ثم ذكر نحو حديث العباس، عن أُبيّ بن كعب، عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ( 66 ) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( 67 ) يقول تعالى ذكره : قال موسى للعالم: ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي ) من العلم الذي علمك الله ما هو رشاد إلى الحقّ، ودليل على هدى؟ ( قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) يقول تعالى ذكره: قال العالم: إنك لن تطيق الصبر معي، وذلك أني أعمل بباطن علم علَّمنيه الله، ولا علم لك إلا بظاهر من الأمور، فلا تصبر على ما ترى من الأفعال، كما ذكرنا من الخبر عن ابن عباس قَبلُ من أنه كان رجلا يعمل على الغيب قد علم ذلك. القول في تأويل قوله تعالى : وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ( 68 ) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ( 69 ) يقول عزّ ذكره مخبرا عن قول العالم لموسى: وكيف تصبر يا موسى على ما ترى مني من الأفعال التي لا علم لك بوجوه صوابها، وتقيم معي عليها، وأنت إنما تحكم على صواب المصيب وخطأ المخطئ بالظاهر الذي عندك، وبمبلغ علمك، وأفعالي تقع بغير دليل ظاهر لرأي عينك على صوابها، لأنها تبتدئ لأسباب تحدث آجلة غير عاجلة، لا علم لك بالحادث عنها، لأنها غيب، ولا تحيط بعلم الغيب خبرا يقول علما ، قال: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ) على ما أرى منك وإن كان خلافا لما هو عندي صواب ( وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) يقول: وأنتهي إلى ما تأمرني، وإن لم يكن موافقا هواي. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ( 70 ) يقول تبارك وتعالى: قال العالم لموسى: فإن اتبعتني الآن فلا تسألني عن شيء أعمله مما تستنكره، فإني قد أعلمتك أني أعمل العمل على الغيب الذي لا تحيط به علما ( حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) يقول: حتى أحدث أنا لك مما ترى من الأفعال التي أفعلها التي تستنكرها أذكرها لك وأبين لك شأنها، وأبتدئك الخبر عنها. كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) يعني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه. القول في تأويل قوله تعالى : فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ( 71 ) يقول تعالى ذكره: فانطلق موسى والعالم يسيران يطلبان سفينة يركبانها، حتى إذا أصاباها ركبا في السفينة، فلما ركباها، خرق العالم السفينة، قال له موسى: أخرقتها بعد ما لَجَجنا في البحر ( لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) يقول: لقد جئت شيئا عظيما، وفعلت فعلا مُنكرا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ، قوله: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) : أي عجبا، إن قوما لججوا سفينتهم فخرقتها، كأحوج ما نكون إليها، ولكن علم من ذلك ما لم يعلم نبيّ الله موسى ذلك من علم الله الذي آتاه، وقد قال لنبيّ الله موسى عليه السلام: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا . حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) يقول: نُكرا. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ) قال: منكرا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله ، والإمر: في كلام العرب: الداهية ، ومنه قول الراجز: قَــدْ لَقِــيَ الأقْـرَانُ مِنِّـي نُكْـرًا دَاهِيَــــةٌ دَهْيـــاءَ إدَّا إمـــرًا وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: أصله: كل شيء شديد كثير، ويقول منه: قيل للقوم: قد أمروا: إذا كثروا واشتدّ أمرهم ، قال: والمصدر منه : الأمَرَ، والاسم: الإمْر. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ( لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين ( لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ) بالتاء في لتُغرِق، ونصب الأهل، بمعنى: لتُغرِق أنت أيها الرجل أهل هذه السفينة بالخرق الذي خرقت فيها. وقرأه عامة قرّاء الكوفة: ( لِيَغْرَقَ ( بالياء أهلها بالرفع، على أن الأهل هم الذين يغرقون. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، متفقتا المعنى وإن اختلفت ألفاظهما، فبأيّ ذلك قرأ القارئ فمصيب. وإنما قلنا: هما متفقتا المعنى، لأنه معلوم أن إنكار موسى على العالم خرق السفينة إنما كان لأنه كان عنده أن ذلك سبب لغرق أهلها إذا أحدث مثل ذلك الحدث فيها فلا خفاء على أحد معنى ذلك قرأ بالتاء ونصب الأهل، أو بالياء ورفع الأهل. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( 72 ) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ( 73 ) يقول عزّ ذكره: ( قَالَ ) العالم لموسى إذ قال له ما قال أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا على ما ترى من أفعالي ، لأنك ترى ما لم تُحِط به خبرا ، قال له موسى: ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) فاختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: كان هذا الكلام من موسى عليه السلام للعالِم معارضة، لا أنه كان نسي عهده، وما كان تقدّم فيه حين استصحبه بقوله: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا . ذكر من قال ذلك: حُدثت عن يحيى بن زياد، قال: ثني يحيى بن المهلب، عن رجل، عن سعيد بن جبير، عن أبيّ بن كعب الأنصاريّ في قوله: ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) قال: لم ينس، ولكنها من معاريض الكلام. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تؤاخذني بتركي عهدك، ووجه أن معنى النسيان: الترك. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال : ثني محمد بن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) : أي بما تركت من عهدك. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن موسى سأل صاحبه أن لا يؤاخذه بما نسي فيه عهده من سؤاله إياه على وجه ما فعل وسببه لا بما سأله عنه، وهو لعهده ذاكر للصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن ذلك معناه من الخبر، وذلك ما حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا ابن عيينة . عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) قال: كانَتِ الأوَلى مِنْ مُوسَى نِسْيانا. وقوله: ( وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ) يقول: لا تُغْشِني من أمري عسرا، يقول: لا تضيق علي أمري معك، وصحبتي إياك. القول في تأويل قوله تعالى : فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ( 74 ) يقول تعالى ذكره: ( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ ) العالم، ف ( قال ) له موسى: ( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ) . واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والبصرة: ( أقَتَلْتَ نَفْسا زَاكِيَةً ) وقالوا معنى ذلك: المطهرة التي لا ذنب لها، ولم تذنب قطّ لصغرها ، وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: ( نَفْسا زَكِيَّةً ) بمعنى: التائبة المغفور لها ذنوبها. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال : ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ) والزكية : التائبة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ) قال: الزكية: التائبة. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر « أقتلت نفسا زاكية » قال: قال الحسن: تائبة، هكذا في حديث الحسن وشهر زاكية. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( نَفْسًا زَكِيَّةً ) قال: تائبة. * ذكر من قال: معناها المسلمة التي لا ذنب لها : حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني يعلى بن مسلم، أنه سمع سعيد بن جبير يقول: وجد خضر غلمانا يلعبون، فأخذ غلاما ظريفا فأضجعه ثم ذبحه بالسكين ، قال: وأخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبئي قال: اسم الغلام الذي قتله الخضر: جيسور ( قال أقتلت نفسا زاكية ) قال: مسلمة. قال: وقرأها ابن عباس: ( زكية ) كقولك: زكيا. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل الكوفة يقول: معنى الزكية والزاكية واحد، كالقاسية والقسية، ويقول: هي التي لم تجن شيئا، وذلك هو الصواب عندي لأني لم أجد فرقا بينهما في شيء من كلام العرب. فإذا كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب، لأنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار بمعنى واحد. وقوله: ( بِغَيْرِ نَفْسٍ ) يقول: بغير قصاص بنفس قتلت، فلزمها القتل قودا بها ، وقوله: ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ) يقول: لقد جئت بشيء منكر، وفعلت فعلا غير معروف. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ) والنُّكْرُ أشدّ من الإمر. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ( 75 ) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ( 76 ) يقول تعالى ذكره: قال العالم لموسى ( أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ) على ما ترى من أفعالي التي لم تحط بها خبرا ، قال موسى له: ( إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا ) يقول: بعد هذه المرة ( فَلا تُصَاحِبْنِي ) يقول: ففارقني، فلا تكن لي مصاحبا ( قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) يقول: قد بلغت العذر في شأني. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراءة أهل المدينة ( مِنْ لَدُني عُذْرًا ) بفتح اللام وضم الدال وتخفيف النون. وقرأه عامة قرّاء الكوفة والبصرة بفتح اللام وضم الدال وتشديد النون. وقرأه بعض قراء الكوفة بإشمام اللام الضم وتسكين الدال وتخفيف النون، وكأن الذين شدّدوا النون طلبوا للنون التي في لدن السلامة من الحركة، إذ كانت في الأصل ساكنة، ولو لم تشدّد لتحرّكت، فشدّدوها كراهة منهم تحريكها، كما فعلوا في « من، وعن » إذا أضافوهما إلى مكنّى المخبر عن نفسه، فشدّدوهما، فقالوا مني وعنِّي. وأما الذين خفَّفوها، فإنهم وجدوا مكنّى المخبر عن نفسه في حال الخفض ياء وحدها لا نون معها، فأجروا ذلك من لدن على حسب ما جرى به كلامهم في ذلك مع سائر الأشياء غيرها. والصواب من القول في ذلك عندي أنهما لغتان فصيحتان، قد قرأ بكلّ واحدة منهما علماء من القرّاء بالقرآن، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجب القراءتين إليّ في ذلك قراءة من فتح اللام وضمّ الدال وشدّد النون ، لعلتين: إحداهما أنها أشهر اللغتين، والأخرى أن محمد بن نافع البصري حدثنا، قال: ثنا أمية بن خالد، قال: ثنا أبو الجارية العبدي، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ ( قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) مثقلة. حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال: « اسْتَحْيا فِي اللهِ مُوسَى » . حدثنا محمد بن المثني، قال: ثنا بدل بن المحبر، قال: ثنا عباد بن راشد، قال: ثنا داود، في قول الله عزّ وجلّ ( إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اسْتَحْيا فِي اللهِ مُوسَى عِنْدَها » . حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا حجاج بن محمد، عن حمزة الزيات، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: ( رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْنا وَعلى مُوسَى، لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأبْصَرَ العَجَبَ وَلكنَّه قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ( مُثَقلة ) . القول في تأويل قوله تعالى : فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ( 77 ) يقول تعالى ذكره: فانطلق موسى والعالم ( حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ) من الطعام فلم يطعموهما واستضافاهم ( فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) يقول: وجدا في القرية حائطا يريد أن يسقط ويقع ، يقال منه: انقضت الدار: إذا انهدمت وسقطت ، ومنه انقضاض الكوكب، وذلك سقوطه وزواله عن مكانه ، ومنه قول ذي الرُّمة: فانْقَضَّ كالكَوْكَبِ الدُّرّي مُنْصَلِتا وقد رُوي عن يحيى بن يعمر أنه قرأ ذلك: ( يُريدُ أنْ يَنْقاضَّ ) . وقد اختلف أهل العلم بكلام العرب إذا قرئ ذلك كذلك في معناه، فقال بعض أهل البصرة منهم: مجاز ينقاضّ: أي ينقلع من أصله ، ويتصدّع، بمنـزلة قولهم: قد انقاضت السنّ: أي تصدّعت، وتصدّعت من أصلها، يقال: فراق كقيض السنّ: أي لا يجتمع أهله. وقال بعض أهل الكوفة منهم: الانقياض: الشقّ في طول الحائط في طيّ البئر وفي سنّ الرجل، يقال: قد انقاضت سنه: إذا انشقَّت طولا. وقيل: إن القرية التي استطعم أهلها موسى وصاحبه، فأبوا أن يضيفوهما: الأيلة. ذكر من قال ذلك: حدثني الحسين بن محمد الذراع، قال: ثنا عمران بن المعتمر صاحب الكرابيسي، قال: ثنا حماد أبو صالح، عن محمد بن سيرين، قال: انتابوا الأيلة، فإنه قلّ من يأتيها فيرجع منها خائبا، وهي الأرض التي أبوا أن يضيفوهما ، وهي أبعد أرض الله من السماء. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ) وتلا إلى قوله ( لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) شرّ القرى التي لا تُضِيف الضيف، ولا تعرف لابن السبيل حقه. واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قول الله عز وجل ( يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) فقال بعض أهل البصرة: ليس للحائط إرادة ولا للمَوَات، ولكنه إذا كان في هذه الحال من رثة فهو إرادته وهذا كقول العرب في غيره: يُريــدُ الـرُّمحُ صَـدْرَ أبـي بَـرَاءٍ وَيَــرْغَبُ عَـنْ دِمـاءِ بَنِـي عُقَيْـلِ وقال آخر منهم: إنما كلم القوم بما يعقلون ، قال: وذلك لما دنا من الانقضاض، جاز أن يقول: يريد أن ينقض، قال: ومثله تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ وقولهم: إني لأكاد أطير من الفرح، وأنت لم تقرب من ذلك، ولم تهمْ به، ولكن لعظيم الأمر عندك ، وقال بعض الكوفيين منهم: من كلام العرب أن يقولوا: الجدار يريد أن يسقط ، قال: ومثله من قول العرب قول الشاعر: إنَّ دهْــرًا يَلُــفُّ شَــمْلِي بِجُـمْلٍ لَزَمــــانٌ يَهُـــمُّ بالإحْســـانِ وقول الآخر: يَشْـكُو إلـيَّ جَـمَلِي طُـولَ السُّـرَى صَــبْرًا جَــمِيلا فَكِلانــا مُبْتَـلى قال: والجمل لم يشك، إنما تكلم به على أنه لو تكلم لقال ذلك ، قال: وكذلك قول عنترة: وازْوَرَّ مِــنْ وَقْــعِ القَنــا بِلَبانِـهِ وشَــكا إلــيَّ بعَــبْرَةٍ وَتحَمْحُــمِ قال: ومنه قول الله عز وجل: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ والغضب لا يسكت، وإنما يسكت صاحبه. وإنما معناه: سكن. وقوله: فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ إنما يعزم أهله ، وقال آخر منهم: هذا من أفصح كلام العرب، وقال: إنما إرادة الجدار: ميله، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم « لا تَرَاءى نارَاهُما » وإنما هو أن تكون ناران كلّ واحدة من صاحبتها بموضع لو قام فيه إنسان رأى الأخرى في القُرب ، قال: وهو كقول الله عز وجل في الأصنام: وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ قال: والعرب تقول: داري تنظر إلى دار فلان، تعني: قرب ما بينهما ، واستشهد بقول ذي الرُّمَّة في وصفه حوضا أو منـزلا دارسا: قَدْ كادَ أوْ قَدْ هَمَّ بالبُيُودِ قال: فجعله يهمّ، وإنما معناه: أنه قد تغير للبلى ، والذي نقول به في ذلك أن الله عزّ ذكره بلطفه، جعل الكلام بين خلقه رحمة منه بهم، ليبين بعضهم لبعض عما في ضمائرهم، مما لا تحسُّه أبصارهم، وقد عقلت العرب معنى القائل: فــي مَهْمَــةٍ قَلِقَـتْ بِـهِ هاماتُهَـا قَلَــقَ الفُئُــوسِ إذَا أرَدْنَ نُصُــولا وفهمت أن الفئوس لا توصف بما يوصف به بنو آدم من ضمائر الصدور مع وصفها إياهما بأنها تريد ، وعلمت ما يريد القائل بقوله: كمِثْـلِ هَيْـلِ النَّقـا طـافَ المُشاةُ بِهِ يَنْهـالُ حِينـا ويَنْهَـاهُ الـثَّرَى حِينـا وإنما لم يرد أن الثرى نطق، ولكنه أراد به أنه تلبَّد بالندى، فمنعه من الإنهيال، فكان منعه إياه من ذلك كالنهي من ذوي المنطق فلا ينهال. وكذلك قوله: ( جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) قد علمت أن معناه: قد قارب من أن يقع أو يسقط، وإنما خاطب جل ثناؤه بالقرآن من أنـزل الوحي بلسانه، وقد عقلوا ما عنى به وإن استعجم عن فهمه ذوو البلادة والعمى، وضل فيه ذوو الجهالة والغبا. وقوله: ( فَأَقَامَهُ ) ذكر عن ابن عباس أنه قال: هدمه ثم قعد يبنيه. حدثنا بذلك ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا ابن إسحاق، عن الحسن بن عُمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وقال آخرون في ذلك ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير ( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) قال: رفع الجدار بيده فاستقام. والصواب من القول في ذلك أن يُقال: إن الله عزّ ذكره أخبر أن صاحب موسى وموسى وجدا جدارًا يريد أن ينقضّ فأقامه صاحب موسى، بمعنى: عَدَل ميله حتى عاد مستويا. وجائز أن يكون كان ذلك بإصلاح بعد هدم ، وجائز أن يكون كان برفع منه له بيده، فاستوى بقدرة الله، وزال عنه مَيْلُه بلطفه، ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر للعذر قاطع بأي ذلك كان من أيّ. وقوله: ( قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) يقول: قال موسى لصاحبه: لو شئت لم تقم لهؤلاء القوم جدارهم حتى يعطوك على إقامتك أجرا، فقال بعضهم: إنما عَنَى موسى بالأجر الذي قال له ( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) القِرى: أي حتى يَقْرُونا، فإنهم قد أبوا أن يضيِّفونا. وقال آخرون: بل عنى بذلك العِوَض والجزاء على إقامته الحائط المائل. واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء أهل المدينة والكوفة ( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) على التوجيه منهم له إلى أنه لافتعلت من الأخذ ، وقرأ ذلك بعض أهل البصرة ( لَوْ شَئِتَ لَتَخِذْتَ ) بتخفيف التاء وكسر الخاء، وأصله: لافتعلت، غير أنهم جعلوا التاء كأنهم من أصل الكلمة، ولأن الكلام عندهم في فعل ويفعل من ذلك: تخِذ فلان كذا يَتْخَذُه تَخْذا، وهي لغة فيما ذكر لهُذَيل ، وقال بعض الشعراء: وَقَـدْ تَخِـذَتْ رِجْلِي لَدَى جَنْبِ غَرْزِها نَسـيِفا كـأفحُوصِ القَطـاةِ المُطَـرِّقِ والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أني أختار قراءته بتشديد التاء على لافتعلت، لأنها أفصح اللغتين وأشهرهما، وأكثرهما على ألسن العرب. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ( 78 ) يقول تعالى ذكره: قال صاحب موسى لموسى: هذا الذي قلته وهو قوله ( لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ) ( فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) يقول: فرقة ما بيني وبينك: أي مفرق بيني وبينك ( سَأُنَبِّئُكَ ) يقول: سأخبرك ( بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) يقول: بما يئول إليه عاقبة أفعالي التي فعلتها، فلم تستطع على تَرك المسألة عنها، وعن النكير علي فيها صبرا، والله أعلم. القول في تأويل قوله تعالى : أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ( 79 ) يقول: أما فعلي ما فعلت بالسفينة، فلأنها كانت لقوم مساكين ( يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) بالخرق الذي خرقتها. كما حدثني ابن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) قال: أخرقها. حدثنا الحارث، قال: ثنا الحسن ، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، مثله. وقوله: ( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ) وكان أمامهم وقُدّامهم ملك. كما حدثنا الحسن بن يحيى، قال : أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: ( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ ) قال قتادة: أمامهم، ألا ترى أنه يقول: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وهي بين أيديهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: كان في القراءة: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا. وقد ذُكر عن ابن عُيينة، عن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قرأ ذلك: وكان أمامهم ملك. قال أبو جعفر: وقد جعل بعض أهل المعرفة بكلام العرب « وراء » من حروف الأضداد، وزعم أنه يكون لما هو أمامه ولما خلفه، واستشهد لصحة ذلك بقول الشاعر: أيَرْجُـو بَنُـو مَـرْوَانَ سَمْعي وطاعَتِي وَقَــوْمي تَمِيــمٌ والفَــلاةُ وَرَائِيَـا بمعنى أمامي. وقد أغفل وجه الصواب في ذلك. وإنما قيل لما بين يديه: هو ورائي، لأنك من ورائه، فأنت ملاقيه كما هو ملاقيك، فصار: إذ كان ملاقيك، كأنه من ورائك وأنت أمامه. وكان بعض أهل العربية من أهل الكوفة لا يجيز أن يقال لرجل بين يديك: هو ورائي، ولا إذا كان وراءك أن يقال: هو أمامي، ويقول: إنما يجوز ذلك في المواقيت من الأيام والأزمنة كقول القائل : وراءك برد شديد، وبين يديك حرّ شديد، لأنك أنت وراءه، فجاز لأنه شيء يأتي، فكأنه إذا لحقك صار من ورائك، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك. قال: فلذلك جاز الوجهان. وقوله: ( يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) فيقول القائل: فما أغنى خَرْق هذا العالم السفينة التى ركبها عن أهلها، إذ كان من أجل خرقها يأخذ السفن كلها، مَعِيبها وغير معيبها، وما كان وجه اعتلاله في خرقها بأنه خرقها، لأن وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا؟ قيل: إن معنى ذلك، أنه يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا، ويدع منها كلّ معيبة، لا أنه كان يأخذ صحاحها وغير صحاحها. فإن قال: وما الدليل على أن ذلك كذلك؟ قيل: قوله : ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) فأبان بذلك أنه إنما عابها، لأن المعيبة منها لا يعرض لها، فاكتفى بذلك من أن يقال: وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبا ، على أن ذلك في بعض القراءات كذلك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: هي في حرف ابن مسعود: ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا ) . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني الحسن بن دينار، عن الحكم بن عيينة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: في قراءة أُبيّ: ( وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غَصْبًا ) وإنما عبتها لأرده عنها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) فإذا خلفوه أصلحوها بزفت فاستمتعوا بها. قال ابن جريج: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجَبَئِيّ، أن اسم الرجل الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا: هُدَدُ بنُ بُدد. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ( 80 ) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ( 81 ) يقول تعالى ذكره: وأما الغلام، فإنه كان كافرا، وكان أبواه مؤمنين، فعلمنا أنه يرهقهما : يقول: يغشيهما طغيانا، وهو الاستكبار على الله، وكفرا به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وقد ذُكر ذلك في بعض الحروف. وأما الغلام فكان كافرا. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: ( وأمَّا الغُلامُ فكَانَ كافِرًا ) في حرف أُبيّ، وكان أبواه مؤمنين ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) . حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ ) وكان كافرا في بعض القراءة. وقوله: ( فَخَشِينا ) وهي في مصحف عبد الله: ( فَخَافَ ربُّكَ أنْ يُرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) . حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا أبو قتيبة، قال: ثنا عبد الجبار بن عباس الهمداني، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أُبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الغُلامُ الَّذِي قَتَلَهُ الخَضِرُ طُبِعَ يَوْم طُبِعَ كافِرًا » . والخشية والخوف توجههما العرب إلى معنى الظنّ، وتوجه هذه الحروف إلى معنى العلم بالشيء الذي يُدرك من غير جهة الحسّ والعيان. وقد بيَّنا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته. وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: معنى قوله ( خَشِينا ) في هذا الموضع: كرهنا، لأن الله لا يخشى. وقال في بعض القراءات: فخاف ربك، قال: وهو مثل خفت الرجلين أن يعولا وهو لا يخاف من ذلك أكثر من أنه يكرهه لهما. وقوله: ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ) : اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه جماعة من قرّاء المكيين والمدنين والبصريين: ( فأَرَدْنا أنْ يُبَدّلَهُما رَبُّهُما ) . وكان بعضهم يعتلّ لصحة ذلك بأنه وجد ذلك مشدّدا في عامَّة القرآن، كقول الله عزّ وجلّ: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وقوله وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ فألحق قوله: ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ) وقرأ ذلك عامّةُ قُراء الكوفة: ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا ) بتخفيف الدال. وكان بعض من قرأ ذلك كذلك من أهل العربية يقول: أبدل يبدل بالتخفيف وبدَّلَ يُبدِّل بالتشديد: بمعنى واحد. والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، قد قرأ بكلّ واحدة منهما جماعة من القرّاء، فبآيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقيل: إن الله عزّ وجلّ أبدل أبوي الغلام الذي قتله صاحب موسى منه بجارية. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب، قال: ثنا هاشم بن القاسم، قال: ثنا المبارك بن سعيد، قال: ثنا عمرو بن قيس في قوله: ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) قال: بلغني أنها جارية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، أخبرني سليمان بن أميَّة أنه سمع يعقوب بن عاصم يقول: أُبدِلا مكان الغلام جارية. قال: ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن عثمان بن خُشَيم، أنه سمع سعيد بن جبير يقول: أبدلا مكان الغلام جارية. وقال آخرون: أبدلهما ربهما بغلام مسلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج عن أبي جريج ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) قال: كانت أمه حُبلى يومئذ بغلام مسلم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، أنه ذكر الغلام الذي قتله الخضر، فقال: قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وقوله: ( خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً ) يقول: خيرا من الغلام الذي قتله صلاحا ودينا. كما حدثنا القاسم، ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً ) قال: الإسلام. وقوله: ( وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معنى ذلك: وأقرب رحمة بوالديه وأبرّ بهما من المقتول. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة ( وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) : أبرّ بوالديه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سيعد، عن قتادة ( وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) ، أي أقرب خيرا. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأقرب أن يرحمه أبواه منهما للمقتول. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم ، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ( وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) أرحم به منهما بالذي قتل الخضر. وكان بعض أهل العربية يتأوّل ذلك: وأقرب أن يرحماه ، والرُّحْم: مصدر رحمت، يقال: رَحِمته رَحْمة ورُحما. وكان بعض البصريين يقول: من الرَّحم والقرابة. وقد يقال: رُحْم ورُحُم مثل عُسْر وعُسُر، وهُلك وهُلُك، واستشهد لقوله ذلك ببيت العجاج: وَلْم تُعَوَّجْ رُحْمُ مَنْ تَعَوَّجا ولا وجه للرَّحمِ في هذا الموضع، لأن المقتول كان الذي أبدل الله منه والديه ولدا لأبوي المقتول، فقرابتهما من والديه، وقربهما منه في الرَّحيم سواء. وإنما معنى ذلك: وأقرب من المقتول أن يرحم والديه فيبرهما كما قال قتادة: وقد يتوجه الكلام إلى أن يكون معناه. وأقرب أن يرحماه، غير أنه لا قائل من أهل تأويل تأوّله كذلك ، فإذ لم يكن فيه قائل، فالصواب فيه ما قلنا لما بيَّنا. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ( 82 ) يقول تعالى ذكره مخبرا عن قول صاحب موسى: وأما الحائط الذي أقمته، فإنه كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنـز لهما. اختلف أهل التأويل في ذلك الكنـز فقال بعضهم: كان صُحُفا فيها علم مدفونة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن ابيه، عن ابن عباس ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال: كان تحته كنـز علم. حدثنا يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن سعيد بن جبير: ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال: كان كنـز علم. حدثنا محمد بن بشار ، قال ثنا عبد الرحمن ، قال ثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال : علم. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال: علم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال: صحف لغلامين فيها علم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: صحف علم. حدثني أحمد بن حازم الغِفاريّ، قال: ثنا هنادة ابنة مالك الشيبانية، قالت: سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله عزّ وجلّ: ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال سطران ونصف، لم يتم الثالث: « عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب، عجبت للموقن بالحساب كيف يغفل، وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح » وقد قال: وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ قالت: وذكر أنهما حُفِظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة آباء، وكان نساجا. حدثني يعقوب، قال: ثنا بن حبيب بن ندبة ، قال: ثنا سلمة بن محمد، عن نعيم العنبريّ، وكان من جُلساء الحسن ، قال: سمعت الحسن يقول في قوله: ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال: لوح من ذهب مكتوب فيه: « بسم الله الرحمن الرحيم : عجبت لمن يؤمن كيف يحزن ، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها، كيف يطمئنّ إليها ، لا إله إلا الله، محمد رسول الله » . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه كان يقول: ما كان الكنـز إلا عِلْما. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة ، عن حميد، عن مجاهد، في قوله ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال: صُحُف من علم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الله بن عياش، عن عمر مولى غُفْرة ، قال: إن الكنـز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال: كان لوحا من ذهب مصمت، مكتوبا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم ، عَجَبٌ من عرف الموت ثم ضحك، عجب من أيقن بالقدر ثم نصب، عجب من أيقن بالموت، ثم أمن، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. وقال آخرون: بل كان مالا مكنوزا. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال: كنـز مال. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن عكرمة، مثله. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا أبو داود، عن شعبة، قال: أخبرني أبو حُصَين، عن عكرمة، مثله، قال شعبة: ولم نسمعه منه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ( وَكَانَ تَحْتَهُ كَنـز لَهُمَا ) قال: مال لهما، قال قتادة: أحلّ الكنـز لمن كان قبلنا، وحرّم علينا، فإن الله يحلّ من أمره ما يشاء، ويحرّم، وهي السنن والفرائض، ويحلّ لأمة، ويحرّم على أخرى، لكنّ الله لا يقبل من أحد مضى إلا الإخلاص والتوحيد له. * وأولى التأولين في ذلك بالصواب: القول الذي قاله عكرمة، لأن المعروف من كلام العرب أن الكنـز اسم لما يكنـز من مال، وإن كلّ ما كنـز فقد وقع عليه اسم كنـز فإن التأويل مصروف إلى الأغلب من استعمال المخاطبين بالتنـزيل، ما لم يأت دليل يجب من أجله صرفه إلى غير ذلك، لعلل قد بيَّناها في غير موضع. وقوله: ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ) يقول: فأراد ربك أن يدركا ويبلغا قوتهما وشدّتهما، ويستخرجا حينئذ كنـزهما المكنوز تحت الجدار الذي أقمته رحمة من ربك بهما، يقول: فعلت فعل هذا بالجدار، رحمة من ربك لليتيمين. وكان ابن عباس يقول في ذلك ما حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو أسامة، عن مسعر، عن عبد الملك بن ميسره، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس، في قوله ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) قال: حفظا بصلاح أبيهما، وما ذكر منهما صلاح. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا سفيان، عن مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بمثله. وقوله: ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) يقول: وما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي، ومن تلقاء نفسي، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثا سعيد، عن قتادة ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) : كان عبدا مأمورا، فمضى لأمر الله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) ما رأيت أجمع ما فعلته عن نفسي. وقوله: ( ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) يقول: هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها مني، تأويل: يقول: ما تئول إليه وترجع الأفعال التي لم تسطع على ترك مسألتك إياي عنها، وإنكارك لها صبرا. وهذه القصص التي أخبر الله عزّ وجلّ نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه، تأديب منه له، وتقدّم إليه بترك الإستعجال بعقوبة المشركين الذين كذّبوه واستهزءوا به وبكتابه، وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه، فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها، كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف الصحة في الظاهر عند موسى، إذ لم يكن عالما بعواقبها، وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة، ينبئ عن صحة ذلك قوله: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا . ثم عقب ذلك بقصة موسى وصاحبه، يعلم نبيه أن تركه جلّ جلاله تعجيل العذاب لهؤلاء المشركين، بغير نظر منه لهم، وإن كان ذلك فيما يحسب من لا علم له بما الله مدبر فيهم نظرا منه لهم، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف في الدنيا واستحقاقهم من الله في الآخرة الخزي الدائم. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ( 83 ) * يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ويسألك يا محمد هؤلاء المشركون عن ذي القرنين ما كان شأنه، وما كانت قصته، فقل لهم: سأتلو عليكم من خبره ذكرا يقول: سأقصّ عليكم منه خبرا. وقد قيل: إن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر ذي القرنين، كانوا قوما من أهل الكتاب. فأما الخبر بأن الذين سألوه عن ذلك كانوا مشركي قومه فقد ذكرناه قبل. وأما الخبر بأن الذين سألوه، كانوا قوما من أهل الكتاب ، فحدثنا به أبو كريب. قال: ثنا زيد بن حباب عن ابن لهيعة ، قال: ثني عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن شيخين من تجيب، قال : أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى عقبة بن عامر نتحدّث، قالا فأتياه فقالا جئنا لتحدثنا، فقال: « كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت من عنده، فلقيني قوم من أهل الكتاب، فقالوا: نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه، فدخلت عليه، فأخبرته، فقال: ما لي وما لهم، ما لي علم إلا ما علمني الله » ، ثم قال: اسكب لي ماء ، فتوضأ ثم صلى، قال: فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه، ثم قال: « أدخلهم عليّ، ومن رأيت من أصحابي فدخلوا فقاموا بين يديه، فقال: إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا، وإن شئتم أخبرتكم، قالوا: بلى أخبرنا، قال: جئتم تسألوني عن ذي القرنين، وما تجدونه في كتابكم: كان شابا من الروم، فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية ، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء، فقال له ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به، فقال: ما ترى؟ فقال: أرى مدينتي، ثم علا به فقال: ما ترى؟ قال: أرى الأرض، قال: فهذا اليم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل، وتثبت العالم، فأتى به السدّ، وهو جبلان لينان يَزْلَق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج، ثم مضى به إلى أمة أخرى، وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب، ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم » . واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لذي القرنين: ذو القرنين، فقال بعضهم: قيل له ذلك من أجل أنه ضُرِب على قَرنْه فهلك، ثم أُحْيِي فضُرب على القرن الآخر فهلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن عبيد المُكْتِب، عن أبي الطُّفِيل، قال: سأل ابن الكوّاء عليا عن ذي القرنين، فقال: هو عبد أحبّ الله فأحبه، وناصح الله فنصحه، فأمرهم بتقوى الله فضربوه على قَرْنه فقتلوه، ثم بعثه الله ، فضربوه على قرنه فمات. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، قال: سئل عليّ رضوان الله عليه عن ذي القرنين، فقال: كان عبدا ناصح الله فناصحه، فدعا قومه إلى الله، فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن القاسم بن أبى بزة، عن أبي الطفيل، قال: سمعت عليا وسألوه عن ذي القرنين أنبيا كان؟ قال: كان عبدا صالحا، أحبّ الله ، فأحبه الله، وناصح الله فنصحه، فبعثه الله إلى قومه، فضربوه ضربتين في رأسه، فسمي ذا القرنين ، وفيكم اليوم مثله. وقال آخرون في ذلك بما حدثني به محمد بن سهل البخاري، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل، قال: قال وهب بن منبه: كان ذو القرنين ملكا، فقيل له : فلم سُمّي ذا القرنين؟ قال: اختلف فيه أهل الكتاب. فقال بعضهم: ملك الروم وفارس. وقال بعضهم: كان في رأسه شبه القرنين. وقال آخرون: إنما سمي ذلك لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة. قال: ثني ابن أبي إسحاق. قال: ثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني، قال: إنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُل ّشَيْء سَبَبًا ( 84 ) فَأَتْبَعَ سَبَبًا ( 85 ) وقوله: ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) يقول: إنا وطأنا له في الأرض، ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) يقول وآتيناه من كل شيء، يعني ما يتسبب إليه وهو العلم به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) يقول: علما. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) أي علما. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) قال: من كلّ شيء علما.. - حدثنا القاسم، قال ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) قال: علم كلّ شيء. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) علما. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ) يقول: علما. وقوله: ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا ) اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة ، فاتبع بوصل الألف، وتشديد التاء، بمعنى: سلك وسار، من قول القائل: اتَّبعت أثر فلان: إذا قفوته ؛ وسرت وراءه. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة ( فَأَتْبَعَ ) بهمز الألف، وتخفيف التاء، بمعنى لحق. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب: قراءة من قرأه ( فَاتَّبَعَ ) بوصل الألف، وتشديد التاء، لأن ذلك خبر من الله تعالى ذكره عن مسير ذي القرنين في الأرض التي مكن له فيها، لا عن لحاقه السبب، وبذلك جاء تأويل أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( فَاتَّبَعَ سَبَبا ) يعني بالسبب ، المنـزل. حدثنا محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( سَبَبا ) قال: منـزلا وطريقا ما بين المشرق والمغرب. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد، نحوه. حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد ( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال: طريقا في الأرض. حدثنا بشر، قال: يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( فاتَّبَعَ سَبَبا ) : اتبع منازل الأرض ومعالمها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال: هذه الآن سبب الطرق كما قال فرعون يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ قال: طرق السماوات. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال: منازل الأرض. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله ( فاتَّبَعَ سَبَبا ) قال: المنازل. القول في تأويل قوله تعالى : حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ( 86 ) * يقول تعالى ذكره: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ ) ذو القرنين ( مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ، فاختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قراء المدينة والبصرة ( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) بمعنى: أنها تغرب في عين ماء ذات حمأة، وقرأته جماعة من قراء المدينة، وعامَّة قرّاء الكوفة ( فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ ) يعني أنها تغرب في عين ماء حارّة. واختلف أهل التأويل في تأويلهم ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته. ذكر من قال ( تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) : حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا ابن أبى عديّ، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) قال: ذات حمأة. حدثنا الحسين بن الجنيد، قال: ثنا سعيد بن سلمة، قال: ثنا إسماعيل بن علية، عن عثمان بن حاضر، قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: قرأ معاوية هذه الآية، فقال : ( عَيْنٌ حامِيَةٌ ) فقال ابن عباس: إنها عين حمئة، قال: فجعلا كعبا بينهما، قال: فأرسلا إلى كعب الأحبار، فسألاه، فقال كعب: أما الشمس فإنها تغيب في ثأط، فكانت على ما قال ابن عباس، والثأط: الطين. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني نافع بن أبي نعيم، قال: سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول: كان ابن عباس يقول ( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ثم فسرها. ذات حمأة، قال نافع: وسئل عنها كعب، فقال: أنتم أعلم بالقرآن مني، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) قال: هي الحمأة. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) قال : ثأط. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، عن مجاهد في قول الله عزّ ذكره ( تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) قال: ثأطة. قال: وأخبرني عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: قرأت ( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) وقرأ عمرو بن العاص ( فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ ) فأرسلنا إلى كعب. فقال: إنها تغرب في حمأة طينة سوداء. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) والحمئة: الحمأة السوداء. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا مروان بن معاوية، عن ورقاء، قال: سمعت سعيد بن جبير، قال: كان ابن عباس يقرأ هذا الحرف ( فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) ويقول: حمأة سوداء تغرب فيها الشمس. وقال آخرون: بل هي تغيب في عين حارّة. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ ) يقول: في عين حارّة. حدثنا يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، قال: سمعت الحسن يقول ( فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ ) قال: حارّة. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر ، عن الحسن، في قوله ( فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ ) قال: حارّة، وكذلك قرأها الحسن. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، ولكل واحدة منهما وجه صحيح ومعنى مفهوم، وكلا وجهيه غير مفسد أحدهما صاحبه، وذلك أنه جائز أن تكون الشمس تغرب في عين حارّة ذات حمأة وطين، فيكون القارئ في عين حامية بصفتها التي هي لها، وهي الحرارة، ويكون القارئ في عين حمئة واصفها بصفتها التي هي بها وهي أنها ذات حمأة وطين. وقد رُوي بكلا صيغتيها اللتين إنهما من صفتيها أخبار. حدثنا محمد بن المثنى ، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا العوّام، قال: ثني مولى لعبد الله بن عمرو، عن عبد الله، قال: « نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت، فقال: فِي نارِ اللهِ الحامِيَةِ، فِي نَارِ اللهِ الحَامِيَةِ، لَوْلا ما يَزَعُها مِنْ أمْرِ اللهِ لأحْرَقَتْ ما عَلى الأرْضِ » . حدثني الفضل بن داود الواسطي، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا محمد بن دينار، عن سعد بن أوس، عن مصدع، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه: ( حَمِئةٍ ) . وقوله: ( وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا ) ذكر أن أولئك القوم يقال لهم: ناسك. وقوله: ( قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) يقول: إما أن تقتلهم إن هم لم يدخلوا في الإقرار بتوحيد الله، ويذعنوا لك بما تدعوهم إليه من طاعة ربهم ( وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ) يقول: وإما أن تأسرهم فتعلمهم الهدى وتبصرهم الرشاد. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ( 87 ) يقول جلّ ثناؤه ( قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) يقول: أما من كفر فسوف نقتله. كما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) قال: هو القتل. وقوله ( ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ) يقول: ثم يرجع إلى الله تعالى بعد قتله، فيعذبه عذابا عظيما، وهو النكر، وذلك عذاب جهنم. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ( 88 ) يقول: وأما من صدق الله منهم ووحَّده، وعمل بطاعته ، فله عند الله الحسنى، وهي الجنة، جزاء يعني ثوابا على إيمانه، وطاعته ربه. وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة ( فَلَهُ جَزَاءُ الحُسْنَى ) برفع الجزاء وإضافته إلى الحسنى. وإذا قرئ ذلك كذلك، فله وجهان من التأويل: أحدهما: أن يجعل الحسنى مرادا بها إيمانه وأعماله الصالحة، فيكون معنى الكلام إذا أريد بها ذلك: وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاؤها، يعني جزاء هذه الأفعال الحسنة. والوجه الثاني: أن يكون معنيا بالحسنى: الجنة، وأضيف الجزاء إليها، كما قيل وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ والدار: هي الآخرة، وكما قال: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ والدين: هو القيم. وقرأ آخرون: ( فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ) بمعنى: فله الجنة جزاء فيكون الجزاء منصوبا على المصدر. بمعنى: يجازيهم جزاء الجنة. وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأه: ( فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ) بنصب الجزاء وتنوينه على المعنى الذي وصفت، من أن لهم الجنة جزاء. فيكون الجزاء نصبا على التفسير. وقوله: ( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) يقول: وسنعلمه نحن في الدنيا ما تيسر لنا تعليمه ما يقرّبه إلى الله ويلين له من القول. وكان مجاهد يقول نحوا مما قلنا في ذلك. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » ، وحدثتي الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ) قال معروفا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ( 89 ) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ( 90 ) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ( 91 ) يقول تعالى ذكره: ثم سار وسلك ذو القرنين طرقا ومنازل. كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله ( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) يعني منـزلا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ) منازل الأرض ومعالمها ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) يقول تعالى ذكره: ووجد ذو القرنين الشمس تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا، وذلك أن أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، ولا تحتمل بناء ، فيسكنوا البيوت، وإنما يغورون في المياه، أو يسربون في الأسراب... كما حدثني إبراهيم ين المستمر، قال: ثنا سليمان بن داود وأبو داود، قال: ثنا سهل بن أبي الصلت السراج، عن الحسن ( تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال: كانت أرضا لا تحتمل البناء، وكانوا إذا طلعت عليهم الشمس تغور في الماء، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم، قال: ثم قال الحسن: هذا حديث سمرة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) ذكر لنا أنهم كانوا في مكان لا يستقرّ عليه البناء، وإنما يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت عنهم الشمس خرجوا إلى معايشهم وحروثهم، قال: ( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) . حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج في قوله ( وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال: لم يبنوا فيها بناء قط، ولم يبن عليهم فيها بناء قط، وكانوا إذا طلعت عليهم الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس، أو دخلوا البحر، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل، وجاءهم جيش مرّة، فقال لهم أهلها: لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها، فقالوا: لا نبرح حتى تطلع الشمس، ما هذه العظام؟ قالوا: هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس ها هنا فماتوا، قال: فذهبوا هاربين في الأرض. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله: ( تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال: بلغنا أنهم كانوا في مكان لا يثبت عليهم بناء، فكانوا يدخلون في أسراب لهم إذا طلعت الشمس، حتى تزول عنهم، ثم يخرجون إلى معايشهم. وقال آخرون: هم الزنج. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا ) قال: يقال: هم الزنج. وأما قوله: ( كَذَلِكَ ) فإن معناه: ثم أتبع سببا كذلك، حتى إذا بلغ مطلع الشمس ؛ وكذلك: من صلة أتبع، وإنما معنى الكلام: ثم أتبع سببا، حتى بلغ مطلع الشمس ، كما أتبع سببا حتى بلغ مغربها. وقوله ( وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) يقول: وقد أحطنا بما عند مطلع الشمس علما لا يخفى علينا ما هنالك من الخلق وأحوالهم وأسبابهم، ولا من غيرهم شيء. وبالذي قلنا في معنى الخبر، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( خُبْرًا ) قال: علما. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ) قال: علما. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ( 92 ) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا ( 93 ) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ( 94 ) يقول تعالى ذكره: ثم سار طرقا ومنازل، وسلك سبلا ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) . واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة وبعض الكوفيين ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) بضمّ السين وكذلك جميع ما في القرآن من ذلك بضم السين. وكان بعض قرّاء المكيين يقرؤنه بفتح ذلك كله. وكان أبو عمرو بن العلاء يفتح السين في هذه السورة، ويضمّ السين في يس، ويقول: السَّدُّ بالفتح: هو الحاجز بينك وبين الشيء ؛ والسُّدُّ بالضم: ما كان من غشاوة في العين. وأما الكوفيون فإن قراءة عامتهم في جميع القرآن بفتح السين غير قوله: ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) فإنهم ضموا السين في ذلك خاصة. ورُوي عن عكرمة في ذلك، ما حدثنا به أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما كان من صنعة بني آدم فهو السَّدُّ ، يعني بالفتح، وما كان من صنع الله فهو السدّ. وكان الكسائي يقول : هما لغتان بمعنى واحد. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، ولغتان متفقتا المعنى غير مختلفة، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، ولا معنى للفرق الذي ذكر عن أبي عمرو بن العلاء، وعكرمة بين السُّد والسَّد، لأنا لم نجد لذلك شاهدا يبين عن فرق ما بين ذلك على ما حكي عنهما. وما يبين ذلك أن جميع أهل التأويل الذي رُوي لنا عنهم في ذلك قول - لم يحك لنا عن أحد منهم تفصيل بين فتح ذلك وضمه، ولو كانا مختلفي المعنى لنقل الفصل مع التأويل إن شاء الله. ولكن معنى ذلك كان عندهم غير مفترق ، فيفسر الحرف بغير تفصيل منهم بين ذلك. وأما ما ذُكر عن عكرِمة في ذلك، فإن الذي نقل ذلك عن أيوب وهارون، وفي نقله نظر، ولا نعرف ذلك عن أيوب من رواية ثقات أصحابه. والسَّد والسُّد جميعا: الحاجز بين الشيئين، وهما ها هنا فيما ذُكر جبلان سدّ ما بينهما، فردم ذو القرنين حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم، ليقطع مادّ غوائلهم وعبثهم عنهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) قال: الجبلين الردم الذي بين يأجوج ومأجوج، أمتين من وراء ردم ذي القرنين: قال: الجبلان: أرمينية وأذربيجان. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) وهما جبلان. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) يعني بين جبلين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال : أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) قال: هما جبلان. وقوله ( وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا ) يقول عزّ ذكره: وجد من دون السدّين قوما لا يكادون يفقهون قول قائل سوى كلامهم. وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( يَفْقَهُونَ ) فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة ( يَفْقَهُونَ قَوْلا ) بفتح القاف والياء، من فقَه الرجل يفقَه فقها: وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة ( يُفْقِهُونَ قَوْلا ) بضمّ الياء وكسر القاف: من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها: إذا فهمته ذلك. والصواب عندي من القول في ذلك، إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، غير دافعة إحداهما الأخرى ، وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولا لغيرهم عنهم، فيكون صوابا القراءة بذلك. وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل: إما بألسنتهم، وإما بمنطقهم، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابا. وقوله ( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ) فقرأت القرّاء من أهل الحجاز والعراق وغيرهم ( إنَّ ياجُوجَ وماجُوجَ ) بغير همز على فاعول من يججت ومججت، وجعلوا الألفين فيهما زائدتين ، غير عاصم بن أبي النجود والأعرج، فإنه ذكر أنهما قرآ ذلك بالهمز فيهما جميعا، وجعلا الهمز فيهما من أصل الكلام، وكأنهما جعلا يأجوج: يفعول من أججت، ومأجوج: مفعول. والقراءة التي هي القراءة الصحيحة عندنا، أن ( ياجُوحَ وماجُوجَ ) بألف بغير همز لإجماع الحجة من القرّاء عليه، وأنه الكلام المعروف على ألسن العرب ؛ ومنه قول رؤبة بن العجاج. لــو أنَّ يــاجُوجَ ومـاجُوجَ مَعـا وعــادَ عــادُوا واسْتَجاشُـوا تُبَّعـا وهم أمتان من وراء السدّ. وقوله: ( مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين، فقال بعضهم: كانوا يأكلون الناس. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن الوليد الرملي، قال: ثنا إبراهيم بن أيوب الخوزاني، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول في قوله ( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) قال : كانوا يأكلون الناس. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يأجوج ومأجوح سيفسدون في الأرض، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون. ذكر من قال ذلك، وذكر صفة اتباع ذي القرنين الأسباب التي ذكرها الله في هذه الآية، وذكر سبب بنائه للردم: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن اسحاق، قال: ثني بعض من يسوق أحاديث الأعاجم من أهل الكتاب، ممن قد أسلم، مما توارثوا من علم ذي القرنين، أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر اسمه مرزبا بن مردبة اليوناني، من ولد يونن بن يافث بن نوح. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي، وكان خالد رجلا قد أدرك الناس « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذى القرنين فقال مَلِكٌ مَسَحَ الأرْضَ مِنْ تَحْتِها بالأسْبابِ » قال خالد: وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقول: يا ذا القرنين، فقال: اللهمّ غفرا، أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء، حتى تسموا بأسماء الملائكة؟ فإن كان رسول الله قال ذلك، فالحق ما قال، والباطل ما خالفه. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، قال: فحدثني من لا أتهم عن وهب بن منبه اليماني، وكان له علم بالأحاديث الأول ، أنه كان يقول: ذو القرنين رجل من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد غيره، وكان اسمه الإسكندر. وإنما سمي ذا القرنين أن صفحتي رأسه كانتا من نحاس ؛ فلما بلغ وكان عبدا صالحا، قال الله عزّ وجل له: يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض، وهي أمم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض ، ومنهم أمتان بينهما طول الأرض كله ؛ ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض كله، وأم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فأما الأمتان اللتان بينهما طول الأرض: فأمة عند مغرب الشمس، يقال لها: ناسك. وأما الأخرى: فعند مطلعها يقال لها: منسك. وأما اللتان بينهما عرض الأرض، فأمة في قطر الأرض الأيمن، يقال لها: هاويل. وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر ، فأمة يقال لها: تاويل ؛ فلما قال الله له ذلك، قال له ذو القرنين: إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم لا يَقدر قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثني إليها، بأيّ قوة أكابدهم، وبأيّ جمع أكاثرهم، وبأيّ حيلة أكايدهم، وبأيّ صبر أقاسيهم، وبأيّ لسان أناطقهم، وكيف لي بأن أفقه لغاتهم، وبأىّ سمْع أعي قولهم، وبأيّ بصر أنفذهم، وبأيّ حجة أخاصمهم، وبأيّ قلب أعقل عنهم، وبأيّ حكمة أدبر أمرهم، وبأيّ قسط أعدل بينهم، وبأيّ حلم أصابرهم، وبأيّ معرفة أفصل بينهم، وبأيّ علم أتقن أمورهم، وبأيّ يد أسطو عليهم، وبأيّ رجل أطؤهم، وبأيّ طاقة أخصمهم، وبأيّ جند أقاتلهم، وبأيّ رفق أستألفهم، فإنه ليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم، ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم. وأنت الربّ الرحيم. الذي لا يكلِّف نفسا إلا وسعها، ولا يحملها إلا طاقتها، ولا يعنتها ولا يفدحها، بل أنت ترأفها وترحمها. قال الله عزّ وجلّ: إني سأطوّقك ما حمَّلتك، أشرح لك صدرك، فيسع كلّ شيء وأشرح لك فهمك فتفقه كلّ شيء، وأبسط لك لسانك، فتنطق بكلّ شيء، وأفتح لك سمعك فتعي كلّ شيء، وأمدّ لك بصرك، فتنفذ كلّ شيء، وأدبر أمرك فتتقن كلّ شيء، وأحصي لك فلا يفوتك شيء، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء، وأشدّ لك ظهرك، فلا يهدّك شيء، وأشدّ لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأشدّ لك قلبك فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة، فأجعلهما جندا من جنودك، يهديك النور أمامك، وتحوطك الظلمة من ورائك، وأشدّ لك عقلك فلا يهولك شيء، وأبسط لك من بين يديك، فتسطو فوق كلّ شيء، وأشدّ لك وطأتك، فتهدّ كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يرومك شيء. ولما قيل له ذلك، انطلق يؤم الأمة التي عند مغرب الشمس، فلما بلغهم، وجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله، وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله، وألسنة مختلفة وأهواء متشتتة، وقلوبا متفرّقة ، فلما رأى ذلك كاثرهم بالظلمة، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها، فأحاطتهم من كلّ مكان، وحاشتهم حتى جمعتهم في مكان واحد، ثم أخذ عليهم بالنور، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته، فمنهم من آمن له، ومنهم من صدّ، فعمد إلى الذين تولوا عنه. فأدخل عليهم الظلمة .فدخلت في أفواههم وأنوفهم وآذانهم وأجوافهم، ودخلت في بيوتهم ودورهم، وغشيتهم من فوقهم، ومن تحتهم ومن كلّ جانب منهم، فماجوا فيها وتحيروا ، فلما أشفقوا أن يهلكوا فيها عجوا إليه بصوت واحد، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة، فدخلوا في دعوته، فجنَّد من أهل المغرب أمما عظيمة، فجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم من خلفهم وتحرسهم من حولهم، والنور أمامهم يقودهم ويدلهم، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى، وهو يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يقال لها هاويل. وسخر الله له يده وقلبه ورأيه وعقله ونظره وائتماره، فلا يخطئ إذا ائتمر، وإذا عمل عملا أتقنه. فانطلق يقود تلك الأمم وهي تتبعه، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاضة بنى سفنا من ألواح صغار أمثال النعال، فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم وتلك الجنود، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها، ثم دفع إلى كلّ إنسان لوحا فلا يكرثه حمله، فلم يزل كذلك دأبه حتى انتهى إلى هاويل، فعمل فيها كعمله في ناسك. فلما فرغ منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنودا، كفعله في الأمتين اللتين قبلها، ثم كر مقبلا في ناحية الأرض اليسرى، وهو يريد تاويل وهي الأمة التي بحيال هاويل، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كله ؛ فلما بلغها عمل فيها، وجند منها كفعله فيما قبلها ، فلما فرغ منها عطف منها إلى الأمم التي وسط الأرض من الجن وسائر الناس، ويأجوج ومأجوج ، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك نحو المشرق، قالت له أمة من الإنس صالحة: يا ذا القرنين، إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله، وكثير منهم مشابه للإنس ، وهم أشباه البهائم، يأكلون العشب، ويفترسون الدوابّ والوحوش كما تفترسها السباع، ويأكلون خشاش الأرض كلها من الحيات والعقارب، وكلّ ذي روح مما خلق الله في الأرض، وليس لله خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، ولا يزداد كزيادتهم، ولا يكثر ككثرتهم، فإن كانت لهم مدّة على ما نرى من نمائهم وزيادتهم، فلا شكّ أنهم سيملئون الأرض، ويجلون أهلها عنها ويظهرون عليها فيفسدون فيها، وليست تمرّ بنا سنة منذ جاورناهم إلا ونحن نتوقعهم، وننتظر أن يطلع علينا أوائلهم من بين هذين الجبلين فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا أعدوا إليّ الصخور والحديد والنحاس حتى أرتاد بلادهم، وأعلم علمهم، وأقيس ما بين جبليهم. ثم انطلق يؤمهم حتى دفع إليهم وتوسط بلادهم، فوجدهم على مقدار واحد، ذكرهم وأنثاهم، مبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخالب في موضع الأظفار من أيدينا، وأضراس وأنياب كأضراس السباع وأنيابها. وأحناك كأحناك الإبل ، قوّة تسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرّة من الإبل، أو كقضم الفحل المسنّ، أو الفرس القويّ، وهم هلب، عليهم من الشعر في أجسادهم ما يواريهم، وما يتقون به الحرّ والبرد إذا أصابهم ، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان: إحداهما وبرة ظهرها وبطنها، والأخرى زغبة ظهرها وبطنها، تَسعانه إذا لبسهما، يلتحف إحداهما، ويفترش الأخرى، ويصيف في إحداهما، ويشتي في الأخرى، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلا وقد عرف أجله الذى يموت فيه، ومنقطع عمره، وذلك أنه لا يموت ميت من ذكورهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد، ولا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد، فإذا كان ذلك أيقن بالموت، وهم يرزقون التنين أيام الربيع، ويستمطرونه إذا تحينوه كما نستمطر الغيث لحينه، فيقذفون منه كلّ سنة بواحد، فيأكلونه عامهم كله إلى مثله من العام القابل، فيغنيهم على كثرتهم ونمائهم، فإذا أمطروا وأخصبوا وعاشوا وسمنوا، ورؤي أثره عليهم، فدرّت عليهم الإناث، وشَبِقت منهم الرجال الذكور، وإذا أخطأهم هَزَلوا وأجدبوا، وجفرت الذكور، وحالت الإناث، وتبين أثر ذلك عليهم، وهم يتداعَون تداعي الحَمام، ويعوُون عُواء الكلاب، ويتسافدون حيث التقَوا تسافد البهائم. فلما عاين ذلك منهم ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصَّدَفين، فقاس ما بينهما وهو في منقطع أرض الترك مما يلي مشرق الشمس، فوجد بُعد ما بينهما مئة فرسخ ؛ فلما أنشأ في عمله، حفر له أساسا حتى بلغ الماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا، وجعل حشوه الصخور، وطينه النحاس، يذاب ثم يُصبّ عليه، فصار كأنه عِرْق من جبل تحت الأرض، ثم علاه وشَرّفه بزُبَر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلاله عِرْقا من نحاس أصفر، فصار كأنه بُرد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد ، فلما فرغ منه وأحكمه ، انطلق عامدا إلى جماعة الإنس والجن ، فبينا هو يسير، دفع إلى أمة صالحة يهدون بالحقّ وبه يعدلون، فوجد أمة مقسطة مقتصدة، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، ويتآسون ويتراحمون، حالهم واحدة، وكلمتهم واحدة، وأخلاقهم مشتبهة، وطريقتهم مستقيمة ، وقلوبهم متألفة، وسيرتهم حسنة، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليس على بيوتهم أبواب، وليس عليهم أمراء، وليس بينهم قضاة، وليس بينهم أغنياء، ولا ملوك، ولا أشراف، ولا يتفاوتون، ولا يتفاضلون، ولا يختلفون، ولا يتنازعون، ولا يستبُّون، ولا يقتتلون ، ولا يَقْحَطون، ولا يحردون، ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس، وهم أطول الناس أعمارا، وليس فيهم مسكين، ولا فقير، ولا فظّ، ولا غليظ ، فلما رأى ذلك ذو القرنين من أمرهم، عجب منه! وقال: أخبروني، أيها القوم خبركم، فإني قد أحصيت الأرض كلها برّها وبحرها، وشرقها وغربها، ونورها وظلمتها، فلم أجد مثلكم، فأخبروني خبركم ؛ قالوا: نعم، فسلنا عما تريد، قال: أخبروني، ما بال قبور موتاكم على أبواب بيوتكم؟ قالوا: عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت، ولا يخرج ذكره من قلوبنا ، قال: فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب؟ قالوا: ليس فينا متهم، وليس منا إلا أمين مؤتمن ؛ قال: فما لكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا: لا نتظالم ، قال : فما بالكم ليس فيكم حكام؟ قالوا: لا نختصم ، قال: فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا: لا نتكاثر ؛ قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا: لا نتكابر ، قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من قبل ألفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ؛ قال: فما بالكم لا تستبون ولا تقتتلون؟ قالوا: من قبل أنا غلبنا طبائعنا بالعزم، وسسنا أنفسنا بالأحلام ، قال: فما بالكم كلمتكم واحدة، وطريقتكم مستقيمة مستوية؟ قالوا: من قبل أنا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضا ؛ قال: فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم، واعتدلت سيرتكم؟ قالوا: صحّت صدورنا، فنـزع بذلك الغلّ والحسد من قلوبنا ؛ قال: فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من قبل أنا نقتسم بالسوية ؛ قال: فما بالكم ليس فيكم فظّ ولا غليظ؟ قالوا: من قبل الذّل والتواضع ؛ قال: فما جعلكم أطول الناس أعمارا؟ قالوا: من قبل أنا نتعاطى الحقّ ونحكم بالعدل ؛ قال : فما بالكم لا تُقْحَطون؟ قالوا: لا نغفل عن الاستغفار ، قال: فما بالكم لا تَحْرَدون؟ قالوا: من قبل أنا وطأنا أنفسنا للبلاء منذ كنا ، وأحببناه وحرصنا عليه، فعرينا منه ، قال: فما بالكم لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا: لا نتوكل على غير الله، ولا نعمل بالأنواء والنجوم ، قال: حدِّثوني أهكذا وجدتم آباءكم يفعلون؟ قالوا: نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويَعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلُمون عمن جهل عليهم، ويستغفرون لمن سبهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدّون آماناتهم، ويحفظون وقتهم لصلاتهم، ويُوَفُّون بعهودهم، ويصدُقون في مواعيدهم، ولا يرغبون عن أكفائهم، ولا يستنكفون عن أقاربهم، فأصلح الله لهم بذلك أمرهم، وحفظهم ما كانوا أحياء، وكان حقا على الله أن يحفطهم في تركتهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : إنَّ يأجُوجَ ومأْجُوجَ يَحْفُرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حتى إذَا كادُوا يَرَونَ شُعاعَ الشَّمْسِ قال الَّذِي عَلَيْهِمْ ارْجِعُوا فَتَحْفُرُونَهُ غَدًا، فَيُعِيدُهُ اللهُ وَهُوَ كَهَيْئتِهِ يَوْمَ تَرَكُوهُ، حتى إذَا جاءَ الوَقْتُ قالَ: إنْ شاءَ اللهُ، فَيَحْفُرُونَهُ ويخْرُجُونَ على النَّاسِ ، فَينْشِفُونَ الميَاهَ، وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ فِي حُصُونِهِمْ، فَيرْمُونَ بِسِهامِهِمْ إلى السَّماءِ، فَيرجِعُ فيها كَهَيْئَةِ الدِّماءِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنا أَهْلَ الأرضِ، وَعَلَوْنا أهْلَ السَّماءِ، فَيَبْعَثُ اللهُ عَلَيْهِمْ نَغْفا في أقْفائِهمْ فَتَقْتُلُهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنَّ دَوَابَّ الأرْضِ لَتَسْمَنُ وتَشْكرُ مِنْ لُحُومِهِمْ « . » حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري ثم الظفري، عن محمود بن لبيد أخي بني عبد الأشهل، وعن أبي سعيد الخدريّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يُفْتَحُ يَأْجُوجُ ومأْجُوجَ فَيَخْرُجُونَ على النَّاسِ كمَا قال الله عز وجل وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَغْشَوْنَ الأرْضَ، ويَنْحازُ المُسْلِمُونَ عَنْهُمْ إلى مَدَائِنِهمْ وحُصونِهِمْ، وَيَضُمَّونَ إلَيْهِمْ مَوَاشِيهِمْ، فَيَشْرَبُونَ مِياهَ الأرْضِ، حتى إنَّ بَعْضَهُم لَيَمُرُّ بالنَّهْرِ فَيَشْرَبُونَ ما فِيهِ، حتى يَتْركُوه يَابِسًا، حتى إنَّ مَنْ بَعْدَهُم لَيَمُرُّ بذلكَ النَّهْرِ، فَيَقُولُ: لَقَدْ كانَ هَا هُنا ماءٌ مَرَّةً، حتى لمْ يَبْقَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إلا انحازَ إلى حِصْنٍ أوْ مَدِينَةٍ، قالَ قائِلُهُم: هَؤْلاء أهْلُ الأرْضِ قَدْ فَرَغْنا مِنْهُمْ، بَقِيَ أهْلُ السَّماءِ، قالَ: ثُمَّ يَهُزُّ أحَدُهُمْ حَرْبَتَهُ، ثُمَّ يَرْمي بها إلى السَّماءِ، فَتَرْجِعُ إلَيْهِ مُخَضبَةً دَما للبلاء والفِتْنَةِ ، فَبَيْنَا هُمْ على ذلكَ، بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ دُودًا في أعناقِهِمْ كالنَّغَفِ، فَتَخْرُجُ فِي أعْناقِهِمْ فيُصْبِحُون مَوْتَى، لا يُسْمَعُ لَهُمْ حِسٌّ، فَيَقُولُ المُسْلِمُونَ: ألا رَجُلٌ يَشْرِي لنَا نَفْسَهُ، فَيَنْظُرُ ما فعل العدوّ، قال: فَيَتَجَرَّدُ رَجُلٌ مِنْهُمْ لذلكَ مُحْتَسِبا لِنَفْسِهِ، قَدْ وَطَّنَها على أنَّهُ مَقْتُولٌ، فَيَنـزلُ فَيَجِدُهُمْ مَوْتَى، بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، فَيُنادِي: يا مَعْشَرَ المُسْلِمينَ، ألا أبشرُوا، فإنَّ اللهَ قَدْ كَفاكُمْ عَدُوَّكُمْ، فيَخْرُجونَ مِنْ مَدَائنهم وَحُصُونِهِمْ، وَيُسَرّحُونَ مَوَاشِيَهُمْ، فَمَا يَكُونُ لَهَا رَعْيٌ إلا لُحُومُهُمْ، فَتشْكرُ عَنْهُمْ أحْسَنَ ما شَكَرَتْ عَنْ شَيْءٍ مِنَ النَّباتِ أصَابَتْ قَطّ » . حدثني بحر بن نصر، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني معاوية، عن أبي الزاهرية وشريح بن عبيد: أن يأجوج ومأجوج ثلاثة أصناف: صنف طولهم كطول الأرز، وصنف طوله وعرضه سواء، وصنف يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى فتغطي سائر جسده. حدثني محمد بن سعد، قال: ثنى أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) قال: كان أبو سعيد الخدريّ: يقول: إن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يَمُوتُ رَجُلٌ مِنْهُمْ حتى يُولَدَ لِصُلْبِهِ ألْفُ رَجُل » . قال: وكان عبد الله بن مسعود يعجب من كثرتهم ويقول: لا يموت من يأجوج ومأجوج أحد حتى يولد له ألف رجل من صلبه. فالخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه في قصة يأجوج ومأجوج، يدلّ على أن الذين قالوا لذي القرنين ( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) إنما أعلموه خوفَهم ما يحدُث منهم من الإفساد في الأرض، لا أنهم شَكَوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم. والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السدّ الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد. فإذا كان ذلك كذلك بالذي بيَّنا، فالصحيح من تأويل قوله ( إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ) إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض. وقوله ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ) كأنهم نَحَوا به نَحو المصدر من خَرْج للرأس ، وذلك جعله ، وقرأته عامَّة قرّاء الكوفيين ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا ) بالألف، وكأنهم نحوا به نحو الاسم. وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدّا بيننا وبين هؤلاء القوم. وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأه ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا ) بالألف، لأن القوم فيما ذُكر عنهم، إنما عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السدِّ، وقد بين ذلك بقوله: ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) ولم يعرضوا عليه جزية رؤوسهم. والخراج عند العرب: هو الغلة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجًا ) قال: أجرا ( عَلَى أن تجعل بيننا وبينهم سدا ) حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خَرَاجا ) قال: أجرا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قوله ( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا ) قال: أجرا. وقوله: ( عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) يقول: قالوا له: هل نجعل لك خراجا حتى أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوح حاجزا يحجز بيننا وبينهم، ويمنعهم من الخروج إلينا. وهو السدّ. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ( 95 ) يقول تعالى ذكره: قال ذو القرنين: الذي مكنني في عمل ما سألتموني من السدّ بينكم وبين هؤلاء القوم ربي، ووطأه لي، وقوّانى عليه، خير من جُعلكم، والأجرة التي تعرضونها عليّ لبناء ذلك، وأكثر وأطيب، ولكن أعينوني منكم بقوة، أعينوني بفَعَلة وصناع يُحسنون البناء والعمل. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) قال: برجال ( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) وقال ما مكني، فأدغم إحدى النونين في الأخرى، وإنما هو ما مكنني فيه. وقوله: ( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) يقول: أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج ردما. والردم: حاجز الحائط والسدّ، إلا أنه أمنع منه وأشدّ، يقال منه: قد ردم فلان موضع كذا يَردِمه رَدْما ورُدَاما ويقال أيضا: رَدَّم ثوبه يردمه، وهو ثوب مُرَدّم: إذا كان كثير الرقاع ، ومنه قول عنترة: هَـلْ غَـادَرَ الشُّـعَرَاءُ مِـنْ مُـتَرَدَّمِ أَمْ هَـلْ عَـرَفْتَ الـدَّارَ بَعْـدَ تَـوَهْمِ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال : ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ) قال: هو كأشد الحجاب. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: « ذكر لنا أن رجلا قال: يا نبي الله قد رأيت سدّ يأجوج ومأجوج، قال انْعَتْهُ لي قال: كأنه البرد المحبَّر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء، قالَ قَدْ رأيتَهُ » . القول في تأويل قوله تعالى : آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ( 96 ) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ( 97 ) يقول عزّ ذكره: قال ذو القرنين للذين سألوه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداّ ( آتُونِي ) أي جيئوني بِزُبَرِ الحديد، وهي جمع زُبْرة ، والزُّبْرة: القطعة من الحديد. كما حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ( زُبَرَ الْحَدِيدِ ) يقول: قطع الحديد. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال: قطع الحديد. حدثني إسماعيل بن سيف، قال: ثنا عليّ بن مسهر، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قوله: ( زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال: قطع الحديد. حدثني محمد بن عمارة الأسديّ، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى عن مجاهد، قوله ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال: قطع الحديد. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) أي فَلَق الحديد. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال: قطع الحديد. حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس : ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) قال: قطع الحديد. وقوله ( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) يقول عزّ ذكره: فآتو زُبَر الحديد، فجعلها بين الصدفين حتى إذا ساوى بين الجبلين بما جعل بينهما من زُبر الحديد، ويقال: سوّى. والصدفان: ما بين ناحيتي الجبلين ورؤوسهما ، ومنه قوله الراجز: قـدْ أخَـذَتْ مـا بينَ عَرْضِ الصُّدُفَيْنِ ناحِيَتَيْهـــا وأعـــالي الــرُّكْنَيْن وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) يقول: بين الجبلين. حدثني محمد، بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قال: هو سدّ كان بين صَدَفين، والصدفان: الجبلان. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( الصَّدَفَيْنِ ) رؤوس الجبلين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا مُعاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) يعني الجبلين، وهما من قبل أرمينية وأذربيجان. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) وهما الجبلان. حدثني أحمد بن يوسف، قال: أخبرنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه قرأها ( بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) منصوبة الصاد والدال، وقال: بين الجبلين، وللعرب في الصدفين: لغات ثلاث، وقد قرأ بكلّ واحدة منها جماعة من القرّاء: الفتح في الصاد والدال، وذلك قراءة عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة ، والضمّ فيهما ، وهي قراءة أهل البصرة ، والضم في الصاد وتسكين الدال، وذلك قراءة بعض أهل مكة والكوفة ، والفتح في الصاد والدال أشهر هذه اللغات، والقراءة بها أعجب إليّ، وأن كنت مستجيزا القراءة بجميعها ، لإتفاق معانيها. وإنما اخترت الفتح فيهما لما ذكرت من العلة. وقوله قَالَ انْفُخُوا ) يقول عزّ ذكره، قال للفعلة: انفخوا النار على هذه الزبر من الحديد. وقوله: ( حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا ) وفي الكلام متروك، وهو فنفخوا، حتى إذا جعل ما بين الصدفين من الحديد نارا ( قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) فاختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة، وبعض أهل الكوفة ( قَالَ آتُونِي ) بمد الألف من ( آتُونِي ) بمعنى: أعطوني قطرا أفرغ عليه. وقرأه بعض قرّاء الكوفة، قال ( ائْتُونِي ) بوصل الألف، بمعنى: جيئوني قِطْرا أفرغ عليه، كما يقال : أخذت الخطام، وأخذت بالخطام، وجئتك زيدا، وجئتك بزيد. وقد يتوجه معنى ذلك إذا قرئ كذلك إلى معنى أعطوني، فيكون كأن قارئه أراد مد الألف من آتوني، فترك الهمزة الأولى من آتوني، وإذا سقطت الأولى همز الثانية. وقوله: ( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) يقول: أصبّ عليه قِطرا، والقِطْر: النحاس. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) قال: القطر: النحاس. حدثني محمد بن عمرو ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا مُعاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) يعني النحاس. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) أي النحاس ليلزمه به. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) قال: نحاسا. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: القِطر: الحديد المذاب، ويستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر: حُسـاما كَلَـوْنِ المِلْـحِ صَـافٍ حَديدُه جُـزَارًا مِـنْ أقْطـارِ الحَـديدِ المُنَعَّتِ وقوله: ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) يقول عزّ ذكره: فما اسطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا الردم الذي جعله ذو القرنين حاجزا بينهم، وبين من دونهم من الناس، فيصيروا فوقه وينـزلوا منه إلى الناس. يقال منه: ظهر فلان فوق البيت: إذا علاه ، ومنه قول الناس: ظهر فلان على فلان: إذا قهره وعلاه وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) يقول: ولم يستطيعوا أن ينقبوه من أسفله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) من قوله ( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) أي من أسفله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) قال : ما استطاعوا أن ينـزعوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين ، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) قال: أن يرتقوه ( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، ( فما استطاعوا أن يظهروه ) قال: أن يرتقُوه ( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ( فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ ) قال: يعلوه ( وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) أي ينقبوه من أسفله. واختلف أهل العربية في وجه حذف التاء من قوله: ( فَمَا اسْطَاعُوا ) فقال بعض نحويي البصرة: فعل ذلك لأن لغة العرب أن تقول: اسطاع يسطيع، يريدون بها: استطاع يستطيع، ولكن حذفوا التاء إذا جُمعت مع الطاء ومخرجهما واحد. قال: وقال بعضهم: استاع، فحذف الطاء لذلك. وقال بعضهم: أسطاع يسطيع، فجعلها من القطع كأنها أطاع يطيع، فجعل السين عوضًا من إسكان الواو . وقال بعض نحوييّ الكوفة: هذا حرف استعمل فكثر حتى حذف. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ( 98 ) يقول عزّ ذكره: فلما رأى ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج لا يستطيعون أن يظهروا ما بنى من الردم، ولا يقدرون على نقبه، قال: هذا الذي بنيته وسويته حاجزا بين هذه الأمة، ومن دون الردم رحمة من ربي رحم بها من دون الردم من الناس، فأعانني برحمته لهم حتى بنيته وسوّيته ليكفّ بذلك غائلة هذه الأمة عنهم. وقوله ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) يقول: فإذا جاء وعد ربي الذي جعله ميقاتا لظهور هذه الأمة وخروجها من وراء هذا الردم لهم. جعله دكاء، يقول: سواه بالأرض، فألزقه بها، من قولهم: ناقة دكاء: مستوية الظهر لا سنام لها. وإنما معنى الكلام: جعله مدكوكا، فقيل: دكاء. وكان قتادة يقول في ذلك ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) قال: لا أدري الجبلين يعني به، أو ما بينهما. وذُكر أن ذلك يكون كذلك بعد قتل عيسى ابن مريم عليه السلام الدجال. * ذكر الخبر بذلك: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، قال: ثنا هشيم بن بشير، قال: أخبرنا العوّام، عن جبلة بن سحيم، عن مؤثر، وهو ابن عفارة العبدي ، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لَقِيتُ لَيْلةَ الإسْرَاءِ إبْرَاهيمَ وَمُوسَى وعِيسَى فَتَذَاكرُوا أمْرَ السَّاعةِ، وَرَدُّوا الأمْرَ إلى إبْرَاهِيمَ فَقالَ إبْرَاهيمُ: لا عِلْمَ لي بِها، فَرَدُّوا الأمْرَ إلى مُوسَى، فَقالَ مُوسَى: لا عِلْمَ لي بها، فَرَدُّوا الأمْرَ إلى عِيسَى ؛ قَالَ عِيسَى: أمَّا قِيامُ السَّاعةِ لا يَعْلَمُهُ إلا اللهُ، وَلَكِنَّ رَبّي قَدْ عَهِدَ إليَّ بِمَا هُوَ كائِنٌ دُونَ وَقْتِها، عَهِدَ إليَّ أنَّ الدَّجَّالَ خارِجٌ، وأنَّهُ مُهْبِطِي إلَيْهِ، فَذَكَرَ أنَّ مَعَهُ قَصَبَتَيْنِ، فإذَا رآنِي أهْلَكَهُ اللَّهُ، قالَ: فَيَذُوبُ كما يذوبُ الرَّصَاصُ، حتى إنَّ الحَجَرَ والشَّجَرَ لَيَقُولُ: يا مُسْلِمُ هَذَا كافِرٌ فاقْتُلْهُ، فَيُهْلِكُهُمُ اللهُ، ويَرْجِعُ الناسُ إلى بِلادِهِمْ وأوْطانِهمْ فَيَسْتَقْبِلُهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ مِنْ كُلِّ حَدبٍ يَنْسِلُونَ، لا يَأْتُونَ عَلى شَيْءٍ إلا أكَلُوهُ، ولا يَمُرُّونَ على ماءٍ إلا شَرِبُوهُ، فَيْرِجِعُ النَّاسُ إليَّ، فَيَشْكُونَهُمُ ، فأَدْعُو الله عليهم فيميتهم حتى تَجْوَى الأرْضُ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِمْ، فَيَنـزلُ المَطَرُ، فَيَجُرُّ أجْسادَهُم، فيُلْقِيهِمْ فِي البَحْرِ، ثُمَّ يَنْسِفُ الجِبَالَ حتى تَكُونَ الأرْضُ كالأدِيمِ، فَعَهِدَ إليَّ رَبّي أنَّ ذلكَ إذا كان كذلك، فإنَّ الساعة مِنْهُمُ كالحامِلِ المُتِمِّ الَّتِي لا يَدْرِي أهْلُها مَتى تَفْجَؤُهُمْ بِوِلادِها ، لَيْلا أوْ نَهَارًا » . حدثني عبيد بن إسماعيل، قال: ثنا المحاربيّ، عن أصبع بن زيد، عن العوّام بن حوشب، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر بن عَفازَة، عن عبد الله بن مسعود، قال: لما أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. فتذاكروا أمر الساعة. فذكر نحو حديث إبراهيم الدورقي عن هشيم، وزاد فيه: قال العوّام بن حوشب: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال الله عز وجل حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالَ: ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) يقول: وكان وعد ربي الذي وعد خلقه في دكّ هذا الردم، وخروج هؤلاء القوم على الناس، وعيثهم فيه، وغير ذلك من وعده حقا، لأنه لا يخلف الميعاد فلا يقع غير ما وعد أنه كائن. القول في تأويل قوله تعالى : وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ( 99 ) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ( 100 ) يقول تعالى ذكره: وتركنا عبادنا يوم يأتيهم وعدنا الذي وعدناهم، بأنا ندكّ الجبال ونَنْسِفها عن الأرض نسفا، فنذرها قاعا صفصفا، بعضهم يموج في بعض، يقول: يختلط جنهم بإنسهم. كما ثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب القمي، عن هارون بن عنترة، عن شيخ من بني فزارة، في قوله ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال: إذا ماج الجنّ والإنس، قال إبليس: فأنا أعلم لكم علم هذا الأمر، فيظعن إلى المشرق، فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض، ثم يظعن إلى المغرب، فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض، ثم يصعد يمينا وشمالا إلى أقصى الأرض، فيجد الملائكة قطعوا الأرض، فيقول: ما من مَحِيص، فبينا هو كذلك، إذ عرض له طريق كالشراك، فأخذ عليه هو وذرّيته، فبينما هم عليه، إذ هجموا على النار، فأخرج الله خازنا من خُزّان النار، قال: يا إبليس ألم تكن لك المنـزلة عند ربك، ألم تكن في الجنان؟ فيقول: ليس هذا يوم عتاب، لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه، فيقول: فإن الله قد فرض عليك فريضة، فيقول: ما هي؟ فيقول: يأمرك أن تدخل النار، فيتلكأ عليه، فيقول به وبذرّيته بجناحيه، فيقذفهم في النار، فَتزفر النار زفرة فلا يبقى مَلَك مقرّب، ولا نبيّ مرسل إلا جثى لركبتيه. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) قال: هذا أوّل القيامة، ثم نفخ في الصور على أثر ذلك فجمعناهم جمعا ، ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في الصُّور، وما هو، وما عُنِي به. واخترنا الصواب من القول في ذلك بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع، غير أنا نذكر في هذا الموضع بعض ما لم نذكر في ذلك الموضع من الأخبار. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: ثنا أسلم، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أعرابيا سأله عن الصُّور، قال « قَرنٌ يُنْفَخُ فِيهِ » . حدثنا أبو كريب، قال: ثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن سليمان التيمي، عن العجلي، عن بشر بن شغاف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، بنحوه. حدثنا محمد بن الحارث القنطري، قال: ثنا يحيى بن أبي بكير، قال: كنت في جنازة عمر بن ذرّ فلقيت مالك بن مغول، فحدثنا عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخُدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحبُ القَرْنِ قَدْ الْتَقَمَ وَحَنى الجَبَهَةَ ، وأصْغَى بالأذُنِ مَتَى يُؤْمَرُ ، فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قُولُوا حَسْبُنا الله وعَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا، وَلَوِ اجْتَمَعَ أهْلُ مِنًى ما أقالُوا ذلك القَرْنَ » كذا قال، وإنما هو ما أقلوا. حدثني أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن الحجاج، عن عطية، عن أبي سعيد الخُدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ، وَحَنى ظَهْرَهُ وَجَحَظَ بعَيْنَيْهِ ، قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال : قولوا: حَسْبُنا اللهُ، تَوَكَّلْنا عَلى اللهِ » . حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عطية، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كَيْفَ أنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ القَرْنَ، وَحَنى جَبْهَتَهُ يَسْتَمِعُ مَتى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ فِيهِ ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف نقول؟ قال : تَقُولُونَ: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، تَوكَّلْنا على اللهِ » . حدثنا أبو كريب والحسن بن عرفة، قالا ثنا أسباط، عن مطرف، عن عطية، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثله. حدثني يعقوب، قال: ثنا شعيب بن حرب، قال: ثنا خالد أبو العلاء، قال: ثنا عطية العوفيّ، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كَيْفَ أَنْعَمُ وصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَحَنى الجَبْهَةَ، وأصْغَى بالأذُنِ مَتَى يُؤْمَرُ أنْ يَنْفُخَ، وَلَوْ أنَّ أهْلَ مِنًى اجْتَمَعُوا على القَرْنِ على أن يُقِلُّوهُ مِنَ الأرْضِ، ما قَدَرُوا عليه « قال: فأُبِلسَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشقّ عليهم ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قُولُوا: حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، عَلى اللهِ تَوَكَّلْنا » . حدثنا أبو كريب، قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن فلان، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب الْقُرَظيّ، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَمَّا فَرَغَ اللهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ، خَلَقَ الصُّورَ، فأعطاهُ إسْرَافِيلَ، فَهُوَ وَضَعَهُ عَلى فِيهِ شاخِصٌ بَصَرُهُ إلى العَرْشِ يَنْتَظِرُ مَتى يُؤْمَرُ ، قال أبو هريرة: يا رسول الله، ما الصُّور؟ قال : قَرْنٌ ، قال: وكيف هو؟ قال : قَرْنٌ عَظِيمٌ يُنْفَخُ فِيهِ ثَلاثُ نَفَخاتٍ: الأولى: نَفْخَةُ الفَزَعِ، والثَّانِيَةُ: نَفْخَةُ الصَّعْقِ، والثَّالِثَةُ: نَفْخَةُ القِيامِ لِرَبّ العالَمِينَ « . » وقوله ( فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ) يقول: فجمعنا جميع الخلق حينئذ لموقف الحساب جميعا. وقوله ( وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ) يقول: وأبرزنا جهنم يوم ينفخ في الصور، فأظهرناها للكافرين بالله، حتى يروها ويعاينوها كهيئة السراب ، ولو جعل الفعل لها قيل: أعرضت إذا استبانت. كما قال عمرو بن كلثوم: وأعْــرَضَتِ اليَمامَــةُ واشْـمَخَرَّتْ كأسْـــياف بـــأيْدي مُصْلِتِينــا وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأوْيل.. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال : ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، قال: ثنا أبو الزعراء، عن عبد الله، قال: يقوم الخلق لله إذا نفخ في الصور، قيام رجل واحد، ثم يتمثل الله عزّ وجلّ للخلق فما يلقاه أحد من الخلائق كان يعبد من دون الله شيئا إلا وهو مرفوع له يتبعه، قال: فيلقى اليهود فيقول : من تعبدون؟ قال: فيقولون: نعبد عُزَيرا، قال: فيقول: هل يسركم الماء؟ فيقولون نعم، فيريهم جهنم وهي كهيئة سراب، ثم قرأ ( وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا ) ثم يلقى النصارى فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد المسيح، فيقول: هل يسركم الماء، فيقولون نعم، قال: فيريهم جهنم وهي كهيئه السراب، ثم كذلك لمن كان يعبد من دون الله شيئا، ثم قرأ عبد الله وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ( 101 ) يقول تعالى: وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين الذين كانوا لا ينظرون في آيات الله، فيتفكَّرون فيها ولا يتأمَّلون حججه، فيعتبرون بها، فيتذكرون وينيبون إلى توحيد الله، وينقادون لأمره ونهيه، وكانوا لا يستطيعون سمعا ، يقول : وكانوا لا يطيقون أن يسمعوا ذكر الله الذي ذكَّرهم به، وبيانه الذي بيَّنه لهم في آي كتابه، بخذلان الله إياهم، وغلبة الشقاء عليهم، وشُغلهم بالكفر بالله وطاعة الشيطان، فيتعظون به، ويتدبَّرون، فيعرفون الهدى من الضلالة، والكفر من الإيمان. وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثنا محمد بن عمرو، قال : ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ) قال: لا يعقلون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ) قال: لا يعلمون. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) الآية، قال: هؤلاء أهل الكفر. القول في تأويل قوله تعالى : أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا ( 102 ) يقول عزّ ذكره: أفظن الذين كفروا بالله من عبدة الملائكة والمسيح، أن يتخذوا عبادي الذين عبدوهم من دون الله أولياء، يقول كلا بل هم لهم أعداء. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله ( أفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ يَتَّخِذُوا عِبادي مِنْ دُونِي أوْلياءَ ) قال: يعني من يعبد المسيح ابن مريم والملائكة، وهم عباد الله، ولم يكونوا للكفار أولياء. وبهذه القراءة، أعني بكسر السين من ( أفَحَسِبَ ) بمعنى الظنّ قرأت هذا الحرف قرّاء الأمصار ورُوي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وعكرمة ومجاهد أنهم قرءوا ذلك ( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بتسكين السين، ورفع الحرف بعدها، بمعنى: أفحسبهم ذلك: أي أفكفاهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء من عباداتي وموالاتي. كما حُدثت عن إسحاق بن يوسف الأزرق، عن عمران بن حدير، عن عكرمة ( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) قال: أفحسبهم ذلك ، والقراءة التي نقرؤها هي القراءة التي عليها قرّاء الأمصار ( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ ) بكسر السين، بمعنى أفظنّ ، لإجماع الحجة من القرّاء عليها. وقوله ( إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نزلا ) يقول: أعددنا لمن كفر بالله جهنم منـزلا. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ( 103 ) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( 104 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) يا محمد لهؤلاء الذين يبغون عنتك ويجادلونك بالباطل، ويحاورونك بالمسائل من أهل الكتابين: اليهود، والنصارى ( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ) أيها القوم ( بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ) يعني بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحا وفضلا فنالوا به عَطَبا وهلاكا ولم يدركوا طلبا، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلا وربحا، فخاب رجاؤه. وخسر بيعه، ووكس في الذي رجا فضله. واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بذلك، فقال بعضهم: عُنِي به الرهبان والقسوس. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا المقبري، قال: ثنا حيوة بن شريح، قال: أخبرني السكن بن أبي كريمة، أن أمه أخبرته أنها سمعت أبا خميصة عبد الله بن قيس يقول: سمعت عليّ بن أبي طالب يقول في هذه الآية ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ) هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت حيوة يقول: ثني السكن بن أبي كريمة، عن أمه أخبرته أنها سمعت عبد الله بن قيس يقول: سمعت عليّ بن أبي طالب يقول، فذكر نحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن مصعب بن سعد، قال: قلت لأبي ( وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) أهم الحَرورية؟ قال: هم أصحاب الصوامع. حدثنا فضالة بن الفضل، قال: قال بزيع: سأل رجل الضحاك عن هذه الآية ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ) قال: هم القسيسون والرهبان. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوريّ، عن منصور ، عن هلال بن بساف، عن مصعب بن سعد، قال: قال سعد: هم أصحاب الصوامع. حدثنا ابن حميد، قال ثنا جرير، عن منصور، عن ابن سعد، قال: قلت لسعد: يا أبت ( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ) أهم الحَرورية، فقال: لا ولكنهم أصحاب الصوامع، ولكن الحَرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. وقال آخرون: بل هم جميع أهل الكتابين. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد، قال: سألت أبي عن هذه الآية ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) أهم الحَرورية؟ قال: لا هم أهل الكتاب، اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا بمحمد. وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: ليس فيها طعام ولا شراب، ولكن الحَرورية الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ فكان سعد يسميهم الفاسقين. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن إبراهيم بن أبي حُرّة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، في قوله ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ) قال: هم اليهود والنصارى. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي حرب بن أبي الأسود عن زاذان، عن عليّ بن أبي طالب، أنه سئل عن قوله ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ) قال: هم كفرة أهل الكتاب ، كان أوائلهم على حقّ، فأشركوا بربهم، وابتدعوا في دينهم، الذي يجتهدون في الباطل، ويحسبون أنهم على حقّ، ويجتهدون في الضلالة، ويحسبون أنهم على هدى، فضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ثم رفع صوته، فقال: وما أهل النار منهم ببعيد. وقال آخرون: بل هم الخوارج. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان بن سَلَمة، عن سلمة بن كُهَيل، عن أبي الطفيل، قال: سأل عبد الله بن الكوّاء عليا عن قوله ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ) قال: أنتم يا أهل حَروراء. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثنا يحيى بن أيوب، عن أبي صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن أبي الصهباء البكريّ، عن عليّ بن أبي طالب، أن ابن الكوّاء سأله، عن قول الله عزّ وجلّ ( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ) فقال عليّ: أنت وأصحابك. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الطفيل، قال: قام ابن الكوّاء إلى عليّ، فقال: من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، قال: ويْلُك أهل حَروراء منهم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن خالد ابن عَشْمة ، قال: ثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله، قال: ثنى أبو الحويرث، عن نافع بن جبير بن مطعم، قال: قال ابن الكوّاء لعليّ بن أبي طالب: ما الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا؟ قال: أنت وأصحابك. والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يقال: إن الله عزّ وجلّ عنى بقوله ( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ) كلّ عامل عملا يحسبه فيه مصيبا، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الاجتهاد في ضلالتهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة، من أهل أيّ دين كانوا. وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب قوله ( أَعْمَالا ) ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : نصب ذلك لأنه لما أدخل الألف واللام والنون في الأخسرين لم يوصل إلى الإضافة، وكانت الأعمال من الأخسرين فلذلك نصب، وقال غيره: هذا باب الأفعل والفُعْلَى، مثل الأفضل والفُضْلَى، والأخسر والخُسْرَى، ولا تدخل فيه الواو، ولا يكون فيه مفسر، لأنه قد انفصل بمن هو كقوله الأفضل والفُضْلَى، وإذا جاء معه مفسر كان للأوّل والآخر، وقال : ألا ترى أنك تقول: مررت برجل حَسَن وجها، فيكون الحسن للرجل والوجه، وكذلك كبير عقلا وما أشبهه قال: وإنما جاز في الأخسرين ، لأنه ردّه إلى الأفْعَل والأفْعَلة. قال: وسمعت العرب تقول: الأوّلات دخولا والآخِرات خروجا، فصار للأوّل والثاني كسائر الباب قال: وعلى هذا يقاس. وقوله: ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) يقول: هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا : يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدَل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالا وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم. ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه ، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة، وأن أعمالهم حابطة. وعنى بقوله: ( أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) عملا والصُّنع والصَّنعة والصنيع واحد، يقال: فرس صنيع بمعنى مصنوع. القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ( 105 ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا صفتهم، الأخسرون أعمالا الذين كفروا بحُجج ربهم وأدلته، وأنكروا لقاءه ( فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ) يقول: فبطلت أعمالهم، فلم يكن لها ثواب ينفع أصحابها في الآخرة، بل لهم منها عذاب وخزي طويل ( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) يقول تعالى ذكره: فلا نجعل لهم ثقلا. وإنما عنى بذلك: أنهم لا تثقل بهم موازينهم، لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة، وليس لهؤلاء شيء من الأعمال الصالحة، فتثقل به موازينهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن شمر، عن أبي يحيى عن كعب، قال: يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) . حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن الصلت ، قال: ثنا ابن أبي الزناد، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة ، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم « يُؤْتَى بالأكُولِ الشَّرُوب الطَّوِيلِ، فَيُوزَنُ فلا يَزِنُ جناح بعوضة » ثم قرأ ( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ) القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ( 106 ) يقول تعالى ذكره: أولئك ثوابهم جهنم بكفرهم بالله، واتخاذهم آيات كتابه، وحجج رسله سُخْريا، واستهزائهم برسله. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا ( 107 ) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا ( 108 ) يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا بالله ورسوله، وأقرّوا بتوحيد الله وما أنـزل من كتبه وعملوا بطاعته، كانت لهم بساتين الفردوس، والفردوس: معظم الجنة، كما قال أمية: كــانَتْ مَنــازِلُهُمْ إذْ ذاكَ ظــاهِرَةً فِيهـا الفَـراديسُ والفُومـانُ والبَصَـلُ واختلف أهل التأويل في معنى الفردوس ؛ فقال بعضهم: عنى به أفضل الجنة وأوسطها. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عباس بن الوليد، قال: ثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قال: الفردوس: ربَوة الجنة وأوسطها وأفضلها. حدثنا أحمد بن أبي سريج الرازي، قال: ثنا الهيثم أبو بشر، قال: أخبرنا الفرج بن فضالة، عن لقمان، عن عامر، قال : سئل أبو أسامة عن الفردوس، فقال: هي سرّة الجنة. حدثنا أحمد بن أبي سريج، قال: ثنا حماد بن عمرو النصيبي، عن أبي عليّ، عن كعب، قال: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس، وفيها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر. وقال آخرون: هو البستان بالرومية. ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ بن سهل الرملي، قال: ثنا حجاج عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال: الفردوس: بستان بالرومية. حدثنا العباس بن محمد، قال: ثنا حجاج، قال: ابن جريج: أخبرني عبد الله عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: هو البستان الذي فيه الأعناب. حدثنا عباس بن محمد، قال: ثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن كعب ، قال: جنات الفردوس التي فيها الأعناب. والصواب من القول في ذلك، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك ما حدثنا به أحمد بن أبي سريج، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا همام بن يحيى، قال: ثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة بن الصامت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ، ما بينَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ عامٍ والفِرْدَوْسُ أعْلاها دَرَجَةً، ومِنْها الأنهَارُ الأربعةُ، والفِرْدَوْسُ مِنْ فَوْقِها، فإذَا سألْتُمُ اللهَ فاسألُوهُ الفِرْدَوسَ » . حدثنا موسى بن سهل، قال: ثنا موسى بن داود، قال: ثنا همام بن يحيى، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عُبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ مَا بَينَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ كمَا بينَ السَّماءِ والأرْضِ، أعْلاها الفِرْدَوْسُ، ومِنْها تُفَجَّر أنهارُ الجَنَّةِ الأرْبَعَةُ، فإذَا سألْتُمُ اللهَ فاسألُوه الفِرْدَوْسَ « . » حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني أبو يحيى بن سليمان، عن هلال بن أسامة ، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، أو أبي سعيد الخُدريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذَا سألْتُمُ اللهَ فاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّها أوْسَطُ الجَنَّة وأعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَها عَرْشُ الرَّحْمنِ تَبَارَكَ وَتَعالى، ومِنْهُ تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ « . » حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا فليح، عن هلال، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله، إلا أنه قال : « وَسَطُ الجَنَّةِ » وقالَ أيضًا : « ومِنْهُ تُفَجَّرُ أو تَتَفَجَّرُ » . حدثني عمار بن بكار الكلاعي، قال: ثنا يحيى بن صالح، قال: ثنا عبد العزيز بن محمد، قال: ثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إنَّ فِي الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، ما بينَ كُلّ دَرَجَتَينِ كَمَا بينَ السَّماءِ والأرْضِ، والفِرْدَوْسُ أعْلَى الجنَّةِ وأوْسَطُها، وفَوْقُها عَرْشُ الرَّحْمن، ومِنْها تَفَجَّر أنهَارُ الجَنَّهِ، فإذَا سألْتُمُ الله فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ » . حدثنا أحمد بن منصور، قال: ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: ثنا الحارث بن عمير، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « جناتُ الفِرْدَوْسِ أرْبَعَةٌ، اثْنَتانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتُهُما وآنِيَتُهُما، ومَا فِيهِما مِنْ شَيْءٍ، واثْنَتانِ مِنْ فِضَّة حِلْيَتُهُما وآنِيَتُهُما، ومَا فِيهِما مِنْ شَيْءٍ » . حدثنا أحمد بن أبي سريج، قال: ثنا أبو نعيم ، قال: ثنا أبو قدامة، عن أبي عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ أرْبَعٌ: ثِنْتانِ مِنْ ذَهَبٍ حِلْيَتهُما ومَا فِيهِما، وَثِنْتان مِنْ فِضَّةٍ حِلْيتُهُما وآنِيَتُهُما ومَا فِيهِما » . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص، عن شمر، قال: خلق الله جنة الفردوس بيده، فهو يفتحها في كلّ يوم خميس، فيقول: ازدادي طيبا لأوليائي، ازدادي حسنا لأوليائي. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: سمعت مخلد بن الحسين يقول: وسئل عنها، قال: سمعت بعض أصحاب أنس يقول: قال : يقول : أوّلهم دخولا: إنما أدخلني الله أوّلهم ، لأنه ليس أحد أفضل مني، ويقول آخرهم دخولا: إنما أخرني الله، لأنه ليس أحد أعطاه الله مثل الذي أعطاني. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ( 109 ) يقول عز ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ ) يا محمد: ( لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا ) للقلم الذي يُكتب به ( لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ مَاءً الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ) يقول: ولو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء مددا، من قول القائل: جئتك مددا لك، وذلك من معنى الزيادة. وقد ذُكر عن بعضهم: ولو جئنا بمثله مددا، كأن قارئ ذلك كذلك أراد: لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو زدنا بمثل ما فيه من المداد الذي يكتب به مدادا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى « ح » وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ( الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ) للقلم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن البرقي، قال : ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا محمد بن جعفر وابن الدراوردي، قالا ثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن معاذ بن جبل، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ للْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْها كمَا بينَ السَّمَاءِ والأرْضِ، أعْلَى دَرَجَةٍ مِنْها الفِرْدَوْس » . حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي، قال: ثنا أحمد بن الفرج الطائي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الفِرْدَوْسُ مِنْ رَبْوَةِ الجَنَّةِ، هِيَ أوْسَطُها وأحْسَنُها » . حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، قال: أنبأنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنَّ الفِرْدَوْسَ هِيَ أعْلَى الجَنَّةِ وأحْسَنُها وأرْفَعُها » . حدثني محمد بن مرزوق، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، قال للربيع ابنة النضر « يا أُمَّ حارِثَةَ، إنَّها جِنانٌ، وإنَّ ابْنَكِ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى » . والفردوس: ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها. وقوله: نُزُلا يقول: منازل ومساكن، والمنـزل: من النـزول، وهو من نـزول بعض الناس على بعض. وأما النـزل: فهو الريع، يقال: ما لطعامكم هذا نـزل، يراد به الريع، وما وجدنا عندكم نـزلا أي نـزولا. وقوله: خَالِدِينَ يقول: لابثين فيها أبدا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا يقول: لا يريدون عنها تحوّلا وهو مصدر تحوّلت، أخرج إلى أصله، كما يقال: صغر يصغر صغرا، وعاج يعوج عوجا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا قال: متحولا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي ) يقول: إذا لنفد ماء البحر قبل أن تنفد كلمات الله وحكمه. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( 110 ) يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المشركين يا محمد: إنما أنا بشر مثلكم من بني آدم لا علم لي إلا ما علمني الله وإن الله يوحي إليّ أن معبودكم الذي يجب عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، معبود واحد لا ثاني له، ولا شريك ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ) يقول: فمن يخاف ربه يوم لقائه، ويراقبه على معاصيه، ويرجو ثوابه على طاعته ( فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا ) يقول: فليخلص له العبادة، وليفرد له الربوبية. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الربيع بن أبي راشد، عن سعيد بن جبير ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ) قال: ثواب ربه. وقوله ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) يقول: ولا يجعل له شريكًا في عبادته إياه، وإنما يكون جاعلا له شريكًا بعبادته إذا راءى بعمله الذي ظاهره أنه لله وهو مريد به غيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عمرو بن عبيد، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان ( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) قال: لا يرائي. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن طاوس، قال: جاء رجل، فقال: يا نبيّ الله إني أحبّ الجهاد في سبيل الله، وأحبّ أن يرى موطني ويرى مكاني، فأنـزل الله عزّ وجلّ: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) « » حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ومسلم بن خالد الزنجي عن صدقة بن يسار، قال: « جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، وزاد فيه: وإني أعمل العمل وأتصدّق وأحبّ أن يراه الناس » وسائر الحديث نحوه. حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، قال: ثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم، عن شهر بن حوشب، قال: « جاء رجل إلى عُبادة بن الصامت، فسأله فقال: أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد ويصوم ويبتغي وجه الله ويحبّ أن يُحْمَد، فقال عبادة: ليس له شيء، إن الله عزّ وجلّ يقول: أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك فهو له كله، لا حاجة لي فيه » . حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكوني، قال: ثنا هشام بن عمار، قال: ثنا ابن عياش، قال: ثنا عمرو بن قيس الكندي، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية: ( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) وقال: إنها آخر آية نـزلت من القرآن . آخر تفسير سورة الكهف الرئيسة المصحف الإلكتروني www.e-quran.com. جميع الحقوق محفوظة. اااااااااااااااااااااا فهرس تفسير الطبري للسور 11 - تفسير الطبري سورة هود التالي السابق تفسير سورة هود تفسير السورة التي يذكر فيها هود بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى : الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ( 1 ) قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله : ( الر ) ، والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقوله: ( كتاب أحكمت آياته ) ، يعني: هذا الكتاب الذي أنـزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن. ورفع قوله: « كتاب » بنيّة: « هذا كتاب » . فأما على قول من زعم أن قوله: ( الر ) ، مرادٌ به سائر حروف المعجم التي نـزل بها القرآن، وجعلت هذه الحروف دلالةً على جميعها، وأن معنى الكلام: « هذه الحروف كتاب أحكمت آياته » فإن الكتاب على قوله ، ينبغي أن يكون مرفوعًا بقوله: ( الر ) . وأما قوله: ( أحكمت آياته ثم فصلت ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: تأويله: أحكمت آياته بالأمر والنهي، ثم فصلت بالثَّواب والعقاب. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، قال، أخبرني أبو محمد الثقفي، عن الحسن في قوله: ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت ) ، قال: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا عبد الكريم بن محمد الجرجاني، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن: ( الر كتاب أحكمت آياته ) ، قال: أحكمت في الأمر والنهى ، وفصلت بالوعيد. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن رجل، عن الحسن: ( الر كتاب أحكمت آياته ) ، قال: بالأمر والنهي ( ثم فصلت ) ، قال: بالثواب والعقاب. وروي عن الحسن قولٌ خلاف هذا. وذلك ما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي بكر، عن الحسن، قال وحدثنا عباد بن العوام، عن رجل، عن الحسن قال: ( أحكمت ) ، بالثواب والعقاب ( ثم فصلت ) ، بالأمر والنهي. وقال آخرون: معنى ذلك: ( أحكمت آياته ) من الباطل، ثم فصلت، فبين منها الحلال والحرام. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) ، أحكمها الله من الباطل ، ثم فصلها بعلمه، فبيّن حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( أحكمت آياته ثم فصلت ) ، قال: أحكمها الله من الباطل، ثم فَصَّلها، بيَّنها. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ، قولُ من قال: معناه: أحكم الله آياته من الدَّخَل والخَلَل والباطل، ثم فصَّلها بالأمر والنهي. وذلك أن « إحكام الشيء » إصلاحه وإتقانه و « إحكام آيات القرآن » إحكامها من خلل يكون فيها ، أو باطل يقدر ذو زيغ أن يطعن فيها من قِبَله. وأما « تفصيل آياته » فإنه تمييز بعضها من بعض، بالبيان عما فيها من حلال وحرام ، وأمرٍ ونهي. وكان بعض المفسرين يفسر قوله: ( فصلت ) ، بمعنى: فُسِّرت، وذلك نحو الذي قلنا فيه من القول. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى قال ، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ( ثم فصلت ) ، قال: فُسِّرت . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فصلت ) ، قال: فُسّرت. . . . . قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، بلغني عن مجاهد: ( ثم فصلت ) ، قال: فسّرت . حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال قتادة: معناه: بُيِّنَتْ، وقد ذكرنا الرواية بذلك قبلُ، وهو شبيه المعنى بقول مجاهد. وأما قوله: ( من لدن حكيم خبير ) ، فإن معناه: ( حكيم ) بتدبير الأشياء وتقديرها، خبير بما تؤول إليه عواقبُها. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: ( من لدن حكيم خبير ) ، يقول: من عند حكيم خبير. القول في تأويل قوله تعالى : أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ( 2 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ثم فُصّلت بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له ، وتخلعوا الآلهة والأنداد. ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل ، يا محمد ، للناس ( إنني لكم ) ، من عند الله ( نذير ) ينذركم عقابه على معاصيه وعبادة الأصنام ( وبشير ) ، يبشركم بالجزيل من الثواب على طاعته وإخلاص العبادة والألُوهَةِ له. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ( 3 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ثم فصلت آياته ، بأن لا تعبدوا إلا الله ، وبأن استغفروا ربكم. ويعني بقوله: ( وأن استغفروا ربكم ) ، وأن اعملوا أيها الناس من الأعمال ما يرضي ربكم عنكم، فيستر عليكم عظيمَ ذنوبكم التي ركبتموها بعبادتكم الأوثان والأصنام ، وإشراككم الآلهة والأنداد في عبادته. وقوله: ( ثم توبوا إليه ) ، يقول: ثم ارجعوا إلى ربكم بإخلاص العبادة له دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم الأنداد وبراءتكم من عبادتها. ولذلك قيل: ( وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) ، ولم يقل: « وتوبوا إليه » ، لأن « التوبة » معناها الرجوع إلى العمل بطاعة الله، والاستغفار: استغفار من الشرك الذي كانوا عليه مقيمين، والعملُ لله لا يكون عملا له إلا بعد ترك الشرك به، فأما الشرك فإنّ عمله لا يكون إلا للشيطان، فلذلك أمرهم تعالى ذكره بالتوبة إليه بعد الاستغفار من الشرك، لأن أهل الشرك كانوا يرون أنهم يُطِيعون الله بكثير من أفعالهم ، وهم على شركهم مقيمون. وقوله: ( يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى ) ، يقول تعالى ذكره للمشركين الذين خاطبهم بهذه الآيات: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، فإنكم إذا فعلتم ذلك بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها، وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى ) ، فأنتم في ذلك المتاع ، فخذوا بطاعة الله ومعرفة حقّه، فإن الله منعم يحبّ الشاكرين ، وأهل الشكر في مزيدٍ من الله، وذلك قضاؤه الذي قضى. وقوله: ( إلى أجل مسمى ) ، يعني الموت. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إلى أجل مسمى ) ، قال: الموت. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( إلى أجل مسمى ) ، وهو الموت . حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: ( إلى أجل مسمى ) ، قال: الموت. وأما قوله: ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ، فإنه يعني: يثيب كل من تفضَّل بفضل ماله أو قوته أو معروفه على غيره محتسبًا بذلك ، مريدًا به وجه الله أجزلَ ثوابه وفضله في الآخرة، كما:- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ، قال: ما احتسب به من ماله، أو عمل بيده أو رجله، أو كَلِمة، أو ما تطوَّع به من أمره كله. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال . . . . وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، بنحوه إلا أنه قال: أو عملٍ بيديه أو رجليه وكلامه، وما تطوَّل به من أمره كله. حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه إلا أنه قال: وما نطق به من أمره كله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ، أي : في الآخرة. وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تأويل ذلك ما:- حدثت به عن المسيب بن شريك، عن أبي بكر، عن سعيد بن جبير، عن ابن مسعود، في قوله: ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ، قال: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات. وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة ، وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول: هلك من غلب آحادُه أعشارَه !! وقوله: ( وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) ، يقول تعالى ذكره: وإن أعرضوا عما دعوتُهم إليه ، من إخلاص العبادة لله ، وترك عبادة الآلهة ، وامتنعوا من الاستغفار لله والتوبة إليه ، فأدبروا مُوَلِّين عن ذلك، ( فإني ) ، أيها القوم ، ( أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) شأنُه , عظيمٍ هَوْلُه، وذلك يوم تجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون. وقال جل ثناؤه: ( وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير ) ، ولكنه مما قد تقدّمه قولٌ، والعرب إذا قدَّمت قبل الكلام قولا خاطبت ، ثم عادت إلى الخبر عن الغائب ، ثم رجعت بعدُ إلى الخطاب، وقد بينا ذلك في غير موضع ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى : إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 4 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ( إلى الله ) ، أيها القوم ، مآبكم ومصيركم، فاحذروا عقابه إن توليتم عما أدعوكم إليه من التوبة إليه من عبادتكم الآلهة والأصنام، فإنه مخلدكم نارَ جهنم إن هلكتم على شرككم قبل التوبة إليه ( وهو على كل شيء قدير ) ، يقول: وهو على إحيائكم بعد مماتكم، وعقابكم على إشراككم به الأوثانَ وغير ذلك مما أراد بكم وبغيركم قادرٌ. القول في تأويل قوله تعالى : أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 5 ) قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة قوله: ( ألا أنهم يثنون صدورهم ) ، فقرأته عامة الأمصار: ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) ، على تقدير « يفعلون » من « ثنيت » ، و « الصدور » منصوبة. واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: ذلك كان من فعل بعض المنافقين ، كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم غطَّى وجهه وثَنَى ظهره. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن عبد الله بن شداد في قوله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم ) ، قال: كان أحدهم إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بثوبه على وجهه ، وثنى ظهره. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قوله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ) ، قال: من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: كان المنافقون إذا مرُّوا به ثنى أحدهم صدره ، ويطأطئ رأسه. فقال الله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ) ، الآية. حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم، عن حصين قال: سمعت عبد الله بن شداد يقول في قوله: ( يثنون صدورهم ) ، قال: كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثَنَى صدره، وتغشَّى بثوبه ، كي لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: بل كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله وظنًّا أن الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يثنون صدورهم ) قال: شكًّا وامتراءً في الحق، ليستخفوا من الله إن استطاعوا. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يثنون صدورهم ) ، شكًّا وامتراءً في الحق. ( ليستخفوا منه ) ، قال: من الله إن استطاعوا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد: ( يثنون صدورهم ) ، قال: تضيق شكًّا . حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يثنون صدورهم ) ، قال: تضيق شكًّا وامتراءً في الحق. قال: ( ليستخفوا منه ) ، قال: من الله إن استطاعوا حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا هوذة قال ، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم ) ، قال: من جهالتهم به، قال الله: ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) ، في ظلمة الليل ، في أجواف بيوتهم ( يعلم ) ، تلك الساعة ( ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ) . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم ) ، قال: كان أحدهم يحني ظهره ، ويستغشي بثوبه. وقال آخرون: إنما كانوا يفعلون ذلك لئلا يسمعوا كتاب الله . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : ( ألا إنهم يثنون صدورهم ) الآية، قال: كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله، قال تعالى: ( ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ) وذلك أخفى ما يكون ابن آدم ، إذا حنى صدره واستغشى بثوبه ، وأضمر همَّه في نفسه، فإن الله لا يخفى ذلك عليه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( يستغشون ثيابهم ) ، قال: أخفى ما يكون الإنسان إذا أسرَّ في نفسه شيئًا وتغطَّى بثوبه، فذلك أخفى ما يكون، والله يطلع على ما في نفوسهم، والله يعلم ما يسرُّون وما يعلنون. وقال آخرون: إنما هذا إخبارٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن المنافقين الذين كانوا يضمرون له العداوة والبغضاء ، ويبدون له المحبة والمودة، أنهم معه وعلى دينه. يقول جل ثناؤه: ألا إنهم يطوون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله، ثم أخبر جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرائرهم وعلانيتهم. وقال آخرون: كانوا يفعلون ذلك إذا ناجى بعضهم بعضًا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ) ، قال: هذا حين يناجي بعضهم بعضًا. وقرأ: ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) الآية. وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: ( أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ ) ، على مثال: « تَحْلَولِي الثمرة » ، « تَفْعَوْعِل » . حدثنا . . . قال ، حدثنا أبو أسامة، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقرأ ( أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ ) ، قال: كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم ، كراهة أن يُفْضُوا بفروجهم إلى السماء. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول، سمعت ابن عباس يقرؤها: ( أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ ) ، قال: سألته عنها فقال: كان ناس يستحيون أن يتخلَّوا فيُفْضُوا إلى السماء، وأن يصيبوا فيْفضُوا إلى السماء. وروي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما:- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، أخبرت ، عن عكرمة: أن ابن عباس قرأ ( أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ ) ، وقال ابن عباس: « تثنوني صدورهم » ، الشكُّ في الله ، وعمل السيئات ( يستغشون ثيابهم ) ، يستكبر، أو يستكنّ من الله ، والله يراه، يعلم ما يسرُّون وما يعلنون. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قرأ: ( أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ ) ، قال عكرمة: « تثنوني صدورهم » ، قال: الشك في الله ، وعمل السيئات، فيستغشي ثيابه ، ويستكنّ من الله، والله يراه ويعلم ما يسرُّون وما يعلنون قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار، وهو: ( أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ) ، على مثال « يفعلون » ، و « الصدور » نصب ، بمعنى: يحنون صدورهم ويكنُّونها، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( يثنون صدورهم ) ، يقول: يكنُّون. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ) ، يقول: يكتمون ما في قلوبهم ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) ، يعلم ما عملوا بالليل والنهار. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ألا إنهم يثنون صدورهم ) ، يقول: ( تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ ) . قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي تأوّله الضحاك على مذهب قراءة ابن عباس، إلا أن الذي حدثنا ، هكذا ذكر القراءة في الرواية. فإذا كانت القراءة التي ذكرنا أولى القراءتين في ذلك بالصواب ، لإجماع الحجة من القراء عليها. فأولى التأويلات بتأويل ذلك، تأويلُ من قال: إنهم كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله أنه يخفى عليه ما تضمره نفوسهم ، أو تناجوه بينهم. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن قوله: ( ليستخفوا منه ) ، بمعنى: ليستخفوا من الله، وأن الهاء في قوله، ( منه ) ، عائدة على اسم الله، ولم يجر لمحمّدٍ ذكر قبلُ ، فيجعل من ذكره صلى الله عليه وسلم وهي في سياق الخبر عن الله. فإذا كان ذلك كذلك ، كانت بأن تكون من ذكر الله أولى. وإذا صحّ أن ذلك كذلك، كان معلومًا أنهم لم يحدِّثوا أنفسهم أنهم يستخفون من الله ، إلا بجهلهم به. فأخبرهم جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرُّ أمورهم وعلانيتها على أيّ حالٍ كانوا ، تغشَّوا بالثياب ، أو أظهروا بالبَرَاز، فقال: ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) ، يعني: يتغشَّون ثيابهم ، يتغطونها ويلبسون. يقال منه: « استغشى ثوبه وتغشّاه » ، قال الله: وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ [ سورة نوح: 7 ] ، وقالت الخنساء: أَرْعَـى النُّجُـومَ وَمَـا كُـلِّفْتُ رِعْيَتَهَا وَتَــارَةً أَتَغَشَّــى فَضْـلَ أَطْمَـارِي ( يعلم ما يسرون ) ، يقول جل ثناؤه: يعلم ما يسرُّ هؤلاء الجهلة بربهم، الظانُّون أن الله يخفى عليه ما أضمرته صدورهم إذا حنوها على ما فيها ، وثنوها، وما تناجوه بينهم فأخفوه ( وما يعلنون ) ، سواء عنده سرائرُ عباده وعلانيتهم ( إنه عليم بذات الصدور ) ، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بكل ما أخفته صدور خلقه ، من إيمان وكفر ، وحق وباطل ، وخير وشر، وما تستجنُّه مما لم تُجنُّه بعدُ، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ( ألا حين يستغشون ثيابهم ) ، يقول: يغطون رءوسهم. قال أبو جعفر: فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صُدُوركم الشكّ في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه، أو فيما ألزمكم الإيمان به والتصديق، فتهلكوا باعتقادكم ذلك. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 6 ) قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: ( وما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، وما تدبّ دابّة في الأرض . و « الدابّة » « الفاعلة » ، من دبّ فهو يدبّ، وهو دابٌّ، وهي دابّة. ( إلا على الله رزقها ) ، يقول: إلا ومن الله رزقها الذي يصل إليها ، هو به متكفل، وذلك قوتها وغذاؤها وما به عَيْشُها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد، في قوله: ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، قال: ما جاءها من رزقٍ فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعًا، ولكن ما كان من رزقٍ فمن الله. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، قال: كل دابة حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) ، يعني: كلّ دابة ، والناسُ منهم. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن كل مالٍ فهو « دابة » وأن معنى الكلام: وما دابة في الأرض وأن « من » زائدة. وقوله: ( ويعلم مستقرها ) ، حيث تستقر فيه، وذلك مأواها الذي تأوي إليه ليلا أو نهارًا ( ومستودعها ) الموضع الذي يودعها، إما بموتها ، فيه ، أو دفنها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن التيمي، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: ( مستقرها ) حيث تأوي ( ومستودعها ) ، حيث تموت. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ويعلم مستقرها ) ، يقول: حيث تأوى ( ومستودعها ) ، يقول: إذا ماتت. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: ( يعلم مستقرها ومستودعها ) ، قال: « المستقر » ، حيث تأوي و « المستودع » ، حيث تموت. وقال آخرون: ( مستقرّها ) ، في الرحم ( ومستودعها ) ، في الصلب. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ويعلم مستقرها ) ، في الرحم ( ومستودعها ) ، في الصلب، مثل التي في « الأنعام » . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس، قوله: ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، فالمستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ويعلم مستقرها ) ، يقول: في الرحم ( ومستودعها ) ، في الصلب. وقال آخرون: « المستقر » في الرحم و « المستودع » ، حيث تموت. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ويعلى، وابن فضيل، عن إسماعيل، عن إبراهيم، عن عبد الله: ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، قال: « مستقرها » ، الأرحام و « مستودعها » : الأرض التي تموت فيها. . . . . قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله: ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، « المستقر » الرحم، و « المستودع » المكان الذي تموت فيه. وقال آخرون : ( مستقرها ) ، أيام حياتها ( ومستودعها ) ، حيث تموت فيه. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس قوله: ( ويعلم مستقرها ومستودعها ) ، قال: ( مستقرها ) ، أيام حياتها، و ( مستودعها ) : حيث تموت ، ومن حيث تبعث. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأن الله جل ثناؤه أخبر أن ما رزقت الدواب من رزق فمنه، فأولى أن يتبع ذلك أن يعلم مثواها ومستقرها دون الخبر عن علمه بما تضمنته الأصلاب والأرحام. ويعني بقوله: ( كل في كتاب ) ، [ مبين ] ، عدد كل دابة، ومبلغ أرزاقها ، وقدر قرارها في مستقرها، ومدة لبثها في مستودعها. كل ذلك في كتاب عند الله مثبت مكتوب ( مبين ) ، يبين لمن قرأه أن ذلك مثبت مكتوب قبل أن يخلقها ويوجدها. وهذا إخبارٌ من الله جل ثناؤه الذين كانوا يثنون صدورهم ليستخفوا منه ، أنه قد علم الأشياء كلها، وأثبتها في كتاب عنده قبل أن يخلقها ويوجدها ، يقول لهم تعالى ذكره: فمن كان قد علم ذلك منهم قبل أن يوجدهم، فكيف يخفى عليه ما تنطوي عليه نفوسهم إذا ثنوا به صدورهم ، واستغشوا عليه ثيابهم؟ القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي إليه مرجعكم أيها الناس جميعًا ، ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) ، يقول: أفيعجز من خلق ذلك من غير شيء أن يعيدكم أحياءً بعد أن يميتكم؟ وقيل: إن الله تعالى ذكره خلق السموات والأرض وما فيهن في الأيام الستة، فاجتُزِئَ في هذا الموضع بذكر خلق السموات والأرض ، من ذكر خلق ما فيهنّ. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها من كل دابة يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( في ستة أيام ) ، قال: بدأ خلق الأرض في يومين، وقدّر فيها أقواتها في يومين. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ، وفرغ منها يوم الجمعة ، فخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة . قال : فجعل مكان كل يوم ألف سنة. وحدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) ، قال: من أيام الآخرة، كل يوم مقداره ألف سنة . ابتدأ في الخلق يوم الأحد، وختم الخلق يوم الجمعة ، فسميت « الجمعة » ، وسَبَت يوم السبت فلم يخلق شيئًا وقوله: ( وكان عرشه على الماء ) ، يقول: وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض وما فيهن ، كما:- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( وكان عرشه على الماء ) ، قبل أن يخلق شيئًا . حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( وكان عرشه على الماء ) ، ينبئكم ربكم تبارك وتعالى كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( وكان عرشه على الماء ) ، قال: هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السماء والأرض. حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد، عن يعلى بن عطاء. عن وكيع بن حُدُس، عن عمه أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربُّنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: في عَمَاءٍ ، ما فوقه هواء ، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء. حدثنا ابن وكيع ، ومحمد بن هارون القطان الرازقي قالا حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن حُدُس، عن عمه أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عَماء ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء . حدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل قال، أخبرنا المسعودي قال، أخبرنا جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن ابن حصين ، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتى قومٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا عليه، فجعل يبشِّرهم ويقولون: أعطنا ! حتى ساء ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا من عنده. وجاء قوم آخرون فدخلوا عليه، فقالوا: جئنا نسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونتفقه في الدين، ونسأله عن بدء هذا الأمر؟ قال: فاقبلوا البشرى إذ لم يقبلها أولئك الذين خرجوا ! قالوا: قبلنا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان الله ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر قبل كل شيء، ثم خلق سبع سماوات . ثم أتاني آت فقال: تلك ناقتك قد ذهبت، فخرجتُ ينقطع دونها السَّراب ، ولوددتُ أنّي تركتها. حدثنا محمد بن منصور قال ، حدثنا إسحاق بن سليمان قال ، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: ( وكان عرشه على الماء ) ، قال: كان عرش الله على الماء ، ثم اتخذ لنفسه جنّةً، ثم اتخذ دونها أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة قال: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ، [ سورة الرحمن: 62 ] ، قال: وهي التي ( لا تعلم نفس ) أو قال: وهما التي لا تعلم نفس مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، [ سورة السجدة: 17 ] . قال: وهي التي لا تعلم الخلائق ما فيها أو : ما فيهما يأتيهم كل يوم منها أو : منهما تحفة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قول الله: ( وكان عرشه على الماء ) ، قال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير قال: سُئل ابن عباس عن قوله: ( وكان عرشه على الماء ) ، على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد، عن ابن عباس، مثله. . . . . قال، حدثنا الحسين قال ، حدثنا مبَشّر الحلبي، عن أرطاة بن المنذر قال: سمعت ضمرة يقول: إن الله كان عرشه على الماء، وخلق السموات والأرض بالحق، وخلق القلم فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجّده ألف عام قبل أن يخلق شيئًا من الخلق. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال حدثني عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن العرش كان قبل أن يخلق الله السموات والأرض، ثم قبض من صَفاة الماء [ قبضة ] ، ثم فتح القبضة فارتفع دخانًا ، ثم قضاهُنّ سبع سماوات في يومين. ثم أخذ طينة من الماء فوضعها مكان البيت، ثم دحا الأرض منها، ثم خلق الأقوات في يومين والسموات في يومين وخلق الأرض في يومين، ثم فرغ من آخر الخلق يوم السابع. وقوله: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ، يقول تعالى ذكره: وهو الذي خلق السموات والأرض أيها الناس، وخلقكم في ستة أيام ( ليبلوكم ) ، يقول: ليختبركم ( أيكم أحسن عملا ) ، يقول: أيكم أحسن له طاعة ، كما:- حدثنا عن داود بن المحبر قال ، حدثنا عبد الواحد بن زيد، عن كليب بن وائل، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تلا هذه الآية: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ، قال: أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله ؟ حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ، يعني الثقلين. وقوله: ( ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن قلت لهؤلاء المشركين من قومك: إنكم مبعوثون أحياء من بعد مماتكم! فتلوت عليهم بذلك تنـزيلي ووحيي ( ليقولن إن هذا إلا سحر مبين ) ، أي : ما هذا الذي تتلوه علينا مما تقول ، إلا سحر لسامعه، مبينٌ لسامعه عن حقيقته أنه سحر. وهذا على تأويل من قرأ ذلك: ( إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ) ، وأما من قرأ: ( إِنْ هَذَا إِلا سَاحِرٌ مُبِينٌ ) ، فإنه يوجّه الخبر بذلك عنهم إلى أنهم وَصَفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه فيما أتاهم به من ذلك ساحرٌ مبين. قال أبو جعفر: وقد بينا الصواب من القراءة في ذلك في نظائره ، فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته ههنا. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 8 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن أخرنا عن هؤلاء المشركين من قومك ، يا محمد ، العذابَ فلم نعجله لهم، وأنسأنا في آجالهم إلى ( أمة معدودة ) ، ووقت محدود وسنين معلومة. وأصل « الأمة » ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا ، أنها الجماعة من الناس تجتمع على مذهب ودين، ثم تستعمل في معان كثيرة ترجع إلى معنى الأصل الذي ذكرت. وإنما قيل للسنين « المعدودة » والحين ، في هذا الموضع ونحوه : أمة، لأن فيها تكون الأمة. وإنما معنى الكلام: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها. وبنحو الذي قلنا من أن معنى « الأمة » في هذا الموضع، الأجل والحين ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس. وحدثنا الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس: ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) ، قال: إلى أجل محدود. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس، بمثله. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : ( إلى أمة معدودة ) ، قال: أجل معدود. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: إلى أجل معدود. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إلى أمة معدودة ) ، قال: إلى حين. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) ، يقول: أمسكنا عنهم العذاب ( إلى أمة معدودة ) ، قال ابن جريج، قال مجاهد: إلى حين. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ) ، يقول: إلى أجل معلوم. وقوله: ( ليقولن ما يحبسه ) ، يقول: « ليقولن » هؤلاء المشركون « ما يحبسه » ؟ أي شيء يمنعه من تعجيل العذاب الذي يتوعَّدنا به؟ تكذيبًا منهم به، وظنًّا منهم أن ذلك إنَّما أخر عنهم لكذب المتوعّد كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال قوله: ( ليقولن ما يحبسه ) ، قال: للتكذيب به، أو أنه ليس بشيء. وقوله: ( ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم ) ، يقول تعالى ذكره تحقيقًا لوعيده وتصحيحًا لخبره: ( ألا يوم يأتيهم ) العذابُ الذي يكذبون به ( ليس مصروفًا عنهم ) ، يقول: ليس يصرفه عنهم صارف، ولا يدفعه عنهم دافع، ولكنه يحل بهم فيهلكهم ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) ، يقول: ونـزل بهم وأصابهم الذي كانوا به يسخرون من عذاب الله. وكان استهزاؤُهم به الذي ذكره الله ، قيلهم قبل نـزوله ( ما يحبسه ) ،و « هلا تأتينا » ؟. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان بعض أهل التأويل يقول. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) ، قال: ما جاءت به أنبياؤهم من الحق. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نـزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ( 9 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن أذَقنا الإنسان منّا رخاء وسعةً في الرزق والعيش، فبسطنا عليه من الدنيا وهي « الرحمة » التي ذكرها تعالى ذكره في هذا الموضع ( ثم نـزعناها منه ) ، يقول: ثم سلبناه ذلك، فأصابته مصائب أجاحته فذهبت به ( إنه ليئوس كفور ) ، يقول: يظل قَنِطًا من رحمة الله ، آيسًا من الخير. وقوله: « يئوس » ، « فعول » ، من قول القائل: « يئس فلان من كذا ، فهو يئوس » ، إذا كان ذلك صفة له. . وقوله: « كفور » ، يقول: هو كفُور لمن أنعم عليه، قليل الشكر لربّه المتفضل عليه ، بما كان وَهَب له من نعمته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نـزعناها منه إنه ليئوس كفور ) ، قال: يا ابن آدم ، إذا كانت بك نعمة من الله من السعة والأمن والعافية ، فكفور لما بك منها، وإذا نـزعت منك نبتغي قَدْعك وعقلك فيئوس من روح الله، قنوطٌ من رحمته، كذلك المرء المنافق والكافر. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ( 10 ) إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( 11 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن نحن بسطنا للإنسان في دنياه، ورزقناه رخاءً في عيشه، ووسعنا عليه في رزقه ، وذلك هي النّعم التي قال الله جل ثناؤه: ( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ ) وقوله: ( بعد ضراء مسته ) ، يقول: بعد ضيق من العيش كان فيه ، وعسرة كان يعالجها ( لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ) ، يقول تعالى ذكره: ليقولن عند ذلك: ذهب الضيق والعسرة عني، وزالت الشدائد والمكاره ( إنه لفرح فخور ) ، يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لفرح بالنعم التي يعطاها مسرور بها ( فخور ) ، يقول: ذو فخر بما نال من السعة في الدنيا ، وما بسط له فيها من العيش، وينسى صُرُوفها ، ونكدَ العَوَائص فيها، ويدع طلب النعيم الذي يبقى ، والسرور الذي يدوم فلا يزول. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: ( ذهب السيئات عني ) ، غِرَّةً بالله وجراءة عليه ( إنه لفرح ) ، والله لا يحب الفرحين ( فخور ) ، بعد ما أعطي ، وهو لا يشكر الله. ثم استثنى جل ثناؤه من الإنسان الذي وصفه بهاتين الصفتين: « الذين صبروا وعملوا الصالحات » . وإنما جاز استثناؤهم منه لأن « الإنسان » بمعنى الجنس ومعنى الجمع. وهو كقوله: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، [ سورة العصر: 1- 3 ] ، فقال تعالى ذكره: ( إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات ) ، فإنهم إن تأتهم شدّة من الدنيا وعسرة فيها ، لم يثنهم ذلك عن طاعة الله، ولكنهم صبروا لأمره وقضائه. فإن نالوا فيها رخاء وسعةً ، شكروه وأدَّوا حقوقه بما آتاهم منها. يقول الله: ( أولئك لهم مغفرة ) يغفرها لهم، ولا يفضحهم بها في معادهم ( وأجر كبير ) ، يقول: ولهم من الله مع مغفرة ذنوبهم ، ثوابٌ على أعمالهم الصالحة التي عملوها في دار الدنيا، جزيلٌ، وجزاءٌ عظيم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( إلا الذين صبروا ) ، عند البلاء ، ( وعملوا الصالحات ) ، عند النعمة ( أولئك لهم مغفرة ) ، لذنوبهم ( وأجر كبير ) ، قال: الجنة. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنـزلَ عَلَيْهِ كَنـز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 12 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلعلك يا محمد ، تارك بعض ما يوحي إليك ربك أن تبلغه من أمرك بتبليغه ذلك، وضائقٌ بما يوحى إليك صدرُك فلا تبلغه إياهم ، مخافة ( أن يقولوا لولا أنـزل عليه كنـز أو جاء معه ملك ) ، له مصدّق بأنه لله رسول ! يقول تعالى ذكره: فبلغهم ما أوحيته إليك، فإنك إنما أنت نذير تُنْذرهم عقابي ، وتحذرهم بأسي على كفرهم بي، وإنما الآيات التي يسألونكها عندي وفي سلطاني ، أنـزلها إذا شئت، وليس عليك ، إلا البلاغ والإنذار ( والله على كل شيء وكيل ) ، يقول: والله القيم بكل شيء وبيده تدبيره، فانفذ لما أمرتك به، ولا تمنعك مسألتهم إياك الآيات، من تبليغهم وحيي والنفوذ لأمري. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قال الله لِنبيه: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك أن تفعل فيه ما أمرت ، وتدعو إليه كما أرسلت. قالوا: ( لولا أنـزل عليه كنـز ) ، لا نرى معه مالا أين المال؟ ( أو جاء معه ملك ) ، ينذر معه؟ ( إنما أنت نذير ) ، فبلغ ما أمرت. القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 13 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كفاك حجةً على حقيقة ما أتيتهم به، ودلالةً على صحة نبوّتك ، هذا القرآن ، من سائر الآيات غيره، إذ كانت الآيات إنما تكون لمن أعطيها دلالة على صدقه، لعجز جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها. وهذا القرآن ، جميع الخلق عَجَزَةٌ عن أن يأتوا بمثله، فان هم قالوا: « افتريته » ، أي : اختلقته وتكذَّبته. ودلّ على أن معنى الكلام ما ذكرنا ، قوله: ( أم يقولون افتراه ) إلى آخر الآية. ويعني تعالى ذكره بقوله: ( أم يقولون افتراه ) ، أي : أيقولون افتراه ؟ وقد دللنا على سبب إدخال العرب « أم » في مثل هذا الموضع . فقل لهم: يأتوا بعشر سُور مثل هذا القرآن « مفتريات » ، يعني مفتعلات مختلقات، إن كان ما أتيتكم به من هذا القرآن مفترًى ، وليس بآية معجزةٍ كسائر ما سُئلته من الآيات، كالكنـز الذي قلتم: هَلا أنـزل عليه ؟ أو الملك الذي قلتم: هلا جاء معه نذيرًا له مصدقًا ! فإنكم قومي ، وأنتم من أهل لساني، وأنا رجل منكم، ومحال أن أقدر أخلق وحدي مائة سورة وأربع عشرة سورة، ولا تقدروا بأجمعكم أن تفتروا وتختلقوا عشر سور مثلها، ولا سيما إذا استعنتم في ذلك بمن شئتم من الخلق. يقول جل ثناؤه: قل لهم: وادعوا من استطعتم أن تدعوهم من دون الله يعني سوى الله، لا افتراء ذلك واختلاقه من الآلهة، فإن أنتم لم تقدروا على أن تفتروا عشر سور مثله، فقد تبين لكم أنكم كذبةٌ في قولكم : ( افتراه ) ، وصحّت عندكم حقيقة ما أتيتكم به أنه من عند الله. ولم يكن لكم أن تتخيروا الآيات على ربكم، وقد جاءكم من الحجة على حقيقة ما تكذبون به أنه من عند الله ، مثل الذي تسألون من الحجة وترغبون أنكم تصدِّقون بمجيئها. وقوله: ( إن كنتم صادقين ) ، لقوله: ( فأتوا بعشر سور مثله ) ، وإنما هو: قل : فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، إن كنتم صادقين أن هذا القرآن افتراه محمد وادعوا من استطعتم من دون الله على ذلك ، من الآلهة والأنداد. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح: ( أم يقولون افتراه ) ، قد قالوه ، ( قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ) . وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ ، قال: يشهدون أنها مثله هكذا قال القاسم في حديثه. القول في تأويل قوله تعالى : فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( 14 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: فإن لم يستجب لكمْ من تدعون من دون الله إلى أنْ يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات، ولم تطيقوا أنتم وهم أن تأتوا بذلك، فاعلموا وأيقنوا أنه إنما أنـزل من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم بعلم الله وإذنه، وأن محمدًا لم يفتره، ولا يقدر أن يفتريه ( وأن لا إله إلا هو ) ، يقول: وأيقنوا أيضًا أن لا معبود يستحق الألوهة على الخلق إلا الله الذي له الخلق والأمر، فاخلعوا الأنداد والآلهة ، وأفردوا له العبادة. وقد قيل: إن قوله: ( فإن لم يستجيبوا لكم ) خطاب من الله لنبيه، كأنه قال: فإن لم يستجب لك هؤلاء الكفار ، يا محمد، فاعلموا ، أيها المشركون ، أنما أنـزل بعلم الله وذلك تأويل بعيد من المفهوم. وقوله: ( فهل أنتم مسلمون ) ، يقول: فهل أنتم مذعنون لله بالطاعة، ومخلصون له العبادة ، بعد ثبوت الحجة عليكم؟ وكان مجاهد يقول: عني بهذا القول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فهل أنتم مسلمون ) ، قال: لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ) ، قال: لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقيل: ( فإن لم يستجيبوا لكم ) ، والخطاب في أوّل الكلام قد جرى لواحدٍ، وذلك قوله: قُلْ فَأْتُوا ، ولم يقل: « فإن لم يستجيبوا لك » على نحو ما قد بينا قبلُ في خطاب رئيس القوم وصاحب أمرهم، أن العرب تخرج خطابه أحيانا مخرج خطاب الجمع، إذا كانَ خطابه خطابًا لأتباعه وجنده، وأحيانًا مخرج خطاب الواحد ، إذا كان في نفسه واحدًا. القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ( 15 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: من كان يريد بعمله الحياة الدنيا، وإيّاها وَزينتها يطلب به ، نوفّ إليهم أجور أعمالهم فيها وثوابها ( وهم فيها ) يقول: وهم في الدنيا ، ( لا يبخسون ) ، يقول: لا ينقصون أجرها، ولكنهم يوفونه فيها. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) الآية، وهي ما يعطيهم الله من الدنيا بحسناتهم ، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا. يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا ، صومًا أو صلاةً أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا لالتماس الدنيا ، يقول الله: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعملُ التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، قال: ثوابَ ما عملوا في الدنيا من خير أعطوه في الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صَنَعوا فيها. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير قوله: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها ) ، قال: وَزْنَ ما عملوا من خير أعطوا في الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها. قال: هي مثل الآية التي في الروم: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ ، [ سورة الروم: 39 ] حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) ، قال: من عمل للدنيا وُفِّيهُ في الدنيا. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) ، قال: من عمل عملا مما أمر الله به ، من صلاة أو صدقة ، لا يريد بها وجهَ الله ، أعطاه الله في الدنيا ثوابَ ذلك مثلَ ما أنفق ، فذلك قوله: ( نوفّ إليهم أعمالهم فيها ) ، في الدنيا، ( وهم فيها لا يبخسون ) ، أجر ما عملوا فيها، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا ، الآية. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عيسى يعني ابن ميمون عن مجاهد في قوله: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) ، قال: ممن لا يقبل منه ، جُوزِي به ، يُعطَى ثوابَه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عيسى الجرشي، عن مجاهد: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، قال: ممن لا يقبل منه ، يعجّل له في الدنيا. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ) ، أي: لا يظلمون. يقول: من كانت الدنيا همَّه وسَدَمه وطَلِبته ونيّته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاءً. وأما المؤمن ، فيجازى بحسناته في الدنيا ، ويثاب عليها في الآخرة ( وهم فيها لا يبخسون ) أي : في الآخرة لا يظلمون. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق جميعًا، عن معمر، عن قتادة: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، الآية، قال: من كان إنما هِمّته الدنيا ، إياها يطلب ، أعطاه الله مالا وأعطاه فيها ما يعيش، وكان ذلك قصاصًا له بعمله. ( وهم فيها لا يبخسون ) ، قال: لا يظلمون. . . .. قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ليث بن أبي سلم، عن محمد بن كعب القرظي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحسن من محسن ، فقد وقع أجره على الله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، الآية، يقول: من عمل عملا صالحًا في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك أجرًا في الدنيا: يصل رحمًا، يعطي سائلا يرحم مضطرًّا ، في نحو هذا من أعمال البرّ ، يعجل الله له ثواب عمله في الدنيا، ويُوسِّع عليه في المعيشة والرزق، ويقرُّ عينه فيما خَوَّله، ويدفع عنه من مكاره الدنيا ، في نحو هذا، وليس له في الآخرة من نصيب. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير قال ، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس في قوله: ( نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ) ، قال: هي في اليهود والنصارى. . . . . قال، حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا يزيد بن زريع، عن أبي رجاء الأزدي، عن الحسن: ( نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، قال: طيباتهم. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله. حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن وهيب: أنه بلغه أن مجاهدًا كان يقول في هذه الآية: هم أهل الرياء، هم أهل الرياء. . . . . قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح قال ، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان، أن عقبة بن مسلم حدثه، أنّ شُفيّ بن ماتع الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال من هذا؟ فقالوا أبو هريرة! فدنوت منه حتى قعدت بين يديه ، وهو يحدِّث الناس، فلما سكت وَخَلا قلت: أنشدك بحقِّ ، وبحقِّ، لما حدثتني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَلته وعلمتَه . قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ثم نَشَغ نشغةً، ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ، ما فيه أحدٌ غيري وغيره ! ثم نشَغ أبو هريرة نشغةً شديدة، ثم مال خارًّا على وجهه، واشتدّ به طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ، نـزل إلى القيامة ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثيةٌ، فأوّل من يدعى به رجلٌ جمع القرآن، ورجل قُتِل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنـزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا رب ! قال: فماذا عملت فيما عُلِّمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار! فيقول الله له: كذبت ! وتقول له الملائكة: كذبت ! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: « فلان قارئ » فقد قيل ذلك ! ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسِّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب ! قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم ، وأتصدَّق. فيقول الله له: كذبت ! وتقول الملائكة: كذبت ! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: « فلان جواد » ، فقد قيل ذلك! ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقال له: فيماذا قُتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله له: كذبت ! وتقول له الملائكة: كذبت ! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: « فلان جريء » ، وقد قيل ذلك ! ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة ، أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة. قال الوليد أبو عثمان: فأخبرني عقبة أن شفيًّا هو الذي دخل على معاوية، فأخبره بهذا. قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم : أنه كان سيَّافًا لمعاوية، قال: فدخل عليه رجل فحدّثه بهذا عن أبي هريرة، فقال أبو هريرة : وقد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس! ثم بكى معاوية بكاءً شديدًا حتى ظننا أنه هلك، وقلنا: [ قد جاءنا ] هذا الرجل بشرٍّ ! ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) ، وقرأ إلى: وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن مجاهد: ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) الآية، قال: ممن لا يتقبل منه، يصوم ويصلي يريد به الدنيا، ويدفع عنه هَمّ الآخرة ( وهم فيها لا يبخسون ) ، لا ينقصون. القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 16 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين ذكرت أنّا نوفيهم أجور أعمالهم في الدنيا ( ليس لهم في الآخرة إلا النار ) ، يصلونها ( وحبط ما صنعوا فيها ) ، يقول: وذهب ما عملوا في الدنيا، ( وباطل ما كانوا يعملون ) ، لأنهم كانوا يعملون لغير الله، فأبطله الله وأحبط عامله أجره. القول في تأويل قوله تعالى : أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، قد بين له دينه فتبينه ( ويتلوه شاهد منه ) . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: يعني بقوله: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن خلف قال ، حدثنا حسين بن محمد قال ، حدثنا شيبان، عن قتادة، عن عروة، عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبت ، أنت التالي في ( ويتلوه شاهد منه ) ؟ قال: لا والله يا بنيّ ! وددت أني كنت أنا هو، ولكنه لسانُه حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، ، عن الحسن: ( ويتلوه شاهد منه ) قال: لسانه. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، في قوله: ( ويتلوه شاهد منه ) قال: لسانه. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا الحكم بن عبد الله أبو النعمان العجلي قال ، حدثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله. حدثني علي بن الحسن الأزدي قال ، حدثنا المعافى بن عمران، عن قرة بن خالد، عن الحسن، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، وهو محمد ، كان على بيّنة من ربه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قوله: ( ويتلوه شاهد منه ) قال: لسانه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: لسانه هو الشاهد. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا غندر، عن عوف، عن الحسن، مثله. وقال آخرون: يعني بقوله: ( ويتلوه شاهد منه ) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن سليمان العلاف، عن الحسين بن علي في قوله: ( ويتلوه شاهد منه ) قال: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا غندر، عن عوف، قال، حدثني سليمان العلاف قال: بلغني أن الحسن بن علي قال: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: محمد صلى الله عليه وسلم. . . . . قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن سليمان العلاف، سمع الحَسَن بن علي: ( ويتلوه شاهد منه ) ، يقول: محمد، هو الشاهد من الله. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ) ، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان على بينة من ربه، والقرآن يتلوه شاهدٌ أيضًا من الله ، بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، قال: النبي صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن نضر بن عربي، عن عكرمة، مثله. . . .. قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله. حدثنا الحارث قال ، حدثنا أبو خالد، سمعت سفيان يقول: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، قال: محمد صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: هو علي بن أبي طالب. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال ، حدثنا رزيق بن مرزوق قال ، حدثنا صباح الفراء، عن جابر، عن عبد الله بن نجيّ قال، قال علي رضي الله عنه: ما من رجل من قريش إلا وقد نـزلت فيه الآية والآيتان. فقال له رجُل: فأنتَ فأي شيء نـزل فيك؟ فقال علي: أما تقرأ الآية التي نـزلت في هود : ( ويتلوه شاهد منه ) . وقال آخرون: هو جبريل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( ويتلوه شاهد منه ) ، إنه كان يقول: جبريل. حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: جبريل. وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى ، بإسناده عن إبراهيم فقال: قال : يقولون : « علي » ، إنما هو جبريل. حدثنا أبو كريب، وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: هو جبريل، تلا التوراة والإنجيل والقرآن، وهو الشاهد من الله. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان وحدثنا محمد بن عبد الله المخرّميّ ، قال ، حدثنا جعفر بن عون قال ، حدثنا سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم: ( ويتلوه شاهد منه ) قال: جبريل. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، مثله. . . . . قال، حدثنا سهل بن يوسف قال ، حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، مثله. . . . . قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال: جبريل. . . . . قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: جبريل. . . . . قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: جبريل . . . . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، يعني محمدًا هو على بينة من الله ( ويتلوه شاهد منه ) ، جبريل ، شاهدٌ من الله ، يتلو على محمد ما بُعث به. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: هو جبريل . . . . قال، حدثنا أبي، عن نضر بن عربي، عن عكرمة، قال: هو جبريل. . . . . قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: جبريل. . . . . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، يعني محمدًا ، على بينة من ربه ( ويتلوه شاهد منه ) ، فهو جبريل ، شاهد من الله بالذي يتلو من كتاب الله الذي أنـزل على محمد قال: ويقال: ( ويتلوه شاهد منه ) ، يقول: يحفظه المَلَك الذي معه. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان عارم قال ، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب قال،كان مجاهد يقول في قوله: ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، قال: يعني محمدًا، ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: جبريل. وقال آخرون: هو ملك يحفظه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: معه حافظ من الله ، مَلَكٌ. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون، وسويد بن عمرو، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن مجاهد: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: ملك يحفظه. . . . . قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عمن سمع مجاهدًا: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: الملك. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ويتلوه شاهد منه ) ، يتبعه حافظٌ من الله ، مَلَكٌ. حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن أيوب، عن مجاهد: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: الملك يحفظه: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ ، [ سورة البقرة: 121 ] قال: يتّبعونه حقّ اتباعه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قال: حافظ من الله ، مَلكٌ. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصواب في تأويل قوله: ( ويتلوه شاهد منه ) ، قولُ من قال: « هو جبريل » ، لدلالة قوله: ( ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً ) ، على صحة ذلك . وذلك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يتلُ قبل القرآن كتاب موسى، فيكون ذلك دليلا على صحة قول من قال: « عنى به لسان محمد صلى الله عليه وسلم، أو: محمد نفسه، أو : عليّ » على قول من قال: « عني به علي » . ولا يعلم أنّ أحدًا كان تلا ذلك قبل القرآن ، أو جاء به، ممن ذكر أهل التأويل أنه عنى بقوله: ( ويتلوه شاهد منه ) ، غير جبريل عليه السلام. فإن قال قائل: فإن كان ذلك دليلك على أن المعنيَّ به جبريل، فقد يجب أن تكون القراءة في قوله: ( ومن قبله كتاب موسى ) بالنصب ، لأن معنى الكلام على ما تأولتَ يجب أن يكون: ويتلو القرآنَ شاهدٌ من الله، ومن قبل القرآن كتابَ موسى؟ قيل: إن القراء في الأمصار قد أجمعت على قراءة ذلك بالرفع فلم يكن لأحد خلافها، ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالنصب ، كانت قراءة صحيحةً ومعنى صحيحًا. فإن قال: فما وجه رفعهم إذًا « الكتاب » على ما ادعيت من التأويل؟ قيل: وجه رفعهم هذا أنهم ابتدؤوا الخبر عن مجيء كتاب موسى قبل كتابنا المنـزل على محمد، فرفعوه ب « من » [ ومنه ] ، والقراءة كذلك، والمعنى الذي ذكرت من معنى تلاوة جبريل ذلك قبل القرآن، وأن المراد من معناه ذلك ، وإن كان الخبر مستأنفًا على ما وصفت ، اكتفاءً بدلالة الكلام على معناه. وأما قوله: ( إمامًا ) فإنه نصب على القطع من « كتاب موسى » ، وقوله ( ورحمة ) ، عطف على « الإمام » . كأنه قيل: ومن قبله كتاب موسى إمامًا لبني إسرائيل يأتمُّون به، ورحمةً من الله تلاه على موسى، كما:- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن أبيه، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: ( ومن قبله كتاب موسى ) ، قال: من قبله جاء بالكتاب إلى موسى. وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ذكر عليه منه، وهو: ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً ) ، « كمن هو في الضلالة متردد لا يهتدي لرشد، ولا يعرف حقًّا من باطل، ولا يطلب بعمله إلا الحياة الدنيا وزينتها » . وذلك نظير قوله: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [ سورة الزمر: 9 ] والدليل على حقيقة ما قلنا في ذلك أن ذلك عقيب قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، الآية، ثم قيل: أهذا خير ، أمن كان على بينة من ربه؟ والعرب تفعل ذلك كثيرًا إذا كان فيما ذكرت دلالة على مرادها على ما حذفت، وذلك كقول الشاعر: وَأُقْسِــمُ لَـوْ شَـيْءٌ أَتَانَـا رَسُـولُه سِـواكَ وَلَكِـنْ لَـمْ نَجِـدْ لَـكَ مَدْفَعًا وقوله: ( أولئك يؤمنون به ) ، يقول: هؤلاء الذين ذكرت ، يصدقون ويقرّون به ، إن كفر به هؤلاء المشركون الذين يقولون: إن محمدًا افتراه. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( 17 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ومن يكفر بهذا القرآن ، فيجحد أنه من عند الله ( من الأحزاب ) وهم المتحزّبة على مللهم ( فالنار موعده ) ، أنه يصير إليها في الآخرة بتكذيبه. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( فلا تك في مرية منه ) ، يقول: فلا تك في شك منه، من أن موعدَ من كفر بالقرآن من الأحزاب النارُ، وأن هذا القرآن الذي أنـزلناه إليك من عند الله. ثم ابتدأ جل ثناؤه الخبر عن القرآن فقال: إن هذا القرآن الذي أنـزلناه إليك ، يا محمد ، الحقّ من ربك لا شك فيه، ولكنّ أكثر الناس لا يصدِّقون بأن ذلك كذلك. فإن قال قائل: أوَ كان النبي صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من أن القرآن من عند الله، وأنه حق، حتى قيل له: « فلا تك في مرية منه » ؟ قيل: هذا نظير قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ [ سورة يونس: 94 ] ، وقد بينا ذلك هنالك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب قال: نبئت أن سعيد بن جبير قال: ما بلغني حديثٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على وَجهه إلا وجدت مصداقَه في كتاب الله تعالى، حتى قال « لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصرانيّ، ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار » . قال سعيد، فقلت : أين هذا في كتاب الله؟ حتى أتيت على هذه الآية: ( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ) ، قال: من أهل الملل كُلّها. حدثنا محمد بن عبد الله المخرّمي ، وابن وكيع قالا حدثنا جعفر بن عون قال ، حدثنا سفيان، عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله: ( ومن يكفُر به من الأحزاب ) ، قال: من الملل كلها. حدثني يعقوب ، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير قال: كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وَجهه، إلا وجدت مصداقه أو قال تصديقه في القرآن، فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار » ، فجعلت أقول: أين مصداقُها؟ حتى أتيت على هذه: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ، إلى قوله: ( فالنار موعده ) ، قال: فالأحزاب، الملل كلها. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، حدثني أيوب، عن سعيد بن جبير قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، فلا يؤمن بي إلا دخل النار » ، فجعلت أقول: أين مصداقها في كتاب الله؟ قال: وقلَّما سمعت حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وجدتُ له تصديقًا في القرآن، حتى وجدت هذه الآيات: ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) ، الملل كلها. . . .. قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ) ، قال: الكفارُ أحزابٌ كلهم على الكفر. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ ، [ سورة الرعد: 36 ] ، أي : يكفر ببعضه، وهم اليهود والنصارى. قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: « لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، ولا يهودي ولا نصراني ، ثم يموت قبل أن يؤمن بي، إلا دخل النار » . حدثني المثنى قال ، حدثنا يوسف بن عدي النضري قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي لم يدخل الجنة. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 18 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأي الناس أشد تعذيبًا ممن اختلق على الله كذبًا فكذب عليه؟ ( أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) يعرضون يوم القيامة على ربهم « ، فيسألهم عما كانوا في دار الدنيا يعملون، كما: » حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ) ، قال: الكافر والمنافق ، ( أولئك يعرضون على ربهم ) ، فيسألهم عن أعمالهم. وقوله: ( ويقول الأشهاد ) ، يعني الملائكة والأنبياء الذين شهدوهم وحفظوا عليهم ما كانوا يعملون وهم جمع « شاهد » مثل « الأصحاب » الذي هو جمع « صاحب » ( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) ، يقول: شهد هؤلاء الأشهاد في الآخرة على هؤلاء المفترين على الله في الدنيا، فيقولون: هؤلاء الذين كذبوا في الدنيا على ربهم، يقول الله: ( ألا لعنة الله على الظالمين ) ، يقول: ألا غضب الله على المعتدين الذين كفروا بربّهم. وبنحو ما قلنا في قوله ( ويقول الأشهاد ) ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ويقول الأشهاد ) ، قال: الملائكة. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الملائكة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( ويقول الأشهاد ) ، والأشهاد: الملائكة، يشهدون على بني آدم بأعمالهم. حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( الأشهاد ) ، قال: الخلائق أو قال: الملائكة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، بنحوه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( ويقول الأشهاد ) ، الذين كان يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا ( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) ، حفظوه وشهدوا به عليهم يوم القيامة قال ابن جريج: قال مجاهد: « الأشهاد » ، الملائكة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، قال: سألت الأعمش عن قوله: ( ويقول الأشهاد ) ، قال: الملائكة. حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ويقول الأشهاد ) ، يعني الأنبياء والرسل، وهو قوله: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ، [ سورة النحل: 89 ] . قال: وقوله: ( ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) ، يقولون: يا ربنا أتيناهم بالحق فكذبوا، فنحن نشهد عليهم أنهم كذبوا عليك يا ربنا. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد وهشام، عن قتادة، عن صفوان بن محرز المازني قال، بينا نحن بالبيت مع عبد الله بن عمر ، وهو يطوف، إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر ، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كَنَفه فيقرّره بذنوبه، فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: رب أعرف ! مرتين ، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم . قال: فيعطى صحيفة حسناته أو : كتابه بيمينه. وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الأشهاد: « ألا هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين » . حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا هشام، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: كنا نحدَّث أنه لا يخزَى يومئذ أحدٌ ، فيخفى خزيُه على أحد ممن خلق لله أو: الخلائق. القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ( 19 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ألا لعنة الله على الظَّالمين الذين يصدّون الناسَ، عن الإيمان به، والإقرار له بالعبودة ، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد ، من مشركي قريش، وهم الذين كانوا يفتنون عن الإسلام من دخل فيه . ( ويبغونها عوجًا ) ، يقول: ويلتمسون سبيل الله ، وهو الإسلام الذي دعا الناس إليه محمد، يقول: زيغًا وميلا عن الاستقامة. ( وهم بالآخرة هم كافرون ) ، يقول: وهم بالبعث بعد الممات مع صدهم عن سبيل الله وبغيهم إياها عوجًا ( كافرون ) يقول: هم جاحدون ذلك منكرون. القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ( 20 ) قال أبو جعفر : يعني جل ذكره بقوله: ( أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ) ، هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه أنهم يصدّون عن سبيل الله، يقول جل ثناؤه: إنهم لم يكونوا بالذي يُعْجِزون ربَّهم بهربهم منه في الأرض إذا أراد عقابهم والانتقام منهم، ولكنهم في قبضته وملكه، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه هربًا إذا طلبهم ( وما كان لهم من دون الله من أولياء ) ، يقول: ولم يكن لهؤلاء المشركين إذا أراد عقابهم من دون الله أنصارٌ ينصرونهم من الله ، ويحولون بينهم وبينه إذا هو عذبهم، وقد كانت لهم في الدنيا مَنْعَة يمتنعون بها ممن أرادهم من الناس بسوء وقوله: ( يضاعف لهم العذاب ) ، يقول تعالى ذكره: يزاد في عذابهم، فيجعل لهم مكان الواحد اثنان. وقوله: ( ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، فإنه اختلف في تأويله. فقال بعضهم: ذلك وصَفَ الله به هؤلاء المشركين أنه قد ختم على سمعهم وأبصارهم، وأنهم لا يسمعون الحق، ولا يبصرون حجج الله ، سَمَاعَ منتفع ، ولا إبصارَ مهتدٍ. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، صم عن الحقّ فما يسمعونه، بكم فما ينطقون به، عمي فلا يبصرونه، ولا ينتفعون به حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيرًا فينتفعوا به، ولا يبصروا خيرًا فيأخذوا به حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك ، وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا ، فإنه قال: ( ما كانوا يستطيعون السمع ) ، وهي طاعته ( وما كانوا يبصرون ) . وأما في الآخرة ، فإنه قال: فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً ، [ سورة القلم: 42، 43 ] . وقال آخرون: إنما عنى بقوله: ( وما كان لهم من دون الله من أولياء ) ، آلهةَ الذين يصدون عن سبيل الله. وقالوا: معنى الكلام: أولئك وآلهتهم ، ( لم يكونوا معجزين في الأرض يضاعَفُ لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ) ، يعني الآلهة ، أنها لم يكن لها سمعٌ ولا بصر. وهذا قولٌ روي عن ابن عباس من وجه كرهت ذكره لضعْفِ سَنَده. وقال آخرون: معنى ذلك: يُضَاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه، وبما كانوا يبصرون ولا يتأمَّلون حجج الله بأعينهم فيعتبروا بها. قالوا: و « الباء » كان ينبغي لها أن تدخل، لأنه قد قال: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ، [ سورة البقرة: 10 ] ، بكذبهم ، في غير موضع من التنـزيل أدخلت فيه « الباء » ، وسقوطها جائز في الكلام كقولك في الكلام : « لأجزينَّك ما علمت ، وبما علمت » ، وهذا قول قاله بعض أهل العربية. قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، ما قاله ابن عباس وقتادة، من أن الله وصفهم تعالى ذكره بأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحقّ سماع منتفع، ولا يبصرونه إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين، عن استعمال جوارحهم في طاعة الله، وقد كانت لهم أسماعٌ وأبصارٌ. القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 21 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله ( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) ، وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله ، بادعائهم له شركاء، فسلك ما كانوا يدعونه إلهًا من دون الله غير مسلكهم، وأخذ طريقًا غير طريقهم، فضَلّ عنهم، لأنه سلك بهم إلى جهنم، وصارت آلهتهم عدمًا لا شيء، لأنها كانت في الدنيا حجارة أو خشبًا أو نحاسًا أو كان لله وليًّا، فسلك به إلى الجنة، وذلك أيضًا غير مسلكهم، وذلك أيضًا ضلالٌ عنهم. القول في تأويل قوله تعالى : لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ( 22 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: حقا أن هؤلاء القوم الذين هذه صفتهم في الدنيا وفي الآخرة هم الأخسرون الذين قد باعوا منازلهم من الجنان بمنازل أهل الجنة من النار ; وذلك هو الخسران المبين. وقد بينا فيما مضى أن معنى قولهم: « جَرمتُ » ، كسبت الذنب و « جرمته » ، وأن العرب كثر استعمالها إياه في مواضع الأيمان، وفي مواضع « لا بد » كقولهم: « لا جرم أنك ذاهب » ، بمعنى: « لا بد » ، حتى استعملوا ذلك في مواضع التحقيق ، فقالوا: « لا جَرَم لتقومن » ، بمعنى: حَقًّا لتقومن. فمعنى الكلام: لا منع عن أنهم، ولا صدّ عن أنهم. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 23 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله ، وعملوا في الدنيا بطاعة الله و « أخبتوا إلى ربهم » . واختلف أهل التأويل في معنى « الإخبات » . فقال بعضهم: معنى ذلك: وأنابوا إلى ربهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم ) ، قال: « الإخبات » ، الإنابة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وأخبتوا إلى ربهم ) ، يقول: وأنابوا إلى ربهم. وقال آخرون: معنى ذلك: وخافوا. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: ( وأخبتوا إلى ربهم ) ، يقول: خافوا. وقال آخرون: معناه: اطمأنوا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأخبتوا إلى ربهم ) ، قال: اطمأنوا. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: معنى ذلك: خشعوا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( وأخبتوا إليهم ربهم ) ، « الإخبات » ، التخشُّع والتواضع قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متقاربة المعاني ، وإن اختلفت ألفاظها، لأن الإنابة إلى الله من خوف الله، ومن الخشوع والتواضع لله بالطاعة، والطمأنينة إليه من الخشوع له، غير أن نفس « الإخبات » ، عند العرب : الخشوع والتواضع. وقال: ( إلى ربهم ) ، ومعناه: وأخبتوا لربهم. وذلك أن العرب تضع « اللام » موضع « إلى » و « إلى » موضع « اللام » كثيًرا، كما قال تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ، [ سورة الزلزلة: 5 ] بمعنى: أوحى إليها. وقد يجوز أن يكون قيل ذلك كذلك، لأنهم وصفوا بأنهم عمدوا بإخباتهم إلى الله. وقوله: ( أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) ، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم ، هم سكان الجنة الذين لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها، ولكنهم فيها لابثُون إلى غير نهاية. القول في تأويل قوله تعالى : مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 24 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مثل فريقي الكفر والإيمان كمثل الأعمى الذي لا يرى بعينه شيئًا ، والأصم الذي لا يسمع شيئًا ، فكذلك فريق الكفر لا يبصر الحق فيتبعه ويعمل به، لشغله بكفره بالله ، وغلبة خذلان الله عليه، لا يسمع داعي الله إلى الرشاد، فيجيبه إلى الهدى فيهتدي به، فهو مقيمٌ في ضلالته، يتردَّد في حيرته. والسميع والبصير فذلك فريق الإيمان ، أبصر حجج الله، وأقر بما دلت عليه من توحيد الله ، والبراءة من الآلهة والأنداد ، ونبوة الأنبياء عليهم السلام ، وسمعَ داعي الله فأجابه وعمل بطاعة الله، كما: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) ، قال: « الأعمى » و « الأصم » : الكافر و « البصير » و « السميع » ، المؤمن حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) ، الفريقان الكافران، والمؤمنان، فأما الأعمى والأصم فالكافران، وأما البصير والسميع فهما المؤمنان. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع ) ، الآية، هذا مثلٌ ضربه الله للكافر والمؤمن، فأما الكافر فصم عن الحق، فلا يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره. وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به ، وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به. يقول تعالى: ( هل يستويان مثلا ) ، يقول: هل يستوي هذان الفريقان على اختلاف حالتيهما في أنفسهما عندكم أيها الناس؟ فإنهما لا يستويان عندكم، فكذلك حال الكافر والمؤمن لا يستويان عند الله ( أفلا تذكرون ) ، يقول جل ثناؤه: أفلا تعتبرون أيها الناس وتتفكرون، ، فتعلموا حقيقة اختلاف أمريهما، فتنـزجروا عما أنتم عليه من الضلال إلى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان؟ فالأعمى والأصم ، والبصير والسميع ، في اللفظ أربعة، وفي المعنى اثنان. ولذلك قيل: ( هل يستويان مثلا ) . وقيل: ( كالأعمى والأصم ) ، والمعنى: كالأعمى الأصمّ، وكذلك قيل ( والبصير والسميع ) ، ، والمعنى: البصير السميع، كقول القائل: « قام الظريف والعاقل » ، وهو ينعت بذلك شخصًا واحدًا. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ( 25 ) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ( 26 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه : إني لكم ، أيها القوم ، نذير من الله، أنذركم بأسَه على كفركم به، فآمنوا به وأطيعوا أمره. ويعني بقوله: ( مبين ) ، يبين لكم عما أرسل به إليكم من أمر الله ونهيه. واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( إني ) . فقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة وبعض المدنيين بكسر « إنّ » على وجه الابتداء إذ كان في « الإرسال » معنى « القول » . وقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة بفتح « أن » على إعمال الإرسال فيها، كأن معنى الكلام عندهم: لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأني لكم نذير مبين. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال إنهما قراءتان متفقتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ كان مصيبًا للصواب في ذلك. وقوله: ( أن لا تعبدوا إلا الله ) فمن كسر الألف في قوله: ( إني ) جعل قوله: ( أرسلنا ) عاملا في « أنْ » التي في قوله: ( أن لا تعبدوا إلا الله ) ، ويصير المعنى حينئذ: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه، أن لا تعبدوا إلا الله، وقل لهم : إني لكم نذير مبين ومن فتحها ردّ « أنْ » في قوله: ( أن لا تعبدوا ) عليها. فيكون المعنى حينئذ: لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأني لكم نذير مبين، بأن لا تعبدوا إلا الله. ويعني بقوله: [ بأن لا تعبدوا إلا الله أيها الناس ] ، عبادة الآلهة والأوثان ، وإشراكها في عبادته، وأفردوا الله بالتوحيد ، وأخلصوا له العبادة، فإنه لا شريك له في خلقه. وقوله: ( إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) ، يقول: إني أيها القوم ، إن لم تخصُّوا الله بالعبادة، وتفردوه بالتوحيد ، وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان أخاف عليكم من الله عذابَ يوم مؤلم عقابُه وعذابُه لمن عُذِّب فيه. وجعل « الأليم » من صفة « اليوم » وهو من صفة « العذاب » ، إذ كان العذاب فيه ، كما قيل: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا ، [ سورة الأنعام: 96 ] ، وإنما « السكن » من صفة ما سكن فيه دون الليل. القول في تأويل قوله تعالى : فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ( 27 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقال الكبراء من قوم نوح وأشرافهم وهم ( الملأ ) ، الذين كفروا بالله وجحدوا نبوة نبيهم نوح عليه السلام ( ما نراك ) ، يا نوح، ( إلا بشرًا مثلنا ) ، يعنون بذلك أنه آدمي مثلهم في الخلق والصُّورة والجنس، كأنهم كانوا منكرين أن يكون الله يرسل من البشر رسولا إلى خلقه. وقوله: ( وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) ، يقول: وما نراك اتبعك إلا الذين هم سفلتنا من الناس ، دون الكبراء والأشراف ، فيما نرَى ويظهر لنا. وقوله: ( بادي الرأي ) ، اختلفت القرأة في قراءته. فقرأته عامة قرأة المدينة والعراق: ( بَادِيَ الرَّأْيِ ) ، بغير همز « البادي » وبهمز « الرأي » ، بمعنى: ظاهر الرأي، من قولهم: « بدا الشيء يبدو » ، إذا ظهر، كما قال الراجز: أَضْحَـى لِخَـالِي شَـبَهِيَ بَـادِي بَدِي وَصَــارَ لِلْفَحْــلِ لِسَــانِي وَيَـدِي « بادي بدي » بغير همز، وقال آخر: وقَدْ عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ بادِي بَدِي وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: ( بَادِئَ الرَّأْيِ ) ، مهموزًا أيضًا، بمعنى: مبتدأ الرأي، من قولهم: « بدأت بهذا الأمر » ، إذا ابتدأت به قبل غيره. قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأ: ( بَادِيَ الرَّأْيِ ) بغير همز « البادي » ، وبهمز « الرأي » ، لأن معنى ذلك الكلام: إلا الذين هم أراذلنا ، في ظاهر الرأي ، وفيما يظهر لنا. وقوله: ( وما نرى لكم علينا من فضل ) ، يقول: وما نتبين لكم علينا من فضل نلتموه بمخالفتكم إيانا في عبادة الأوثان إلى عبادة الله وإخلاص العبودة له، فنتبعكم طلبَ ذلك الفضل ، وابتغاءَ ما أصبتموه بخلافكم إيانا ( بل نظنكم كاذبين ) . وهذا خطاب منهم لنوحٍ عليه السلام، وذلك أنهم إنما كذبوا نوحًا دون أتباعه، لأن أتباعه لم يكونوا رُسلا. وأخرج الخطابَ وهو واحد مخرج خطاب الجميع، كما قيل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ، [ سورة الطلاق: 1 ] . قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: بل نظنك ، يا نوح ، في دعواك أن الله ابتعثك إلينا رسولا كاذبًا. وبنحو ما قلنا في تأويل قوله ( بادي الرأي ) قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) ، قال: فيما ظهر لنا القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ( 28 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه إذ كذبوه ، وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة: ( يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، على علمٍ ومعرفةٍ وبيان من الله لي ما يلزمني له، ويجب عليّ من إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه فيها ( وآتاني رحمة من عنده ) ، يقول: ورزقني منه التوفيق والنبوّة والحكمة، فآمنت به وأطعته فيما أمرني ونهاني ( فعميت عليكم ) . واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة: ( فَعَمِيَتْ ) بفتح العين وتخفيف الميم، بمعنى: فعَمِيت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها ، فتقرّوا بها ، وتصدّقوا رسولكم عليها. وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) بضم العين وتشديد الميم، اعتبارًا منهم ذلك بقراءة عبد الله، وذلك أنها فيما ذكر في قراءة عبد الله: ( فَعَمَّاهَا عَلَيْكُمْ ) . قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه: ( فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ) بضم العين وتشديد الميم للذي ذكَروا من العلة لمن قرأ به، ولقربه من قوله: ( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده ) ، فأضَاف « الرحمة » إلى الله، فكذلك « تعميته على الآخرين » ، بالإضافة إليه أولى. وهذه الكلمة مما حوّلت العرب الفعل عن موضعه. وذلك أن الإنسان هو الذي يعمى عن إبصار الحق، إذ يعمى عن إبصاره، و « الحق » لا يوصف بالعمى ، إلا على الاستعمال الذي قد جرى به الكلام. وهو في جوازه لاستعمال العرب إياه نظيرُ قولهم: « دخل الخاتم في يدي، والخف في رجلي » ، ومعلوم أن الرجل هي التي تدخل في الخفّ، والإصبع في الخاتم، ولكنهم استعملوا ذلك كذلك ، لما كان معلومًا المرادُ فيه. وقوله: ( أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) ، يقول: أنأخذكم بالدخول في الإسلام ، وقد عماه الله عليكم ( وأنتم لها كارهون ) ، يقول: وأنتم لإلزامناكُموها « كارهون » ، يقول: لا نفعل ذلك، ولكن نكل أمركم إلى الله ، حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى ويشاء. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال نوح: ( يا قوم إن كنت على بينة من ربي ) ، قال: قد عرفتها ، وعرفت بها أمره ، وأنه لا إله إلا هو ( وآتاني رحمة من عنده ) ، الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوّة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، الآية، أما والله لو استطاع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية قال: في قراءة أبيّ: ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) . حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، أخبرنا عمرو بن دينار قال، قرأ ابن عباس: ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا ) ، قال ، عبد الله: « من شَطْر أنفسنا » ، من تلقاء أنفسنا. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس ، مثله. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ قُلُوبِنَا وأَنْتُمْ لَهَا كارِهُونَ ) . القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ( 29 ) قال أبو جعفر : وهذا أيضًا خبرٌ من الله عن قيل نوح لقومه ، أنه قال لهم: يا قوم لا أسألكم على نصيحتي لكم ، ودعايتكم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له ، مالا أجرًا على ذلك، فتتهموني في نصيحتي، وتظنون أن فعلي ذلك طلبُ عرض من أعراض الدنيا ( إن أجري إلا على الله ) ، يقول: ما ثواب نصيحتي لكم ، ودعايتكم إلى ما أدعوكم إليه، إلا على الله، فإنه هو الذي يجازيني، ويثيبني عليه ( وما أنا بطارد الذين آمنوا ) ، وما أنا بمقصٍ من آمن بالله ، وأقرّ بوحدانيته ، وخلع الأوثان وتبرأ منها ، بأن لم يكونوا من عِلْيتكم وأشرافكم ( إنهم ملاقو ربهم ) ، يقول: إن هؤلاء الذين تسألوني طردهم ، صائرون إلى الله، والله سائلهم عما كانوا في الدنيا يعملون، لا عن شرفهم وحسبهم. وكان قيل نوح ذلك لقومه، لأن قومه قالوا له، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: ( وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ) ، قال: قالوا له: يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء . فقال: ( ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ) ، فيسألهم عن أعمالهم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، وحدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح جميعا، عن مجاهد قوله: ( إن أجري إلا على الله ) ، قال: جَزَائي. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقوله: ( ولكني أراكم قومًا تجهلون ) ، يقول: ولكني ، أيها القوم ، أراكم قومًا تجهلونَ الواجبَ عليكم من حقّ الله ، واللازم لكم من فرائضه. ولذلك من جهلكم سألتموني أن أطرد الذين آمنوا بالله. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 30 ) قال أبو جعفر : يقول: ( ويا قوم من ينصرني ) ، فيمنعني من الله إن هو عاقبني على طردي المؤمنين الموحِّدين الله إن طردتهم ؟ ( أفلا تذكرون ) ، يقول: أفلا تتفكرون فيما تقولون: فتعلمون خطأه ، فتنتهوا عنه؟. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 31 ) قال أبو جعفر : وقوله: ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ) ، عطف على قوله: ( ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا ) . ومعنى الكلام: ( ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا ) ، ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ) ، التي لا يفنيها شيء، فأدعوكم إلى اتباعي عليها. ولا أعلم أيضًا الغيب يعني : ما خفي من سرائر العباد، فإن ذلك لا يعلمه إلا الله فأدّعي الربوبية وأدعوكم إلى عبادتي.ولا أقول أيضًا : إني ملك من الملائكة ، أرسلت إليكم، فأكون كاذبًا في دعواي ذلك، بل أنا بشر مثلكم كما تقولون، أمرت بدعائكم إلى الله، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ( ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرًا ) يقول: ولا أقول للذين اتبعوني وآمنوا بالله ووحَّدوه ، الذين تستحقرهم أعينكم، وقلتم : إنهم أراذلكم ( لن يؤتيهم الله خيرًا ) ، وذلك الإيمان بالله ( الله أعلم بما في أنفسهم ) ، يقول: الله أعلم بضمائر صدورهم ، واعتقاد قلوبهم، وهو وليّ أمرهم في ذلك، وإنما لي منهم ما ظهر وبدا، وقد أظهُروا الإيمان بالله واتبعوني، فلا أطردهم ولا أستحل ذلك ( إني إذًا لمن الظالمين ) ، يقول: إنّي إن قلت لهؤلاء الذين أظهروا الإيمان بالله وتصديقي: ( لن يؤتيهم الله خيرًا ) ، وقضيت على سرائرهم بخلاف ما أبدته ألسنتهم لي على غير علم منّي بما في نفوسهم ، وطردتهم بفعلي ذلك، لمن الفاعلين ما ليس لهم فعله ، المعتدين ما أمرهم الله به ، وذلك هو « الظلم » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: ( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ) التي لا يفنيها شيء، فأكون إنما أدعوكم لتتبعوني عليها لأعطيكم منها ولا أقول إني ملك نـزلت من السماء برسالة، ما أنا إلا بشر مثلكم. ( ولا أعلم الغيب ) ، ولا أقول اتبعوني على علم الغيب. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 32 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قال قوم نوح لنوح عليه السلام: قد خاصمتنا فأكثرت خصومتنا ، فأتنا بما تعدنا من العذاب ، إن كنت من الصادقين في عِداتك ودَعواك أنك لله رسول. يعني: بذلك أنه لن يقدر على شيء من ذلك. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( جادلتنا ) ، قال: ماريتنا. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: ( قالوا يا نوح قد جادلتنا ) ، قال: ماريتنا ( فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا ) قال ابن جريج: تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطلٌ ( فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا ) ، قال ابن جريج: تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطلٌ. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 33 ) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 34 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه حين استعجلوه العذاب: يا قوم ، ليس الذي تستعجلون من العذاب إليّ، إنما ذلك إلى الله لا إلى غيره، هو الذي يأتيكم به إن شاء ( وما أنتم بمعجزين ) يقول: ولستم إذا أراد تعذيبكم بمعجزيه، أي بفائتيه هربًا منه ، لأنكم حيث كنتم في ملكه وسلطانه وقدرته ، حكمهُ عليكم جارٍ ( ولا ينفعكم نصحي ) ، يقول: ولا ينفعكم تحذيري عقوبته ، ونـزولَ سطوته بكم على كفركم به ( إن أردت أن أنصح لكم ) ، في تحذيري إياكم ذلك ، لأن نصحي لا ينفعكم ، لأنكم لا تقبلونه. ( إن كان الله يريد أن يغويكم ) ، يقول: إن كان الله يريد أن يهلككم بعذابه ( هو ربكم وإليه ترجعون ) ، يقول: وإليه تردُّون بعد الهلاك. حكي عن طيئ أنها تقول: « أصبح فلان غاويًا » : أي مريضًا. وحكي عن غيرهم سماعًا منهم: « أغويت فلانًا » ، بمعنى أهلكتَه و « غَوِيَ الفصيل » ، إذا فقد اللبن فمات. وذكر أن قول الله: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ، [ سورة مريم: 59 ] ، أي هلاكًا. القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ( 35 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: أيقول يا محمد هؤلاء المشركون من قومك: افترى محمد هذا القرآن؟ وهذا الخبر عن نوح ؟ قل لهم: إن افتريته فتخرصته واختلقته. ( فعليّ إجرامي ) يقول: فعلي إثمي في افترائي ما افتريت على ربّي دونكم، لا تؤاخذون بذنبي ولا إثمي ، ولا أؤاخذ بذنبكم. ( وأنا بريء مما تجرمون ) ، يقول: وأنا بريء مما تذنبون وتأثَمُون بربكم ، من افترائكم عليه. ويقال منه: « أجرمت إجرامًا » ، و « جرَمْت أجرِم جَرْمًا » ، كما قال الشاعر: طَرِيــدُ عَشِــيرَةٍ وَرَهِيــنُ ذَنْـبٍ بِمَـا جَـرَمَتْ يَـدِي وَجَـنَى لِسَـانِي القول في تأويل قوله تعالى : وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 36 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأوحَى الله إلى نوح ، لمّا حَقّ على قومه القولُ، وأظلَّهم أمرُ الله، أنه لن يؤمن، يا نوح ، بالله فيوحِّده ، ويتبعك على ما تدعوه إليه ( من قومك إلا من قد آمن ) ، فصدّق بذلك واتبعك. ( فلا تبتئس ) ، يقول: فلا تستكن ولا تحزن ( بما كانوا يفعلون ) ، فإني مهلكهم ، ومنقذك منهم ومن اتبعك. وأوحى الله ذلك إليه ، بعد ما دعا عليهم نوحٌ بالهلاك فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، [ سورة نوح: 26 ] . وهو « تفتعل » من « البؤس » ، يقال: « ابتأس فلان بالأمر يبتئس ابتئاسًا » : كما قال لبيد بن ربيعة: فِـــي مَـــأْتَمٍ كَنِعَــاجِ صَــا رَةَ يَبْتَئِسْــــنَ بِمَـــا لَقَيْنـــا وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فلا تبتئس ) ، قال: لا تحزن. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد مثله. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) ، يقول: فلا تحزن. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) ، قال: لا تأسَ ولا تحزن. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) ، وذلك حين دعا عليهم قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، [ سورة نوح: 26 ] قوله: ( فلا تبتئس ) ، يقول: فلا تأسَ ولا تحزن. حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) ، فحينئذ دعا على قومه ، لما بيَّن الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن. القول في تأويل قوله تعالى : وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ( 37 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأحي إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وأن اصنع الفلك، وهو السفينة ، كما: حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الفلك: السفينة . وقوله : ( بأعيننا ) ، يقول: بعين الله ووحيه كما يأمرك، كما:- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) ، وذلك أنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها على مثل جؤجؤ الطائر. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ووحينا ) ، قال: كما نأمرك. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وحدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بأعيننا ووحينا ) ، كما نأمرك. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: ( واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) ، قال: بعين الله، قال ابن جريج، قال مجاهد: ( ووحينا ) ، قال: كما نأمرك. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: ( بأعيننا ووحينا ) ، قال: بعين الله ووحيه. وقوله: ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) ، يقول تعالى ذكره: ولا تسألني في العفو عن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم من قومك، فأكسبوها تعدّيًا منهم عليها بكفرهم بالله الهلاك بالغرق، إنهم مغرقون بالطوفان ، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( ولا تخاطبني ) ، قال: يقول: ولا تراجعني. قال: تقدَّم أن لا يشفع لهم عنده. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ( 38 ) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويصنع نوح السفينة، وكلما مرّ عليه جماعة من كبراء قومه ( سَخِرُوا مِنْهُ ) ، يقول: هزئوا من نوح، ويقولون له: أتحوّلت نجارًا بعد النبوّة ، وتعمل السفينة في البر ؟ فيقول لهم نوح: ( إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا ) ، إن تهزءوا منا اليوم، فإنا نهزأ منكم في الآخرة ، كما تهزءون منا في الدنيا ( فسوف تعلمون ) ، إذا عاينتم عذابَ الله، مَن الذي كان إلى نفسه مُسِيئًا منَّا . وكانت صنعة نوح السفينة ، كما:- حدثني المثنى وصالح بن مسمار قالا حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا موسى بن يعقوب قال، حدثني فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع: أنّ إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة، أخبره : أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ، حتى كان آخر زمانه غَرس شجرةً، فعظمت وذهبت كلَّ مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعمل سفينة، ويمرُّون فيسألونه، فيقول: أعملها سفينة ! فيسخرون منه ويقولون: تعمل سفينةً في البر فكيف تجري ! فيقول: سوف تعلمون. فلما فرغ منها ، وفارَ التنور ، وكثر الماء في السكك ، خشيت أمُّ الصبيِّ عليه، وكانت تحبّه حبًّا شديدًا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثُلُثه . فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثي الجبل . فلما بلغها الماء خرجت ، حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبتها رفعتْه بين يديها ، حتى ذهب بها الماء . فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أمّ الصبّر . حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن طول السفينة ثلاث مائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعًا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعًا، وبابها في عرضها حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: كان طول سفينة نوح ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ست مائة ذراع. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن مفضل بن فضالة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال الحواريُّون لعيسى ابن مريم: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدَّثنا عنها ! قال: فانطلق بهم حتى انتهى بهم إلى كثيب من تراب، فأخذ كفًّا من ذلك التراب بكفه، قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب حام بن نوح. قال: فضرب الكثيب بعصاه، قال: قم بإذن الله ! فإذا هو قائمٌ ينفُض التراب عن رأسه قد شَابَ ، قال له عيسى: هكذا هلكت؟ قال: لا ولكن مِتُّ وأنا شابّ، ولكني ظننت أنها الساعة، فمن ثَمَّ شِبتُ. قال: حدثنا عن سفينة نوح . قال: كان طولها ألف ذرع ومائتي ذراع، وعرضها ست مائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدوابُّ والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. فلما كثر أرواث الدوابِّ، أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذَنب الفيل ، فغمزه فوقع منه خنـزير وخنـزيرة، فأقبلا على الرَّوْث. فلما وقع الفأر بجَرَز السفينة يقرضه، أوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخره سِنَّور وسنّورة، فأقبلا على الفأر، فقال له عيسى: كيف علم نوح أنّ البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغرابَ يأتيه بالخبر، فوجد جيفةً فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت قال: ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها، فعلم أن البلاد قد غرقت قال: فطوَّقَها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها أن تكون في أنسٍ وأمان، فمن ثم تألف البيوت. قال: فقلنا يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا، فيجلس معنا، ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال: فقال له: عُدْ بإذن الله، قال: فعاد ترابًا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عمن لا يتَّهم عن عبيد بن عمير الليثي: أنه كان يحدّث أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به يعني قوم نوح فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » ، حتى إذا تمادوا في المعصية، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة، وتطاول عليه وعليهم الشأن، واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر النَّجْل بعد النَّجْل، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من القرن الذي قبله، حتى إن كان الآخر منهم ليقول: « قد كان هذا مع آبائنا ومع أجدادنا هكذا مجنونًا » ! لا يقبلون منه شيئًا . حتى شكا ذلك من أمرهم نوح إلى الله تعالى، كما قص الله علينا في كتابه: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا ، إلى آخر القصة، حتى قال : رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا ، إلى آخر القصة [ سورة نوح: 5 - 27 ] فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله واستنصره عليهم، أوحى الله إليه أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ....... وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ، أي : بعد اليوم، إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ . فأقبل نوح على عمل الفلك، ولَهِيَ عن قومه، وجعل يقطع الخشب، ويضرب الحديد ، ويهيئ عدة الفلك من القَار وغيره مما لا يصلحه إلا هو ، وجعل قومه يمرُّون به وهو في ذلك من عمله، فيسخرون منه ويستهزئون به، فيقول: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ، قال: ويقولون فيما بلغني: يا نوح قد صرت نجَّارًا بعد النبوّة ! قال: وأعقم الله أرحام النساء، فلا يولد لهم ولد. قال: ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب السّاج، وأن يصنعه أزْوَر، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعًا، وأن يجعله ثلاثة أطباق: سفلا ووسطًا وعلوًا، وأن يجعل فيه كُوًى. ففعل نوح كما أمره الله، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ وقد جعل التَّنُّور آية فيما بينه وبينه ، فقال : ( إذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) ، واركب. فلما فار التنور، حمل نوح في الفلك من أمره الله، وكانوا قليلا كما قال الله، وحمل فيها من كل زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر ، ذكر وأنثى، فحمل فيه بنيه الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم، وستة أناس ممن كان آمن به، فكانوا عشرة نفر: نوح وبنوه وأزواجهم، ثم أدخل ما أمره به من الدوابّ، وتخلف عنه ابنه يَام، وكان كافرًا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: سمعته يقول: كان أوّل ما حمل نوح في الفلك من الدوابّ الذرّة، وآخر ما حمل الحمار ، فلما أدخل الحمار وأدخَل صدره ، تعلق إبليس بذنبه، فلم تستقلّ رجلاه، فجعل نوح يقول: ويحك ادخل ! فينهض فلا يستطيع. حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك ! قال: كلمة زلَّت عن لسانه، فلما قالها نوح خلَّي الشيطان سبيله، فدخل ودخل الشيطانُ معه، فقال له نوح: ما أدخلك عليّ يا عدوَّ الله؟ فقال: ألم تقل: « ادخل وإن كان الشيطان معك » ؟ قال: اخرج عنّي يا عدوّ الله ! فقال: ما لك بدٌّ من أن تحملني ! فكان ، فيما يزعمون ، في ظهر الفلك ، فلما اطمأن نوح في الفلك، وأدخل فيه من آمن به، وكان ذلك في الشهر . . . . من السنة التي دخل فيها نوح بعد ست مائة سنة من عمره ، لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر ، فلما دخل وحمل معه من حمل، تحرك ينابيع الغوط الأكبر، وفتح أبواب السماء، كما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إذا َتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ، [ سورة القمر: 11- 12 ] . فدخل نوح ومن معه الفلك ، وغطاه عليه وعلى من معه بطَبَقه، فكان بين أن أرسل الله الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يومًا وأربعون ليلة، ثم احتمل الماء كما تزعم أهل التوراة، وكثر الماء واشتد وارتفع ، يقول الله لمحمد: وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ، [ سورة القمر: 13 ] ، و « الدسر » ، المسامير، مسامير الحديد فجعلت الفلك تجري به ، وبمن معه في موج كالجبال ، ونادي نوح ابنه الذي هلك فيمن هلك، وكان في معزلٍ حين رأى نوحٌ من صدق موعد ربه ما رَأى ، فقال: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ، وكان شقيًّا قد أضمر كفرًا . قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ، وكان عَهِد الجبال وهي حِرْزٌ من الأمطار إذا كانت، فظنّ أن ذلك كما كان يعهد. قال نوح: لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ، وكثر الماء حتى طغى ، وارتفع فوق الجبال ، كما تزعم أهل التوراة ، بخمسة عشر ذراعًا، فباد ما على وجه الأرض من الخلق ، من كل شيء فيه الروح أو شجر، فلم يبق شيء من الخلائق إلا نوح ومن معه في الفلك، وإلا عُوج بن عُنُق فيما يزعم أهل الكتاب ، فكان بين أن أرسل الله الطوفان وبين أن غاض الماء ستة أشهر وعشر ليالٍ. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان قال ابن حميد، قال سلمة ، وحدثني علي بن زيد عن يوسف بن مهران، قال: سمعته يقول: لما آذى نوحًا في الفلك عَذِرة الناس، أمر أن يمسح ذنب الفيل، فمسحه، فخرج منه خنـزيران، وكفي ذلك عنه. وإن الفأر توالدت في الفلك، فلما آذته، أمر أن يأمر الأسد يعطس، فعطس ، فخرج من منخريه هِرّان يأكلان عنه الفأر. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: لما كان نوح في السفينة، قرض الفأر حبالَ السفينة، فشكا نوح، فأوحى الله إليه ، فمسح ذنب الأسد ، فخرج سِنَّوران. وكان في السفينة عذرة، فشكا ذلك إلى ربه، فأوحى الله إليه، فمسح ذنب الفيل، فخرج خنـزيران حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال ، حدثنا الأسود بن عامر قال، أخبرنا سفيان بن سعيد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، بنحوه. حدثت عن المسيب بن أبي روق، عن الضحاك، قال: قال سليمان القراسي: عمل نوح السفينة في أربع مائة سنة، وأنبت الساج أربعين سنة ، حتى كان طوله أربع مائة ذراع، والذراع إلى المنكب. القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( 39 ) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ ( 40 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، أيها القوم ، إذا جاء أمر الله، من الهالك ، مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ، يقول: الذي يأتيه عذابُ الله منا ومنكم يهينه ويذله وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ، يقول: وينـزل به في الآخرة ، مع ذلك ، عذابٌ دائم لا انقطاع له، مقيم عليه أبدًا. وقوله: ( حتى إذا جاء أمرُنا ) ، يقول: « ويصنع نوح الفلك » ( حتى إذا جاء أمرنا ) الذي وعدناه أن يجيء قومه من الطوفان الذي يغرقهم. وقوله: ( وفار التنور ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: معناه: انبجس الماء من وجه الأرض ( وفار التنور ) ، وهو وجه الأرض. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن الضحاك، عن ابن عباس أنه قال في قوله: ( وفار التنور ) ، قال: ( التنور ) ، وجه الأرض . قال: قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت ومن معك . قال: والعرب تسمى وجه الأرض: « تنور الأرض » . حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن العوام، عن الضحاك، بنحوه. حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا الشيباني، عن عكرمة، في قوله: ( وفار التنور ) ، قال: وجه الأرض حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة وسفيان بن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني، عن عكرمة: ( وفار التنور ) ، قال: وجه الأرض. وقال آخرون: هو تنويرُ الصبح ، من قولهم: « نوَّرَ الصبح تنويرًا » . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا محمد بن فضيل قال ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن عباس مولى أبي جحيفة، عن أبي جحيفة، عن علي رضى الله عنه قوله: ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، قال: هو تنوير الصبح. حدثنا ابن وكيع وإسحاق بن إسرائيل قالا حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن زياد مولى أبي جحيفة، عن أبي جحيفة، عن علي في قوله: ( وفار التنور ) ، قال: تنوير الصبح. حدثنا حماد بن يعقوب، قال: أخبرنا ابن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن مولى أبي جحيفة أراه قد سماه عن أبي جحيفة ، عن علي: ( وفار التنور ) قال: تنوير الصبح. حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا هشيم، عن ابن إسحاق، عن رجل من قريش، عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه: ( وفار التنور ) ، قال: طلع الفجر. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن رجل قد سمّاه، عن علي بن أبي طالب قوله: ( وفار التنور ) ، قال: إذا طلع الفجر. وقال آخرون: معنى ذلك: وفار أعلى الأرض وأشرف مكانٍ فيها بالماء. وقال: « التنور » أشرف الأرض. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، كنا نحدّث أنه أعلى الأرض وأشرَفُها، وكان عَلَمًا بين نوح وبين ربّه حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا سليمان قال ، حدثنا أبو هلال قال، سمعت قتادة قوله: ( وفار التنور ) قال: أشرف الأرض وأرفعها فار الماء منه. وقال آخرون: هو التنور الذي يُخْتَبز فيه. *ذكر قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، قال: إذا رأيت تنُّور أهلك يخرج منه الماءُ، فإنه هلاك قومك. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، عن أبي محمد، عن الحسن قال: كان تنورًا من حجارة كان لحوّاء حتى صار إلى نوح . قال: فقيل له: إذا رأيت الماء يفورُ من التنور فاركب أنتَ وأصحابك. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وفار التنور ) ، قال: حين انبجس الماء ، وأمر نوحٌ أن يركب هو ومن معه في الفلك. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وفار التنور ) ، قال: انبجس الماء منه ، آيةً، أن يركب بأهله ومن معه في السفينة. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه إلا أنه قال: آيةً ، أن يركب أهله ومن معه في السفينة. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: آية بأن يركب بأهله ومن معهم في السفينة. حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا خلف بن خليفة، عن ليث، عن مجاهد قال، نبع الماء في التنور، فعلمت به امرأته فأخبرته قال، وكان ذلك في ناحية الكُوفة. . . .. قال، حدثنا القاسم قال ، حدثنا علي بن ثابت، عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي: أنه كان يحلف بالله ، ما فار التّنُّور إلا من ناحية الكوفة. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن النضر أبي عمر الخزاز، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( وفار التنور ) ، قال: فار التنُّور بالهند. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وفار التنور ) ، كان آيةً لنوح ، إذا خرج منه الماء فقد أتى الناسَ الهلاكُ والغرق. وكان ابن عباس يقول في معنى « فار » نبع. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( وفار التنور ) ، قال: نبع. قال أبو جعفر: و « فوران الماء » سَوْرَة دفعته، يقال منه: « فار الماء يَفُور فَوْرًا وفَؤُورًا وفَوَرَانًا » ، وذلك إذا سارت دفعته. قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله: ( التنور ) ، قول من قال: « هو التنور الذي يخبز فيه » ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب ، إلا أن تقوم حجَّة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها. وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به ، لإفهامهم معنى مَا خاطبهم به. ( قلنا ) ، لنوح حين جاء عذابنا قومه الذي وعدنا نوحًا أن نعذبهم به، وفار التنور الذي جعلنا فورَانه بالماء آيةَ مجيء عذابنا بيننا وبينه لهلاك قومه ( احمل فيها ) ، يعني في الفلك ( من كل زوجين اثنين ) ، يقول: من كل ذكر وأنثى ، كما:- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( من كل زوجين اثنين ) ، قال: ذكر وأنثى من كل صنف. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( من كل زوجين اثنين ) ، فالواحد « زوج » ، و « الزوجين » ذكر وأنثى من كل صنف. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ( من كل زوجين اثنين ) ، قال: ذكر وأنثى من كل صنف. . . . . قال، حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ) ، يقول: من كل صنف اثنين. حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( من كل زوجين اثنين ) ، يعني بالزوجين اثنين: ذكر أو أنثى. وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين، « الزوجان » ، في كلام العرب: الاثنان. قال، ويقال : « عليه زوجَا نِعال » ، إذا كانت عليه نعلان، ولا يقال : « عليه زوجُ نعال » ، وكذلك : « عنده زوجا حمام » ، و « عليه زوجَا قيود » . وقال: ألا تسمع إلى قوله: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى [ سورة النجم: 45 ] ، فإنما هما اثنان. وقال بعض البصريين من أهل العربية في قوله: ( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ) ، قال: فجعل « الزوجين » ، « الضربين » ، الذكور والإناث. قال: وزعم يونس أن قول الشاعر: وَأَنْـتَ امْـرُؤٌ تَغْـدُو عَـلَى كُلِّ غِرَّة فَتُخْــطِئُ فِيهَــا مَــرَّةً وَتُصِيـبُ يعني به الذئب. قال: فهذا أشذّ من ذلك. وقال آخر منهم: « الزوج » ، اللون . قال: وكل ضرب يدعى « لونًا » ، واستشهد ببيت الأعشى في ذلك: وَكُــلُّ زَوْجٍ مِــنَ الدِّيبَـاجِ يَلْبَسُـهُ أَبُــو قُدَامَــةَ مَحْـبُوًّا بِـذَاكَ مَعَـا ويقول لبيد: وَذِي بَهْجَــةٍ كَـنَّ المقَـانِبُ صَوْتَـهُ وَزَيَّنَـــهُ أَزْوَاجُ نَــوْرٍ مُشَــرَّبِ وذكر أن الحسن قال في قوله: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ [ سورة الذاريات: 49 ] : السماء زوج، والأرض زوج، والشتاء زوج، والصيف زوج، والليل زوج، والنهار زوج، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء. وقوله: ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ) ، يقول: واحمل أهلك أيضًا في الفلك، يعني ب « الأهل » ، ولده ونساءه وأزواجه ( إلا من سبق عليه القول ) ، يقول: إلا من قلت فيهم إني مهلكه مع مَنْ أُهْلِكُ من قومك. ثم اختلفوا في الذي استثناه الله من أهله. فقال بعضهم: هو بعض نساء نوح. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ) ، قال: العذاب، هي امرأته كانت في الغابرين في العذاب. وقال آخرون: بل هو ابنه الذي غرق. ذكر من قال ذلك: حدثت عن المسيب، عن أبي روق. عن الضحاك في قوله: ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ) ، قال: ابنه ، غرق فيمن غرق. وقوله: ( ومن آمن ) ، يقول: واحمل معهم من صدقك واتبعك من قومك يقول الله: ( وما آمن معه إلا قليل ) ، يقول: وما أقرّ بوحدانية الله مع نوح من قومه إلا قليل. واختلفوا في عدد الذين كانوا آمنوا معه فحملهم معه في الفلك، فقال بعضهم في ذلك: كانوا ثمانية أنفس. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ) ، قال: ذكر لنا أنه لم يتمّ في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنيه، ونساؤهم، فجميعهم ثمانية. حدثنا ابن وكيع والحسن بن عرفة قالا حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم: ( وما آمن معه إلا قليل ) ، قال: نوح، وثلاثة بنيه، وأربع كنائنه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: حُدّثت أن نوحًا حَمَل معه بنيه الثلاثة ، وثلاث نسوة لبنيه، وامرأة نوح، فهم ثمانية بأزواجهم. وأسماء بنيه: يافث، وسام، وحام، وأصاب حام زوجته في السفينة، فدعا نوحٌ أن يغيّر نُطْفته، فجاء بالسُّودان. وقال آخرون: بل كانوا سبعة أنفس. ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش : ( وما آمن معه إلا قليل ) ، قال: كانوا سبعة: نوح، وثلاث كنائن له، وثلاثة بنين. وقال آخرون: كانوا عشرة سوى نسائهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما فار التنور، حمل نوح في الفلك من أمره الله به، وكانوا قليلا كما قال الله، فحمل بنيه الثلاثة: سام، وحام، ويافث، ونساءهم، وستة أناسي ممن كان آمن، فكانوا عشرة نفر ، بنوح وبنيه وأزواجهم. وقال آخرون: بل كانوا ثمانين نفسًا. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: حمل نوح معه في السفينة ثمانين إنسانًا. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، كان بعضهم يقول: كانوا ثمانين يعني « القليل » الذي قال الله: ( وما آمن معه إلا قليل ) . حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثني حسين بن واقد الخراساني قال، حدثني أبو نهيك قال: سمعت ابن عباس يقول: كان في سفينة نوح ثمانون رجلا أحدهم جُرْهُم. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله: ( وما آمن معه إلا قليل ) ، يصفهم بأنهم كانوا قليلا ولم يحُدّ عددهم بمقدار، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، فلا ينبغي أن يُتَجاوز في ذلك حدُّ الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حدٌّ من كتاب الله ، أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 41 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال نوح: اركبوا في الفلك ، « بسم الله مجراها ومرساها » . وفي الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ذكر من الخبر عليه عنه، وهو قوله: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ فحملهم نوح فيها « وقال » لهم، « اركبوا فيها » . فاستغني بدلالة قوله: ( وقال اركبوا فيها ) ، عن حمله إياهم فيها، فتُرك ذكره. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( بسم الله مجراها ومرساها ) ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) ، بضم الميم في الحرفين كليهما. وإذا قرئ كذلك كان من « أجرى » و « أرسى » ، وكان فيه وجهان من الإعراب: أحدهما : الرفع بمعنى: بسم الله إجراؤها وإرساؤها فيكون « المجرى » و « المرسى » مرفوعين حينئذ بالباء التي في قوله: ( بسم الله ) . والآخر : النصب، بمعنى: بسم الله عند إجرائها وإرسائها، أو وقت إجرائها وإرسائها فيكون قوله: ( بسم الله ) ، كلامًا مكتفيًا بنفسه، كقول القائل عند ابتدائه في عمل يعمله: « بسم الله » ، ثم يكون « المجرى » و « المرسى » منصوبين على ما نصبت العرب قولهم : « الحمد لله سِرارَك و إهلالك » ، يعنون الهلال أوّله وآخره، كأنهم قالوا: « الحمد لله أوّل الهلال وآخره » ، ومسموع منهم أيضا: « الحمدُ لله ما إهلالك إلى سِرارِك » . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: ( بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) ، بفتح الميم من « مجراها » ، وضمها من « مرساها » ، فجعلوا « مجراها » مصدرًا من « جري يجري مَجْرَى » ، و « مرساها » من « أرسَى يُرْسي إرساء » . وإذا قرئ ذلك كذلك ، كانَ في إعرابهما من الوجهين ، نحو الذي فيهما إذا قرئا: ( مُجراها ومُرساها ) ، بضم الميم فيهما ، على ما بيَّنتُ. وروي عن أبي رجاء العطاردي أنه كان يقرأ ذلك: ( بِسْمِ اللهِ مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا ) ، بضم الميم فيهما، ويصيرهما نعتًا لله. وإذا قرئا كذلك، كان فيهما أيضًا وجهان من الإعراب، غير أن أحدهما الخفضُ، وهو الأغلب عليهما من وجهي الإعراب ، لأن معنى الكلام على هذه القراءة: بسم الله مُجْرى الفلك ومرسيها ف « المجرى » نعت لاسم الله. وقد يحتمل أن يكون نصبًا، وهو الوجه الثاني، لأنه يحسن دخول الألف واللام في « المجري » و « المرسي » ، كقولك: « بسم الله المجريها والمرسيها » ، وإذا حذفتا نصبتا على الحال، إذ كان فيهما معنى النكرة، وإن كانا مضافين إلى المعرفة. وقد ذكر عن بعض الكوفيين أنه قرأ ذلك: ( مَجْرَاهَا ومَرْسَاهَا ) ، بفتح الميم فيهما جميعا، من « جرى » و « رسا » ، كأنه وجهه إلى أنه في حال جَرْيها وحال رُسُوّها، وجعل كلتا الصفتين للفلك ، كما قال عنترة: فَصَــبَرْتُ نَفْسًـا عِنْـدَ ذَلِـكَ حُـرَّةً تَرْسُــو إذَا نَفَسُ الجبَــانِ تَطَلّــعُ قال أبو جعفر: والقراءة التي نختارها في ذلك قراءة من قرأ: ( بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا ) ، بفتح الميم ( وَمُرْسَاهَا ) ، بضم الميم، بمعنى: بسم الله حين تَجْري وحين تُرْسي. وإنما اخترت الفتح في ميم « مجراها » لقرب ذلك من قوله: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ، ولم يقل: « تُجْرَى بهم » . ومن قرأ: ( بسم الله مُجْراها ) ، كان الصواب على قراءته أن يقرأ: « وهي تُجْرى بهم » . وفي إجماعهم على قراءة تَجْرِي ، بفتح التاء دليل واضع على أن الوجه في ( مجراها ) فتح الميم. وإنما اخترنا الضم في ( مرساها ) ، لإجماع الحجة من القراء على ضمّها. ومعنى قوله ( مجراها ) ، مسيرها ( ومرساها ) ، وقفها، من وقَفَها الله وأرساها. وكان مجاهد يقرأ ذلك بضم الميم في الحرفين جميعًا. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد . . .. قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : ( بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) ، قال: حين يركبون ويجرون ويرسون. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بسم الله حين يركبون ويجرون ويرسون. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ) ، قال: بسم الله حين يجرون وحين يرسون. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، في قوله: ( اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ) قال: إذا أراد أن ترسي قال: « بسم الله » فأرست، وإذا أراد أن تجري قال « بسم الله » فجرت. وقوله: ( إن ربي لغفور رحيم ) ، يقول: إن ربي لساتر ذنوب من تاب وأناب إليه ، رحيم بهم أن يعذبهم بعدَ التوبة. القول في تأويل قوله تعالى : وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ( 42 ) قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: ( وهي تجري بهم ) ، والفلك تجري بنوح ومن معه فيها ( في موج كالجبال ونادى نوح ابنه ) ، يام ( وكان في معزل ) ، عنه ، لم يركب معه الفلك: ( يا بني اركب معنا ) ، الفلك ( ولا تكن مع الكافرين ) . القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ( 43 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال ابن نوح لما دعاه نوح إلى أن يركب معه السفينة خوفًا عليه من الغرق: ( سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) يقول: سأصير إلى جبل أتحصّن به من الماء ، فيمنعني منه أن يغرقني. ويعني بقوله: ( يعصمني ) يمنعني، مثل « عصام القربة » ، الذي يشدُّ به رأسها ، فيمنع الماء أن يسيل منها. وقوله: ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ، يقول: لا مانع اليوم من أمر الله الذي قد نـزل بالخلق من الغرق والهلاك ، إلا من رحمنا فأنقذنا منه، فإنه الذي يمنع من شاء من خلقه ويعصم. ف « من » في موضع رفع، لأن معنى الكلام: لا عاصم يَعصم اليوم من أمر الله إلا الله. وقد اختلف أهل العربية في موضع « من » في هذا الموضع. فقال بعض نحويي الكوفة: هو في موضع نصب، لأن المعصوم بخلاف العاصم، والمرحوم معصوم . قال: كأن نصبه بمنـزلة قوله: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [ سورة النساء : 157 ] ، قال: ومن استجاز : اتِّبَاعَ الظَّنِّ ، والرفع في قوله: وَبَلْـــــدَةٌ لَيْسَ بِهَـــــا أَنِيسُ إِلا الْيَعَـــــــــافِيرُ وَإِلا العِيسُ لم يجز له الرفع في « من » ، لأن الذي قال: « إلا اليعافير » ، جعل أنيس البرِّ ، اليعافير وما أشبهها. وكذلك قوله: إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ، يقول علمهم ظنٌّ. قال: وأنت لا يجوز لك في وجه أن تقول: « المعصوم » هو « عاصم » في حال، ولكن لو جعلت « العاصم » في تأويل « معصوم » ، [ كأنك قلت ] : « لا معصوم اليوم من أمر الله » ، لجاز رفع « من » . قال: ولا ينكر أن يخرج « المفعول » على « فاعل » ، ألا ترى قوله: مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ، [ سورة الطارق: 6 ] ، معناه ، والله أعلم : مدفوق وقوله: فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ، معناها: مرضية؟ قال الشاعر: دَعِ الْمَكَــارِمَ لا تَرْحَــلْ لِبُغْيَتِهَــا وَاقْعُـدْ فَـإِنَّكَ أَنْـتَ الطَّـاعِمُ الْكَاسِي ومعناه: المكسوُّ. وقال بعض نحويّي البصرة: ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ، على: « لكن من رحم » ، ويجوز أن يكون على: لا ذا عصمة: أي : معصوم، ويكون ( إلا من رحم ) ، رفعًا بدلا من « العاصم » . قال أبو جعفر: ولا وجه لهذه الأقوال التي حكيناها عن هؤلاء، لأن كلام الله تعالى إنما يُوَجَّه إلى الأفصح الأشهر من كلام من نـزل بلسانه ، ما وُجِد إلى ذلك سبيل. ولم يضطرَّنا شيء إلى أن نجعل « عاصمًا » في معنى « معصوم » ، ولا أن نجعل « إلا » بمعنى « لكن » ، إذ كنا نجد لذلك في معناها الذي هو معناه في المشهور من كلام العرب مخرجًا صحيحًا، وهو ما قلنا من أنَّ معنى ذلك: قال نوح: لا عاصم اليوم من أمر الله ، إلا من رحمَنا فأنجانا من عذابه، كما يقال: « لا مُنجي اليوم من عذاب الله إلا الله » « ولا مطعم اليومَ من طعام زيد إلا زيد » . فهذا هو الكلام المعروف والمعنى المفهوم. وقوله: ( وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) ، يقول: وحال بين نوح وابنه موجُ الماء فغرق، فكان ممن أهلكه بالغرق من قوم نوح صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله تعالى : وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 44 ) قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وقال الله للأرض بعد ما تناهَى أمرُه في هلاك قوم نوح بما أهلكهم به من الغرق: ( يا أرض ابلعي ماءك ) ، أي: تشرَّبي. من قول القائل: « بَلِعَ فلان كذا يَبْلَعُه، أو بَلَعَه يَبْلَعُه » ، إذا ازدَردَه. ( ويا سماء أقلعي ) ، يقول: أقلعي عن المطر، أمسكي ( وغيض الماء ) ، ذهبت به الأرض ونَشِفته، ( وقضي الأمر ) ، يقول: قُضِي أمر الله، فمضى بهلاك قوم نوح ( واستوت على الجوديّ ) ، يعني الفلك « استوت » : أرست « على الجودي » ، وهو جبل ، فيما ذكر بناحية الموصل أو الجزيرة، ( وقيل بعدًا للقوم الظالمين ) ، يقول: قال الله: أبعد الله القوم الظالمين الذين كفروا بالله من قوم نوح. حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال ، حدثنا المحاربي، عن عثمان بن مطر، عن عبد العزيز بن عبد الغفور ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في أول يوم من رجب ركب نوح السفينة ، فصام هو وجميع من معه، وجرت بهم السفينة ستةَ أشهر، فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست السفينة على الجوديّ يوم عاشوراء، فصام نوح ، وأمر جميع من معه من الوحش والدوابّ فصامُوا شكرًا لله . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كانت السفينة أعلاها للطير، ووسطها للناس، وفي أسفلها السباع، وكان طولها في السماء ثلاثين ذراعًا، ودفعت من عَين وردة يوم الجمعة لعشر ليالٍ مضين من رجب، وأرست على الجوديّ يوم عاشوراء، ومرت بالبيت فطافت به سبعًا، وقد رفعه الله من الغرق، ثم جاءت اليمن، ثم رجعت. حدثنا القاسم، قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، قال: هبط نوح من السفينة يوم العاشر من المحرم، فقال لمن معه: من كان منكم اليوم صائما فليتم صومه، ومن كان مفطرًا فليصم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس قال: [ ما ] كان زَمَن نوحٍ شبر من الأرض ، إلا إنسانٌ يَدَّعيه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنَّها يعني الفُلك استقلَّت بهم في عشر خلون من وجب، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت على الجودي شهرًا، وأهبط بهم في عشر [ خَلَوْن ] من المحرم يوم عاشوراء . وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: ( وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي ) ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وغيض الماء ) ، قال: نقص ( وقضي الأمر ) ، قال: هلاك قوم نوح حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. - 18194 حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال: قال ابن جريج ( وغيض الماء ) ، نَشِفَتهُ الأرض. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( يا سماء أقلعي ) ، يقول: أمسكي ( وغيض الماء ) ، يقول: ذهب الماء. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( وغيض الماء ) ، والغُيوض ذهاب الماء ( واستوت على الجودي ) . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واستوت على الجودي ) ، قال: جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال من الغَرَق، وتواضع هو لله فلم يغرق، فأرسيتْ عليه. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واستوت على الجودي ) ، قال: الجودي جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال يومئذ من الغَرَق وتطاولت، وتواضع هو لله فلم يغرق، وأرسيت سفينة نوح عليه حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( واستوت على الجودي ) ، يقول: على الجبل ؛ واسمه « الجودي » حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان: ( واستوت على الجودي ) ، قال: جبل بالجزيرة ، شمخت الجبال، وتواضعَ حين أرادت أن ترفأ عليه سفينة نوح. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( واستوت على الجودي ) ، أبقاها الله لنا بوادي أرض الجزيرة عبرة وآية. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: ( واستوت على الجودي ) ، هو جبل بالموصل. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نوحًا بعث الغراب لينظر إلى الماء، فوجد جيفة فوقع عليها، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون، فأعْطيت الطوقَ الذي في عنقها، وخضابَ رجليها. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما أراد الله أن يكفّ ذلك يعني الطوفان أرسل ريحًا على وجه الأرض، فسكن الماء، واستدَّت ينابيع الأرضِ الغمرَ الأكبر، وَأبوابُ السماء . يقول الله تعالى: ( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ) ، إلى: ( بعدًا للقوم الظالمين ) ، فجعل ينقص ويغيض ويُدبر. وكان استواء الفلك على الجودي ، فيما يزعم أهل التوراة، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، في أول يوم من الشهر العاشر، رئي رءوس الجبال. فلما مضى بعد ذلك أربعون يومًا ، فتح نوح كُوَّة الفلك التي صنع فيها، ثم أرسلَ الغراب لينظر له ما فعل الماءُ، فلم يرجع إليه. فأرسل الحمامةَ، فرجعت إليه، ولم يجد لرجليها موضعًا، فبسط يده للحمامة، فأخذها . ثم مكث سبعة أيام، ثم أرسلها لتنظر له، فرجعت حين أمست ، وفي فيها ورَق زيتونة، فعلم نوح أن الماء قد قلَّ عن وجه الأرض. ثم مكث سبعة أيام، ثم أرسلها فلم ترجع، فعلم نوح أن الأرض قد برَزَت، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ، ودخل يوم واحد من الشهر الأوّل من سنة اثنتين ، برز وجه الأرض، فظهر اليبس، وكشف نوح غطاء الفلك، ورأى وجه الأرض. وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في سبع وعشرين ليلة منه قيل لنوح: اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: تزعُم أناسٌ أن من غرق من الولدان مع آبائهم، وليس كذلك، إنما الولدان بمنـزلة الطير وسائر من أغرق الله بغير ذنب، ولكن حضرت آجالهم فماتوا لآجالهم، والمدرِكون من الرجال والنساء كان الغرق عقوبة من الله لهم في الدنيا ، ثم مصيرهم إلى النار. القول في تأويل قوله تعالى : وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ( 45 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ونادى نوح ربه فقال: ربِّ إنك وعدتني أن تنجيني من الغرق والهلاك وأهلي، وقد هلك ابني، وابني من أهلي ( وإن وعدك الحقُّ ) ، الذي لا خلف له ( وأنت أحكم الحاكمين ) ، بالحق، فاحكم لي بأن تفي بما وعدتني ، من أنْ تنجّي لي أهلي ، وترجع إليَّ ابني، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأنت أحكم الحاكمين ) ، قال: أحكم الحاكمين بالحق. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 46 ) قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: قال الله يا نوح إن الذي غرقته فأهلكته الذي تذكر أنه من أهلك ليس من أهلك. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( ليس من أهلك ) . فقال بعضهم: معناه: ليس من ولدك ، هو من غيرك. وقالوا: كان ذلك من حِنْثٍ. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، في قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، قال: لم يكن ابنه. حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: ابن امرأته. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم ، [ عن ] الحسن قال: لا والله ، ما هو بابنه. . . . . قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: هذه بلغة طيّ لم يكن ابنه، كان ابن امرأته. حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم، عن عوف، ومنصور، عن الحسن في قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، قال: لم يكن ابنه. وكان يقرؤها: ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كنت عند الحسن فقال: « نادى نوح ابنه » ، لعمْر الله ما هو ابنه ! قال: قلت : يا أبا سعيد يقول: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، وتقول: ليس بابنه؟ قال: أفرأيت قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ؟ قال: قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه. قال: إن أهل الكتاب يكذبون. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: سمعت الحسن يقرأ هذه الآية: ( إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ) ، فقال عند ذلك: والله ما كان ابنه . ثم قرأ هذه الآية: فَخَانَتَاهُمَا ، [ سورة التحريم: 10 ] قال سعيد: فذكرت ذلك لقتادة، قال: ما كان ينبغي له أن يحلف. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) ، قال: تبيّن لنوح أنه ليس بابنه. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) ، قال: بين الله لنوح أنه ليس بابنه. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال ابن جريج في قوله: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: ناداه وهو يحسبه أنه ابنه وكان وُلد على فراشه حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل، عن ثوير، عن أبي جعفر: ( إنه ليس من أهلك ) ، قال: لو كان من أهله لنجا. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عبيد بن عمير يقول: نرى أن ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم « الولد للفراش » ، من أجل ابن نوح. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن قال: لا والله ما هو بابنه. وقال آخرون: معنى ذلك: ( ليس من أهلك ) الذين وعدتك أن أنجيهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي عامر، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: هو ابنه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان قال ، حدثنا أبو عامر، عن الضحاك قال: قال ابن عباس: هو ابنه، ما بغت امرأة نبيٍّ قطُّ. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا الثوري، عن أبي عامر الهمدانيّ، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس قال، ما بغت امرأة نبي قط. قال: وقوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، الذين وعدتك أن أنجيهم معك. حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وغيره، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هو ابنه: غير أنه خالفه في العمل والنية قال عكرمة في بعض الحروف: ( إِنَّهُ عَمِلَ عَمَلا غَيْرَ صَالِحٍ ) ، والخيانة تكون على غير بابٍ. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان عكرمة يقول: كان ابنه، ولكن كان مخالفًا له في النية والعمل، فمن ثم قيل له: ( إنه ليس من أهلك ) . حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري وابن عيينة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة قال: سمعت ابن عباس يُسْأل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله تعالى: فَخَانَتَاهُمَا ، [ سورة التحريم: 10 ] ، قال: أما إنه لم يكن بالزنا، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون، وكانت هذه تدل ، على الأضياف. ثم قرأ: ( إنه عملٌ خير صالح ) قال ابن عيينة: وأخبرني عمار الدُّهني : أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال: كانَ ابن نوح، إن الله لا يكذب! قال: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: وقال بعض العلماء: ما فجرت امرَأة نبيٍّ قط. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير قال: قال الله ، وهو الصادق، وهو ابنه: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ . حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبن يمان، عن سعيد، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: ما بَغَت امرأة نبي قط. حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، قال: سألت أبا بشر عن قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، قال: ليس من أهل دينك، وليس ممن وعدتك أن أنجيهم قال يعقوب: قال هشيم: كان عامة ما كان يحدِّثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن عبيد، عن يعقوب بن قيس قال: أتى سعيد بن جبير رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله، الذي ذكر الله في كتابه « ابن نوح » أبنُه هو؟ قال: نعم، والله إن نبيَّ الله أمره أن يركب معه في السفينة فعصى، فقال: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ، قال: ( يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح ) ، لمعصية نبي الله. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير : أنه جاء إليه رجل فسأله . فقال: أرأيتك ابن نُوح أبنه؟ فسبَّحَ طويلا ثم قال: لا إله إلا الله، يحدِّث الله محمدًا: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وتقول ليس منه ؟ ولكن خالفه في العمل، فليس منه من لم يؤمن. حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن أبي هارون الغنوي، عن عكرمة في قوله: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، قال: أشهد أنه ابنه، قال الله: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قالا هو ابنه. حدثني فضالة بن الفضل الكوفي قال، قال بزيع: سأل رجل الضحاك عن ابن نوح ، فقال: ألا تعجبون إلى هذا الأحمق ! يسألني عن ابن نوح، وهو ابن نوح كما قال الله: قال نوح لابنه. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عبيد، عن الضحاك أنه قرأ: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، وقوله: ( ليس من أهلك ) ، قال: يقول: ليس هو من أهلك. قال: يقول: ليس هو من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجى من أهلك ( إنه عمل غير صالح ) ، قال: يقول كان عمله في شرك. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك قال، هو والله ابنه لصُلْبه. حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: ( ليس من أهلك ) ، قال: ليس من أهل دينك، ولا ممن وعدتك أن أنجيه، وكان ابنه لصلبه. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( قال يا نوح إنه ليس من أهلك ) ، يقول: ليس ممن وعدناه النجاة. حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، يقول: ليس من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجي من أهلك ( إنه عمل غير صالح ) ، يقول: كان عمله في شرك. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا خالد بن حيان، عن جعفر بن برقان، عن ميمون، وثابت بن الحجاج قالا هو ابنه ، ولد على فراشه. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، لأنه كان لدينك مخالفًا ، وبي كافرًا وكان ابنه لأن الله تعالى ذكره قد أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه فقال: وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ، وغير جائز أن يخبر أنه ابنه فيكون بخلاف ما أخبر. وليس في قوله: ( إنه ليس من أهلك ) ، دلالةٌ على أنه ليس بابنه، إذ كان قوله: ( ليس من أهلك ) ، محتملا من المعنى ما ذكرنا، ومحتملا أنه ليس من أهل دينك، ثم يحذف « الدين » فيقال: ( إنه ليس من أهلك ) ، كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ، [ سورة يوسف: 82 ] . وأما قوله: ( إنه عمل غير صالح ) ، فإن القراء اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قراء الأمصار: ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) بتنوين « عمل » ورفع « غير » . واختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله. فقال بعضهم: معناه: إن مسألتك إياي هذه عمل غير صالح. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: ( إنه عمل غير صالح ) ، قال: إن مسألتك إياي هذه عملٌ غير صالح. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( إنه عمل غير صالح ) ، أي سوء ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) . حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( إنه عمل غير صالح ) ، يقول: سؤالك عما ليس لك به علم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن حمزة الزيات، عن الأعمش، عن مجاهد قوله: ( إنه عمل غير صالح ) ، قال: سؤالك إياي، عمل غير صالح ( فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ ) . وقال آخرون: بل معناه: إن الذي ذكرت أنّه ابنك فسألتني أن أنجيه ، عملٌ غير صالح، أي : أنه لغير رشدة . وقالوا: « الهاء » ، في قوله: « إنه » عائدة على « الابن » . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن أنه قرأ: ( عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) ، قال: ما هو والله بابنه. وروي عن جماعة من السلف أنهم قرءوا ذلك: ( إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ ) ، على وجه الخبر عن الفعل الماضي، وغير منصوبة. وممن روي عنه أنه قرأ ذلك كذلك ، ابنُ عباس. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عينة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة، عن ابن عباس أنه قرأ: ( عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ ) . ووجَّهوا تأويل ذلك إلى ما:- حدثنا به ابن وكيع قال ، حدثنا غندر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ ) ، قال: كان مخالفًا في النية والعمل. قال أبو جعفر: ولا نعلم هذه القراءة قرأ بها أحد من قراء الأمصار ، إلا بعض المتأخرين، واعتلَّ في ذلك بخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ذلك كذلك ، غيرِ صحيح السند. وذلك حديث روي عن شهر بن حوشب، فمرة يقول : « عن أم سلمة » ، ومرة يقول : « عن أسماء بنت يزيد » ، ولا نعلم أبنت يزيد [ يريد ] ؟ ولا نعلم لشهر سماعًا يصح عن أمّ سلمة. قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار، وذلك رفع ( عَمَلٌ ) بالتنوين، ورفع ( غَيْرُ ) ، يعني: إن سؤالك إياي ما تسألنيه في أبنك المخالفِ دينَك ، الموالي أهل الشرك بي من النجاة من الهلاك، وقد مضت إجابتي إياك في دعائك: لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، ما قد مضى من غير استثناء أحد منهم عملٌ غير صالح، لأنَّه مسألة منك إليّ أن لا أفعل ما قد تقدّم مني القول بأني أفعله ، في إجابتي مسألتك إياي فعله. فذلك هو العمل غير الصالح. وقوله: ( لا تسألن ما ليس لك به علم ) ، نهيٌ من الله تعالى ذكرهُ نبيه نوحًا أن يسأله أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه وعن غيره من البشر. يقول له تعالى ذكره: إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهلكته، فلا تسألن بعدها عما قد طويتُ علمه عنك من أسباب أفعالي، وليس لك به علم « إني أعظك أن تكون من الجاهلين » في مسألتك إياي عن ذلك. وكان ابن زيد يقول في قوله: ( إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) ، ما:- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) ، أنْ تبلغ الجهالة بك أن لا أفي لك بوعد وعدتك ، حتى تسألني ما ليس لك به علم وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ . واختلفت القراء في قراءة قوله: ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) ، فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار ( فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ) ، بكسر النون وتخفيفها ونحْوًا بكسرها إلى الدلالة على « الياء » التي هي كناية اسم الله [ في ] : فلا تسألني. وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض أهل الشام: ( فَلا تَسْأَلَنَّ ) ، بتشديد النون وفتحها بمعنى: فلا تسألنَّ يا نوح ما ليس لك به علم. قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، تخفيفُ النون وكسرها، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب المستعمل بينهم. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 47 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم ، عن إنابة نوح عليه السلام بالتوبة إليه من زلَّته ، في مسألته التي سألَها ربَّه في ابنه : ( قال ربّ إني أعوذ بك ) ، أي : أستجير بك أن أتكلف مسألتك ما ليس لي به علم، مما قد استأثرت بعلمه ، وطويت علمه عن خلقك، فاغفر لي زلتي في مسألتي إياك ما سألتك في ابني، وإن أنت لم تغفرها لي وترحمني فتنقذني من غضبك ( أكن من الخاسرين ) ، يقول: من الذين غبنوا أنفسهم حظوظَها وهلكوا. القول في تأويل قوله تعالى : قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَل يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 48 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: يا نوح، اهبط من الفلك إلى الأرض ( بسلام منا ) ، يقول: بأمن منا أنت ومن معك من إهلاكنا ( وبركات عليك ) ، يقول: وببركات عليك ( وعلى أمم ممن معك ) ، يقول: وعلى قرون تجيء من ذرية من معك من ولدك. فهؤلاء المؤمنون من ذرية نوح الذين سبقت لهم من الله السعادة ، وبارك عليهم قبل أن يخلقهم في بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم. ثم أخبر تعالى ذكره نوحًا عما هو فاعل بأهل الشقاء من ذريته، فقال له: ( وأمم ) ، يقول: وقرون وجماعة ( سنمتعهم ) في الحياة في الدنيا ، يقول: نرزقهم فيها ما يتمتعون به إلى أن يبلغوا آجالهم ( ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ، يقول: ثم نذيقهم إذا وردوا علينا عذابًا مؤلمًا موجعًا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي: ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) ، إلى آخر الآية، قال: دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، ودخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي: ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) ، قال: دخل في الإسلام كل مؤمن ومؤمنة، وفي الشرك كل كافر وكافرة. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك ، قراءةً عن ابن جريج: ( وعلى أمم ممن معك ) ، يعني : ممن لم يولد. قد قضى البركات لمن سبق له في علم الله وقضائه السعادة ( وأمم سنمتعهم ) ، من سبق له في علم الله وقضائه الشِّقوة. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج بنحوه إلا أنه قال: ( وأمم سنمتعهم ) ، متاع الحياة الدنيا، ممن قد سبق له في علم الله وقضائه الشقوة. قال: ولم يهلك الوَلَد يوم غرق قوم نُوح بذنب آبائهم ، كالطير والسباع، ولكن جاء أجلهم مع الغرق. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ) ، قال: هبطوا والله عنهم راض، هبطوا بسلام من الله. كانوا أهل رحمة من أهل ذلك الدهر، ثم أخرج منهم نسلا بعد ذلك أممًا، منهم من رحم، ومنهم من عذب. وقرأ: ( وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ) ، وذلك إنما افترقت الأمم من تلك العصابة التي خرجت من ذلك الماء وسلمت. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ) ، الآية، يقول: بركات عليك وعلى أمم ممن معك لم يولدوا، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة ( وأمم سنمتعهم ) ، يعني: متاع الحياة الدنيا ( ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ، لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة. حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن: أنه كان إذا قرأ « سورة هود » ، فأتى على: ( يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك ) ، حتى ختم الآية، قال الحسن: فأنجى الله نوحًا والذين آمنوا، وهلك المتمتعون ! حتى ذكر الأنبياء كل ذلك يقول: أنجاه الله وهلك المتمتعون. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ، قال: بعد الرحمة. حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، اخبرنا عبد الله بن شوذب قال، سمعت داود بن أبي هند يحدث ، عن الحسن : أنه أتى على هذه الآية: ( اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) ، قال: فكان ذلك حين بعث الله عادًا، فأرسل إليهم هودًا، فصدقه مصدقون ، وكذبه مكذبون ، حتى جاء أمر الله . فلما جاء أمر الله نجّى الله هودًا والذين آمنوا معه، وأهلك الله المتمتعين، ثم بعث الله ثمود، فبعث إليهم صالحًا، فصدقه مصدقون وكذبه مكذبون، حتى جاء أمر الله . فلما جاء أمر الله نجى الله صالحًا والذين آمنوا معه وأهلك الله المتمتعين. ثم استقرأ الأنبياء نبيًّا نبيًّا ، على نحو من هذا. القول في تأويل قوله تعالى : تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ( 49 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم: هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه ( من أنباء الغيب ) ، يقول: هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها فتعلمها ( نوحيها إليك ) ، يقول: نوحيها إليك نحن ، فنعرفكها ( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) ، الوحي الذي نوحيه إليك، ( فاصبر ) ، على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته ، وما تلقى من مشركي قومك، كما صبر نوح ( إن العاقبة للمتقين ) ، يقول: إن الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله ، فأدَّى فرائضه، واجتنب معاصيه ، فهم الفائزون بما يؤمِّلون من النعيم في الآخرة ، والظفر في الدنيا بالطلبة، كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله ، أنْ نجَّاه من الهلكة مع من آمن به ، وأعطاه في الآخرة ما أعطاه من الكرامة، وغرَّق المكذبين به فأهلكهم جميعهم. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ) ، القرآن، وما كان عَلم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وقومه ما صنع نوحٌ وقومه، لولا ما بيَّن الله في كتابه. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ ( 50 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودًا، فقال لهم: « يا قوم اعبدوا الله » وحده لا شريك له ، دون ما تعبدون من دونه من الآلهة والأوثان. ( ما لكم إله غيره ) ، يقول: ليس لكم معبود يستحق العبادة عليكم غيره، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالألوهة ( إن أنتم إلا مفترون ) ، يقول: ما أنتم في إشراككم معه الآلهة والأوثان إلا أهل فرية مكذبون، تختلقون الباطل، لأنه لا إله سواه. القول في تأويل قوله تعالى : يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 51 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وخلع الأوثان والبراءة منها، جزاءً وثوابًا ( إن أجري إلا على الذي فطرني ) ، يقول: إن ثوابي وجزائي على نصيحتي لكم، ودعائكم إلى الله، إلا على الذي خلقني ( أفلا تعقلون ) ، يقول: أفلا تعقلون أني لو كنت ابتغي بدعايتكم إلى الله غير النصيحة لكم ، وطلب الحظ لكم في الدنيا والآخرة ، لالتمست منكم على ذلك بعض أعراض الدنيا ، وطلبت منكم الأجر والثواب؟ حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( إن أجري إلا على الذي فطرني ) ، أي خلقني القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ( 52 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: ( ويا قوم استغفروا ربكم ) ، يقول: آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم. والاستغفار: هو الإيمان بالله في هذا الموضع، لأن هودًا صلى الله عليه وسلم إنما دعا قومه إلى توحيد الله ليغفر لهم ذنوبهم، كما قال نوح لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [ سورة نوح : 3 : 4 ] وقوله: ( ثم توبوا إليه ) ، يقول: ثم توبوا إلى الله من سالف ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به ( يرسل السماء عليكم مدرارا ) ، يقول: فإنكم إن آمنتم بالله وتبتم من كفركم به، أرسل قَطْر السماء عليكم يدرَّ لكم الغيثَ في وقت حاجتكم إليه، وتحَيَا بلادكم من الجدب والقَحط. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( مدرارا ) ، يقول: يتبع بعضها بعضا. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( يرسل السماء عليكم مدرارًا ) قال: يدر ذلك عليهم قطرًا ومطرًا. وأما قوله: ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) ، فإن مجاهدًا كان يقول في ذلك ما:- حدثني به محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) ، قال: شدة إلى شدتكم حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وإسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد، فذكر مثله. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ويزدكم قوة إلى قوّتكم ) ، قال: جعل لهم قوة، فلو أنهم أطاعوه زادهم قوة إلى قوتهم. وذكر لنا أنه إنما قيل لهم: ( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) ، قال: إنه قد كان انقطع النسل عنهم سنين، فقال هود لهم: إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد، لأن ذلك من القوة. وقوله: ( ولا تتولوا مجرمين ) ، يقول: ولا تدبروا عما أدعوكم إليه من توحيد الله، والبراءة من الأوثان والأصنام ( مجرمين ) ، يعني : كافرين بالله. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ( 53 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم هود لهود، يا هود ما أتيتنا ببيان ولا برهان على ما تقول، فنسلم لك، ونقر بأنك صادق فيما تدعونا إليه من توحيد الله والإقرار بنبوتك ( وما نحن بتاركي آلهتنا ) ، يقول: وما نحن بتاركي آلهتنا ، يعني : لقولك: أو من أجل قولك. ( ما نحن لك بمؤمنين ) ، يقول: قالوا: وما نحن لك بما تدعي من النبوة والرسالة من الله إلينا بمصدِّقين. القول في تأويل قوله تعالى : إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 54 ) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ( 55 ) قال أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره، عن قول قوم هود : أنهم قالوا له، إذ نصح لهم ودعاهم إلى توحيد الله وتصديقه، وخلع الأوثان والبراءة منها: لا نترك عبادة آلهتنا، وما نقول إلا أن الذي حملك على ذمِّها والنهي عن عبادتها ، أنه أصابك منها خبَلٌ من جنونٌ . فقال هود لهم: إني أشهد الله على نفسي وأشهدكم أيضًا أيها القوم ، أني بريء مما تشركون في عبادة الله من آلهتكم وأوثانكم من دونه ( فكيدوني جميعا ) ، يقول: فاحتالوا أنتم جميعًا وآلهتكم في ضري ومكروهي ( ثم لا تنظرون ) ، يقول: ثم لا تؤخرون ذلك، فانظروا هل تنالونني أنتم وهم بما زعمتم أن آلهتكم نالتني به من السوء؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: أصابتك الأوثان بجنون. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : ( اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: أصابك الأوثان بجنون. حدثني المثني قال ، حدثنا ابن دكين قال ، حدثنا سفيان، عن عيسى، عن مجاهد: ( اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: سببتَ آلهتنا وعبتها ، فأجنَّتك. . . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن نجيح، عن مجاهد: ( اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، أصابك بعض آلهتنا بسوء ، يعنون الأوثان. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) قال: أصابك الأوثان بجنون. حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: تصيبك آلهتنا بالجنون. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: ما يحملك على ذمّ آلهتنا، إلا أنه أصابك منها سوء. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، قال: إنما تصنع هذا بآلهتنا أنها أصابتك بسوء. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: أصابتك آلهتنا بشر. حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، يقولون: نخشى أن يصيبك من آلهتنا سوء، ولا نحب أن تعتريك ، يقولون: يصيبك منها سوء. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ) ، يقولون: اختلَط عقلك فأصابك هذا مما صنعت بك آلهتنا. وقوله: ( اعْتَرَاكَ ) ، ا « فتعل » ، من « عراني الشيء يعروني » :، إذا أصابك، كما قال الشاعر: مِنَ القَوْمِ يَعْرُوهُ اجْتِرَاءٌ وَمَأْثَمُ القول في تأويل قوله تعالى : إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 56 ) قال أبو جعفر: يقول: إني على الله الذي هو مالكي ومالككم ، والقيِّم على جميع خلقه ، توكلت من أن تصيبوني ، أنتم وغيركم من الخلق بسوء، فإنه ليس من شيء يدب على الأرض ، إلا والله مالكه، وهو في قبضته وسلطانه. ذليلٌ له خاضعٌ. فإن قال قائل: وكيف قيل: ( هو آخذ بناصيتها ) ، فخص بالأخذ « الناصية » دون سائر أماكن الجسد. قيل: لأن العرب كانت تستعمل ذلك في وصفها من وصفته بالذلة والخضوع، فتقول: « ما ناصية فلان إلا بيد فلان » ، أي : أنه له مطيع يصرفه كيف شاء . وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمنّ عليه ، جزُّوا ناصيته ، ليعتدّوا بذلك عليه فخرًا عند المفاخرة. فخاطبهم الله بما يعرفون في كلامهم، والمعنى ما ذكرت. وقوله: ( إن ربي على صراط مستقيم ) ، يقول: إن ربي على طريق الحق، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدًا منهم شيئًا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به، كما:- حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إن ربي على صراط مستقيم ) ، الحقّ . حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ( 57 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: ( فإن تولوا ) ، يقول: فإن أدبروا معرضين عما أدعوهم إليه من توحيد الله وترك عبادة الأوثان ( فقد أبلغتكم ) أيها القوم ( ما أرسلت به إليكم ) ، وما على الرسول إلا البلاغ ( ويستخلف ربي قوما غيركم ) ، يهلككم ربي، ثم يستبدل ربي منكم قومًا غيركم ، يوحِّدونه ويخلصون له العبادة ( ولا تضرونه شيئًا ) ، يقول: ولا تقدرون له على ضرّ إذا أراد إهلاككم أو أهلككم. وقد قيل: لا يضره هلاككُم إذا أهلككم ، لا تنقصونه شيئًا ، لأنه سواء عنده كُنتم أو لم تكونوا. ( إن ربي على كل شيء حفيظ ) ، يقول: إن ربي على جميع خلقه ذو حفظ وعلم . يقول: هو الذي يحفظني من أن تنالوني بسوء. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ( 58 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء قوم هود عذابُنا ، نجينا منه هودًا والذين آمنوا بالله معه ( برحمة منا ) ، يعني : بفضل منه عليهم ونعمة ( ونجيناهم من عذاب غليظ ) ، يقول: نجيناهم أيضًا من عذاب غليظ يوم القيامة، كما نجيناهم في الدنيا من السخطة التي أنـزلتها بعادٍ. القول في تأويل قوله تعالى : وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ( 59 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين أحللنا بهم نقمتنا وعذابنا ، عادٌ، جحدوا بأدلة الله وحججه، وعصوا رسله الذين أرسلهم إليهم للدعاء إلى توحيده واتباع أمره ( واتبعوا أمر كل جبار عنيد ) ، يعني : كلّ مستكبر على الله، حائد عن الحق ، لا يُذعن له ولا يقبله. يقال منه: « عَنَد عن الحق ، فهو يعنِد عُنُودًا » ، و « الرجل عَاند وعَنُود » . ومن ذلك قيل للعرق الذي ينفجر فلا يرقأ: « عِرْق عاند » : أي ضَارٍ، ومنه قول الراجز: إِنِّي كَبِيرٌ لا أَطِيقُ العُنَّدَا حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( واتبعوا أمر كل جبار عنيد ) ، المشرك. القول في تأويل قوله تعالى : وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ( 60 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأتبع عاد قوم هود في هذه الدنيا غضبًا من الله وسخطةً يوم القيامة، مثلها ، لعنةً إلى اللعنة التي سلفت لهم من الله في الدنيا ( ألا إن عادًا كفروا ربهم ألا بعدًا لعاد قوم هود ) ، يقولُ: أبعدهم الله من الخير. يقال: « كفر فلان ربه وكفر بربه » ، « وشكرت لك ، وشكرتك » . وقيل إن معنى: ( كفروا ربهم ) ، كفروا نعمةَ ربهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ( 61 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا، فقال لهم: يا قوم ، اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الآلهة، فما لكم من إله غيره يستوجب عليكم العبادة، ولا تجوز الألوهة إلا له ( هو أنشأكم من الأرض ) ، يقول: هو ابتدأ خلقكم من الأرض. وإنما قال ذلك لأنه خلق آدم من الأرض، فخرج الخطاب لهم ، إذ كان ذلك فعله بمن هم منه. ( واستعمركم فيها ) ، يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها، فكان المعنى فيه: أسكنكم فيها أيام حياتكم. من قولهم: « أعْمر فلانٌ فلانًا دارَه » ، و « هي له عُمْرَى » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ( واستعمركم فيها ) ، قال: أعمركم فيها حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واستعمركم فيها ) ، يقول: أعمركم وقوله: ( فاستغفروه ) ، يقول: اعملوا عملا يكون سببًا لستر الله عليكم ذنوبكم، وذلك الإيمان به، وإخلاص العبادة له دون ما سواه ، واتباعُ رسوله صالح ( ثم توبوا إليه ) ، يقول: ثم اتركوا من الأعمال ما يكرهه ربكم ، إلى ما يرضاه ويحبه ( إن ربي قريب مجيب ) ، يقول: إن ربي قريب ممن أخلص له العبادة ورغب إليه في التوبة، مجيبٌ له إذا دعاه. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ( 62 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قالت ثمود لصالح نبيِّهم: ( يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا ) ، أي كنا نرجُو أن تكون فينا سيدًا قبل هذا القول الذي قلته لنا ، من أنه مالنا من إله غير الله ( أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ) ، يقول: أتنهانا أن نعبد الآلهة التي كانت آباؤنا تعبدها ( وإننا لفي شك مما تدعونَا إليه مريب ) ، يعنون أنهم لا يعلمون صحَّة ما يدعوهم إليه من توحيد الله، وأن الألوهة لا تكون إلا لهُ خالصًا. وقوله : ( مريب ) ، أي يوجب التهمة ، من « أربته فأنا أريبه إرابة » ، إذا فعلت به فعلا يوجب له الريبة، ومنه قول الهذلي: كُــنْتُ إِذَا أَتَوْتُــه مِــنْ غَيْــبِ يَشَـــمُّ عِطْفِــي وَيــبُزُّ ثَــوْبِي *كَأَنَّمَا أَرَبْتُهُ بِرَيْبِ* القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ( 63 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال صالح لقومه من ثمود: ( يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، يقول : إن كنت على برهان وبيان من الله قد علمته وأيقنته ( وآتاني منه رحمة ) ، يقول: وآتاني منه النبوة والحكمة والإسلام ( فمن ينصرني من الله إن عصيته ) ، يقول: فمن الذي يدفع عنِّي عقابه إذا عاقبني إن أنا عصيته، فيخلصني منه ( فما تزيدونني ) ، بعذركم الذي تعتذرون به ، من أنكم تعبدون ما كان يعبدُ آباؤكم، ( غير تخسير ) ، لكم يخسركم حظوظكم من رحمة الله، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فما تزيدونني غير تخسير ) ، يقول: ما تزدادون أنتم إلا خسارًا. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ( 64 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه من ثمود ، إذ قالوا له : وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ، وسألوه الآية على ما دعاهم إليه: ( يا قوم هذه ناقة الله لكم آية ) ، يقول: حجة وعلامة، ودلالة على حقيقة ما أدعوكم إليه ( فذروها تأكل في أرض الله ) ، فليس عليكم رزقها ولا مئونتها ( ولا تمسوها بسوء ) ، يقول: لا تقتلوها ولا تنالوها بعَقْر ( فيأخذكم عذاب قريب ) ، يقول: فإنكم إن تمسوها بسوء يأخذكم عذاب من الله غير بعيد فيهلككم. القول في تأويل قوله تعالى : فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ( 65 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمود ناقة الله وفي الكلام محذوفٌ قد ترك ذكرُه ، استغناءً بدلالة الظاهر عليه، وهو: « فكذبوه » « فعقروها » فقال لهم صالح: ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ) ، يقول: استمتعوا في دار الدنيا بحياتكم ثلاثة أيام ( ذلك وعد غير مكذوب ) ، يقول: هذا الأجل الذي أجَّلتكم ، وَعْدٌ من الله، وعدكم بانقضائه الهلاكَ ونـزولَ العذاب بكم ( غير مكذوب ) ، يقول: لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب ) ، وذكر لنا أن صالحًا حين أخبرهم أن العذاب أتاهم لبسُوا الأنطاع والأكسية، وقيل لهم: إن آية ذلك أن تصفرَّ ألوانكم أوَّل يوم، ثم تحمرَّ في اليوم الثاني، ثم تسودَّ في اليوم الثالث . وذكر لنا أنهم لما عقرُوا الناقة ندموا ، وقالوا: « عليكم الفَصيلَ » ؟ فصعد الفصيل القارَة و « القارة » الجبل حتى إذا كان اليوم الثالث، استقبل القبلة ، وقال: « يا رب أمي ، يا رب أمي » ، ثلاثا. قال: فأرسلت الصيحة عند ذلك. وكان ابن عباس يقول: لو صعدتم القارة لرأيتم عظام الفصيل. وكانت منازل ثمود بحجْر بين الشام والمدينة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ) ، قال: بقية آجالهم. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة أن ابن عباس قال: لو صعدتم على القارة لرأيتم عظَام الفصيل. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ( 66 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فلما جاء ثمود عذابُنا « نجينا صالحًا والذين آمنوا به معه برحمة منا » ، يقول: بنعمة وفضل من الله ( ومن خزي يومئذ ) ، يقول: ونجيناهم من هوان ذلك اليوم ، وذلِّه بذلك العذاب ( إن ربك هو القوي ) ، في بطشه إذا بطش بشيء أهلكه، كما أهلك ثمود حين بطَش بها « العزيز » ، فلا يغلبه غالب ، ولا يقهره قاهر، بل يغلب كل شيء ويقهره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( برحمة منا ومن خزي يومئذ ) ، قال: نجاه الله برحمة منه، ونجاه من خزي يومئذ. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن شهر بن حوشب ، عن عمرو بن خارجة قال: قلنا له: حدّثنا حديثَ ثمود . قال: أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمود: كانت ثمودُ قومَ صالح، أعمرهم الله في الدنيا فأطال أعْمَارهم ، حتى جعل أحدهم يبني المسكنَ من المدر، فينهدم ، والرَّجلُ منهم حيٌّ. فلما رأوا ذلك ، اتخذوا من الجبال بيوتًا فَرِهين، فنحتوها وجَابُوها وجوَّفوها . وكانوا في سعةٍ من معايشهم. فقالوا: يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله ، فدعا صالح ربَّه، فأخرج لهم الناقة، فكان شِرْبُها يومًا ، وشِرْبهم يومًا معلومًا. فإذا كان يوم شربها خَلَّوا عنها وعن الماء وحلبوها لبنًا، ملئوا كل إناء ووعاء وسقاء، حتى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء، فلم تشرب منه شيئًا ، فملئوا كل إناء ووعاء وسقاء. فأوحى الله إلى صالح: إن قومك سيعقرون ناقتك ! فقال لهم، فقالوا: ما كنا لنفعل ! فقال: إلا تعقروها أنتم ، يوشكُ أن يولد فيكم مولود [ يعقرها ] . قالوا: ما علامة ذلك المولود؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه ! قال: فإنه غلام أشقَر أزرَق أصهَبُ، أحمر. قال: وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان، لأحدهما ابن يرغب به عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤًا، فجمع بينهما مجلس، فقال أحدهما لصاحبه: ما يمنعك أن تزوج ابنك؟ قال: لا أجد له كفؤًا. قال: فإن ابنتي كفؤ له، وأنا أزوجك. . فزوّجه، فولد بينهما ذلك المولود. وكان في المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فلما قال لهم صالح: « إنما يعقرها مولود فيكم » ، اختاروا ثماني نسوة قوابل من القرية، وجعلوا معهن شُرَطًا كانوا يطوفون في القرية، فإذا وجدُوا المرأة تمخَضُ، نظروا ما ولدُها إن كان غلامًا قلَّبنه فنظرن ما هو وإن كانت جارية أعرضن عنها. فلما وجدوا ذلك المولود صرخ النسوة وقلن: « هذا الذي يريد رسول الله صالح » ، فأراد الشرط أن يأخذوه، فحال جدّاه بينهم وبينه ، وقالا لو أن صالحًا أراد هذا قتلناه ! فكان شرَّ مولود، وكان يشبُّ في اليوم شباب غيره في الجمعة، ويشبّ في الجمعة شباب غيره في الشهر، ويشب في الشهر شباب غيره في السنة. فاجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، وفيهم الشيخان، فقالوا : « استعمل علينا هذا الغلام » لمنـزلته وشرَف جديه، فكانوا تسعة. وكان صالح لا ينام معهم في القرية، كان في مسجد يقال له : « مسجد صالح » ، فيه يبيت بالليل، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم، وإذا أمسى خرج إلى مسجده فبات فيه. قال حجاج: وقال ابن جريج: لما قال لهم صالح: « إنه سيولد غلام يكون هلاككم على يديه » ، قالوا : فكيف تأمرنا؟ قال: آمركم بقتلهم ! فقتلوهم إلا واحدًا. قال: فلما بلغ ذلك المولود ، قالوا: لو كنا لم نقتل أولادَنا، لكان لكل رجل منا مثل هذا، هذا عملُ صالح ! فأتمروا بينهم بقتله، وقالوا: نخرج مسافرين والناس يروننا علانيةً، ثم نرجع من ليلة كذا من شهر كذا وكذا ، فنرصده عند مصلاه فنقتله، فلا يحسب الناس إلا أنَّا مسافرون ، كما نحن ! فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصُدُونه، فأرسل الله عليهم الصخرة فرضَخَتهم، فأصبحوا رَضْخًا. فانطلق رجال ممَّن قد اطلع على ذلك منهم، فإذا هم رضْخٌ، فرجعوا يصيحون في القرية: أي عباد الله، أما رضي صالح أن أمرهم أن يقتلوا أولادَهم حتى قتلهم؟ ! فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة أجمعون، وأحجموا عنها إلا ذلك الابن العاشر. ثم رجع الحديث إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأرادوا أن يمكروا بصالح، فمشوا حتى أتوا على سَرَبٍ على طريق صالح، فاختبأ فيه ثمانية، وقالوا: إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله ، فبيَّتْناهُمْ ! فأمر الله الأرض فاستوت عنهم . قال: فاجتمعوا ومشَوْا إلى الناقة وهي على حَوْضها قائمة، فقال الشقيُّ لأحدهم: ائتها فاعقرها ! فأتاها ، فتعاظَمَه ذلك، فأضرب عن ذلك، فبعث آخر فأعظم ذلك. فجعل لا يبعث رجلا إلا تعاظمه أمرُها ، حتى مشوا إليها، وتطاول فضرب عرقوبيها، فوقعت تركُضُ، وأتى رجلٌ منهم صالحًا فقال: « أدرك الناقةَ فقد عقرت » ! فأقبل، وخرجوا يتَلقَّونه ويعتذرون إليه: « يا نبيّ الله، إنما عقرها فلان، إنه لا ذنب لنا » ! قال: فانظروا هل تدركون فصيلها؟ ، فإن أدركتموه، فعسَى الله أن يرفعَ عنكم العذابَ ! فخرجوا يطلبونه، ولما رأى الفصيل أمَّه تضطرب ، أتى جبلا يقال له « القارَة » قصيرًا، فصعد وذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل، فطالَ في السماء حتى ما تَناله الطير. قال: ودخل صالح القرية، فلما رآه الفصيل بكى حتى سألت دموعه، ثم استقبل صالحًا فرغًا رَغْوةً، ثم رغَا أخرى، ثم رغا أخرى، فقال صالح لقومه: لكل رغوة أجلُ يوم ، تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ، ألا إن أية العذاب أنّ اليوم الأوّل تصبح وجوهكم مصفرّة، واليوم الثاني محمرّة، واليوم الثالث مسودّة ! فلما أصبحوا فإذا وجوههم كأنها طليت بالخلوق، صغيرُهم وكبيرُهم، ذكرهم وأنثَاهم. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: « ألا قد مضى يوم من الأجل ، وحضركم العذاب » ! فلما أصبحوا اليوم. الثاني إذا وجوههم محمرة ، كأنها خُضِبت بالدماء، فصاحوا وضجُّوا وبكوا وعرفوا آية العذاب، فلما أمسوا صاحُوا بأجمعهم: « ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب » ! فلما أصبحوا اليوم الثالث ، فإذا وجوههم مسودّة كأنها طُليت بالقار، فصاحوا جميعا: « ألا قد حضركم العذاب » ! فتكفَّنُوا وتحنَّطوا، وكان حنوطهم الصَّبر والمقر، وكانت أكفانهم الأنطاع، ثم ألقوا أنفسهم إلى الأرض، فجعلوا يقلبون أبصارهم، فينظرون إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة، فلا يدرون من حيث يأتيهم العذاب من فوقهم من السماء أو من تحت أرجلهم من الأرض ، خَشَعًا وفَرَقًا. فلما أصبحوا اليومَ الرابع أتتهم صيحةٌ من السماء فيها صوتُ كل صاعقة، وصوت كلّ شيء له صوتٌ في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدُورهم، فأصبحوا في دارهم جاثمين. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: حُدِّثت أنَّه لما أخذتهم الصيحة ، أهلك الله مَنْ بَين المشارق والمغارب منهم إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله، منعه حرم الله من عذاب الله. قيل: ومن هو يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أتى على قرية ثمود ، لأصحابه: لا يدخلنَّ أحدٌ منكم القرية ، ولا تشربوا من مائهم . وأراهم مُرْتقَى الفصيل حين ارتقَى في القارَة. قال ابن جريج، وأخبرني موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى على قرية ثمود قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، أنْ يُصيبكم ما أصابهم. قال ابن جريج، قال جابر بن عبد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى على الحِجْر، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فلا تسألوا رسُولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية، فبعث لهم الناقة، فكانت تَرِدُ من هذا الفَجّ ، وتصدر من هذا الفَجّ، فتشرب ماءَهم يوم ورودها. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ بوادي ثمود، وهو عامد إلى تبوك قال: فأمر أصحابه أن يسرعوا السير، وأن لا ينـزلوا به، ولا يشربوا من مائه، وأخبرهم أنه وادٍ ملعون. قال: وذكر لنا أن الرجل المُوسِر من قوم صالح كان يعطي المعسر منهم ما يتكَفّنون به، وكان الرجل منهم يَلْحَد لنفسه ولأهل بيته، لميعاد نبي الله صالح الذي وعدهم . وحدَّث من رآهم بالطرق والأفنية والبيوت، فيهم شبان وشيوخ ، أبقاهم الله عبرة وآية. حدثنا إسماعيل بن المتوكل الأشجعي من أهل حمص قال ، حدثنا محمد بن كثير قال ، حدثنا عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم قال ، حدثنا أبو الطفيل، قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم َغَزاة تبُوك، نـزل الحجر فقال: يا أيها الناس لا تسألوا نبيَّكم الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيَّهم أن يبعث لهم آية، فبعث الله لهم الناقة آيةً، فكانت تَلج عليهم يوم [ ورودها من هذا الفجّ، فتشربُ ماءهم ، ويوم وردهم كانوا يتزودون منه ] ، ثم يحلبونها مثل ما كانوا يتزَوّدون من مائهم قبل ذلك لبنًا، ثم تخرج من ذلك الفجّ. فعتوا عن أمر ربهم وعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام، وكان وعدًا من الله غير مكذوب، فأهلك الله من كان منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحدًا ، كان في حرم الله، فمنعه حَرَمُ الله من عذاب الله . قالوا: ومن ذلك الرجل يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 67 ) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ ( 68 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأصاب الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله من عقر ناقة الله وكفرهم به ( الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) ، قد جثمتهم المنايا، وتركتهم خمودًا بأفنيتهم، كما:- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) ، يقول: أصبحوا قد هلكوا. ( كأن لم يغنوا فيها ) ، يقول: كأن لم يعيشوا فيها، ولم يعمروا بها، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( كأن لم يغنوا فيها ) ، كأن لم يعيشوا فيها. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله. وقد بينا ذلك فيما مضى بشواهده فأغنى ذلك عن إعادته. وقوله: ( ألا إن ثمود كفروا ربهم ) ، يقول: ألا إن ثمود كفروا بآيات ربهم فجحدوها ( ألا بعدًا لثمود ) ، يقول: ألا أبعد الله ثمود ! لنـزول العذاب بهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ( 69 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ( ولقد جاءت رسلنا ) ، من الملائكة وهم فيما ذكر ، كانوا جبريل وملكين آخرين. وقيل : إن الملكين الآخرين كان ميكائيل وإسرافيل معه ( إبراهيم ) ، يعني: إبراهيم خليل الله ( بالبشرى ) ، يعني: بالبشارة. واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها. فقال بعضهم: هي البشارة بإسحاق. وقال بعضهم: هي البشارة بهلاك قوم لوط. ( قالوا سلاما ) ، يقول: فسلموا عليه سلامًا. ونصب « سلامًا » بإعمال « قالوا » فيه، كأنه قيل: قالوا قولا وسلَّموا تسليمًا. ( قال سلام ) ، يقول: قال إبراهيم لهم: سلام فرفع « سلامٌ » ، بمعنى : عليكم السلام أو بمعنى : سلام منكم . وقد ذكر عن العرب أنها تقول: « سِلْمٌ » بمعنى السلام ، كما قالوا: « حِلٌّ وحلالٌ » ، « وحِرْم وحرام » . وذكر الفرَّاء أن بعض العرب أنشده: مَرَرْنَــا فَقُلْنَـا إِيـهِ سِـلْمٌ فَسَـلَّمَتْ كَمَـا اكْتَـلَّ بِـالَبْرقِ الغَمَـامُ الَّلـوَائِحُ بمعنى سلام. وقد روي « كما انكلّ » . وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرئ كذلك: نحن سِلْمٌ لكم من « المسالمة » التي هي خلاف المحاربة. وهذه قراءة عامَّة قراء الكوفيين. وقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والبصرة ، ( قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ ) ، على أن الجواب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم لهم، بنحو تسليمهم: عليكم السلام. والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأن « السلم » قد يكون بمعنى « السلام » على ما وصفت، و « السلام » بمعنى « السلم » ، لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السّلم دون الأعداء، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم ، ورَدُّ الآخرين عليهم، دلّ ذلك على مسالمة بعضهم بعضًا. وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، فبأيَّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ. وقوله: ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) . وأصله « محنوذ » ، صرف من « مفعول » إلى « فعيل » . وقد اختلف أهل العربية في معناه، فقال بعض أهل البصرة منهم معنى « المحنوذ » : المشويّ، قال: ويقال منه: « حَنَذْتُ فرسي » ، بمعنى سخَّنته وعرَّقته. واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز: *ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا* وقال آخر منهم: « حنذ فرسه » : أي أضمره، وقال: قالوا حَنَذه يحنِذُه حَنْذًا: أي: عرَّقه. وقال بعض أهل الكوفة: كل ما انشوَى في الأرض ، إذا خَدَدت له فيه ، فدفنته وغممته ، فهو « الحنيذ » و « المحنوذ » . قال: والخيل تُحْنَذ ، إذا القيت عليها الجِلال بعضُها على بعض لتعرق. قال: ويقال: « إذا سَقَيْتَ فَأحْنِذْ » ، يعني : أخْفِسْ، يريد: أقلَّ الماء، وأكثر النبيذ. وأما [ أهل ] التأويل، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره، وذلك ما:- حدثني به المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( بعجل حنيذ ) ، يقول: نضيج حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بعجل حنيذ ) قال: « بعجل » ، حَسِيل البقر، و « الحنيذ » : المشوي النضيج. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ) إلى ( بعجل حنيذ ) ، قال: نضيج ، سُخِّن ، أنضج بالحجارة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) ، و « الحنيذ » : النضيج. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( بعجل حنيذ ) ، قال: نضيج. قال: [ وقال الكلبي ] : و « الحنيذ » : الذي يُحْنَذُ في الأرض. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر في قوله: ( فجاء بعجل حنيذ ) ، قال: « الحنيذ » : الذي يقطر ماء ، وقد شوى وقال حفص: « الحنيذ » : مثل حِنَاذ الخيل. حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال: ذبحه ثم شواه في الرَّضْف ، فهو « الحنيذ » حين شواه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو يزيد، عن يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية: ( فجاء بعجل حنيذ ) ، قال: المشويّ الذي يقطر. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا هشام قال ، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، قال: « الحنيذ » الذي يقطر ماؤه وقد شُوِي. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( بعجل حنيذ ) ، قال: نضيج. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( بعجل حنيذ ) ، الذي أنضج بالحجارة. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان: ( فما لبث أن جاء بعجل حنيذ ) ، قال: مشويّ. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول: « حينذ » ، يعني: شُوِي. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، « الحِناذ » : الإنضاج. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقارباتُ المعاني بعضها من بعض. وموضع « أن » في قوله: ( أن جاء بعجل حنيذ ) نصبٌ بقوله: ( فما لبث أن جاء ) . القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ( 70 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فلما رأى إبراهيم أيديَهم لا تصل إلى العجل الذي أتاهم به، والطعام الذي قدّم إليهم ، نكرهم، وذلك أنه لما قدم طعامه صلى الله عليه وسلم إليهم ، فيما ذكر، كفّوا عن أكله، لأنهم لم يكونوا ممن يأكله. وكان إمساكهم عن أكله ، عند إبراهيم ، وهم ضِيَفانه مستنكرًا. ولم تكن بينهم معرفةٌ، وراعه أمرهم، وأوجس في نفسه منهم خيفة. وكان قتادة يقول: كان إنكاره ذلك من أمرهم ، كما:- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ) ، وكانت العرب إذا نـزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدِّث نفسه بشرّ. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرَهم ) ، قال : كانوا إذا نـزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم، ظنوا أنه لم يأت بخير، وأنه يحدّث نفسه بشرّ، ثم حدَّثوه عند ذلك بما جاؤوا. *وقال غيره في ذلك ما:- حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان قال: لما دخل ضيف إبراهيم عليه السلام ، قرّب إليهم العجل، فجعلوا ينكتُون بقِداح في أيديهم من نبْل، ولا تصل أيديهم إليه، نكرهم عند ذلك. يقال منه: « نكرت الشيء أنكره » ، و « أنكرته أنكره » ، بمعنى واحد، ومن « نكرت » و « أنكرت » ، قول الأعشى: وَأَنْكَـرَتْنِي وَمَـا كَـانَ الَّـذِي نَكِـرَتْ مِـنَ الحَـوَادِثِ , إلا الشَّـيْبَ وَالصَّلَعَا فجمع اللغتين جميعا في البيت. وقال أبو ذؤيب: فَنَكِرْنَــهُ , فَنَفَـرْنَ, وامْتَرَسَـتْ بِـهِ هَوْجَــاءُ هَادِيَــةٌ وَهَــادٍ جُرْشُـعُ وقوله: ( وأوجس منهم خيفة ) ، يقول: أحسَّ في نَفسه منهم خيفة وأضمرها. ( قالوا لا تخف ) ، يقول: قالت الملائكة ، لما رأت ما بإبراهيم من الخوف منهم: لا تخف منا وكن آمنًا، فإنا ملائكة ربّك ( أرسلنا إلى قوم لوط ) . القول في تأويل قوله تعالى : وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( وامرأته ) ، سارَة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو بن فالغ، وهي ابنة عم إبراهيم ( قائمة ) ، قيل: كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام. وقيل: كانت قائمة تخدُم الرسل ، وإبراهيم جالسٌ مع الرسل. وقوله: ( فضحكت ) ، اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( فضحكت ) ، وفي السبب الذي من أجله ضحكت. فقال بعضهم: ضحكت الضحك المعروف ، تعجبًا من أنَّها وزوجها إبراهيم يخدمان ضِيفانهم بأنفسهما ، تكرمةً لهم، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال، بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط ، أقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نـزلوا على إبراهيم فتضيَّفوه، فلما رآهم إبراهيم أجلّهم، فراغ إلى أهله، فجاء بعجل سمين، فذبحه ثم شواه في الرَّضْف، فهو « الحنيذ » حين شواه. وأتاهم فقعد معهم، وقامت سارَة تخدمُهم. فذلك حين يقول: ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ ) وَهُوَ جَالِسٌ في قراءة ابن مسعود. فلما قرّبه إليهم قال ألا تأكلون؟ قالوا: يا إبراهيم ، إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن . قال: فإن لهذا ثمنًا! قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوّله ، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلا! فلما رأى أيديهم لا تصل إليه يقول: لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خيفة ، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم، ضحكت وقالت: عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمةً لهم، وهم لا يأكلون طعامنا ! وقال آخرون: بل ضحكت من أن قوم لوط في غَفْلة وقد جاءت رُسُل الله لهلاكهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه حدثوه عند ذلك بما جاؤوا فيه، فضحكت امرأته وعجبت من أن قومًا أتاهم العذاب ، وهم في غفلة. فضحكت من ذلك وعجبت فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة أنه قال: ضحكت تعجبًا مما فيه قوم لوط من الغفلة ، ومما أتاهم من العذاب. وقال آخرون: بل ضحكت ظنًّا منها بهم أنهم يريدون عَمَل قوم لوط. ذكر من قال ذلك : حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن قيس، في قوله: ( وامرأته قائمة فضحكت ) ، قال: لما جاءت الملائكة ظنَّت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط. وقال آخرون: بل ضحكت لما رأت بزوجها إبراهيم من الرَّوع. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي: ( فضحكت ) ، قال: ضحكت حين راعُوا إبراهيم مما رأت من الروع، بإبراهيم. وقال آخرون: بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما أتى الملائكة إبراهيم عليه السلام فرآهم، راعه هيئتهم وجمالهم، فسلموا عليه، وجلسوا إليه، فقام فأمر بعجل سمين، فحُنِذَ له، فقرّب إليهم الطعام فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ، وسارة وراء البيت تسمع ، قالوا: لا تَخَفْ إنَّا نبشرك بغلام حليم مبارك ! وبشّر به امرأته سارة، فضحكت وعجبت: كيف يكون لي ولد وأنا عجوز ، وهو شيخ كبير! فقالوا: أتعجبين من أمر الله؟ فإنه قادر على ما يشاء! فقد وهبه الله لكم ، فأبشروا به . وقد قال بعض من كان يتأول هذا التأويل: إن هذا من المقدَّم الذي معناه التأخير، كأنّ معنى الكلام عنده: وامرأته قائمة، فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فضحكت وقالت: يا ويلتا أألد وأنا عجوز؟ وقال آخرون: بل معنى قوله: « فضحكت » في هذا الموضع: فحاضت. ذكر من قال ذلك: حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن عمرو بن الأزهر، عن ليث، عن مجاهد في قوله: ( فضحكت ) ، قال: حاضت، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة. قال: وكان إبراهيم ابن مائة سنة. وقال آخرون: بل ضحكت سرورًا بالأمن منهم، لما قالوا لإبراهيم: لا تخف، وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضًا كما خافهم إبراهيم . فلما أمِنَت ضحكت، فأتبعوها البشارة بإسحاق. وقد كان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أنه لم يسمع « ضحكت » ، بمعنى : حاضت ، من ثقة. وذكر بعض أهل العربية من البصريين أن بعض أهل الحجاز أخبره عن بعضهم أن العرب تقول « ضحكت المرأة » ، حاضت . قال: وقد قال: « الضحك » ، الحيض، وقد قال بعضهم: « الضحك » : الثَّغْرُ ، وذكر بيت أبي ذؤيب: فَجَـاءَ بِمِـزْجٍ لَـمْ يَـرَ النَّـاسُ مِثْلَهُ هُـوَ الضَّحْـكُ إلا أَنَّـهُ عَمـلُ النَّحْلِ وذكر أنَّ بعض أصحابه أنشده في الضحك بمعنى الحيض: وَضِحْــكُ الأرَانِــبِ فَـوْقَ الصَّفَـا كَمِثْــل دَمِ الجَــوْفِ يَــوْمَ اللِّقَـا قال: وذكر له بعض أصحابه أنه سمع للكميت: فَـأضْحَكَتِ الضِّبَـاعُ سُـيُوفُ سَـعْدٍ بِقَتْــلَى مَــا دُفِــنَّ وَلا وُدِينَــا وقال: يريد الحيض. قال: وبلحرث بن كعب يقولون: « ضحكت النخلة » ، إذا أخرجت الطَّلع أو البُسْر. وقالوا: « الضَّحك » الطلع. قال: وسمعنا من يحكي: « أضحكت حوضًا » أي ملأته حتى فاض. قال: وكأن المعنى قريبٌ بعضه من بعض كله، لأنه كأنه شيءٌ يمتلئُ فيفيض. قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب قولُ من قال: معنى قوله: « فضحكت » فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلتهم عنه. وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب ، لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . فإذ كان ذلك كذلك، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم: ( لا تخف ) ، كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط. القول في تأويل قوله تعالى : فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ( 71 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبشَّرنا سارَة امرأة إبراهيم ثوابًا منا لها على نَكيرها وعجبها من فعل قوم لوط ( بإسحاق ) ، ولدًا لها ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، يقول: ومن خلف إسحاق يعقوب ، من ابنها إسحاق. و « الوراء » في كلام العرب، ولد الولد، وكذلك تأوَّله أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود، عن عامر قال: ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، قال: الوراء: ولد الولد. حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، قال كلّ واحد منهما، حدثني أبو اليسع إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة مولى الأشعري، قال: كنت إلى جنب جدي أبي المغيرة بن مهران ، في مسجد عليّ بن زيد، فمر بنا الحسنُ بن أبي الحسن فقال: يا أبا المغيرة من هذا الفتى؟ قال: ابني من ورائي، فقال الحسن: ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) . حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن أبي عدي قال ، حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله: ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، قال: ولد الولد هو « الوراء » . حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا خالد، عن داود، عن عامر في قوله: ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، قال: « الوراء » ، ولد الولد. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، مثله. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو عمرو الأزدي قال: سمعت الشعبي يقول: ولد الولد: هم الولد من الوَراء. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء رجل إلى ابن عباس ومعه ابن ابنه فقال: من هذا معك؟ قال: هذا ابن ابني. قال: هذا ولدُك من الوراء! قال: فكأنه شقَّ على ذلك الرجل، فقال ابن عباس: إن الله يقول: ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، فولد الولد هم الوراء. حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ضحكت سارَة . وقالت: « عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا » ! قال لها جبريل: أبشري بولد اسمُه إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب. فَضربتْ وَجْهَهَا عجبًا، فذلك قوله: فَصَكَّتْ وَجْهَهَا ، [ سورة الذاريات : 29 ] . وقالت: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، قالت سارة: ما آية ذلك؟ قال: فأخذ بيده عودًا يابسا فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فقال إبراهيم: هُو لله إذا ذبيحًا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: فَضَحِكَتْ يعني سارَة لما عرفت من أمر الله جل ثناؤه ولمَا تعلم من قوم لوط فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب بابن وبابن ابن. فقالت وصكت وجهها يقال: ضربت على جبينها : يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ، إلى قوله: إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ . واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء العراق والحجاز: ( وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ ) ، برفع « يعقوب » ، ويعيد ابتداء الكلام بقوله. ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، وذلك وإن كان خبرًا مبتدأ، ففيه دلالة على معنى التبشير. وقرأه بعض قراء أهل الكوفة والشأم، ( وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب ) نصبًا . فأما الشامي منهما ، فذكر أنه كان ينحو ب « يعقوب » نحو النصب بإضمار فعل آخر مشاكل للبشارة، كأنه قال: ووهبنا له من وراء إسحاق يعقوب. فلما لم يظهر « وهبنا » عمل فيه « التبشير » وعطف به على موضع « إسحاق » ، إذ كان « إسحاق » وإن كان مخفوضًا ، فإنه بمعنى المنصوب بعمل « بشرنا » ، فيه، كما قال الشاعر: جِــئْنِي بِمِثْـلِ بَنِـي بَـدْرٍ لِقَـوْمِهِمِ أَوْ مِثْـلِ أُسَْـرِة مَنْظُـورِ بـنِ سَـيَّارِ أَوْ عَـامِرَ بْـنَ طُفَيْـلٍ فِـي مُرَكَّبِـهِ أَوْ حَارِثًـا , يَـوْمَ نَادَى القَوْمُ: يَا حَارِ وأما الكوفي منهما فإنه قرأه بتأويل الخفض فيما ذكر عنه، غير أنه نصبه لأنه لا يجرى. وقد أنكر ذلك أهل العلم بالعربية من أجل دخول الصفة بين حرف العطف والاسم . وقالوا: خطأ أن يقال: « مررت بعمرٍو في الدَّار وفي الدار زيد » وأنت عاطف ب « زيد » على « عمرو » ، إلا بتكرير الباء وإعادتها، فإن لم تعد كان وجه الكلام عندهم الرفع، وجاز النصب، فإن قُدم الاسم على الصفة جاز حينئذ الخفض، وذلك إذا قلت: « مررت بعمرو في الدار وزيد في البيت » . وقد أجاز الخفضَ والصفةُ معترضةٌ بين حرف العطف والاسم ، بعضُ نحويي البصرة. قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه رفعًا، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، والذي لا يتناكره أهل العلم بالعربية، وما عليه قراءة الأمصار. فأما النَّصب فيه فإن له وجهًا، غير أنِّي لا أحبُّ القراءة به، لأن كتاب الله نـزلَ بأفصح ألسُن العرب، والذي هو أولى بالعلم بالذي نـزل به من الفصاحة. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ( 72 ) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ( 73 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قالت سَارة لما بُشِّرت بإسحاق أنَّها تلد تعجبًا مما قيل لها من ذلك، إذ كانت قد بلغت السن التي لا يلد من كان قد بلغها من الرجال والنساء وقيل: إنها كانت يومئذ ابنة تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة. وقد ذكرت الرواية فيما روي في ذلك عن مجاهد قبلُ. وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما:- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كانت سارَة يوم بُشِّرت بإسحاق ، فيما ذكر لي بعض أهل العلم ، ابنة تسعين سنة، وإبراهيم ابن عشرين ومائة سنة. ( يَا وَيْلَتَا ) وهي كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء والاستنكار للشيء، فيقولون عند التعجب: « ويلُ أمِّه رجلا ما أرْجَله » ! وقد اختلف أهل العربية في هذه الألف التي في: ( يا ويلتا ) . فقال بعض نحويي البصرة: هذه ألف حقيقة، إذا وقفت قلت: « يا ويلتاه » ، وهي مثل ألف الندبة، فلطفت من أن تكون في السكت، وجعلت بعدها الهاء لتكون أبين لها ، وأبعد في الصوت . ذلك لأن الألف إذا كانت بين حرفين كان لها صدًى كنحو الصوت يكون في جوف الشيء فيتردد فيه، فتكون أكثر وأبين. وقال غيره: هذه ألف الندبة، فإذا وقفت عليها فجائز، وإن وقفت على الهاء فجائز ، وقال: ألا ترى أنهم قد وقفوا على قوله: وَيَدْعُ الإِنْسَانُ ، [ سورة الإسراء: 11 ] ، فحذفوا الواو وأثبتوها، وكذلك: مَا كُنَّا نَبْغِ ، [ سورة الكهف: 64 ] ، بالياء، وغير الياء؟ قال: وهذا أقوى من ألف الندبة وهائها. قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الألف ألف الندبة، والوقف عليها بالهاء وغير الهاء جائز في الكلام لاستعمال العرب ذلك في كلامهم. وقوله: ( أألد وأنا عجوز ) ، تقول: أنى يكون لي ولد ( وأنا عجوز وهذا بعلي شيْخًا ) ، والبعل في هذا الموضع: الزوج ، وسمي بذلك لأنه قيم أمرها، كما سموا مالك الشيء « بعله » ، وكما قالوا للنخل التي تستغني بماء السماء عن سقي ماء الأنهار والعيون « البعل » ، لأن مالك الشيء القيم به، والنخل البعل ، بماء السمَاء حياتُه. وقوله ( إن هذا لشيء عجيب ) ، يقول: إن كون الولد من مثلي ومثل بعلي على السن التي بها نحن لشيء عجيب ( قالوا أتعجبين من أمر الله ) ، يقول الله تعالى ذكره: قالت الرسل لها: أتعجبين من أمرٍ أمر الله به أن يكون ، وقضاء قضاه الله فيك وفي بعلك. وقوله: ( رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ) ، يقول: رحمة الله وسعادته لكم أهل بيت إبراهيم وجعلت الألف واللام خلفًا من الإضافة وقوله: ( إنه حَميدٌ مجيد ) ، يقول: إن الله محمود في تفضله عليكم بما تفضل به من النعم عليكم وعلى سائر خلقه ( مجيد ) ، يقول: ذو مجد ومَدْح وَثَناء كريم. يقال في « فعل » منه: « مجد الرجل يمجد مجادة » إذا صار كذلك، وإذا أردت أنك مدحته قلت: « مجّدته تمجيدًا » . القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ( 74 ) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ( 75 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه من رسلنا، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، وأمن أن يكون قُصِد في نفسه وأهله بسوء ( وجاءته البشرى ) ، بإسحاق، ظلّ ( يجادلنا في قوم لوط ) . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) يقول: ذهب عنه الخوف، ( وجاءته البشرى ) ، بإسحاق. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، بإسحاق، ويعقوب ولد من صلب إسحاق، وأمن مما كان يخاف ، قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ، [ سورة إبراهيم: 39 ] . وقد قيل معنى ذلك: وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( وجاءته البشرى ) ، قال: حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وأنهم ليسوا إياه يريدون. وقال آخرون: بشّر بإسحاق. وأما « الروع » : فهو الخوف، يقال منه: « راعني كذا يَرُوعني روعًا » إذا خافه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: « كيف لَكَ بَرَوْعَة المؤمن » ؟ ومنه قول عنترة: مَــا رَاعَنــي إلا حَمُوَلُــة أَهْلِهَـا وَسْـطَ الدِّيـارِ تَسَـفُّ حَـبَّ الخِمْخِمِ بمعمى: ما أفزعني. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « الروع » ، الفَرَق. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد . . . . قال وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال: الفَرَق. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال: الفَرَق. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، قال: ذهب عنه الخوف. وقوله: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، يقول: يخاصمنا. كما:- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يجادلنا ) ، يخاصمنا. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: ( يجادلنا ) يكلمنا. وقال: لأن إبراهيم لا يجادل الله ، إنما يسأله ويطلب إليه. قال أبو جعفر: وهذا من الكلام جهلٌ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط ، فقول القائل: « إبراهيم لا يجادل » ، موهمًا بذلك أن قول من قال في تأويل قوله: ( يجادلنا ) ، يخاصمنا، أن إبراهيم كان يخاصم ربَّه ، جهلٌ من الكلام، وإنما كان جدالُه الرسلَ على وجه المحاجَّة لهم. ومعنى ذلك: « وجاءته البشرى يجادل رسلنا » ، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف « الرسل » . وكان جدالُه إيَّاهُم ، كما:- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي قال ، حدثنا جعفر، عن سعيد: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، قال: لما جاء جبريل ومن معه قالوا لإبراهيم: إنَّا مهلكو أهل هذه القرية إنَّ أهلها كانوا ظالمين: قال لهم إبراهيم: أتهلكون قريةً فيها أربع مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها ثلاث مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنًا؟ قالوا: لا! وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط، فسكتَ عنهم واطمأنت نفسه . حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، قال الملك لإبراهيم: إن كان فيها خمسة يصلون رُفع عنهم العذاب. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أمعذبوها أنتم؟ قالوا: لا! حتى صار ذلك إلى عشرة قال، أرأيتم إن كان فيها عشرة أمعذبوهم أنتم؟ قالوا: لا! وهي ثلاث قرى فيها ما شاء الله من الكثرة والعدد. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( يجادلنا في قوم لوط ) ، قال: بلغنا أنه قال لهم يومئذ: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين؟ قالوا: إن كان فيها خمسون لم نعذبهم. قال: أربعون؟ قالوا: وأربعون! قال: ثلاثون؟ قالوا: ثلاثون! حتى بلغ عشرة. قالوا: وإن كان فيهم عشرة! قال: ما قومٌ لا يكون فيهم عشرة فيهم خير قال ابن عبد الأعلى، قال محمد بن ثور، قال معمر: بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان، أو ما شاء الله من ذلك. حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي، ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، قال : ما خطبُكم أيها المرسلون ؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، فجادلهم في قوم لوط قال، أرأيتم إن كان فيها مائة من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا! فلم يزل يحُطَّ حتى بلغ عشرة من المسلمين، فقالوا: لا نعذبهم ، إن كان فيهم عشرة من المسلمين، ثم قالوا: « يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين » هو لوط وأهل بيته، وهو قول الله تعالى ذكره: ( يجادلنا في قوم لوط ) . فقالت الملائكة: يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ . حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى ) ، يعني: إبراهيم جادل عن قوم لوط ليردّ عنهم العذاب قال: فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين جادلهم في قوم لوط ليردّ عنهم العذاب، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به: أرأيتم إن كان فيهم مائة مؤمن أتهلكونهم؟ قالوا:، لا! قال: أفرأيتم إن كانوا تسعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ثمانين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا سبعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ستين؟ قالوا لا! قال: أفرأيتم إن كانوا خمسين؟ قالوا لا! قال: أفرأيتم إن كان رجلا واحدًا مسلمًا؟ قالوا: لا! قال: فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنًا واحدًا ، قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا ، يدفع به عنهم العذاب قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [ سورة العنكبوت: 32 ] ، قالوا يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال إبراهيم: أتهلكونهم إن وجدتم فيها مائة مؤمن ثم تسعين؟ حتى هبَط إلى خمسة. قال: وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف. حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا أبو المثني ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا ( لما ذهب عن إبراهيم الروع ) ، إلى آخر الآية قال إبراهيم: أتعذب عالمًا من عالمك كثيرًا، فيهم مائة رجل؟ قال: لا وعزتي ، ولا خمسين ! قال: فأربعين؟ فثلاثين؟ حتى انتهى إلى خمسة. قال: لا ! وعزتي لا أعذبهم ولو كان فيهم خمسة يعبدونني ! قال الله عز وجل: فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ سورة الذاريات:36 ] ، أي لوطًا وابنتيه ، قال: فحلّ بهم من العذاب، قال الله عز وجل: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ سورة الذاريات:37 ] ، وقال: ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ) . والعرب لا تكاد تَتَلقَّى « لمَّا » إذا وليها فعل ماض إلا بماض، يقولون: « لما قام قمت » ، ولا يكادون يقولون: « لما قام أقوم » . وقد يجوز فيما كان من الفعل له تَطَاول مثل « الجدال » « والخصومة » والقتال، فيقولون في ذلك: « لما لقيته أقاتله » ، بمعنى: جعلت أقاتله. وقوله: ( إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب ) ، يقول تعالى ذكره: إن إبراهيم لبطيء الغضب ، متذلل لربه خاشع له، منقاد لأمره ( منيب ) ، رَجَّاع إلى طاعته، كما:- حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: ( أوّاه منيب ) ، قال: القانت: الرَّجاع. وقد بينا معنى « الأوّاه » فيما مضى ، باختلاف المختلفين ، والشواهد على الصحيح منه عندنا من القول ، بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله تعالى : يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ( 76 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قول رسله لإبراهيم: ( يا إبراهيم أعرض عن هذا ) ، وذلك قيلهم له حين جَادلهم في قوم لوط، فقالوا: دع عنك الجدالَ في أمرهم والخصومة فيه فإنه ( قد جاء أمر ربكَ ) يقول : قد جاء أمر ربك بعذابهم. وحقَّ عليهم كلمة العذاب، ومضى فيهم بهلاكهم القضاء ( وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ) ، يقول: وإن قوم لوط ، نازلٌ بهم عذابٌ من الله غير مدفُوع. وقد [ مضى ] ذكر الرواية بما ذكرنا فيه عمن ذكر ذلك عنه. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ( 77 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولما جاءت ملائكتنا لوطًا، ساءَه مَجيئهم وهو « فعل » من « السوء » ( وضاق بهم ) ، بمجيئهم ( ذَرْعًا ) ، يقول: وضاقت نفسه غما بمجيئهم . وذلك أنه لم يكن يعلم أنهم رسلُ الله في حال ما ساءه مجيئهم، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيانهم الفاحشة، وخاف عليهم، فضاق من أجل ذلك بمجيئهم ذرعًا، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه، ولذلك قال: ( هذا يوم عصيب ) . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك : حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا ) ، يقول: ساء ظنًا بقومه وضاق ذرعًا بأضيافه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة أنه قال: لما جاءت الرسل لوطًا أتوه وهو في أرض له يعمل فيها، وقد قيل لهم ، والله أعلم: لا تهلكوهم حتى يشهدَ لوط . قال: فأتوه فقالوا: إنا مُتَضيِّفوك الليلة، فانطلق بهم، فلما مضى ساعةً التفت فقال: أما تعلمون ما يعمَل أهل هذه القرية؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أناسًا أخبث منهم ! قال: فمضى معهم. ثم قال الثانية مثل ما قال، فانطلق بهم. فلما بصرت بهم عجوزُ السَّوْء امرأته، انطلقَت فأنذرتهم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال، قال حذيفة، فذكر نحوه. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: أتت الملائكة لوطًا وهو في مزرعة له، وقال الله للملائكة: إن شهد لوط عليهم أربعَ شهادات فقد أذنت لكم في هَلكتهم. فقالوا: يا لوط ، إنا نريد أن نُضيِّفك الليلة. فقال: وما بلغكم من أمرهم؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشرُّ قرية في الأرض عملا ! يقول ذلك أربع مرات، فشهد عليهم لوط أربع شهادات، فدخلوا معه منـزله. حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال، خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سَدُوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها، وكانت له ابنتان، اسم الكبرى « ريثا » ، والصغرى « زغرتا » ، فقالوا لها: يا جارية، هل من منـزل؟ قالت: نعم، فَمكانَكم لا تدخُلوا حتى آتيكم ! فَرِقَتْ عليهم من قَوْمها . فأتت أباها فقالت: يا أبتاه أرادك فتيان على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسنَ منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم ! وقد كان قومه نهوه أن يُضيف رجلا فقالوا: خَلّ عنَّا فلنضِف الرجال ! فجاء بهم، فلم يعلم أحدٌ إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، قالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قَطّ ! فجاءه قومه يُهْرَعون إليه. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرجت الرسل فيما يزعم أهل التوراة من عند إبراهيم إلى لوط بالمؤتفكة، فلما جاءت الرسل لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا، وذلك من تخوف قومه عليهم أن يفضحُوه في ضيفه، فقال: ( هذا يوم عصيبٌ ) . وأما قوله: ( وقال هذا يوم عصيب ) ، فإنه يقول: وقال لوط: هذا اليوم يوم شديد شره، عظيم بلاؤه، يقال منه: عصب يومنا هذا يعصب عصبًا، ومنه قول عدي بن زيد: وَكُـنْتُ لِـزَازَ خَـصْمِكَ لـمْ أُعَـرِّدْ وَقَــدْ سَـلَكُوكَ فِـي يَـوْمٍ عَصِيـب وقول الراجز: يَــوْمٌ عَصِيــبٌ يَعْصِـبُ الأَبْطَـالا عَصْــبَ القَــوِيِّ السَّـلَمَ الطِّـوَالا وقول الآخر: وَإنَّـكَ إنْ لا تُـرْضِ بَكْـرَ بـنَ وَائِلٍ يَكُـنْ لَـكَ يَـوْمٌ بـالعِرَاقِ عَصِيـبِ وقال كعب بن جعيل: ومُلَبُّـــونَ بِـــالحَضِيضِ فِئــامٌ عَارِفــاتٌ مِنْــهُ بِيَــوْمٍ عَصِيـبِ ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( عصيب ) ، : شديد حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ( هذا يوم عصيب ) ، يقول شديد. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ( هذا يوم عصيب ) ، أي يوم بلاء وشدة. حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( يوم عصيب ) ، شديد. حدثني علي قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( وقال هذا يوم عصيب ) ، أي : يوم شديد. القول في تأويل قوله تعالى : وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ( 78 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وجاء لوطًا قومه يستحثون إليه ، يُرْعَدون مع سرعة المشي ، مما بهم من طلب الفاحشة. يقال: « أهْرِعَ الرجل » ، من برد أو غضب أو حمَّى، إذا أرعد، « وهو مُهْرَع » ، إذا كان مُعْجلا حريصًا، كما قال الراجز: * بِمُعْجَلاتٍ نَحْوَهُ مَهَارِع * ومنه قول مهلهل: فجــاؤوا يُهْرَعُـونَ وهـمْ أُسـارَى تَقُــودُهُمُ عــلى رَغــمِ الأُنُـوفِ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( يُهْرَعون إليه ) ، قال: يهرولون، وهو الإسراع في المشي. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، قال: يسعون إليه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : قال : فأتوه يهرعون إليه، يقول: سراعًا إليه. حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( يهرعون إليه ) ، قال: يسرعون إليه. حدثنا موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، يقول: يسرعون المشي إليه. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، قال: يهرولون في المشي قال سفيان: ( يهرعون إليه ) ، يسرعون إليه. حدثنا سوار بن عبد الله قال، قال سفيان بن عيينة في قوله: ( يهرعون إليه ) ، قال: كأنهم يدفعون. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب قال ، حدثنا حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال، أقبلوا يسرعون مشيًا بين الهرولة والجمز. حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس، قوله: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، يقول: مسرعين. وقوله: ( ومن قبل كانوا يعملون السيئات ) ، يقول: من قبل مجيئهم إلى لوط ، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( ومن قبل كانوا يعملون السيئات ) ، قال: يأتون الرجال. وقوله: ( قال يا قوم هؤلاء بناتي ) ، يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه لما جاؤوه يراودونه عن ضيفه: هؤلاء يا قوم بناتي يعني نساء أمته فانكحوهن فهنّ أطهر لكم، كما:- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، قال: أمرهم لوط بتزويج النساء وقال: ( هن أطهر لكم ) . حدثنا محمد قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: وبلغني هذا أيضًا عن مجاهد. حدثنا ابن وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، قال: لم تكن بناته، ولكن كنَّ من أمّته، وكل نبي أبُو أمَّته. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، قال: أمرهم أن يتزوجوا النساء، لم يعرضْ عليهم سفاحًا. حدثني يعقوب قال ، حدثنا أبو بشر، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله: ( هن أطهر لكم ) ، قال: ما عرض عليهم نكاحًا ولا سفاحًا. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) قال: أمرهم أن يتزوجوا النساء، وأراد نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يَقي أضيافه ببناته. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر عن الربيع، في قوله: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، يعني التزويج حدثني أبو جعفر، عن الربيع في قوله: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، يعني التزويج. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو النعمان عارم قال ، حدثنا حماد بن زيد قال ، حدثنا محمد بن شبيب الزهراني ، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قول لوط: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، يعني: نساءهم ، هنّ بَنَاته ، هو نبيّهم وقال في بعض القراءة: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ ) [ سورة الأحزاب: 6 ] . حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، قالوا: أو لم ننهك أن تضيف العالمين؟ قال: ( هؤلاء بناتي هن أطهر لكم ) ، إن كنتم فاعلين ، أليس منكم رجل رشيد؟ حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما جاءت الرسل لوطًا أقبل قومه إليهم حين أخبروا بهم يهرَعون إليه. فيزعمون ، والله أعلم ، أن امرأة لوط هي التي أخبرتهم بمكانهم، وقالت: إن عند لوط لضيفانًا ما رأيت أحسنَ ولا أجمل قطُّ منهم ! وكانوا يأتون الرجالَ شهوة من دون النساء، فاحشةٌ ، لم يسبقهم بها أحد من العالمين. فلما جاؤوه قالوا: أو لم ننهك عن العالمين؟ أي : ألم نقل لك: لا يقربنَّك أحدٌ، فإنا لن نجد عندك أحدًا إلا فعلنا به الفاحشة؟ قال : « يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم » ، فأنا أفدي ضيفي منكم بهنّ، ولم يدعهم إلا إلى الحلال من النكاح. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( هؤلاء بناتي ، قال: النساء. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( هن أطهر لكم ) . فقرأته عامة القراء برفع : ( أَطْهَرُ ) ، على أن جعلوا « هن » اسمًا، « وأطهر » خبره، كأنه قيل: بناتي أطهرُ لكم مما تريدون من الفاحشة من الرجال. وذكر عن عيسى بن عمر البصري أنه كان يقرأ ذلك: ( هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ ) ، بنصب « أطهر » . وكان بعض نحويي البصرة يقول: هذا لا يكون، إنما ينصب خبر الفعل الذي لا يستغني عن الخبر إذا كان بين الاسم والخبر هذه الأسماء المضمرة. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: من نصبه جعله نكرةً خارجة من المعرفة، ويكون قوله: « هن » عمادًا للفعل فلا يُعْمِله. وقال آخر منهم: مسموع من العرب: « هذا زيد إيَّاه بعينه » ، قال: فقد جعله خبرًا لـ « هذا » مثل قولك: « كان عبد الله إياه بعينه » . قال: وإنما لم يجز أن يقع الفعل ههنا ، لأن التقريب ردُّ كلام ، فلم يجتمعا ، لأنه يتناقض، لأنَّ ذلك إخبار عن معهود، وهذا إخبار عن ابتداء ما هو فيه: « ها أنا ذا حاضر » ، أو : « زيد هو العالم » ، فتناقض أن يدخل المعهودُ على الحاضر، فلذلك لم يجُزْ. قال أبو جعفر : والقراءة التي لا أستجيز خلافها في ذلك، الرفع : ( هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ) ، لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه ، مع صحته في العربية، وبعد النصب فيه من الصحة. وقوله: ( فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ) ، يقول: فاخشوا الله ، أيها الناس، واحذروا عقابه ، في إتيانكم الفاحشة التي تأتونها وتطلبونها ( ولا تخزون في ضيفي ) ، يقول: ولا تذلوني بأن تركبوا مني في ضيفي ما يكرهون أن تركبُوه منهم. و « الضيف » ، في لفظ واحدٍ في هذا الموضع بمعنى جمع. والعرب تسمي الواحد والجمع « ضيفًا » بلفظ واحدٍ. كما قالوا: « رجل عَدْل، وقوم عَدْل » . وقوله: ( أليس منكم رجل رشيد ) ، يقول: أليس منكم رجل ذو رُشد ، ينهى من أراد ركوبَ الفاحشة من ضيفي، فيحول بينهم وبين ذلك؟ كما:- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ) ، أي رجل يعرف الحقَّ وينهى عن المنكر؟ القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ( 79 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قال قوم لوط للوط: ( لقد علمت ) ، يا لوط ( ما لنا في بناتك من حق ) ، لأنهن لَسْنَ لنا أزواجًا، كما:- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ( قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق ) ، أي من أزواج ( وإنك لتعلم ما نريد ) . وقوله: ( وإنك لتعلم ما نريد ) ، يقول: قالوا: وإنك يا لوط لتعلم أنَّ حاجتنا في غير بناتك، وأن الذي نُريد هو ما تنهانَا عنه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي : ( وإنك لتعلم ما نريد ) ، إنا نريد الرجال. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( وإنك لتعلم ما نريد ) ، أي : إن بغيتنا لغير ذلك. فلما لم يتناهوا، ولم يردَّهم قوله، ولم يقبلوا منه شيئًا مما عرض عليهم من أمور بناته، قال : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ . القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ( 80 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه حين أبوا إلا المضي لما قد جاؤوا له من طلب الفاحشة ، وأيس من أن يستجيبوا له إلى شيء مما عرض عليهم: ( لو أن لي بكم قوة ) ، بأنصار تنصرني عليكم وأعوان تعينني ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، يقول: أو أنضم إلى عشيرة مانعة تمنعني منكم، لحلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه منِّي في أضيافي وحذف جواب « لو » لدلالة الكلام عليه، وأن معناه مفهوم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: قال لوط: ( قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، يقول: إلى جُنْد شديد ، لقاتلتكم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، قال: العشيرة. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: ( إلى ركن شديد ) ، قال: العشيرة. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، قال: إلى ركن من الناس. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال قوله: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، قال: بلغنا أنه لم يبعث نبيٌّ بعد لوط إلا في ثَرْوَة من قومه ، حتى النبي صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، أي : عشيرة تمنعني أو شيعة تنصرني، لحلت بينكم وبين هذا. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) قال: يعني به العشيرة. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن: أن هذه الآية لما نـزلت: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ! حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح، عن مبارك، عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله أخي لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، فلأيّ شيء استكان ! حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبدة وعبد الرحيم، عن محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحمة الله على لوط ، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، ما بعث الله بعدَه من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه قال محمد: و « الثروة » ، الكثرة والمنعة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن كثير قال ، حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سليمان بن بلال، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله. حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال ، حدثنا سعيد بن تليد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال، حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري قال، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال، فذكر مثله. حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله: ( أو آوي إلى ركن شديد ) ، قد كان يأوي إلى ركن شديد يعني الله تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بَعثَ الله بعده من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن حرب قال ، حدثنا بن لهيعة، عن أبي يونس، سمع أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد . . . . . قال، حدثنا ابن أبي مريم سعيد بن عبد الحكم قال ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، ذكر لنا أنَّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية أو : أتى على هذه الآية قال: رحم الله لوطًا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد! وذكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبيًّا بعد لوط عليه السلام إلا في ثَرْوة من قومه، حتى بعث الله نبيكم في ثروة من قومه. يقال: من ( آوي إلى ركن شديد ) ، « أويت إليك » ، فأنا آوي إليك أوْيًا « ، بمعنى : صرت إليك وانضممت، كما قال الراجز: » يَــأْوِي إِلَـى رُكْـنٍ مِـنَ الأَرْكَـانِ فِــي عَــدَدَ طَيْسٍ وَمجْــدٍ بَـانِ وقيل: إن لوطًا لما قال هذه المقالة ، وَجَدَت الرسلُ عليه لذلك. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول: قال لوط: ( لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) ، فوجد عليه الرسلُ وقالوا: إنَّ ركنَك لشديد! القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ( 81 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة للوط، لما قال لوط لقومه لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، ورأوا ما لقي من الكرب بسببهم منهم: ( يا لوط إنا رسل ربك ) ، أرسلنا لإهلاكهم، وإنهم لن يصلوا إليك وإلى ضيفك بمكروه، فهوّن عليك الأمر ( فأسر بأهلك بقطع من الليل ) ، يقول: فاخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل. يقال منه: « أسرى » و « سرى » ، وذلك إذا سار بليل ( ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ) . واختلفت القراءة في قراءة قوله: ( فأسر ) . فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين: « فَاسْرِ » ، وصلٌ بغير همز الألف ، من « سرى » . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة: ( فَأَسْرِ ) بهمز الألف ، من « أسرى » . قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان، قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، وهما لغتان مشهورتان في العرب ، معناهما واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك. وأما قوله: ( إلا امرأتك ) ، فإن عامَّة القراء من الحجاز والكوفة، وبعض أهل البصرة، قرأوا بالنصب ( إلا امْرَأَتَكَ ) ، بتأويل: فأسر بأهلك إلا امرأتك، وعلى أن لوطًا أمر أن يسري بأهله سوى زوجته، فإنه نهي أن يسري بها، وأمر بتخليفها مع قومها. وقرأ ذلك بعض البصريين: ( إلا امْرَأَتُكَ ) ، رفعًا بمعنى: ولا يلتفت منكم أحد ، إلا امرأتك فإن لوطًا قد أخرجها معه، وإنه نهي لوط ومن معه ممن أسرى معه أن يلتفت سوى زوجته، وأنها التفتت فهلكت لذلك. وقوله: ( إنه مصيبها ما أصابهم ) ، يقول: إنه مصيب امرأتك ما أصاب قومك من العذاب ( إن موعدهم الصبح ) ، يقول: إن موعد قومك الهلاك الصبح. فاستبطأ ذلك منهم لوط وقال لهم: بلى عجِّلوا لهم الهلاك ! فقالوا: ( أليس الصبح بقريب ) أي عند الصبح نـزولُ العذاب بهم، كما:- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: ( أليس الصبح بقريب ) ، أي : إنما ينـزل بهم من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك :- حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: فمضت الرُّسُل من عند إبراهيم إلى لوط، فلما أتوا لوطًا، وكان من أمرهم ما ذكر الله، قال جبريل للوط: يا لوط ، إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ، فقال لهم لوط: أهلكوهم الساعة ! فقال له جبريل عليه السلام: ( إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ) ؟ فأنـزلت على لوط: ( أليس الصبح بقريب ) ، قال: فأمره أن يسري بأهله بقطع من الليل، ولا يلتفت منهم أحد إلا امرأته، قال: فسار، فلما كانت الساعة التي أهلكوا فيها ، أدخل جبريل جناحَه فرفعها ، حتى سمع أهلُ السماء صياح الديكة ونباحَ الكلاب، فجعل عاليها سافلَها، وأمطر عليها حجارة من سجِّيل. قال: وسمعت امرأة لوط الهَدَّة، فقالت: واقوماه ! فأدركها حَجَرٌ فقتَلها. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال: كان لوط أخذ على امرأته أن لا تذيع شيئًا من سرّ أضيافه. قال: فلما دخل عليه جبريل ومن معه، رأتهم في صورة لم تر مثلها قطُّ ، فانطلقت تسعى إلى قومها، فأتت النادي فقالتْ بيدها هكذا، وأقبلوا يهرعون مشيا بين الهرولة والجمز، فلما انتهوا إلى لوط ، قال لهم لوطٌ ما قال الله في كتابه. قال جبريل: ( يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ) ، قال: فقال بيده، فطمس أعينهم، فجعلوا يطلبونهم، يلمسون الحيطان وهم لا يبصرون. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة قال: لما بَصُرت بهم يعني بالرسل عجوزُ السَّوء امرأتُه، انطلقت فأنذرتهم، فقالت: قد تضيَّف لوطًا قوم، ما رأيت قومًا أحسن وجوهًا ! قال: ولا أعلمه إلا قالت: ولا أشد بياضًا وأطيبَ ريحًا ! قال: فأتوه يُهْرعون إليه، كما قال الله، فأصْفق لوط البابَ. قال: فجعلوا يعالجونه. قال: فاستأذن جبريل ربَّه في عقوبتهم، فأذن له، فصفقهم بجناحه، فتركهم عميانًا يتردَّدون في أخبث ليلة أتت عليهم قطُّ . فأخبروه : ( إنا رسل ربك فأسر بأهلك بقطع من الليل ) ، قال: ولقد ذكر لنا أنه كانت مع لوط حين خرج من القرية امرأته، ثم سمعت الصوت، فالتفتت، وأرسل الله عليها حجرًا فأهلكها. وقوله: ( إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ) ، فأراد نبيُّ الله ما هو أعجل من ذلك، فقالوا : ( أليس الصبح بقريب ) ؟ حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا الحكم بن بشير قال ، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة قال: انطلقت امرأته يعني امرأة لوط حين رأتهم يعني حين رأت الرسل إلى قومها فقالت: إنه قد ضافه الليلة قوم ما رأيت مثلَهم قط، أحسنَ وجوهًا ولا أطيبَ ريحًا ! فجاؤوا يُهرعون إليه، فبادرهم لوط إلى أن يزحمهم على الباب، فقال: هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ، فقالوا: أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ، فدخلوا على الملائكة، فتناولتهم الملائكة وطمست أعينهم، فقالوا: يا لوط جئتنا بقوم سحرة سحرونا، كما أنت حتى تصبح ! قال: واحتمل جبريل قَرْيات لوط الأربع، في كل قرية مائة ألف، فرفعهم على جناحه بين السماء والأرض، حتى سمع أهل السماء الدنيا أصواتَ ديكتهم، ثم قلبَهم، فجعل الله عاليها سافَلها. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال حذيفة: لما دخلوا عليه، ذهبت عَجُوزه عجوزُ السوء، فأتت قومها فقالت: لقد تضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت قومًا قطُّ أحسنَ وجوهًا منهم ! قال: فجاؤوا يسرعون، فعاجلَهم إلى لوط، فقام ملك فلزَّ الباب يقول: فسدّه واستأذن جبريل في عقوبتهم، فأذن له، فضربهم جبريل بجناحه، فتركهم عميانًا، فباتوا بشرّ ليلة، ثم قالوا ( إنا رسل ربك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ) ، قال: فبلغنا أنها سمعت صوتًا، فالتفتت فأصابها حجر، وهى شاذَّة من القوم معلومٌ مكانها. حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن حذيفة بنحوه، إلا أنه قال: فعاجلهم لوط. حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال، لما قال لوط: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، بسط حينئذ جبريل عليه السلام جناحيه، ففقأ أعينهم، وخرجوا يدوس بعضُهم في أدبار بعض عميانًا يقولون: « النَّجَاءَ النجاء! فإن في بيت لوط أسحرَ قوم في الأرض » ! فذلك قوله: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ، [ سورة القمر: 37 ] . وقالوا للوط: ( إنا رسل ربِّك لن يصلوا إليك فأسرْ بأهْلكَ بقطع منَ اللَّيْل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ) ، وَاتبع أدبارَ أهلك يقول: سرْ بهم وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ فأخرجهم الله إلى الشام. وقال لوط: أهلكوهم الساعة! فقالوا: إنا لم نؤمر إلا بالصُّبح، أليس الصبح بقريب؟ فلما أن كان السَّحَر ، خرج لوط وأهله معه امرأته، فذلك قوله: إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ، [ سورة القمر: 34 ] . حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد : أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانَ أهل سدوم الذين فيهم لوط ، قومًا قد استغنوا عن النساء بالرجال ، فلما رأى الله ذلك [ منهم ] ، بعث الملائكة ليعذبوهم، فأتوا إبراهيم، وكان من أمره وأمرهم ما ذكر الله في كتابه. فلما بشروا سارَة بالولد، قاموا وقام معهم إبراهيم يمشي، قال: أخبروني لم بعثتم ؟ وما خطبكم؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى أهل سدوم لندمرها، وإنهم قوم سَوء قد استغنوا بالرجال عن النساء. قال إبراهيم: [ أرأيتم ] إن كان فيهم خمسون رجلا صالحًا؟ قالوا: إذًا لا نعذبهم! فجعل ينقص حتى قال أهل بَيْت ؟ قالوا: فإن كان فيها بيت صالح! قال: فلوط وأهل بيته؟ قالوا: إن امرأته هَوَاها معهم! فلما يَئس إبراهيم انصرف . ومضوا إلى أهل سدوم، فدخلوا على لوط ، فلما رأتهم امرأته أعجبها حسنهم وجمالهم، فأرسلت إلى أهل القرية إنه قد نـزل بنا قومٌ لم يُرَ قومٌ قطُّ أحسن منهم ولا أجمل ! فتسامعوا بذلك، فغشُوا دار لُوط من كل ناحية وتسوَّروا عليهم الجدران. فلقيهم لوط فقال: يا قوم لا تفضحون في ضيفي، وأنا أزوّجكم بناتي ، فهن أطهر لكم ! فقالوا: لو كنَّا نُريد بناتك ، لقد عرفنا مكانهن! فقال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ! فوجد عليه الرسل وقالوا: إن ركنك لشديد، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود ! فمسح أحدهم أعينهم بجناحيه، فطمس أبصارَهم فقالوا: سُحِرْنا، انصرفوا بنا حتى نرجع إليه ! فكان من أمرهم ما قد قصَّ الله تعالى في القرآن. فأدخل ميكائيل وهو صاحبُ العذاب جناحه حتى بلغ أسفل الأرض، فقلبها، ونـزلت حجارة من السماء، فتتبعت من لم يكن منهم في القرية حيث كانُوا، فأهلكهم الله، ونجّى لوطًا وأهله، إلا امرأته. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، وعن أبي بكر بن عبد الله وأبو سفيان، عن معمر عن قتادة، عن حذيفة، دخل حديث بعضهم في بعض قال: كان إبراهيم عليه السلام يأتيهم فيقول: ويحكم أنهاكم عن الله أن تعرَّضوا لعقوبته! فلم يطيعوا ، حتى إذا بلغ الكتاب أجلَه ، لمحل عذابهم وسطوات الرّبّ بهم. قال: فانتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له، فدعاهم إلى الضيافة، فقالوا: إنَّا مُضيِّفوك الليلة ! وكان الله تعالى عهد إلى جبريل عليه السلام أن لا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شهادات . فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة، ذكر ما يعمل قومه من الشَّرّ والدواهي العظام، فمشى معهم ساعةً، ثم التفت إليهم، فقال: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرضِ شرًّا منهم! أين أذهب بكم ؟ إلى قومي وهم شرُّ من خَلَقَ الله ! فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال: احفظوا هذه واحدة ! ثم مشى ساعةً ، فلما توسَّط القرية وأشفق عليهم واستحيا منهم، قال: أما تعلمون ما يعملُ أهل هذه القرية؟ وما أعلم على وجه الأرض شرًّا منهم، إن قومي شر خلق الله ! فالتفت جبريل إلى الملائكة، فقال: احفظوا ، هاتان ثنتان ! فلما انتهى إلى باب الدار بكَى حياءً منهم وشفقة عليهم ، وقال: إن قومي شرُّ خلق الله، أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرا منهم ! فقال جبريل للملائكة: احفظوا هذه ثلاثٌ، قد حُقَّ العذاب! فلما دخلوا ذهبت عجوزُه، عجُوز السَّوء، فصعدت فلوحت بثوبها، فأتاها الفساق يهرعون سراعًا، قالوا: ما عندك؟ قالت: ضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت أحسنَ وجوهًا منهم ولا أطيب ريحًا منهم ! فهُرِعوا يسارعون إلى الباب، فعاجلهم لوط على الباب، فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج، يناشدهم الله ويقول: هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ، فقام الملك فلزَّ الباب يقول: فسَدّه واستأذن جبريل في عقوبتهم، فأذن الله له، فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء، فنشر جناحه، ولجبريل جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم، وهو براق الثنايا أجلَى الجبين، ورأسه حُبُك، مثل المرجان ، وهو اللؤلؤ، كأنه الثلج، وقدماه إلى الخضرة فقال: يا لوط ، ( إنَّا رسل ربك لن يصلوا إليك ) ، أمِطْ ، يا لوط ، من الباب ودعني وإياهم . فتنحى لوط عن الباب، فخرج عليهم ، فنشر جناحه، فضرب به وجوههم ضربةً شَدَخ أعينهم ، فصاروا عميًا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم. ثم أمر لوطًا فاحتمل بأهله من ليلته، قال: ( فأسر بأهلك بقطع من الليل ) . حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قال لوط لقومه: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ، والرسل تسمع ما يقول وما يُقال له ، ويرون ما هو فيه من كرْب ذلك. فلما رأوا ما بلغه قالوا : ( يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك ) ، أي : بشيء تكرهه ( فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحدٌ إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ) ، أي إنما ينـزل بهم العذاب من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر. . . . . قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدَّث. أن الرسل عند ذلك سَفَعُوا في وجوه الذين جاؤوا لوطًا من قومه يراودونه عن ضيفه، فرجعوا عميانًا. قال: يقول الله: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ [ سورة القمر: 37 ] . حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( بقطع من الليل ) ، قال: بطائفة من الليل. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( بقطع من الليل ) ، بطائفة من الليل. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس قوله: ( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) ، قال: جوف الليل وقوله: وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ ، يقول: واتبع أدبار أهلك ( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ ) [ سورة الحجر: 65 ] . وكان مجاهد يقول في ذلك ما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( ولا يلتفت منكم أحد ) ، قال: لا ينظر وراءَه أحد ( إلا امرأتك ) . وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ: ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ ) . حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج، عن هارون، قال في حرف ابن مسعود: ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ ) . قال أبو جعفر: وهذا يدل على صحة القراءة بالنصب. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ( 82 ) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ( 83 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولما جاء أمرنا بالعذاب وقضاؤنا فيهم بالهلاك، جَعَلْنَا عَالِيَهَا يعني عالي قريتهم سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا ، يقول: وأرسلنا عليها حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ . واختلف أهل التأويل في معنى سِجِّيلٍ . فقال بعضهم: هو بالفارسية : سنك ، وكل. ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: مِنْ سِجِّيلٍ ، بالفارسية، أوَّلها حَجَر، وآخرها طين. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، قال: فارسية أعربت سنك وكل. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: « السجيل » ، الطين. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: مِنْ سِجِّيلٍ قالا من طين. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، عن وهب قال: سجيل بالفارسية: سنك وكل حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، أما السجيل فقال ابن عباس: هو بالفارسية: سنك وجل « سنك » ، هو الحجر، و « جل » ، هو الطين. يقول: أرسلنا عليهم حجارة من طين. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا مهران، عن سفيان، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، قال: طين في حجارة. وقال ابن زيد في ذلك ما:- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، قال: السماء الدنيا. قال: والسماء الدنيا اسمها سجيل، وهي التي أنـزل الله على قوم لوط. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول: « السجيل » ، هو من الحجارة الصلب الشديد ، ومن الضرب، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر: *ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيلا* وقال: بعضُهُم يُحوِّل اللام نونًا. وقال آخر منهم: هو « فِعّيل » ، من قول القائل: « أسجلته » ، أرسلته فكأنه من ذلك ، أي مرسلةٌ عليهم. وقال آخر منهم: بل هو من « سجلت له سجلا » من العطاء، فكأنه قيل: مُتِحوا ذلك البلاء فأعطوه، وقالوا أسجله: أهمله. وقال بعضهم: هو من « السِّجِلّ » ، لأنه كان فيها عَلَمٌ كالكتاب. وقال آخر منهم: بل هو طين يطبخ كما يطبخ الآجرّ، وينشد بيت الفضل بن عباس: مَــنْ يُسَــاجِلْنِي يُسَــاجِلْ مَـاجِدًا يَمْــلأُ الدَّلْــوَ إلَـى عَقْـدِ الكـرَب فهذا من « سجلت له سَجْلا » ، أعطيته. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله المفسرون، وهو أنها حجارة من طين، وبذلك وصفها الله في كتابه في موضع، وذلك قوله: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [ سورة الذاريات: 33، 34 ] وقد روي عن سعيد بن جبير أنه كان يقول: هي فارسية ونبطية. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: فارسية ونبطية « سج » ، « إيل » . فذهب سعيد بن جبير في ذلك إلى أن اسم الطين بالفارسية « جل » لا « إيل » ، وأن ذلك لو كان بالفارسية لكان « سِجْل » لا « سجيل » ، لأن الحجر بالفارسية يدعى « سج » والطين « جل » ، فلا وجه لكون الياء فيها وهي فارسية. قال أبو جعفر : وقد بينا الصواب من القول عندنا في أوّل الكتاب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد ذكر عن الحسن البصري أنه قال: كان أصل الحجارة طينًا فشُدِّدت. وأما قوله: مَنْضُودٍ ، فإن قتادة وعكرمة يقولان فيه ما:- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: مَنْضُودٍ يقول: مصفوفة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة مَنْضُودٍ يقول: مصفوفة. وقال الربيع بن أنس فيه ما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله مَنْضُودٍ ، قال: نضد بعضه على بعض. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر الهذلي بن عبد الله: أما قوله: مَنْضُودٍ ، فإنها في السماء منضودة: معدَّة، وهي من عُدَّة الله التي أعَدَّ للظلمة. وقال بعضهم: مَنْضُودٍ ، يتبع بعضه بعضًا عليهم. قال: فذلك نَضَدُه. قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس، وذلك أن قوله: مَنْضُودٍ من نعت سِجِّيلٍ ، لا من نعت « الحجارة » ، وإنما أمطر القوم حجارة من طين، صفة ذلك الطين أنه نُضِد بعضه إلى بعض، فصُيِّر حجارة، ولم يُمْطَرُوا الطين ، فيكونَ موصوفًا بأنه تتابع على القوم بمجيئه. قال أبو جعفر: وإنما كان جائزًا أن يكون على ما تأوّله هذا المتأوّل لو كان التنـزيل بالنصب « منضودةً » ، فيكون من نعت « الحجارة » حينئذ. وأما قوله: ( مسوَّمة عند ربك ) ، فإنه يقول: معلمة عند الله، أعلمها الله، و « المسوّمة » من نعت « الحجارة » ، ولذلك نصبت على النعت. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( مسوّمة ) ، قال: معلمة. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله قال ابن جريج: ( مسوّمة ) ، لا تشاكل حجارة الأرض. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: ( مسومة ) قالا مطوَّقة بها نَضْحٌ من حمرة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( مسومة ) عليها سيما معلومة . حدّث بعضُ من رآها ، أنها حجارة مطوَّقة عليها أو بها نضحٌ من حمرة ، ليست كحجارتكم. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: ( مسوّمة ) ، قال: عليها سيما خطوط. حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: ( مسومة ) قال: « المسومة » ، المختَّمة. وأما قوله: ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، فإنه يقول تعالى ذكره متهددًا مشركي قريش: وما هذه الحجارة التي أمطرتها على قوم لوط ، من مشركي قومك ، يا محمد ، ببعيد أن يمطروها ، إن لم يتوبوا من شركهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا أبو عتاب الدلال سهل بن حماد قال ، حدثنا شعبة قال ، حدثنا أبان بن تغلب، عن مجاهد، في قوله: ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، قال: أن يصيبهم ما أصاب القوم. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، قال: يُرْهِب بها من يشاء. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، يقول: ما أجار الله منها ظالمًا بعد قوم لوط. حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، يقول: لم يترك منها ظالمًا بعدهم. حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب ، عن قتادة في قوله: ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، قال: يعني ظالمي هذه الأمة . قال: والله ما أجارَ منها ظالمًا بعدُ! حدثنا موسى بن هارون قال ، حدثنا حماد قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، يقول: من ظَلَمة العرب ، إن لم يتوبوا فيعذّبوا بها. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر الهذلي بن عبد الله قال : يقول: ( وما هي من الظالمين ببعيد ) ، من ظلمة أمتك ببعيد، فلا يأمنها منهم ظالم . وكان قلب الملائكة عَالي أرض سدوم سافلها، كما:- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جابر بن نوح قال ، حدثنا الأعمش، عن مجاهد قال: أخذ جبريل عليه السلام قوم لوط من سَرْحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم. حدثنا به أبو كريب مرة أخرى عن مجاهد قال: أدخل جبريل جناحه تحت الأرض السفلى من قوم لوط، ثم أخذهم بالجناح الأيمن، فأخذهم من سرحهم ومواشيهم ، ثم رفعها حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقول: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ، قال: لما أصبحوا غدا جبريل على قريتهم، ففتقها من أركانها، ثم أدخل جناحه، ثم حملها على خَوافي جناحه. . . . . قال، حدثنا شبل قال ، فحدثني هذا ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر قال: ولم يسمعه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال، فحملها على خوافي جناحه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، ثم قلبها. فكان أوّل ما سقط منها شِرَافها. فذلك قول الله: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، قال مجاهد: فلم يصب قومًا ما أصابهم ، إن الله طمس على أعينهم، ثم قلب قريتهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال، بلغنا أن جبريل عليه السلام أخذَ بعُرْوة القرية الوُسْطى، ثم ألوَى بها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء ضَواغِي كلابهم، ثم دمَّر بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها ، ثم أتبعهم الحجارة قال قتادة: وبلغنا أنهم كانوا أربعة آلاف ألف. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن جبريل عليه السلام أخذ بعروتها الوسطى، ثم ألوى بها إلى جَوّ السماء حتى سمعت الملائكة ضَواغي كلابهم، ثم دمر بعضها على بعض ثم اتبع شُذَّان القوم صخرًا . قال: وهي ثلاث قرًى يقال لها « سدوم » ، وهي بين المدينة والشأم. قال: وذكر لنا أنه كان فيها أربعة آلاف ألف. وذكر لنا أن إبراهيم عليه السلام كان يشرف [ ثم ] يقول سدوم ، يومٌ مَا لكِ! حدثني موسى قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال، لما أصبحوا يعني قوم لوط نـزل جبريل، فاقتلع الأرض من سبع أرضين، فحملها حتى بلغ السماء الدنيا ، [ حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، وأصوات ديوكهم، ثم قلبها فقتلهم ] ، فذلك حين يقول: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [ سورة النجم: 53 ] ، المنقلبة حين أهوى بها جبريل الأرض فاقتلعها بجناحه، فمن لم يمت حين أسقط الأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذًّا في الأرض . وهو قول الله: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، ثم تتبعهم في القرى، فكان الرجل [ يتحدث ] ، فيأتيه الحجر فيقتله، وذلك قول الله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر وأبو سفيان، عن معمر ، عن قتادة قال، بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشرَ جناحه، فانتسف به أرضهم بما فيها من قُصورها ودوابها وحجارتها وشجرها ، وجميع ما فيها، فضمها في جناحه، فحواها وطواها في جوف جناحه، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا، حتى سمع سُكان السماء أصواتَ الناس والكلاب، وكانوا أربعة آلاف ألف، ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسةً، دمْدَمَ بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: « بعث الله جبريل عليه السلام إلى المؤتفكة قرية لوط عليه السلام التي كان لوط فيهم، فاحتملها بجناحه، ثم صعد بها حتى إن أهل السماء الدنيا ليسمعون نُباح كلابها وأصوات دجاجها، ثم كفأها على وجهها، ثم أتبعها الله بالحجارة، يقول الله: جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ، فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات، وكنّ خمس قريات، » صنعة « و » صعوة « » وعثرة « ، و » دوما « و » سدوم « وسدوم هي القرية العظمى ونجى الله لوطًا ومن معه من أهله، إلا امرأته كانت فيمن هلك. » القول في تأويل قوله تعالى : وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ( 84 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى وَلَد مدين أخاهم شعيبًا، فلما أتاهم قال : ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) ، يقول: أطيعوه، وتذللوا له بالطاعة لما أمركم به ونهاكم عنه ( ما لكم من إله غيره ) ، يقول: ما لكم من معبود سواه يستحقّ عليكم العبادة غيره ( ولا تنقصوا المكيال والميزان ) ، يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم ( إني أراكم بخير ) . واختلف أهل التأويل في « الخير » الذي أخبر الله عن شعيب أنه قال لمدين إنه يراهم به. فقال بعضهم: كان ذلك رُخْص السعر وَحذرهم غلاءه. ذكر من قال ذلك : حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا عبد الله بن داود الواسطي قال ، حدثنا محمد بن موسى، عن الذيال بن عمرو، عن ابن عباس: ( إني أراكم بخير ) ، قال: رُخْص السعر ( وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ) ، قال: غلاء سعر. حدثني أحمد بن عمرو البَصري قال، حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثنا صالح بن رستم، عن الحسن، وذكر قوم شعيب قال: ( إني أراكم بخير ) ، قال: رُخْص السعر. حدثني محمد بن عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبي عامر الخراز، عن الحسن في قوله: ( إني أراكم بخير ) قال: الغنى ورُخْص السعر. وقال آخرون: عنى بذلك: إنّي أرى لكم مالا وزينة من زين الدنيا. ذكر من قال ذلك:- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( إني أراكم بخير ) ، قال: يعني خير الدنيا وزينتها . حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : ( إني أراكم بخير ) ، أبصر عليهم قِشْرًا من قشر الدنيا وزينتها. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إني أراكم بخير ) ، قال: في دنياكم، كما قال الله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ، سماه « خيرًا » لأن الناس يسمون المال « خيرًا » . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما أخبر الله عن شعيب أنه قال لقومه، وذلك قوله: ( إني أراكم بخير ) ، يعني بخير الدنيا. وقد يدخل في خير الدنيا ، المال وزينة الحياة الدنيا ، ورخص السعر ولا دلالة على أنه عنى بقيله ذلك بعض خيرات الدنيا دون بعض، فذلك على كل معاني خيرات الدنيا التي ذكر أهل العلم أنهم كانوا أوتوها. وإنما قال ذلك شعيب، لأن قومه كانوا في سعة من عيشهم ورخص من أسعارهم ، كثيرة أموالهم، فقال لهم: لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكاييلكم وموازينكم، فقد وَسَّع الله عليكم رزقكم، ( وإني أخاف عليكم ) ، بمخالفتكم أمر الله ، وبَخْسكم الناس أموالهم في مكاييلكم وموازينكم ( عذاب يوم محيط ) ، يقول: أن ينـزل بكم عذاب يوم محيط بكم عذابه. فجعل « المحيط » نعتًا لليوم، وهو من نعت « العذاب » ، إذ كان مفهومًا معناه، وكان العذاب في اليوم، فصار كقولهم : « بعْض جُبَّتك محترقة » . القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 85 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: أوفوا الناس الكيل والميزان « بالقسط » ، يقول: بالعدل، وذلك بأن توفوا أهل الحقوق التي هي مما يكال أو يوزن حقوقهم ، على ما وجب لهم من التمام ، بغير بَخس ولا نقص. وقوله: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) ، يقول : ولا تنقصوا الناس حقوقهم التي يجب عليكم أن توفوهم كيلا أو وزنًا أو غير ذلك، كما:- حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا علي بن صالح بن حي قال: بلغني في قوله: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) قال، : لا تنقصوهم. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) ، يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم. وقوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: ولا تسيروا في الأرض تعملون فيها بمعاصي الله، كما:- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، قال: لا تسيروا في الأرض. وحدثت عن المسيب، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله : ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ، يقول: لا تسعوا في الأرض مفسدين يعني: نقصان الكيل والميزان. القول في تأويل قوله تعالى : بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( 86 ) قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله: ( بقية الله خير لكم ) ، ما أبقاه الله لكم ، بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان بالقسط، فأحلّه لكم، خير لكم من الذي يبقى لكم ببخسكم الناس من حقوقهم بالمكيال والميزان ( إن كنتم مؤمنين ) ، يقول: إن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده ، وحلاله وحرامه. وهذا قولٌ روي عن ابن عباس بإسنادٍ غير مرتضى عند أهل النقل. وقد اختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم معناه : طاعة الله خيرٌ لكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: ( بقية الله خير لكم ) ، قال: طاعة الله خير لكم. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ( بقية الله ) قال: طاعة الله ( خير لكم ) . حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بقية الله ) ، قال: طاعة الله. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد: ( بقية الله خير لكم ) ، قال: طاعة الله خير لكم. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بقية الله خير لكم ) ، قال: طاعة الله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. وقال آخرون: معنى ذلك: حظكم من ربكم خير لكم. ذكر من قال ذلك :- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ) ، حظكم من ربكم خير لكم. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( بقية الله خير لكم ) ، قال: حظكم من الله خير لكم . وقال آخرون: معناه: رزق الله خير لكم. ذكر من قال ذلك : حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عمن ذكره، عن ابن عباس: ( بقية الله ) قال رزق الله. وقال ابن زيد في قوله ما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ) ، قال: « الهلاك » ، في العذاب، و « البقية » في الرحمة. قال أبو جعفر: وإنما اخترت في تأويل ذلك القولَ الذي اخترته، لأن الله تعالى ذكره إنما تقدم إليهم بالنهي عن بَخس الناس أشياءهم في المكيال والميزان، وإلى ترك التطفيف في الكيل والبخس في الميزان دعاهم شعيب، فتعقيب ذلك بالخبر عما لهم من الحظّ في الوفاء في الدنيا والآخرة ، أولى مع أن قوله: ( بقية ) ، إنما هي مصدر من قول القائل « بقيت بقية من كذا » ، فلا وجه لتوجيه معنى ذلك إلا إلى: بقية الله التي أبقاها لكم مما لكم بعد وفائكم الناس حقوقهم خير لكم من بقيتكم من الحرام الذي يبقى لكم من ظلمكم الناس ببخسهم إياهم في الكيل والوزن. وقوله: ( وما أنا عليكم بحفيظ ) ، يقول: وما أنا عليكم ، أيها الناس ، برقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم ، هل توفون الناس حقوقهم أم تظلمونهم؟ وإنما عليّ أن أبلغكم رسالة ربّي، فقد أبلغتكموها. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ( 87 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب: يا شعيب ، أصَلواتك تأمرك أن نترك عبادة ما يعبد آباؤنا من الأوثان والأصنام ( أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، من كسر الدراهم وقطعها ، وبخس الناس في الكيل والوزن ( إنك لأنت الحليم ) ، وهو الذي لا يحمله الغضب أن يفعل ما لم يكن ليفعله في حال الرّضى، ( الرشيد ) ، يعني: رشيد الأمر في أمره إياهم أن يتركوا عبادة الأوثان، كما:- حدثنا محمود بن خداش قال ، حدثنا حماد بن خالد الخياط قال ، حدثنا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قول الله: ( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد ) قال: كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم أو قال: قطع الدراهم، الشك من حمّاد. حدثنا سهل بن موسى الرازي قال ، حدثنا ابن أبي فديك، عن أبي مودود قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني أن قوم شعيب عُذِّبوا في قطع الدراهم، وجدت ذلك في القرآن: ( أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: عُذّب قوم شعيب في قطعهم الدراهم فقالوا: ( يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) . . . . . قال، حدثنا حماد بن خالد الخياط، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قوله: ( أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، قال: كان مما نهاهم عنه حَذْفُ الدراهم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، قال: نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم فقالوا: إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء، إن شئنا قطعناها، وإن شئنا صرفناها، وإن شئنا طرَحناها! . . . . قال وأخبرنا ابن وهب قال، وأخبرني داود بن قيس المرّي : أنه سمع زيد بن أسلم يقول في قول الله: ( قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، قال زيدٌ: كان من ذلك قطع الدراهم. وقوله: ( أصلواتك ) ، كان الأعمش يقول في تأويلها ما:- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري عن الأعمش في قوله: ( أصلواتك ) قال: قراءتك . فإن قال قائل: وكيف قيل: ( أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء ) ، وإنما كان شعيب نهاهم أن يفعلوا في أموالهم ما قد ذكرتَ أنه نهاهم عنه فيها؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهَّمت. وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك. فقال بعض البصريين: معنى ذلك: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء وليس معناه: تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، لأنه ليس بذا أمرهم. وقال بعض الكوفيين نحو هذا القول قال. وفيها وجه آخر يجعل الأمر كالنهي، كأنه قال: أصلواتك تأمرك بذا ، وتنهانا عن ذا؟ فهي حينئذ مردودة على أن الأولى منصوبة بقوله « تأمرك » ، وأن الثانية منصوبة عطفًا بها على « ما » التي في قوله: ( ما يعبد ) . وإذا كان ذلك كذلك، كان معنى الكلام: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء. وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأه ( مَا تَشَاء ) . قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك كذلك ، فلا مئونة فيه، وكانت « أن » الثانية حينئذ معطوفة على « أن » الأولى. وأما قوله لشعيب: ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) فإنهم أعداء الله ، قالوا ذلك له استهزاءً به ، وإنما سفَّهوه وجهَّلوه بهذا الكلام. وبما قلنا من ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) ، قال: يستهزئون. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) ، المستهزئون ، يستهزئون : بأنك لأنت الحليم الرشيد ! القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( 88 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه: يا قوم أرأيتم إن كنت على بيان وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، والبراءة من عبادة الأوثان والأصنام، وفيما أنهاكم عنه من إفساد المال ( ورزقني منه رزقًا حسنًا ) ، يعني حلالا طيّبًا. ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) ، يقول: وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعلُ خلافه، بل لا أفعل إلا ما آمركم به، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه. كما:- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ) ، يقول: لم أكن لأنهاكم عن أمر أركبه أو آتيه. ( إن أريد إلا الإصلاح ) ، يقول: ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه، إلا إصلاحكم وإصلاح أمركم ( ما استطعت ) ، يقول: ما قدرت على إصلاحه ، لئلا ينالكم من الله عقوبة منكِّلة، بخلافكم أمره ، ومعصيتكم رسوله ( وما توفيقي إلا بالله ) يقول: وما إصابتي الحق في محاولتي إصلاحكم وإصلاح أمركم إلا بالله، فإنه هو المعين على ذلك، إلا يعنّي عليه لم أصب الحق فيه. وقوله: ( عليه توكلت ) ، يقول: إلى الله أفوض أمري، فإنه ثقتي ، وعليه اعتمادي في أموري. وقوله: ( وإليه أنيب ) ، وإليه أقبل بالطاعة ،وأرجع بالتوبة، كما:- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وإليه أنيب ) ، قال: أرجع. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، قال . . . . وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ( وإليه أنيب ) ، قال: أرجع. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( وإليه أنيب ) ، قال: أرجع. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: ( ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي ) ، يقول: لا يحملنكم عداوتي وبغضي ، وفراق الدين الذي أنا عليه، على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله ، وعبادة الأوثان ، وبخس الناس في المكيال والميزان ، وترك الإنابة والتوبة، فيصيبكم ( مثلُ ما أصاب قوم نوح ) ، من الغرق ( أو قوم هود ) ، من العذاب ( أو قوم صالح ) ، من الرّجفة ( وما قوم لوط ) الذين ائتفكت بهم الأرض ( منكم ببعيد ) ، هلاكهم، أفلا تتعظون به ، وتعتبرون؟ يقول: فاعتبروا بهؤلاء، واحذروا أن يصيبكم بشقاقي مثلُ الذي أصابهم. كما:- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( لا يجرمنكم شقاقي ) ، يقول: لا يحملنكم فراقي ، ( أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح ) ، الآية. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( لا يجرمنكم شقاقي ) ، يقول: لا يحملنكم شقاقي. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( لا يجرمنكم شقاقي ) ، قال : عداوتي وبغضائي وفراقي. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( وما قوم لوط منكم ببعيد ) ، قال: إنما كانوا حديثًا منهم قريبًا يعني قوم نوح وعاد وثمود وصالح. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( وما قوم لوط منكم ببعيد ) ، قال: إنما كانوا حديثي عهد قريب ، بعد نوح وثمود. قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يقال: معناه: وما دارُ قوم لوط منكم ببعيد. القول في تأويل قوله تعالى : وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ( 90 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: ( استغفروا ربكم ) ، أيها القوم من ذنوبكم بينكم وبين ربكم التي أنتم عليها مقيمون ، من عبادة الآلهة والأصنام ، وبَخْس الناس حقوقهم في المكاييل والموازين ( ثم توبوا إليه ) ، يقول: ثم ارجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه ( إن ربي رحيم ) ، يقول: هو رحيم بمن تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة. ( ودود ) ، يقول: ذو محبة لمن أناب وتاب إليه ، يودُّه ويحبُّه. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ( 91 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب لشعيب: ( يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول ) ، أي : ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به ( وإنا لنراك فينا ضعيفًا ) . ذُكِر أنه كان ضريرًا، فلذلك قالوا له: ( إنا لنراك فينا ضعيفًا ) . ذكر من قال ذلك : حدثني عبد الأعلى بن واصل قال ، حدثنا أسد بن زيد الجصاص قال، أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله: ( وإنا لنراك فينا ضعيفًا ) ، قال: كان أعمى. حدثنا عباس بن أبي طالب قال، حدثني إبراهيم بن مهدي المصيصي قال ، حدثنا خلف بن خليفة، عن سفيان، عن سعيد، مثله. حدثنا أحمد بن الوليد الرملي قال ، حدثنا إبراهيم بن زياد وإسحاق بن المنذر، وعبد الملك بن زيد قالوا، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، مثله. . . . . قال، حدثنا عمرو بن عون ومحمد بن الصباح قالا سمعنا شريكًا يقول في قوله: ( وإنا لنراك فينا ضعيفًا ) ، قال: أعمى. حدثنا سعدويه قال ، حدثنا عباد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان قوله: ( وإنا لنراك فينا ضعيفًا ) ، قال: كان ضعيف البصر قال سفيان: وكان يقال له : « خطيب الأنبياء » . . . . قال، حدثنا الحماني قال ، حدثنا عباد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: ( وإنا لنراك فينا ضعيفًا ) ، قال: كان ضرير البصر. وقوله: ( ولولا رهطك لرجمناك ) ، يقول: يقولون: ولولا أنك في عشيرتك وقومك ( لرجمناك ) ، يعنون: لسببناك. وقال بعضهم: معناه لقتلناك. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولولا رهطك لرجمناك ) ، قال: قالوا: لولا أن نتقي قومك ورهطك لرجمناك. وقوله : ( وما أنت علينا بعزيز ) ، يعنون: ما أنت ممن يكرَّم علينا، فيعظمُ علينا إذلاله وهوانه، بل ذلك علينا هيّن. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( 92 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه: يا قوم ، أعزّزتم قومكم، فكانوا أعزّ عليكم من الله، واستخففتم بربكم، فجعلتموه خلف ظهوركم، لا تأتمرون لأمره ولا تخافون عقابه، ولا تعظِّمونه حق عظَمته؟ يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: « نَبَذ حاجته وراء ظهره » ، أي : تركها لا يلتفت إليها. و إذا قضاها قيل: « جعلها أمامه ، ونُصْب عينيه » ، ويقال: « ظَهَرتَ بحاجتي » و « جعلتها ظِهْرِيَّة » ، أي : خلف ظهرك، كما قال الشاعر: *وَجَدْنَا بَنِي البَرْصَاءِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ* بمعنى: أنهم يَظْهَرون بحوائجِ النّاس فلا يلتفتون إليها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، وذلك أن قوم شعيب ورهطه كانوا أعز عليهم من الله، وصَغُر شأن الله عندهم ، عزَّ ربُّنا وجلَّ. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، قال: قَفًا. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، يقول: عززتم قومكم، وأظهرْتم بربكم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( واتخذتموه وراءكم ظهريا ) ، قال: لم تراقبوه في شيء إنما تراقبون قومي ( واتخذتموه وراءكم ظهريا ) ، يقول: عززتم قومكم وأظهرتم بربكم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، قال: لم تراقبوه في شيء، إنما تراقبون قومي ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، لا تخافونه حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( أرهطي أعز عليكم من الله ) ، قال: أعززتم قومكم ، واغتررتم بربكم، سمعت إسحاق بن أبي إسرائيل قال: قال سفيان: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، كما يقول الرجل للرجل: « خلَّفتَ حاجتي خلفَ ظهرك » ، ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، استخففتم بأمره. فإذا أراد الرجل قضاء حاجةِ صاحبه جعلها أمامه بين يديه، ولم يستخفَّ بها. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، قال: « الظهْريّ » ، الفَضْل، مثل الجمّال يخرج معه بإبل ظَهَارَّية ، فضل ، لا يحمل عليها شيئًا ، إلا أن يحتاج إليها. قال: فيقول: إنما ربكم عندكم مثل هذا ، إن احتجتم إليه. وإن لم تحتاجوا إليه فليس بشيء. وقال آخرون: معنى ذلك: واتخذتم ما جاء به شعيبٌ وراءكم ظهريًّا فالهاء في قوله: ( واتخذتموه ) ، على هذا من ذكر ما جاء به شعيب. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، قال: تركتم ما جاء به شعيب . . . . قال، حدثنا جعفر بن عون، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد قال: نبذوا أمره. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: ( واتخذتموه وراءكم ظهريا ) ، قال: نبذتم أمره. حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، قال: همَّ رهط شعيب بتركهم ما جاء به وراء ظهورهم ظهريًّا. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال . . . . وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، قال: استثناؤهم رهط شعيب، وتركهم ما جاءَ به شعيب وراء ظهورهم ظهريًّا. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك ، لقرب قوله: ( واتخذتموه وراءكم ظهريًّا ) ، من قوله: ( أرهطي أعز عليكم من الله ) فكانت الهاء في قوله : ( واتخذتموه ) ، بأن تكون من ذكر الله ، لقرب جوارها منه ، أشبهَ وأولى. وقوله: ( إن ربي بما تعملون محيط ) ، يقول: إن ربي محيط علمه بعملكم، فلا يخفى عليه منه شيء، وهو مجازيكم على جميعه عاجلا وآجلا. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: ( ويا قوم اعملوا على مكانتكم ) ، يقول: على تمكنكم. يقال منه: « الرجل يعمل على مَكينته ، ومَكِنته » ، أي : على اتئاده، « ومَكُن الرجل يمكُنُ مَكْنًا ومَكانةً ومَكانًا » . وكان بعض أهل التأويل يقول في معنى قوله: ( على مكانتكم ) ، على منازلكم. قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: ويا قوم اعملوا على تمكنكم من العمل الذي تعملونه، إنّي عامل على تؤدةٍ من العمل الذي أعمله ( سوف تعلمون ) ، أينا الجاني على نفسه ، والمخطئ عليها ، والمصيب في فعله المحسنُ إلى نفسه. القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ( 93 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل نبيّه شعيب لقومه: الذي يأتيه منّا ومنكم ، أيها القوم ( عذاب يخزيه ) ، يقول: يذله ويهينه ( ومن هو كاذب ) ، يقول: ويُخزي أيضًا الذي هو كاذب في قيله وخبره منا ومنكم ( وارتقبوا ) ، أي : انتظروا وتفقدوا من الرقبة. يقال منه: « رقبت فلانًا أرْقُبه رِقْبَةً » . وقوله: ( إني معكم رقيب ) ، يقول: إني أيضًا ذو رقبة لذلك العذاب معكم، وناظر إليه بمن هو نازل منا ومنكم؟ القول في تأويل قوله تعالى : وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ( 94 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء قضاؤنا في قوم شعيب ، بعذابنا « نجينا شعيبًا » رسولنا، والذين آمنوا به فصدقوه على ما جاءهم به من عند ربهم مع شعيب، من عذابنا الذي بعثنا على قومه ( برحمة منا ) ، له ولمن آمن به واتبعه على ما جاءهم به من عند ربهم وأخذت الذين ظلموا صيحة من السماء أخمدتهم ، فأهلكتهم بكفرهم بربهم. وقيل: إن جبريل عليه السلام، صاح بهم صَيحةً أخرجت أرواحهم من أجسامهم ( فأصبحوا في ديارهم جاثمين ) ، على ركبهم ، وصرعى بأفنيتهم. القول في تأويل قوله تعالى : كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ( 95 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: كأن لم يعش قوم شعيب الذين أهلكهم الله بعذابه ، حين أصبحوا جاثمين في ديارهم قبل ذلك. ولم يغنوا. من قولهم: « غنيت بمكان كذا » ، إذا أقمت به، ومنه قول النابغة: غَنِيَــتْ بِـذَلِكَ إِذْ هُـمُ لِـي جِـيرَةٌ مِنْهَــا بِعَطْــفِ رِسَــالِةٍ وتَـوَدُّدِ وكما :- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( كأن لم يغنوا فيها ) ، قال يقول: كأن لم يعيشوا فيها. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة مثله. وقوله: ( ألا بعدًا لمدين كما بعدت ثمود ) ، يقول تعالى ذكره: ألا أبعد الله مدين من رحمته، بإحلال نقمته بهم « كما بعدت ثمود » ، يقول: « كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته ، بإنـزال سخطه بهم. » القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ( 96 ) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ( 97 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا على توحيدنا، وحجةً تُبين لمن عاينها وتأملها بقلب صحيحٍ. أنها تدل على توحيد الله ، وكذب كل من ادّعى الربوبية دونه، وبُطُول قول من أشرك معه في الألوهية غيره ( إلى فرعون وملئه ) ، يعني إلى أشراف جنده وتُبَّاعه ( فاتبعوا أمر فرعون ) ، يقول: فكذب فرعون وملأه موسى، وجحدوا وحدانية الله، وأبوا قبول ما أتاهم به موسى من عند الله، واتبع ملأ فرعون أمرَ فرعون دون أمر الله، وأطاعوه في تكذيب موسى ، وردّ ما جاءهم به من عند الله عليه يقول تعالى ذكره: ( وما أمر فرعون برشيد ) يعني: أنه لا يُرشد أمر فرعون من قَبِله منه، في تكذيب موسى، إلى خير، ولا يهديه إلى صلاح، بل يورده نار جهنم. القول في تأويل قوله تعالى : يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ( 98 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( يقدم ) ، فرعون ( قومه يوم القيامة ) ، يقودهم، فيمضي بهم إلى النار ، حتى يوردهموها ، ويصليهم سعيرها، ( وبئس الورد ) ، يقول: وبئس الورد الذي يردونه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( يقدم قومه يوم القيامة ) ، قال: فرعون يقدم قومه يوم القيامة ، يمضى بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( يقدم قومه يوم القيامة ) يقول: يقود قومه « فأوردهم النار » . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: ( يقدم قومه يوم القيامة ) ، يقول: أضلهم فأوردهم النار. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله: ( فأوردهم النار ) ، قال: « الورد » ، الدُّخول. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فأوردهم النار ) ، كان ابن عباس يقول: « الورد » في القرآن أربعةُ أوراد: في هود قوله: ( وبئس الورد المورود ) وفي مريم: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا [ سورة مريم: 71 ] ، وورد في « الأنبياء » : حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ، [ سورة الأنبياء: 98 ] ، وورد في « مريم » أيضًا: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [ سورة مريم: 86 ] كان ابن عباس يقول: كل هذا الدخول، والله ليردن جهنم كل برٍّ وفاجر: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ، [ سورة مريم: 72 ] . القول في تأويل قوله تعالى : وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ( 99 ) قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وأتبعهم الله في هذه يعني في هذه الدنيا مع العذاب الذي عجله لهم فيها من الغرق في البحر، لعنتَه ( ويوم القيامة ) ، يقول: وفي يوم القيامة أيضًا يلعنون لعنةً أخرى، كما:- حدثنا بن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسه عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة ) ، قال: لعنةً أخرى. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة ) ، قال : زِيدوا بلعنته لعنةً أخرى، فتلك لعنتان. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) ، اللعنةُ في إثر اللعنة. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة ) ، قال: زيدوا لعنة أخرى، فتلك لعنتان. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( في هذه ) ، قال: في الدنيا ( ويوم القيامة ) ، أردفوا بلعنة أخرى ، زيدوها، فتلك لعنتان. وقوله: ( بئس الرفد المرفود ) ، يقول: بئس العَوْن المُعان، اللعنةُ المزيدة فيها أخرى مثلها. وأصل « الرفد » ، العون، يقال منه: « رفَد فلانٌ فلانًا عند الأمير يَرفِده رِفْدًا » بكسر الراء وإذا فتحت، فهو السَّقي في القدح العظيم، و « الرَّفد » : القدحُ الضخم، ومنه قول الأعشى: رُبَّ رَفْــدٍ هَرَقْتَــهُ ذَلِــكَ الْيَـوْ مَ وَأسْــرَى مِــنْ مَعْشَــرٍ أَقْتَـالِ ويقال: « رَفد فلان حائطه » ، وذلك إذا أسنده بخشبة ، لئلا يسقط. و « الرَّفد » ، بفتح الراء المصدر. يقال منه: « رَفَده يَرفِده رَفْدًا » ، و « الرِّفْد » ، اسم الشيء الذي يعطاه الإنسان ، وهو « المَرْفَد » . وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( بئس الرفد المرفود ) ، قال: لعنة الدنيا والآخرة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( بئس الرفد المرفود ) ، قال: لعنهم الله في الدنيا، وزيد لهم فيها اللعنة في الآخرة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) ، قال: لعنة في الدنيا، وزيدوا فيها لعنةً في الآخرة . حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) ، يقول: ترادفت عليهم اللعنتان من الله ، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أصابتهم لعنتان في الدنيا، رفدت إحداهما الأخرى، وهو قوله: ( ويوم القيامة بئس الرفد المرفود ) . القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ( 100 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هذا القصص الذي ذكرناه لكَ في هذه السورة، ، والنبأ الذي أنبأناكه فيها ، من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم بالله، وتكذيبهم رسله ( نقصه عليك ) فنخبرك به ( منها قائم ) ، يقول: منها قائم بنيانه ، بائدٌ أهله هالك ، ومنها قائم بنيانه عامر، ومنها حصيدٌ بنيانه ، خرابٌ متداعٍ، قد تعفى أثرُه دارسٌ. من قولهم: « زرع حصيد » ، إذا كان قد استؤصل قطعه، وإنما هو محصود، ولكنه صرف إلى « فعيل » ، كما قد بينا في نظائره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ) ، يعني ب « القائم » قُرًى عامرة. و « الحصيد » قرى خامدة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( قائم وحصيد ) ، قال: « قائم » على عروشها و « حصيد » مستأصَلة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( منها قائم ) ، يرى مكانه، ( وحصيد ) لا يرى له أثر. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( منها قائم ) ، قال: خاوٍ على عروشه ( وحصيد ) ، ملزقٌ بالأرض. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن الأعمش: ( منها قائم وحصيد ) ، قال: خرَّ بنيانه. حدثنا الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش: ( منها قائم وحصيد ) ، قال: « الحصيد » ، ما قد خرَّ بنيانه. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( منها قائم وحصيد ) ، منها قائم يرى أثره، وحصيدٌ بَادَ لا يرى أثره. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ( 101 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما عاقبنا أهل هذه القرى التي اقتصَصنا نبأها عليك ، يا محمد ، بغير استحقاق منهم عقوبتنا، فنكون بذلك قد وضعنا عقوبتنا إياهُمْ في غير موضعها ( ولكن ظلموا أنفسهم ) ، يقول: ولكنهم أوجبوا لأنفسهم بمعصيتهم الله وكفرهم به، عقوبتَه وعذابه، فأحلوا بها ما لم يكن لهم أن يحلوه بها، وأوجبوا لها ما لم يكن لهم أن يوجبوه لها ( فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء ) ، يقول: فما دفعت عنهم آلهتهم التي يدعونها من دون الله ، ويدعونها أربابًا من عقاب الله وعذابه إذا أحله بهم ربُّهم من شيء ، ولا ردَّت عنهم شيئًا منه ( لما جاء أمر ربك ) ، يا محمد، يقول: لما جاء قضاء ربك بعذابهم، فحقّ عليهم عقابه ، ونـزل بهم سَخَطه ( وما زادوهم غير تتبيب ) ، يقول: وما زادتهم آلهتهم عند مجيء أمر ربك هؤلاء المشركين بعقاب الله غير تخسيرٍ وتدميرٍ وإهلاك. يقال منه: « تبَّبْتُه أتبِّبُه تَتْبيبًا » ، ومنه قولهم للرجل: « تبًّا لك » ، قال جرير: عَــرَادَةُ مِــنْ بَقِيَّــةِ قَـوْمِ لُـوطٍ أَلا تَبًّـــا لِمَـــا فَعَلُــوا تَبَابًــا وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني المثني قال ، حدثنا سعيد بن سلام أبو الحسن البصري قال ، حدثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق، عن ابن عمر في قوله: ( وما زادوهم غير تتبيب ) ، قال: غير تخسير. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( غير تتبيب ) ، قال: تخسير. حدثنا المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة: ( غير تتبيب ) ، يقول: غير تخسير. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( غير تتبيب ) ، قال: غير تخسير. قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله تعالى ذكره، وإن كان خبرًا عمَّن مَضَى من الأمم قبلنا، فإنه وعيدٌ من الله جلّ ثناؤه لنا أيتها الأمة ، أنا إن سلكنا سبيلَ الأمم قبلَنا في الخلاف عليه وعلى رسوله، سلك بنا سبيلهم في العُقوبة وإعلام منه لما أنه لا يظلم أحدًا من خلقه، وأن العباد هم الذين يظلمون أنفسهم، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قال، اعتذر يعني ربنا جل ثناؤه إلى خلقه فقال: ( وما ظلمناهم ) ، مما ذكرنا لك من عذاب من عذبنا من الأمم ، ( ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم ) ، حتى بلغ: ( وما زادوهم غير تتبيب ) ، قال: ما زادهم الذين كانوا يعبدونهم غير تتبيب. القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( 102 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما أخذت، أيها الناس ، أهلَ هذه القرى التي اقتصصت عليك نبأ أهلها بما أخذتُهم به من العذاب، على خلافهم أمري ، وتكذيبهم رسلي ، وجحودهم آياتي، فكذلك أخذي القرَى وأهلها إذا أخذتهم بعقابي ، وهم ظلمة لأنفسهم بكفرهم بالله ، وإشراكهم به غيره ، وتكذيبهم رسله ( إنَّ أخذه أليم ) ، يقول: إن أخذ ربكم بالعقاب من أخذه ( أليم ) ، يقول: موجع ( شديد ) الإيجاع. وهذا من الله تحذيرٌ لهذه الأمة ، أن يسلكوا في معصيته طريق من قبلهم من الأمم الفاجرة، فيحل بهم ما حلَّ بهم من المثُلات، كما:- حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو معاوية، عن بريد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يُمْلي ورُبَّما ، قال: يمهل الظالمَ، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتُه. ثم قرأ: ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ) . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن الله حذّر هذه الأمة سطوتَه بقوله: ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) . وكان عاصم الجحدريّ يقرأ ذلك: ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) ، وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها مصاحف المسلمين ، وما عليه قراء الأمصار. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ( 103 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن في أخذنا من أخذنا من أهل القرى التي اقتصصنا خبرَها عليكم أيها الناس لآية، يقول: لعبرة وعظة لمن خاف عقاب الله وعذابه في الآخرة من عباده، وحجةً عليه لربه، وزاجرًا يزجره عن أن يعصي الله ويخالفه فيما أمره ونهاه. وقيل: بل معنى ذلك: إن فيه عبرة لمن خاف عذاب الآخرة ، بأن الله سيفي له بوَعْده. ذكر من قال ذلك : حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ) ، إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة ، كما وفينا للأنبياء : أنا ننصرهم. وقوله: ( ذلك يوم مجموع له الناس ) ، يقول تعالى ذكره: هذا اليوم يعني يوم القيامة ( يوم مجموع له الناس ) ، يقول: يحشر الله له الناس من قبورهم، فيجمعهم فيه للجزاء والثواب والعقاب ( وذلك يوم مشهود ) ، يقول: وهو يوم تَشهده الخلائق ، لا يتخلَّف منهم أحدٌ، فينتقم حينئذ ممن عصى الله وخالف أمره وكذَّب رُسُلَه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد في قوله: ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) ، قال: يوم القيامة. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عكرمة، مثله. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف المكي، عن ابن عباس قال، « الشاهد » ، محمد، و « المشهود » ، يوم القيامة. ثم قرأ: ( ذلك يوم مجموعٌ له الناس وذلك يوم مشهود ) . حدثني المثني قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن ابن عباس قال: « الشاهد » ، محمد و « المشهود » ، يوم القيامة. ثم تلا هذه الآية: ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) . حدثت عن المسيب ، عن جويبر، عن الضحاك قوله: ( ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ) ، قال: ذلك يوم القيامة، يجتمع فيه الخلق كلهم ، ويشهدُه أهل السماء وأهل الأرض. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ ( 104 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما نؤخّر يوم القيامة عنكم أن نجيئكم به إلا لأن يُقْضَى، فقضى له أجلا فعدّه وأحصَاه، فلا يأتي إلا لأجله ذلك، لا يتقدم مجيئه قبل ذلك ولا يتأخر. القول في تأويل قوله تعالى : يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ( 105 ) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ( 106 ) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ( 107 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: يوم يأتي يوم القيامة ، أيها الناس، وتقوم الساعة ، لا تكلم نفس إلا بإذن رَبّها. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( يَوْمَ يَأْتِي ) . فقرأ ذلك عامّة قراء أهل المدينة بإثبات الياء فيها ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ ) . وقرأ ذلك بعض قراء أهل البصرة وبعض الكوفيين بإثبات الياء فيها في الوصل وحذفها في الوقف. وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بحذف الياء في الوصل والوقف: ( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ ) . قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي: ( يَوْمَ يَأْتِ ) ، بحذف الياء في الوصل والوقف اتباعًا لخط المصحف، وأنها لغة معروفة لهذيل، تقول: « مَا أدْرِ مَا تَقول » ، ومنه قول الشاعر: كَفَّــاكَ كَــفٌّ مَـا تُلِيـقُ دِرْهَمَـا جُـودًا وأُخْـرَى تُعْـطِ بِالسَّـيْفِ الدَّمَا وقيل: ( لا تَكَلَّمُ ) ، وإنما هي « لا تتكلم » ، فحذف إحدى التاءين اجتزاء بدلالة الباقية منهما عليها. وقوله: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) ، يقول: فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها، شقيٌّ وسعيد وعاد على « النفس » ، وهي في اللفظ واحدة ، بذكر الجميع في قوله: ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) . يقول: تعالى ذكره: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ) وهو أوّل نُهاق الحمار وشبهه ( وَشَهِيقٌ ) ، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند فراغه من نُهاقه، كما قال رؤبة بن العجاج: حَشْـرَجَ فِـي الجَوْفِ سَحِيلا أَوْ شَهَقْ حَــتَّى يُقَــالَ نَـاهِقٌ وَمَـا نَهَـقْ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني المثني قال ، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، يقول: صوت شديدٌ وصوت ضعيف. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية في قوله: ( لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، قال: « الزفير » في الحلق، و « الشهيق » في الصدر. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية ، بنحوه. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: صوت الكافر في النار صوت الحمار، أوّله زفير وآخره شهيق حدثنا أبو هشام الرفاعي ، ومحمد بن معمر البحراني ، ومحمد بن المثني ، ومحمد بن بشار قالوا، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا سليمان بن سفيان قال ، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن عمر قال، لما نـزلت هذه الآية : ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبيّ الله، فعلام عَمَلُنا؟ على شيء قد فرغ منه ، أم على شيء لم يفرغ منه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على شيء قد فُرِغ منه ، يا عمر ، وجرت به الأقلام، ولكن كلٌّ مُيَسَّر لما خُلق له اللفظ لحديث ابن معمر. وقوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) ، يعني تعالى ذكره بقوله: ( خالدين فيها ) ، لابثين فيها ويعني بقوله: ( ما دامت السماوات والأرض ) ، أبدًا . وذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض ، بمعنى أنه دائم أبدًا، وكذلك يقولون: « هو باقٍ ما اختلف الليل والنهار » . و « ما سمر ابنا سَمِير » ، و « ما لألأت العُفْرُ بأذنابها » يعنون بذلك كله « أبدا » . فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم فقال: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) ، والمعنى في ذلك: خالدين فيها أبدًا. وكان ابن زيد يقول في ذلك بنحو ما قلنا فيه. حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) ، قال: ما دامت الأرض أرضًا، والسماءُ سماءً. ثم قال: ( إلا ما شاء ربك ) ، واختلف أهل العلم والتأويل في معنى ذلك فقال بعضهم: هذا استثناءٌ استثناه الله في بأهل التوحيد ، أنه يخرجهم من النار إذا شاء ، بعد أن أدخلهم النار. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ، قال: الله أعلم بثُنَياه. وذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابوها، ثم يدخلهم الجنة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، والله أعلم بثَنيَّته . ذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابتهم، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم : « الجهنَّميُّون » . حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا شيبان بن فروخ قال ، حدثنا أبو هلال قال ، حدثنا قتادة، وتلا هذه الآية: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) ، إلى قوله: ( لما يريد ) ، فقال عند ذلك: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يَخْرج قومٌ من النار قال قتادة: ولا نقول مثل ما يقول أهل حَرُوراء. » حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان في قوله: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ، قال: استثناء في أهل التوحيد. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الضحاك بن مزاحم: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ) ، إلى قوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال: يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة، فهم الذين استثنى لهم. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، ثني معاوية، عن عامر بن جشيب، عن خالد بن معدان في قوله: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ، [ سورة النبأ: 23 ] ، وقوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، أنهما في أهل التوحيد. وقال آخرون: الاستثناء في هذه الآية في أهل التوحيد، إلا أنهم قالوا: معنى قوله: ( إلا ما شاء ربك ) ، إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار. ووجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله: ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ ) ( إلا ما شاء ربك ) ، لا من « الخلود » . ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، حدثنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي نضرة، عن جابر أو: أبي سعيد يعني الخدري أو : عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد ) ، قال: هذه الآية تأتي على القرآن كلِّه يقول: حيث كان في القرآن ( خالدين فيها ) ، تأتي عليه قال: وسمعت أبا مجلز يقول: هو جزاؤه، فإن شاء الله تجاوَزَ عن عذابه. وقال آخرون: عنى بذلك أهل النار وكلَّ من دخلها. ذكر من قال ذلك : حدثت عن المسيب عمن ذكره، عن ابن عباس: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) ، لا يموتون، ولا هم منها يخرجون ما دامت السموات والأرض، ( إلا ما شاء ربك ) ، قال: استثناءُ الله. قال: يأمر النار أن تأكلهم. قال: وقال ابن مسعود: ليأتين على جهنَّم زمان تخفِقُ أبوابُها ، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانًا وأسرعهما خرابًا. وقال آخرون: أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة، فعرَّفنا معنى ثُنْياه بقوله: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ، أنها في الزيادة على مقدار مدَّة السموات والأرض .قال: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار. وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة ، وجائز أن تكون في النقصان. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، فقرأ حتى بلغ: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ، قال: وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب، القولُ الذي ذكرنا عن قتادة والضحاك: من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر أنه يدخلهم النار، خالدين فيها أبدًا إلا ما شاءَ من تركهم فيها أقل من ذلك، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة، كما قد بينا في غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك ، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغير جائز أن يكون استثناءً في أهل الشرك وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يدخل قومًا من أهل الإيمان به بذنوبٍ أصابوها النارَ، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة ، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دُخُولها ، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا وأنّا إن جعلناه استثناء في ذلك، كنا قد دخلنا في قول من يقول: « لا يدخل الجنة فاسق ، ولا النار مؤمن » ، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم ، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فسد هذان الوجهان ، فلا قول قال به القُدْوة من أهل العلم إلا الثالث. ولأهل العربية في ذلك مذهبٌ غير ذلك، سنذكره بعدُ، ونبينه إن شاء الله . . وقوله: ( إن ربك فعال لما يريد ) ، يقول تعالى ذكره: إن ربك ، يا محمد ، لا يمنعه مانع من فعل ما أراد فعله بمن عصاه وخالف أمره ، من الانتقام منه، ولكنه يفعل ما يشاء فعلَه ، فيمضي فيهم وفيمن شاء من خلقه فعلُه وقضاؤهُ. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ( 108 ) قال أبو جعفر: واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء المدينة والحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: ( وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا ) ، بفتح السين. وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة: ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ) ، بضم السين، بمعنى: رُزِقوا السعادة. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ. فإن قال قائل: وكيف قيل: ( سُعِدُوا ) ، فيما لم يسمَّ فاعله، ولم يقل: « أسعدوا » ، وأنت لا تقول في الخبر فيما سُمِّى فاعله : « سعده الله » ، بل إنما تقول: « أسعده الله » ؟ قيل ذلك نظير قولهم: « هو مجنون » و « محبوب » ، فيما لم يسمَّ فاعله، فإذا سموا فاعله قيل: « أجنه الله » ، و « أحبه » ، والعرب تفعل ذلك كثيرًا. وقد بينا بعض ذلك فيما مضى من كتابنا هذا. وتأويل ذلك: وأما الذين سعدوا برحمة الله، فهم في الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، يقول: أبدًا ( إلا ما شاء ربك ) . فاختلف أهل التاويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: ( إلا ما شاء ربك ) ، من قدر ما مكثوا في النار قبل دخُولهم الجنة. قالوا: وذلك فيمن أخرج من النار من المؤمنين فأدخل الجنة. ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الضحاك في قوله: ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال: هو أيضًا في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة. يقول: خالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك. يقول: إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة. وقال آخرون: معنى ذلك: ( إلا ما شاء ربك ) ، من الزيادة على قدر مُدّة دوام السموات والأرض، قالوا: وذلك هو الخلود فيها أبدًا. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان: ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، قال: ومشيئته خلودهم فيها، ثم أتبعها فقال: ( عطاء غير مجذوذ ) . واختلف أهل العربية في وجه الاستثناء في هذا الموضع. فقال بعضهم في ذلك معنيان: أحدهما : أن تجعله استثناءً يستثنيه ولا يفعله، كقولك: « والله لأضربنَّك إلا أن أرى غير ذلك » ، وعزمُك على ضربه. قال: فكذلك قال: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، ولا يشاؤه، [ وهو أعلم ] . قال: والقول الآخر: أنّ العرب إذا استثنت شيئًا كثيرًا مع مثله ، ومع ما هو أكثر منه ، كان معنى « إلا » ومعنى « الواو » سواء. فمن كان قوله: ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) سوى ما شاء الله من زيادة الخلود، فيجعل « إلا » مكان « سوى » فيصلح، وكأنه قال: « خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما زادهم من الخلود والأبد » . ومثله في الكلام أن تقول: لي عليك ألف إلا ألفين اللذين [ مِنْ قِبَل فلان « ، أفلا ترى أنه في المعنى : لي عليك ألفٌ سِوَى الألفين ] ؟ قال: وهذا أحبُّ الوجهين إليّ ، لأنّ الله لا خُلْفَ لوعده. وقد وصل الاستثناء بقوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، فدلَّ على أن الاستثناء لهم بقوله في الخلود غير منقطعٍ عنهم. » وقال آخر منهم بنحو هذا القول. وقالوا: جائز فيه وجه ثالثٌ: وهو أن يكون استثنى من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين الموت والبعث ، وهو البرزخ ، إلى أن يصيُروا إلى الجنة، ثم هو خلود الأبد. يقول: فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرْزَخ. وقال آخر منهم: جائز أن يكون دوام السموات والأرض ، بمعنى : الأبد ، على ما تعرف العرب وتستعمل ، وتستثنى المشيئة من داومها ، لأنَّ أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقاتِ دوام السموات والأرض في الدنيا ، لا في الجنة، فكأنه قال: خالدين في الجنة ، وخالدين في النار ، دوامَ السماء، والأرض ، إلا ما شاء ربُّك من تعميرهم في الدنيا قبلَ ذلك. قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي ذكرته عن الضحاك، وهو ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) ، من قدر مُكْثِهم في النار، من لدن دخلوها إلى أن ادخلوا الجنة، وتكون الآية معناها الخصوص ، لأن الأشهر من كلام العرب في « إلا » توجيهها إلى معنى الاستثناء ، وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها ، إلا أن يكون معها دلالةٌ تدلُّ على خلاف ذلك. ولا دلالة في الكلام أعني في قوله: ( إلا ما شاء ربك ) تدلُّ على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام، فيُوَجَّه إليه. وأما قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، فإنه يعني : عطاءً من الله غيرَ مقطوع عنهم. من قولهم: « جذذت الشيء أجذّه جذًّا » ، إذا قطعته، كما قال النابغة: تَجــذُّ السَّـلُوقِيَّ المُضَـاعَفَ نَسْـجُهُ وَيوقِــدْنَ بِالصُّفَّـاحِ نَـارَ الحُبَـاحِبِ يعني بقوله: « تجذ » : تقطع. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( عطاء غير مجذوذ ) ، قال: غير مقطوع. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، يقول: غير منقطع. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ( عطاء غير مجذوذ ) ، يقول: عطاء غير مقطوع. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( مجذوذ ) ، قال: مقطوع. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، قال: غير مقطوع. . . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. .... قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج. عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، قال: أما هذه فقد أمضَاها. يقول: عطاء غير منقطع. حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: ( عطاء غير مجذوذ ) ، غير منـزوع منهم. القول في تأويل قوله تعالى : فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ( 109 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا تَك في شك ، يا محمد ، مما يعبد هؤلاء المشركون من قومك من الآلهة والأصنام، أنه ضلالٌ وباطلٌ ، وأنه بالله شركٌ ( ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل ) ، يقول: إلا كعبادة آبائهم ، من قبل عبادتهم لها. يُخبر تعالى ذكره أنهم لم يعبدُوا ما عبدوا من الأوثان إلا اتباعًا منهم منهاج آبائهم، واقتفاءً منهم آثارهم في عبادتهموها، لا عن أمر الله إياهم بذلك، ولا بحجة تبيَّنوها توجب عليهم عبادتها. ثم أخبر جل ثناؤه نبيَّه ما هو فاعل بهم لعبادتهم ذلك، فقال جل ثناؤه: ( وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ) ، يعني: حظهم مما وعدتهم أن أوفّيهموه من خير أو شر ( غير منقوص ) ، يقول: لا أنقصهم مما وعدتهم، بل أتمّم ذلك لهم على التمام والكمال، كما:- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس : ( وإنا لموفُّوهم نصيبهم غير منقوص ) ، قال: ما وُعِدوا فيه من خير أو شر. حدثنا أبو كريب ومحمد بن بشار قالا حدثنا وكيع، عن سفيان عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله إلا أن أبا كريب قال في حديثه: من خيرٍ أو شرّ. حدثني المثني قال، أخبرنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد عن ابن عباس: ( وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ) ، قال: ما قُدِّر لهم من الخير والشر. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: ( وإنا لموفّوهم نصيبهم غير منقوص ) ، قال: ما يصيبهم من خير أو شر. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : ( وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص ) ، قال: نصيبهم من العذاب. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ( 110 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، مسليًا نبيه في تكذيب مشركي قومه إياه فيما أتاهم به من عند الله ، بفعل بني إسرائيل بموسى فيما أتاهم به من عند الله. يقول له تعالى ذكره: ولا يحزنك ، يا محمد ، تكذيب هؤلاء المشركين لك، وامض لما أمرك به ربُّك من تبليغ رسالته، فإن الذي يفعل بك هؤلاء من ردِّ ما جئتهم به عليك من النصيحة من فعل ضُربائهم من الأمم قبلهم وسنَّةٌ من سُنتهم. ثم أخبره جل ثناؤه بما فعل قوم موسى به فقال: ( ولقد آتينا موسى الكتاب ) ، يعني : التوراة، كما آتيناك الفرقان، فاختلف في ذلك الكتاب قومُ موسى ، فكذّب به بعضُهم وصدّق به بعضهم، كما قد فعل قومك بالفرقان من تصديق بعض به ، وتكذيب بعض ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) ، يقول تعالى ذكره: ولولا كلمة سبقت ، يا محمد ، من ربك بأنه لا يعجل على خلقه العذاب، ولكن يتأنى حتى يبلغ الكتاب أجله ( لقضي بينهم ) ، يقول: لقضي بين المكذب منهم به والمصدِّق ، بإهلاك الله المكذب به منهم ، وإنجائه المصدق به ( وإنهم لفي شك منه مريب ) ، يقول: وإن المكذبين به منهم لفي شك من حقيقته أنه من عند الله ( مريب ) ، يقول: يريبهم ، فلا يدرون أحقٌّ هو أم باطلٌ؟ ولكنهم فيه ممترون. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 111 ) قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته جماعة من قراء أهل المدينة والكوفة: ( وَإنَّ ) مشددة ( كُلا لَمَّا ) مشددة. واختلف أهل العربية في معنى ذلك: فقال بعض نحويي الكوفيين: معناه إذا قرئ كذلك : وإنّ كلا لممَّا ليوفينهم ربك أعمالهم ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة ، فبقيت ثنتان، فأدغمت واحدة في الأخرى، كما قال الشاعر: وَإِنِّـي لَمِمَّـا أُصْـدِرُ الأَمْـرَ وَجْهَـهُ إِذَا هُــوَ أَعْيـى بالسَّـبِيلِ مَصَـادِرُهُ ثم تخفف، كما قرأ بعض القراء: وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ ، [ سورة النحل: 90 ] ، تخفُّ الياء مع الياء. وذكر أن الكسائي أنشده: وَأشْــمَتَّ العُــدَاةَ بِنَــا فَـأضْحَوْا لــدَيْ يَتَبَاشَــرُونَ بِمَــا لَقِينَــا وقال: يريد « لديَّ يتباشرون بما لقينا » ، فحذف ياء، لحركتهن واجتماعهن ، قال: ومثله: كـــأنَّ مِــنْ آخِرِهــا الْقــادِمِ مَخْــرِمُ نَجْــدٍ فــارعِ المَخَـارِمِ وقال: أراد : إلى القادم، فحذف اللام عند اللام. وقال آخرون: معنى ذلك إذا قرئ كذلك: وإن كلا شديدًا وحقًّا ، ليوفينهم ربك أعمالهم. قال: وإنما يراد إذا قرئ ذلك كذلك: ( وإنّ كلا لمَّا ) بالتشديد والتنوين، ولكن قارئ ذلك كذلك حذف منه التنوين، فأخرجه على لفظ فعل « لمَّا » ، كما فعل ذلك في قوله: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ، [ سورة المؤمنون: 44 ] ، فقرأ « تترى » ، بعضهم بالتنوين، كما قرأ من قرأ: « لمَّا » بالتنوين، وقرأ آخرون بغير تنوين، كما قرأ ( لمَّا ) بغير تنوين من قرأه. وقالوا: أصله من « اللَّمِّ » من قول الله تعالى: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا ، يعني : أكلا شديدًا. وقال آخرون: معنى ذلك إذا قرئ كذلك: وإنّ كلا إلا ليوفينهم، كما يقول القائل: « بالله لمَّا قمتَ عنا ، وبالله إلا قمت عنا » . قال أبو جعفر: ووجدت عامة أهل العلم بالعربية ينكرون هذا القول، ويأبون أن يكون جائزًا توجيه « لمَّا » إلى معنى « إلا » ، في اليمين خاصة . وقالوا: لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلا جاز أن يقال: « قام القوم لمَّا أخاك » بمعنى: إلا أخاك، ودخولها في كل موضع صلح دخول « إلا » فيه. قال أبو جعفر: وأنا أرى أنّ ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية ، في فساده، وهو أنّ « إنّ » إثبات للشيء وتحقيق له، و « إلا » ، تحقيق أيضًا، وإنما تدخل نقضًا لجحد قد تقدَّمها. فإذا كان ذلك معناها، فواجب أن تكون عندَ متأولها التأويلَ الذي ذكرنا عنه، أن تكون « إنّ » بمعنى الجحد عنده، حتى تكون « إلا نقضًا » لها. وذلك إن قاله قائل، قولٌ لا يخفى جهلُ قائله، اللهم إلا أن يخفف قارئ « إن » فيجعلها بمعنى « إن » التي تكون بمعنى الجحد. وإن فعل ذلك ، فسدت قراءته ذلك كذلك أيضًا من وجه آخر، وهو أنه يصير حينئذ ناصبًا « لكل » بقوله: ليوفينهم، وليس في العربية أن ينصب ما بعد « إلا » من الفعل ، الاسم الذي قبلها. لا تقول العرب: « ما زيدًا إلا ضربت » ، فيفسد ذلك إذا قرئ كذلك من هذا الوجه ، إلا أن يرفع رافع « الكل » ، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القراء وخط مصاحف المسلمين، ولا يخرج بذلك من العيب لخروجه من معروف كلام العرب. وقد قرأ ذلك بعض قراء الكوفيين: ( وَإنْ كُلا ) بتخفيف « إن » ونصب ( كُلا لمَّا ) مشدّدة. وزعم بعض أهل العربية أن قارئ ذلك كذلك، أراد « إنّ » الثقيلة فخففها، وذكر عن أبي زيد البصري أنه سمع: « كأنْ ثَديَيْه حُقَّان » ، فنصب ب « كأن » ، والنون مخففة من « كأنّ » ، ومنه قول الشاعر: وَوَجْــــهٌ مُشْـــرِقُ النَّحْـــرِ كَــــأَنْ ثَدْيَيْــــهِ حُقَّــــانِ وقرأ ذلك بعض المدنيين بتخفيف: ( إنْ ) ونصب ( كُلا ) ، وتخفيف ( لَمَا ) . وقد يحتمل أن يكون قارئ ذلك كذلك، قصدَ المعنى الذي حكيناه عن قارئ الكوفة من تخفيفه نون « إن » وهو يريد تشديدها، ويريد ب « ما » التي في « لما » التي تدخل في الكلام صلة، وأن يكون قَصَد إلى تحميل الكلام معنى: وإنّ كلا ليوفينهم . ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك: وإنّ كُلا ليوفينهم ، أي : ليوفين كُلا فيكون نيته في نصب « كل » كانت بقوله: « ليوفينهم » ، فإن كان ذلك أراد ، ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب. وذلك أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسمًا قبلَها. وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة: ( وَإنَّ ) مشددة ( كُلا لَمَا ) مخففة ( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ) . ولهذه القراءة وجهان من المعنى: أحدهما: أن يكون قارئها أراد: وإن كلا لمَنَ ليوفينهم ربك أعمالهم، فيوجه « ما » التي في « لما » إلى معنى « من » كما قال جل ثناؤه: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ، [ سورة النساء : 3 ] ، وإن كان أكثر استعمال العرب لها في غير بني آدم وينوي باللام التي في « لما » اللام التي تُتَلقَّى بها « إنْ » جوابًا لها، وباللام التي في قوله: ( ليوفينهم ) ، لام اليمين ، دخلت فيما بين ما وصلتها، كما قال جل ثناؤه: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [ سورة النساء : 72 ] ، وكما يقال : « هذا ما لَغَيرُه أفضلُ منه » . والوجه الآخر: أن يجعل « ما » التي في « لما » بمعنى « ما » التي تدخل صلة في الكلام، واللام التي فيها هي اللام التي يجاب بها، واللام التي في: ( ليوفينهم ) ، هي أيضًا اللام التي يجاب بها « إنّ » كررت وأعيدت، إذا كان ذلك موضعها، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها ، ثم تعيدها بعدُ في موضعها، كما قال الشاعر: فَلَـوْ أَنَّ قَـوْمِي لَـمْ يَكُونُـوا أَعِـزَّةً لَبَعْـدُ لَقَـدْ لاقَيْـتُ لا بُـدَّ مَصْرَعَـا وقرأ ذلك الزهري فيما ذكر عنه: ( وإنَّ كُلا ) بتشديد « إنَّ » ، و ( لمَّا ) بتنوينها، بمعنى: شديدًا وحقًا وجميعًا. قال أبو جعفر : وأصح هذه القراءات مخرجًا على كلام العرب المستفيض فيهم ، قراءة من قرأ: « وَإنَّ » بتشديد نونها، « كُلا لَمَا » بتخفيف « ما » ( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ ) ، بمعنى: وإن كل هؤلاء الذين قصَصَنا عليك ، يا محمد ، قصصهم في هذه السورة، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم ، بالصالح منها بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها بالشديد من العقاب فتكون « ما » بمعنى « مَن » واللام التي فيها جوابًا لـ « إنّ » ، واللام في قوله: ( ليوفينهم ) ، لام قسم. وقوله: ( إنه بما يعملون خبير ) ، يقول تعالى ذكره: إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد، « خبير » ، لا يخفى عليه شيء من عملهم ، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به ، حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم. القول في تأويل قوله تعالى : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 112 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاستقم أنت ، يا محمد ، على أمر ربك ، والدين الذي ابتعثك به ، والدعاء إليه، كما أمرك ربك ( ومن تاب معك ) ، يقول: ومن رجع معك إلى طاعة الله والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره ( ولا تطغوا ) ، يقول: ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه. ( إنه بما تعملون بصير ) ، يقول: إن ربكم ، أيها الناس ، بما تعملون من الأعمال كلِّها ، طاعتها ومعصيتها « بصير » ، ذو علم بها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو لجميعها مبصرٌ. يقول تعالى ذكره: فاتقوا الله، أيها الناس ، أن يطَّلع عليكم ربكم وأنتم عاملون بخلاف أمره ، فإنه ذو علم بما تعلمون، وهو لكم بالمرصاد. وكان ابن عيينة يقول في معنى قوله: ( فاستقم كما أمرت ) ، ما:- حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن سفيان في قوله: ( فاستقم كما أمرت ) ، قال: استقم على القرآن. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تطغوا ) ، قال: الطغيان: خلاف الله ، وركوب معصيته . ذلك « الطغيان » . القول في تأويل قوله : وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ( 113 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تميلوا ، أيها الناس ، إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم ( فتمسكم النار ) ، بفعلكم ذلك وما لكم من دون الله من ناصر ينصركم ووليّ يليكم ( ثم لا تنصرون ) ، يقول: فإنكم إن فعلتم ذلك لم ينصركم الله، بل يخلِّيكم من نصرته ويسلط عليكم عدوّكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) ، يعني: الركون إلى الشرك. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) ، يقول: لا ترضوا أعمالهم. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) ، يقول: لا ترضوا أعمالهم. يقول: « الركون » ، الرضى. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) ، قال: لا ترضوا أعمالهم ( فتمسكم النار ) . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا ) ، قال: قال ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) ، يقول: لا تلحقوا بالشرك، وهو الذي خرجتم منه. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) ، قال: « الركون » ، الإدهان. وقرأ: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ، [ سورة القلم: 9 ] ، قال: تركنُ إليهم، ولا تنكر عليهم الذي قالوا، وقد قالوا العظيمَ من كفرهم بالله وكتابه ورسله. قال: وإنما هذا لأهل الكفر وأهل الشرك وليس لأهل الإسلام. أما أهل الذنوب من أهل الإسلام ، فالله أعلم بذنوبهم وأعمالهم. ما ينبغي لأحد أن يُصَالح على شيء من معاصي الله ، ولا يركن إليه فيها. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ( 114 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وأقم الصلاة ) ، يا محمد، يعني: صَلِّ ( طرفي النهار ) ، يعني الغداةَ والعشيَّ. واختلف أهل التأويل في التي عُنِيت بهذه الآية من صَلوات العشيّ، بعد إجماع جميعهم على أن التي عُنيت من صَلاة الغداة، الفجرُ. فقال بعضهم: عُنيت بذلك صلاة الظهر والعصر. قالوا: وهما من صلاة العشيّ. ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال: الفجر، وصلاتي العشي يعني الظهر والعصر. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد ، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال: صلاة الفجر، وصلاة العشي. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح بن سعيد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال: فطرفا النهار: الفجرُ والظهرُ والعصرُ. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال: ( طرفي النهار ) ، قال: الفجر والظهر والعصر. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال: الفجر والظهر والعصر. وقال آخرون: بل عنى بها صلاة المغرب. ذكر من قال ذلك : حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، يقول: صلاة الغداة وصلاة المغرب. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى، عن عوف، عن الحسن: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال. صلاة الغداة والمغرب. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، الصبح، والمغرب. وقال آخرون: عني بها: صلاة العصر. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال: صلاة الفجر والعصر. . . . . قال: حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن سعيد القبائي، عن محمد بن كعب ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، الفجر و العصر. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال: صلاة الصبح وصلاة العصر. حدثني الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا مبارك، عن الحسن قال، قال الله لنبيه: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال: ( طرفي النهار ) ، الغداة والعصر. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، يعني صلاة العصر والصبح. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، الغداة والعصر. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن زيد، عن محمد بن كعب: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، الفجر والعصر. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة، عن الحسن: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، قال: الغداة والعصر. وقال بعضهم: بل عنى بطرفي النهار: الظهر، والعصر ، وبقوله: ( زلفًا من الليل ) ، المغرب، والعشاء، والصبح. قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قولُ من قال: « هي صلاة المغرب » ، كما ذكرنا عن ابن عباس. وإنما قلنا هو أولى بالصواب لإجماع الجميع على أن صلاة أحد الطرفين من ذلك صلاة الفجر، وهي تصلى قبل طلُوع الشمس . فالواجب إذ كان ذلك من جميعهم إجماعًا ، أن تكون صلاةُ الطرف الآخر المغرب، لأنها تصلى بعد غُروب الشمس. ولو كان واجبًا أن يكون مرادًا بصلاة أحد الطرفين قبل غروب الشمس ، وجب أن يكون مرادًا بصلاة الطرف الآخر بعدَ طلوعها، وذلك ما لا نعلم قائلا قاله ، إلا من قال: « عنى بذلك صلاة الظهر والعصر » . وذلك قول لا يُخِيلُ فساده، لأنهما إلى أن يكونا جميعًا من صلاة أحد الطرفين ، أقربُ منهما إلى أن يكونا من صلاة طرفي النهار. وذلك أن « الظهر » لا شك أنها تصلَّى بعد مضي نصف النهار في النصف الثاني منه، فمحالٌ أن تكون من طرف النهار الأول ، وهي في طرفه الآخر. فإذا كان لا قائلَ من أهل العلم يقول: « عنى بصلاة طرف النهار الأول صلاةً بعد طلوع الشمس » ، وجب أن يكون غير جائز أن يقال: « عنى بصلاة طرف النهار الآخر صلاةً قبل غروبها » . وإذا كان ذلك كذلك ، صح ما قلنا في ذلك من القول ، وفسدَ ما خالفه. وأما قوله: ( وزلفًا من الليل ) ، فإنه يعني: ساعاتٍ من الليل. وهي جمع « زُلْفة » ، و « الزلفة » ، الساعة ، والمنـزلة، والقربة، وقيل: إنما سميت « المزدلفة » و « جمع » من ذلك ، لأنها منـزلٌ بعد عرفة وقيل سميت بذلك، لازدلاف آدم من عَرَفة إلى حواء وهي بها ، ومنه قول العجاج في صفة بعير: نــاجٍ طَــوَاهُ الأَيْـنُ مِمَّـا وجَفـا طَـــيَّ اللَّيــالِي زُلَفًــا فَزُلَفَــا واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء المدينة والعراق: ( وَزُلَفًا ) ، بضم الزاي وفتح اللام. وقرأه بعض أهل المدينة بضم الزاي واللام كأنه وجَّهه إلى أنه واحدٌ، وأنه بمنـزلة « الحُلُم » . وقرأ بعض المكيين: ( وَزُلْفًا ) ، ضم الزاي وتسكين اللام. قال أبو جعفر: وأعجب القراءات في ذلك إليّ أن أقرأها: ( وزُلَفًا ) ، بضم الزاي وفتح اللام، على معنى جمع « زُلْفة » ، كما تجمع « غُرْفَة غُرف » ، و « حُجْرة حُجر » . وإنما اخترت قراءة ذلك كذلك، لان صلاة العشاء الآخرة إنما تصلى بعد مضيّ زُلَفٍ من الليل، وهي التي عُنِيت عندي بقوله: ( وزلفًا من الليل ) . وبنحو الذي قلنا في قوله: ( وزلفًا من الليل ) ، قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: الساعات من الليل صلاة العتمة. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ( زلفًا من الليل ) يقول: صلاة العتمة. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى، عن عوف، عن الحسن: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: العشاء. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس يعجبه التأخير بالعشاء ويقرأ: ( وزلفًا من الليل ) . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: ساعة من الليل، صلاة العتمة. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: العتمة، وما سمعت أحدًا من فقهائنا ومشايخنا، يقول « العشاء » ، ما يقولون إلا « العتمة » وقال قوم: الصلاة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامتها زُلَفًا من الليل، صلاة المغرب والعشاء. ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم، وابن وكيع، واللفظ ليعقوب قالا حدثنا ابن علية قال ، حدثنا أبو رجاء عن الحسن: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: هما زُلفتان من الليل: صلاة المغرب، وصلاة العشاء. حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن في قوله: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: المغرب، والعشاء. حدثني الحسن بن علي، قال ثنا أبي قال ، حدثنا مبارك، عن الحسن، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، قال: ( زلفًا من الليل ) : المغرب، والعشاء ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هما زُلْفَتا الليل، المغرب والعشاء. « » حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان عن منصور عن مجاهد : ( وزلفًا من الليل ) ، قال: المغرب، والعشاء. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى قال حدثنا أبو نعيم قال: ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله . . . . . قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: قد بيّن اللهُ مواقيتَ الصلاة في القرآن، قال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [ سورة الإسراء: 78 ] ، قال: « دلوكها » : إذا زالت عن بطن السماء ، وكان لها في الأرض فيءٌ. وقال: ( أقم الصلاة طرفي النهار ) ، الغداة، والعصر ( وزلفًا من الليل ) ، المغرب، والعشاء. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُما زلفتا الليل ، المغرب والعشاء. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: يعني صلاة المغرب وصلاة العشاء. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح بن سعيد قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: ( زلفًا من الليل ) ، المغرب والعشاء. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، مثله. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي: ( وزلفًا من الليل ) ، المغرب والعشاء. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم بن سليمان، عن الحسن قال: زلفتا الليل، المغرب والعشاء. حدثني المثني قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: المغرب والعشاء. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عاصم، عن الحسن: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: المغرب والعشاء. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك: ( وزلفًا من الليل ) ، قال: المغرب والعشاء. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن عاصم، عن الحسن: ( زلفًا من الليل ) ، صلاة المغرب والعشاء. وقوله: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، يقول تعالى ذكره: إنّ الإنابة إلى طاعة الله والعمل بما يرضيه، يذهب آثام معصية الله ، ويكفّر الذنوب. ثم اختلف أهل التأويل في الحسنات التي عنى الله في هذا الموضع ، اللاتي يذهبن السيئات، فقال بعضهم: هنّ الصلوات الخمس المكتوبات. ذكر من قال ذلك : حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي الورد بن ثمامة، عن أبي محمد ابن الحضرمي قال ، حدثنا كعب في هذا المسجد، قال: والذي نفس كعب بيده ، إن الصلوات الخمس لهُنّ الحسنات التي يذهبن السيئات ، كما يغسل الماءُ الدَّرَنَ. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح قال: سمعت محمد بن كعب القرظى يقول في قوله: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: هن الصلوات الخمس. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: الصلوات الخمس. . . . . قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد: ( إن الحسنات ) الصلوات. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا يحيى ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة جميعا، عن عوف، عن الحسن: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: الصلوات الخمس. حدثني زريق بن السَّخت قال ، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: الصلوات الخمس. حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون، قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله تعالى: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: الصلوات الخمس. حدثني المثني قال ، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحسن قال، الصلوات الخمس. حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: الصلوات الخمس. . . . . قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد الجريري قال، حدثني أبو عثمان، عن سلمان قال: والذي نفسي بيده، إن الحسنات التي يمحو الله بهن السيئات كما يغسل الماء الدَّرَن: الصلواتُ الخمس. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: الصلوات الخمس. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مزيدة بن زيد، عن مسروق: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: الصلوات الخمس. حدثني محمد بن عمارة الأسدي، وعبد الله بن أبي زياد القطواني قالا حدثنا عبد الله بن يزيد قال، أخبرنا حيوة قال، أخبرنا أبو عقيل زهرة بن معبد القرشي من بني تيم من رهط أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رحمة الله عليه يقول: جلس عثمان يومًا وجلسنا معه، فجاء المؤذن ، فدعا عثمان بماءٍ في إناء ، أظنه سيكون فيه قدر مُدٍّ ، فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وُضوئي هذا ، ثم قال: من توضأ وُضوئي هذا ثم قام فصلَّى صلاة الظهر ، غفر له ما كان بينه وبين صلاة الصبح، ثم صَلَّى العصر ، غفر له ما بينه وبين صلاة الظهر، ثمَّ صلَّى المغرب ، غفر له ما بينه وبين صلاة العصر، ثم صلّى العشاء ، غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب، ثمَّ لعله يبيت ليلته يَتَمَرّغ، ثم إن قام فتوضأ وصلَّى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهُنَّ الحسنات يذهبن السيئات. حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثنا أبو زرعة قال ، حدثنا حيوة قال ، حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: جلس عثمان بن عفان يومًا على المقاعد فذكر نحوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه قال: « وهن الحسنات إن الحسنات يذهبن السيئات » . حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا نافع بن يزيد، ورشدين بن سعد قالا حدثنا زهرة بن معبد قال: سمعت الحارث مولى عثمان بن عفان يقول، جلس عثمان بن عفان يوما على المقاعد، ثم ذكر نحو ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال: وهن الحسنات : ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) . حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا محمد بن إسماعيل قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعلت الصلوات كفارات لما بينهن، فإن الله قال: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) . حدثنا ابن سيار القزاز قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي قال، كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصنا من أغصانها يابسًا فهزَّه حتى تحاتَّ ورقُه، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت معه تحت شجرة ، فأخذ غصنًا من أغصانها يابسًا فهزه حتى تحاتَّ ورقُه، ثم قال: ألا تسألني لم أفعل هذا يا سلمان؟ فقلت: ولم تفعله؟ فقال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم صلَّى الصلوات الخمس، تحاتّت خطاياه كما تحاتَّ هذا الورق. ثم تلا هذه الآية: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، إلى آخر الآية. وقال آخرون: هو قول: « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر » . ذكر من قال ذلك: حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك، عن منصور، عن مجاهد: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، قال: « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر » . قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، قولُ من قال في ذلك: « هن الصلوات الخمس » ، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواترها عنه أنه قال: « مَثَلُ الصلوات الخمس مَثَلُ نَهْرٍ جَارٍ عَلَى بابِ أحَدِكم، ينغمس فيه كل يومٍ خمس مرات، فماذا يُبقينَ من دَرَنه؟ » ، وأن ذلك في سياق أمر الله بإقامة الصلوات، والوعدُ على إقامتها الجزيلَ من الثواب عَقيبها ، أولى من الوعد على ما لم يجر له ذكر من صالحات سائر الأعمال ، إذا خُصّ بالقصد بذلك بعضٌ دون بعض. وقوله: ( ذلك ذكرى للذاكرين ) ، يقول تعالى ذكره: هذا الذي أوعدت عليه من الركون إلى الظلم ، وتهددت فيه، والذي وعدت فيه من إقامة الصلوات اللواتي يُذهبن السيئات ، تذكرة ذكّرت بها قومًا يذكُرون وعد الله، فيرجُون ثوابه ووعيده ، فيخافون عقابه، لا من قد طبع على قلبه ، فلا يجيب داعيًا ، ولا يسمع زاجرًا. وذكر أن هذه الآية نـزلت بسبب رجل نالَ من غير زوجته ولا ملك يمينه بعضَ ما يحرم عليه، فتاب من ذنبه ذلك. *ذكر الرواية بذلك: حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود قالا قال عبد الله بن مسعود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجتُ امرأة في بعض أقطار المدينة، فأصبت منها ما دون أن أمسَّها، فأنا هذا ، فاقض فيَّ ما شئت ! فقال عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك ! قال: ولم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا . فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فلما أتاه قرأ عليه: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) ، فقال رجل من القوم: هذا لهُ يا رسول الله خاصَّةً؟ قال: بل للناس كافة. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني لقيت امرأة في البستان، فضممتها إليَّ وباشرتُها وقبَّلتها، وفعلت بها كلَّ شي غير أني لم أجامعها . فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنـزلت هذه الآية: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) ، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه، فقال عمر: يا رسول الله، أله خاصَّةً، أم للناس كافة؟ قال: لا بل للناس كافة ولفظ الحديث لابن وكيع. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، أنه سمع إبراهيم بن زيد، يحدث عن علقمة ، والأسود، عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني وجدت امرأةً في بستان ، ففعلت بها كل شيء ، غير أني لم أجامعها، قَبَّلتها ، ولزمتُها ، ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت . فلم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا . فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه ! فأتبعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَصَره، فقال: « ردُّوه عليَّ ! فردُّوه، فقرأ عليه: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) ، قال: فقال معاذ بن جبل: أله وحده ، يا نبي الله، أم للناس كافة؟ فقال: » بل للناس كافة . حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا أبو عوانة، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة ، والأسود ، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخذت امرأة في البُستان فأصبتُ منها كل شيء، غير أني لم أنكحها، فاصنع بي ما شئت ! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب دعاه فقرأ عليه هذه الآية: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، الآية. حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي قال ، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب قال، سمعت إبراهيم يحدث عن خاله الأسود، عن عبد الله: أن رجلا لقي امرأةً في بعض طرق المدينة، فأصاب منها ما دون الجماع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنـزلت: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) ، فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله، لهذا خاصة ، أو لنا عامة؟ قال: بل لكم عامة. حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة قال، أنبأني سماك قال، سمعت إبراهيم يحدث عن خاله، عن ابن مسعود: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقيت امرأة في حُشٍّ بالمدينة، فأصبت منها ما دون الجماع، نحوه. حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم البغدادي قال ، حدثنا شعبة، عن سماك، عن إبراهيم، عن خاله، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: جاء فُلانُ بن معتِّب رجل من الأنصار ، فقال: يا رسول الله دخلت عليّ امرأة، فنلتُ منها ما ينالُ الرجل من أهله، إلا أني لم أواقعها ؟ فلم يدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجيبه ، حتى نـزلت هذه الآية: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، الآية، فدعاه فقرأها عليه. حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية ، وحدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل ، وحدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان جميعًا، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأةٍ شيئًا لا أدري ما بلغ، غير أنه ما دون الزنا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنـزلت: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال: لمن أخذَ بها من أمتي أو : لمن عمل بها. حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا قبيصة، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان، فأخذ غصن شجرة يابسة فحتَّه ، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ فأحسن الوضوء ، تحاتَّت خطاياه كما يتحاتُّ هذا الورق ! ثم قال: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، إلى آخر الآية. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو أسامة، وحسين الجعفي ، عن زائدة قال ، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما ترى في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئًا إلا قد أتاه منها ، غير أنْ لم يجامعها؟ فأنـزل الله هذه الآية: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ ثم صلّ . قال معاذ: قلت : يا رسول الله، أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: بل للمؤمنين عامة. حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن رجلا أصابَ من امرأة ما دون الجماع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن ذلك، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو: أنـزلت ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، الآية، فقال معاذ: يا رسول الله، أله خاصة، أم للناس عامة؟ قال: هي للناس عامة. حدثنا ابن المثني قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال، حدثني عمرو بن الحارث قال، حدثني عبد الله بن سالم، عن الزبيدي قال ، حدثنا سليم بن عامر، أنه سمع أبا أمامة يقول: إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، أقم فيَّ حَدّ الله مرةً واثنتين. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقيمت الصلاة ، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، قال: أين هذا القائل: أقم فيَّ حدَّ الله؟ قال: أنا ذا ! قال: هل أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا؟ قال: نعم! قال: فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمّك، فلا تَعُدْ ! وأنـزل الله حينئذ على رسوله: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، الآية. حدثنا ابن وكيع قال، حدثني جرير، عن عبد الملك، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أنه كان جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، رجلٌ أصاب من امرأة ما لا يحلُّ له، لم يدع شيئًا يصيبه الرجل من امرأته إلا أتاه إلا أنه لم يجامعها؟ قال: يتوضأ وضوءًا حسنًا ثم يصلي. فأنـزل الله هذه الآية: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، الآية، فقال معاذ: هي له يا رسول الله خاصة، أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة: أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر امرأة وهو جالسٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه لحاجة، فأذن له، فذهب يطلبها فلم يجدها. فأقبل الرجل يريد أن يُبَشّر النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر، فوجد المرأة جالسةً على غديرٍ، فدفع في صدرها وجلس بين رجليها، فصار ذكره مثل الهُدْبة، فقام نادمًا حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: استغفر ربَّك وصلّ أربع ركعات : قال: وتلا عليه: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، الآية. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن وهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر بن عمرو الأنصاري قال: أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمرًا، فقلت: إن في البيت تمرًا أجود من هذا! فدخلت ، فأهويت إليها فقبَّلتها. فأتيت أبا بكر فسألته، فقال: استر على نفسك وتُبْ واستغفر الله ! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخلَفْتَ رجلا غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا !! حتى ظننت أنّي من أهل النار، حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ! قال: فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً فنـزل جبريل فقال: أين أبو اليسر؟ فجئت، فقرأ عليّ: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، إلى : ( ذكرى للذاكرين ) ، قال إنسان : لهُ يا رسول الله ، خاصةً ، أم للناس عامة؟ قال: للناس عامة. حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر قال: لقيت امرأة فالتَزَمْتُها، غير أني لم أنكحها، فأتيت عمر بن الخطاب رحمة الله عليه فقال: اتق الله ، واستر على نفسك، ولا تخبرنّ أحدًا ! فلم أصبر حتى أتيت أبا بكر رحمة الله عليه ، فسألته فقال: اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدًا ! قال: فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال له: هل جهزت غازيًا في أهله ؟ قلت: لا قال: فهل خلفت غازيًا في أهله؟ قلت: لا فقال لي ، حتى تمنيت أني كنت دخلت في الإسلام تلك الساعة! قال: فلما وليت دعاني، فقرأ عليّ: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، فقال له أصحابه: ألهذا خاصة ، أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال، حدثني سعيد، عن قتادة: أن رجلا أصاب من امرأة قُبْلَةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هلكتُ ! فأنـزل الله: ( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن سليمان التيمي قال: ضرب رجلٌ على كَفَلِ امرأة، ثم أتى أبا بكر وعمر رحمة الله عليهما . فكلما سأل رجلا منهما عن كفارة ذلك قال: أمغزية هي [ مادا ] ؟ قال: نعم قال: لا أدري! ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: أمغزية هي؟ قال: نعم! قال: لا أدري! حتى أنـزل الله: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ) . حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن عطاء، في قول الله: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، أنّ امرأة دخلت على رجل يبيعُ الدقيق، فقبَّلها فأسقِطَ في يده. فأتى عمر فذكر ذلك له، فقال: اتق الله ، ولا تكن امرأةَ غازٍ ! فقال الرجل: هي امرأة غازٍ. فذهب إلى أبى بكر ، فقال مثل ما قال عمر. فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا، فقال له: كذلك، ثم سكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، فأنـزل الله: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) ، الصلوات المفروضات ( إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: أقبلت امرأة حتى جاءت إنسانًا يبيع الدقيق لتبتاع منه، فدخل بها البيت، فلما خلا له قَبَّلها. قال: فسُقِط في يديه، فانطلق إلى أبي بكر، فذكر ذلك له، فقال: أبصر ، لا تكونَنّ امرأة رجل غازٍ ! فبينما هم على ذلك، نـزل في ذلك: ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل ) قيل لعطاء: المكتوبة هي؟ قال: نعم ، هي المكتوبة فقال ابن جريج، وقال عبد الله بن كثير: هي المكتوبات. قال ابن جريج: عن يزيد بن رومان: إن رجلا من بني غنم، دخلت عليه امرأةٌ فقبَّلها ، ووضع يده على دُبُرها. فجاء إلى أبى بكر رضى الله عنه ، ثم جاء إلى عمر رضى الله عنه ، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنـزلت هذه الآية: ( أقم الصلاة ) ، إلى قوله: ( ذلك ذكرى للذاكرين ) ، فلم يزل الرجل الذي قبَّل المرأة يذكر، فذلك قوله: ( ذكرى للذاكرين ) . القول في تأويل قوله تعالى : وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( 115 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واصبر ، يا محمد ، على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى في الله والمكروه ، رجاءَ جزيل ثواب الله على ذلك، فإن الله لا يضيع ثوابَ عمل من أحسن فأطاع الله واتبع أمره ، فيذهب به، بل يوَفّره أحوجَ ما يكون إليه. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ( 116 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فهلا كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم في هذه السورة ، الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي ، وكفرهم برسلي من قبلكم. ( أولو بقية ) ، يقول: ذو بقية من الفهم والعقل، يعتبرون مواعظَ الله ويتدبرون حججه، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله ، وعليهم في الكفر به ( ينهون عن الفساد في الأرض ) ، يقول: ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم ، وأهل الكفر بالله عن كفرهم به ، في أرضه ( إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) ، يقول: لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض ، إلا يسيرًا، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، فنجاهم الله من عذابه، حين أخذ من كان مقيمًا على الكفر بالله عذابُه وهم اتباع الأنبياء والرسل. ونصب « قليلا » لأن قوله: ( إلا قليلا ) استثناء منقطع مما قبله، كما قال: إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا ، [ سورة يونس: 98 ] . وقد بينا ذلك في غير موضع ، بما أغنى عن إعادته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: اعتذر فقال: ( فلولا كان من القرون من قبلكم ) ، حتى بلغ: ( إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) ، فإذا هم الذين نجوا حين نـزل عذاب الله. وقرأ: ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ) ، إلى قوله: ( إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) ، قال: يستقلَّهم الله من كل قوم. حدثنا محمد بن المثني قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألني بلال عن قول الحسن في القدر، قال: فقال: سمعت الحسن يقول: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قال: بعث الله هودًا إلى عاد، فنجى الله هودًا والذين آمنوا معه وهلك المتمتعون. وبعث الله صالحًا إلى ثمود، فنجى الله صالحًا وهلك المتمتعون. فجعلت أستقريه الأمم، فقال: ما أراه إلا كان حسن القول في القَدر . حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) ، أي : لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض ( إلا قليلا ممن أنجينا منهم ) . وقوله: ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، يقول تعالى ذكره: واتبع الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ما أترفوا فيه. ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، قال: ما أُنْظروا فيه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، من دنياهم. وكأنّ هؤلاء وجَّهوا تأويل الكلام: واتبع الذين ظلموا الشيء الذي أنظرهم فيه ربُّهم من نعيم الدنيا ولذاتها، إيثارًا له على عمل الآخرة وما ينجيهم من عذاب الله. وقال آخرون: معنى ذلك: واتبع الذين ظلَموا ما تجبَّروا فيه من الملك ، وعتَوْا عن أمر الله. ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه ) ، قال: في ملكهم وتجبُّرهم، وتركوا الحق. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه، إلا أنه قال: وتركِهم الحق. حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثل حديث محمد بن عمرو سواء. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر تعالى ذكره: أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت فكفروا بالله، اتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا ، فاستكبروا وكفروا بالله ، واتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا، فاستكبروا عن أمر الله وتجبروا وصدوا عن سبيله . وذلك أن المترف في كلام العرب: هو المنعم الذي قد غُذِّي باللذات، ومنه قول الراجز: نُهْــدِي رُءُوسَ المُــتْرَفينَ الصُّـدَّادْ إلــى أمِــير المُــؤْمِنِينَ المُمْتَـادْ وقوله: ( وكانوا مجرمين ) ، يقول: وكانوا مكتسبي الكفر بالله. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ( 117 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان ربك ، يا محمد، ليهلك القرى ، التي أهلكها، التي قَصَّ عليك نبأها، ظُلمًا وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربّهم ، ظلمًا، ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله وتماديهم في غيِّهم، وتكذيبهم رُسُلهم ، وركوبهم السيئات. وقد قيل: معنى ذلك : لم يكن ليهلكهم بشركهم بالله. وذلك قوله « بظلم » يعني: بشرك ( وأهلها مصلحون ) ، فيما بينهم لا يتظالمون، ولكنهم يتعاطَون الحقّ بينهم ، وإن كانوا مشركين، إنما يهلكهم إذا تظالموا. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ( 118 ) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 119 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربك ، يا محمد ، لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة ، ودين واحد، كما:- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ) ، يقول: لجعلهم مسلمين كلهم. وقوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، يقول تعالى ذكره: ولا يزال النَّاس مختلفين ( إلا من رحم ربك ) . ثم اختلف أهل التأويل في « الاختلاف » الذي وصف الله الناس أنهم لا يزالون به. فقال بعضهم: هو الاختلاف في الأديان فتأويل ذلك على مذهب هؤلاء : ولا يزال الناس مختلفين على أديان شتى ، من بين يهوديّ ونصرانيّ، ومجوسي، ونحو ذلك. وقال قائلو هذه المقالة: استثنى الله من ذلك من رحمهم، وهم أهل الإيمان. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: اليهود والنصارى والمجوس، والحنيفيَّة همُ الذين رحم ربُّك حدثني المثني قال ، حدثنا قبيصة قال ، حدثنا سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: اليهود والنصارى والمجوس ، ( إلا من رحم ربك ) ، قال: هم الحنيفية. حدثني يعقوب بن إبراهيم ، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن قال: قلت للحسن قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ، قال: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلفين. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: أهل الباطل ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل الحقّ. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: أهل الباطل ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل الحق. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. . . . . قال، حدثنا معلي بن أسد قال ، حدثنا عبد العزيز، عن منصور بن عبد الرحمن قال: سئل الحسن عن هذه الآية : ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ، قال: الناس كلهم مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلف. فقلت له: ( ولذلك خلقهم ) ؟ فقال: خلق هؤلاء لجنته ، وهؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، حدثنا أبو جعفر، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: أهل الباطل ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل الحق. . . . . قال، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد، قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: أهل الحقّ وأهل الباطل. ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل الحق. . . . . قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك: ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل الحقّ ، ليس فيهم اختلاف. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عكرمة: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: اليهود والنصارى ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل القبلة. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة، عن ابن عباس: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) قال: أهل الباطل ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل الحق. حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ، قال: لا يزالون مختلفين في الهوى. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ، فأهل رحمة الله أهل جماعة ، وإن تفرقت دورهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة ، وإن اجتمعت دورهم وأبدانهم. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ، قال: من جعله على الإسلام. . . . . قال، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا الحسن بن واصل، عن الحسن: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: أهل الباطل ، ( إلا من رحم ربك ) . . . . . قال، حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: أهل الباطل ( إلا من رحم ربك ) ، قال: أهل الحق. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يزالون مختلفين في الرزق، فهذا فقير وهذا غنى. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا معتمر، عن أبيه، أن الحسن قال: مختلفين في الرزق، سخر بعضهم لبعض. وقال بعضهم: مختلفين في المغفرة والرحمة، أو كما قال. قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك، بالصواب قولُ من قال: معنى ذلك: « ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى، إلا من رحم ربك، فآمن بالله وصدق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله ، وتصديق رسله ، وما جاءهم من عند الله » . وإنما قلت ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك، لأن الله جل ثناؤه أتبع ذلك قوله: ( وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين ) ، ففي ذلك دليلٌ واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس، إنما هو خبرٌ عن اختلاف مذموم يوجب لهم النار، ولو كان خبرًا عن اختلافهم في الرزق ، لم يعقّب ذلك بالخبر عن عقابهم وعَذابهم. وأما قوله: ( ولذلك خلقهم ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله: فقال بعضهم: معناه: وللاختلاف خلقهم. ذكر من قال ذلك : حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: للاختلاف. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، حدثنا منصور بن عبد الرحمن، قال: قلت للحسن: ( ولذلك خلقهم ) ؟ فقال: خلق هؤلاء لجنته وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عليه، عن منصور، عن الحسن، مثله. حدثني المثني قال ، حدثنا المعلى بن أسد قال ، حدثنا عبد العزيز، عن منصور بن عبد الرحمن، عن الحسن. بنحوه. . . . . قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، أن الحسن قال في هذه الآية: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: خلق هؤلاء لهذه، وخلق هؤلاء لهذه. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا هوذة بن خليفة قال ، حدثنا عوف، عن الحسن قال: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضرُّهم. حدثني المثني قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: خلقهم فريقين: فريقًا يرحم فلا يختلف، وفريقًا لا يرحم يختلف، وذلك قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، [ سورة هود: 105 ] . حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء في قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، قال: يهود ونصارى ومجوس ( إلا من رحم ربك ) ، قال: من جعله على الإسلام ( ولذلك خلقهم ) ، قال: مؤمن وكافر. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، قال، حدثنا الأعمش : « ولذلك خلقهم » ، قال: مؤمن وكافر. حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال: سئل مالك عن قول الله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ، قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وللرحمة خلقهم. ذكر من قال ذلك : حدثني أبو كريب قال ، حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: للرحمة. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: ( ولذلك خلقهم ) ، قال للرحمة. حدثني المثني قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد، مثله. حدثني المثني قال ، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو حفص، عن ليث، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: للرحمة خلقهم. حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: للرحمة خلقهم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو معاوية، عمن ذكره عن ثابت، عن الضحاك: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: للرحمة. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة: ( ولذلك خلقهم ) ، قال: أهل الحقّ ومن اتبعه لرحمته. حدثني سعد بن عبد الله قال ، حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ( وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ ) ، قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب. قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال: وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم ، لأن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق ، ثم عقَّب ذلك بقوله: ( ولذلك خلقهم ) ، فعمّ بقوله: ( ولذلك خلقهم ) ، صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميَسَّر لما خلق له. فإن قال قائل: فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفون غير ملومين على اختلافهم، إذ كان لذلك خلقهم ربُّهم، وأن يكون المتمتِّعون هم الملومين؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم ، ( إلا من رحم ربك ) ، فهداه للحقّ ولعلمه، وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد خلقهم فمعنى اللام في قوله: ( ولذلك خلقهم ) بمعنى « على » كقولك للرجل: أكرمتك على برك بي، وأكرمتك لبرك بي. وأما قوله: ( وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) ، لعلمه السابق فيهم أنهم يستوجبون صليها بكفرهم بالله، وخلافهم أمره. وقوله: ( وتمت كلمة ربك ) ، قسم كقول القائل: حلفي لأزورنك، وبدًا لي لآتينك ، ولذلك تُلُقِّيَت بلام اليمين. وقوله: ( من الجنة ) ، وهي ما اجتَنَّ عن أبصار بني آدم ( والناس ) ، يعني: وبنى آدم. وقيل: إنهم سموا « الجنة » ، لأنهم كانوا على الجنان. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: وإنما سموا « الجنة » أنهم كانوا على الجنان، والملائكة كلهم « جنة » حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قال: « الجنة » : الملائكة. وأما معنى قول أبى مالك هذا: أن إبليس كان من الملائكة، والجن ذريته، وأن الملائكة تسمى عنده الجن، لما قد بينت فيما مضى من كتابنا هذا. القول في تأويل قوله تعالى : وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( 120 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ( وكلا نقصّ عليك ) ، يا محمد ( من أنباء الرسل ) ، الذين كانوا قبلك ( ما نثبت به فؤادك ) ، فلا تجزع من تكذيب من كذبك من قومك ، وردَّ عليك ما جئتهم به، ولا يضق صدرك ، فتترك بعض ما أنـزلتُ إليك من أجل أن قالوا: لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ كَنْـزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ؟ إذا علمت ما لقي من قبلك من رسلي من أممها، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ) ، قال: لتعلم ما لقيت الرسل قبلك من أممهم. وأختلف أهل العربية في وجه نصب « كلا » . فقال بعض نحويي البصرة: نصب على معنى: ونقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، كلا ، كأنَّ الكلّ منصوب عنده على المصدر من « نقص » بتأويل: ونقص عليك ذلك كلَّ القصص . وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية وقال: ذلك غير جائز ، وقال إنما نصبت « كلا » ب « نقصّ » ، لأن « كلا » بنيت على الإضافة ، كان معها إضافةٌ أو لم يكن وقال: أراد: كلَّه نقص عليك، وجعل « ما نثبت » ردًّا على « كلا » ، وقد بينت الصواب من القول في ذلك. وأما قوله: ( وجاءك في هذه الحق ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله: فقال بعضهم: معناه: وجاءك في هذه السورة الحق. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس، عن أبي موسى: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال: في هذه السورة. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أبي موسى، مثله. حدثنا ابن بشار قال، حدثني سعيد بن عامر قال ، حدثنا عوف، عن أبي رجاء، عن ابن عباس، في قوله: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال: في هذه السورة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن عمرو العنبري، عن ابن عباس: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال: في هذه السورة. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن رجل من بني العنبر قال: خطبنا ابن عباس فقال: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال: في هذه السورة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عباس قرأ هذه السورة على الناس حتى بلغ: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال في هذه السورة. حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عوف، عن مروان الأصغر، عن ابن عباس أنه قرأ على المنبر: ( وجاءك في هذه الحق ) فقال: في هذه السورة حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: ( وجاءك في هذه الحق ) قال: في هذه السورة. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:، في هذه السورة. حدثني المثني قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: هذه السورة. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، مثله. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال: في هذه السورة. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، بمثله. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة، عن أبي رجاء عن الحسن. مثله. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الرحمن، عن أبان بن تغلب، عن مجاهد، مثله. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( وجاءك في هذه الحق ) قال: في هذه السورة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة [ مثله ] . حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا شعبة، عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن البصري يقول في قول الله: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال: يعني في هذه السورة. وقال آخرون: معنى ذلك: وجاءك في هذه الدنيا الحق. ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن قتادة: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال: في هذه الدنيا. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة، عن قتادة: ( وجاءك في هذه الحق ) ، قال: كان الحسن يقول: في الدنيا . قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: وجاءك في هذه السورة الحق ، لإجماع الحجة من أهل التأويل، على أن ذلك تأويله. فإن قال قائل: أو لم يجيء النبي صلى الله عليه وسلم الحق من سور القرآن إلا في هذه السورة ، فيقال : وجاءك في هذه السورة الحق؟ قيل له: بلى ، قد جاءه فيها كلِّها. فإن قال: فما وجه خصُوصه إذًا في هذه السورة بقوله: ( وجاءك في هذه الحق ) ؟ قيل: إن معنى الكلام: وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك في سائر سور القرآن أو إلى ما جاءك من الحق في سائر سور القرآن لا أن معناه: وجاءك في هذه السورة الحق دون سائر سور القرآن. وقوله: ( وموعظة ) يقول: وجاءك موعظةٌ تعظ الجاهلين بالله ، وتبين لهم عبره ممن كفر به وكذب رسله ( وذكرى للمؤمنين ) يقول: وتذكرة تذكر المؤمنين بالله ورسله ، كي لا يغفلوا عن الواجب لله عليهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ( 121 ) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ( 122 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل ، يا محمد ، للذين لا يصدّقونك ولا يقرُّون بوحدانية الله ( اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) ، يقول: على هِينَتكم وتمكنكم ما أنتم عاملوه فإنا عاملون ما نحن عاملوه من الأعمال التي أمرنا الله بها وانتظروا ما وعدكم الشيطان، فإنا منتظرون ما وعدنا الله من حربكم ونصرتنا عليكم، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج في قوله: ( وانتظروا إنا منتظرون ) ، قال: يقول: انتظروا مواعيد الشيطان إياكم على ما يزيّن لكم ( إنا منتظرون ) . القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 123 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولله ، يا محمد ، ملك كل ما غاب عنك في السموات والأرض فلم تطلع ولم تعلمه ، ولم تعلمه ، كل ذلك بيده وبعلمه، لا يخفى عليه منه شيء، وهو عالم بما يعمله مشركو قومك ، وما إليه مصير أمرهم ، من إقامة على الشرك ، أو إقلاعٍ عنه وتوبة ( وإليه يرجع الأمر كله ) ، يقول: وإلى الله مَعَادُ كل عامل وعمله، وهو مجازٍ جميعَهم بأعمالهم، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: ( وإليه يرجع الأمر كله ) ، قال: فيقضي بينهم بحكمه بالعدل. ( فاعبده ) ، يقول: فاعبد ربك يا محمد ( وتوكل عليه ) ، يقول: وفوِّض أمرك إليه ، وثق به وبكفايته، فإنه كافي من توكل عليه. وقوله: ( وما ربك بغافل عما تعملون ) ، يقول تعالى ذكره: وما ربك ، يا محمد ، بساه عما يعمل هؤلاء المشركون من قومك ، بل هو محيط به ، لا يعزب عنه شيء منه، وهو لهم بالمرصاد، فلا يحزنك إعراضهم عنك ، ولا تكذيبهم بما جئتهم به من الحقّ، وامض لأمر ربّك، فإنك بأعيننا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب ، قال: خاتمة « التوراة » ، خاتمة « هود » ( آخر تفسير سورة هود ، والحمد لله وحده ) الرئيسة المصحف الإلكتروني www.e-quran.com. جميع الحقوق محفوظة. للللللللللللللللللللللللللللللللللللللللللللل\\ فهرس تفسير الطبري للسور 13 - تفسير الطبري سورة الرعد التالي السابق تفسير سورة الرعد ( أول تفسير السورة التي يذكر فيها الرعد ) ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ( ربِّ يسِّر ) القول في تأويل قوله تعالى : المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ( 1 ) قال أبو جعفر: قد بينا القول في تأويل قوله الر و ( المر ) ، ونظائرهما من حروف المعجم التي افتتح بها أوائل بعض سور القرآن، فيما مضى، بما فيه الكفاية من إعادتها غير أنا نذكر من الرواية ما جاء خاصًّا به كل سورة افتتح أولها بشيء منها. فما جاء من الرواية في ذلك في هذه السورة عن ابن عباس من نقل أبي الضحى مسلم بن صبيح وسعيد بن جبير عنه، التفريقُ بين معنى ما ابتدئ به أولها، مع زيادة الميم التي فيها على سائر السور ذوات الر ومعنى ما ابتدئ به أخواتها مع نقصان ذلك منها عنها. ذكر الرواية بذلك عنه: حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن، عن هشيم, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( المر ) قال: أنا الله أرى . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك, عن عطاء بن السائب, عن أبي الضحى, عن ابن عباس: قوله: ( المر ) قال: أنا الله أرى . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال: حدثنا سفيان, عن مجاهد: ( المر ) : فواتح يفتتح بها كلامه . وقوله: ( تلك آيات الكتاب ) يقول تعالى ذكره: تلك التي قصصت عليك خبرَها، آيات الكتاب الذي أنـزلته قبل هذا الكتاب الذي أنـزلته إليك إلى من أنـزلته إليه من رسلي قبلك . وقيل: عنى بذلك: التوراة والإنجيل . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( المر تلك آيات الكتاب ) الكتُب التي كانت قبل القرآن . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان, عن مجاهد: ( تلك آيات الكتاب ) قال: التوراة والإنجيل . وقوله: ( والذي أنـزل إليك من ربك الحق ) [ القرآن ] ، فاعمل بما فيه واعتصم به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال: حدثنا سفيان, عن مجاهد: ( والذي أنـزل إليك من ربك الحق ) قال: القرآن . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( والذي أنـزل إليك من ربك الحق ) : أي: هذا القرآن . وفي قوله: ( والذي أنـزل إليك ) وجهان من الإعراب: أحدهما: الرفع، على أنه كلام مبتدأ, فيكون مرفوعا بـ « الحق » و « الحق به » . وعلى هذا الوجه تأويل مجاهد وقتادة الذي ذكرنا قبل عنهما . والآخر: الخفض على العطف به على ( الكتاب ) , فيكون معنى الكلام حينئذ: تلك آياتُ التوراة والإنجيل والقرآن. ثم يبتدئ ( الحق ) بمعنى: ذلك الحق فيكون رفعه بمضمر من الكلام قد استغنى بدلالة الظاهر عليه منه . ولو قيل: معنى ذلك: تلك آيات الكتاب الذي أنـزل إليك من ربك الحق وإنما أدخلت الواو في « والذي » , وهو نعت للكتاب, كما أدخلها الشاعر في قوله: إلَــى المَلِـكِ القَـرْمِ وَابْـنِ الهُمَـامِ وَلَيْــثَ الكَتِيبَــةِ فِــي المُزْدَحَـمْ فعطف بـ « الواو » , وذلك كله من صفة واحد, كان مذهبًا من التأويل. ولكن ذلك إذا تُؤُوِّل كذلك فالصواب من القراءة في ( الحق ) الخفض، على أنه نعت لـ ( الذي ) . وقوله: ( ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ) ولكن أكثر الناس من مشركي قومك لا يصدقون بالحقّ الذي أنـزل إليك من ربك, ولا يقرّون بهذا القرآن وما فيه من محكم آيه . القول في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ( 2 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله، يا محمد، هو الذي رفع السموات السبع بغير عَمَد ترونها, فجعلها للأرض سقْفًا مسموكًا . و « العَمَد » جمع « عمود » , وهي السَّواري, وما يعمد به البناء, كما قال النابغة: وَخَـيِّسِ الجِـنَّ إنِّـي قَـدْ أذِنْـتُ لَهُمْ يَبْنُــون تَدْمُــرَ بِالصُّفَّـاحِ وَالعَمَـدِ وجمع « العمود: » « عَمَد, » كما جمع الأديم: « أدَم » , ولو جمع بالضم فقيل: « عُمُد » جاز, كما يجمع « الرسول » « رسل » , و « الشَّكور » « شكر » . واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( رفع السماوات بغير عمد ترونها ) . فقال بعضهم: تأويل ذلك: الله الذي رفع السموات بعَمَدٍ لا ترونها . ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن هشام قال: حدثنا معاذ بن معاذ قال: حدثنا عمران بن حدير, عن عكرمة قال: قلت لابن عباس: إن فلانًا يقول: إنها على عمد يعنى السماء؟ قال: فقال: اقرأها ( بغير عمَدٍ ترونها ) : أي لا ترونها . حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح قال: حدثنا معاذ بن معاذ, عن عمران بن حدير, عن عكرمة, عن ابن عباس, مثله . حدثنا الحسن بن محمد قال: ثنا عفان قال: حدثنا حماد قال: حدثنا حميد, عن الحسن بن مسلم, عن مجاهد في قوله: ( بغير عمد ترونها ) ، قال: بعمد لا ترونها . حدثني المثنى قال: حدثنا الحجاج قال: حدثنا حماد, عن حميد, عن الحسن بن مسلم, عن مجاهد, في قول الله: ( بغير عمد ترونها ) قال: هي لا ترونها . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( بغير عمد ) يقول: عمد [ لا ترونها ] . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . ...... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن الحسن وقتادة قوله: ( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ) قال قتادة: قال ابن عباس: بعَمَدٍ ولكن لا ترونها . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس, قوله: ( رفع السماوات بغير عمد ترونها ) قال: ما يدريك؟ لعلها بعمد لا ترونها. ومن تأوَّل ذلك كذلك, قصد مذهب تقديم العرب الجحدَ من آخر الكلام إلى أوله, كقول الشاعر وَلا أرَاهَـــا تَـــزَالُ ظَالِمَـــةً تُحْــدِثُ لِــي نَكْبَــةً وتَنْكَؤُهَــا يريد: أراها لا تزال ظالمة, فقدم الجحد عن موضعه من « تزال » , وكما قال الآخر: إذَا أَعْجَـبَتْكَ الدَّهْـرَ حَـالٌ مِنَ امْرِئٍ فَدَعْــهُ وَوَاكِــلْ حَالَــهُ وَاللَّيَاليَـا يَجِـئْنَ عَـلَى مَـا كَـانَ مِنْ صَالحٍ بِهِ وَإنْ كَـانَ فِيمـا لا يَـرَى النَّـاسُ آلِيَا يعني: وإن كان فيما يرى الناس لا يألو . وقال آخرون، بل هي مرفوعة بغير عمد . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن خلف العسقلاني قال: أخبرنا آدم قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن إياس بن معاوية, في قوله: ( رفع السماوات بغير عمد ترونها ) قال: السماء مقبّبة على الأرض مثل القبة . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( بغير عمد ترونها ) قال: رفعها بغير عمد . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله تعالى: ( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ) فهي مرفوعة بغير عمد نَراها, كما قال ربنا جل ثناؤه . ولا خبر بغير ذلك, ولا حجة يجب التسليم لها بقول سواه . وأما قوله: ( ثم استوى على العرش ) فإنه يعني: علا عليه . وقد بينا معنى الاستواء واختلاف المختلفين فيه، والصحيح من القول فيما قالوا فيه، بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقوله: ( وسخر الشمس والقمر ) يقول: وأجرى الشمس والقمر في السماء, فسخرهما فيها لمصالح خلقه, وذلَّلَهما لمنافعهم, ليعلموا بجريهما فيها عدد السنين والحساب, ويفصلوا به بين الليل والنهار . وقوله: ( كل يجري لأجل مسمَّى ) يقول جل ثناؤه: كل ذلك يجري في السماء ( لأجل مسمى ) : أي: لوقت معلوم, وذلك إلى فناء الدنيا وقيام القيامة التي عندها تكوَّر الشمس, ويُخْسف القمر، وتنكدر النجوم. وحذف ذلك من الكلام، لفهم السامعين من أهل لسان من نـزل بلسانه القرآن معناه, وأن ( كلّ ) لا بدَّ لها من إضافة إلى ما تحيط به . وبنحو الذي قلنا في قوله: ( لأجل مسمى ) قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمّى ) قال: الدنيا . وقوله: ( يدبِّر الأمر ) يقول تعالى ذكره: يقضي الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها أمورَ الدنيا والآخرة كلها, ويدبِّر ذلك كله وحده, بغير شريك ولا ظهير ولا معين سُبْحانه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ( يدبر الأمر ) يقضيه وحده . ......... قال حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, بنحوه . وقوله: ( يفصل الآيات ) يقول: يفصل لكم ربُّكم آيات كتابه, فيبينها لكم احتجاجًا بها عليكم، أيها الناس ( لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) يقول: لتوقنوا بلقاء الله, والمعاد إليه, فتصدقوا بوعده ووعيده، وتنـزجروا عن عبادة الآلهة والأوثان, وتخلصوا له العبادة إذا أيقنتم ذلك . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) ، وإن الله تبارك وتعالى إنما أنـزل كتابه وأرسل رسله، لنؤمن بوعده, ونستيقن بلقائه . القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 3 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله الذي مَدَّ الأرض, فبسطها طولا وعرضًا . وقوله: ( وجعل فيها رواسي ) يقول جل ثناؤه: وجعل في الأرض جبالا ثابتة. و « الرواسي: » جمع « راسية » ، وهي الثابتة, يقال منه: « أرسيت الوتد في الأرض » : إذا أثبته, كما قال الشاعر: بــهِ خَــالِدَاتٌ مَـا يَـرِمْنَ وهَـامِدٌ وَأشْــعَثُ أرْسَــتْهُ الوَلِيـدَةُ بِـالفِهْرِ يعني: أثبتته . وقوله: ( وأنهارًا ) يقول: وجعل في الأرض أنهارًا من ماء . وقوله: ( ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ) فـ ( من ) في قوله ( ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ) من صلة ( جعل ) الثاني لا الأول . ومعنى الكلام: وجعل فيها زوجين اثنين من كل الثمرات . وعنى بـ ( زوجين اثنين ) : من كل ذكر اثنان, ومن كل أنثى اثنان, فذلك أربعة، من الذكور اثنان، ومن الإناث اثنتان في قول بعضهم . وقد بينا فيما مضى أن العرب تسمي الاثنين: ( زوجين ) , والواحد من الذكور « زوجًا » لأنثاه, وكذلك الأنثى الواحدة « زوجًا » و « زوجة » لذكرها, بما أغمى عن إعادته في هذا الموضع . ويزيد ذلك إيضاحًا قول الله عز وجل: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى [ سورة النجم: 45 ] فسمى الاثنين الذكر والأنثى ( زوجين ) . وإنما عنى بقوله: ( زوجين اثنين ) ، نوعين وضربين . وقوله: ( يغشي الليل النهار ) ، يقول: يجلِّل الليلُ النهارَ فيلبسه ظلمته, والنهارُ الليلَ بضيائه، كما:- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( يغشي الليل النهار ) أي: يلبس الليل النهار . وقوله: ( إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) ، يقول تعالى ذكره: إن فيما وصفت وذكرت من عجائب خلق الله وعظيم قدرته التي خلق بها هذه الأشياء, لَدلالات وحججًا وعظات, لقوم يتفكرون فيها، فيستدلون ويعتبرون بها, فيعلمون أن العبادة لا تصلح ولا تجوز إلا لمن خلقها ودبَّرها دون غيره من الآلهة والأصنام التي لا تقدر على ضر ولا نفع ولا لشيء غيرها, إلا لمن أنشأ ذلك فأحدثه من غير شيء تبارك وتعالى وأن القدرة التي أبدع بها ذلك، هي القدرة التي لا يتعذَّر عليه إحياء من هلك من خلقه، وإعادة ما فني منه وابتداع ما شاء ابتداعَه بها . القول في تأويل قوله تعالى : وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 4 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ( وفي الأرض قطع متجاورات ) ، وفي الأرض قطع منها متقاربات متدانيات، يقرب بعضها من بعض بالجوار, وتختلف بالتفاضل مع تجاورها وقرب بعضها من بعض, فمنها قِطْعة سَبَخَةٌ لا تنبت شيئًا في جوار قطعة طيبة تنبت وتنفع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد: ( وفي الأرض قطع متجاورات ) قال: السَّبَخة والعَذِيَة, والمالح والطيب . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, قوله: ( وفي الأرض قطع متجاورات ) قال: سِبَاخٌ وعَذَويّة . حدثني المثنى قال: ثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, مثله . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا إسحاق بن سليمان, عن أبي سنان, عن ابن عباس في قوله: ( وفي الأرض قطع متجاورات ) قال: العَذِيَة والسَّبخة . حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وفي الأرض قطع متجاورات ) يعني: الأرض السبخة, والأرض العذية, يكونان جميعًا متجاورات, يُفضِّل بعضها على بعض في الأكُل . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( قطع متجاورات ) العذية والسبخة، متجاورات جميعًا, تنبت هذه, وهذه إلى جنبها لا تُنْبِت . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( قطع متجاورات ) طيِّبها: عذبُها, وخبيثها: السَّباخ . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه . ...... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وفي الأرض قطع متجاورات ) قُرًى قَرُبت متجاورات بعضها من بعض . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وفي الأرض قطع متجاورات ) قال: قُرًى متجاورات . حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا هشيم, عن أبي إسحاق الكوفي, عن الضحاك, في قوله: ( قطع متجاورات ) قال: الأرض السبخة، تليها الأرض العَذِية . حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وفي الأرض قطع متجاورات ) يعني الأرض السَّبِخة والأرض العَذِيَة, متجاورات بعضها عند بعض . حدثنا الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: ( وفي الأرض قطع متجاورات ) قال: الأرض تنبت حُلوًا, والأرض تنبت حامضًا, وهي متجاورة تسقى بماءٍ واحد. حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( وفي الأرض قطع متجاورات ) قال: يكون هذا حلوًا وهذا حامضًا, وهو يسقى بماء واحد, وهن متجاورات . حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة, عن ابن شوذب في قوله: ( وفي الأرض قطع متجاورات ) قال: عَذِيَة ومالحة . وقوله: ( وجنات من أعناب وزرع ونخيل صِنْوان وغير صنوان يسقى بماء واحدٍ ونفضّل بعضها على بعض في الأكُل ) يقول تعالى ذكره: وفي الأرض مع القطع المختلفات المعاني منها, بالملوحة والعذوبة, والخبث والطيب, مع تجاورها وتقارب بعضها من بعض, بساتين من أعناب وزرع ونخيلٍ أيضًا, متقاربةٌ في الخلقة مختلفة في الطعوم والألوان, مع اجتماع جميعها على شرب واحد. فمن طيّبٍ طعمُه منها حسنٍ منظره طيبةٍ رائحته, ومن حامضٍ طعمه ولا رائحة له . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال: ثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ) قال: مجتمع وغير مجتمع « تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل » ، قال: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ والكمثرى والعنب الأبيض والأسود, وبعضها أكثر حملا من بعض, وبعضه حلو, وبعضه حامض, وبعضه أفضل من بعض . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وجنات ) قال: وما معها . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال المثنى, وحدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( وزرع ونخيل ) فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والكوفة: ( وَزَرْعٍ وَنَخِيلٍ ) بالخفض عطفًا بذلك على « الأعناب » , بمعنى: وفي الأرض قطعٌ متجاوراتٌ, وجناتٌ من أعناب ومن زرع ونخيل . وقرأ ذلك بعض قرأة أهل البصرة: ( وَزَرْعٌ ونَخِيلٌ ) بالرفع عطفًا بذلك على « الجنات » , بمعنى: وفي الأرض قطعٌ متجاوراتٌ وجناتٌ من أعناب, وفيها أيضًا زرعٌ ونخيلٌ . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان متقاربتا المعنى, وقرأ بكل واحدةٍ منهما قرأة مشهورون, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أن « الزرع والنخيل » إذا كانا في البساتين فهما في الأرض, وإذا كانا في الأرض فالأرض التي هما فيها جنة, فسواءٌ وُصِفَا بأنهما في بستانٍ أو في أرضٍ . وأما قوله: ( ونخيل صنوان وغير صنوان ) . فإن « الصنوان: » جمع « صنو » , وهي النخلات يجمعهن أصل واحد, لا يفرَّق فيه بين جميعه واثنيه إلا بالإعراب في النون, وذلك أن تكون نونه في اثنيه مكسورةً بكل حال, وفي جميعه متصرِّفة في وجوه الإعراب, ونظيره « القِنْوان » : واحدها « قِنْوٌ » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء: ( صنوان ) قال: المجتمع ( وغير صنوان ) : المتفرِّق . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا الحسين, عن أبي إسحاق, عن البراء قال: ( صنوان ) : هي النخلة التي إلى جنبها نخلاتٌ إلى أصلها, ( وغير صنوان ) : النخلة وحدَها . حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء بن عازب: ( صنوان وغير صنوان ) قال: « الصنوان » : النخلتان أصلهما واحد, ( وغير صنوان ) النخلة والنخلتان المتفرّقتان . حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول في هذه الآية قال: النخلة تكون لها النخلات ( وغير صنوان ) النخل المتفرّق . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا عمرو بن الهيثم أبو قطن, ويحيى بن عباد وعفان, واللفظ لفظ أبي قطن قال،حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق, عن البراء, في قوله: ( صنوان وغير صنوان ) قال: « الصنوان » : النخلة إلى جنبها النخلات ( وغير صنوان ) : المتفرق . حدثنا الحسن قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء في قوله: ( صنوان وغير صنوان ) قال: « الصنوان » ، النخلات الثلاث والأربع والثنتان أصلهن واحد ( وغير صنوان ) ، المتفرّق . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان وشريك, عن أبي إسحاق, عن البراء في قوله: ( صنوان وغير صنوان ) قال: النخلتان يكون أصلهما واحد ( وغير صنوان ) : المتفرّق . حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( صنوان ) يقول: مجتمع . حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( ونخيل صنوان وغير صنوان ) يعني بالصنوان: النخلة يخرج من أصلها النخلات, فيحمل بعضه ولا يحمل بعضه, فيكون أصله واحدا ورءوسه متفرقة . حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: ( صنوان وغير صنوان ) النخيل في أصل واحد وغير صنوان: النخيل المتفرّق . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: ( ونخيل صنوان وغير صنوان ) قال: مجتمع, وغير مجتمع . حدثني المثنى قال: حدثنا النفيلي قال: حدثنا زهير قال: حدثنا أبو إسحاق, عن البراء قال: « الصنوان » : ما كان أصله واحدًا وهو متفرق ( وغير صنوان ) : الذي نبت وحدَه . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( صنوان ) النخلتان وأكثر في أصل واحد ( وغير صنوان ) وحدَها . حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( صنوان ) : النخلتان أو أكثر في أصل واحد, ( وغير صنوان ) واحدة . ...... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع, عن سلمة بن نبيط, عن الضحاك: ( صنوان وغير صنوان ) قال: الصنوان: المجتمع أصله واحد, وغير صنوان: المتفرق أصله . حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم , عن جويبر, عن الضحاك, في قوله: ( صنوان وغير صنوان ) قال: « الصنوان » : المجتمع الذي أصله واحد ( وغير صنوان ) : المتفرّق . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( ونخيل صنوان وغير صنوان ) أما « الصنوان » : فالنخلتان والثلاث أصولُهن واحدة وفروعهن شتى, ( وغير صنوان ) ، النخلة الواحدة . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( صنوان وغير صنوان ) قال: صنوان: النخلة التي يكون في أصلها نخلتان وثلاث أصلهنّ واحدٌ . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ونخيل صنوان وغير صنوان ) قال: « الصنوان » : النخلتان أو الثلاث يكنَّ في أصل واحد, فذلك يعدُّه الناس صنوانًا . حدثنا ابن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال: حدثني رجل: أنه كان بين عمر بن الخطاب وبين العباس قول, فأسرع إليه العباس, فجاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, ألم تر عباسًا فعل بي وفعل! فأردت أن أجيبه, فذكرتُ مكانه منك فكففت: فقال: يرحمك الله، إنّ عمّ الرجل صِنْوُ أبيه . حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر, عن قتادة: ( صنوان ) : النخلة التي يكون في أصلها نخلتان وثلاث أصلهن واحد ; قال: فكان بين عمر بن الخطاب وبين العباس رضي الله عنهما قولٌ, فأسرع إليه العباس, فجاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله ألم تر عباسًا فعل بي وفعل! فأردت أن أجيبه. فذكرتُ مكانه منك فكففت عند ذلك, فقال: يرحمك الله إن عم الرجل صِنْو أبيه . ............... قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة, عن داود بن شابور, عن مجاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تؤذوني في العباس فإنه بقية آبائي, وإنّ عمّ الرجل صنو أبيه . حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا حجاج, عن عطاء, وابن أبي مليكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: يا عمر أما علمت أن عم الرجل صِنْوُ أبيه؟. حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: أخبرني القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: ( صنوان قال: في أصل واحد ثلاث نخلات, كمثل ثلاثةٍ بني أم وأب يتفاضلون في العمل, كما يتفاضل ثمر هذه النخلات الثلاث في أصل واحد قال ابن جريج: قال مجاهد: كمثل صالح بنى آدم وخبيثهم، أبوهم واحد . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا حجاج بن محمد, عن ابن جريج قال: أخبرني إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله, عن مجاهد, نحوه . حدثني القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن أبي بكر بن عبد الله, عن الحسن قال: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم. كانت الأرض في يد الرحمن طينةً واحدة, فسطحها وبَطَحها, فصارت الأرض قطعًا متجاورة, فينـزل عليها الماء من السماء, فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها. وتخرج نباتها وتحيي مواتها, وتخرج هذه سبَخَها وملحها وخَبَثَها, وكلتاهما تسقى بماء واحد. فلو كان الماء مالحا, قيل: إنما استسبخت هذه من قبل الماء! كذلك الناس خلقوا من آدم, فتنـزل عليهم من السماء تذكرة, فترقّ قلوب فتخشع وتخضع, وتقسو قلوب فتلهو وتسهو وتجفو . قال الحسن: والله من جالس القرآن أحدٌ إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله: وَنُنَـزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا [ سورة الإسراء:82 ] . وقوله : ( تسقى بماء واحد ) اختلفت القرأء في قوله ( تسقى ) . فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة والعراق من أهل الكوفة والبصرة: ( تُسْقَى ) بالتاء, بمعنى: تسقى الجناتُ والزرع والنخيل . وقد كان بعضهم يقول: إنما قيل: ( تسقى ) ، بالتاء لتأنيث « الأعناب » . وقرأ ذلك بعض المكيين والكوفيين: ( يُسْقَى ) بالياء . وقد اختلف أهل العربية في وجه تذكيره إذا قرئ كذلك, وإنما ذلك خبرٌ عن الجنات والأعناب والنخيل والزرع أنها تسقى بماء واحد. فقال بعض نحويي البصرة: إذا قرئ ذلك بالتاء, فذلك على « الأعناب » كما ذكّر الأنعام في قوله: مِمَّا فِي بُطُونِهِ [ سورة النحل: 66 ] وأنث بعدُ فقال: وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ، [ سورة المؤمنون:22/ سورة غافر:80 ] . فمن قال: ( يسقى ) بالياء جعل « الأعناب » مما تذكّر وتؤنث, مثل « الأنعام » . وقال بعض نحويي الكوفة: من قال و ( تسقى ) ذهب إلى تأنيث « الزرع والجنات والنخيل » , ومن ذكَّر ذهب إلى أن ذلك كله يُسْقَى بماء واحد, وأكلُه مختلفٌ حامض وحلو, ففي هذا آية . قال أبو جعفر: وأعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها, قراءة من قرأ ذلك بالتاء: ( تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ ) على أن معناه: تسقى الجنات والنخل والزرع بماء واحد، لمجيء ( تسقى ) بعد ما قد جرى ذكرها, وهي جِمَاعٌ من غير بني آدم, وليس الوجه الآخر بممتنع على معنى يسقى ذلك بماء واحد: أي جميع ذلك يسقى بماءٍ واحدٍ عذب دون المالح . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قوله: ( تسقى بماء واحد ) ماء السماء، كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحدٌ . حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد: ( تسقى بماء واحد ) قال: ماء السماء . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, مثله . حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو قال: أخبرنا هشيم, عن أبي إسحاق الكوفي, عن الضحاك: ( تسقى بماء واحد ) قال: ماء المطر . حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك, قرأه ابن جريج, عن مجاهد: ( تسقى بماء واحد ) قال: ماء السماء, كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحدٌ . 20119...... قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل وحدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه . حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة, عن ابن شوذب: ( تسقى بماء واحد ) قال: بماء السماء . وقوله: ( ونفضّل بعضها على بعض في الأكل ) اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة المكيين والمدنيين والبصريين وبعض الكوفيين: ( وَنُفَضِّلُ ) ، بالنون بمعنى: ونفضّل نحن بعضها على بعض في الأكل . وقرأته عامة قرأة الكوفيين: ( وَيُفَضِّلُ ) بالياء, ردا على قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ( ويفضل بعضها على بعض ) . قال أبو جعفر: وهما قراءتان مستفيضتان بمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. غير أن « الياء » أعجبهما إليّ في القراءة؛ لأنه في سياق كلام ابتداؤه اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ فقراءته بالياء، إذ كان كذلك أولى . ومعنى الكلام: إن الجنات من الأعناب والزرع والنخيل الصنوان وغير الصنوان, تسقى بماء واحد عذب لا ملح, ويخالف الله بين طعوم ذلك, فيفضّل بعضها على بعض في الطعم, فهذا حلو وهذا حامضٌ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) قال: الفارسيّ والدَّقَل، والحلو والحامض . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) قال: الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ والكمثرى والعنب الأبيض والأسود, وبعضها أكثر حملا من بعض, وبعضه حلو وبعضه حامض, وبعضه أفضل من بعض . حدثني المثنى قال: حدثنا عارم أبو النعمان قال: حدثنا حماد بن زيد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) قال: بَرْنيّ وكذا وكذا, وهذا بعضه أفضل من بعض . حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال: حدثنا سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) قال: هذا حامض, وهذا حلو, وهذا مُزٌّ . حدثني محمود بن خداش قال: حدثنا سيف بن محمد بن أخت سفيان الثوري قال: حدثنا الأعمش عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) قال: الدَّقَل والفارسيّ والحلو والحامض. حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال: حدثنا سليمان بن عبد الله الرقي قال: حدثنا عبيد الله بن عمر الرقي, عن زيد بن أبي أنيسة, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم, في قوله: ( ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) قال: الدَّقل والفارسيّ والحلو والحامض. وقوله: ( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) يقول تعالى ذكره: إن في مخالفة الله عز وجل بين هذا القطع [ من ] الأرض المتجاورات وثمار جناتها وزروعها على ما وصفنا وبينَّا، لدليلا واضحًا وعبرة لقوم يعقلون اختلاف ذلك, أن الذي خالف بينه على هذا النحو الذي خالف بينه, هو المخالف بين خلقه فيما قسم لهم من هداية وضلال وتوفيق وخذلان, فوفّق هذا وخذل هذا, وهدى ذا وأضل ذا, ولو شاء لسوَّى بين جميعهم, كما لو شاء سوَّى بين جميع أكل ثمار الجنة التي تشرب شربًا واحدًا, وتسقى سقيًا [ واحدًا ] ، وهي متفاضلة في الأكل . القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 5 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( وإن تعجب ) يا محمد، من هؤلاء المشركين المتَّخذين ما لا يضرُّ ولا ينفع آلهةً يعبدونها من دوني فعجب قولهم ( أئذا كنا ترابا ) وبَلِينا فعُدِمنا ( أئنا لفي خلق جديد ) إنا لمجدَّدٌ إنشاؤنا وإعادتنا خلقًا جديدًا كما كنا قبل وفاتنا!! تكذيبًا منهم بقدرة الله, وجحودًا للثواب والعقاب والبعث بعد الممات، كما:- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وإن تعجب فعجب ) إن عجبت يا محمد، ( فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ) ، عجب الرحمن تبارك وتعالى من تكذيبهم بالبعث بعد الموت . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإن تعجب فعجب قولهم ) قال: إن تعجب من تكذيبهم, وهم قد رأوا من قدرة الله وأمره وما ضرب لهم من الأمثال, فأراهم من حياة الموتى في الأرض الميتة, إن تعجب من هذه فتعجَّب من قولهم: ( أئذا كنا ترابًا أئنا لفي خلق جديد ) ، أو لا يرون أنا خلقناهم من نطفة؟ فالخلق من نطفة أشدُّ أم الخلق من ترابٍ وعظام؟ . واختَلَف في وَجْه تكرير الاستفهام في قوله: ( أئنا لفي خلق جديد ) ، بعد الاستفهام الأول في قوله: ( أئذا كنا ترابا ) ، أهلُ العربية. فقال بعض نحويي البصرة: الأوّل ظرف, والآخر هو الذي وقع عليه الاستفهام، كما تقول: أيوم الجمعة زيدٌ منطلق؟ قال: ومن أوقع استفهامًا آخر على قوله: ( أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا ) ، جعله ظرفًا لشيء مذكور قبله, كأنهم قيل لهم: « تبعثون » , فقالوا: ( أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا ) ؟ ثم جعل هذا استفهامًا آخر . قال: وهذا بعيدٌ . قال: وإن شئت لم تجعل في قولك: ( أئذا ) استفهامًا, وجعلت الاستفهام في اللفظ على ( أئنا ) ، كأنك قلت: أيوم الجمعة أعبد الله منطلق؟ وأضمرت نفيه. فهذا موضعُ ما ابتدأت فيه بـ ( أئذا ) ، وليس بكثير في الكلام لو قلت: « اليوم إنّ عبد الله منطلق » ، لم يحسن, وهو جائز, وقد قالت العرب: « ما علمت إنَّه لصالح » , تريد: إنه لصالح ما علمت . وقال غيره: ( أئذا ) جزاء وليست بوقت, وما بعدها جواب لها، إذا لم يكن في الثاني استفهام، والمعنى له, لأنه هو المطلوب, وقال: ألا ترى أنك تقول: « أإن تقم يقوم زيد، ويقم؟ » ، من جزم فلأنه وقع موقع جواب الجزاء, ومن رفع فلأن الاستفهام له، واستشهد بقول الشاعر: حَـلَفْتُ لَـهُ إنْ تُـدْلِجِ الليـلَ لا يَـزَلْ أَمَــامَكَ بَيْـتٌ مِـنْ بُيُـوتِيَ سَـائِرُ فجزم جواب اليمين لأنه وقع موقع جواب الجزاء, والوجه الرفع . قال: فهكذا هذه الآية . قال: ومن أدخل الاستفهام ثانية, فلأنه المعتمد عليه, وترك الجزء الأوّل . وقوله: ( أولئك الذين كفروا بربهم ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين أنكروا البعث وجَحدُوا الثواب والعقاب، وقالوا: ( أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) هم الذين جحدوا قدرة ربِّهم وكذبوا رسوله, وهم الذين في أعناقهم الأغلال يوم القيامة في نار جهنم، فأولئك ( أصحاب النار ) ، يقول: هم سكان النار يوم القيامة ( هم فيها خالدون ) يقول: هم فيها ماكثون أبدًا, لا يموتون فيها, ولا يخرجون منها . القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ( 6 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( ويستعجلونك ) يا محمد، مشركو قومك بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية, فيقولون: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [ سورة الأنفال: 32 ] وهم يعلمون ما حَلَّ بمن خلا قبلهم من الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها من عقوبات الله وعظيم بلائه, فمن بين أمة مسخت قردة وأخرى خنازير, ومن بين أمّة أهلكت بالرَّجْفة, وأخرى بالخسف, وذلك هو ( المثلات ) التي قال الله جل ثناؤه . ( وقد خلت من قبلهم المثلات ) . و ( المثلات ) ، العقوبات المنكِّلات, والواحدة منها: « مَثُلة » بفتح الميم وضم الثاء, ثم تجمع « مَثُلات » ، كما واحدة « الصَّدُقَات » « صَدُقَة » , ثم تجمع « صَدُقَات » . وذكر أن تميمًا من بين العرب تضم الميم والثاء جميعًا من « المُثُلات » , فالواحدة على لغتهم منها: « مُثْلة » , ثم تجمع « مُثُلات » , مثل « غُرْفة » وغُرُفات, والفعل منه: « مَثَلْت به أمْثُلُ مَثْلا » بفتح الميم وتسكين الثاء, فإذا أردت أنك أقصصته من غيره, قلت: « أمثلته من صاحبه أُمْثِلُه إمْثالا وذلك إذا أقصصته منه . » وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وقد خلت من قبلهم المثلات ) ، وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم وقوله: ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ) ، وهم مشركو العرب استعجلوا بالشرّ قبل الخير, وقالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، [ سورة الأنفال:32 ] . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ) قال: بالعقوبة قبل العافية ( وقد خلت من قبلهم المثلات ) قال: العقوبات . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبى نجيح, عن مجاهد, قوله: ( المثلات ) قال: الأمْثَال . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وحدثني المثنى: قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وقد خلت من قبلهم المثلات ) قال: ( المثلات ) ، الذي مَثَل الله به الأممَ من العذاب الذي عذَّبهم، تولَّت المثلات من العذاب, قد خلت من قبلهم, وعرفوا ذلك, وانتهى إليهم ما مَثَلَ الله بهم حين عصَوه وعَصوا رُسُله . حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا سليم قال: سمعت الشعبي يقول في قوله: ( وقد خلت من قبلهم المثلات ) ، قال: القردة والخنازير هي المثلات . وقوله: ( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) ، يقول تعالى ذكره: وإن ربك يا محمد لذو سترٍ على ذنوب من تاب من ذنوبه من الناس, فتاركٌ فضيحته بها في موقف القيامة, وصافحٌ له عن عقابه عليها عاجلا وآجلا ( على ظلمهم ) ، يقول: على فعلهم ما فعلوا من ذلك بغير إذني لهم بفعله ( وإن ربك لشديد العقاب ) ، لمن هلك مُصِرًّا على معاصيه في القيامة، إن لم يعجِّل له ذلك في الدنيا, أو يجمعهما له في الدنيا والآخرة . قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهرَ خبرٍ, فإنه وعيدٌ من الله وتهديدٌ للمشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم, إن هم لم ينيبوا ويتوبوا من كفرهم قبل حُلول نقمة الله بهم . حدثني علي بن داود قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وإن ربك لذو مغفرة للناس ) ، يقول: ولكنّ ربَّك . القول في تأويل قوله تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ( 7 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( ويقول الذين كفروا ) يا محمد، من قومك ( لولا أنـزل عليه آية من ربه ) هلا أنـزل على محمد آية من ربه؟ يعنون علامةً وحجةً له على نبوّته وذلك قولهم: لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ كَنْـزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [ سورة هود: 12 ] يقول الله له: يا محمد ( إنما أنت منذر ) لهم, تنذرهم بأسَ الله أن يحلّ بهم على شركهم . ( ولكل قوم هاد ) . يقول ولكل قوم إمام يأتمُّون به وهادٍ يتقدمهم, فيهديهم إما إلى خيرٍ وإما إلى شرٍّ . وأصله من « هادي الفرس » , وهو عنقه الذي يهدي سائر جسده . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في المعنيِّ بالهادي في هذا الموضع. فقال بعضهم: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ويقول الذين كفروا لولا أنـزل عليه آية من ربه ) هذا قول مشركي العرب قال الله: ( إنما أنت منذر ولكلّ قوم هاد ) لكل قوم داعٍ يدعوهم إلى الله . حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع. عن سفيان. عن السدي. عن عكرمة ومنصور, عن أبي الضحى: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قالا محمد هو « المنذر » وهو « الهاد » . حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان, عن السدي, عن عكرمة, مثله . حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا سفيان, عن أبيه, عن عكرمة, مثله . وقال آخرون: عنى بـ « الهادي » في هذا الموضع: الله . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال: محمد « المنذر » , والله « الهادي » . حدثنا ابن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( وإنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال محمد « المنذر » , والله « الهادي » . حدثنا أبو كريب قال: حدثنا الأشجعي, عن سفيان, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( إنما أنت منذر ) قال: أنت يا محمد منذر, والله « الهادي » . حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم, عن عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد في قوله: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ، قال: « المنذر » ، النبي صلى الله عليه وسلم ( ولكل قوم هاد ) قال: الله هادي كل قوم . حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) يقول: أنت يا محمد منذر، وأنا هادي كل قوم . حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ، « المنذر » : محمد صلى الله عليه وسلم, و « الهادي » : الله عز وجل . وقال آخرون: « الهادي » في هذا الموضع معناه نبيٌّ . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد قال: « المنذر » محمد صلى الله عليه وسلم . ( ولكل قوم هاد ) قال: نبيٌّ . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهدٍ في قوله: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال: نبيٌّ . ............ قال: حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد, عن عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد, مثله . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا أسباط بن محمد, عن عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد, في قوله: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ، قال: لكل قوم نبي, والمنذر: محمد صلى الله عليه وسلم . ......... قال: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثني عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد, في قول الله: ( ولكل قوم هاد ) قال: نبيّ . ......... قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( ولكل قوم هاد ) يعني: لكل قوم نبيّ . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولكل قوم هاد ) قال: نبيّ . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ولكل قوم هاد ) قال: نبيّ يدعوهم إلى الله . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( ولكل قوم هاد ) قال: لكل قوم نبيّ. « الهادي » ، النبي صلى الله عليه وسلم, و « المنذر » أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ [ سورة فاطر: 24 ] ، وقال: نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى [ سورة النجم: 56 ] قال: نبي من الأنبياء . وقال آخرون، بل عني به: ولكل قوم قائد . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا جابر بن نوح, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ، قال: إنما أنت، يا محمد، منذر, ولكل قوم قادة . ......... قال: حدثنا الأشجعي قال: حدثني إسماعيل أو: سفيان, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح: ( ولكل قوم هاد ) قال: لكل قوم قادة . حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال: « الهادي » : القائد, والقائد: الإمام, والإمام: العمل . حدثني الحسن قال: حدثنا محمد, وهو ابن يزيد عن إسماعيل, عن يحيى بن رافع, في قوله: ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) قال: قائد . وقال آخرون: هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي قال: حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري قال: حدثنا معاذ بن مسلم,بيّاع الهرويّ، عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: لما نـزلت ( إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) ، وضع صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: أنا المنذر ( ولكل قوم هاد ) , وأومأ بيده إلى منكب عليّ, فقال: أنت الهادي يا عليّ, بك يهتدي المهتدون بَعْدي . وقال آخرون: معناه: لكل قوم داع . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ولكل قوم هاد ) ، قال: داع . وقد بينت معنى « الهداية » , وأنه الإمام المتبع الذي يقدُم القوم . فإذ كان ذلك كذلك, فجائز أن يكون ذلك هو الله الذي يهدي خلَقه ويتَّبع خلقُه هداه ويأتمون بأمره ونهيه. وجائز أن يكون نَبِيَّ الله الذي تأتمُّ به أمته. وجائز أن يكون إمامًا من الأئمة يُؤْتَمُّ به، ويتّبع منهاجَه وطريقته أصحابُه. وجائزٌ أن يكون داعيًا من الدعاة إلى خيرٍ أو شرٍّ . وإذ كان ذلك كذلك, فلا قول أولى في ذلك بالصواب من أن يقال كما قال جل ثناؤه: إن محمدًا هو المنذر من أرسل إليه بالإنذار, وإن لكل قوم هاديًا يهديهم فيتّبعونه ويأتمُّون به . القول في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ( 8 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ منكرين قدرة الله على إعادتهم خلقًا جديدًا بعد فنائهم وبلائهم, ولا ينكرون قدرته على ابتدائهم وتصويرهم في الأرحام، وتدبيرهم وتصريفهم فيها حالا بعد حال فابتدأ الخبر عن ذلك ابتداءً, والمعنى فيه ما وصفت, فقال جل ثناؤه: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ) ، يقول: وما تنقص الأرحام من حملها في الأشهر التسعة بإرسالها دم الحيض ( وما تزداد ) في حملها على الأشهر التسعة لتمام ما نقص من الحمل في الأشهر التسعة بإرسالها دم الحيض ( وكل شيء عنده بمقدار ) لا يجاوز شيء من قَدَره عن تقديره, ولا يقصر أمر أراده فَدَبَره عن تدبيره, كما لا يزداد حمل أنثى على ما قُدِّرَ له من الحمل, ولا يُقصِّر عما حُدّ له من القدر. و « المقدار » , مِفْعال من « القدر » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن ماهان قال: حدثنا القاسم بن مالك, عن داود بن أبي هند, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام ) ، قال: ما رأت المرأة من يوم دمًا على حملها زاد في الحمل يومًا . حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام ) ، يعني السِّقْط ( وما تزداد ) ، يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تمامًا. وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومنهن من تحمل تسعة أشهر, ومنهن من تزيد في الحمل، ومنهن من تنقص. فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله, وكل ذلك بعلمه . حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال: حدثنا عبد السلام قال: حدثنا خصيف, عن مجاهد أو سعيد بن جبير في قول الله: ( وما تغيض الأرحام ) قال: غَيْضُها، دون التسعة والزيادة فوق التسعة . حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا أبو بشر, عن مجاهد, أنه قال: « الغيض » ، ما رأت الحامل من الدم في حملها فهو نقصان من الولد, و « الزيادة » ما زاد على التسعة أشهر, فهو تمام للنقصان وهو زيادة . حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن مجاهد, في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: ما ترى من الدم, وما تزداد على تسعة أشهر . حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن مجاهد, أنه قال: ( يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد ) ، قال: ما زاد على التسعة الأشهر ( وما تغيض الأرحام ) ، قال: الدم تراه المرأة في حملها . حدثني المثنى حدثنا عمرو بن عون، والحجاج بن المنهال قالا حدثنا هشيم, عن أبي بشر, عن مجاهد, في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: الغيض: الحامل ترى الدم في حملها فهو « الغيض » , وهو نقصانٌ من الولد. وما زاد على تسعة أشهر فهو تمام لذلك النقصان, وهي الزيادة . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا عبد السلام, عن خصيف, عن مجاهد: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: إذا رأت دون التسعة، زاد على التسعة مثل أيام الحيض . حدثنا أحمد قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وما تغيض الأرحام ) قال: خروج الدم ( وما تزداد ) قال: استمساك الدم . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وما تغيض الأرحام ) إراقة المرأة حتى يخِسّ الولد ( وما تزداد ) قال: إن لم تُهْرِق المرأةُ تَمَّ الولد وعَظُم . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا شعبة, عن جعفر, عن مجاهد, في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: المرأة ترى الدم، وتحمل أكثر من تسعة أشهر . حدثنا الحسن قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( وما تغيض الأرحام ) ، قال: هي المرأة ترى الدم في حملها . ...... قال: حدثنا شبابة, قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) إهراقُ الدم حتى يخسّ الولد و « تزداد » إن لم تهرق المرأة تَمَّ الولد وعَظُم . ...... قال: حدثنا الحكم بن موسى قال: حدثنا هقل, عن عثمان بن الأسود قال: قلت لمجاهد: امرأتي رأت دمًا, وأرجو أن تكون حاملا! قال أبو جعفر: هكذا هو في الكتاب فقال مجاهد: ذاك غيضُ الأرحام: ( يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ) ، الولد لا يزال يقع في النقصان ما رأت الدَّم, فإذا انقطعَ الدم وقع في الزيادة, فلا يزال حتى يتمّ, فذلك قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار ) . ...... قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا أبو بشر, عن مجاهد, في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) ، قال: « الغيض » : الحامل ترى الدم في حملها, وهو « الغيض » وهو نقصان من الولد. فما زادت على التسعة الأشهر فهي الزيادة, وهو تمامٌ للولادة . حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب قال: حدثنا داود, عن عكرمة في هذه الآية: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام ) ، قال: كلما غاضت بالدم، زاد ذلك في الحمل . ...... قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود, عن عكرمة نحوه. حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا عباد بن العوّام, عن عاصم, عن عكرمة: ( وما تغيض الأرحام ) قال: غيض الرحم: الدم على الحمل كلما غاض الرحم من الدم يومًا زاد في الحمل يومًا حتى تستكمل وهي طاهرةٌ . ...... قال: حدثنا عباد, عن سعيد, عن يعلى بن مسلم, عن سعيد بن جبير, مثله . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا الوليد بن صالح قال: حدثنا أبو يزيد, عن عاصم, عن عكرمة في هذه الآية: ( وما تغيض الأرحام ) ، قال: هو الحيض على الحمل ( وما تزداد ) قال: فلها بكل يوم حاضت على حملها يوم تزداده في طهرها حتى تستكمل تسعة أشهر طاهرًا . ...... قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عمران بن حدير, عن عكرمة في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: ما رأت الدم في حملها زاد في حملها . حدثنا عبد الحميد بن بيان قال: أخبرنا إسحاق, عن جويبر, عن الضحاك, في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) ما « تغيض » : أقل من تسعة وما تزداد: أكثر من تسعة . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا ابن المبارك, عن الحسن بن يحيى قال: سمعت الضحاك يقول: قد يولد المولود لسنتين. قد كان الضحاك وُلد لسنتين, و « الغيض » : ما دون التسعة ( وما تزداد ) فوق تسعة أشهر . ...... قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن جويبر, عن الضحاك: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: دون التسعة, وما تزداد: قال: فوق التسعة . ...... قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن جويبر, عن الضَّحاك قال: ولدت لسنتين . حدثني المثنى قال: حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك, عن الحسن بن يحيى قال: حدثنا الضحاك: أن أمه حملته سنتين. قال: ( وما تغيض الأرحام ) قال: ما تنقص من التسعة ( وما تزداد ) قال: ما فوق التسعة . ... قال: حدثنا عمرو بن عون ; قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام ) ، قال: كل أنثى من خلق الله . ... قال: حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك ومنصور، عن الحسن قالا « الغيض » ما دون التسعة الأشهر . ... قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك, عن داود بن عبد الرحمن, عن ابن جريج, عن جميلة بنت سعد, عن عائشة قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين, قدر ما يتحوَّل ظِلُّ مِغْزَل . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فضيل بن مرزوق, عن عطية العوفي: ( وما تغيض الأرحام ) قال: هو الحمل لتسعة أشهر وما دون التسعة ( وما تزداد ) قال: على التسعة . ... قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه, عن سعيد بن جبير: ( وما تغيض الأرحام ) قال: حيضُ المرأة على ولدها . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) . قال: « الغيض » ، السَّقْط ( وما تزداد ) ، فوق التسعة الأشهر . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن سعيد بن جبير: إذا رأت المرأة الدمَ على الحمل, فهو « الغيض » للولد . يقول: نقصانٌ في غذاء الولد, وهو زيادة في الحمل . حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ) قال: كان الحسن يقول: « الغيضوضة » ، أن تضع المرأة لستة أشهر أو لسبعة أشهر, أو لما دون الحدّ قال قتادة: وأما الزيادة, فما زاد على تسعة أشهر . حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا قيس, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير قال: غيض الرحم: أن ترى الدم على حملها. فكل شيء رأت فيه الدم على حملها، ازدادت على حملها مثل ذلك . ....قال حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن قيس بن سعد, عن مجاهد قال: إذا رأت الحاملُ الدمَ كان أعظمَ للولد . حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وما تغيض الأرحام وما تزداد ) ، « الغيض » : النقصان من الأجل, « والزيادة » : ما زاد على الأجل. وذلك أن النساء لا يلدن لعدّةٍ واحدة, يولد المولود لستة أشهر فيعيش, ويولد لسنتين فيعيش, وفيما بين ذلك . قال: وسمعت الضحاك يقول: ولدت لسنتين, وقد نبتت ثناياي . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وما تغيض الأرحام ) قال: غيض الأرحام: الإهراقة التي تأخذ النساء على الحمل, وإذا جاءت تلك الإهراقة لم يعتدَّ بها من الحمل، ونقص ذلك حملها حتى يرتفع ذلك. وإذا ارتفع استقبلت عِدّةً مستقبلةً تسعة أشهر. وأما ما دامت ترى الدم، فإن الأرحام تغيض وتنقص، والولد يرقّ. فإذا ارتفع ذلك الدم رَبَا الولد واعتدّت حين يرتفع عنها ذلك الدم عدّة الحمل تسعة أشهر, وما كان قبله فلا تعتدُّ به، هو هِرَاقةٌ، يبطل ذلك أجمع أكتع . وقوله: ( وكل شيء عنده بمقدار ) . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكل شيء عنده بمقدار ) إي والله, لقد حفظ عليهم رزقهم وآجالهم, وجعل لهم أجلا معلومًا . القول في تأويل قوله تعالى : عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ( 9 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله عالم ما غاب عنكم وعن أبصاركم فلم تروه، وما شاهدتموه, فعاينتم بأبصاركم, لا يخفى عليه شيء, لأنهم خلقه وتدبيره « الكبير الذي كل شيء دونه » ، « المتعال » المستعلي على كل شيء بقدرته. وهو « المتفاعل » من « العلو » مثل « المتقارب » من القرب و « المتداني » من الدنوّ . القول في تأويل قوله تعالى : سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ( 10 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: معتدلٌ عند الله منكم، أيها الناس، الذي أسر القول, والذي جهر به, والذي هو مستخفٍ بالليل في ظلمته بمعصية الله « وسارب بالنهار » ، يقول: وظاهر بالنهار في ضوئه, لا يخفى عليه شيء من ذلك. سواء عنده سِرُّ خلقه وعلانيتهم, لأنه لا يستسرّ عنده شيء ولا يخفى. يقال منه: « سَرَبَ يَسْرَبُ سُرُوبًا » إذا ظهر, كما قال قيس بن الخطيم: أَنَّـى سَـرَيْتِ وَكُـنْتِ غَـيْرَ سَـرُوبِ وَتُقَــرِّبُ الأحْــلامُ غَـيْر قَـرِيب يقول: كيف سريت بالليل [ على ] بُعْد هذا الطريق، ولم تكوني تبرُزين وتظهرين؟ وكان بعضهم يقول: هو السَّالك في سَرْبه: أي في مذهبه ومكانه . واختلف أهل العلم بكلام العرب في « السّرب » . فقال بعضهم: « هو آمن في سَرْبه » , بفتح السين. وقال بعضهم: « هو آمن في سِرْبه » بكسر السين . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخفٍ بالليل وسارب بالنهار ) ، يقول: هو صاحبُ ريبة مستخف بالليل. وإذا خرج بالنهار أرَى الناس أنه بريء من الإثم . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( وسارب بالنهار ) ، ظاهر . حدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي, عن عوف, عن أبي رجاء, في قوله: ( سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنهار ) قال: إن الله أعلم بهم, سواء من أسر القول ومن جهر به, ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا علي بن عاصم, عن عوف, عن أبي رجاء: ( سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) قال: من هو مستخف في بيته ( وسارب بالنهار ) ، ذاهب على وجهه. علمه فيهم واحدٌ . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ) ، يقول: السر والجهر عنده سواء ( ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) أما « المستخفي » ففي بيته, وأما « السارب » : الخارج بالنهار حيثما كان. المستخفي غَيْبَه الذي يغيب فيه والخارجُ، عنده سواء . ... قال: حدثنا الحماني قال: حدثنا شريك, عن خصيف, في قوله: ( مستخف بالليل ) قال: راكب رأسه في المعاصي ( وسارب بالنهار ) قال: ظاهر بالنهار . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ) كل ذلك عنده تبارك وتعالى سواء، السر عنده علانية قوله: ( ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) ، أي: في ظلمة الليل, و « سارب » : أي: ظاهر بالنهار . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد وعكرمة: ( وسارب بالنهار ) قال: ظاهر بالنهار. و « مَنْ » في قوله: ( من أسرّ القول ومَنْ جهر به ومَنْ هو مستخف بالليل ) رفع الأولى منهن بقوله: « سواء » . والثانية معطوفة على الأولى، والثالثة على الثانية . القول في تأويل قوله تعالى : لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ( 11 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: لله تعالى ذكرهُ معقِّباتٌ قالوا: « الهاء » في قوله: « له » من ذكر اسم الله. و « المعقبات » التي تعتقب على العبد. وذلك أن ملائكة الليل إذا صعدت بالنهار أعقبتها ملائكة النهار, فإذا انقضى النهار صعدت ملائكة النهار ثم أعقبتها ملائكة الليل. وقالوا: قيل « معقبات » , و « الملائكة » : جمع « ملك » مذكر غير مؤنث, وواحد « الملائكة » « معقِّب » , وجماعتها « مُعَقبة » , ثم جمع جمعه أعني جمع « معقّب » بعد ما جمع « مُعَقّبة » وقيل « معقِّبات » , كما قيل: « سادات سعد » , « ورجالات بني فلان » ، جمع « رجال » . وقوله: ( من بين يديه ومن خلفه ) ، يعني بقوله: ( من بين يديه ) ، من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار ( ومن خلفه ) ، من وراء ظهره . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن منصور, يعني ابن زاذان, عن الحسن في هذه الآية: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: الملائكة . حدثني المثنى قال: حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري قال: حدثنا علي بن جرير, عن حماد بن سلمة, عن عبد الحميد بن جعفر, عن كنانة العدوي قال: دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ قال: ملك على يمينك على حسناتك, وهو أمينٌ على الذي على الشمال, فإذا عملتَ حسنة كُتِبت عشرًا, وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: اكتب! قال: لا لعله يستغفر الله ويتوب! فإذا قال ثلاثًا قال: نعم اكتب أراحنا الله منه, فبئس القرين, ما أقل مراقبته لله, وأقل استحياءَه منّا! يقول الله: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ، [ سورة ق: 18 ] ، وملكان من بين يديك ومن خلفك, يقول الله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، وملك قابض على ناصيتك, فإذا تواضعت لله رفعك, وإذا تجبَّرت على الله قصمك . وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصَّلاة على محمد. وملك قائم على فيك لا يدع الحيّة تدخل في فيك، وملكان على عينيك. فهؤلاء عشرة أملاك على كلّ آدميّ, ينـزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار، [ لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار ] فهؤلاء عشرون ملكًا على كل آدمي, وإبليس بالنهار وولده بالليل. حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) الملائكة ( يحفظونه من أمر الله ) . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . ... قال: حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم, عن عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد, في قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه ) ، قال: مع كل إنسان حَفَظَةٌ يحفظونه من أمر الله . ... قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، فالمعقبات هن من أمر الله, وهي الملائكة . حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس: ( يحفظونه من أمر الله ) قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه, فإذا جاء قدره خَلَّوا عنه . حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) فإذا جاء القدر خَلَّوا عنه . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم في هذه الآية قال: الحَفَظَة . حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال: ملائكة . حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا يعلى قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح في قوله: ( له معقبات ) قال: ملائكة الليل، يعقُبُون ملائكة النهار . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) هذه ملائكة الليل يتعاقبون فيكم بالليل والنهار. وذكر لنا أنهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح وفي قراءة أبيّ بن كعب: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَرَقِيبٌ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أَمْرِ اللهِ ) . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, قوله: ( له معقبات من بين يديه ) ، قال: ملائكة يتعاقبونه . حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: الملائكة قال ابن جريج: « معقبات » ، قال: الملائكة تَعَاقَبُ الليلَ والنهار. وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يجتمعون فيكم عند صلاة العصر وصلاة الصبح وقوله: ( يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ) ، قال ابن جريج: مثل قوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ، [ سورة ق: 17 ] . قال: الحسنات من بين يديه، والسيئات من خلفه. الذي عن يمينه يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات . حدثنا سوّار بن عبد الله قال: حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت ليثًا يحدث، عن مجاهد أنه قال: ما من عبدٍ إلا له ملك موكَّل يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامّ, فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءَك! إلا شيئًا يأذن الله فيه فيصيبه . حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي: قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) ، قال: يعني الملائكة . وقال آخرون: بل عني بـ « المعقبات » في هذا الموضع، الحرَس, الذي يتعاقب على الأمير . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام الرفاعي قال: حدثنا ابن يمان قال: حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: ذلك ملك من مُلوك الدنيا له حَرسٌ من دونه حرَس . حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) ، يعني: ولىَّ الشيطان، يكون عليه الحرس . حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن شَرْقيّ: أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: هؤلاء الأمراء . حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا عمرو بن نافع قال: سمعت عكرمة يقول: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: المواكب من بين يديه ومن خلفه . حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال: هو السلطان المحترس من الله, وهم أهل الشرك . قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب, قولُ من قال: « الهاء » ، في قوله: ( له معقبات ) من ذكر « مَنْ » التي في قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ « وأن المعقبات من بين يديه ومن خلفه » , هي حرسه وجلاوزته، كما قال ذلك من ذكرنا قوله . وإنما قلنا: « ذلك أولى التأويلين بالصواب » ، لأن قوله: ( له معقبات ) أقرب إلى قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ منه إلى عالم الغيب, فهي لقربها منه أولى بأن تكون من ذكره, وأن يكون المعنيَّ بذلك هذا, مع دلالة قول الله: ( وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ) على أنهم المعنيُّون بذلك. وذلك أنه جل ثناؤه ذكر قومًا أهل معصيةٍ له وأهلَ ريبة, يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار, ويمتنعون عند أنفسهم بحرس يحرسهم, ومَنْعَة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية الله. ثم أخبر أنّ الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءًا لم ينفعهم حَرَسهم, ولا يدفع عنهم حفظهم . وقوله: ( يحفظونه من أمر الله ) اختلف أهل التأويل في تأويل هذا الحرف على نحو اختلافهم في تأويل قوله: ( له معقبات ) . فمن قال: « المعقبات » هي الملائكة قال: الذين يحفظونه من أمر الله هم أيضًا الملائكة. ومن قال: « المعقبات » هي الحرس والجلاوزة من بني آدم قال: الذين يحفظونه من أمر الله هم أولئك الحرس . واختلفوا أيضًا في معنى قوله: ( من أمر الله ) . فقال بعضهم: حفظهم إيّاه من أمره . وقال بعضهم: ( يحفظونه من أمر الله ) بأمر الله . *ذكر من قال: الذين يحفظونه هم الملائكة, ووجَّه قوله: ( بأمر الله ) إلى معنى أن حفظها إيّاه من أمر الله: حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي عن ابن عباس قوله: ( يحفظونه من أمر الله ) ، يقول: بإذن الله، فالمعقبات: هي من أمر الله, وهي الملائكة. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير: ( يحفظونه من أمر الله ) ، قال: الملائكة: الحفظة, وحفظهم إياه من أمر الله . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثني عبد الملك, عن ابن عبيد الله, عن مجاهد في قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال: الحفظة هم من أمر الله . ... قال: حدثنا علي يعني ابن عبد الله بن جعفر قال: حدثنا سفيان, عن عمرو, عن ابن عباس: ( له معقبات من بين يديه ) ، رقباء ( ومن خلفه ) من أمر الله ( يحفظونه ) . ... قال: حدثنا عبد الوهاب, عن سعيد, عن قتادة, عن الجارود, عن ابن عباس: ( له معقبات من بين يديه ) ، رقيب ( ومن خلفه ) . حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن خصيف, عن مجاهد: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) ، قال: الملائكة من أمر الله . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( يحفظونه من أمر الله ) ، قال: الملائكة من أمر الله . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ) قال: الحفظة . *ذكر من قال: عنى بذلك: يحفظونه بأمر الله: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( يحفظونه من أمر الله ) : أي بأمر الله . حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( يحفظونه من أمر الله ) , وفي بعض القراءات ( بِأَمْرِ اللهِ ) . حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن عبد الملك, عن قيس, عن مجاهد في قوله: ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) قال: مع كل إنسان حَفَظَة يحفظونه من أمر الله . *ذكر من قال: تحفظه الحرس من بني آدم من أمر الله: حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( يحفظونه من أمر الله ) يعني: ولّى الشيطان، يكون عليه الحرس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه, يقول الله عز وجل: يحفظونه من أمري, فإني إذا أردت بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ . حدثني أبو هريرة الضبعي قال: حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا شعبة ، عن شَرْقيّ, عن عكرمة: ( يحفظونه من أمر الله ) قال: الجلاوزة . وقال آخرون: معنى ذلك: يحفظونه من أمر الله, و « أمر الله » الجن, ومن يبغي أذاه ومكروهه قبل مجيء قضاء الله, فإذا جاء قضاؤه خَلَّوْا بينه وبينه . ذكر من قال ذلك: حدثني أبو هريرة الضبعي قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا ورقاء, عن منصور, عن طلحة, عن إبراهيم: ( يحفظونه من أمر الله ) قال: من الجن . حدثنا سوّار بن عبد الله قال: حدثنا المعتمر قال: سمعت ليثًا يحدث، عن مجاهد أنه قال: ما من عبد إلا له ملك موكّل يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامّ, فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءَك إلا شيئًا يأذن الله فيصيبه . حدثنا الحسن بن عرفة قال: حدثنا إسماعيل بن عياش, عن محمد بن زياد الألهاني, عن يزيد بن شريح، عن كعب الأحبار قال: لو تجلَّى لابن آدم كلّ سهلٍ وحزنٍ لرأى على كل شيء من ذلك شياطين. لولا أن الله وكَّل بكم ملائكة يذبُّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذًا لتُخُطِّفتم . حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية قال: حدثنا عمارة بن أبي حفصة, عن أبي مجلز قال: جاء رجل من مُرادٍ إلى عليّ رضي الله عنه وهو يصلي, فقال: احترس, فإنّ ناسًا من مراد يريدون قتلك! فقال: إنّ مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدَّر, فإذا جاء القدَرُ خلَّيا بينه وبينه, وإن الأجل جُنَّةٌ حصينة . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا عبد الوهاب, عن الحسن بن ذكوان, عن أبي غالب, عن أبي أمامة قال: ما من آدمي إلا ومعه ملك موكَّل يذود عنه حتى يسلمه للذي قُدِّر له . وقال آخرون: معنى ذلك: يحفظون عليه من الله . ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( يحفظونه من أمر الله ) ، قال: يحفظون عليه من الله . قال أبو جعفر: يعني ابن جريج بقوله: « يحفظون عليه » ، الملائكة الموكلة بابن آدم, بحفظ حسناته وسيئاته, وهي « المعقبات » عندنا, تحفظ على ابن آدم حسناته وسيئاته من أمر الله. قال أبو جعفر: وعلى هذا القول يجب أن يكون معنى قوله: ( من أمر الله ) ، أنّ الحفظة من أمر الله, أو تحفظ بأمر الله ويجب أن تكون « الهاء » التي في قوله: ( يحفظونه ) وُحِّدت وذُكِّرت وهي مراد بها الحسنات والسيئات, لأنها كناية عن ذكر « مَنْ » الذي هو مستخف بالليل وسارب بالنهار وأن يكون « المستخفي بالليل » أقيم ذكره مقام الخبر عن سيئاته وحسناته, كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ، [ سورة يوسف: 82 ] . وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك خلاف هذه الأقوال كلها:- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ قال: أتى عامر بن الطفيل, وأربد بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال عامر: ما تجعل لي إن أنا اتبعتك؟ قال: أنت فارس، أعطيك أعنة الخيل. قال: لا . قال: « فما تبغي؟ قال: لي الشرق ولك الغرب . قال: لا . قال: فلي الوَبَر ولك المَدَر . قال: لا. قال: لأملأنها عليك إذًا خيلا ورجالا. قال: يمنعك الله ذاك وابنا قيلة يريد الأوس والخزرج . قال: فخرجا, فقال عامر لأربد: إن كان الرجل لنا لممكنًا لو قتلناه ما انتطحت فيه عنـزان، ولرضوا بأن نعقله لهم وأحبوا السلم وكرهوا الحرب إذا رأوا أمرًا قد وقع . فقال الآخر: إن شئت فتشاورا, وقال: ارجع وأنا أشغله عنك بالمجادلة, وكن وراءه فاضربه بالسيف ضربةً واحدة. فكانا كذلك: واحدٌ وراء النبي صلى الله عليه وسلم, والآخر قال: اقصص علينا قصصك. قال: ما تقول؟ قال: قرآنك! فجعل يجادله ويستبطئه ، حتى قال: مالك حُشِمت؟ قال: وضعت يدي على قائم سيفي [ فيبست ] , فما قدرتُ على أن أُحْلِي ولا أُمِرُّ ولا أحرّكها . قال: فخرجا، فلما كانا بالحَرة، سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حُضير, فخرجا إليهما, على كل واحد منهما لأمته، ورمحه بيده، وهو متقلد سيفه. فقالا لعامر بن الطفيل: يا أعور [ حسا ] يا أبلخ, أنت الذي يشرط على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لولا أنك في أمانٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رِمْتَ المنـزل حتى نضرب عنقك, ولكن [ لا نستعين ] . وكان أشدّ الرجلين عليه أسيد بن الحضير، [ فقال: من هذا؟ فقالوا: أسيد بن حضير ] ؟ فقال: لو كان أبوه حيًا لم يفعل بي هذا! ثم قال لأربد: اخرج أنت يا أربد إلى ناحية عَدَنَة, وأخرج أنا إلى نجد, فنجمع الرجال فنلتقي عليه . فخرج أربد حتى إذا كان بالرَّقَم، بعث الله سحابة من الصيف فيها صاعقة! فأحرقته . قال: وخرج عامر حتى إذا كان بوادٍ يقال له الجرير, أرسل الله عليه الطاعون, فجعل يصيح: يا آل عامر, أغُدَّة كغدَّة البكر تقتلني! يا آل عامر، أغدةٌ كغدة البكر تقتلني, وموتٌ أيضًا في بيت سلولية ! وهي امرأة من قيس. فذلك قول الله: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ فقرأ حتى بلغ: ( يحفظونه ) تلك المعقبات من أمر الله, هذا مقدّم ومؤخّر لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، تلك المعقبات من أمر الله . وقال لهذين: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فقرأ حتى بلغ: ( يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) الآية, فقرأ حتى بلغ: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ . قال وقال لبيد في أخيه أربد, وهو يبكيه: » أَخْشَــى عَـلَى أَرْبَـدَ الحُـتُوفَ وَلا أَرْهَــبُ نَــوْءَ السِّــمَاكِ وَالأسَـدِ فَجّــعَنِي الرَّعْـدُ وَالصَّـوَاعِقُ بِـال فَــارِسِ يَــوْمَ الكَرِيهَــةِ النَّجُــدِ قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد في تأويل هذه الآية، قولٌ بعيد من تأويل الآية، مع خلافِه أقوالَ من ذكرنا قوله من أهل التأويل. وذلك أنه جعل « الهاء » في قوله: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ) من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يجر له في الآية التي قبلها ولا في التي قبل الأخرى ذكرٌ, إلا أن يكون أراد أن يردّها على قوله: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ، ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ) فإن كان ذلك, فذلك بعيدٌ ، لما بينهما من الآيات بغير ذكر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإذا كان ذلك, فكونها عائدة على « مَنْ » التي في قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أقربُ, لأنه قبلها والخبر بعدها عنه . فإذا كان ذلك كذلك, فتأويل الكلام: سواء منكم، أيها الناس من أسرّ القول ومن جهر به عند ربكم, ومن هو مستخف بفسقه وريبته في ظلمة الليل, وساربٌ يذهب ويجيء في ضوء النهار ممتنعًا بجنده وحرسه الذين يتعقبونه من أهل طاعة الله أن يحولوا بينه وبين ما يأتي من ذلك, وأن يقيموا حدَّ الله عليه, وذلك قوله: ( يحفظونه من أمر الله ) . * وقوله: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) يقول تعالى ذكره: ( إن الله لا يغير ما بقوم ) ، من عافية ونعمة، فيزيل ذلك عنهم ويهلكهم ( حتى يغيروا ما بأنفسهم ) من ذلك بظلم بعضهم بعضًا، واعتداء بعضهم على بعض, فَتَحلَّ بهم حينئذ عقوبته وتغييره . وقوله: ( وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مردّ له ) يقول: وإذا أراد الله بهؤلاء الذين يستخفون بالليل ويسربون بالنهار, لهم جند ومنعة من بين أيديهم ومن خلفهم, يحفظونهم من أمر الله هلاكًا وخزيًا في عاجل الدنيا، ( فلا مردّ له ) يقول: فلا يقدر على ردّ ذلك عنهم أحدٌ غيرُ الله . يقول تعالى ذكره: ( وما لهم من دونه من وال ) يقول: وما لهؤلاء القوم و « الهاء والميم » في « لهم » من ذكر القوم الذين في قوله: ( وإذا أراد الله بقوم سوءًا ) . من دون الله ( من والٍ ) يعني: من والٍ يليهم ويلي أمرهم وعقوبتهم . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: « السوء » : الهلكة, ويقول: كل جذام وبرص وعَمى وبلاء عظيم فهو « سوء » مضموم الأول, وإذا فتح أوله فهو مصدر: « سُؤْت » ، ومنه قولهم: « رجلُ سَوْءٍ » . واختلف أهل العربية في معنى قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ . فقال بعض نحويي أهل البصرة: معنى قوله: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ومن هو ظاهر بالليل, من قولهم: « خَفَيْتُ الشيء » : إذا أظهرته, وكما قال أمرؤ القيس: فَــإِنْ تَكْتُمُــوا الــدَّاء لا نَخْفِــه وإنْ تَبْعَثُـــوا الحَــرْبَ لا نَقْعُــدِ وقال: وقد قرئ أَكَادُ أُخْفِيهَا [ سورة طه:15 ] بمعنى: أظهرها . وقال في قوله: وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ، « السارب » : هو المتواري, كأنه وجَّهه إلى أنه صار في السَّرَب بالنهار مستخفيًا . وقال بعض نحويي البصرة والكوفة: إنما معنى ذلك: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ ، أي مستتر بالليل من الاستخفاء وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ : وذاهبٌ بالنهار, من قولهم: « سَرَبت الإبل إلى الرَّعي, وذلك ذهابها إلى المراعي وخروجها إليها . » وقيل: إن « السُّرُوب » بالعشيّ ، و « السُّروح » بالغداة . واختلفوا أيضًا في تأنيث « معقبات » , وهي صفة لغير الإناث. فقال بعض نحويي البصرة: إنما أنثت لكثرة ذلك منها, نحو: « نسّابة » ، و « علامة » , ثم ذكَّر لأن المعنيَّ مذكّر, فقال: « يحفظونه » . وقال بعض نحويي الكوفة: إنما هي « ملائكة معقبة » , ثم جمعت « معقبات » , فهو جمع جمع, ثم قيل: « يحفظونه » , لأنه للملائكة . وقد تقدم قولنا في معنى: « المستخفي بالليل والسارب بالنهار » . وأما الذي ذكرناه عن نحويي البصريين في ذلك، فقولٌ وإن كان له في كلام العرب وجهٌ، خلافٌ لقول أهل التأويل. وحسبه من الدلالة على فساده، خروجه عن قولِ جميعهم . وأما « المعقبات » ، فإن « التعقيب » في كلام العرب، العود بعد البدء، والرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه، من قول الله تعالى: وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ، أي: لم يرجع, وكما قال سلامة بن جندل: وَكَرُّنـا الخَـيْلَ فِـي آثَـارِهِمْ رُجُعًـا كُـسَّ السَّـنَابِكِ مِـنْ بَـدْءٍ وَتَعْقِيـبِ يعني: في غزوٍ ثانٍ عقَّبُوا، وكما قال طرفة: وَلَقَـــدْ كُــنْت عَلَيْكُــمْ عَاتِبًــا فَعَقَبْتُـــمْ بِذَنُــوبٍ غَــيْرِ مُــرّ يعني بقوله: « عقبتم » ، رجعتم. وأتاها التأنيث عندنا, وهي من صفة الحرس الذي يحرسون المستخفي بالليل والسارب بالنهار, لأنه عني بها « حرس مُعَقبّة » , ثم جمعت « المعقبة » فقيل: « معقبات » فذلك جمع جمع « المعقِّب » ، و « المعقِّب » ، واحد « المعَقِّبة » ، كما قال لبيد: حَـتَّى تَهَجَّـرَ فِـي الـرّوَاحِ وَهَاجَـهُ طَلَــبَ المُعَقِّــبِ حَقَّــهُ المَظْلُـومُ و « المعقبات » ، جمعها, ثم قال: « يحفظونه » ، فردّ الخبر إلى تذكير الحرَس والجند . وأما قوله: ( يحفظونه من أمر الله ) فإن أهل العربية اختلفوا في معناه. فقال بعض نحويي الكوفة: معناه: له معقبات من أمر الله يحفظونه, وليس من أمره [ يحفظونه ] ، إنما هو تقديم وتأخير . قال: ويكون يحفظونه ذلك الحفظ من أمر الله وبإذنه, كما تقول للرجل: « أجبتك من دعائك إياي, وبدعائك إياي » . وقال بعض نحويي البصريين، معنى ذلك: يحفظونه عن أمر الله, كما قالوا: « أطعمني من جوع، وعن جوع » و « كساني عن عري، ومن عُرْيٍ » . وقد دللنا فيما مضى على أن أولى القول بتأويل ذلك أن يكون قوله: ( يحفظونه من أمر الله ) ، من صفة حرس هذا المستخفي بالليل، وهي تحرسه ظنًّا منها أنها تدفع عنه أمرَ الله, فأخبر تعالى ذكره أن حرسه ذلك لا يغني عنه شيئًا إذا جاء أمره, فقال: ( وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ ) . القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ( 12 ) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ( 13 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ) ، يعني أن الرب هو الذي يري عباده البرق وقوله: ( هو ) كناية اسمه جلّ ثناؤه. وقد بينا معنى « البرق » ، فيما مضى، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقوله: ( خوفًا ) يقول: خوفًا للمسافر من أذاه . وذلك أن « البرق » ، الماء، في هذا الموضع كما:- حدثني المثنى قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا حماد قال: أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم, مولى ابن عباس قال: كتب ابن عباس إلى أبي الجَلْد يسأله عن « البرق » , فقال: « البرق » ، الماء . وقوله ( وطمعًا ) يقول: وطمعًا للمقيم أن يمطر فينتفع . كما:- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا ) ، يقول: خوفًا للمسافر في أسفاره, يخاف أذاه ومشقته ( وطمعًا، ) للمقيم، يرجو بركته ومنفعته، ويطمع في رزق الله. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( خوفا وطمعا ) خوفا للمسافر, وطمعا للمقيم . وقوله: ( وينشئ السحاب الثقال ) : ويثير السحاب الثقال بالمطر ويبدؤه. يقال منه: أنشأ الله السحاب: إذا أبدأه, ونشأ السحاب: إذا بدأ ينشأ نَشْأً . و « السحاب » في هذا الموضع، وإن كان في لفظ واحد، فإنها جمعٌ، واحدتها « سحابة » , ولذلك قال: « الثقال » , فنعتها بنعت الجمع, ولو كان جاء: « السحاب » الثقيل كان جائزًا, وكان توحيدًا للفظ السحاب, كما قيل : الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا [ سورة يس:80 ] . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( وينشئ السحاب الثقال ) ، قال: الذي فيه الماء . حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . ... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( وينشئ السحاب الثقال ) قال: الذي فيه الماء . وقوله: ( ويسبح الرعد بحمده ) . قال أبو جعفر: وقد بينا معنى الرعد فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد قال كما: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا كثير بن هشام قال: حدثنا جعفر قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد الشديد قال: « اللهم لا تقتلنا بغضبك, ولا تهلكنا بعذابك, وعافنا قبل ذلك » . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل, عن أبيه, عن رجل, عن أبي هريرة رفع الحديث: أنه كان إذا سمع الرعد قال: « سبحان من يسبح الرعد بحمده » . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا مسعدة بن اليسع الباهلي, عن جعفر بن محمد, عن أبيه, عن علي رضي الله عنه, كان إذا سمع صوت الرعد قال: « سبحان من سَبَّحتَ له » . ... قال: حدثنا إسماعيل بن علية, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة, عن ابن عباس, أنه كان إذا سمع الرعد قال: « سبحان الذي سَبَّحتَ له . » حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا يعلى بن الحارث قال: سمعت أبا صخرة يحدث عن الأسود بن يزيد, أنه كان إذا سمع الرعد قال: « سبحان من سبَّحتَ له أو » سبحان الذي يسبح الرعد بحمده, والملائكة من خيفته « . » ...قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا ابن علية, عن ابن طاوس, عن أبيه وعبد الكريم, عن طاوس أنه كان إذا سمع الرعد قال: « سبحان من سبحتَ له . » حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج, عن ميسرة, عن الأوزاعي قال: كان ابن أبي زكريا يقول: من قال حين يسمع الرعد: « سبحان الله وبحمده, لم تصبه صاعقةٌ. » ومعنى قوله: ( ويسبح الرعد بحمده ) ، ويعظم اللهَ الرعدُ ويمجِّده, فيثنى عليه بصفاته, وينـزهه مما أضاف إليه أهل الشرك به ومما وصفوه به من اتخاذ الصاحبة والولد, تعالى ربنا وتقدّس . وقوله: ( من خيفته ) يقول: وتسبح الملائكة من خيفة الله ورَهْبته. وأما قوله: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) . فقد بينا معنى الصاعقة، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته، بما فيه الكفاية من الشواهد, وذكرنا ما فيها من الرواية . وقد اختلف فيمن أنـزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نـزلت في كافر من الكفّار ذكر الله تعالى وتقدَّس بغير ما ينبغي ذكره به, فأرسل عليه صاعقة أهلكته . ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا عفان قال: حدثنا أبان بن يزيد قال: حدثنا أبو عمران الجوني, عن عبد الرحمن بن صُحار العبدي: أنه بلغه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى جَبَّار يدعوه, فقال: « أرأيتم ربكم, أذهبٌ هو أم فضةٌ هو أم لؤلؤٌ هو؟ » قال: فبينما هو يجادلهم, إذ بعث الله سحابة فرعدت, فأرسل الله عليه صاعقة فذهبت بقِحْف رأسه فأنـزل الله هذه الآية: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) . حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق بن سليمان, عن أبي بكر بن عياش, عن ليث, عن مجاهد قال: جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: أخبرني عن ربّك من أيّ شيء هو, من لؤلؤ أو من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأخذته, فأنـزل الله: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) . حدثني المثنى قال: حدثنا الحماني قال: حدثنا أبو بكر بن عياش, عن ليث, عن مجاهد, مثله . ... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا سيف, عن أبي روق, عن أبي أيوب, عن علي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد حدثني من هذا الذي تدعو إليه؟ أياقوت هو, أذهب هو, أم ما هو؟ قال: فنـزلت على السائل الصاعقة فأحرقته, فأنـزل الله: ( ويرسل الصواعق ) الآية . حدثنا محمد بن مرزوق قال: حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال: حدثني علي بن أبي سارة الشيباني قال: حدثنا ثابت البناني, عن أنس بن مالك قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم مرةً رجلا إلى رجل من فراعنة العرب, أن ادْعُه لي, فقال: يا رسول الله, إنه أعتى من ذلك! قال: اذهب إليه فادعه. قال: فأتاه فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك! فقال: مَنْ رسول الله؟ وما الله؟ أمن ذهب هو, أم من فضة, أم من نحاس؟ قال: فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال: ارجع إليه فادعه « قال: فأتاه فأعاد عليه وردَّ عليه مثل الجواب الأوّل. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره, فقال: ارجع إليه فادعه ! قال: فرجع إليه . فبينما هما يتراجعان الكلام بينهما, إذ بعث الله سحابة بحيالِ رأسه فرَعَدت, فوقعت منها صاعقة فذهبت بقِحْفِ رأسه, فأنـزل الله: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) . » وقال آخرون: نـزلت في رجل من الكفار أنكر القرآن وكذب النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا أنكر القرآن وكذّب النبيَّ صلى الله عليه وسلم, فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته, فأنـزل الله عز وجل فيه: ( وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) . وقال آخرون: نـزلت في أربد أخي لبيد بن ربيعة, وكان همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعامر بن الطفيل . ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: نـزلت يعني قوله: ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) في أربد أخي لبيد بن ربيعة, لأنه قدم أربدُ وعامرُ بن الطفيل بن مالك بن جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال عامر: يا محمد أأسلم وأكون الخليفة من بعدك؟ قال: لا! قال: فأكون على أهل الوَبَر وأنتَ على أهل المدَرِ؟ قال: لا! قال: فما ذاك؟ قال: « أعطيك أعنة الخيل تقاتل عليها, فإنك رجل فارس. قال: أوليست أعِنّة الخيل بيدي؟ أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا من بني عامر ! قال لأربد: إمّا أن تكفينيه وأضربه بالسيف, وإما أن أكفيكه وتضربه بالسيف. » قال أربد: اكفنيه وأضربه. فقال ابن الطفيل: يا محمد إن لي إليك حاجة. قال: ادْنُ! فلم يزل يدنو ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: « ادن » حتى وضع يديه على ركبتيه وحَنَى عليه, واستلّ أربد السيف, فاستلَّ منه قليلا فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بَريقه تعوّذ بآية كان يتعوّذ بها, فيبِسَت يدُ أربد على السيف, فبعث الله عليه صاعقة فأحرقته, فذلك قول أخيه: أَخْشَــى عَـلَى أَرْبَـدَ الحُـتُوف وَلا أَرْهَــبُ نَــوْءَ السِّــمَاك وَالأسَـدِ فَجَّــعنِي الْـبَرْقُ والصّـوَاعِقُ بـال فَــارِس يَــوْمَ الكَرِيهَــةِ النَّجُــدِ وقد ذكرت قبل خبر عبد الرحمن بن زيد بنحو هذه القصة . وقوله: ( وهم يجادلون في الله ) ، يقول: وهؤلاء الذين أصابهم الله بالصواعق أصابهم في حال خُصومتهم في الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم . وقوله: ( وهو شديد المحال ) يقول تعالى ذكره: والله شديدةٌ مماحلته في عقوبة من طغى عليه وعَتَا وتمادى في كفره . و « المحال » : مصدر من قول القائل: ماحلت فلانًا فأنا أماحله مماحلةً ومِحَالا و « فعلت » منه: « مَحَلت أمحَلُ محْلا إذا عرّض رجلٌ رجلا لما يهلكه ; ومنه قوله: » وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ « ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: » فَـرْعُ نَبْـعِ يَهْـتَزُّ فِـي غُصُـنِ المَجْ دِ غَزِيــرُ النّــدَى شَـديدُ المِحَـالِ هكذا كان ينشده معمر بن المثنى فيما حُدِّثت عن علي بن المغيرة عنه . وأما الرواة بعدُ فإنهم ينشدونه: فَـرْعُ فَـرْعٍ يَهْـتَزُّ فِـي غُصُنِ المَجْ دِ كِثــيرُ النَّــدَى عَظِيـمُ المِحَـال وفسّر ذلك معمر بن المثنى, وزعم أنه عنى به العقوبة والمكر والنَّكال ; ومنه قول الآخر: وَلَبْسٍ بَيْــــنَ أَقْـــوَاٍم فَكُـــلٌ أَعَــدَّ لَــهُ الشَّــغَازِبَ وَالمِحَـالا وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا سيف, عن أبي روق, عن أبي أيوب, عن علي رضي الله عنه: ( وهو شديد المحال ) قال: شديد الأخذ . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد: ( وهو شديد المحال ) قال: شديد القوة . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وهو شديد المحال ) أي القوة والحيلة . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( شديد المحال ) يعني: الهلاك قال: إذا محل فهو شديد وقال قتادة: شديد الحيلة. حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا رجل, عن عكرمة: ( وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) ، قال: جدال أربد ( وهو شديد المحال ) قال: ما أصاب أربد من الصاعقة . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وهو شديد المحال ) قال: قال ابن عباس: شديد الحَوْل . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وهو شديد المحال ) قال: شديد القوة، « المحال » : القوة . قال أبو جعفر: والقول الذي ذكرناه عن قتادة في تأويل « المحال » أنه الحيلة, والقول الذي ذكره ابن جريج عن ابن عباس يدلان على أنهما كانا يقرآن : « ( وهُوَ شَدِيدُ المَحَالِ ) بفتح الميم, لأن الحيلة لا يأتي مصدرها » مِحَالا « بكسر الميم, ولكن قد يأتي على تقدير » المفعلة « منها, فيكون محالة, ومن ذلك قولهم: » المرء يعجزُ لا مَحالة، و « المحالة » في هذا الموضع، « المفعلة » من الحيلة، فأما بكسر الميم, فلا تكون إلا مصدرًا, من « ماحلت فلانًا أماحله محالا » ، و « المماحلة » بعيدة المعنى من « الحيلة » . قال أبو جعفر: ولا أعلم أحدًا قرأه بفتح الميم. فإذا كان ذلك كذلك, فالذي هو أولى بتأويل ذلك ما قلنا من القول . القول في تأويل قوله تعالى : لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ( 14 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لله من خلقه الدعوة الحق, و « الدعوة » هي « الحق » كما أضيفت الدار إلى الآخرة في قوله: وَلَدَارُ الآخِرَةِ [ سورة يوسف: 109 ] ، وقد بينا ذلك فيما مضى. وإنما عنى بالدعوة الحق، توحيد الله وشهادةَ أن لا إله إلا الله . وبنحو الذي قلنا تأوله أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن إسحاق قال حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس: ( دعوة الحق ) ، قال: لا إله إلا الله . حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( له دعوة الحق ) قال: شهادة أن لا إله إلا الله . ... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا سيف, عن أبي روق, عن أبي أيوب, عن علي رضي الله عنه: ( له دعوة الحق ) قال: التوحيد . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( له دعوة الحق ) قال: لا إله إلا الله . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس, في قوله: ( له دعوة الحق ) قال: لا إله إلا الله . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( له دعوة الحق ) : لا إله إلا الله ليست تنبغي لأحد غيره, لا ينبغي أن يقال: فلان إله بني فلان . وقوله: ( والذين يدعون من دونه ) يقول تعالى ذكره: والآلهة التي يَدْعونها المشركون أربابًا وآلهة . وقوله ( من دونه ) يقول: من دون الله. وإنما عنى بقوله: ( من دونه ) الآلهة أنها مقصِّرة عنه, وأنَّها لا تكون إلهًا, ولا يجوز أن يكون إلهًا إلا الله الواحد القهار، ومنه قول الشاعر: أتُوعِـــدُنِي وَرَاء بَنِــي رِيَــاحٍ? كَــذَبْتَ لَتَقْصُــرَنّ يَــدَاكَ دُونِـي يعني: لتقصرنَّ يداك عني . وقوله: ( لا يستجيبون لهم بشيء ) يقول: لا تجيب هذه الآلهة التي يدعوها هؤلاء المشركون آلهةً بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرٍّ ( إلا كباسط كفيه إلى الماء ) ، يقول: لا ينفع داعي الآلهة دعاؤه إياها إلا كما ينفع باسط كفيه إلى الماء بسطُه إياهما إليه من غير أن يرفعه إليه في إناء, ولكن ليرتفع إليه بدعائه إياه وإشارته إليه وقبضه عليه . والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلا بالقابض على الماء، قال بعضهم: فــإنِّي وإيَّــاكُمْ وَشَــوْقًا إلَيْكُــمُ كَقَــابِضِ مَــاءٍ لَـمْ تَسِـقْهُ أَنَامِلُـه يعني بذلك: أنه ليس في يده من ذلك إلا كما في يد القابض على الماء, لأن القابض على الماء لا شيء في يده . وقال آخر: فَـأَصْبَحْتُ مِمَّـا كـانَ بَيْنِـي وبَيْنهَـا مِـنَ الـوُدِّ مِثْـلَ القَـابِضِ المَاءَ بِاليَد وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا سيف, عن أبي روق, عن أبي أيوب, عن علي رضي الله عنه, في قوله: ( إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ) قال: كالرجل العطشان يمد يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( كباسط كفيه إلى الماء ) يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده, ولا يأتيه أبدًا . ... قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: أخبرني الأعرج, عن مجاهد: ( ليبلغ فاه ) يدعوه ليأتيه وما هو بآتيه, كذلك لا يستجيب من هو دونه . حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( كباسط كفيه إلى الماء ) يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده, فلا يأتيه أبدًا . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ... قال: وحدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج. عن ابن جريج, عن مجاهد مثل حديث الحسن عن حجاج قال ابن جريج: وقال الأعرج عن مجاهد: ( ليبلغ فاه ) قال: يدعوه لأن يأتيه وما هو بآتيه, فكذلك لا يستجيب مَنْ دونه . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ) وليس ببالغه حتى يتمزَّع عنقه ويهلك عطشًا قال الله تعالى: ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) هذا مثل ضربه الله ; أي هذا الذي يدعو من دون الله هذا الوثنَ وهذا الحجر لا يستجيب له بشيء أبدًا ولا يسُوق إليه خيرًا ولا يدفع عنه سوءًا حتى يأتيه الموت, كمثل هذا الذي بسط ذارعيه إلى الماء ليبلغ فاه ولا يبلغ فاه ولا يصل إليه ذلك حتى يموت عطشًا . وقال آخرون: معنى ذلك: والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليتناول خياله فيه, وما هو ببالغ ذلك . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ) ، فقال: هذا مثل المشرك مع الله غيرَهُ, فمثله كمثل الرَّجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد, فهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه . وقال آخرون في ذلك ما: حدثني به محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ) إلى: ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) يقول: مثل الأوثان والذين يعبدون من دون الله، كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كَرَبه الموت وكفاه في الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه, يقول الله: لا تستجيب الآلهة ولا تنفع الذين يعبدونها حتى يبلغ كفّا هذا فاه, وما هما ببالغتين فاه أبدًا . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ) قال: لا ينفعونهم بشيء إلا كما ينفع هذا بكفيه, يعني بَسْطَهما إلى ما لا ينالُ أبدًا . وقال آخرون: في ذلك ما: حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ) وليس الماء ببالغ فاه ما قام باسطًا كفيه لا يقبضهما ( وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) . قال: هذا مثلٌ ضربه الله لمن اتخذ من دون الله إلهًا أنه غير نافعه, ولا يدفع عنه سوءًا حتى يموت على ذلك . وقوله: ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) يقول: وما دعاء من كفر بالله ما يدعو من الأوثان والآلهة ( إلا في ضلال ) ، يقول: إلا في غير استقامة ولا هدًى, لأنه يشرك بالله . القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ( 15 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن امتنع هؤلاء الذين يدعون من دون الله الأوثان والأصنام لله شركاء من إفراد الطاعة والإخلاص بالعبادة له فلله يسجد من في السموات من الملائكة الكرام ومن في الأرض من المؤمنين به طوعًا, فأما الكافرون به فإنهم يسجدون له كَرْهًا حين يُكْرَهون على السُّجود . كما:- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا ) ، فأما المؤمن فيسجد طائعًا, وأما الكافر فيسجد كارهًا . حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان قال: كان ربيع بن خُثيم إذا تلا هذه الآية: ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا ) قال: بلى يا رَبَّاه . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا ) قال: من دخل طائعًا، هذا طوعًا ( وكرهًا ) من لم يدخل إلا بالسَّيف . وقوله: ( وظلالهم بالغدوّ والآصال ) يقول: ويسجد أيضًا ظلالُ كل من سجد طوعًا وكرهًا بالغُدُوات والعَشَايا. وذلك أن ظلَّ كلٍّ شخص فإنه يفيء بالعشيّ، كما قال جل ثناؤه أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ، [ سورة النحل:48 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( وظلالهم بالغدوّ والآصال ) ، يعني: حين يفيء ظلُّ أحدهم عن يمينه أو شماله . حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن الزبير, عن سفيان قال في تفسير مجاهد: ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدوّ والآصال ) قال: ظل المؤمن يسجد طوعًا وهو طائع, وظلُّ الكافر يسجد طوعًا وهو كاره . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( وظلالهم بالغدوّ والآصال ) قال: ذُكر أن ظلال الأشياء كلها تسجد له, وقرأ: سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ [ سورة النحل:48 ] . قال: تلك الظلال تسجد لله . و « الآصال » : جمع أصُلٍ, و « الأصُل » : جمع « أصيلٍ » ، و « الأصيل » : هو العشيُّ, وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس، قال أبو ذؤيب: لَعَمْـرِي لأَنْـتَ البَيْـتُ أُكْـرِمَ أَهْلَـهُ وَأَقْعُــدُ فِــي أَفْيَائِــهِ بِالأصَـائِلِ القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله :مَنْ رَبُّ السموات والأرض ومدبِّرها, فإنهم سيقولون الله . وأمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يقول: « الله » , فقال له: قل، يا محمد: ربُّها، الذي خلقها وأنشأها, هو الذي لا تصلح العبادة إلا له, وهو الله . ثم قال: فإذا أجابوك بذلك فقل لهم: أفاتخذتم من دون رب السموات والأرض أولياء لا تملك لأنفسها نفعًا تجلبه إلى نفسها, ولا ضرًّا تدفعه عنها, وهي إذ لم تملك ذلك لأنفسها, فمِنْ مِلْكه لغيرها أبعدُ فعبدتموها, وتركتم عبادة من بيده النفع والضر والحياة والموت وتدبير الأشياء كلها . ثم ضرب لهم جل ثناؤه مثلا فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ . القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ( 16 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عَبدُوا من دون الله الذي بيده نفعهم وضرهم ما لا ينفع ولا يضرُّ: ( هل يستوي الأعمى ) الذي لا يُبصر شيئًا ولا يهتدي لمحجة يسلكها إلا بأن يُهدى و « البصير » الذي يهدي الأعمى لمحجة الطريق الذي لا يُبصر؟ إنهما لا شك لغير مستويين. يقول: فكذلك لا يستوي المؤمن الذي يُبصر الحق فيتبعه ويعرف الهدى فيسلكه، وأنتم أيها المشركون الذين لا تعرفون حقا ولا تبصرون رَشَدًا . وقوله: ( أم هل تستوي الظلمات والنور ) ، يقول تعالى ذكره: وهل تستوي الظلماتُ التي لا تُرَى فيها المحجة فتُسْلَك ولا يرى فيها السبيل فيُرْكَب والنور الذي تبصر به الأشياء ويجلو ضوءه الظّلام؟ يقول: إن هذين لا شك لغير مستويين, فكذلك الكفر بالله, إنما صاحبه منه في حَيرة يضرب أبدًا في غمرة لا يرجع منه إلى حقيقة, والإيمان بالله صاحبه منه في ضياء يعمل على علم بربه، ومعرفةٍ منه بأن له مثيبًا يثيبه على إحسانه ومعاقبًا يعاقبه على إساءته ورازقًا يرزقه ونافعًا ينفعه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور ) ، أما ( الأعمى والبصير ) فالكافر والمؤمن وأما ( الظلمات والنور ) فالهدى والضلالة . وقوله: ( أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخَلَق أوثانُكم التي اتخذتموها أولياء من دون الله خلقًا كخلق الله، فاشتبه عليكم أمرُها فيما خَلقت وخَلَق الله فجعلتموها له شركاء من أجل ذلك, أم إنما بكم الجهل والذهابُ عن الصواب؟ فإنه لا يشكل على ذي عقل أنّ عبادة ما لا يضرّ ولا ينفع من الفعل جهلٌ, وأن العبادة إنما تصلح للذي يُرْجَى نفعه وُيخْشَى ضَرَّه, كما أن ذلك غير مشكل خطؤه وجهلُ فاعله, كذلك لا يشكل جهل من أشرك في عبادة من يرزقه ويكفله ويَمُونه، من لا يقدِرُ له على ضررّ ولا نفع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ) حملهم ذلك على أن شكُّوا في الأوثان . حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ) ، خلقوا كخلقه, فحملهم ذلك على أن شكُّوا في الأوثان . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . ... قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن كثير: سمعت مجاهدًا يقول: ( أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ) ضُرِبت مثلا . وقوله: ( قل الله خالق كل شيء ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين إذا أقرُّوا لك أن أوثانهم التي أشركوها في عبادة الله لا تخلق شيئًا, فاللهُ خالقكم وخالق أوثانكم وخالق كل شيء, فما وجه إشراككم ما لا يخلق ولا يضرّ؟ وقوله: ( وهو الواحد القهار ) ، يقول: وهو الفرد الذي لا ثاني له ( القهار ) ، الذي يستحق الألوهة والعبادة, لا الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع . القول في تأويل قوله تعالى : أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ ( 17 ) قال أبو جعفر: وهذا مثل ضربه الله للحق والباطل، والإيمان به والكفر. يقول تعالى ذكره: مثل الحق في ثباته والباطل في اضمحلاله، مثل ماء أنـزله الله من السماء إلى الأرض ( فسالت أوديةٌ بقدرها ) ، يقول: فاحتملته الأودية بملئها، الكبير بكبره، والصغير بصغره ( فاحتمل السيل زبدًا رابيًا ) ، يقول: فاحتمل السيل الذي حدث عن ذلك الماء الذي أنـزله الله من السماء، زبدًا عاليًا فوق السيل . فهذا أحدُ مثلي الحقّ والباطل, فالحق هو الماءُ الباقي الذي أنـزله الله من السماء, والزبد الذي لا ينتفع به هو الباطل . والمثل الآخر: ( ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية ) يقول جل ثناؤه: ومثلٌ آخر للحقّ والباطل, مثل فضة أو ذهب يوقد عليها الناس في النار طلب حلية يتخذونها أو متاع, وذلك من النحاس والرصاص والحديد, يوقد عليه ليتخذ منه متاع ينتفع به، ( زبد مثله ) ، يقول تعالى ذكره: ومما يوقدون عليه من هذه الأشياء زبد مثله, يعني: مثل زبد السَّيل لا ينتفع به ويذهب باطلا كما لا ينتفع بزبد السَّيل ويذهب باطلا . ورفع « الزبد » بقوله: ( ومما يوقدون عليه في النار ) . ومعنى الكلام: ومما يوقدون عليه في النار زبدٌ مثلُ زبد السيل في بطول زبده, وبقاء خالص الذهب والفضة . يقول الله تعالى: ( كذلك يضرب الله الحق والباطل ) ، يقول: كما مثَّل الله مثلَ الإيمان والكفر، في بُطُول الكفر وخيبة صاحبه عند مجازاة الله، بالباقي النافع من ماء السيل وخالص الذهب والفضة, كذلك يمثل الله الحق والباطل ( فأما الزبد فيذهب جُفَاء ) يقول: فأما الزبد الذي علا السيل والذهب والفضة والنحاس والرصاص عند الوقود عليها, فيذهب بدفع الرياح وقذف الماء به، وتعلُّقه بالأشجار وجوانب الوادي ( وأما ما ينفع الناس ) من الماء والذهب والفضة والرصاص والنحاس, فالماء يمكثُ في الأرض فتشربه, والذهب والفضة تمكث للناس ( كذلك يضرب الله الأمثال ) يقول: كما مثَّل هذا المثل للإيمان والكفر, كذلك يمثل الأمثال . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) فهذا مثل ضربه الله، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكّها, فأما الشك فلا ينفع معه العمل, وأما اليقين فينفع الله به أهله, وهو قوله: ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) ، وهو الشك ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، وهو اليقين, كما يُجْعل الحَلْيُ في النار فيؤخذ خالصُه ويترك خَبَثُه في النار, فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك . حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدًا رابيًا ) ، يقول: احتمل السيل ما في الوادي من عود ودِمْنة، ( ومما يوقدون عليه في النار ) فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد, وللنحاس والحديد خَبَث, فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء . فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة, وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت . فجعل ذلك مثل العمل الصالح يبقى لأهله, والعمل السيءُ يضمحل عن أهله, كما يذهب هذا الزبد, فكذلك الهدى والحق جاء من عند الله, فمن عمل بالحق كان له، وبقي كما يبقى ما ينفع الناس في الأرض. وكذلك الحديد لا يستطاع أن تجعل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النّار فتأكل خبَثَه, فيخرج جيّده فينتفع به. فكذلك يضمحل الباطل إذا كان يوم القيامة، وأقيم الناس, وعرضت الأعمال, فيزيغ الباطل ويهلك, وينتفع أهل الحق بالحق, ثم قال: ( ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حِلْية أو متاع زبدٌ مثله ) . حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن, في قوله: ( أنـزل من السماء ماء فسالت أودية ) إلى: ( أو متاع زبد مثله ) ، فقال: ابتغاء حلية الذهب والفضة, أو متاع الصُّفْر والحديد . قال: كما أوقد على الذهب والفضة والصُّفْر والحديد فخلص خالصه. قال: ( كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، كذلك بقاء الحق لأهله فانتفعوا به . حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال: حدثنا حجاج بن محمد قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول: ( أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) ، قال: ما أطاقت ملأها ( فاحتمل السيل زبدًا رابيًا ) قال: انقضى الكلام, ثم استقبل فقال: ( ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ) قال: المتاع: الحديد والنحاس والرصاص وأشباهه ( زبد مثله ) قال: خَبَثُ ذلك مثل زَبَد السيل . قال: ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، وأما الزبد فيذهب جفاء، قال: فذلك مثل الحق والباطل . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, عن مجاهد: أنه سمعه يقول: فذكر نحوه وزاد فيه، قال: قال ابن جريج: قال مجاهد قوله: ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) قال: جمودًا في الأرض, ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، يعني الماء. وهما مثلان: مثل الحق والباطل . حدثنا الحسن قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( زبدًا رابيًا ) السيل مثل خَبَث الحديد والحلية ( فيذهب جفاء ) جمودًا في الأرض ( ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ) ، الحديد والنحاس والرصاص وأشباهه . وقوله: ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، إنما هما مثلان للحق والباطل . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ... قال، وحدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد يزيد أحدهما على صاحبه في قوله: ( فسالت أودية بقدرها ) قال: بملئها ( فاحتمل السيل زبدًا رابيًا ) ، قال: الزبد: السيل ( ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ) ، قال: خبث الحديد والحلية ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) قال: جمودًا في الأرض ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) قال: الماء وهما مثلان للحق والباطل . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) ، الصغير بصغره، والكبير بكبره ( فاحتمل السيل زبدًا رابيًا ) أي عاليًا ( ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء ) و « الجفاء » : ما يتعلق بالشجر ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) . هذه ثلاثة أمثال ضربَها الله في مثلٍ واحد. يقول: كما اضمحلّ هذا الزبد فصار جُفاءً لا ينتفع به ولا تُرْجى بركته, كذلك يضمحلّ الباطل عن أهله كما اضمحل هذا الزبد, وكما مكث هذا الماء في الأرض, فأمرعت هذه الأرض وأخرجت نباتها, كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي هذا الماء في الأرض, فأخرج الله به ما أخرج من النبات قوله: ( ومما يوقدون عليه في النار ) الآية, كما يبقى خالص الذهب والفضة حين أدخل النار وذهب خَبَثه, كذلك يبقى الحق لأهله قوله: ( أو متاع زبد مثله ) ، يقول: هذا الحديد والصُّفْر الذي ينتفع به فيه منافع. يقول: كما يبقى خالص هذا الحديد وهذا الصُّفر حين أدخل النار وذهب خَبَثه, كذلك يبقى الحق لأهله كما بقي خالصهما . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( فسالت أودية بقدرها ) ، الكبير بقدره، والصغير بقدره ( زبدًا رابيًا ) قال: ربا فوق الماء الزبد « ومما يوقدون عليه في النار » قال: هو الذهب إذا أدخل النار بقي صَفْوه ونُفِيَ ما كان من كَدَره. وهذا مثل ضربه الله . للحق والباطل ( فأما الزبد فيذهب جفاء ) ، يتعلق بالشجر فلا يكون شيئًا. هذا مثل الباطل ( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) ، وهذا يخرج النبات. وهو مثل الحق ( أو متاع زبد مثله ) قال: « المتاع » ، الصُّفْر والحديد . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا هوذة بن خليفة قال: حدثنا عوف قال: بلغني في قوله: ( أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ) قال: إنما هو مثل ضربه الله للحق والباطل ( فسالت أودية بقدرها ) الصغير على قدره, والكبير على قدره, وما بينهما على قدره ( فاحتمل السيل زبدًا رابيًا ) يقول: عظيمًا, وحيث استقرَّ الماءُ يذهب الزبد جفاءً فتطير به الريح فلا يكون شيئًا, ويبقى صريح الماء الذي ينفع الناس، منه شرابهم ونباتهم ومنفعتهم ( أو متاع زبد مثله ) ، ومثل الزبد كلّ شيء يوقد عليه في النار الذهب والفضة والنحاس والحديد, فيذهب خَبَثُه ويبقى ما ينفع في أيديهم, والخبث والزَّبد مثل الباطل, والذي ينفع الناس مما تحصَّل في أيديهم مما ينفعهم المال الذي في أيديهم . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله » قال: هذا مثل ضربه الله للحق والباطل . فقرأ: ( أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدًا رابيًا ) هذا الزبد لا ينفع ( أو متاع زبد مثله ) ، هذا لا ينفع أيضًا قال: وبقي الماءُ في الأرض فنفع الناس, وبقي الحَلْيُ الذي صلح من هذا, فانتفع الناس به ( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) ، وقال: هذا مثل ضربه الله للحق والباطل . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: ( أودية بقدرها ) قال: الصغير بصغره, والكبير بكبره . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا طلحة بن عمرو, عن عطاء: ضرب الله مثلا للحق والباطل, فضرب مثل الحق كمثل السيل الذي يمكث في الأرض, وضرب مثل الباطل كمثل الزبد الذي لا ينفع الناس . وعنى بقوله: ( رابيًا ) ، عاليًا منتفخًا, من قولهم: رَبَا الشيء يَرْبُو رُبُوًا فهو رابٍ, ومنه قيل للنَّشْز من الأرض كهيئة الأكمة: « رابية » ، ومنه قول الله تعالى: اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ . [ سورة الحج5/سورة فصلت39 ] . وقيل للنحاس والرصاص والحديد في هذا الموضع « المتاع » ، لأنه يستمتع به, وكل ما يتمتع به الناس فهو « متاع » ، كما قال الشاعر: تَمَتَّــعْ يــا مُشَــعَّثُ إنَّ شَــيْئًا سَــبَقْتَ بِـهِ المَمَـاتَ هُـوَ المَتَـاعُ وأما الجفاء فإني: حدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال أبو عمرو بن العلاء: يقال: قد أجفأت القِدْرُ, وذلك إذا غلت فانصبَّ زَبدها, أو سَكنَت فلا يبقى منه شيءٌ . وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة، أن معنى قوله: ( فيذهب جفاء ) تنشِفهُ الأرض, وقال: يقال: جفا الوادي وأجفى في معنى نشف, « وانجفى الوادي » ، إذا جاء بذلك الغثاء, « وغَثَى الوادي فهو يَغْثَى غَثْيًا وغَثَيَانًا » وذكر عن العرب أنها تقول: « جفأتُ القدر أجفؤها » ، إذا أخرجتَ جُفَاءها, وهو الزبد الذي يعلوها و « أجفأتها إجفاء » لغة . قال: وقالوا: « جفأت الرجل جَفْأً » : صرعته . وقيل: ( فيذهب جفاء ) بمعنى « جفأ » , لأنه مصدر من قول القائل: « جفأ الوادي غُثاءه, فخرج مخرج الاسم، وهو مصدر, كذلك تفعل العرب في مصدر كلّ ما كان من فعل شيء اجتمع بعضُه إلى بعض كـ » القُمَاش والدُّقاق والحُطام والغُثَاء « , تخرجه على مذهب الاسم, كما فعلت ذلك في قولهم: » أعطيتُه عَطاء « , بمعنى الإعطاء, ولو أريد من » القماش « ، المصدر على الصحة لقيل: » قد قمشه قَمْشًا « . » القول في تأويل قوله تعالى : لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 18 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أما الذين استجابوا لله فآمنوا به حين دعاهم إلى الإيمان به، وأطاعوه فاتبعوا رسوله وصدّقوه فيما جاءهم به من عند الله, فإن لهم الحسنى, وهي الجنة، كذلك:- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( للذين استجابوا لربهم الحسنى ) وهي الجنة . وقوله: ( والذين لم يستجيبوا له لو أنّ لهم ما في الأرض جميعًا ومثله معه لافتدوا به ) ، يقول تعالى ذكره: وأما الذين لم يستجيبوا لله حين دعاهم إلى توحيده والإقرار بربوبيته، ولم يطيعوه فيما أمرهم به, ولم يتبعوا رسوله فيصدقوه فيما جاءهم به من عند ربهم, فلو أن لهم ما في الأرض جميعًا من شيء ومثله معه ملكًا لهم، ثم قُبِل مثل ذلك منهم، وقبل منهم بدلا من العذاب الذي أعدّه الله لهم في نار جهنم وعوضًا، لافتدوا به أنفسهم منه, يقول الله: ( أولئك لهم سوء الحساب ) ، يقول: هؤلاء الذين لم يستجيبوا لله لهم سوء الحساب، يقول: لهم عند الله أن يأخذهم بذنوبهم كلها, فلا يغفر لهم منها شيئا, ولكن يعذبهم على جميعها . كما:- حدثنا الحسن بن عرفة قال: حدثنا يونس بن محمد قال: حدثنا عون, عن فرقد السبخي قال: قال لنا شهر بن حوشب: ( سوء الحساب ) أن لا يتجاوز لهم عن شيء . حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية قال: حدثني الحجاج بن أبي عثمان قال: حدثني فرقد السبخي قال: قال إبراهيم النخعي: يا فرقد أتدري ما « سوء الحساب » ؟ قلت: لا ! قال: هو أن يحاسب الرّجل بذنبه كله لا يغفر له منه شيء . وقوله: ( ومأواهم جهنم ) يقول: ومسكنهم الذي يسكنونه يوم القيامة جهنم ( وبئس المهاد ) ، يقول: وبئس الفراش والوطاءُ جهنمُ التي هي مأواهم يوم القيامة . القول في تأويل قوله تعالى : أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ( 19 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أهذا الذي يعلم أنّ الذي أنـزله الله عليك، يا محمد، حق فيؤمن به ويصدق ويعمل بما فيه, كالذي هو أعمى فلا يعرف موقع حُجَة الله عليه به ولا يعلم ما ألزمه الله من فَرَائصه؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا إسحاق قال: حدثنا هشام, عن عمرو, عن سعيد, عن قتادة في قوله: ( أفمن يعلم أنما أنـزل إليك من ربك الحق ) ، قال: هؤلاء قوم انتفعُوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووَعَوْه، قال الله: ( كمن هو أعمى ) ، قال: عن الخير فلا يبصره . وقوله: ( إنما يتذكر أولو الألباب ) يقول: إنما يتعظ بآيات الله ويعتبر بها ذوو العقول، وهي « الألباب » واحدها « لُبٌّ » . القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ( 20 ) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ( 21 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما يتعظ ويعتبر بآيات الله أولو الألباب، الذين يوفون بوصية الله التي أوصاهم بها ( ولا ينقضون الميثاق ) ، ولا يخالفون العهد الذي عاهدوا الله عليه إلى خلافه, فيعملوا بغير ما أمرهم به، ويخالفوا إلى ما نهى عنه . وقد بينا معنى « العهد » و « الميثاق » فيما مضى بشواهده, فأغنى عن إعادته في هذا الموضع . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا هشام, عن عمرو, عن سعيد, عن قتادة قال: ( إنما يتذكر أولو الألباب ) ، فبيَّن من هم, فقال: ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ) ، فعليكم بوفاء العهد, ولا تنقضوا هذا الميثاق, فإن الله تعالى قد نهى وقدَّم فيه أشد التَّقْدمة, فذكره في بضع وعشرين موضعًا نصيحةً لكم وتقدِمَةً إليكم، وحجة عليكم, وإنما يعظُمُ الأمر بما عظَّمه الله به عند أهل الفهم والعقل, فعظِّموا ما عظم الله. قال قتادة: وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: « لا إيمان لمن لا أمانة له, ولا دين لمن لا عهد له » . وقوله: ( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ) ، يقول تعالى ذكره: والذين يصلون الرَّحم التي أمرهم الله بوصلها فلا يقطعونها ( ويخشون ربهم ) ، يقول: ويخافون الله في قطْعها أن يقطعوها, فيعاقبهم على قطعها وعلى خلافهم أمرَه فيها . وقوله: ( ويخافون سوء الحساب ) ، يقول: ويحذرون مناقشة الله إياهم في الحساب, ثم لا يصفح لهم عن ذنب, فهم لرهبتهم ذلك جادُّون في طاعته، محافظون على حدوده . كما:- حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا عفان قال: حدثنا جعفر بن سليمان, عن عمرو بن مالك, عن أبي الجوزاء في قوله: ( الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ) قال: المقايسةُ بالأعمال . ... قال: حدثنا عفان قال: حدثنا حماد, عن فرقد, عن إبراهيم قال: ( سوء الحساب ) أن يحاسب من لا يغفر له . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ويخافون سوء الحساب ) ، قال، فقال: وما ( سوء الحساب ) ؟ قال: الذي لا جَوَاز فيه . حدثني ابن سمان القزاز قال، حدثنا أبو عاصم, عن الحجاج, عن فرقد قال: قال لي إبراهيم: تدري ما ( سوء الحساب ) ؟ قلت: لا أدري قال: يحاسب العبد بذنبه كله لا يغفرُ له منه شيء . القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ( 22 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين صبروا على الوفاء بعهد الله، وترك نقض الميثاق وصلة الرحم ( ابتغاء وجه ربهم ) ، ويعني بقوله: ( ابتغاء وجه ربهم ) ، طلب تعظيم الله, وتنـزيهًا له أن يُخالَفَ في أمره أو يأتي أمرًا كره إتيانه فيعصيه به ( وأقاموا الصلاة ) ، يقول: وأدُّوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها ( وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية ) يقول: وأدَّوا من أموالهم زكاتها المفروضة وأنفقوا منها في السبل التي أمرهم الله بالنفقة فيها ( سرًّا ) في خفاء « وعلانية » في الظاهر . كما:- حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( وأقاموا الصلاة ) يعني الصلوات الخمس ( وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية ) . يقول الزكاة . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد « الصبر » ، الإقامة. قال، وقال « الصبر » في هاتين, فصبرٌ لله على ما أحبَّ وإن ثقل على الأنفس والأبدان, وصبرٌ عمَّا يكره وإن نازعت إليه الأهواء. فمن كان هكذا فهو من الصابرين . وقرأ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ . [ سورة الرعد:24 ] وقوله: ( ويدرءون بالحسنة السيئة ) ، يقول: ويدفعون إساءة من أساء إليهم من الناس, بالإحسان إليهم. كما:- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( ويدرءون بالحسنة السيئة ) ، قال: يدفعون الشر بالخير, لا يكافئون الشرّ بالشر، ولكن يدفعونه بالخير . وقوله: ( أولئك لهم عقبى الدار ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا صفتهم، هم الذين ( لهم عقبى الدار ) , يقول: هم الذين أعقبهم الله دارَ الجنان، من دارهم التي لو لم يكونوا مؤمنين كانت لهم في النار, فأعقبهم الله من تلك هذه . وقد قيل: معنى ذلك: أولئك الذين لهم عقِيبَ طاعتهم ربَّهم في الدنيا، دارُ الجنان . القول في تأويل قوله تعالى : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ( 23 ) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ( 24 ) قال أبو جعفر: يقول ( جنات عدن ) ، ترجمة عن ( عقبى الدار ) كما يقال: « نعم الرجل عبد الله » , فعبد الله هو الرجل المقول له: « نعم الرجل » , وتأويل الكلام: أولئك لهم عَقيِبَ طاعتهم ربِّهم الدارُ التي هي جَنَّات عدْنٍ . وقد بينا معنى قوله: ( عدن ) , وأنه بمعنى الإقامة التي لا ظَعْنَ معها . وقوله: ( ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ) ، يقول تعالى ذكره: جنات عدن يدخلها هؤلاء الذين وصف صفتهم وهم الذين يوفون بعهد الله, والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم, والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم, وأقاموا الصلاة, وفعلوا الأفعال التي ذكرها جل ثناؤه في هذه الآيات الثلاث ( ومن صلح من آبائهم وأزواجهم ) ، وهي نساؤهم وأهلوهم و « ذرّيّاتهم » . . و « صلاحهم » إيمانهم بالله واتباعهم أمره وأمر رسوله عليه السلام . كما:- حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( ومن صلح من آبائهم ) قال: من آمن في الدنيا . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد وحدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( ومن صلح من آبائهم ) قال: من آمن من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . وقوله: ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم ) ، يقول: تعالى ذكره: وتدخل الملائكة على هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه صفتهم في هذه الآيات الثلاث في جنات عدن, من كل باب منها, يقولون لهم: ( سلام عليكم بما صبرتم ) على طاعة ربكم في الدنيا ( فنعم عقبى الدار ) . وذكر أن لجنات عدن خمسة آلاف باب . حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا علي بن جرير قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن يعلى بن عطاء, عن نافع بن عاصم, عن عبد الله بن عمرو قال: إن في الجنة قصرًا يقال له « عدن » , حوله البروج والمروج, فيه خمسة آلاف باب, على كل باب خمسة آلاف حِبَرة, لا يدخله إلا نبيٌ أو صديق أو شهيدٌ . ... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء, عن جويبر, عن الضحاك, في قوله: ( جنات عدن ) قال: مدينة الجنة, فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى, والناسُ حولهم بعدد الجنات حوْلها . وحذف من قوله: ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم ) ، « يقولون » ، اكتفاءً بدلالة الكلام عليه, كما حذف ذلك من قوله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا . [ سورة السجدة:12 ] حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك, عن بقية بن الوليد قال: حدثني أرطاة بن المنذر قال: سمعت رجلا من مشيخة الجند يقال له « أبو الحجاج » , يقول: جلست إلى أبي أمامة فقال: إن المؤمن ليكون متّكئًا على أريكته إذا دخل الجنة, وعنده سِمَاطان من خَدَمٍ, وعند طرف السِّماطين بابٌ مبوَّبٌ، فيقبل المَلَك يستأذن؛ فيقول أقصى الخدم للذي يليه: « ملك يستأذن » ، ويقول الذي يليه للذي يليه: ملك يستأذن حتى يبلغ المؤمن فيقول: ائذنوا. فيقول: أقربهم إلى المؤمن ائذنوا. ويقول الذي يليه للذي يليه: ائذنوا. فكذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب, فيفتح له, فيدخل فيسلّم ثم ينصرف . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك, عن إبراهيم بن محمد, عن سُهَيْل بن أبي صالح, عن محمد بن إبراهيم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: « السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار » , وأبو بكر وعمر وعثمان . وأما قوله: ( سلام عليكم بما صبرتم ) فإن أهل التأويل قالوا في ذلك نحو قولنا فيه . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الرزاق, عن جعفر بن سليمان, عن أبي عمران الجوني أنه تلا هذه الآية: ( سلام عليكم بما صبرتم ) قال: على دينكم . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( سلام عليكم بما صبرتم ) قال: حين صبروا بما يحبه الله فقدّموه . وقرأ: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ، حتى بلغ: وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [ سورة الإنسان:12- 22 ] وصبروا عما كره الله وحرم عليهم, وصبروا على ما ثقل عليهم وأحبه الله, فسلم عليهم بذلك . وقرأ: ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) . وأما قوله: ( فنعم عقبى الدار ) فإن معناه إن شاء الله كما:- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال حدثنا عبد الرزاق, عن جعفر, عن أبي عمران الجوني في قولهم ( فنعم عقبى الدار ) قال: الجنة من النار . القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ( 25 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره و أما الذين ينقضون عهد الله , ونقضهم ذلك، خلافهم أمر الله, وعملهم بمعصيته ( من بعد ميثاقه ) ، يقول: من بعد ما وثّقوا على أنفسهم لله أن يعملوا بما عهد إليهم ( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) ، يقول: ويقطعون الرحم التي أمرهم الله بوصلها ( ويفسدون في الأرض ) ، فسادهم فيها: عملهم بمعاصي الله ( أولئك لهم اللعنة ) ، يقول: فهؤلاء لهم اللعنة, وهي البعد من رحمته، والإقصاء من جِنانه ( ولهم سوء الدار ) يقول: ولهم ما يسوءهم في الدار الآخرة . حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله, لأن الله يقول: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ [ سورة الحج:31 ] ، ونقض العهد، وقطيعة الرحم, لأن الله تعالى يقول: ( أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) ، يعني: سوء العاقبة . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال : قال ابن جريج, في قوله: ( ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) ، قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا لم تمش إلى ذي رحمك برجلك ولم تعطه من مالك فقد قطعته » . حدثني محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرة, عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي عن هذه الآية: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ سورة الكهف:103 ، 104 ] ، أهم الحرورية؟ قال: لا ولكن الحرورية ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) ، فكان سعدٌ يسميهم الفاسقين . حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا شعبة, عن عمرو بن مرة قال: سمعت مصعب بن سعد قال: كنت أمسك على سعدٍ المصحف, فأتى على هذه الآية, ثم ذكر نحو حديث محمد بن جعفر . القول في تأويل قوله تعالى : اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ ( 26 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله يوسّع على من يَشاء من خلقه في رزقه, فيبسط له منه لأن منهم من لا يُصْلحه إلا ذلك ( ويقدر ) ، يقول: ويقتِّر على من يشاء منهم في رزقه وعيشه, فيضيّقه عليه, لأنه لا يصلحه إلا الإقتار ( وفرحوا بالحياة الدنيا ) ، يقول تعالى ذكره: وفرح هؤلاء الذين بُسِط لهم في الدنيا من الرزق على كفرهم بالله ومعصيتهم إياه بما بسط لهم فيها، وجهلوا ما عند الله لأهل طاعته والإيمان به في الآخرة من الكرامة والنعيم . ثم أخبر جلّ ثناؤه عن قدر ذلك في الدنيا فيما لأهل الإيمان به عنده في الآخرة وأعلم عباده قِلّته, فقال: ( وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) ، يقول: وما جميع ما أعطى هؤلاء في الدنيا من السَّعة وبُسِط لهم فيها من الرزق ورغد العيش، فيما عند الله لأهل طاعته في الآخرة ( إلا متاع ) قليل، وشيء حقير ذاهب . كما:- حدثنا الحسن بن محمد، قال، حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( إلا متاع ) قال: قليلٌ ذاهب . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد ... قال: وحدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) ، قال: قليلٌ ذاهب . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن بكير بن الأخنس, عن عبد الرحمن بن سابط في قوله: ( وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاعٌ ) قال: كزاد الرّاعي يُزوِّده أهله: الكفِّ من التمر, أو الشيء من الدقيق, أو الشيء يشرَبُ عليه اللبن . القول في تأويل قوله تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ( 27 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويقول لك يا محمد، مشركو قومك: هلا أنـزل عليك آية من ربك, إمّا ملك يكون معك نذيرًا, أو يُلْقَى إليك كنـز؟ فقل: إن الله يضل منكم من يشاء أيها القوم، فيخذله عن تصديقي والإيمان بما جئته به من عند ربي ( ويَهدي إليه من أناب ) , فرجع إلى التوبة من كفره والإيمان به, فيوفقه لاتباعي وتصديقي على ما جئته به من عند ربه، وليس ضلالُ من يضلّ منكم بأن لم ينـزل علي آية من ربّي ولا هداية من يهتدي منكم بأنَّها أنـزلت عليّ, وإنما ذلك بيَدِ الله, يوفّق من يشاء منكم للإيمان ويخذل من يشاء منكم فلا يؤمن . وقد بينت معنى « الإنابة » ، في غير موضع من كتابنا هذا بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( ويهدي إليه من أناب ) : أي من تاب وأقبل . القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ( 28 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ بالتوبة الذين آمنوا . و ( الذين آمنوا ) في موضع نصب، ردٌّ على « مَنْ » , لأن « الذين آمنوا » ، هم « من أناب » ، ترجم بها عنها . وقوله: وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ، يقول: وتسكن قلوبهم وتستأنس بذكر الله، كما:- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ يقول: سكنت إلى ذكر الله واستأنست به . وقوله: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ، يقول: ألا بذكر الله تسكن وتستأنس قلوبُ المؤمنين . وقيل: إنه عنى بذلك قلوب المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ لمحمد وأصحابه . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل وحدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ قال: لمحمد وأصحابه . ... قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا سفيان بن عيينة في قوله: وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ( 29 ) وقوله: ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، الصالحات من الأعمال, وذلك العمل بما أمرهم ربهم ( طوبى لهم ) . و « طوبى » في موضع رفع بـ « لهم » . وكان بعض أهل البصرة والكوفة يقول: ذلك رفع, كما يقال في الكلام: « ويلٌ لعمرو » . قال أبو جعفر: وإنما أوثر الرفع في ( طوبى ) لحسن الإضافة فيه بغير « لام » , وذلك أنه يقال فيه « طوباك » , كما يقال: « ويلك » ، و « ويبك » , ولولا حسن الإضافة فيه بغير لام، لكان النصب فيه أحسنَ وأفصح, كما النصب في قولهم: « تعسًا لزيد، وبعدًا له وسُحقًا » أحسن, إذ كانت الإضافة فيها بغير لام لا تحسن . وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( طوبى لهم ) . فقال بعضهم: معناه: نِعْم ما لهم . ذكر من قال ذلك: حدثني جعفر بن محمد البروري من أهل الكوفة قال: حدثنا أبو زكريا الكلبي, عن عمر بن نافع قال: سئل عكرمة عن « طوبى لهم » قال: نعم ما لهم . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا عمرو بن نافع, عن عكرمة في قوله: ( طوبى لهم ) قال: نعم ما لهم . حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثني عمرو بن نافع قال: سمعت عكرمة, في قوله: ( طوبى لهم ) قال: نِعْم مَا لهم . وقال آخرون: معناه: غبطة لهم . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام قال: حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: ( طوبى لهم ) قال: غبطةٌ لهم . حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الرحمن بن مغراء, عن جويبر, عن الضحاك, مثله . ... قال: حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, مثله . وقال آخرون: معناه: فرحٌ وقُرَّةُ عين . ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن داود والمثنى بن إبراهيم قالا حدثنا عبد الله قال . حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( طوبى لهم ) ، يقول: فرحٌ وقُرَّة عين . وقال آخرون: معناه: حُسْنَى لهم . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( طوبى لهم ) ، يقول: حسنى لهم, وهي كلمة من كلام العرب . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة . ( طوبى لهم ) ، هذه كلمة عربية, يقول الرجل: طوبى لك: أي أصبتَ خيرًا . وقال آخرون: معناه: خير لهم . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو هشام قال: حدثنا ابن يمان قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم قال: خير لهم . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم, في قوله: ( طوبى لهم ) ، قال: الخير والكرامة التي أعطاهم الله . وقال آخرون: ( طوبى لهم ) ، اسم من أسماء الجنة, ومعنى الكلام، الجنة لهُم . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( طوبى لهم ) قال: اسم الجنة، بالحبشية . حدثنا أبو هشام قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( طوبى لهم ) ، قال: اسم أرض الجنة، بالحبشية . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن مشجوج في قوله: ( طوبى لهم ) قال: ( طوبى ) : اسم الجنة بالهندية . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا داود بن مهران قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن مشجوج قال: اسم الجنة بالهندية: ( طوبى ) . حدثنا أبو هشام قال: حدثنا ابن يمان قال: حدثنا سفيان, عن السدي, عن عكرمة: ( طوبى لهم ) قال: الجنة . ... قال: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( طوبى لهم ) قال: الجنة . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله . حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثنى عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) قال: لما خلق الله الجنة وفرغ منها قال: ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) ، وذلك حين أعجبته . حدثنا أحمد قال: حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد: ( طوبى لهم ) ، قال الجنة . وقال آخرون: ( طوبى لهم ) : شجرة في الجنة . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا قرة بن خالد, عن موسى بن سالم قال: قال ابن عباس: ( طوبى لهم ) ، شجرة في الجنة . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الأشعث بن عبد الله, عن شهر بن حوشب, عن أبي هريرة: ( طوبى لهم ) : شجرة في الجنة يقول لها: « تَفَتَّقي لعبدي عما شاء » ! فتتفتق له عن الخيل بسروجها ولُجُمها, وعن الإبل بأزمّتها, وعما شاء من الكسوة . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب, عن جعفر, عن شهر بن حوشب قال: ( طوبى ) : شجرة في الجنة, كل شجر الجنة منها, أغصانُها من وراء سور الجنة . حدثني المثنى قال: حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن الأشعث بن عبد الله, عن شهر بن حوشب, عن أبي هريرة قال: في الجنة شجرة يقال لها ( طوبى ) , يقول اللهُ لها: تفَتَّقِي فذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى, عن ابن ثور . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا عبد الجبار قال: حدثنا مروان، قال: أخبرنا العلاء, عن شمر بن عطية, في قوله: ( طوبى لهم ) قال: هي شجرة في الجنة يقال لها ( طوبى ) . حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان, عن منصور, عن حسان أبي الأشرس, عن مغيث بن سُمَيّ قال: ( طوبى ) : شجرة في الجنة, ليس في الجنة دارٌ إلا فيها غصن منها, فيجيء الطائر فيقع، فيدعوه, فيأكل من أحد جنبيه قَدِيدًا ومن الآخر شِوَاء, ثم يقول: « طِرْ » ، فيطير . ... قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثني معاوية, عن بعض أهل الشأم قال: إن ربك أخذ لؤلؤة فوضعها على راحتيه, ثم دملجها بين كفيه, ثم غرسها وسط أهل الجنة, ثم قال لها: امتدّي حتى تبلغي مَرْضاتي « . ففعلت, فلما استوت تفجَّرت من أصولها أنهار الجنة, وهي » طوبى « . » حدثنا الفضل بن الصباح قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم الصنعاني قال: حدثني عبد الصمد بن معقل, أنه سمع وهبًا يقول: إن في الجنة شجرة يقال لها: « طوبى » , يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها ; زهرها رِيَاط, وورقها بُرود وقضبانها عنبر, وبطحاؤها ياقوت, وترابها كافور, ووَحَلها مسك, يخرج من أصلها أنهارُ الخمر واللبن والعسل, وهي مجلسٌ لأهل الجنة . فبينا هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربِّهم, يقودون نُجُبًا مزمومة بسلاسل من ذهب, وجوهها كالمصابيح من حسنها, وبَرَها كخَزّ المِرْعِزَّى من لينه, عليها رحالٌ ألواحها من ياقوت, ودفوفها من ذهب, وثيابها من سندس وإستبرق, فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلِّموا عليه . قال: فيركبونها، قال: فهي أسرع من الطائر, وأوطأ من الفراش نُجُبًا من غير مَهنَة, يسير الرَّجل إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه, لا تصيب أذُنُ راحلة منها أذُنَ صاحبتها, ولا بَرْكُ راحلة بركَ صاحبتها, حتى إن الشجرة لتتنحَّى عن طرُقهم لئلا تفرُق بين الرجل وأخيه . قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم, فيُسْفِر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه, فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام, وحُقَّ لك الجلال والإكرام « . قال: فيقول تبارك وتعالى عند ذلك: » أنا السلام, ومنى السلام, وعليكم حقّت رحمتي ومحبتي, مرحبًا بعبادي الذين خَشُوني بغَيْبٍ وأطاعوا أمري « .قال: فيقولون: » ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك ولم نقدرك حق قدرك, فأذن لنا بالسجود قدَّامك « قال: فيقول الله: إنها ليست بدار نَصَب ولا عبادة, ولكنها دارُ مُلْك ونعيم, وإني قد رفعت عنكم نَصَب العبادة, فسلوني ما شئتم, فإن لكل رجل منكم أمنيّته » . فيسألونه، حتى إن أقصرهم أمنيةً ليقول: ربِّ، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها, رب فآتني كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا « فيقول الله: لقد قصّرت بك اليوم أمنيتُك, ولقد سألت دون منـزلتك, هذا لك مني, وسأتحفك بمنـزلتي, لأنه ليس في عطائي نكَد ولا تَصْريدٌ » . قال: ثم يقول: « اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم، ولم يخطر لهم على بال » . قال: فيعرضون عليهم حتى يَقْضُوهم أمانيهم التي في أنفسهم, فيكون فيما يعرضون عليهم بَرَاذين مقرَّنة, على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة, على كل سرير منها قبة من ذهب مُفْرَغة, في كل قبة منها فُرُش من فُرُش الجنة مُظَاهَرة, في كل قبة منها جاريتان من الحور العين, على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة, ليس في الجنة لونٌ إلا وهو فيهما, ولا ريح طيبة إلا قد عَبِقتَا به, ينفذ ضوء وجوههما غِلَظ القبة, حتى يظن من يراهما أنهما من دُون القُبة, يرى مخهما من فوق سوقهما كالسِّلك الأبيض من ياقوتة حمراء, يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة، أو أفضل, ويرى هولُهما مثل ذلك. ثم يدخل إليهما فيحييانه ويقبّلانه ويعانقانه, ويقولان له: « والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك » ، ثم يأمر الله الملائكة فيسيرون بهم صفًّا في الجنة، حتى ينتهي كل رجُل منهم إلى منـزلته التي أعدّت له . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا علي بن جرير, عن حماد قال: شجرة في الجنة في دار كل مؤمن غصن منها . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن حسان بن أبي الأشرس, عن مغيث بن سمي قال: « طوبى » ، شجرة في الجنة، لو أن رجلا ركب قلوصًا جَذَعا أو جَذَعَة, ثم دار بها، لم يبلغ المكان الذي ارتحل منه حتى يموت هَرمًا . وما من أهل الجنة منـزل إلا فيه غصن من أغصان تلك الشجرة متدلٍّ عليهم, فإذا أرادوا أن يأكلوا من الثمرة تدلّى إليهم فيأكلون منه ما شاؤوا, ويجيء الطير فيأكلون منه قديدًا وشواءً ما شاءوا, ثم يطير . وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بنحو ما قال من قال هي شجرة . *ذكر الرواية بذلك: حدثني سليمان بن داود القومسي قال، حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع قال: حدثنا معاوية بن سلام, عن زيد: أنه سمع أبا سَلام قال: حدثنا عامر بن زيد البكالي: أنه سمع عتبة بن عبد السلمِيّ يقول: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, في الجنة فاكهة؟ قال: نعم, فيها شجرة تدعى « طوبى » , هي تطابق الفردوس . قال: أيّ شجر أرضنا تشبه؟ قال: ليست تشبه شيئًا من شجر أرضك, ولكن أتيتَ الشام؟ فقال: لا يا رسول الله. فقال: فإنها تشبه شجرة تدعى الجَوْزة, تنبت على ساق واحدة، ثم ينتشر أعلاها. قال: ما عِظَم أصلها؟ قال: لو ارتحلتَ جَذَعةً من إبل أهلك، ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر تَرْقُوتَاهَا هَرَمًا . حدثنا الحسن بن شبيب قال: حدثنا محمد بن زياد الجزريّ, عن فرات بن أبي الفرات, عن معاوية بن قرة, عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( طوبى لهم وحسن مآب ) : ، شجرة غرسها الله بيده, ونفخ فيها من روحه، نبتتْ بالحَلْيِ والحُلل, وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث, أن درّاجًا حدّثه أن أبا الهيثم حدثه, عن أبي سعيد الخدري, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رجلا قال له: يا رسول الله، ما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مئة سنة, ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها . قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرواية به, يجب أن يكون القولُ في رفع قوله: ( طوبى لهم ) خلافُ القول الذي حكيناه عن أهل العربية فيه . وذلك أن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن « طوبى » اسم شجرة في الجنة, فإذْ كان كذلك، فهو اسم لمعرفة كزيد وعمرو . وإذا كان ذلك كذلك, لم يكن في قوله: ( وحسن مآب ) إلا الرفع، عطفًا به على « طوبى » . وأما قوله: ( وحسن مآب ) ، فإنه يقول: وحسن منقلب ; كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك: ( وحسن مآب ) ، قال: حسن منقلب . القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ( 30 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هكذا أرسلناك يا محمد في جماعة من الناس يعني إلى جماعةٍ قد خلت من قبلها جماعات على مثل الذي هم عليه, فمضت ( لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك ) ، يقول: لتبلغهم ما أرسَلْتك به إليهم من وحيي الذي أوحيته إليك ( وهم يكفرون بالرحمن ) ، يقول: وهم يجحدون وحدانيّة الله, ويكذّبون بها ( قل هو ربي ) ، يقول: إنْ كفر هؤلاء الذين أرسلتُك إليهم، يا محمد بالرحمن, فقل أنت: الله ربّي ( لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب ) ، يقول: وإليه مرجعي وأوبتي . وهو مصدر من قول القائل: « تبت مَتَابًا وتوبةً . » وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وهم يكفرون بالرحمن ) . ذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم زَمَنَ الحديبية حين صالح قريشًا كتب: « هذا ما صالح عليه محمدٌ رسول الله . فقال مشركو قريش: لئن كنت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ثم قاتلناك لقد ظلمناك! ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله . فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعنا يا رسول الله نقاتلهم ! فقال: لا ولكن اكتبوا كما يريدون إنّي محمد بن عبد الله. فلما كتب الكاتب: » بسم الله الرحمن الرحيم « ، قالت قريش: أما » الرحمن « فلا نعرفه ; وكان أهل الجاهلية يكتبون: » باسمك اللهم « , فقال أصحابه: يا رسول الله، دعنا نقاتلهم ! قال: لا ولكن اكتبوا كما يريدون » . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنى حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال قوله: ( كذلك أرسلناك في أمة قد خلت ) الآية، قال: هذا لمّا كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا في الحديبية، كتب: « بسم الله الرحمن الرحيم » ، قالوا: لا تكتب « الرحمن » , وما ندري ما « الرحمن » , ولا تكتب إلا « باسمك اللهم » .قال الله: ( وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو ) ، الآية . القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: معناه: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ، ( ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال ) ، أي: يكفرون بالله ولو سَيَّر لهم الجبال بهذا القرآن .وقالوا: هو من المؤخر الذي معناه التقديم . وجعلوا جواب « لو » مقدَّمًا قبلها, وذلك أن الكلام على معنى قيلهم: ولو أنّ هذا القرآن سُيَرت به الجبال أو قطعت به الأرض, لكفروا بالرحمن . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ولو أن قرآنا سُيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) قال: هم المشركون من قريش، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو وسعت لنا أودية مكَّة, وسيَّرت جبَالها, فاحترثناها, وأحييت من مات منَّا, وقُطّع به الأرض, أو كلم به الموتى ! فقال الله تعالى: ( ولو أن قرآنا سُيّرت به الجبال أو قُطّعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعًا ) . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) ، قول كفار قريش لمحمد: سيِّر جبالنا تتسع لنا أرضُنا فإنها ضيِّقة, أو قرب لنا الشأم فإنا نَتَّجر إليها, أو أخرج لنا آباءنا من القبور نكلمهم ! فقال الله تعالى ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير قالوا: لو فَسَحت عنّا الجبال, أو أجريت لنا الأنهار, أو كلمتَ به الموتى! فنـزل ذلك قال ابن جريج: وقال ابن عباس: قالوا: سيِّر بالقرآن الجبالَ, قطّع بالقرآن الأرض, أخرج به موتانا . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: قال ابن كثير: قالوا: لو فسحت عنا الجبال، أو أجريت لنا الأنهار، أو كلمت به الموتى ! فنـزل: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا . وقال آخرون: بل معناه: ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) كلامٌ مبتدأ منقطع عن قوله: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ . قال: وجوابُ « لو » محذوف اسْتغنيَ بمعرفة السامعين المرادَ من الكلام عن ذكر جوابها . قالوا: والعرب تفعل ذلك كثيرًا, ومنه قول امرئ القيس: فَلَــوْ أَنَّهَــا نَفْسٌ تَمُـوتُ سَـرِيحَةً وَلكِنَّهَـــا نَفْسٌ تَقَطَّـــعُ أَنْفُسَــا وهو آخر بيت في القصيدة, فترك الجواب اكتفاءً بمعرفة سامعه مرادَه, وكما قال الآخر: فَأُقْسِــمُ لَـوْ شَـيْءٌ أَتَانَـا رَسُـولُهُ سِـوَاكَ وَلكِـنْ لَـمْ نَجِـدْ لَـكَ مَدْفَعَا *ذكر من قال نحو معنى ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال. حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) ، ذكر لنا أن قريشًا قالوا: إن سَرَّك يا محمد، اتباعك أو: أن نتبعك فسيّر لنا جبال تِهَامة, أو زد لنا في حَرَمنا حتى نتَّخذ قَطَائع نخترف فيها, أو أحِي لنا فلانًا وفلانًا ! ناسًا ماتوا في الجاهلية . فأنـزل الله: ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) ، يقول: لو فعل هذا بقرآنٍ قبل قرآنكم لفُعِل بقرآنكم . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: أن كفّار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أذهب عنا جبال تِهَامة حتى نتّخذها زرعًا فتكون لنا أرضين, أو أحي لنا فلانًا وفلانًا يخبروننا: حقٌّ ما تقول ! فقال الله: ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعًا ) ، يقول: لو كان فَعل ذلك بشيء من الكتب فيما مضى كان ذلك . حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال ) ، الآية، قال: قال كفار قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم: سيّر لنا الجبالَ كما سُخِّرت لداود, أو قَطِّع لنا الأرض كما قُطعت لسليمان، فاغتدى بها شهرًا وراح بها شهرًا, أو كلم لنا الموتَى كما كان عيسى يكلمهم، يقول: لم أنـزل بهذا كتابًا, ولكن كان شيئًا أعطيته أنبيائي ورسلي . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال ) ، الآية، قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا فسيِّر عنا هذه الجبال واجعلها حروثًا كهيئة أرض الشام ومصر والبُلْدان, أو ابعث موتانَا فأخبرهم فإنهم قد ماتوا على الذي نحن عليه ! فقال الله : ( ولو أن قرآنًا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ) ، لم يصنع ذلك بقرآن قط ولا كتاب, فيصنع ذلك بهذا القرآن . القول في تأويل قوله تعالى : أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا قال أبو جعفر: اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله ( أفلم ييأس ) . فكان بعض أهل البصرة يزعم أن معناه: ألم يعلمْ ويتبيَّن ويستشهد لقيله ذلك ببيت سُحَيْم بن وَثيلٍ الرِّياحيّ: أَقُــولُ لَهُـمْ بالشِّـعْبِ إِذْ يَأْسِـرُونَنِي أَلَـمْ تَيْأَسُـوا أَنِّـي ابْـنُ فَارِسِ زَهْدَمِ ويروى: « يَيْسِرُونَني » , فمن رواه: « ييسرونني » فإنه أراد: يقتسمونني، من « الميسر » , كما يقسم الجزور . ومن رواه: « يأسرونني » , فإنه أراد الأسر، وقال: عنى بقوله: « ألم تيأسوا » ، ألم تعلموا . وأنشدوا أيضًا في ذلك: أَلَـمْ يَيْـأَسِ الأقْـوَامُ أَنِّـي أَنَـا ابْنُـهُ وَإِنْ كُـنْتُ عَـنْ أَرْضِ العَشِـيرَةِ نَائِيَا وفسروا قوله: « ألم ييأس » : ألم يعلَم ويتبيَّن؟ وذكر عن ابن الكلبي أن ذلك لغة لحيّ من النَّخَع يقال لهم: وَهْبيل, تقول: ألم تيأس, كذا بمعنى: ألم تعلمه؟ وذكر عن القاسم ابن معن أنّها لغة هَوازن, وأنهم يقولون: « يئستْ كذا » ، علمتُ. وأما بعض الكوفيين فكان ينكر ذلك, ويزعم أنه لم يسمع أحدًا من العرب يقول: « يئست » بمعنى: « علمت » . ويقول هو في المعنى وإن لم يكن مسموعًا: « يئست » بمعنى: علمت يتوجَّهُ إلى ذلك إذ أنه قد أوقع إلى المؤمنين, أنه لو شاء لهدى الناس جميعا, فقال: « أفلم ييأسوا علما » , يقول: يؤيسهم العلم, فكأن فيه العلم مضمرًا, كما يقال: قد يئست منك أن لا تفلح علمًا, كأنه قيل: علمتُه علمًا قال: وقول الشاعر: حَــتَّى إِذَا يَئِـسَ الرُّمَـاةُ وَأَرْسُـلوا غُضْفًــا دَوَاجِـنَ قَـافِلا أَعْصَامُهَـا معناه: حتى إذا يئسوا من كل شيء مما يمكن، إلا الذي ظهر لهم، أرسلوا, فهو في معنى: حتى إذا علموا أن ليس وجه إلا الذي رأوا وانتهى علمهم, فكان ما سواه يأسا . وأما أهل التأويل فإنهم تأولوا ذلك بمعنى: أفلم يعلَم ويتبيَّن . ذكر من قال ذلك حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم, عن أبي إسحاق الكوفي, عن [ مولى مولى بحير ] أن عليًّا رضي الله عنه كان يقرأ: « أَفَلَمْ يَتَبيَّنِ الَّذِينَ آمنُوا » . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا عبد الوهاب, عن هارون, عن حنظلة, عن شهر بن حوشب, عن ابن عباس: ( أفلم ييأس ) يقول: أفلم يتبيّن . حدثنا أحمد بن يوسف قال: حدثنا القاسم قال: حدثنا يزيد, عن جرير بن حازم, عن الزبير بن الخِرِّيت أو يعلى بن حكيم, عن عكرمة, عن ابن عباس, أنه كان يقرؤها: « أَفَلَمْ يَتَبيَّنِ الَّذِينَ آمنُوا » ؛ قال: كتب الكاتب الأخرى وهو ناعسٌ . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا حجاج بن محمد, عن ابن جُرَيْج قال في القراءة الأولى . زعم ابن كثير وغيره: « أفلم يتَبيَّن » . حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) يقول: ألم يتبين . حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) ، يقول: يعلم . حدثنا عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا ليث, عن مجاهد, في قوله: ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال: أفلم يتبين . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, في قوله: ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال: ألم يتبين الذين آمنوا . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال: ألم يعلم الذين آمنوا . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( أفلم ييأس الذين آمنوا ) قال: ألم يعلم الذين آمنوا . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله أهل التأويل: إن تأويل ذلك: « أفلم يتبين ويعلم » ، لإجماع أهل التأويل على ذلك، والأبيات التي أنشدناها فيه . قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذاً: ولو أنّ قرآنًا سوى هذا القرآن كان سُيّرت به الجبال، لسُيّر بهذا القرآن, أو قُطَعت به الأرض لُقطعت بهذا, أو كُلِّم به الموتى، لكُلِّم بهذا, ولكن لم يُفْعل ذلك بقرآن قبل هذا القرآن فيُفْعل بهذا بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ، يقول ذلك: كله إليه وبيده, يهدى من يشاءُ إلى الإيمان فيوفِّقَه له، ويُضِل من يشاء فيخذله, أفلم يتبيَّن الذين آمنوا بالله ورسوله إذْ طمِعوا في إجابتي من سأل نبيَّهم ما سأله من تسيير الجبال عنهم، وتقريب أرض الشأم عليهم، وإحياء موتاهم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعًا إلى الإيمان به من غير إيجاد آية، ولا إحداث شيء مما سألوا إحداثه؟ يقول تعالى ذكره: فما معنى محبتهم ذلك، مع علمهم بأن الهداية والإهلاك إليّ وبيدي، أنـزلت آيةً أو لم أنـزلها ; أهدي من أشاءُ بغير إنـزال آية, وأضلّ من أردتُ مع إنـزالها . القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ( 31 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( ولا يزال ) يا محمد ( الذين كفروا ) ، من قومك ( تصيبهم بما صنعوا ) من كفرهم بالله، وتكذيبهم إياك، وإخراجهم لك من بين أظهرهم ( قارعة ) , وهي ما يقرعهم من البلاء والعذاب والنِّقم, بالقتل أحيانًا, وبالحروب أحيانًا, والقحط أحيانًا ( أو تحل ) ، أنت يا محمد, يقول: أو تنـزل أنت ( قريبًا من دارهم ) بجيشك وأصحابك ( حتى يأتي وعدُ الله ) الذي وعدك فيهم, وذلك ظهورُك عليهم وفتحُك أرضَهمْ، وقهرْك إياهم بالسيف ( إن الله لا يخلف الميعاد ) ، يقول: إن الله منجزك، يا محمد ما وعدك من الظهور عليهم, لأنه لا يخلف وعده . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: [ حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ] أبو داود قال: حدثنا المسعوديّ, عن قتادة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: ( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) قال: سَرِيَّة ( أو تحل قريبًا من دارهم ) ، قال: محمد ( حتى يأتي وعد الله ) ، قال: فتح مكة . حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن المسعودي, عن قتادة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس، بنحوه غير أنه لم يذكر « سريّة » . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا أبو قطن قال: حدثنا المسعودي, عن قتادة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, تلا هذه الآية: ( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ، قال: « القارعة » : السريّة، ( أو تحلّ قريبًا من دارهم ) ، قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم ( حتى يأتي وعد الله ) ، قال: فتح مكة . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو غسان قال: حدثنا زهير, أن خصيفًا حدثهم, عن عكرمة, في قوله: ( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبًا من دارهم ) ، قال: نـزلت بالمدينة في سرايَا رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ( أو تحل ) ، أنت يا محمد ( قريبًا من دارهم ) . حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن النضر بن عربيّ, عن عكرمة: ( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ، قال: سرية ( أو تحلّ قريبًا من دارهم ) ، قال: أنت يا محمد . حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ، يقول: عذابٌ من السماء ينـزل عليهم ( أو تحلّ قريبًا من دارهم ) ، يعني: نـزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتالَه إياهم . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ، تصاب منهم سَرِيَّة, أو تصاب منهم مصيبة أو يحل محمد قريبًا من دارهم وقوله: ( حتى يأتي وعد الله ) قال: الفتح . حدثني المثنى قال: حدثنا الحجاج قال: حدثنا حماد بن زيد, عن عبد الله بن أبي نجيح: ( أو تحل قريبًا من دارهم ) ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد نحو حديث الحسن, عن شبابة . حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا قيس, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس: قال: ( قارعة ) ، قال: السرايا . ... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الغفار, عن منصور, عن مجاهد: ( قارعة ) قال: مصيبة من محمد ( أو تحلّ قريبًا من دارهم ) ، قال: أنت يا محمد ( حتى يأتي وعد الله ) ، قال: الفتح . ... قال: حدثنا إسرائيل, عن خصيف, عن مجاهد: ( قارعة ) ، قال: كتيبةً . ... قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا عمرو بن ثابت, عن أبيه, عن سعيد بن جبير: ( تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ، قال: سرية ( أو تحل قريبًا من دارهم ) ، قال: أنت يا محمد . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) أي بأعمالهم أعمال السوء وقوله: ( أو تحل قريبًا من دارهم ) ، أنت يا محمد ( حتى يأتي وعد الله ) ، ووعدُ الله: فتحُ مكة . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( قارعة ) ، قال: وَقِيعة ( أو تحلّ قريبًا من دارهم ) ، قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم, يقول: أو تحل أنتَ قريبًا من دارهم . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا محمد بن طلحة, عن طلحة, عن مجاهد: ( تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ، قال: سريّة . حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد: ( تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ، قال: السرايا، كان يبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم ( أو تحل قريبًا من دارهم ) ، أنت يا محمد ( حتى يأتي وعد الله ) ، قال: فتح مكة . ... قال، حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل, عن بعض أصحابه, عن مجاهد: ( تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ، قال: كتيبة . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد, في قوله: ( ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة ) ، قال: قارعة من العذاب . وقال آخرون: معنى قوله: ( أو تحلّ قريبًا من دارهم ) ، تحل القارعةُ قريبًا من دارهم . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: قال الحسن: ( أو تحل قريبًا من دارهم ) ، قال: ( أو تحل القارعة قريبا من دارهم ) . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, عن الحسن قال،: ( أو تحل قريبًا من دارهم ) ، قال: أو تحل القارعة . وقال آخرون في قوله: ( حتى يأتي وعد الله ) ، هو: يوم القيامة . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا مُعلَّى بن أسَد قال: حدثنا إسماعيل بن حكيم, عن رجل قد سماه عن الحسن, في قوله: ( حتى يأتي وعد الله ) قال: يوم القيامة . القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ( 32 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد إن يستهزئ هؤلاء المشركون من قومك ويطلبوا منك الآيات تكذيبًا منهم ما جئتهم به, فاصبر على أذاهم لك وامض لأمر ربك في إنذارهم، والإعذار إليهم, فلقد استهزأت أممٌ من قبلك قد خَلَت فمضتْ بُرسلِي, فأطلتُ لهم في المَهَل، ومددت لهم في الأجَل, ثم أحللتُ بهم عذابي ونقمتي حين تمادَوْا في غيِّهم وضَلالهم, فانظر كيف كان عقابي إياهم حين عاقبتهم, ألم أذقهم أليم العذاب، وأجعلهم عبرةً لأولي الألباب؟ و « الإملاء » في كلام العرب ، الإطالة, يقال منه: « أمْليَتُ لفلان » ، إذا أطلت له في المَهَل, ومنه: « المُلاوة من الدهر » , ومنه قولهم: « تَمَلَّيْتُ حبيبًا, ولذلك قيل لليل والنهار: » المَلَوَان « لطولهما, كما قال ابن مُقبل: » أَلا يَــا دِيَــارَ الْحَــيِّ بِالسَّـبُعَانِ أَلَــحَّ عَلَيْهَــا بِــالْبِلَى المَلَــوَانِ وقيل للخَرْقِ الواسع من الأرض: « مَلا » , كما قال الشاعر: فَــأَخْضَلَ مِنْهَـا كُـلَّ بَـالٍ وَعَيِّـنٍ وَجِــيفُ الرَّوَايَـا بِـالمَلا المُتَبـاطِنِ لطول ما بين طرفيه وامتداده . القول في تأويل قوله تعالى : أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ( 33 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفَالرَّبُ الذي هو دائمٌ لا يَبيدُ ولا يَهْلِك ، قائم بحفظ أرزاق جميع الخَلْق, متضمنٌ لها, عالمٌ بهم وبما يكسبُونه من الأعمال, رقيبٌ عليهم, لا يَعْزُب عنه شيء أينما كانوا، كَمن هو هالك بائِدٌ لا يَسمَع ولا يُبصر ولا يفهم شيئًا, ولا يدفع عن نفسه ولا عَمَّن يعبده ضُرًّا, ولا يَجْلب إليهما نفعًا؟ كلاهما سَواءٌ؟ وحذف الجواب في ذلك فلم يَقُل، وقد قيل ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) : ككذا وكذا, اكتفاءً بعلم السامع بما ذَكَر عما ترك ذِكْره . وذلك أنه لما قال جل ثناؤه: ( وَجعلُوا لله شُرَكاء ) ، عُلِمَ أن معنى الكلام: كشركائهم التي اتخذوها آلهةً. كما قال الشاعر: تَخَـــيَّرِي خُـــيِّرْتِ أُمَّ عَـــالِ بَيْـــنَ قَصِــيرٍ شِــبْرُهُ تِنْبَــالِ أَذَاكَ أَمْ مُنْخَــــرِقُ السِّــــرْبَالِ وَلا يَـــزَالُ آخِــــرَ اللَّيـــالِي مُتْلِــفَ مَـالٍ وَمُفِيدَ مَــالِ ولم يقل وقد قال: « شَبْرُهُ تِنْبَال » , وبين كذا وكذا, اكتفاء منه بقوله: « أذاكَ أم منخرق السربال » , ودلالة الخبر عن المنخرق السربال على مراده في ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد , عن قتادة, قوله: ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ، ذلكم ربكم تبارك وتعالى, قائمٌ على بني آدمَ بأرزاقهم وآجالهم, وحَفظ عليهم والله أعمالهم . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أفمَن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ، قال: الله قائم على كل نفس. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال: حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ، يعني بذلك نفسه, يقول: هو معكم أينما كنتم, فلا يعمل عامل إلا والله حاضِرُه . ويقال: هم الملائكة الذين وُكِلوا ببني آدم . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ، وعلى رزقهم وعلى طعامهم, فأنا على ذلك قائم، وهم عبيدي، ثم جعلوا لي شُركاء . حدثت عن الحُسَين بن فرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ) ، فهو الله قائم على كل نفس بَرّ وفاجر, يرزقهم ويَكلؤُهم, ثم يشرك به منهم من أشرك . وقوله: ( وجَعَلوا لله شركاءَ قُلْ سَموهم أم تنَبِّئونه بما لا يعلم في الأرض أمْ بظاهر من القول ) ، يقول تعالى ذكره: أنا القائم بأرزاق هؤلاء المشركين, والمدبِّرُ أمورهم, والحافظُ عليهم أعمالَهُمْ, وجعلوا لي شركاء من خلقي يعبدُونها دوني, قل لهم يا محمد: سمّوا هؤلاء الذين أشركتموهم في عبادة الله, فإنهم إن قالوا: آلهة فقد كذبوا, لأنه لا إله إلا الواحد القهار لا شريك له ( أم تُنَبِّؤونُه بما لا يعلم في الأرضُ ) ، يقول: أتخبرونه بأن في الأرض إلهًا, ولا إله غيرُه في الأرض ولا في السماء؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وجعلوا لله شركاء قل سمُّوهم ) ، ولو سمَّوْهم آلهةً لكذبَوا وقالوا في ذلك غير الحق، لأن الله واحدٌ ليس له شريك. قال الله: ( أم تُنَبؤونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول ) يقول: لا يعلم الله في الأرض إلها غيره . حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( وجَعلوا لله شركاء قل سموهم ) ، والله خلقهم . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وجعلوا لله شركاء قل سموهم ) ، ولو سَمَّوهم كذبوا وقالوا في ذلك مَا لا يعلم الله، مَا من إله غير الله، فذلك قوله: ( أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ) . وقوله: ( أم بظاهر من القول ) ، مسموع, وهو في الحقيقة باطلٌ لا صحة له . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم قالوا: ( أم بظاهر ) , معناه: أم بباطل, فأتوا بالمعنى الذي تدل عليه الكلمة دون البيان عن حَقيقة تأويلها . ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال، حدثنا ورقاء, عن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( بظاهر من القول ) ، بظنٍّ . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن قتادة قوله: ( أم بظاهر من القول ) ، والظاهر من القول: هو الباطل . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أم بظاهر من القول ) ، يقول: أم بباطل من القول وكذب, ولو قالوا قالُوا الباطلَ والكذبَ . وقوله: ( بل زُيِّن للذين كفروا مكرهم ) ، يقول تعالى ذكره: ما لله من شريك في السموات ولا في الأرض, ولكن زُيِّن للمشركين الذي يدعون من دونه إلهًا، مَكْرُهم, وذلك افتراؤهُم وكذبهم على الله . وكان مجاهد يقول: معنى « المكر » ، ههنا: القول, كأنه قال: يعني قَوْلُهم بالشرك بالله . حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( بل زين للذين كفروا مكرهم ) ، قال: قولهم . حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، مثله . وأما قوله: ( وصدوا عن السبيل ) ، فإن القَرَأة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قَرَأة الكوفيين: ( وَصُدُّوا عن السَّبِيلِ ) ، بضم « الصاد » , بمعنى: وصدَّهم الله عن سبيله لكفرهم به, ثم جُعلت « الصاد » مضمومة إذ لم يُسَمَّ فاعله . وأما عامة قرأة الحجاز والبصرة, فقرأوه بفتح « الصاد » ، على معنى أن المشركين هم الذين صَدُّوا الناس عن سبيل الله . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمةٌ من القرأة, متقاربتا المعنى، وذلك أن المشركين بالله كانوا مصدودين عن الإيمان به, وهم مع ذلك كانوا يعبدون غيرهم, كما وصفهم الله به بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . [ الأنفال: 36 ] وقوله ( ومن يُضْلل الله فمَا لهُ من هادٍ ) ، يقول تعالى ذكره: ومن أضلَّه الله عن إصابة الحق والهدى بخذلانه إياه, فما له أحدٌ يهديه لإصابتهما، لأن ذلك لا يُنَال إلا بتوفيق الله ومعونته, وذلك بيد الله وإليه دُون كل أحد سواه . القول في تأويل قوله تعالى : لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ( 34 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، لهؤلاء الكفار الذين وَصَف صفَتَهم في هذه السورة، عذابٌ في الحياة الدنيا بالقتل والإسار والآفاتِ التي يُصيبهم الله بها ( ولعذاب الآخرة أشق ) ، يقول: ولتعذيبُ الله إياهم في الدار الآخرة أشدُّ من تعذيبه إيَّاهم في الدنيا. « وأشقّ » إنما هو « أفعلُ » من المشقَّة . وقوله: ( وما لهم من الله من وَاقٍ ) ، يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء الكفار من أحدٍ يقيهم من عذاب الله إذا عذَّبهم, لا حَمِيمٌ ولا وليٌّ ولا نصيرٌ, لأنه جل جلاله لا يعادُّه أحدٌ فيقهره، فيتخَلَّصَه من عذابه بالقهر, ولا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه، وليس يأذن لأحد في الشفاعة لمن كفر به فمات على كفره قبل التَّوبة منه . القول في تأويل قوله تعالى : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ( 35 ) قال أبو جعفر: اختلف أهلُ العلم بكلام العرب في مُرَافع « المثل » , فقال بعض نحويي الكوفيين: الرافع للمثل قوله: ( تجري من تحتها الأنهار ) ، في المعنى, وقال: هو كما تقول: « حِلْيَةُ فلان، أسمرُ كذا وكذا » فليس « الأسمر » بمرفوع بالحلية, إنما هو ابتداءٌ، أي هو أسمر هو كذا . قال: ولو دخل « أنّ » في مثل هذا كان صوابًا . قال: ومِثْلُه في الكلام: « مَثَلُك أنَّك كذا وأنك كذا » ، وقوله: فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا [ سورة عبس: 24 ، 25 ] مَنْ وجَّه، مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا ، ومن قال: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ ، أظهر الاسم لأنه مردودٌ على « الطعام » بالخفض, ومستأنف, أي: طَعامُهُ أنَّا صببنا ثم فعلنا . وقال: معنى قوله: ( مثل الجنة ) ، صفات الجنّة . وقال بعض نحويي البصريين: معنى ذلك: صفةُ الجنة قال: ومنه قول الله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى [ سورة الروم:27 ] ، معناه: ولله الصِفة العُليَا . قال: فمعنى الكلام في قوله: ( مثلُ الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتِها الأنهار ) ، أو فيها أنهار, كأنه قال: وَصْف الجنة صفة تجري من تحتها الأنهار, أو صفة فيها أنهار ، والله أعلم . قال: ووجه آخر كأنه إذا قيل: ( مَثَلُ الجنة ) , قيل: الجنَّة التي وُعِدَ المتقون . قال . وكذلك قوله: وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ سورة النمل:30 ] ، كأنه قال: بالله الرحمن الرحيم, والله أعلم . قال: وقوله: عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [ سورة الزمر:56 ] ، في ذات الله, كأنه عندَنا قيل: في الله . قال: وكذلك قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [ سورة الشورى:11 ] ، إنما المعنى: ليس كشيء, وليس مثله شيء, لأنه لا مثْلَ له . قال: وليس هذا كقولك للرجل: « ليس كمثلك أحدٌ » , لأنه يجوز أن يكون له مثلٌ, والله لا يجوز ذلك عليه . قال: ومثلُه قول لَبيد: إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا قال: وفُسِّر لنا أنه أراد: السلام عليكما: قال أوس بن حجر: وَقَتْــلَى كِــرَامٍ كَمِثْــلِ الجُـذُوعِ تَغَشَّــــاهُمُ سَـــبَلُ مُنْهِمـــرْ قال: والمعنى عندنا: كالجذوع, لأنه لم يرد أن يجعل للجذوع مَثَلا ثمّ يشبه القتلى به . قال: ومثله قول أمية: زُحَـلٌ وَثَـوْرٌ تَحْـتَ رِجْـلِ يَمِينِـهِ وَالنَّسْــرُ لِلأخْـرَى وَلَيْـثٌ مُرْصِـدُ قال فقال: « تحت رجل يمينه » كأنه قال: تَحْتَ رِجله، أو تحت رِجله اليُمْنَى. قال: وقول لَبيد: أَضَـــلَّ صِـــوَارَهُ وَتَضَيَّفَتْــهُ نَطُــوفٌ أَمْرُهَــا بِيَــدِ الشَّـمَالِ كأنه قال: أمرها بالشمال، وإلى الشمال ; وقول لَبيد أيضًا: حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِر فكأنه قال: حتى وَقَعت في كافر . وقال آخر منهم: هو من المكفوف عن خبَره. قال: والعرب تفعل ذلك . قال: وله معنى آخر: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى ، مَثَلُ الجنة، موصولٌ، صفةٌ لها على الكلام الأوَل . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال ذَكر المَثَل, فقال ( مثل الجنة ) , والمراد الجنة, ثم وُصِفت الجنة بصفتها, وذلك أن مَثَلَها إنما هو صِفتَهُا وليست صفتها شيئًا غيرها . وإذْ كان ذلك كذلك, ثم ذكر « المثل » , فقيل: ( مثل الجنة ) , ومثلها صفَتُها وصفة الجنّة, فكان وصفها كوصف « المَثَل » , وكان كأنَّ الكلام جرى بذكر الجنة, فقيل: الجنةُ تجري من تحتها الأنهار, كما قال الشاعر: أَرَى مَــرَّ السِّــنِينَ أَخَــذْنَ مِنِّـي كَمَــا أَخَـذَ السِّـرَارُ مِـنَ الْهِـلالِ فذكر « المرّ » ، ورَجَع في الخبر إلى « السنين » . وقوله: ( أكلها دائمٌ وظلها ) ، يعني: ما يؤكل فيها، يقول: هو دائم لأهلها, لا ينقطع عنهم, ولا يزول ولا يبيد, ولكنه ثابتٌ إلى غير نهاية ( وظلها ) ، يقول: وظلها أيضًا دائم, لأنه لا شمس فيها. ( تلك عقبى الذين اتقَوْا ) ، يقول: هذه الجنة التي وصف جل ثناؤه، عاقبة الذين اتَّقَوا الله, فاجتنبوا مَعَاصيه وأدَّوْا فرائضه . وقوله: ( وعُقْبَى الكافرين النار ) ، يقول: وعاقبةُ الكافرين بالله النارُ . القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ( 36 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين أنـزلنا إليهم الكتاب ممَّن آمن بك واتبعك، يا محمد، ( يفرحون بما أنـزل إليك ) منه ( ومن الأحْزاب من ينكر بعضه ) ، يقول: ومن أهل الملل المتحزِّبين عليك, وهم أهل أدْيان شَتَّى, من ينكر بعضَ ما أنـزل إليك. فقل لهم: ( إنَّما أمرتُ ) ، أيها القوم ( أن أعبد الله ) وحده دون ما سواه ( ولا أشرك به ) ، فأجعل له شريكًا في عبادتي, فأعبدَ معه الآلهةَ والأصنامَ, بل أخلِص له الدين حَنِيفًا مسلمًا ( إليه أدعو ) ، يقول: إلى طاعته وإخلاص العبادة له أدعو الناسَ ( وإليه مآب ) ، يقول: وإليه مصيري وهو « مَفْعَل » ، من قول القائل: « آبَ يَؤُوب أوْبًا ومَآبًا » . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنـزل إليك ) ، أولئك أصحابُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم, فرحوا بكتاب الله وبرسوله وصدَّقُوا به قوله: ( ومن الأحزاب من ينكر بعضه ) ، يعني اليهودَ والنصارى . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( ومن الأحزاب من ينكر بعضه ) ، قال: من أهل الكتاب . حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، مثله . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنـزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه ) ، من أهل الكتاب، و « الأحزاب » أهل الكتب يقرّبهم تحزُّبهم . قوله: وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ [ سورة الأحزاب:20 ] قال: لتحزبهم على النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن جريج, وقال عن مجاهد: ( ينكِرُ بعضه ) ، قال: بعض القرآنِ . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وإليه مآب ) : ، وإليه مَصِيرُ كلّ عبْدٍ . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنـزل إليك ) ، قال: هذا مَنْ آمنَ برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فيفرحون بذلك . وقرأ: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ [ سورة يونس:40 ] . وفي قوله: ( ومن الأحزاب من ينكر بعضه ) ، قال: « الأحزاب » : الأممُ، اليهودُ والنصارى والمجوس منهم من آمنَ به, ومنهم من أنكره . القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ ( 37 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما أنـزلنا عليك الكتاب، يا محمد, فأنكرهُ بعض الأحزاب, كذلك أيضًا أنـزلنا الحكم والدين حُكْمًا عربيًا وجعل ذلك ( عربيًا ) , ووصفه به لأنه أنـزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهو عربيٌّ, فنسب الدين إليه، إذ كان عليه أنـزل, فكذَّب به الأحزابُ . ثم نهاه جل ثناؤه عن ترك ما أنـزل إليه واتباع الأحزاب, وتهدَّده على ذلك إنْ فعله فقال: ( ولئن اتبعت ) يا محمد ( أهواءهم ) , أهوَاء هؤُلاء الأحزاب ورضَاهم ومحبتَهم وانتقلت من دينك إلى دينهم, ما لك من يَقيك من عَذاب الله إنْ عذّبك على اتباعك أهواءَهم, وما لك من ناصر ينصرك فيستنقذك من الله إن هو عاقبك, يقول: فاحذر أن تتّبع أهَواءهم . القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ( 38 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( ولقد أرسلنا ) ، يا محمد ( رسلا من قبلك ) إلى أمم قَدْ خَلَتْ من قبلِ أمتك، فجعلناهم بَشرًا مثلَك, لهم أزواج ينكحون, وذريةٌ أنْسَلوهم, ولم نجعلهم ملائكةً لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون, فنجعلَ الرسولَ إلى قومك من الملائكة مثلهم, ولكن أرسلنا إليهم بشرًا مثلهم, كما أرسلنا إلى من قبلهم من سائر الأمم بشرًا مثلهم ( وما كان لرسول أن يأتيَ بآية إلا بإذن الله ) يقول تعالى ذكره: وما يقدِر رسولٌ أرسله الله إلى خلقه أنْ يأتي أمَّتَه بآية وعلامة، من تسيير الجبال، ونقل بَلْدةٍ من مكان إلى مكان آخر، وإحياء الموتى ونحوها من الآيات ( إلا بإذن الله ) ، يقول: إلا بأمر الله الجبالَ بالسير، والأرضَ بالانتقال, والميتَ بأن يحيَا ( لكل أجل كتاب ) ، يقول: لكلِّ أجلِ أمرٍ قضاه الله، كتابٌ قد كتَبَه فهو عنده . وقد قيل: معناه: لكل كتابٍ أنـزله الله من السماء أجَلٌ . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق بن يوسف, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: ( لكلّ أجل كتاب ) ، يقول: لكل كتاب ينـزل من السماء أجل, فيمحُو الله من ذلك ما يشاءُ ويُثْبت, وعنده أمُّ الكتاب . قال أبو جعفر: وهذا على هذا القول نظيرُ قول الله: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ سورة ق:19 ] ، وكان أبو بكر رحمه الله يقرؤه ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ ) ، وذلك أن سَكْرة الموت تأتي بالحق والحق يأتي بها, فكذلك الأجل له كتاب وللكتاب أجَلٌ . القول في تأويل قوله تعالى : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( 39 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: يمحو الله ما يشاء من أمور عبادِه, فيغيّره, إلا الشقاء والسعادة، فإنهما لا يُغَيَّران . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا بحر بن عيسى, عن ابن أبي ليلى, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) ، قال: يدبّر الله أمرَ العباد فيمحو ما يشاءُ, إلا الشقاء والسعادة [ والحياة ] والموت . حدثنا ابن بشار قال: حدثنا... ابن أبي ليلى, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) ، قال: كل شيء غير السعادة والشقاء, فإنهما قد فُرِغ منهما . حدثني علي بن سهل قال: حدثنا يزيد وحدثنا أحمد قال حدثنا أبو أحمد عن سفيان, عن ابن أبي ليلى, عن المنهال, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس يقول: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) ، قال: إلا الشقاء والسعادة, والموت والحياة . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دُكَيْن وقَبِيصة قالا حدثنا سفيان, عن ابن أبي ليلى, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, مثله . حدثنا عمرو بن علي قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا ابن أبي ليلى, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) ، قال: قال ابن عباس: إلا الحياة والموت, والشقاء والسعادة . حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم عن ابن أبي ليلى, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده الكتاب ) ، قال: يقدِّر الله أمر السَّنَة في ليلة القَدْر, إلا الشقاوة والسَّعادة والموت والحياة . حدثنا عمرو بن علي قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد في قوله: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) ، قال: إلا الحياة والموت والسعادة والشقاوة فإنَّهما لا يتغيَّران . حدثنا عمرو قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا معاذ بن عقبة, عن منصور, عن مجاهد. مثله . حدثنا ابن بشار قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله . ... قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن منصور قال: قلت لمجاهد « إن كنت كتبتني سعيدًا فأثبتني, وإن كنت كتَبتَني شقيًّا فامحني » قال: الشقاء والسعادة قد فُرغ منهما . حدثنا أحمد قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد قال، حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا شريك, عن منصور, عن مجاهد: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) ، قال: ينـزل الله كل شيء في السَّنَة في ليلة القَدر, فيمحو ما يشاءُ من الآجال والأرزاق والمقادير, إلا الشقاء والسعادة, فإنهما ثابتان . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن منصور قال: سألت مجاهدًا فقلت: أرأيت دعاءَ أحدنا يقول: « اللهم إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم, وإن كان في الأشقياء فامحه واجعله في السعداء » ، فقال: حَسنٌ . ثم أتيته بعد ذلك بحَوْلٍ أو أكثر من ذلك, فسألته عن ذلك, فقال: إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [ سورة الدخان:3 ، 4 ] قال: يُقْضى في ليلة القدر ما يكون في السَّنة من رزق أو مصيبة, ثم يقدِّم ما يشاء ويؤخر ما يشاء . فأما كتاب الشقاء والسعادة فهو ثابتٌ لا يُغَيَّر . وقال آخرون: معنى ذلك: أنّ الله يمحو ما يشاء ويثبت من كتابٍ سوى أمّ الكتاب الذي لا يُغَيَّرُ منه شيء . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال: حدثنا حماد, عن سليمان التَّيمي, عن عكرمة, عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) ، قال: كتابان: كتابٌ يمحو منه ما يشاء ويثبت, وعنده أمّ الكتاب . حدثنا عمرو بن علي قال: حدثنا سهل بن يوسف قال: حدثنا سليمان التيمي, عن عكرمة, في قوله: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) ، قال: الكتابُ كتابان, كتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت, وعنده أم الكتاب . ... قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا حماد بن سلمة, عن سليمان التيمي, عن عكرمة, عن ابن عباس بمثله . 20475م- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن عكرمة قال: الكتاب كتابان، ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) . وقال آخرون: بل معنى ذلك أنه يمحو كل ما يشاء, ويثبت كل ما أراد . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثام, عن الأعمش, عن شقيق أنه كان يقول: « اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء, فامحنَا واكتبنا سعداء, وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا, فإنك تمحو ما تشاءُ وتثبت وعندَك أمّ الكتاب » . حدثنا عمرو قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا الأعمش, عن أبي وائل قال: كان مما يكثر أن يدعو بهؤلاء الكلمات: « اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء, وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا, فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب » . ... قال، حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثنا أبي, عن أبي حكيمة, عن أبي عثمان النَّهْديّ, أن عمر بن الخطاب قال وهو يطوف بالبيت ويبكي: اللهم إن كنت كتبت علي شِقْوة أو ذنبًا فامحه, فإنك تمحو ما تشاء وتثبت . وعندك أم الكتاب, فاجعله سعادةً ومغفرةً . ... حدثنا معتمر, عن أبيه, عن أبي حكيمة, عن أبي عثمان قال: وأحسِبْني قد سمعتُه من أبي عثمان, مثله . ... قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة بن خالد, عن عصمة أبي حكيمة, عن أبي عثمان النهدي, عن عمر رحمه الله, مثله . حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، حدثنا أبو حكيمة قال: سمعت أبَا عُثْمان النَّهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول، وهو يطوف بالكعبة: اللهم إن كنت كتبتَني في أهل السعادة فأثبتني فيها, وإن كنت كتبت عليَّ الذّنب والشِّقوة فامحُني وأثبتني في أهل السّعادة, فإنك تمحو ما تشاء وتثبت, وعندك أمّ الكتاب . ... قال: حدثنا الحجاج بن المنهال قال: حدثنا حماد, عن خالد الحذاء, عن أبي قلابة, عن ابن مسعود, أنه كان يقول: اللهم إن كنت كتبتني في [ أهل ] الشقاء فامحني وأثبتني في أهل السعادة . حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) ، يقول: هو الرجل يعمل الزمانَ بطاعة الله, ثم يعود لمعصية الله، فيموت على ضلاله, فهو الذي يمحو والذي يثبتُ: الرجلُ يعمل بمعصية الله, وقد كان سبق له خير حتى يموت, وهو في طاعة الله, فهو الذي يثبت . حدثنا أحمد قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك, عن هلال بن حميد, عن عبد الله بن عُكَيْم, عن عبد الله, أنه كان يقول: اللهم إن كُنْت كتبتني في السعداء فأثبتني في السعداء, فإنك تمحو ما تشاء وتثبت, وعندك أم الكتاب . حدثني المثنى قال: حدثنا الحجاج قال: حدثنا حماد, عن أبي حمزة, عن إبراهيم, أن كعبًا قال لعمر رحمة الله عليه: يا أمير المؤمنين, لولا آية في كتاب الله لأنبأتك ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة قال: وما هي؟ قال: قولُ الله: ( يمحو الله ما يشاءُ ويثبت وعندَهُ أم الكتاب ) . حدثت من الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ، الآية يقول: ( يمحو الله ما يشاء ) ، يقول: أنسخُ ما شئت, وأصْنعُ من الأفعال ما شئت, إن شئتُ زدتُ فيها, وإن شئت نقصت . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا عفان قال: حدثنا همام قال: حدثنا الكلبي قال: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) ، قال: يَمْحي من الرزق ويزيد فيه, ويمحي من الأجل ويزيد فيه . قلت: من حدّثك! قال: أبو صالح, عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري, عن النبي صلى الله عليه وسلم . فقدم الكلبيّ بعدُ, فسئل عن هذه الآية: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) ، قال: يكتب القول كُلُّه, حتى إذا كان يوم الخميسِ طُرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عليه عقاب, مثل قولك: أكلت, شربت, دخلت, خرجت, ذلك ونحوه من الكلام, وهو صادق, ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب . حدثنا الحسن قال: حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت الكلبي, عن أبي صالح نحوه, ولم يجاوز أبا صالح . وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنّ الله ينسخ ما يشاء من أحكام كِتَابه, ويثبت ما يشاء منها فلا ينسَخُه . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( يمحو الله ما يشاء ) ، قال: من القرآن . يقول: يبدل الله ما يشاء فينسخه, ويثبت ما يشاء فلا يبدله ( وعنده أم الكتاب ) ، يقول: وجملة ذلك عنده في أمّ الكتاب، الناسخ والمنسوخ, وما يبدل وما يثبت, كلُّ ذلك في كتاب . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) ، هي مثل قوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [ سورة البقرة:106 ] ، وقوله: ( وعنده أم الكتاب ) : أي جُملة الكتاب وأصله . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) ما يشاء, وهو الحكيم ( وعنده أمّ الكتاب ) ، وأصله . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( يمحو الله ما يشاء ) ، بما ينـزل على الأنبياء, ( ويثبت ) ما يشاء مما ينـزل على الأنبياء، قال: ( وعنده أم الكتاب ) ، لا يغيَّر ولا يبدَّل . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: ( يمحو الله ما يشاء ) ، قال: ينسخ . قال: ( وعند أم الكتاب ) ، قال: الذِكْرُ . وقال آخرون: معنى ذلك أنه يمحو من قد حان أجله, ويثبت من لم يجئ أجله إلى أجله . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي, عن عوف, عن الحسن في قوله: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) ، يقول: يمحو من جاء أجله فذهب, والمثبت الذي هو حيٌّ يجري إلى أجله . حدثنا عمرو بن علي قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا عوف قال: سمعت الحسن يقول: ( يمحو الله ما يشاء ) ، قال: من جاء أجله ( ويثبت ) ، قال: من لم يجئ أجله إلى أجله . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا هوذة قال: حدثنا عوف, عن الحسن, نحو حديث ابن بشار . ... قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء قال: أخبرنا سعيد, عن قتادة, عن الحسن في قوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ، قال: آجال بني آدم في كتاب، ( يمحو الله ما يشاء ) من أجله ( ويثبت وعنده أم الكتاب ) . ... قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قول الله: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) ، قالت قريش حين أنـزل: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ [ سورة الرعد:38 ] : ما نراك، يا محمد تملك من شيء, ولقد فُرِغ من الأمر! فأنـزلت هذه الآية تخويفًا ووعيدًا لهم: إنا إن شئنا أحدَثْنا له من أمرنا ما شئنا, ونُحْدِث في كل رمضان, فنمحو ونثبتُ ما نشاء من أرزاق الناس وَمصَائبهم, وما نعطيهم, وما نقسم لهم . حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد نحوه . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه . وقال آخرون: معنى ذلك: ويغفر ما يشاء من ذنوب عباده, ويترك ما يشاء فلا يغفر . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام, عن عمرو, عن عطاء, عن سعيد في قوله ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) ، قال: يثبت في البطن الشَّقاء والسعادة وكلَّ شيء, فيغفر منه ما يشاء ويُؤخّر ما يشاء . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بتأويل الآية وأشبهُها بالصّواب, القولُ الذي ذكرناه عن الحسن ومجاهد، وذلك أن الله تعالى ذكره توعَّد المشركين الذين سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الآياتِ بالعقوبة، وتهدَّدهم بها، وقال لهم: وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ، يعلمهم بذلك أن لقضائه فيهم أجلا مُثْبَتًا في كتاب، هم مؤخَّرون إلى وقت مجيء ذلك الأجل. ثم قال لهم: فإذا جاء ذلك الأجل، يجيء الله بما شَاء ممن قد دَنا أجله وانقطع رزقه، أو حان هلاكه أو اتضاعه من رفعة أو هلاك مالٍ, فيقضي ذلك في خلقه, فذلك مَحْوُه، ويثبت ما شاء ممن بقي أجله ورزقه وأكله, فيتركه على ما هو عليه فلا يمحوه . وبهذا المعنى جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ما:- حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال: حدثنا ابن أبي مريم قال: حدثنا الليث بن سعد, عن زيادة بن محمد, عن محمد بن كعب القُرَظي, عن فَضالة بن عُبَيْد, عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله يَفتح الذِّكر في ثلاث ساعات يَبْقَيْن من الليل, في الساعة أولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظُرُ فيه أحد غَيره, فيمحو ما يشاء ويثبتُ » . ثم ذكر ما في الساعتين الأخريين . حدثنا موسى بن سهل الرمليّ قال: حدثنا آدم قال، حدثنا الليث قال: حدثنا زيادة بن محمد, عن محمد بن كعب القرظي, عن فضالة بن عبيد, عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الله ينـزل في ثلاث ساعات يَبْقَين من الليل, يفتح الذكر في الساعة الأولى الذي لم يره أحد غيره, يمحو ما يشَاء ويثبت ما يشاء » . حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج, عن عطاء, عن ابن عباس قال: إن لله لوحًا محفوظًا مسيرةَ خمسمِائة عام, من دُرَّة بيضاء لَها دَفَّتَان من ياقوت, والدَّفتان لَوْحان لله, كل يوم ثلاثمائة وستون لحظةً, يمحو ما يشَاء ويثبت وعنده أم الكتاب . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور قال: حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه قال: حدثني رجل, عن أبيه, عن قيس بن عباد, أنه قال: العاشر من رجب هو يوم يمحو الله فيه ما يشاء . القول في تأويل قوله تعالى : وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ( 39 ) قال أبو جعفر: اختلفَ أهل التأويل في تأويل قوله: ( وعنده أم الكتاب ) ، فقال بعضهم: معناه: وعنده الحلال والحرام . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا محمد بن عقبة قال، حدثنا مالك بن دينار قال: سألت الحسن: قلت: ( أمُّ الكتاب ) ، قال: الحلال والحرام قال: قلت له: فما ( الحمد لله رب العالمين ) قال: هذه أمُّ القرآن . وقال آخرون: معناه: وعنده جملة الكتاب وأصله . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وعنده أم الكتاب ) ، قال: جملة الكتاب وأصله . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, مثله . حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وعنده أم الكتاب ) ، قال: كتابٌ عند رب العالمين . حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق بن يوسف, عن جويبر عن الضحاك: ( وعنده أم الكتاب ) ، قال: جملة الكتاب وعلمه . يعني بذلك ما يَنْسَخ منه وما يُثْبت . حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( وعنده أم الكتاب ) يقول: وجملة ذلك عنده في أمّ الكتاب: الناسخُ والمنسوخ, وما يبدّل, وما يثبت, كلُّ ذلك في كتاب . وقال آخرون في ذلك, ما: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا معتمر بن سليمان, عن أبيه, عن سيَّار, عن ابن عباس, أنه سأل كعبًا عن « أم الكتاب » قال: علم الله ما هو خَالقٌ وما خَلْقُه عاملون, فقال لعلمه: كُنْ كتابًا، فكان كتابًا . وقال آخرون: هو الذكر . ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال أبو جعفر: لا أدري فيه ابن جريج أم لا قال: قال ابن عباس: ( وعنده أم الكتاب ) قال: الذكر . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ من قال: « وعنده أصل الكتاب وجملته » ، وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه يمحُو ما يشاء ويثبت ما يشاء, ثم عقَّب ذلك بقوله: ( وعنده أم الكتاب ) ، فكان بيِّنًا أن معناه. وعنده أصل المثبّت منه والمَمحوّ, وجملتُه في كتاب لديه . قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: وَيُثْبِتُ فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والكوفة: « وَيُثَبِّتُ » بتشديد « الباء » بمعنى: ويتركه ويقرُّه على حاله, فلا يمحوه. وقرأه بعض المكيين وبعض البصريين وبعض الكوفيين: وَيُثْبِتُ بالتخفيف, بمعنى: يكتب. وقد بيَّنَّا قبلُ أن معنى ذلك عندنا: إقرارُه مكتوبًا وتركُ محْوه على ما قد بيَّنَّا, فإذا كان ذلك كذلك فالتثبيتُ به أولى, والتشديدُ أصْوبُ من التخفيف, وإن كان التخفيف قد يحتمل توجيهه في المعنى إلى التشديد، والتشديد إلى التخفيف, لتقارب معنييهما . وأما « المحو » , فإن للعرب فيه لغتين: فأما مُضَر فإنها تقول: « محوت الكتَابَ أمحُوه مَحْوًا » وبه التنـزيل « ومحوته أمْحَاه مَحْوًا » . وذُكِر عن بعض قبائل ربيعة: أنها تقول: « مَحَيْتُ أمْحَى » . القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ( 40 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإما نرينك، يا محمد في حياتك بعضَ الذي نعدُ هؤلاء المشركين بالله من العقاب على كفرهم أو نتوفيَنَّكَ قبل أن نُريَك ذلك, فإنما عليك أن تنتهِيَ إلى طاعة ربك فيما أمرك به من تبليغهم رسالتَه, لا طلبَ صلاحِهم ولا فسادهِم, وعلينا محاسبتهم، فمجازاتهم بأعمالهم, إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًّا فشرٌّ . القول في تأويل قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 41 ) قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: أولم ير هؤلاء المشركون مِنْ أهل مكة الذين يسألون محمدًا الآيات, أنا نأتي الأرض فنفتَحُها له أرضًا بعد أرض حَوَالَيْ أرضهم؟ أفلا يخافون أن نفتح لَهُ أرضَهم كما فتحنا له غيرها؟ ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا هشيم, عن حصين, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، قال: أولم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض؟ حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، يعني بذلك: ما فتح الله على محمد. يقول: فذلك نُقْصَانها . حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن سلمة بن نبيط, عن الضحاك قال: ما تغلَّبتَ عليه من أرضِ العدوّ . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال: كان الحسن يقول في قوله: ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، هو ظهور المسلمين على المشركين . حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، يعنى أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يُنْتَقَصُ له ما حوله من الأرَضِين, ينظرون إلى ذلك فلا يعتبرون قال الله في « سورة الأنبياء » : نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ [ سورة الأنبياء:44 ] ، بل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الغالبون . وقال آخرون: بل معناه: أولم يروا أنا نأتي الأرض فنخرِّبها, أو لا يَخَافون أن نفعل بهم وبأرضهم مثل ذلك فنهلكهم ونخرِّب أرضهم؟ ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا علي بن عاصم, عن حصين بن عبد الرحمن, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، قال: أولم يروا إلى القرية تخربُ حتى يكون العُمْران في ناحية؟ ... قال: حدثنا حجاج بن محمد, عن ابن جريج, عن الأعرج, أنه سمع مجاهدًا يقول: ( نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، قال: خرابُها . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن الأعرج, عن مجاهد مثله قال: وقال ابن جريج: خرابُها وهلاك الناس . حدثنا أحمد قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل, عن أبي جعفر الفرَّاء, عن عكرمة قوله: ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، قال: نخرِّب من أطرافها . وقال آخرون: بل معناه: ننقص من بَرَكتها وثَمرتها وأهلِها بالموت . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ننقصها من أطرافها ) يقول: نقصان أهلِها وبركتها . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد, في قوله: ( ننقصها من أطرافها ) ، قال: في الأنفس وفي الثمرات, وفي خراب الأرض . حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن طلحة القناد, عمن سمع الشعبي قال: لو كانت الأرض تُنْقَص لضَاق عليك حُشَّك, ولكن تُنْقَص الأنفُس والثَّمرات . وقال آخرون: معناه: أنا نأتي الأرض ننقصها من أهلها, فنتطرَّفهم بأخذهم بالموت . ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ننقصها من أطرافها ) ، قال: موت أهلها . حدثنا ابن بشار قال: حدثنا يحيى, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، قال: الموت . حدثني المثنى قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا هارون النحوي قال: حدثنا الزبير بن الخِرِّيت عن عكرمة, في قوله: ( ننقصها من أطرافها ) ، قال: هو الموت . ثم قال: لو كانت الأرض تنقص لم نجد مكانًا نجلسُ فيه . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، قال: كان عكرمة يقول: هو قَبْضُ الناس . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: سئل عكرمة عن نقص الأرض قال: قبضُ الناس . حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا جرير بن حازم, عن يعلى بن حكيم, عن عكرمة في قوله: ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، قال: لو كان كما يقولون لما وجَد أحدكم جُبًّا يخرَأ فيه . حدثنا الفضل بن الصباح قال: حدثنا إسماعيل بن علية, عن أبي رجاء قال: سئل عكرمة وأنا أسمع عن هذه الآية: ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، قال: الموت . وقال آخرون: ( ننقُصها من أطرافها ) بذهاب فُقَهائها وخِيارها . ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا طلحة بن عمرو, عن عطاء, عن ابن عباس قال: ذهابُ علمائها وفقهائِها وخيار أهلِها . قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا عبد الوهاب, عن مجاهد قال: موتُ العلماء . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب قولُ من قال: ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) ، بظهور المسلمين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عليها وقَهْرِهم أهلها, أفلا يعتبرون بذلك فيخافون ظُهورَهم على أرْضِهم وقَهْرَهم إياهم؟ وذلك أن الله توعَّد الذين سألوا رسولَه الآيات من مشركي قومه بقوله: وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ، ثم وبَّخهم تعالى ذكره بسوء اعتبارهم ما يعاينون من فعل الله بضُرَبائهم من الكفار, وهم مع ذلك يسألون الآيات, فقال: ( أولم يرَوْا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) بقهر أهلها, والغلبة عليها من أطرافها وجوانبها, وهم لا يعتبرون بما يَرَوْن من ذلك . وأما قوله: ( والله يحكُم لا مُعَقّب لحكمه ) ، يقول: والله هو الذي يحكم فيَنْفُذُ حكمُه, ويَقْضي فيَمْضِي قضاؤه, وإذا جاء هؤلاء المشركين بالله من أهل مكة حُكْم الله وقضاؤُه لم يستطيعوا رَدَّهَ . ويعني بقوله: ( لا معقّب لحكمه ) : لا راد لحكمه, « والمعقب » ، في كلام العرب، هو الذي يكرُّ على الشيء. وقوله: ( وهو سريع الحساب ) ، يقول: والله سريع الحساب يُحْصي أعمال هؤلاء المشركين، لا يخفى عليه شيء، وهو من وراءِ جزائهم عليها . القول في تأويل قوله تعالى : وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ( 42 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قد مكر الذين من قَبْل هؤلاء المشركين من قُرَيشٍ من الأمم التي سلفت بأنبياء الله ورُسله ( فلله المكر جميعًا ) ، يقول: فلله أسبابُ المكر جميعًا, وبيده وإليه, لا يضرُّ مكرُ من مَكَر منهم أحدًا إلا من أراد ضرَّه به, يقول: فلم يضرَّ الماكرون بمكرهم إلا من شاء الله أن يضرَّه ذلك, وإنما ضرُّوا به أنفسهم لأنهم أسخطوا ربَّهم بذلك على أنفسهم حتى أهلكهم, ونجَّى رُسُلَه: يقول: فكذلك هؤلاء المشركون من قريش يمكرون بك، يا محمد, والله منَجّيك من مكرهم, ومُلْحِقٌ ضُرَّ مكرهم بهم دونك . وقوله: ( يعلم ما تكسب كلّ نفس ) ، يقول: يعلم ربك، يا محمد ما يعمل هؤلاء المشركون من قومك، وما يسعون فيه من المكر بك, ويعلم جميعَ أعمال الخلق كلهم, لا يخفى عليه شيء منها ( وسيعلَم الكفار لمن عقبى الدار ) ، يقول: وسيعلمون إذا قَدموا على ربهم يوم القيامة لمن عاقبة الدار الآخرة حين يدخلون النار, ويدخلُ المؤمنون بالله ورسوله الجَنَّة. قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأته قرأة المدينة وبعضُ البَصْرة: « وَسَيَعْلَمُ الكَافِرُ » على التوحيد . وأما قرأة الكوفة فإنهم قرءوه: ( وَسَيَعْلَمُ الكُفَّار ) ، على الجمع . قال أبو جعفر: والصوابُ من القراءة في ذلك، القراءةُ على الجميع: ( وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ ) لأن الخبر جرى قبل ذلك عن جماعتهم, وأتبع بعَده الخبر عنهم, وذلك قوله: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ وبعده قوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا . وقد ذُكر أنها في قراءة ابن مسعود: « وَسَيَعْلَمُ الكَافِرُونَ » , وفى قراءة أبيّ: ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) وذلك كله دليلٌ على صحة ما اخترنا من القراءة في ذلك . القول في تأويل قوله تعالى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( 43 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ويقول الذين كفروا بالله من قومك يا محمد لست مرسلا! تكذيبا منهم لك, وجحودًا لنبوّتك، فقل لهم إذا قالوا ذلك: ( كفى بالله ) ، يقول: قل حَسْبي الله ( شهيدًا ) , يعني شاهدًا ( بيني وبينكم ) ، عليّ وعليكم، بصدقي وكذبكم ( ومن عنده علمُ الكتاب ) فـ « مَنْ » إذا قرئ كذلك في موضع خفضٍ عطفًا به على اسم الله, وكذلك قرأته قرَأَة الأمصار بمعنى: والذين عندهم علم الكتاب أي الكتب التي نـزلت قبلَ القرآن كالتوراة والإنجيل . وعلى هذه القراءة فسَّر ذلك المفسِّرون . *ذكر الرواية بذلك: حدثني علي بن سعيد الكنْدي قال: حدثنا أبو مُحيَّاة يحيى بن يعلى, عن عبد الملك بن عمير, عن ابن أخي عبد الله بن سلام قال: قال عبد الله بن سَلام: نـزلت فيَّ: ( كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) . حدثنا الحسين بن علي الصُّدائي قال: حدثنا أبو داود الطيالسي قال، حدثنا شعيب بن صفوان قال: حدثنا عبد الملك بن عمير, أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: قال عبد الله بن سلام: أنـزل فيّ: ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) . حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي قال: ثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: ( قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) ، فالذين عندهم علم الكتاب: هم أهل الكتاب من اليهود والنَّصارَى . حدثنا أبو كريب قال: حدثنا الأشجعي, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد: ( ومن عنده علم الكتاب ) قال: هو عبد الله بن سلام . حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: أخبرنا هشيم قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح, في قوله: ( ومن عنده علم الكتاب ) قال: رجل من الإنس, ولم يُسمّه . حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( ومن عنده علم الكتاب ) ، هو عبد الله بن سلام . ... قال: حدثنا يحيى بن عباد قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد: ( ومن عنده علم الكتاب ) . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا ) ، قال: قول مشركي قريش: ( قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) ، أناس من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحقّ ويقرُّون به, ويعلمون أن محمدًا رسول الله, كما يُحدَّث أن منهم عبد الله بن سَلام . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن قتادة: ( ومن عنده علم الكتاب ) قال: كان منهم عبدُ الله بن سَلام, وسَلْمَان الفارسي, وتميمٌ الدَّاريّ . حدثنا الحسن قال: حدثنا عبد الوهاب, عن سعيد, عن قتادة: ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) قال هو عبد الله بن سَلام . وقد ذُكر عن جماعة من المتقدِّمين أنهم كانوا يقرأونَه: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، بمعنى: مِنْ عِند الله عُلِمَ الكتاب . *ذكر من ذكر ذلك عنه: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, عن هارون, عن جعفر بن أبي وحشية, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، يقول: مِنْ عند الله عُلِمَ الكتاب . حدثني محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر, عن شعبة, عن الحكم, عن مجاهد: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » قال: من عند الله . ... قال: حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن الحكم, عن مجاهد: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » قال: من عند الله عُلِمَ الكتاب وقد حدثنا هذا الحديثَ الحسن بن محمد قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » قال: هو الله هكذا قرأ الحسن: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » . ... قال: حدثنا شعبة, عن منصور بن زاذان, عن الحسن, مثله . قال: حدثنا علي يعني ابن الجعد قال: حدثنا شعبة, عن منصور بن زاذان, عن الحسن: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » قال: الله قال شعبة: فذكرت ذلك للحكم, فقال: قال مجاهد, مثله . حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة قال: سمعت منصور بن زاذان يحدث عن الحسن, أنه قال في هذه الآية: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، قال: من عند الله . ... قال: حدثنا الحسن بن محمد قال: حدثنا هوذة قال: حدثنا عوف, عن الحسن: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، قال: مِنْ عند الله عُلِم الكتاب . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » قال: من عند الله عِلْمُ الكِتَابِ هكذا قال ابن عبد الأعلى . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقرؤها: « قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، يقول: مِنْ عِنْد الله عُلِمَ الكتابُ وجملته قال أبو جعفر: هكذا حدثنا به بشر: « عُلِمَ الكتابُ » وأنا أحسِبَه وَهِم فيه, وأنه: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، لأن قوله « وجملته » ، اسم لا يُعْطف باسم على فعل ماضٍ . حدثنا الحسن قال: حدثنا عبد الوهاب, عن هارون: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، يقول: مِنْ عند الله عُلِم الكتاب . حدثني المثنى قال: حدثنا الحجاج بن المنهال قال: حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر قال: قلت لسعيد بن جبير: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » أهو عبد الله بن سَلام؟ قال: هذه السورة مكية, فكيف يكون عبد الله بن سلام! قال: وكان يقرؤها: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » يقول: مِنْ عند الله . حدثنا الحسن قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر قال: سألت سعيد بن جبير, عن قول الله ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) أهو عبد الله بن سلام؟ قال: فكيف وهذه السورة مكية؟ وكان سعيد يقرؤها: « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني عباد, عن عوف, عن الحسن وجُوَيبر, عن الضحاك بن مزاحم قالا « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، قال: من عند الله . قال أبو جعفر: وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ بتصحيح هذه القراءة وهذا التأويل, غير أنّ في إسناده نظرًا, وذلك ما:- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: ثني عباد بن العوّام, عن هارون الأعور, عن الزهري, عن سالم بن عبد الله, عن أبيه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ « وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الكِتَابُ » ، عند الله عُلِم الكتاب . قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ ليس له أصلٌ عند الثِّقات من أصحاب الزهريّ . فإذْ كان ذلك كذلك وكانت قراء الأمصار من أهل الحجاز والشأم والعراق على القراءة الأخرى, وهي: ( ومن عنده علم الكتاب ) ، كان التأويل الذي على المعنى الذي عليه قرأة الأمصار أولى بالصواب ممّا خالفه , إذ كانت القراءة بما هم عليه مجمعون أحقَّ بالصواب . « آخر تفسير سورة الرعد » الرئيسة المصحف الإلكتروني www.e-quran.com. جميع الحقوق محفوظة. ببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببب فهرس تفسير الطبري للسور 16 - تفسير الطبري سورة النحل التالي السابق تفسير سورة النحل القول في تأويل قوله تعالى : أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 1 ) يقول تعالى ذكره: أتى أمر الله فقرُب منكم أيها الناس ودنا، فلا تستعجلوا وقوعه. ثم اختلف أهل التأويل في الأمر الذي أعلم الله عباده مجيئه وقُربه منهم ما هو، وأيّ شيء هو؟ فقال بعضهم: هو فرائضه وأحكامه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) قال: الأحكام والحدود والفرائض. وقال آخرون: بل ذلك وعيد من الله لأهل الشرك به، أخبرهم أن الساعة قد قَرُبت وأن عذابهم قد حضر أجله فدنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لما نـزلت هذه الآية، يعني ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله أتى، فأمسِكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينـزل شيء، قالوا: ما نراه نـزل شيء فنـزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضا ، فلما رأوا أنه لا ينـزل شيء، قالوا: ما نراه نـزل شيء فنـزلت وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . حدثنا أبو هشام الرفاعي، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي بكر بن حفص، قال: لما نـزلت ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ) رفعوا رءوسهم، فنـزلت ( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا أبو بكر بن شعيب، قال: سمعت أبا صادق يقرأ ( يا عِبادِي أتّى أمْرُ اللَّهِ فلا تستعجلوه ) . وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو تهديد من الله أهل الكفر به وبرسوله، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك وذلك أنه عقَّب ذلك بقوله سبحانه وتعالى ( عَمَّا يُشْرِكُونَ ) فدلّ بذلك على تقريعه المشركين ووعيده لهم. وبعد، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل فرائض قبل أن تُفرض عليهم فيقال لهم من أجل ذلك: قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها. وأما مستعجلو العذاب من المشركين، فقد كانوا كثيرا. وقوله سبحانه وتعالى ( عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يقول تعالى تنـزيها لله وعلوّا له عن الشرك الذي كانت قريش ومن كان من العرب على مثل ما هم عليه يَدِين به. واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى ( عَمَّا يُشْرِكُونَ ) فقرأ ذلك أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين ( عَمَّا يُشْرِكُونَ ) بالياء على الخبر عن أهل الكفر بالله وتوجيه للخطاب بالاستعجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قرءوا الثانية بالياء . وقرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة بالتاء على توجيه الخطاب بقوله ( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقوله تعالى « عما يشركون » إلى المشركين ، والقراءة بالتاء في الحرفين جميعا على وجه الخطاب للمشركين أولى بالصواب لما بيَّنت من التأويل ، أن ذلك إنما هو وعيد من الله للمشركين ، ابتدأ أوّل الآية بتهديدهم ، وختم آخرها بنكير فعلهم واستعظام كفرهم على وجه الخطاب لهم. القول في تأويل قوله تعالى : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ( 2 ) اختلفت القرّاء في قراءة قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ ) فقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والكوفة ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ ) بالياء وتشديد الزاي ونصب الملائكة، بمعنى ينـزل الله الملائكة بالروح. وقرأ ذلك بعض البصريين وبعض المكيين: « يُنـزلُ المَلائِكَةَ » بالياء وتخفيف الزاي ونصب الملائكة. وحُكي عن بعض الكوفيين أنه كان يقرؤه: « تَنـزلُ المَلائكَةُ » بالتاء وتشديد الزاي والملائكة بالرفع، على اختلاف عنه في ذلك ، وقد رُوي عنه موافقة سائر قرّاء بلده. وأولى القراءات بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ ) بمعنى: ينـزل الله ملائكة. وإنما اخترت ذلك، لأن الله هو المنـزل ملائكته بوحيه إلى رسله، فإضافة فعل ذلك إليه أولى وأحقّ واخترت ينـزل بالتشديد على التخفيف، لأنه تعالى ذكره كان ينـزل من الوحي على من نـزله شيئا بعد شيء، والتشديد به إذ كان ذلك معناه ، أولى من التخفيف. فتأويل الكلام: ينـزل الله ملائكته بما يحيا به الحقّ ويضمحلّ به الباطل من أمره ( عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) يعني على من يشاء من رسله ( أَنْ أَنْذِرُوا ) فإن الأولى في موضع خفض، ردًا على الروح، والثانية في موضع نصب بأنذروا. ومعنى الكلام: ينـزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده، بأن أنذروا عبادي سطوتي على كُفرهم بي وإشراكهم في اتخاذهم معي الآلهة والأوثان، فإنه لا إله إلا أنا ، يقول: لا تنبغي الألوهة إلا لي، ولا يصلح أن يُعبد شيء سواي، فاتقون : يقول: فاحذروني بأداء فرائضي وإفراد العبادة وإخلاص الربوبية لي، فإن ذلك نجاتكم من الهلكة. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ) يقول: بالوحي. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) يقول: ينـزل الملائكة . حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) إنه لا ينـزل ملك إلا ومعه روح. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال مجاهد: قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) قال: لا ينـزل ملك إلا معه روح ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) قال: بالنبوّة. قال ابن جريج: وسمعت أن الروح خلق من الملائكة نـزل به الروح وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي . حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ) قال: كل كلِم تكلم به ربنا فهو روح منه وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ... إلى قوله أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ . حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) يقول: ينـزل بالرحمة والوحي من أمره، ( عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) فيصطفي منهم رسلا. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( يُنـزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) قال: بالوحي والرحمة. وأما قوله ( أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ) فقد بيَّنا معناه. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ ) إنما بعث الله المرسلين أن يوحد الله وحده، ويطاع أمره، ويجتنب سخطه. القول في تأويل قوله تعالى : خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 3 ) يقول تعالى ذكره معرّفا خلقه حجته عليهم في توحيده، وأنه لا تصلح الألوهة إلا له: خلق ربكم أيها الناس السموات والأرض بالعدل وهو الحقّ منفردا بخلقها لم يشركه في إنشائها وإحداثها شريك ولم يعنه عليه معين، فأنى يكون له شريك ( تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يقول جلّ ثناؤه: علا ربكم أيها القوم عن شرككم ودعواكم إلها دونه، فارتفع عن أن يكون له مثل أو شريك أو ظهير، لأنه لا يكون إلها إلا من يخلق وينشئ بقدرته مثل السموات والأرض ويبتدع الأجسام فيحدثها من غير شيء، وليس ذلك في قُدرة أحد سوى الله الواحد القَّهار الذي لا تنبغي العبادة إلا له ولا تصلح الألوهة لشيء سواه. القول في تأويل قوله تعالى : خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ( 4 ) يقول تعالى ذكره: ومن حججه عليكم أيضا أيها الناس، أنه خلق الإنسان من نطفة، فأحدث من ماء مهين خلقا عجيبا، قلبه تارات خلقا بعد خلق في ظلمات ثلاث، ثم أخرجه إلى ضياء الدنيا بعد ما تمّ خلقه ونفخ فيه الروح، فغذاه ورزقه القوت ونماه، حتى إذا استوى على سوقه كفر بنعمة ربه وجحد مدبره وعبد من لا يضرّ ولا ينفع ، وخاصم إلهه ، فقال مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ونسِي الذي خلقه فسوّاه خلقا سويا من ماء مهين ، ويعني بالمبين: أنه يبين عن خصومته بمنطقه ، ويجادل بلسانه، فذلك إبانته ، وعنى بالإنسان: جميع الناس، أخرج بلفظ الواحد ، وهو في معنى الجميع. القول في تأويل قوله تعالى : وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ( 5 ) يقول تعالى ذكره: ومن حججه عليكم أيها الناس ما خلق لكم من الأنعام، فسخَّرها لكم، وجعل لكم من أصوافها وأوبارها وأشعارها ملابس تدفئون بها ، ومنافع من ألبانها ، وظهورها تركبونها ( وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) يقول: ومن الأنعام ما تأكلون لحمه كالإبل والبقر والغنم ، وسائر ما يؤكل لحمه ، وحذفت ما من الكلام لدلالة من عليها. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قال: المثنى أخبرنا، وقال ابن داود: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ) يقول: الثياب. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله. ( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) يعني بالدفء: الثياب، والمنافع: ما ينفعون به من الأطعمة والأشربة. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ) قال: لباس ينسج، ومنها مركب ولبن ولحم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ) لباس ينسج ومنافع، مركب ولحم ولبن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قوله ( لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ) قال: نسل كلّ دابة. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل بإسناده ، عن ابن عباس، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ) يقول: لكم فيها لباس ومنفعة وبلغة. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، قال: قال ابن عباس ( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ) قال: هو منافع ومآكل. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ) قال: دفء اللحف التي جعلها الله منها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني، عن مجاهد ( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ) قال: نتاجها وركوبها وألبانها ولحومها. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ( 6 ) يقول تعالى ذكره: ولكم في هذه الأنعام والمواشي التي خلقها لكم ( جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ ) يعني: تردّونها بالعشيّ من مسارحها إلى مراحها ومنازلها التي تأوي إليها ولذلك سمي المكان المراح، لأنها تراح إليه عشيا فتأوي إليه، يقال منه: أراح فلان ماشيته فهو يريحها إراحة ، وقوله ( وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) يقول: وفي وقت إخراجكموها غدوة من مُراحها إلى مسارحها، يقال منه: سرح فلان ماشيته يسرحها تسريحا، إذا أخرجها للرعي غدوة، وسَرحت الماشية: إذا خرجت للمرعى تسرح سرحا وسروحا، فالسرح بالغداة ، والإراحة بالعشيّ ، ومنه قول الشاعر: كــأنَّ بَقايــا الأتْـنِ فَـوْقَ مُتُونِـهِ مـدَّبُّ الـدَّبىّ فَـوْقَ النَّقا وَهْوَ سارِحُ وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها ، طوالا أسنمتها، وحين تسرحون إذا سرحت لرعيها. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) قال: إذا راحت كأعظم ما تكون أسنمة، وأحسن ما تكون ضروعا. القول في تأويل قوله تعالى : وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 7 ) وقوله ( وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) يقول: وتحمل هذه الأنعام أثقالكم إلى بلد آخر لم تكونوا بالغيه إلا بجهد من أنفسكم شديد ، ومشقة عظيمة. كما حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن جابر، عن عكرمة ( وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) قال: لو تكلفونه لم تبلغوه إلا بجهد شديد. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سماك، عن عكرمة ( إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) قال: لو كلفتموه لم تبلغوه إلا بشقّ الأنفس. حدثني المثنى، قال: ثنا الحماني، قال: ثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة ( إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) قال: البلد: مكة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) قال: مشقة عليكم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) يقول: بجهد الأنفس. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر ، عن قتادة، بنحوه. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الأمصار بكسر الشين ( إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ ) سوى أبي جعفر القارئ، فإن المثنى حدثني، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثني أبو سعيد الرازي، عن أبي جعفر قارئ المدينة، أنه كان يقرأ « لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس » بفتح الشين، وكان يقول: إنما الشقّ: شقّ النفس. وقال ابن أبي حماد: وكان معاذ الهرّاء يقول: هي لغة، تقول العرب بشَقّ وبشِقّ، وبرَق وبرِق. والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار وهي كسر الشين، لإجماع الحجة من القرّاء عليه وشذوذ ما خالفه ، وقد يُنشد هذا البيت بكسر الشين وفتحها، وذلك قول الشاعر: وذِي إبِــلٍ يَسْــعَى وَيحْسِـبُها لَـهُ أخِــي نَصَـبٍ مِـنْ شَـقِّها ودُءُوبِ و « من شَقِها » أيضا بالكسر والفتح ، وكذلك قول العجاج: أصبحَ مَسْحُولٌ يُوَازِي شَقًّا و « شقا » بالفتح والكسر. ويعني بقوله « يوازي شَقا » : يقاسي مشقة. وكان بعض أهل العربية يذهب بالفتح إلى المصدر من شققت عليه أشقّ شقا، وبالكسر إلى الاسم. وقد يجوز أن يكون الذين قرءوا بالكسر أرادوا إلا بنقص من القوّة وذهاب شيء منها حتى لا يبلغه إلا بعد نقصها، فيكون معناه عند ذلك: لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ قوى أنفسكم ، وذهاب شقها الآخر ، ويحكى عن العرب: خذ هذا الشَّقَّ: لشقة الشاة بالكسر، فأما في شقت عليك شقا فلم يحك فيه إلا النصب. وقوله ( إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) يقول تعالى ذكره: إن ربكم أيها الناس ذو رأفة بكم ، ورحمة ، من رحمته بكم، خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم، وخلق السموات والأرض أدلة لكم على وحدانية ربكم ومعرفة إلهكم، لتشكروه على نعمه عليكم، فيزيدكم من فضله. القول في تأويل قوله تعالى : وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 8 ) يقول تعالى ذكره: وخلق الخيل والبغال والحمير لكم أيضا لتركبوها وزينة : يقول: وجعلها لكم زينة تتزينون بها مع المنافع التي فيها لكم، للركوب وغير ذلك ، ونصب الخيل والبغال عطفا على الهاء والألف في قوله خَلَقَهَا ، ونصب الزينة بفعل مضمر على ما بيَّنت، ولو لم يكن معها واو وكان الكلام: لتركبوها زينة ، كانت منصوبة بالفعل الذي قبلها الذي هي به متصلة، ولكن دخول الواو آذنت بأن معها ضمير فعل ، وبانقطاعها عن الفعل الذي قبلها. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ) قال: جعلها لتركبوها، وجعلها زينة لكم ، وكان بعض أهل العلم يرى أن في هذه الآية دلالة على تحريم أكل لحوم الخيل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيي بن واضح، قال: ثنا أبو ضمرة، عن أبي إسحاق، عن رجل، عن ابن عباس، قوله ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ) قال: هذه للركوب. وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ قال: هذه للأكل. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: ثنا هشام الدستوائي ، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، عن مولى نافع بن علقمة: أن ابن عباس كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير، وكان يقول: قال الله وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ فهذه للأكل، ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ) فهذه للركوب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس: أنه سئل عن لحوم الخيل، فكرهها وتلا هذه الآية ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ) ... الآية. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا قيس بن الربيع، عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه سئل عن لحوم الخيل، فقال: اقرأ التي قبلها وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ...... وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً فجعل هذه للأكل، وهذه للركوب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ فجعل منه الأكل. ثم قرأ حتى بلغ ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا ) قال: لم يجعل لكم فيها أكلا. قال: وكان الحكم يقول: والخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا ابن أبي غنية ، عن الحكم، قال: لحوم الخيل حرام في كتاب الله ، ثم قرأ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ... إلى قوله ( لِتَرْكَبُوهَا ) . وكان جماعة غيرهم من أهل العلم يخالفونهم في هذا التأويل، ويرون أن ذلك غير دالّ على تحريم شيء، وأن الله جلّ ثناؤه إنما عرف عباده بهذه الآية وسائر ما في أوائل هذه السورة نعمه عليهم ونبههم به على حججه عليهم ، وأدلته على وحدانيته ، وخطأ فعل من يشرك به من أهل الشرك. * ذكر بعض من كان لا يرى بأسا بأكل لحم الفرس. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود: أنه أكل لحم الفرس. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود بنحوه. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: نحر أصحابنا فرسا في النجع وأكلوا منه، ولم يروا به بأسا. والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله أهل القول الثاني، وذلك أنه لو كان في قوله تعالى ذكره ( لِتَرْكَبُوهَا ) دلالة على أنها لا تصلح ، إذ كانت للركوب للأكل - لكان في قوله فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ دلالة على أنها لا تصلح إذ كانت للأكل والدفء للركوب. وفي إجماع الجميع على أن ركوب ما قال تعالى ذكره وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ جائز حلال غير حرام، دليل واضح على أن أكل ما قال ( لِتَرْكَبُوهَا ) جائز حلال غير حرام، إلا بما نص على تحريمه أو وضع على تحريمه دلالة من كتاب أو وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأما بهذه الآية فلا يحرم أكل شيء. وقد وضع الدلالة على تحريم لحوم الحمر الأهلية بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى البغال بما قد بيَّنا في كتابنا ، كتاب الأطعمة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، إذ لم يكن هذا الموضع من مواضع البيان عن تحريم ذلك، وإنما ذكرنا ما ذكرنا ليدلّ على أنه لا وجه لقول من استدلّ بهذه الآية على تحريم لحم الفرس. حدثنا أحمد، ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن جابر، قال: كنا نأكل لحم الخيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: فالبغال؟ قال: أما البغال فلا. وقوله ( وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) يقول تعالى ذكره: ويخلق ربكم مع خلقه هذه الأشياء التي ذكرها لكم ما لا تعلمون مما أعدّ في الجنة لأهلها وفي النار لأهلها مما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر. القول في تأويل قوله تعالى : وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( 9 ) يقول تعالى ذكره: وعلى الله أيها الناس بيان طريق الحقّ لكم، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها ، والسبيل: هي الطريق، والقصد من الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، كما قال الراجز: فَصَدَّ عَنْ نَهْجِ الطَّرِيقِ القاصِدِ وقوله ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يعني تعالى ذكره: ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوجّ، فالقاصد من السبيل: الإسلام، والجائر منها: اليهودية والنصرانية ، وغير ذلك من ملل الكفر كلها جائر عن سواء السبيل وقصدها، سوى الحنيفية المسلمة ، وقيل: ومنها جائر، لأن السبيل يؤنث ويذكر، فأنثت في هذا الموضع ، وقد كان بعضهم يقول: وإنما قيل: ومنها ، لأن السبيل وإن كان لفظها لفظ واحد فمعناها الجمع. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول: البيان. حدثنا محمد بن سعد ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول: على الله البيان، أن يبين الهدى والضلالة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن. قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) قال: طريق الحقّ على الله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، في قوله ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول: على الله البيان، بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) قال: السبيل: طريق الهدى. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) قال: إنارتها. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) يقول: على الله البيان، يبين الهدى من الضلالة، ويبين السبيل التي تفرّقت عن سبله، ومنها جائر. حدثنا بشر ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) : أي من السبل، سبل الشيطان ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود: « وَمِنْكُمْ جَائِرٌ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَهَدَاكُمْ أجمَعِينَ » . حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر ، عن قتادة ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) قال: في حرف ابن مسعود: « وَمِنْكُمْ جَائِرٌ » . حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يعني: السبل المتفرّقة. حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يقول: الأهواء المختلفة. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) يعني السبل التي تفرّقت عن سبيله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) السبل المتفرقة عن سبيله. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَمِنْهَا جَائِرٌ ) قال: من السبل جائر عن الحقّ قال: قال الله وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ وقوله ( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) يقول: ولو شاء الله للطف بجميعكم أيها الناس بتوفيقه، فكنتم تهتدون وتلزمون قصد السبيل ، ولا تجورون عنه ، فتتفرّقون في سبل عن الحقّ جائرة. كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) قال: لو شاء لهداكم أجمعين لقصد السبيل ، الذي هو الحقّ ، وقرأ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا الآية، وقرأ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ... الآية. القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ( 10 ) يقول تعالى ذكره: والذي أنعم عليكم هذه النعم ، وخلق لكم الأنعام والخيل وسائر البهائم لمنافعكم ومصالحكم، هو الربّ الذي أنـزل من السماء ماء، يعني: مطرا لكم من ذلك الماء ، شراب تشربونه ، ومنه شراب أشجاركم ، وحياة غروسكم ونباتها ( فِيهِ تُسِيمُونَ ) يقول: في الشجر الذي ينبت من الماء الذي أنـزل من السماء تسيمون، ترعون، يقال منه: أسام فلان إبله يسيمها إسامة ، إذا أرعاها، وسومها أيضا يسومها، وسامت هي: إذ رعت، فهي تسوم، وهي إبل سائمة ومن ذلك قيل للمواشي المطلقة في الفلاة وغيرها للرعي، سائمة. وقد وجَّه بعضهم معنى السوم في البيع إلى أنه من هذا، وأنه ذهاب كلّ واحد من المتبايعين فيما ينبغي له من زيادة ثمن ونقصانه، كما تذهب سوائم المواشي حيث شاءت من مراعيها ، ومنه قول الأعشى: وَمَشَـى القَـوْمُ بالعمـادِ إلـى المَـرْ عَـى وأعْيـا المُسِـيمَ أيْـنَ المَسـاقُ وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن النضْر بن عربي، عن عكرمة ( وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) قال: ترعون. حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي، قال: ثنا قرة بن عيسى، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، في قوله ( فِيهِ تُسِيمُونَ ) قال: ترعون. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ترعون. حدثني بن داود، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) يقول: شجر يرعون فيه أنعامهم وشاءهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس ( فِيهِ تُسِيمُونَ ) قال: ترعون. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: فيه ترعون. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، عن الضحاك، في قوله ( تُسِيمُونَ ) يقول: ترعون أنعامكم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن طلحة بن أبي طلحة القناد، قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: فيه ترعون. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) يقول: ترعون. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: ترعون. حدثنا محمد بن سنان، قال: ثنا سليمان، قال: ثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله ( شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) قال: تَرْعون. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) قال: تَرْعون. قال: الإسامة: الرّعية. وقال الشاعر: مثــلَ ابـنِ بَزْعَـةَ أو كـآخَرَ مِثْلِـهِ أوْلــى لَـكَ ابـنَ مُسِـيمةِ الأجْمـالِ قال: يا ابن راعية الأجمال. القول في تأويل قوله تعالى : يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 11 ) يقول تعالى ذكره: يُنبت لكم ربكم بالماء الذي أنـزل لكم من السماء زرعَكم وزيتونَكم ونخيلكم وأعنابكم ، ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) يعني من كلّ الفواكه غير ذلك أرزاقا لكم وأقواتا وإداما وفاكهة، نعمة منه عليكم بذلك وتفضّلا وحُجة على من كفر به منكم ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) يقول جلّ ثناؤه: إن في إخراج الله بما ينـزل من السماء من ماء ما وصف لكم ( لآيَةً ) يقول: لدلالة واضحة ، وعلامة بينة ( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول: لقوم يعتبرون مواعظ الله ، ويتفكَّرون في حججه، فيتذكرون وينيبون. القول في تأويل قوله تعالى : وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 12 ) يقول تعالى ذكره: ومن نِعَمه عليكم أيها الناس مع التي ذكرها قبل أن سخر لكم الليل والنهار يتعاقبان عليكم، هذا لتصرّفكم في معاشكم ، وهذا لسكنكم فيه ، ( وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) لمعرفة أوقات أزمنتكم وشهوركم وسنينكم ، وصلاح معايشكم ( وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ ) لكم بأمر الله تجري في فلكها لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحر ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يقول تعالى ذكره: إن في تسخير الله ذلك على ما سخره لدلالات واضحات لقوم يعقلون حجج الله ويفهمون عنه تنبيهه إياهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( 13 ) يعني جلّ ثناؤه بقوله ( وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ ) وسخر لكم ما ذرأ: أي ما خلق لكم في الأرض مختلفا ألوانه من الدوابّ والثمار. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ ) يقول: وما خلق لكم مختلفا ألوانه من الدوابّ ، ومن الشجر والثمار، نعم من الله متظاهرة فاشكروها لله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: من الدوابّ والأشجار والثمار ، ونصب قوله مختلفا ، لأن قوله ( وما ) في موضع نصب بالمعنى الذي وصفت. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون مختلفا ألوانه حالا من « ما » ، والخبر دونه تامّ، ولو لم تكن « ما » في موضع نصب، وكان الكلام مبتدأ من قوله ( وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ ) لم يكن في مختلف إلا الرفع، لأنه كان يصير مرافع « ما » حينئذ. القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 14 ) يقول تعالى ذكره: والذي فعل هذه الأفعال بكم ، وأنعم عليكم ، أيها الناس هذه النعم، الذي سخر لكم البحر، وهو كلّ نهر ، ملحا ماؤه أو عذبا ( لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ) وهو السمك الذي يصطاد منه. ( وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) وهو اللؤلؤ والمرجان. كما حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة، في قوله ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ) قال: منهما جميعا. ( وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) قال: هذا اللؤلؤ. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا ) يعني حيتان البحر. حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا حماد، عن يحيى، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الملك، قال: جاء رجل إلى أبي جعفر، فقال: هل في حليّ النساء صدقة؟ قال: لا هي كما قال الله تعالى ( حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ ) يعني السفن، ( مَوَاخِرَ فِيهِ ) وهي جمع ماخرة. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( مَوَاخِرَ ) فقال بعضهم: المواخر: المواقر. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمرو بن موسى القزاز، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا يونس، عن الحسن، في قوله ( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال: المواقر. وقال آخرون في ذلك ما حدثنا به عبد الرحمن بن الأسود، قال: ثنا محمد بن ربيعة ، عن أبي بكر الأصمّ، عن عكرمة، في قوله ( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال: ما أخذ عن يمين السفينة وعن يسارها من الماء، فهو المواخر. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي مكين، عن عكرمة، في قوله ( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال: هي السفينة تقول بالماء هكذا، يعني تشقه. وقال آخرون فيه ما حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح ( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال: تجري فيه متعرّضة. وقال آخرون فيه، بما حدثني به محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال: تمخر السفينة الرياح، ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه، غير أن الحارث قال في حديثه: ولا تمخر الرياح من السفن. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( مَوَاخرَ ) قال: تمخر الريح. وقال آخرون فيه، ماحدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) تجري بريح واحدة، مُقبلة ومُدبرة. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: تجري مقبلة ومدبرة بريح واحدة. حدثنا المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن يزيد بن إبراهيم، قال: سمعت الحسن ( وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ) قال: مقبلة ومدبرة بريح واحدة ، والمخْر في كلام العرب: صوت هبوب الريح ، إذا اشتدّ هبوبها، وهو في هذا الموضع: صوت جري السفينة بالريح إذا عصفت وشقها الماء حينئذ بصدرها، يقال منه: مخرت السفينة تمخر مخرا ومخورا، وهي ماخرة، ويقال: امتخرت الريح وتمخرتها: إذا نظرتَ من أين هبوبها وتسمَّعت صوت هبوبها ، ومنه قول واصل مولى ابن عيينة. كان يقال: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح، يريد بذلك: لينظر من أين مجراها وهبوبها ليستدبرها فلا ترجع عليه البول وتردّه عليه. وقوله ( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) يقول تعالى ذكره: ولتتصرّفوا في طلب معايشكم بالتجارة سخر لكم. كما حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) قال: تجارة البرّ والبحر. وقوله ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) يقول: ولتشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم من ذلك سخر لكم ما سخر من هذه الأشياء التي عدّدها في هذه الآيات. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 15 ) يقول تعالى ذكره: ومن نعمه عليكم أيها الناس أيضا، أن ألقى في الأرض رواسي، وهي جمع راسية، وهي الثوابت في الأرض من الجبال. وقوله ( أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) يعني: أن لا تميد بكم، وذلك كقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا والمعنى: أن لا تضلوا. وذلك أنه جلّ ثناؤه أرسى الأرض بالجبال لئلا يميد خلقه الذي على ظهرها، بل وقد كانت مائدة قبل أن تُرْسَى بها. كما حدثنا بشر ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن قيس بن عباد: أن الله تبارك وتعالى لما خلق الأرض جعلت تمور ، قالت الملائكة. ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا ، فأصبحت صبحا وفيها رواسيها. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال ، قال: ثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب، عن عليّ بن أبي طالب، قال: لما خلق الله الأرض قمصت، وقالت: أي ربّ أتجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث ، قال: فأرسى الله عليها من الجبال ما ترون وما لا ترون، فكان قرارها كاللحم يترجرج ، والميد: هو الاضطراب والتكفؤ، يقال: مادت السفينة تميد ميدا: إذا تكفأت بأهلها ومالت، ومنه الميد الذي يعتري راكب البحر، وهو الدوار. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) : أن تكفأ بكم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين. قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن، في قوله ( وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) قال: الجبال أن تميد بكم. قال قتادة: سمعت الحسن يقول: لما خلقت الأرض كادت تميد، فقالوا: ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدا ، فأصبحوا وقد خُلقت الجبال، فلم تدر الملائكة مم خُلقت الجبال. وقوله ( وأنهَارًا ) يقول: وجعل فيها أنهارا، فعطف بالأنهار على الرواسي، وأعمل فيها ما أعمل في الرواسي، إذ كان مفهوما معنى الكلام والمراد منه ، وذلك نظير قول الراجز: تَسْــمَعُ فــي أجْــوَافِهِنَّ صَـوْرَا وفــي اليَــدَيْنِ حَشَّــةً وبَــوْرا والحشة: اليُبس، فعطف بالحشة على الصوت، والحشة لا تسمع، إذ كان مفهوما المراد منه وأن معناه وترى في اليدين حَشَّةً. وقوله ( وَسُبُلا ) وهي جمع سبيل، كما الطرق: جمع طريق ، ومعنى الكلام: وجعل لكم أيها الناس في الأرض سُبلا وفجاجا تسلكونها ، وتسيرون فيها في حوائجكم ، وطلب معايشكم رحمة بكم ، ونعمة منه بذلك عليكم ولو عماها عليكم لهلكتم ضلالا وحيرة. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( سُبُلا ) أي طرقا. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( سُبُلا ) قال: طرقا. وقوله ( لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) يقول: لكي تهتدوا بهذه السبل التي جعلها لكم في الأرض إلى الأماكن التي تقصدون والمواضع التي تريدون، فلا تضلوا وتتحيروا. القول في تأويل قوله تعالى : وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ( 16 ) اختلف أهل التأويل في المعني بالعلامات، فقال بعضهم: عني بها معالم الطرق بالنهار. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) يعني بالعلامات: معالم الطرق بالنهار، وبالنجم هم يهتدون بالليل. وقال آخرون: عني بها النجوم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم ( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) قال: منها ما يكون علامات، ومنها ما يهتدون به . حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد ( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) قال: منها ما يكون علامة، ومنها ما يهتدى به. حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا قبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله. قال المثنى: قال: ثنا إسحاق خالف قبيصة وكيعا في الإسناد. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) والعلامات: النجوم، وإن الله تبارك وتعالى إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصلات: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوما للشياطين. فمن تعاطى فيها غير ذلك، فقد رأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه وتكلَّف ما لا علم له به. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَعَلامَاتٍ ) قال النجوم. وقال آخرون: عني بها الجبال. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي ( وَعَلامَاتٍ ) قال: الجبال. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عدّد على عباده من نعمه، إنعامه عليهم بما جعل لهم من العلامات التي يهتدون بها في مسالكهم وطرقهم التي يسيرونها، ولم يخصص بذلك بعض العلامات دون بعض، فكلّ علامة استدلّ بها الناس على طرقهم ، وفجاج سبُلهم ، فداخل في قوله ( وَعَلامَاتٍ ) والطرق المسبولة: الموطوءة، علامة للناحية المقصودة، والجبال علامات يهتدى بهن إلى قصد السبيل، وكذلك النجوم بالليل. غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية أن تكون العلامات من أدلة النهار، إذ كان الله قد فصل منها أدلة الليل بقوله ( وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) وإذا كان ذلك أشبه وأولى بتأويل الآية، فالواجب أن يكون القول في ذلك ما قاله ابن عباس في الخبر الذي رويناه عن عطية عنه، وهو أن العلامات معالم الطرق وأماراتها التي يهتدى بها إلى المستقيم منها نهارا، وأن يكون النجم الذي يهتدى به ليلا هو الجدي والفرقدان، لأن بها اهتداء السفر دون غيرها من النجوم. فتأويل الكلام إذن: وجعل لكم أيها الناس علامات تستدلون بها نهارا على طرقكم في أسفاركم. ونجوما تهتدون بها ليلا في سُبلكم. القول في تأويل قوله تعالى : أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 17 ) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 18 ) يقول تعالى ذكره لعبدة الأوثان والأصنام: أفمن يخلق هذه الخلائق العجيبة التي عددناها عليكم وينعم عليكم هذه النعم العظيمة، كمن لا يخلق شيئا ولا ينعم عليكم نعمة صغيرة ولا كبيرة؟ يقول: أتشركون هذا في عبادة هذا؟ يعرّفهم بذلك عظم جهلهم ، وسوء نظرهم لأنفسهم ، وقلَّة شكرهم لمن أنعم عليهم بالنعم التي عدّدها عليهم ، التي لا يحصيها أحد غيره، قال لهم جلّ ثناؤه موبخهم ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) أيها الناس يقول: أفلا تذكرون نعم الله عليكم ، وعظيم سُلطانه وقُدرته على ما شاء، وعجز أوثانكم وضعفها ومهانتها، وأنها لا تجلب إلى نفسها نفعا ولا تدفع عنها ضرّا، فتعرفوا بذلك خطأ ما أنتم عليه مقيمون من عبادتكموها وإقراركم لها بالألوهة؟ كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) والله هو الخالق الرازق، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تخلق شيئا، ولا تملك لأهلها ضرّا ولا نفعا، قال الله ( أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) . وقيل ( كَمَنْ لا يَخْلُقُ ) هو الوثن والصنم، و « من » لذوي التمييز خاصة، فجعل في هذا الموضع لغيرهم للتمييز، إذ وقع تفصيلا بين من يخلق ومن لا يخلق ، ومحكيّ عن العرب: اشتبه عليّ الراكب وجمله، فما أدرى من ذا ومن ذا، حيث جمعا ، وأحدهما إنسان حسنت من فيهما جميعا. ومنه قول الله عزّ وجلّ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ وقوله ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ) لا تطيقوا أداء شكرها ، ( إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول جلّ ثناؤه: إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته، رحيم بكم أن يعذبكم عليه بعد الإنابة إليه والتوبة. القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( 19 ) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( 20 ) يقول تعالى ذكره: والله الذي هو إلهكم أيها الناس، يعلم ما تسرّون في أنفسكم من ضمائركم فتخفونه عن غيركم، فما تبدونه بألسنتكم وجوارحكم وما تعلنونه بألسنتكم وجوارحكم وأفعالكم، وهو محص ذلك كله عليكم، حتى يجازيكم به يوم القيامة، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء منكم بإساءته، ومُسائلكم عما كان منكم من الشكر في الدنيا على نعمه التي أنعمها عليكم فيها التي أحصيتم ، والتي لم تحصوا ، وقوله ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) يقول تعالى ذكره: وأوثانكم الذين تدعون من دون الله أيها الناس آلهة لا تخلق شيئا وهي تخلق، فكيف يكون إلها ما كان مصنوعا مدبرا ، لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرّا. القول في تأويل قوله تعالى : أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( 21 ) يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش: والذين تدعون من دون الله أيها الناس ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ) وجعلها جلّ ثناؤه أمواتا غير أحياء، إذ كانت لا أرواح فيها. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) وهي هذه الأوثان التي تُعبد من دون الله أموات لا أرواح فيها، ولا تملك لأهلها ضرّا ولا نفعا ، وفي رفع الأموات وجهان: أحدهما أن يكون خبرا للذين، والآخر على الاستئناف وقوله ( وَمَا يَشْعُرُونَ ) يقول: وما تدري أصنامكم التي تدعون من دون الله متى تبعث ، وقيل: إنما عنى بذلك الكفار، إنهم لا يدرون متى يبعثون. القول في تأويل قوله تعالى : إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ( 22 ) يقول تعالى ذكره: معبودكم الذي يستحقّ عليكم العبادة ، وإفراد الطاعة له دون سائر الأشياء: معبود واحد، لأنه لا تصلح العبادة إلا له، فأفردوا له الطاعة وأخلصوا له العبادة ، ولا تجعلوا معه شريكا سواه ( فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ ) يقول تعالى ذكره: فالذين لا يصدّقون بوعد الله ووعيده ، ولا يقرّون بالمعاد إليه بعد الممات قلوبهم منكرة ، يقول تعالى ذكره: مستنكرة لما نقص عليهم من قدرة الله وعظمته ، وجميل نعمه عليهم، وأن العبادة لا تصلح إلا له ، والألوهة ليست لشيء غيره يقول: وهم مستكبرون عن إفراد الله بالألوهة ، والإقرار له بالوحدانية، اتباعا منهم لما مضى عليه من الشرك بالله أسلافهم. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ ) لهذا الحديث الذي مضى، وهم مستكبرون عنه. القول في تأويل قوله تعالى : لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ( 23 ) يعني تعالى ذكره بقوله: لا جرم حقا أن الله يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون من إنكارهم ما ذكرنا من الأنباء في هذه السورة، واعتقادهم نكير قولنا لهم: إلهكم إله واحد، واستكبارهم على الله، وما يعلنون من كفرهم بالله وفريتهم عليه ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) يقول: إن الله لا يحب المستكبرين عليه أن يوحدوه ويخلعوا ما دونه من الآلهة والأنداد. كما حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: ثنا مسعر، عن رجل: أن الحسن بن عليّ كان يجلس إلى المساكين، ثم يقول ( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِين ) . القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 24 ) يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة من المشركين ، ماذا أنـزل ربكم ، أيّ شيء أنـزل ربكم ، قالوا: الذي أنـزل ما سطَّره الأوّلون من قبلنا من الأباطيل. وكان ذلك كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( مَاذَا أَنـزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) يقول: أحاديث الأوّلين وباطلهم ، قال ذلك قوم من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا مرّ بهم أحد من المؤمنين ، يريد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، قالوا لهم: أساطير الأوّلين، يريد: أحاديث الأوّلين وباطلهم. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) يقول: أحاديث الأوّلين. القول في تأويل قوله تعالى : لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ( 25 ) يقول تعالى ذكره: يقول هؤلاء المشركون لمن سألهم ، ماذا أنـزل ربكم الذي أنـزل ربنا فيما يزعم محمد عليه: أساطير الأوّلين، لتكون لهم ذنوبهم التي هم عليها مقيمون من تكذيبهم الله ، وكفرهم بما أنـزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذنوب الذين يصدّونهم عن الإيمان بالله يضلون يفتنون منهم بغير علم ، وقوله ( أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) يقول: ألا ساء الإثم الذي يأثمون ، والثقل الذي يتحملون. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن نجيح، عن مجاهد، قوله ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ومن أوزار من أضلوا احتمالهم ذنوب أنفسهم ، وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئا. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد. نحوه، إلا أنه قال: ومن أوزار الذين يضلونهم حملهم ذنوب أنفسهم، وسائر الحديث مثله. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ ) قال: حملهم ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي ذنوبهم وذنوب الذين يضلونهم بغير علم، ( أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) يقول: يحملون ذنوبهم، وذلك مثل قوله وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ يقول: يحملون مع ذنوبهم الذين يُضِلُّونهم بغير علم. حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع ، ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم « أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ فَاتُّبِعَ ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ من غَيْرِ أنْ يُنْقَصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ ، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ فَلَهُ مِثْلَ أُجُورِهِمْ من غَيْرِ أنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ » . حدثني المثنى، قال: أخبرنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن رجل، قال: قال زيد بن أسلم: « أنه بلغه أنه يتمثل للكافر عمله في صورة أقبح ما خلق الله وجها وأنتنه ريحًا، فيجلس إلى جنبه، كلما أفزعه شيء زاده فزعا وكلما تخوّف شيئا زاده خوفا، فيقول: بئس الصاحب أنت ، ومن أنت؟ فيقول: وما تعرفني؟ فيقول: لا فيقول: أنا عملك كان قبيحا ، فلذلك تراني قبيحا، وكان منتنا فلذلك تراني منتنا، طأطئ إليّ أركبك فطالما ركبتني في الدنيا ، فيركبه، وهو قوله ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) » القول في تأويل قوله تعالى : قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ( 26 ) يقول تعالى ذكره: قد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين الذين يصدّون عن سبيل الله ، من أراد اتباع دين الله، فراموا مغالبة الله ببناء بَنَوه، يريدون بزعمهم الارتفاع إلى السماء لحرب من فيها ، وكان الذي رام ذلك فيما ذُكر لنا جبار من جبابرة النَّبَط ، فقال بعضهم: هو نمرود بن كنعان، وقال بعضهم: هو بختنصر، وقد ذكرت بعض أخبارهما في سورة إبراهيم. وقيل: إن الذي ذُكر في هذا الموضع هو الذي ذكره الله في سورة إبراهيم. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: أمر الذي حاجّ إبراهيم في ربه بإبراهيم فأُخْرِج، يعني من مدينته، قال: فلقي لوطا على باب المدينة وهو ابن أخيه، فدعاه فآمن به، وقال: إني مهاجر إلى ربي ، وحلف نمرود أن يطلب إله إبراهيم، فأخذ أربعة أفراخ من فِراخ النسور، فرباهنّ باللحم والخبز حتى كبرن وغلظن واستعلجن، فربطهنّ في تابوت، وقعد في ذلك التابوت ثم رفع لهنّ رجلا من لحم، فطرن، حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض، فرأى الجبال تدبّ كدبيب النمل ، ثم رفع لهنّ اللحم، ثم نظر فرأى الأرض محيطا بها بحر كأنها فلكة في ماء ، ثم رفع طويلا فوقع في ظلمة، فلم ير ما فوقه وما تحته، ففزع، فألقى اللحم، فاتبعته منقضَّات ، فلما نظرت الجبال إليهنّ، وقد أقبلن منقضات وسمعت حفيفهنّ، فزعت الجبال، وكادت أن تزول من أمكنتها ولم يفعلن وذلك قول الله تعالى وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ وهي في قراءة ابن مسعود: « وَإنْ كَادَ مَكْرُهُمْ » . فكان طَيْرُورتهن به من بيت المقدس ووقوعهن به في جبل الدخان ، فلما رأى أنه لا يطيق شيئا أخذ في بنيان الصرح، فبنى حتى إذا شيده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر، يزعم إلى إله إبراهيم، فأحدث، ولم يكن يُحدث وأخذ الله بنيانه من القواعد ( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) يقول: من مأمنهم، وأخذهم من أساس الصرح، فتنقَّض بهم ، فسقط ، فتبلبلت ألسن الناس يومئذ من الفزع، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا، فلذلك سميت بابل ، وإنما كان لسان الناس من قبل ذلك بالسريانية. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي. عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ) قال: هو نمرود حين بنى الصرح. حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم: إن أوّل جبار كان في الأرض نمرود، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره، فمكث أربع مئة سنة يُضرب رأسه بالمطارق، أرحم الناس به من جمع يديه ، فضرب رأسه بهما، وكان جبارا أربع مئة سنة، فعذّبه الله أربع مئة سنة كمُلكه، ثم أماته الله ، وهو الذي كان بنى صَرْحا إلى السماء، وهو الذي قال الله: ( فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) . وأما قوله ( فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ) فإن معناه: هدم الله بنيانهم من أصله ، والقواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس ، وكان بعضهم يقول: هذا مثَل للاستئصال ، وإنما معناه: إن الله استأصلهم ، وقال: العرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء. وقوله ( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: فخرّ عليهم السقف من فوقهم: أعالي بيوتهم من فوقهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ) إي والله ، لأتاها أمر الله من أصلها ( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) والسقف: أعالي البيوت، فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم ( وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) قال: أتى الله بنيانهم من أصوله، فخرّ عليهم السقف. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ) قال: مكر نمرود بن كنعان الذي حاجّ إبراهيم في ربه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقال آخرون: عنى بقوله ( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) أن العذاب أتاهم من السماء. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ) يقول: عذاب من السماء لمَّا رأوه استسلموا وذلوا. وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك: تساقطت عليهم سقوف بيوتهم، إذ أتى أصولها وقواعدها أمر الله، فائتفكت بهم منازلهم لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان ، وخرّ السقف، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وُجِد إليه سبيل ( وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) يقول تعالى ذكره: وأتى هؤلاء الذين مكروا من قَبْل مشركي قريش، عذاب الله من حيث لا يدرون أنه أتاهم منه. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 27 ) يقول تعالى ذكره: فعل الله بهؤلاء الذين مكروا الذين وصف الله جلّ ثناؤه أمرهم ما فعل بهم في الدنيا ، من تعجيل العذاب لهم ، والانتقام بكفرهم ، وجحودهم وحدانيته، ثم هو مع ذلك يوم القيامة مخزيهم ، فمذلهم بعذاب أليم ، وقائل لهم عند ورودهم عليه ( أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ) أصله: من شاققت فلانا فهو يشاقُّني، وذلك إذا فعل كلّ واحد منهما بصاحبه ما يشقّ عليه . يقول تعالى ذكره يوم القيامة تقريعا للمشركين بعبادتهم الأصنام: أين شركائي؟ يقول: أين الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شركائي اليوم ، ما لهم لا يحضرونكم ، فيدفعوا عنكم ما أنا مُحلّ بكم من العذاب ، فقد كنتم تعبدونهم في الدنيا ، وتتولونهم ، والوليّ ينصر وليه ، وكانت مشاقتهم الله في أوثانهم مخالفتهم إياه في عبادتهم. كما حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ) يقول: تخالفوني. وقوله ( إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ) يعني: الذلة والهوان والسوء ، يعني: عذاب الله على الكافرين. القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 28 ) يقول تعالى ذكره: قال الذين أوتوا العلم: إن الخزي اليوم والسوء على من كفر بالله فجحد وحدانيته ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ) يقول: الذين تقبض أرواحهم الملائكة، ( ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) يعني: وهم على كفرهم وشركهم بالله ، وقيل: إنه عنى بذلك من قتل من قريش ببدر ، وقد أخرج إليها كرها. حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: ثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة، قال: كان ناس بمكة أقرّوا بالإسلام ولم يهاجروا، فأخرج بهم كرها إلى بدر، فقتل بعضهم، فأنـزل الله فيهم ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) وقوله ( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ) يقول: فاستسلموا لأمره، وانقادوا له حين عاينوا الموت قد نـزل بهم ، ( مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) وفي الكلام محذوف استغني بفهم سامعيه ما دلّ عليه الكلام عن ذكره وهو: قالوا ما كنا نعمل من سوء ، يخبر عنهم بذلك أنهم كذّبوا وقالوا: ما كنا نعصي الله اعتصاما منهم بالباطل رجاء أن ينجوا بذلك، فكذّبهم الله فقال: بل كنتم تعملون السوء وتصدّون عن سبيل الله ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول: إن الله ذو علم بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصيه ، وتأتون فيها ما يسخطه. القول في تأويل قوله تعالى : فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( 29 ) يقول تعالى ذكره، يقول لهؤلاء الظلمة أنفسهم حين يقولون لربهم: ما كنا نعمل من سوء: ادخلوا أبواب جهنم، يعني: طبقات جهنم ( خَالِدِينَ فِيهَا ) يعني: ماكثين فيها ( فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) يقول: فلبئس منـزل من تكبر على الله ولم يقرّ بربوبيته ، ويصدّق بوحدانيته جهنم. القول في تأويل قوله تعالى : وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ( 30 ) يقول تعالى ذكره: وقيل للفريق الآخر ، الذين هم أهل إيمان وتقوى لله ( مَاذَا أَنـزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا ) يقول: قالوا: أنـزل خيرا. وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يقول: إنما اختلف الأعراب في قوله قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ وقوله ( خَيْرًا ) والمسألة قبل الجوابين كليهما واحدة، وهي قوله ( مَاذَا أَنـزلَ رَبُّكُمْ ) لأن الكفار جحدوا التنـزيل، فقالوا حين سمعوه: أساطير الأوّلين: أي هذا الذي جئت به أساطير الأوّلين ، ولم ينـزل الله منه شيئا ، وأما المؤمنون فصدَّقوا التنـزيل، فقالوا خيرا ، بمعنى أنه أنـزل خيرا، فانتصب بوقوع الفعل من الله على الخير، فلهذا افترقا ثم ابتدأ الخبر فقال ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) وقد بيَّنا القول في ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. وقوله ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) يقول تعالى ذكره: للذين آمنوا بالله في هذه الدنيا ورسوله ، وأطاعوه فيها ، ودعوا عباد الله إلى الإيمان والعمل بما أمر الله به ،حسنة ، يقول: كرامة من الله ( وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ ) يقول: ولدار الآخرة خير لَهُمْ مِنْ دَارِ الدُّنْيا، وكرامة الله التي أعدّها لهم فيها أعظم من كرامته التي عجلها لهم في الدنيا ( وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ) يقول: ولنعم دار الذين خافوا الله في الدنيا فاتقوا عقابه بأداء فرائضه وتجنب معاصيه دار الآخرة. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنـزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) وهؤلاء مؤمنون، فيقال لهم ( مَاذَا أَنـزلَ رَبُّكُمْ ) فيقولون ( خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) : أي آمنوا بالله وأمروا بطاعة الله، وحثوا أهل طاعة الله على الخير ودعوهم إليه. القول في تأويل قوله تعالى : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ( 31 ) يعني تعالى ذكره بقوله ( جَنَّاتُ عَدْنٍ ) بساتين للمقام، وقد بيَّنا اختلاف أهل التأويل في معنى عدن فيما مضى بما أغنى عن إعادته ( يَدْخُلُونَها ) يقول: يدخلون جنات عدن ، وفي رفع جنات أوجه ثلاث: أحدها: أن يكون مرفوعا على الابتداء، والآخر: بالعائد من الذكر في قوله ( يَدْخُلُونَها ) والثالث: على أن يكون خبر النعم، فيكون المعنى إذا جعلت خبر النعم: ولنعم دار المتقين جنات عدن، ويكون ( يَدْخُلُونَها ) في موضع حال، كما يقال: نعم الدار دار تسكنها أنت ، وقد يجوز أن يكون إذا كان الكلام بهذا التأويل يدخلونها ، من صلة جنات عدن ، وقوله ( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ) يقول: تجري من تحت أشجارها الأنهار ( لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ) يقول: للذين أحسنوا في هذه الدنيا في جنات عدن ما يشاءون مما تشتهي أنفسهم ، وتلذّ أعينهم ( كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ) يقول: كما يجزي الله هؤلاء الذين أحسنوا في هذه الدنيا بما وصف لكم أيها الناس أنه جزاهم به في الدنيا والآخرة، كذلك يجزي الذين اتقوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 32 ) يقول تعالى ذكره: كذلك يجزي الله المتقين الذين تَقْبِض أرواحَهم ملائكةُ الله، وهم طيبون بتطييب الله إياهم بنظافة الإيمان، وطهر الإسلام في حال حياتهم وحال مماتهم. كما حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) قال: أحياء وأمواتا، قدر الله ذلك لهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقوله ( يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ) يعني جلّ ثناؤه أن الملائكة تقبض أرواح هؤلاء المتقين، وهي تقول لهم: سلام عليكم صيروا إلى الجنة بشارة من الله تبشرهم بها الملائكة. كما حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: أخبرني أبو صخر، أنه سمع محمد بن كعب القُرَظيّ يقول: إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك فقال: السلام عليك وليّ الله، الله يقرأ عليك السلام ، ثم نـزع بهذه الآية ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) ... إلى آخر الآية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس، قوله فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ قال: الملائكة يأتونه بالسلام من قِبَل الله، وتخبره أنه من أصحاب اليمين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا الأشبُّ أبو عليّ، عن أبي رجاء، عن محمد بن مالك، عن البراء، قال: قوله سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ قال: يسلم عليه عند الموت. وقوله ( بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) يقول: بما كنتم تصيبون في الدنيا أيام حياتكم فيها طاعة الله ، طلب مرضاته. القول في تأويل قوله تعالى : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 33 ) يقول تعالى ذكره: هل ينتظر هؤلاء المشركون إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم، أو يأتي أمر ربك بحشرهم لموقف القيامة ( كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يقول جلّ ثناؤه: كما يفعل هؤلاء من انتظارهم ملائكة الله لقبض أرواحهم ، أو إتيان أمر الله فعل أسلافهم من الكفرة بالله ، لأن ذلك في كلّ مشرك بالله ( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ ) يقول جلّ ثناؤه: وما ظلمهم الله بإحلال سُخْطه، ( وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) بمعصيتهم ربهم وكفرهم به، حتى استحقوا عقابه، فعجَّل لهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) قال: بالموت، وقال في آية أخرى وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ وهو ملك الموت ، وله رسل، قال الله تعالى ( أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) ذاكم يوم القيامة. حدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) يقول: عند الموت حين تتوفاهم، أو يأتي أمر ربك ذلك يوم القيامة. القول في تأويل قوله تعالى : فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 34 ) يقول تعالى ذكره: فأصاب هؤلاء الذين فعلوا من الأمم الماضية فعل هؤلاء المشركين من قريش سيئات ما عملوا ، يعني عقوبات ذنوبهم ، ونقم معاصيه التي اكتسبوها ( وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) يقول: وحلّ بهم من عذاب الله ما كانوا يستهزئون منه ، ويسخرون عند إنذارهم ذلك رسلُ الله، ونـزل ذلك بهم دون غيرهم من أهل الإيمان بالله. القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 35 ) يقول تعالى ذكره: وقال الذين أشركوا بالله فعبدوا الأوثان والأصنام من دون الله: ما نعبد هذه الأصنام إلا لأن الله قد رضي عبادتنا هؤلاء، ولا نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب ، إلا أن الله شاء منا ومن آبائنا تحريمناها ورضيه، لولا ذلك لقد غير ذلك ببعض عقوباته أو بهدايته إيانا إلى غيره من الأفعال. يقول تعالى ذكره: كذلك فعل الذين من قبلهم من الأمم المشركة الذين استَن هؤلاء سنتهم، فقالوا مثل قولهم، سلكوا سبيلهم في تكذيب رسل الله ، واتباع أفعال آبائهم الضلال ، وقوله ( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يقول جلّ ثناؤه: فهل أيها القائلون: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ، على رسلنا الذين نرسلهم بإنذاركم عقوبتنا على كفركم، إلا البلاغ المبين: يقول: إلا أن تبلغكم ما أرسلنا إليكم من الرسالة. ويعني بقوله ( المُبِينُ ) : الذي يبين عن معناه لمن أبلغه، ويفهمه من أرسل إليه. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 36 ) يقول تعالى ذكره: ولقد بعثنا أيها الناس في كلّ أمة سلفت قبلكم رسولا كما بعثنا فيكم بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له ، وأفردوا له الطاعة ، وأخلصوا له العبادة ( وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) يقول: وابعدوا من الشيطان، واحذروا أن يغويكم ، ويصدكم عن سبيل الله ، فتضلوا ، ( فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ ) يقول: فممن بعثنا فيهم رسلنا من هدى الله، فوفَّقه لتصديق رسله ، والقبول منها ، والإيمان بالله ، والعمل بطاعته، ففاز وأفلح ، ونجا من عذاب الله ( وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) يقول: وممن بعثنا رسلنا إليه من الأمم آخرون حقَّت عليهم الضلالة، فجاروا عن قصد السبيل، فكفروا بالله وكذّبوا رسله ، واتبعوا الطاغوت، فأهلكهم الله بعقابه ، وأنـزل عليهم بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين ، ( فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) يقول تعالى ذكره لمشركي قريش: إن كنتم أيها الناس غير مصدّقي رسولنا فيما يخبركم به عن هؤلاء الأمم الذين حلّ بهم ما حلّ من بأسنا بكفرهم بالله ، وتكذيبهم رسوله، فسيروا في الأرض التي كانوا يسكنونها ، والبلاد التي كانوا يعمرونها ، فانظروا إلى آثار الله فيهم ، وآثار سخطه النازل بهم، كيف أعقبهم تكذيبهم رسل الله ما أعقبهم ، فإنكم ترون حقيقة ذلك ، وتعلمون به صحة الخبر الذي يخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله تعالى : إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( 37 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء المشركين إلى الإيمان بالله واتباع الحق ( فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامَّة قرّاء الكوفيين ( فإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يَضِلُّ ) بفتح الياء من يهدي، وضمها من يضلّ ، وقد اختلف في معنى ذلك قارِئوه كذلك، فكان بعض نحويي الكوفة يزعم أن معناه: فإن الله من أضله لا يهتدي، وقال: العرب تقول: قد هدى الرجل: يريدون قد اهتدى، وهدى واهتدى بمعنى واحد ، وكان آخرون منهم يزعمون أن معناه: فإن الله لا يهدي من أضله، بمعنى: أن من أضله الله فإن الله لا يهديه. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء المدينة والشام والبصرة ( فإنَّ اللَّهَ لا يُهْدَى ) بضم الياء من يُهدى ومن يضل ، وفتح الدال من يُهدَى بمعنى: من أضله الله فلا هادي له. وهذه القراءة أولى القراءتين عندي بالصواب، لأن يهدي بمعنى يهتدي قليل في كلام العرب غير مستفيض، وأنه لا فائدة في قول قائل: من أضله الله فلا يهديه، لأن ذلك مما لا يجهله أحد ، وإذ كان ذلك كذلك، فالقراءة بما كان مستفيضا في كلام العرب من اللغة بما فيه الفائدة العظيمة أولى وأحرى. فتأويل الكلام لو كان الأمر على ما وصفنا: إن تحرص يا محمد على هداهم، فإن من أضله الله فلا هادي له ، فلا تجهد نفسك في أمره ، وبلغه ما أرسلت به لتتم عليه الحجة ( وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ) يقول: وما لهم من ناصر ينصرهم من الله إذا أراد عقوبتهم، فيحول بين الله وبين ما أراد من عقوبتهم. وفي قوله ( إِنْ تَحْرِصْ ) لغتان: فمن العرب من يقول: حرَص، يحرَص بفتح الراء في فعَل وكسرها في يفعل ، وحرِص يحرَص بكسر الراء في فعِل وفتحها في يفعَل ، والقراءة على الفتح في الماضي ، والكسر في المستقبل، وهي لغة أهل الحجاز. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( 38 ) يقول تعالى ذكره: وحلف هؤلاء المشركون من قريش بالله جَهْد أيمانِهِمْ حلفهم، لا يبعث الله من يموت بعد مماته، وكذبوا وأبطلوا في أيمانهم التي حلفوا بها كذلك، بل سيبعثه الله بعد مماته، وعدا عليه أن يبعثهم وعد عباده، والله لا يخلف الميعاد ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) يقول: ولكن أكثر قريش لا يعلمون وعد الله عباده ، أنه باعثهم يوم القيامة بعد مماتهم أحياء. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ) تكذيبا بأمر الله أو بأمرنا، فإن الناس صاروا في البعث فريقين: مكذّب ومصدّق ، ذُكر لنا أن رجلا قال لابن عباس: إن ناسا بهذا العراق يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، ويتأوّلون هذه الآية ، فقال ابن عباس: كذب أولئك، إنما هذه الآية للناس عامَّة، ولعمري لو كان عليّ مبعوثا قبل يوم القيامة ما أنكحنا نساءه ، ولا قسمنا ميراثه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قال ابن عباس: إن رجالا يقولون: إن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، ويتأوّلون ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) قال: لو كنا نعلم أن عليا مبعوث، ما تزوّجنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، ولكن هذه للناس عامة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع، في قوله ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ) قال: حلف رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عند رجل من المكذّبين، فقال: والذي يرسل الروح من بعد الموت ، فقال: وإنك لتزعم أنك مبعوث من بعد الموت ، وأقسم بالله جهد يمينه: لا يبعث الله من يموت. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين، فأتاه يتقاضاه، فكان فيما تكلم به: والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا ، فقال المشرك: إنك تزعم أنك تُبعث بعد الموت ، فأقسم بالله جهد يمينه: لا يبعث الله من يموت ، فأنـزل الله ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) . حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن عطاء بن أبي رباح أنه أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: « قال الله: سبني ابن آدم، ولم يكن ينبغي له أن يسبني، وكذّبني ولم يكن ينبغي له أن يكذّبني فأما تكذيبه إياي ، فقال ( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ) قال: قلت ( بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا ) وأما سبه إياي ، فقال: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وقلت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . » القول في تأويل قوله تعالى : لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ( 39 ) يقول تعالى ذكره: بل ليبعثن الله من يموت وعدا عليه حقا، ليبين لهؤلاء الذين يزعمون أن الله لا يبعث من يموت ، ولغيرهم الذين يختلفون فيه من إحياء الله خلقه بعد فنائهم، وليعلم الذين جحدوا صحة ذلك ، وأنكروا حقيقته أنهم كانوا كاذبين في قيلهم: لا يبعث الله من يموت. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) قال: للناس عامَّة. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 40 ) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( 41 ) يقول تعالى ذكره: إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائناهم، ولا في غير ذلك ما نخلق ونكوّن ونحدث ، لأنا إذا أردنا خلقه وإنشاءه ، فإنما نقول له كن فيكون، لا معاناة فيه ، ولا كُلفة علينا. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: يكون ، فقرأه أكثر قرّاء الحجاز والعراق على الابتداء، وعلى أن قوله ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ ) كلام تامّ مكتف بنفسه عما بعده، ثم يبتدأ فيقال: فيكون، كما قال الشاعر: يُريدُ أنْ يُعْرِبَهُ فيعجِمُهْ وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الشام وبعض المتأخرين من قرّاء الكوفيين ( فَيَكُونَ ) نصبا، عطفا على قوله ( أَنْ نَقُولَ لَهُ ) وكأن معنى الكلام على مذهبهم: ما قولنا لشيء إذا أردناه إلا أن نقول له: كن، فيكون. وقد حُكي عن العرب سماعا: أريد أن آتيك فيمنعني المطر، عطفا بيمنعني على آتيك . وقوله ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) يقول تعالى ذكره: والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم ( مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) يقول: من بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله ( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) يقول: لنسكننهم في الدنيا مسكنا يرضونه صالحا. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ) قال: هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة، فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين. حُدثت عن القاسم بن سلام، قال: ثنا هشيم، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي ( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) قال: المدينة. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) قال: هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة بعد ظلمهم، وظلمهم المشركون. وقال آخرون: عنى بقوله ( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) لنرزقهم في الدنيا رزقا حسنا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ) لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا هشيم، عن العوّام، عمن حدثه أن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ذخره لك في الآخرة أفضل. ثم تلا هذه الآية ( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ( لَنُبَوِّئَنَّهُم ) : لنحلنهم ولنسكننهم، لأن التبوء في كلام العرب الحلول بالمكان والنـزول به ، ومنه قول الله تعالى وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وقيل: إن هذه الآية نـزلت في أبي جندل بن سهيل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن داود بن أبي هند، قال: نـزلت ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ) ... إلى قوله وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ في أبي جندل بن سهيل. وقوله ( وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) يقول: ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الآخرة أكبر، لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: قال الله ( وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ ) أي والله لما يثيبهم الله عليه من جنته أكبر ( لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) . القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 42 ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفنا صفتهم، وآتيناهم الثواب الذي ذكرناه، الذين صيروا في الله على ما نابهم في الدنيا ( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) يقول: وبالله يثقون في أمورهم، و إليه يستندون في نوائب الأمور التي تنوبهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 43 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلى أمة من الأمم، للدعاء إلى توحيدنا ، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، إلا رجالا من بني آدم نوحي إليهم وحينا لا ملائكة، يقول: فلم نرسل إلى قومك إلا مثل الذي كنا نرسل إلى من قَبلهم من الأمم من جنسهم وعلى منهاجهم ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) يقول لمشركي قريش: وإن كنتم لا تعلمون أن الذين كنا نرسل إلى من قبلكم من الأمم رجال من بني آدم مثل محمد صلى الله عليه وسلم وقلتم: هم ملائكة: أي ظننتم أن الله كلمهم قبلا فاسألوا أهل الذكر ، وهم الذين قد قرءوا الكتب من قبلهم: التوراة والإنجيل، وغير ذلك من كتب الله التي أنـزلها على عباده. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) قال: أهل التوراة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا المحاربي، عن سفيان، قال: سألت الأعمش، عن قوله ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) قال: سمعنا أنه من أسلم من أهل التوراة والإنجيل.حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: هم أهل الكتاب. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: قال لمشركي قريش: إن محمدا في التوراة والإنجيل. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثمان بن سعيد، قال: ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: لما بعث الله محمدا رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، قال: فأنـزل الله أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ فاسألوا أهل الذكر: يعني أهل الكتب الماضية، أبشرا كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم ، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد رسولا قال: ثم قال وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم. وقال آخرون في ذلك ما حدثنا به ابن وكيع، قال: ثنا ابن يمان، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: نحن أهل الذكر. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) قال: الذكر: القرآن ، وقرأ إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وقرأ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ ... الآية. القول في تأويل قوله تعالى : بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( 44 ) يقول تعالى ذكره: أرسلنا بالبينات والزُّبُر رجالا نوحي إليهم. فإن قال قائل: وكيف قيل بالبينات والزُّبُر ، وما الجالب لهذه الباء في قوله ( بِالْبَيِّنَاتِ ) فإن قلت: جالبها قوله ( أرْسَلْنَا ) وهي من صلته، فهل يجوز أن تكون صلة « ما » قبل « إلا » بعدها؟ وإن قلت: جالبها غير ذلك، فما هو؟ وأين الفعل الذي جلبها ، قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعضهم: الباء التي في قوله ( بالبَيِّنَاتِ ) من صلة أرسلنا، وقال: إلا في هذا الموضع، ومع الجحد والاستفهام في كلّ موضع بمعنى غير ، وقال: معنى الكلام: وما أرسلنا من قبلكم بالبينات والزبر غير رجال نوحي إليهم، ويقول على ذلك: ما ضرب إلا أخوك زيدا، وهل كلم إلا أخوك عمرا، بمعنى: ما ضرب زيدا غير أخيك، وهل كلم عمرا إلا أخوك؟ ويحتجّ في ذلك بقول أوْس بن حَجَر: أبَنِـــي لُبَيْنَـــي لَسْــتُمَ بِيَــدٍ إلا يَـــدٍ لَيْسَــتْ لَهَــا عَضُــدُ ويقول: لو كانت « إلا » بغير معنى لفسد الكلام، لأن الذي خفض الباء قبل إلا لا يقدر على إعادته بعد إلا لخفض اليد الثانية، ولكن معنى إلا معنى غير ، ويستشهد أيضا بقول الله عزّ وجلّ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ ويقول: إلا بمعنى غير في هذا الموضع ، وكان غيره يقول: إنما هذا على كلامين، يريد: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا أرسلنا بالبينات والزبر ، قال: وكذلك قول القائل: ما ضرب إلا أخوك زيدا معناه: ما ضرب إلا أخوك ، ثم يبتدئ ضرب زيدا، وكذلك ما مَرَّ إلا أخوك بزيد ما مرّ إلا أخوك، ثم يقول: مرّ بزيد ، ويستشهد على ذلك ببيت الأعشى: ولَيْسَ مُجِـيرًا إنْ أتَـى الحَـيَّ خائِفٌ وَلا قـــائِلا إلا هُـــوَ المُتَعَيَّبــا ويقول: لو كان ذلك على كلمة لكان خطأ، لأن المُتَعَيَّبا من صلة القائل، ولكن جاز ذلك على كلامين وكذلك قول الآخر : نُبِّئْــتُهُمْ عَذَّبُــوا بالنَّــارِ جـارَهُمُ وَهَــلْ يُعَــذِّبُ إلا اللَّــهُ بالنَّـارِ فتأويل الكلام إذن: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ أرسلناهم بالبينات والزبر، وأنـزلنا إليك الذكر. والبينات: هي الأدلة والحجج التي أعطاها الله رسله أدلة على نبوّتهم شاهدة لهم على حقيقة ما أتوا به إليهم من عند الله. والزُّبُر: هي الكتب، وهي جمع زَبُور، من زَبَرْت الكتاب وذَبَرته: إذا كتبته. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) قال: الزبر: الكتب. حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) قال: الآيات. والزبر: الكتب. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الزُّبُر: الكتب. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( بالزُّبُر ) يعني: بالكتب. وقوله ( وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) يقول: وأنـزلنا إليك يا محمد هذا القرآن تذكيرا للناس وعظة لهم ، ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) يقول: لتعرفهم ما أنـزل إليهم من ذلك ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول: وليتذكروا فيه ويعتبروا به أي بما أنـزلنا إليك ، وقد حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرزاق، قال: ثنا الثوري، قال: قال مجاهد ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) قال: يطيعون. القول في تأويل قوله تعالى : أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ( 45 ) يقول تعالى ذكره: أفأمن الذين ظلموا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فراموا أن يفتنوهم عن دينهم من مشركي قريش الذين قالوا: إذ قيل لهم: ماذا أنـزل ربكم: أساطير الأوّلين، صدّا منهم لمن أراد الإيمان بالله عن قصد السبيل، أن يخسف الله بهم الأرض على كفرهم وشركهم، أو يأتيهم عذاب الله من مكان لا يشعر به ، ولا يدري من أين يأتيه ، وكان مجاهد يقول: عنى بذلك نمرود بن كنعان. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ ) ... إلى قوله أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ قال: هو نمرود بن كنعان وقومه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وإنما اخترنا القول الذي قلناه في تأويل ذلك، لأن ذلك تهديد من الله أهل الشرك به، وهو عقيب قوله وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فكان تهديد من لم يقرّ بحجة الله الذي جرى الكلام بخطابه قبل ذلك أحرى من الخبر عمن انقطع ذكره عنه. وكان قتادة يقول في معنى السيئات في هذا الموضع، ما حدثنا به بشر بن معاذ، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ ) : أي الشرك. القول في تأويل قوله تعالى : أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 46 ) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( 47 ) يعني تعالى ذكره بقوله ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أو يهلكهم في تصرّفهم في البلاد ، وتردّدهم في أسفارهم ( فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) يقول جلّ ثناؤه: فإنهم لا يعجزون الله من ذلك إن أراد أخذهم كذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) قال: إن شئت أخذته في سفر. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) في أسفارهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، مثله. وقال ابن جريج في ذلك ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) قال: التقلب: أن يأخذهم بالليل والنهار. وأما قوله ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) فإنه يعني: أو يهلكهم بتخوّف، وذلك بنقص من أطرافهم ونواحيهم الشيء بعد الشيء حتى يهلك جميعهم، يقال منه: تخوّف مال فلان الإنفاق: إذا انتقصه، ونحو تخوّفه من التخوّف بمعنى التنقص، قول الشاعر: تَخَـوَّفَ السَّـيْرَ مِنْهـا تامِكـا قَـرِدًا كمـا تَخَـوَّفَ عُـودَ النَّبْعَـةِ السَّـفَنُ يعني بقوله تخوّف السير: تنقص سَنامها. وقد ذكرنا عن الهيثم بن عدّي أنه كان يقول: هي لغة لأزد شَنوءة معروفة لهم ، ومنه قول الآخر : تَخَــوَّفَ عَــدْوُهُمْ مـالي وأهْـدَى سَلاسِـل فـي الحُـلُوقِ لَهَـا صَلِيـلُ وكان الفرّاء يقول: العرب تقول: تحوّفته: أي تنقصته، تحوّفا: أي أخذته من حافاته وأطرافه، قال: فهذا الذي سمعته، وقد أتى التفسير بالحاء وهما بمعنى. قال: ومثله ما قرئ بوجهين قوله: إن لك في النهار سَبْحًا وسَبْخًا. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن المسعودي، عن إبراهيم بن عامر بن مسعود، عن رجل، عن عُمَر أنه سألهم عن هذه الآية ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) فقالوا: ما نرى إلا أنه عند تنقص ما يردّده من الآيات، فقال عمر: ما أرى إلا أنه على ما تنتقصون من معاصي الله ، قال: فخرج رجل من كان عند عمر، فلقي أعرابيا، فقال: يا فلان ما فعل ربك؟ قال: قد تَخَيفته، يعني تنقصته ، قال: فرجع إلى عمر فأخبره، فقال: قدّر الله ذلك. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوّف بذلك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراسانيّ، عن ابن عباس ( عَلَى تَخَوُّفٍ ) قال: التنقص، والتفزيع. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) على تنقص. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( عَلَى تَخَوُّفٍ ) قال: تنقص. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) فيعاقب أو يتجاوز. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) قال: كان يقال: التخوّف: التنقُّص، ينتقصهم من البلدان من الأطراف. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ) يعني: يأخذ العذاب طائفة ويترك أخرى، ويعذّب القرية ويهلكها، ويترك أخرى إلى جنبها. وقوله ( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) يقول: فإن ربكم أن لم يأخذ هؤلاء الذين مكروا السيئات بعذاب معجَّل لهم، وأخذهم بموت وتنقص بعضهم في أثر بعض، لرءوف بخلقه، رحيم بهم، ومن رأفته ورحمته بهم لم يخسف بهم الأرض، ولم يعجِّل لهم العذاب، ولكن يخوّفهم وينقّصهم بموت. القول في تأويل قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ( 48 ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة ( أَوَلَمْ يَرَوْا ) بالياء على الخبر عن الذين مكروا السيئات ، وقرأ ذلك بعض قراء الكوفيين « أوَلم تَرَوا » بالتاء على الخطاب. وأولى القراءتين عندي بالصواب قراءة من قرأ بالياء على وجه الخبر عن الذين مكروا السيئات ، لأن ذلك في سياق قَصَصِهم ، والخبر عنهم، ثم عقب ذلك الخبر عن ذهابهم عن حجة الله عليهم ، وتركهم النظر في أدلته والاعتبار بها ، فتأويل الكلام إذن: أو لم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات ، إلى ما خلق الله من جسم قائم ، شجر أو جبل أو غير ذلك ، يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل ، يقول: يرجع من موضع إلى موضع، فهو في أوّل النهار على حال، ثم يتقلَّص، ثم يعود إلى حال أخرى في آخر النهار. وكان جماعة من أهل التأويل يقولون في اليمين والشمائل ما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ ) أما اليمين: فأوّل النهار ، وأما الشمال: فآخر النهار. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، بنحوه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ ) قال: الغدوّ والآصال، إذا فاءت الظِّلال ، ظلال كلّ شيء بالغدوّ سجدت لله، وإذا فاءت بالعشيّ سجدت لله. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ ) يعني: بالغدو والآصال، تسجد الظلال لله غدوة إلى أن يفئ الظلّ، ثم تسجد لله إلى الليل، يعني: ظلّ كلّ شَيء. وكان ابن عباس يقوله في قوله ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) ما حدثنا المثنى، قال: أخبرنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) يقول: تتميل. واختلف في معنى قوله ( سُجَّدًا لِلَّهِ ) فقال بعضهم: ظلّ كلّ شيء سجوده. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال: ظلّ كلّ شيء سجوده. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا إسحاق الرازيّ، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال: سجد ظلّ المؤمن طوعا، وظلّ الكافر كَرْها. وقال آخرون: بل عنى بقوله ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) كلا عن اليمين والشمائل في حال سجودها، قالوا: وسجود الأشياء غير ظلالها. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد وحدثني نصر بن عبد الرحمن الأوّديّ، قالا ثنا حَكَّام، عن أبي سنان، عن ثابت عن الضحاك، في قول الله ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال: إذا فاء الفيء توجه كلّ شيء ساجدا قبل القبلة ، من نبت أو شجر، قال: فكانوا يستحبون الصلاة عند ذلك. حدثني المثنى، قال: أخبرنا الحمَّانيّ، قال: ثنا يحيى بن يمان، قال: ثنا شريك، عن منصور، عن مجاهد، في قول الله ( يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال: إذا زالت الشمس سجد كلّ شيء لله عزّ وجلّ. وقال آخرون: بل الذي وصف الله بالسجود في هذه الآية ظلال الأشياء، فإنما يسجد ظلالها دون التي لها الظلال. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) قال: هو سجود الظلال، ظلال كلّ شيء ما في السموات وما في الأرض من دابة، قال: سجود ظلال الدواب، وظلال كلّ شيء. حدثني محمد بن سعد ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ ) ما خلق من كلّ شيء عن يمينه وشمائله، فلفظ ما لفظ عن اليمين والشمائل، قال: ألم تر أنك إذا صليت الفجر ، كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا ثم بعث الله عليه الشمس دليلا وقبض الله الظلّ. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر في هذه الآية أن ظلال الأشياء هي التي تسجد، وسجودها: مَيَلانها ودورانها من جانب إلى جانب ، وناحية إلى ناحية، كما قال ابن عباس يقال من ذلك: سجدت النخلة إذا مالت، وسجد البعير وأسجد: إذا أميل للركوب. وقد بيَّنا معنى السجود في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. وقوله ( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) يعني: وهم صاغرون، يقال منه: دخر فلان لله يدخر دخرا ودخورا: إذا ذلّ له وخضع ومنه قول ذي الرُّمَّة: فَلَــمْ يَبْـقَ إلا داخِـرٌ فِـي مُخَـيَّسٍ ومُنْجَحِـرٌ فِـي غيرِ أرْضِكَ في جُحْرِ وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) صاغرون. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَهُمْ دَاخِرُونَ ) : أي صاغرون. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة مثله. وأما توحيد اليمين في قوله ( عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ ) فجمعها، فإن ذلك إنما جاء كذلك، لأن معنى الكلام: أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلال ما خلق من شيء عن يمينه: أي ما خلق، وشمائله ، فلفظ « ما » لفظ واحد، ومعناه معنى الجمع، فقال: عن اليمين بمعنى: عن يمين ما خلق، ثم رجع إلى معناه في الشمائل ، وكان بعض أهل العربية يقول: إنما تفعل العرب ذلك، لأن أكثر الكلام مواجهة الواحد الواحد، فيقال للرجل: خذ عن يمينك، قال: فكأنه إذا وحد ذهب إلى واحد من القوم، وإذا جمع فهو الذي لا مساءلة فيه، واستشهد لفعل العرب ذلك بقول الشاعر: بِفـي الشَّـامِتِينَ الصَّخْرُ إنْ كان هَدَّني رَزِيَّـةُ شِـبْلَيْ مُخْـدِرٍ فـي الضَّراغمِ فقال: بِفي الشامتين، ولم يقل: بأفواه ، وقول الآخر: الــوَارِدُونَ وتَيْــمٌ فــي ذَرَا سَـبإ قـد عَـضَّ أعْنـاقَهُمْ جِـلْدُ الجَوَامِيسِ ولم يقل: جلود. القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ( 49 ) يقول تعالى ذكره: ولله يخضع ويستسلم لأمره ما في السموات وما في الأرض من دابَّة يدبّ عليها، والملائكة التي في السموات، وهم لا يستكبرون عن التذلل له بالطاعة فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وظلالهم تتفيأ عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: اجتزئ بذكر الواحد من الدوابّ عن ذكر الجميع. وإنما معنى الكلام: ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من الدوابّ والملائكة، كما يقال: ما أتاني من رجل، بمعنى: ما أتاني من الرجال. وكان بعض نحويِّي الكوفة يقول: إنما قيل: من دابة، لأن « ما » وإن كانت قد تكون على مذهب الذي، فإنها غير مؤقتة، فإذا أبهمت غير مؤقتة أشبهت الجزاء، والجزاء يدخل من فيما جاء من اسم بعده من النكرة، فيقال: من ضربه من رجل فاضربوه، ولا تسقط « من » من هذا الموضع كراهية أن تشبه أن تكون حالا لمن و ما ، فجعلوه بمن ليدلّ على أنه تفسير لما ومن لأنهما غير مؤقتتين، فكان دخول من فيما بعدهما تفسيرا لمعناهما، وكان دخول من أدلّ على ما لم يوقت من من وما، فلذلك لم تلغيا. القول في تأويل قوله تعالى : يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( 50 ) يقول تعالى ذكره: يخاف هؤلاء الملائكة التي في السموات ، وما في الأرض من دابة، ربهم من فوقهم، أن يعذّبهم إن عَصَوا أمره ،ويفعلون ما يؤمرون ، يقول: ويفعلون ما أمرهم الله به، فيؤدّون حقوقه ، ويجتنبون سُخْطه. القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( 51 ) يقول تعالى ذكره: وقال الله لعباده: لا تتخذوا لي شريكا أيها الناس، ولا تعبدوا معبودين، فإنكم إذا عبدتم معي غيري جعلتم لي شريكا، ولا شريك لي، إنما هو إله واحد ومعبود واحد، وأنا ذلك ، ( فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) يقول: فإياي فاتقوا وخافوا عقابي بمعصيتكم إياي إن عصيتموني وعبدتم غيري، أو أشركتم في عبادتكم لي شريكا. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ( 52 ) يقول تعالى ذكره: ولله ملك ما في السموات والأرض من شيء، لا شريك له في شيء من ذلك، هو الذي خلقهم، وهو الذي يرزقهم، وبيده حياتهم وموتهم. وقوله ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) يقول جلّ ثناؤه: وله الطاعة والإخلاص دائما ثابتا واجبا، يقال منه: وَصَبَ الدِّينُ يَصِبُ وُصُوبا ووَصْبا كما قال الدِّيلِيّ: لا أبْتَغِــي الحَــمْدَ القَلِيــلَ بَقـاؤُهُ يَوْمــا بِـذَمّ الدَّهْـرِ أجـمَعَ وَاصِبـا ومنه قول الله وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ، وقول حسان: غَيَّرَتْـــهُ الــرِّيحُ تَسْــفِي بِــهِ وهَـــزِيمٌ رَعْـــدُهُ وَاصِـــبٌ فأما من الألم، فإنما يقال: وصب الرجل يوصب وصبا، وذلك إذا أعيا وملّ ، ومنه قول الشاعر: لا يغْمِـزُ السَّـاقَ مِـنْ أيْنِ ولا وَصَبٍ ولا يعَـضُّ عـلى شُرْسُـوفِهِ الصَّفَـرُ وقد اختلف أهل التأويل في تأويل الواصب، فقال بعضهم: معناه، ما قلنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن الأغرّ بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن أبي نضرة، عن ابن عباس ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما. حدثني إسماعيل بن موسى، قال: أخبرنا شريك، عن أبي حصين، عن عكرمة، في قوله ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن يعلى بن النعمان، عن عكرمة، قال: دائما. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما. حدثنا القاسم قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة وأبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما. حدثني المثنى، قال: أخبرنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) : أي دائما، فإن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا من خلقه إلا عبده طائعا أو كارها. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَاصِبًا ) قال: دائما، ألا ترى أنه يقول عَذَابٌ وَاصِبٌ أي دائم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: دائما، والواصب: الدائم. وقال آخرون: الواصب في هذا الموضع: الواجب. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن قيس، عن يَعَلَى بن النعمان، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: واجبا. وكان مجاهد يقول: معنى الدين في هذا الموضع: الإخلاص. وقد ذكرنا معنى الدين في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ) قال: الإخلاص. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: الدين: الإخلاص. وقوله ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ) يقول تعالى ذكره: أفغير الله أيها الناس تتقون، أي ترهبون وتحذرون أن يسلبكم نعمة الله عليكم بإخلاصكم العبادة لربكم، وإفرادكم الطاعة له، وما لكم نافع سواه. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ( 53 ) اختلف أهل العربية في وجه دخول الفاء في قوله ( فَمِنَ اللَّهِ ) فقال بعض البصريين: دخلت الفاء، لأن « ما » بمنـزلة « من » فجعل الخبر بالفاء. وقال بعض الكوفيين: « ما » في معنى جزاء، ولها فعل مضمر، كأنك قلت: ما يكن بكم من نعمة فمن الله، لأن الجزاء لا بدّ له من فعل مجزوم، إن ظهر فهو جزم، وإن لم يظهر فهو مضمر ، كما قال الشاعر: إنِ العَقْـلُ فـي أموَالِنـا لا نَضِـقْ بِهِ ذِرَاعًـا وَإنْ صَـبْرًا فنَعْـرِفُ للصَّبْرِ وقال: أراد: إن يكن العقل فأضمره. قال: وإن جعلت « ما بكم » في معنى الذي جاز ، وجعلت صلته بكم و « ما » في موضع رفع بقوله ( فَمِنَ اللَّهِ ) وأدخل الفاء ، كما قال إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ وكل اسم وصل مثل من و ما و الذي، فقد يجوز دخول الفاء في خبره لأنه مضارع للجزاء والجزاء قد يجاب بالفاء، ولا يجوز أخوك فهو قائم، لأنه اسم غير موصول، وكذلك تقول: مالك لي، فإن قلت: مالك، جاز أن تقول: مالك فهو لي، وإن ألقيت الفاء فصواب. وتأويل الكلام: ما يكن بكم في أبدانكم أيها الناس من عافية وصحة وسلامة ، وفي أموالكم من نماء، فالله المنعم عليكم بذلك لا غيره، لأن ذلك إليه وبيده ( ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ ) يقول: إذا أصابكم في أبدانكم سَقَم ومرض ، وعلة عارضة ، وشدّة من عيش ( فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) يقول: فإلى الله تصرخون بالدعاء وتستغيثون به، ليكشف ذلك عنكم ، وأصله: من جؤار الثور، يقال منه: جأر الثور يجأر جؤارا، وذلك إذا رفع صوتا شديدا من جوع أو غيره ، ومنه قول الأعشى: وَمـــا أيْبُـــلِيٌّ عَــلى هَيْكَــلِ بَنــاهُ وَصَلَّــبَ فِيــهِ وصَــارَا يُــرَاوِحُ مِــنْ صَلَــوَاتٍ المَـلِيـ كِ طَـوْرًا سُـجُودًا وَطَـوْرًا جُـؤْارًا يعني بالجؤار: الصياح، إما بالدعاء ، وإما بالقراءة. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) قال: تضرعون دعاء. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: الضُّرُّ: السُّقْم. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ( 54 ) يقول تعالى ذكره: ثم إذا وهب لكم ربكم العافية، ورفع عنكم ما أصابكم من المرض في أبدانكم ، ومن الشدة في معاشكم، وفرّج البلاء عنكم ( إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) يقول : إذا جماعة منكم يجعلون لله شريكا في عبادتهم، فيعبدون الأوثان ، ويذبحون لها الذبائح شكرا لغير من أنعم عليهم بالفرج مما كانوا فيه من الضرِّ . القول في تأويل قوله تعالى : لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 55 ) ( لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ ) يقول: ليجحدوا الله نعمته فيما آتاهم من كشف الضرّ عنهم ( فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ، وهذا من الله وعيد لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآيات ، وتهديد لهم، يقول لهم جلّ ثناؤه: تمتعوا في هذه الحياة الدنيا إلى أن توافيكم آجالكم، وتبلغوا الميقات الذي وقته لحياتكم وتمتعكم فيها، فإنكم من ذلك ستصيرون إلى ربكم، فتعلمون بلقائه وبال ما كسبت أيديكم، وتعرفون سوء مغبة أمركم، وتندمون حين لا ينفعكم الندم. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ( 56 ) يقول تعالى ذكره: ويجعل هؤلاء المشركون من عَبَدة الأوثان، لما لا يعلمون منه ضرا ولا نفعا نصيبا. يقول: حظا وجزاء مما رزقناهم من الأموال، إشراكا منهم له الذي يعلمون أنه خلقهم، وهو الذي ينفعهم ويضرّهم دون غيره. كالذي حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ) قال: يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرّهم ولا ينفعهم نصيبا مما رزقناهم. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ) وهم مشركو العرب، جعلوا لأوثانهم نصيبا مما رزقناهم، وجزءا من أموالهم يجعلونه لأوثانهم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ) قال: جعلوا لآلهتهم التي ليس لها نصيب ولا شيء، جعلوا لها نصيبا مما قال الله من الحرث والأنعام، يسمون عليها أسماءها ويذبحون لها. وقوله ( تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُون ) يقول تعالى ذكره: والله أيها المشركون الجاعلون الآلهة والأنداد نصيبا فيما رزقناكم شركا بالله وكفرا، ليسألنكم الله يوم القيامة عما كنتم في الدنيا تفترون، يعني: تختلقون من الباطل والإفك على الله بدعواكم له شريكا، وتصييركم لأوثانكم فيما رزقكم نصيبا، ثم ليعاقبنكم عقوبة تكون جزاء لكفرانكم نعمه وافترائكم عليه. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ( 57 ) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ( 58 ) يقول تعالى ذكره: ومن جهل هؤلاء المشركين وخبث فعلهم ، وقبح فِرْيتهم على ربهم، أنهم يجعلون لمن خلقهم ودبَّرهم وأنعم عليهم، فاستوجب بنعمه عليهم الشكر، واستحق عليهم الحمد : البنات ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر ولا أنثى سبحانه، نـزه جلّ جلاله بذلك نفسه عما أضافوا إليه ونسبوه من البنات، فلم يرضوا بجهلهم إذ أضافوا إليه ما لا ينبغي إضافته إليه ، ولا ينبغي أن يكون له من الولد أن يضيفوا إليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها، ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها إذا كانت لهم ، وفي « مَا » التي في قوله ( وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ) وجهان من العربية: النصب عطفا لها على البنات، فيكون معنى الكلام إذا أريد ذلك: ويجعلون لله البنات ولهم البنين الذين يشتهون، فتكون « ما » للبنين، والرفع على أن الكلام مبتدأ من قوله ( وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ) فيكون معنى الكلام: ويجعلون لله البنات ولهم البنون. وقوله ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا ) يقول: وإذا بشر أحد هؤلاء الذين جعلوا لله البنات بولادة ما يضيفه إليه من ذلك له، ظلّ وجهه مسودًا من كراهته له ( وَهُوَ كَظِيمٌ ) يقول قد كَظَم الحزنَ، وامتلأ غما بولادته له، فهو لا يظهر ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ) ، ثم قال ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) ... إلى آخر الآية، يقول: يجعلون لله البنات ترضونهنّ لي ، ولا ترضونهن لأنفسكم ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا وُلد للرجل منهم جارية أمسكها على هون، أو دسها في التراب وهي حية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) وهذا صنيع مشركي العرب، أخبرهم الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه، ولعمري ما يدري أنه خير، لرُبّ جارية خير لأهلها من غلام. وإنما أخبركم الله بصنيعهم لتجتنبوه وتنتهوا عنه، وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس ( وَهُوَ كَظِيمٌ ) قال: حزين. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله ( وَهُوَ كَظِيمٌ ) قال: الكظيم: الكميد. وقد بيَّنا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى : يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 59 ) يقول تعالى ذكره: يتوارى هذا المبشر بولادة الأنثى من الولد له من القوم، فيغيب عن أبصارهم ( مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ) يعني: من مساءته إياه مميلا بين أن يمسكه على هون: أي على هوان، وكذلك ذلك في لغة قريش فيما ذكر لي، يقولون للهوان: الهون ؛ ومنه قول الحطيئة: فلمَّـا خَشِـيتُ الهُـونَ والعَـيْرُ مُمْسِكٌ عـلى رَغْمِـهِ مـا أثبتَ الحبلَ حافِرُه وبعض بني تميم جعل الهون مصدرا للشيء الهين ، ذكر الكسائي أنه سمعهم يقولون: إن كنت لقليل هون المؤنة منذ اليوم قال: وسمعت: الهوان في مثل هذا المعنى، سمعت منهم قائلا يقول لبعير له: ما به بأس غير هوانه، يعني خفيف الثمن، فإذا قالوا: هو يمشي على هونه، لم يقولوه إلا بفتح الهاء، كما قال تعالى وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا . ( أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ) يقول: يدفنه حيا في التراب فيئده. كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج ( أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ) يئد ابنته. وقوله ( أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) يقول: ألا ساء الحكم الذي يحكم هؤلاء المشركون ، وذلك أن جعلوا لله ما لا يرضون لأنفسهم، وجعلوا لما لا ينفعهم ولا يضرهم شركا فيما رزقهم الله، وعبدوا غير من خلقهم وأنعم عليهم. القول في تأويل قوله تعالى : لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 60 ) وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه أن قوله وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ، والآية التي بعدها مثل ضربه الله لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله البنات، فبين بقوله ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ) أنه مثل، وعنى بقوله جلّ ثناؤه ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) للذين لا يصدّقون بالمعاد والثواب والعقاب من المشركين ( مَثَلُ السَّوْءِ ) وهو القبيح من المثل، وما يسوء من ضرب له ذلك المثل ( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى ) يقول: ولله المثل الأعلى، وهو الأفضل والأطيب، والأحسن، والأجمل، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى ) قال: شهادة أن لا إله إلا الله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى ) الإخلاص والتوحيد. وقوله ( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) يقول تعالى ذكره: والله ذو العزّة التي لا يمتنع عليه معها عقوبة هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، ولا عقوبة من أراد عقوبته على معصيته إياه، ولا يتعذّر عليه شيء أراده وشاءه ، لأن الخلق خلقه ، والأمر أمره، الحكيم في تدبيره، فلا يدخل تدبيره خَلَل ، ولا خطأ. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 61 ) يقول تعالى ذكره ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ ) عصاة بني آدم بمعاصيهم ( مَا تَرَكَ عَلَيْهَا ) يعني على الأرض ( مِنْ دَابَّةٍ ) تدب عليها ( وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ ) يقول: ولكن بحلمه يؤخر هؤلاء الظلمة فلا يعاجلهم بالعقوبة ( إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) يقول: إلى وقتهم الذي وُقِّت لهم ، ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) يقول: فإذا جاء الوقت الذي وُقِّت لهلاكهم ( لا يَسْتَأْخِرُونَ ) عن الهلاك ساعة فيمهلون ( وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) له حتى يستوفُوا آجالهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، قال: كاد الجُعْل أن يعذّب بذنب بني آدم ، وقرأ ( وَلو يؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ ) . حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي، قال: ثنا محمد بن جابر الجعفي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، قال: سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، قال: فالتفت إليه فقال: بلى، والله إن الحبارى لتموت في وكرها هزالا بظلم الظالم. حدثني يعقوب، قال: ثنا أبو عبيدة الحداد، قال: ثنا قرة بن خالد السدوسي، عن الزبير بن عديّ، قال: قال ابن مسعود: خطيئة ابن آدم قتلت الجُعْل. حدثنا أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، قال: قال عبد الله: كاد الجعل أن يهلك في جُحْره بخطيئة ابن آدم. حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال الله: ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) قال: نرى أنه إذا حضر أجله فلا يؤخر ساعة ، ولا يقدّم ، ما لم يحضر أجله، فإن الله يؤخر ما شاء ، ويُقدّم ما شاء. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ( 62 ) يقول تعالى ذكره: ويجعل هؤلاء المشركون لله ما يكرهونه لأنفسهم. ( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ) يقول: وتقول ألسنتهم الكذب وتفتريه ، أن لهم الحسنى ، فأن في موضع نصب، لأنها ترجمة عن الكذب. وتأويل الكلام: ويجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم، ويزعمون أن لهم الحسنى ، الذي يكرهونه لأنفسهم. البنات يجعلونهن لله تعالى، وزعموا أن الملائكة بنات الله. وأما الحُسنى التي جعلوها لأنفسهم: فالذكور من الأولاد ، وذلك أنهم كانوا يئدون الإناث من أولادهم ، ويستبقون الذكور منهم، ويقولون: لنا الذكور ولله البنات ، وهو نحو قوله وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ) قال: قول قريش: لنا البنون ولله البنات. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: قول كفَّار قريش. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ) : أي يتكلمون بأن لهم الحُسنى أي الغلمان. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ) قال: الغلمان. وقوله ( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول تعالى ذكره: حقا واجبا أن لهؤلاء القائلين لله البنات ، الجاعلين له ما يكرهونه لأنفسهم ، ولأنفسهم الحسنى عند الله يوم القيامة النار. وقد بيَّنا تأويل قول الله ( لا جَرَمَ ) في غير موضع من كتابنا هذا بشواهده بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ورُوي عن ابن عباس في ذلك، ما حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( لا جَرَمَ ) يقول: بلى. وقوله ( لا جَرَمَ ) كان بعض أهل العربية يقول: لم تُنْصَبْ جَرَمَ بلا كما نصبت الميم من قول: لا غلام لك؛ قال: ولكنها نُصِبَت لأنها فعل ماض، مثل قول القائل: قَعَدَ فلان وجلس ، والكلام: لا ردّ لكلامهم أي ليس الأمر هكذا، جَرَمَ: كَسَبَ، مثل قوله لا أقسم، ونحو ذلك. وكان بعضهم يقول: نصب جَرَمَ بلا وإنما بمعنى: لا بدّ، ولا محالة ؛ ولكنها كثرت في الكلام حتى صارت بمنـزلة حقا. وقوله ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول تعالى ذكره: وأنهم مُخَلَّفون متروكون في النار، منسيون فيها. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال أكثرهم بنحو ما قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية ( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: منسيون مُضَيَّعون. حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: ثنا زيد بن حباب، قال: أخبرنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا بهز بن أسد، عن شعبة، قال: أخبرني أبو بشر، عن سعيد بن جبير، مثله. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله ( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: متروكون في النار، منسيون فيها. حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، قال: حصين، أخبرنا، عن سعيد بن جبير، بمثله. حدثني المثنى، قال: أخبرنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن سعيد بن جبير بمثله. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: منسيون. حدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة وأبو معاوية وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: متروكون في النار. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم، عن مجاهد ( مُفْرَطُونَ ) قال: مَنْسيون. حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثني أبي، عن الحسين، عن قتادة ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول: مُضَاعُون. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا بدل، قال: ثنا عباد بن راشد، قال: سمعت داود بن أبي هند، في قول الله ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: منسيون في النار. وقال آخرون: معنى ذلك: أنهم مُعْجَلُونَ إلى النار مقدّمون إليها ، وذهبوا في ذلك إلى قول العرب: أفرطنا فلانا في طلب الماء، إذا قدّموه لإصلاح الدلاء والأرشية ، وتسوية ما يحتاجون إليه عند ورودهم عليه فهو مُفْرَط. فأما المتقدّم نفسه فهو فارط، يقال: قد فَرَط فلان أصحابَه يَفْرُطهم فُرْطا وفُروطا: إذا تقدمهم وجمع فارط: فُرَّاط ومنه قول القُطامِيّ: واسْـتَعْجَلُونا وكـانُوا مِـنْ صَحَابَتِنـا كمَـــا تَعَجَّــل فُــرَّاطٌ لِــوُرَّادِ ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: « أنا فَرَطُكُمْ على الحَوْضِ » : أي متقدمكم إليه وسابقكم « حتى تَرِدُوهُ » . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) يقول: مُعْجَلُون إلى النار. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: قد أفرطوا في النار أي مُعْجَلُون. وقال آخرون. معنى ذلك: مُبْعَدون في النار. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أشعث السمَّان، عن الربيع، عن أبي بشر، عن سعيد ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) قال: مُخْسَئون مُبْعَدون. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي اخترناه، وذلك أن الإفراط الذي هو بمعنى التقديم، إنما يقال فيمن قدَم مقدَما لإصلاح ما يقدم إليه إلى وقت ورود من قدمه عليه، وليس بمقدم من قدم إلى النار من أهلها لإصلاح شيء فيها لوارد يرد عليها فيها فيوافقه مصلحا، وإنما تَقَدّم مَن قُدِّم إليها لعذاب يُعجَّل له . فإذا كان معنى ذلك الإفراط الذي هو تأويل التعجيل ففسد أن يكون له وجه في الصحة، صحّ المعنى الآخر ، وهو الإفراط الذي بمعنى التخليف والترك. وذلك أنه يُحكى عن العرب: ما أَفْرطت ورائي أحدًا: أي ما خَلَّفته ؛ وما فرطته: أي لم أخلفه. واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المِصرَينِ الكوفة والبصرة ( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) بتخفيف الراء وفتحها، على معنى ما لم يُسَمّ فاعله من أُفرِط فهو مُفْرَط . وقد بيَّنت اختلاف قراءة ذلك كذلك في التأويل. وقرأه أبو جعفر القارئ. « وأنَّهُم مُفَرِّطُونَ » بكسر الراء وتشديدها، بتأويل: أنهم مفرِّطون في أداء الواجب الذي كان لله عليهم في الدنيا، من طاعته وحقوقه، مضيعو ذلك، من قول الله تعالى يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وقرأ نافع بن أبي نعيم: « وأنَّهُم مُفْرِطُونَ » بكسر الراء وتخفيفها. حدثني بذلك يونس، عن وَرْش عنه ، بتأويل: أنهم مُفْرِطُونَ في الذنوب والمعاصي، مُسْرِفون على أنفسهم مكثرون منها، من قولهم: أَفْرط فلان في القول: إذا تجاوز حَدَّه، وأسرف فيه. والذي هو أولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة الذين ذكرنا قراءتهم من أهل العراق لموافقتها تأويل أهل التأويل الذي ذكرنا قبل، وخروج القراءات الأخرى عن تأويلهم. القول في تأويل قوله تعالى : تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 63 ) يقول تعالى ذكره مقسِما بنفسه عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: والله يا محمد لقد أرسلنا رسلا من قبلك إلى أممها بمثل ما أرسلناك إلى أمتك من الدعاء إلى التوحيد لله ، وإخلاص العبادة له ، والإذعان له بالطاعة ، وخلع الأنداد والآلهة ( فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ) يقول: فحسَّن لهم الشيطان ما كانوا عليه من الكفر بالله وعبادة الأوثان مقيمين، حتى كذّبوا رسلهم، وردّوا عليهم ما جاءوهم به من عند ربهم ( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) يقول: فالشيطان ناصرهم اليوم في الدنيا، وبئس الناصر ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) في الآخرة عند ورودهم على ربهم، فلا ينفعهم حينئذ ولاية الشيطان، ولا هي نفعتهم في الدنيا ، بل ضرّتهم فيها وهي لهم في الآخرة أضرّ. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 64 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما أنـزلنا عليك كتابنا وبعثناك رسولا إلى خلقنا إلا لتبين لهم ما اختلفوا فيه من دين الله ، فتعرّفهم الصواب منه ، والحقّ من الباطل، وتقيم عليهم بالصواب منه حجة الله الذي بعثك بها. وقوله ( وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يقول: وهدى بيانا من الضلالة، يعني بذلك الكتاب ، ورحمة لقوم يؤمنون به، فيصدّقون بما فيه، ويقرّون بما تضمن من أمر الله ونهيه، ويعملون به ، وعطف بالهدى على موضع ليبين، لأن موضعها نصب. وإنما معنى الكلام: وما أنـزلنا عليك الكتاب إلا بيانًا للناس فيما اختلفوا فيه هدى ورحمة. القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( 65 ) يقول تعالى ذكره منبهَ خلقِه على حججه عليهم في توحيده، وأنه لا تنبغي الألوهية إلا له، ولا تصلح العبادة لشيء سواه: أيها الناس معبودكم الذي له العبادة دون كلّ شيء، ( أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) يعني: مطرا، يقول: فأنبت بما أنـزل من ذلك الماء من السماء الأرض الميتة التي لا زرع بها ولا عُشْبَ ولا نبت ( بَعْدَ مَوْتِهَا ) بعد ما هي ميتة لا شيء فيها ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) يقول تعالى ذكره: إن في إحيائنا الأرض بعد موتها بما أنـزلنا من السماء من ماء لدليلا واضحًا ، وحجة قاطعة ، عذر من فكر فيه ( لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) يقول: لقوم يسمعون هذا القول فيتدبرونه ويعقلونه ، ويطيعون الله بما دلهم عليه. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ( 66 ) يقول تعالى ذكره: وإن لكم أيها الناس لعظة في الأنعام التي نُسقيكم مما في بطونه. واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( نُسْقِيكُمْ ) فقرأته عامة أهل مكة والعراق والكوفة والبصرة، سوى عاصم ؛ ومن أهل المدينة أبو جعفر ( نُسْقِيكُمْ ) بضمّ النون. بمعنى: أنه أسقاهم شرابًا دائمًا. وكان الكسائيّ يقول: العرب تقول: أسقيناهم نَهْرا ، وأسقيناهم لبنا: إذا جعلته شِرْبا دائما، فإذا أرادوا أنهم أعطوه شربة قالوا: سقيناهم فنحن نَسْقِيهم بغير ألف ؛ وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة سوى أبي جعفر، ومن أهل العراق عاصم ( نَسْقِيكم ) بفتح النون من سَقاه الله ، فهو يَسْقيه ، والعرب قد تدخل الألف فيما كان من السَّقي غير دائم ، وتنـزعها فيما كان دائمًا، وإن كان أشهر الكلامين عندها ما قال الكسائيّ، يدلّ على ما قلنا من ذلك، قول لَبيد في صفة سحاب: سَــقَى قَـوْمي بَنِـي مَجْـدٍ وأسْـقَى نُمَــيْرًا والقَبَــائِلَ مِــنْ هِــلالِ فجمع اللغتين كلتيهما في معنى واحد ، فإذا كان ذلك كذلك، فبأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجب القراءتين إليّ قراءة ضمّ النون لما ذكرت من أن أكثر الكلامين عند العرب فيما كان دائما من السقي أسقى بالألف فهو يُسْقِي، وما أسقى الله عباده من بطون الأنعام فدائم لهم غير منقطع عنهم. وأما قوله ( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) وقد ذكر الأنعام قبل ذلك، وهي جمع والهاء في البطون موحدة، فإن لأهل العربية في ذلك أقوالا فكان بعض نحويِّي الكوفة يقول: النَّعم والأنعام شيء واحد، لأنهما جميعًا جمعان، فردّ الكلام في قوله ( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) إلى التذكير مرادًا به معنى النَّعم، إذ كان يؤدي عن الأنعام ، ويستشهد لقوله ذلك برجز بعض الأعراب: إذا رأيْــتَ أنْجُمــا مــنَ الأسَـدْ جَبْهَتـــهُ أوِ الخَـــرَاة والكَتَــدْ بــال سُـهَيْلٌ فِـي الفَضِيـخِ فَفَسَـدْ وطــابَ ألْبــانُ اللِّقــاحِ فَــبَرَدْ ويقول: رجع بقوله « فبرد » إلى معنى اللبن، لأن اللبن والألبان تكون في معنى واحد ، وفي تذكير النعم قول الآخر: أكُـــلَّ عــامٍ نَعَــمٌ تَحْوُونَــهُ يُلْقحُــــهُ قَـــومٌ وتَنْتِجُونَـــهُ فذكر النعم ؛ وكان غيره منهم يقول: إنما قال ( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) لأنه أراد: مما في بطون ما ذكرنا وينشد في ذلك رَجزا لبعضهم: مِثْلُ الفِراخِ نُتِفَتْ حَوَاصِلُهُ وقول الأسود بن يَعْفُر: إنَّ المَنِيَّـــةَ والحُــتُوفَ كلاهُمــا يُــوفي المَخـارمَ يَرْقُبـانِ سَـوَادِي فقال: كلاهما، ولم يقل: كلتاهما ؛ وقول الصَّلَتان العَبْدِيّ: إنَّ السَّــماحَةَ والمُــرُوءَة ضُمِّنــا قَـبْرًا بمَـرْوَ عـلى الطَّـرِيقِ الوَاضِحِ وقول الآخر: وعَفْـرَاءُ أدْنَـى النَّـاس مِنِّـي مَـوَدَّةً وعَفْـرَاءُ عَنّـي المُعْـرِضُ المُتَـوَانِي ولم يقل: المعرضة المتوانية ؛ وقول الآخر: إذا النَّــاسُ نــاسٌ والبِـلادُ بغِبْطَـةٍ وَإذْ أُمُّ عَمَّــارٍ صَــديقٌ مُسـاعِفُ ويقول: كل ذلك على معنى هذا الشيء وهذا الشخص والسواد، وما أشبه ذلك ، ويقول: من ذلك قول الله تعالى ذكره فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي بمعنى: هذا الشيء الطالع. وقوله كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ولم يقل ذكرها، لأن معناه: فمن شاء ذكر هذا الشيء. وقوله وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ ولم يقل جاءت . وكان بعض البصريين يقول: قيل ( مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) لأن المعنى: نسقيكم من أيّ الأنعام كان في بطونه ، ويقول: فيه اللبن مضمر، يعني أنه يسقي من أيها كان ذا لبن، وذلك أنه ليس لكلها لبن، وإنما يُسقى من ذوات اللبن. والقولان الأوّلان أصحّ مخرجا على كلام العرب من هذا القول الثالث. وقوله ( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا ) يقول: نسقيكم لبنا، نخرجه لكم من بين فرث ودم خالصا: يقول: خلص من مخالطة الدم والفرث ، فلم يختلطا به ( سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ ) يقول: يسوغ لمن شربه فلا يَغَصّ به كما يَغَصّ الغاصّ ببعض ما يأكله من الأطعمة. وقيل: إنه لم يَغصّ أحد باللبن قَطُّ. القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 67 ) يقول تعالى ذكره: ولكم أيضًا أيها الناس عِبرةٌ فيما نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ، مع ما نسقيكم من بطون الأنعام من اللبن الخارج من بين الفرث والدم. وحذف من قوله ( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ ) الاسم، والمعنى ما وصفت، وهو: ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه لدلالة « مِن » عليه، لأن « من » تدخل في الكلام مُبَعِّضة، فاستغني بدلالتها ومعرفة السامعين بما يقتضي من ذكر الاسم معها. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول في معنى الكلام: ومن ثمرات النخيل والأعناب شيء تتخذون منه سكرا، ويقول: إنما ذكرت الهاء في قوله ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ ) لأنه أريد بها الشيء، وهو عندنا عائد على المتروك، وهو « ما » . وقوله ( تَتَّخِذُونَ ) من صفة « ما » المتروكة. واختلف أهل التأويل في معنى قوله ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) فقال بعضهم: عني بالسَّكَر: الخمر، وبالرزق الحسن: التمر والزبيب، وقال: إنما نـزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر ، ثم حُرّمت بعد. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبيد المحاربيّ، قال: ثنا أيوب بن جابر السُّحَيْمي، عن الأسود، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس، قوله ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: السَّكَر: ما حُرِّم من شرابه، والرزق الحسن: ما أحلّ من ثمرته. حدثنا ابن وكيع وسعيد بن الربيع الرازي، قالا ثنا ابن عيينة، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: الرزق الحسن: ما أحلّ من ثمرتها، والسكر: ما حرّم من ثمرتها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن الأسود، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس مثله. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال: أخبرنا الثوري، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس، بنحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، قال: ثنا سفيان، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس بنحوه. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الأسود بن قيس، قال: سمعت رجلا يحدّث عن ابن عباس في هذه الآية ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: السكر: ما حُرِّم من ثمرتيهما، والرزق الحسن: ما أحلّ من ثمرتيهما. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا الحسن بن صالح، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس، بنحوه. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا زهير بن معاوية، قال: ثنا الأسود بن قيس، قال: ثني عمرو بن سفيان، قال: سمعت ابن عباس يقول، وذكرت عنده هذه الآية ( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: السكر: ما حرّم منهما، والرزق الحسن: ما أحلّ منهما. حدثني يونس، قال: أخبرنا سفيان، عن الأسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان البصري، قال: قال ابن عباس، في قوله ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: فأما الرزق الحسن: فما أحلّ من ثمرتهما، وأما السكر: فما حرّم من ثمرتهما. حدثني المثنى، قال: أخبرنا الحمَّاني، قال: ثنا شريك، عن الأسود، عن عمرو بن سفيان البصريّ، عن ابن عباس ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: السَّكَر: حرامه، والرزق الحسن: حلاله. حدثني المثنى، قال: أخبرنا العباس بن أبي طالب، قال: ثنا أبو عوانة، عن الأسود، عن عمرو بن سفيان، عن ابن عباس قال: السَّكَر: ما حرّم من ثمرتهما، والرزق الحسن: ما حلّ من ثمرتهما. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: الرزق الحسن: الحلال، والسَّكَر: الحرام. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: ما حرم من ثمرتهما، وما أحلّ من ثمرتهما. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: السَّكَر خمر، والرزق الحسن الحلال. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن مسعر وسفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، قال: الرزق الحسن: الحلال، والسَّكَر: الحرام. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، بنحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في هذه الآية ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: السَّكَر: الحرام، والرزق الحسن: الحلال. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: نـزل هذا وهم يشربون الخمر، فكان هذا قبل أن ينـزل تحريم الخمر. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا شعبة، عن المُغيرة، عن إبراهيم والشعبيّ وأبي رزين، قالوا: هي منسوخة في هذه الآية ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) حدثنا الحسن بن عرفة، قال: ثنا أبو قطن، عن سعيد، عن المغيرة، عن إبراهيم والشعبي، وأبي رزين بمثله. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، في قوله ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: هي منسوخة نسخها تحريم الخمر. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن منصور وعوف، عن الحسن، قال السكر: ما حرم الله منه، والرزق: ما أحلّ الله منه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن الحسن، قال: الرزق الحسن: الحلال، والسَّكَر: الحرام. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك، قال: الرزق الحسن: الحلال، والسَّكَر: الحرام. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب، عن ليث، عن مجاهد قال: السَّكر: الخمر، والرزق الحسن، الرُّطب والأعناب. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ) قال: هي الخمر قبل أن تحرّم. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ) قال: الخمر قبل تحريمها، ( وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: طعاما. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) أما السَّكَر: فخمور هذه الأعاجم، وأما الرزق الحسن: فما تنتبذون، وما تُخَلِّلون، وما تأكلون ، ونـزلت هذه الآية ولم تحرّم الخمر يومئذ، وإنما جاء تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبدة بن سليمان، قال: قرأت على ابن أبي عُذرة، قال: هكذا سمعت قتادة ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) ثم ذكر نحو حديث بشر. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( سَكَرًا ) قال: هي خمور الأعاجم، ونُسِخت في سورة المائدة ، والرزق الحسن قال: ما تنتبذون وتُخَلِّلون وتأكلون. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) وذلك أن الناس كانوا يسمُّون الخمر سكرا، وكانوا يشربونها، قال ابن عباس مرّ رجال بوادي السكران الذي كانت قريش تجتمع فيه، إذا تَلَقَّوا مسافريهم إذا جاءوا من الشام، وانطلقوا معهم يشيعونهم حتى يبلغوا وادي السكران ثم يرجعوا منه، ثم سماها الله بعد ذلك الخمر حين حرمت ، وقد كان ابن عباس يزعم أنها الخمر، وكان يزعم أن الحبشة يسمون الخلّ السَّكَر. قوله ( وَرِزْقًا حَسَنًا ) يعني بذلك: الحلال التمر والزبيب، وما كان حلالا لا يسكر. وقال آخرون: السَّكَر بمنـزلة الخمر في التحريم ، وليس بخمر، وقالوا: هو نقيع التمر والزبيب إذا اشتدّ وصار يُسْكِر شاربه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو، في قوله ( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال ابن عباس: كان هذا قبل أن ينـزل تحريم الخمر والسكر حرام مثل الخمر ؛ وأما الحلال منه، فالزبيب والتمر والخل ونحوه. حدثني المثنى، وعلي بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ) فحرّم الله بعد ذلك، يعني بعد ما أنـزل في سورة البقرة من ذكر الخمر ، والميسر والأنصاب والأزلام، السَّكَر مع تحريم الخمر لأنه منه، قال ( وَرِزْقًا حَسَنًا ) فهو الحلال من الخلّ والنبيذ ، وأشباه ذلك، فأقرّه الله وجعله حلالا للمسلمين. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن موسى، قال: سألت مرّة عن السَّكَر ، فقال: قال عبد الله: هو خمر. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي فروة، عن أبي عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: السَّكَر: خمر. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد ، قال: ثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم، قال: السَّكَر: خمر. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا حسن بن صالح، عن مغيرة، عن إبراهيم وأبي رزين، قالا السَّكَر: خمر. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ) يعني: ما أسكر من العنب والتمر ( وَرِزْقًا حَسَنًا ) يعني: ثمرتها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: الحلال ما كان على وجه الحلال حتى غيروها فجعلوا منها سَكَرا. وقال آخرون: السَّكَر: هو كلّ ما كان حلالا شربه، كالنبيذ الحلال والخلّ والرطَب. والرزق الحسن: التمر والزبيب. ذكر من قال ذلك: حدثني داود الواسطيّ، قال: ثنا أبو أسامة، قال أبو رَوْق: ثني قال: قلت للشعبيّ: أرأيت قوله تعالى ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ) أهو هذا السكر الذي تصنعه النَّبَط؟ قال: لا هذا خمر، إنما السَّكَر الذي قال الله تعالى ذكره: النبيذ والخلّ والرزق الحسن: التمر والزبيب. حدثني يحيى بن داود، قال: ثنا أبو أسامة، قال: وذكر مجالد، عن عامر، نحوه. حدثني أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد ( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ) قال: ما كانوا يتخذون من النخل النَّبيذ، والرزق الحسن: ما كانوا يصنعون من الزبيب والتمر. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا مندل، عن أبي رَوْق، عن الشعبيّ، قال: قلت له: ما تتخذون منه سَكَرا؟ قال: كانوا يصنعون من النبيذ والخلّ قلت: والرزق الحسن؟ قال: كانوا يصنعون من التمر والزبيب. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة وأحمد بن بشير، عن مجالد، عن الشعبيّ، قال: السَّكَر: النبيذ والرزق الحسن: التمر الذي كان يؤكل ، وعلى هذا التأويل، الآية غير منسوخة، بل حكمها ثابت. وهذا التأويل عندي هو أولى الأقوال بتأويل هذه الآية، وذلك أن السَّكَر في كلام العرب على أحد أوجه أربعة: أحدها: ما أسكر من الشراب. والثاني: ما طُعِم من الطعام، كما قال الشاعر: جَعَلْتُ عَيْبَ الأكْرَمِينَ سَكَرَا أي طعما. والثالث: السُّكُون، من قول الشاعر: جَعَلْتُ عَيْنَ الحَرُورِ تَسْكُرُ وقد بيَّنا ذلك فيما مضى. والرابع: المصدر من قولهم: سَكَر فلان يَسْكَر سُكْرا وسَكْرا وسَكَرا ، فإذا كان ذلك كذلك، وكان ما يُسْكِر من الشراب حراما بما قد دللنا عليه في كتابنا المسمى: « لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام » وكان غير جائز لنا أن نقول: هو منسوخ، إذ كان المنسوخ هو ما نفى حكمه الناسخ ، وما لا يجوز اجتماع الحكم به وناسخه، ولم يكن في حكم الله تعالى ذكره بتحريم الخمر دليل على أن السَّكَر الذي هو غير الخمر، وغير ما يسكر من الشراب، حرام ، إذ كان السكر أحد معانيه عند العرب، ومن نـزل بلسانه القرآن هو كلّ ما طعم، ولم يكن مع ذلك، إذ لم يكن في نفس التنـزيل دليل على أنه منسوخ، أو ورد بأنه منسوخ خبر من الرسول، ولا أجمعت عليه الأمة، فوجب القول بما قلنا من أن معنى السَّكَر في هذا الموضع: هو كلّ ما حلّ شربه ، مما يتخذ من ثمر النخل والكرم، وفسد أن يكون معناه الخمر أو ما يسكر من الشراب، وخرج من أن يكون معناه السَّكَر نفسه، إذ كان السَّكَر ليس مما يتخذ من النَّخْل والكَرْم، ومن أن يكون بمعنى السكون. وقوله ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) يقول: فيما إن وصفنا لكم من نعمنا التي آتيناكم أيها الناس من الأنعام والنخل والكرم، لدلالة واضحة وآية بينة لقوم يعقلون عن الله حججه ، ويفهمون عنه مواعظه ، فيتعظون بها. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( 68 ) يقول تعالى ذكره: وألهم ربك يا محمد النحل إيحاء إليها ( أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) يعني: مما يبنون من السقوف، فرفعوها بالبناء. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا مروان، عن إسحاق التميمي، وهو ابن أبي الصباح، عن رجل، عن مجاهد ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) قال: ألهمها إلهاما. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: بلغني، في قوله ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) قال: قذف في أنفسها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو سفيان، عن معمر، عن أصحابه، قوله ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) قال: قذف في أنفسها أن اتخذي من الجبال بيوتًا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) ... الآية، قال: أمرها أن تأكل من الثمرات، وأمرها أن تتبع سبل ربها ذللا. وقد بيَّنا معنى الإيحاء واختلاف المختلفين فيه فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وكذلك معنى قوله ( يَعْرِشُونَ ) وكان ابن زيد يقول في معنى يعرشون، ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله ( يَعْرِشُونَ ) قال: الكَرْم. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 69 ) يقول تعالى ذكره: ثم كلي أيتها النحل من الثمرات، ( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ) يقول: فاسلكي طرق ربك ( ذُلُلا ) يقول: مُذَلَّلة لك، والذُّلُل: جمع ذَلُول. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا ) قال: لا يتوعَّر عليها مكان سلكته. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا ) قال: طُرُقا ذُلُلا قال: لا يتوعَّر عليها مكان سلكته. وعلى هذا التأويل الذي تأوّله مجاهد، الذلل من نعت السبل. والتأويل على قوله ( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا ) الذُّلُل لكِ: لا يتوعر عليكِ سبيل سلكتيه، ثم أسقطت الألف واللام فنصب على الحال. وقال آخرون في ذلك بما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا ) : أي مطيعة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور ، عن معمر، عن قتادة ( ذُلُلا ) قال: مطيعة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا ) قال: الذلول: الذي يُقاد ويُذهب به حيث أراد صاحبه، قال: فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها ويذهبون ، وهي تتبعهم. وقرأ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ... الآية ، فعلى هذا القول، الذّلُل من نعت النحل، وكلا القولين غير بعيد من الصواب في الصحة وجهان مخرجان، غير أنا اخترنا أن يكون نعتا للسُّبل لأنها إليها أقرب. وقوله ( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ) يقول تعالى ذكره: يخرج من بطون النحل شراب، وهو العسل، مختلف ألوانه، لأن فيها أبيض وأحمر وأسحر ، وغير ذلك من الألوان. قال أبو جعفر: أسحر: ألوان مختلفة مثل أبيض يضرب إلى الحمرة. وقوله ( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) اختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التي في قوله ( فِيهِ ) ، فقال بعضهم: عادت على القرآن، وهو المراد بها. ذكر من قال ذلك: حدثنا نصر بن عبد الرحمن، قال: ثنا المحاربيّ، عن ليث، عن مجاهد ( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) قال: في القرآن شفاء. وقال آخرون: بل أريد بها العسل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) ففيه شفاء كما قال الله تعالى من الأدواء، وقد كان ينهى عن تفريق النحل ، وعن قتلها. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور ، عن معمر، عن قتادة، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر أن أخاه اشتكى بطنه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلا ثم جاءه فقال: ما زاده إلا شدة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: « اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلا فَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ ، فسقاه، فكأنما نُشِط من عِقال » . حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، قال: شفاءان: العسل شفاء من كلّ داء، والقرآن شفاء لما في الصدور. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ) العسل. وهذا القول، أعني قول قتادة، أولى بتأويل الآية ، لأن قوله ( فِيهِ ) في سياق الخبر عن العسل فأن تكون الهاء من ذكر العسل، إذ كانت في سياق الخبر عنه أولى من غيره. وقوله ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول تعالى ذكره: إن في إخراج الله من بطون هذه النحل: الشراب المختلف، الذي هو شفاء للناس، لدلالة وحجة واضحة على من سخَّر النحل وهداها لأكل الثمرات التي تأكل، واتخاذها البيوت التي تنحت من الجبال والشجر والعروش، وأخرج من بطونها ما أخرج من الشفاء للناس، أنه الواحد الذي ليس كمثله شيء، وأنه لا ينبغي أن يكون له شريك ولا تصحّ الألوهة إلا له. القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( 70 ) يقول تعالى ذكره: والله خلقكم أيها الناس وأوجدكم ولم تكونوا شيئا، لا الآلهة التي تعبدون من دونه، فاعبدوا الذي خلقكم دون غيره ( ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ) يقول: ثم يقبضكم ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) يقول: ومنكم من يهرم فيصير إلى أرذل العمر، وهو أردؤه، يقال منه: رذل الرجل وفسل، يرذل رذالة ورذولة ورذلته أنا. وقيل: إنه يصير كذلك في خمس وسبعين سنة. حدثني محمد بن إسماعيل الفزاريّ، قال: أخبرنا محمد بن سَوار ، قال: ثنا أسد بن عمران، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نَباتة، عن عليّ، في قوله ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) قال: خمسٌ وسبعون سنة. وقوله ( لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ) يقول: إنما نردّه إلى أرذل العمر ليعود جاهلا كما كان في حال طفولته وصباه ، بعد علم شيئا: يقول: لئلا يعلم شيئا بعد علم كان يعلمه في شبابه ، فذهب ذلك بالكبر ونسى، فلا يعلم منه شيئا، وانسلخ من عقله، فصار من بعد عقل كان له لا يعقل شيئا ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) يقول: إن الله لا ينسى ، ولا يتغير علمه، عليم بكلّ ما كان ويكون، قدير على ما شاء لا يجهل شيئا ، ولا يُعجزه شيء أراده. القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( 71 ) يقول تعالى ذكره: والله أيها الناس فضّل بعضكم على بعض في الرزق الذي رزقكم في الدنيا، فما الذين فضَّلهم الله على غيرهم بما رزقهم ( بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) يقول: بمشركي مماليكِهم فيما رزقهم من الأموال والأزواج. ( فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ) يقول: حتى يستووا هم في ذلك وعبيدهم، يقول تعالى ذكره: فهم لا يرضَون بأن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقتهم سواء، وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني ، وهذا مَثَل ضربه الله تعالى ذكره للمشركين بالله. وقيل: إنما عنى بذلك الذين قالوا: إن المسيح ابن الله من النصارى. وقوله ( أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) يقول تعالى ذكره: أفبنعمة الله التي أنعمها على هؤلاء المشركين من الرزق الذي رزقهم في الدنيا يجحدون بإشراكهم غير الله من خلقه في ، سلطانه ومُلكه؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. * حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) يقول: لم يكونوا يشركون عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟ فذلك قوله ( أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) . حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: هذه الآية في شأن عيسى ابن مريم، يعني بذلك نفسه، إنما عيسى عبد، فيقول الله: والله ما تشركون عبيدكم في الذي لكم فتكونوا أنتم وهم سواء، فكيف ترضَون لي بما لا ترضون لأنفسكم . حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن ، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) قال: مثل آلهة الباطل مع الله تعالى ذكره. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ) وهذا مثل ضربه الله، فهل منكم من أحد شارك مملوكه في زوجته وفي فراشه فتعدلون بالله خلقه وعباده ، فإن لم ترض لنفسك هذا، فالله أحقّ أن ينـزه منه من نفسك، ولا تعدل بالله أحدا من عباده وخلقه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) قال: هذا الذي فضل في المال والولد، لا يشرك عبده في ماله وزوجته ، يقول: قد رضيت بذلك لله ولم ترض به لنفسك، فجعلت لله شريكا في ملكه وخلقه. القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ( 72 ) يقول تعالى ذكره ( وَاللَّهُ ) الذي ( جَعَلَ لَكُمْ ) أيها الناس ( مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) يعني أنه خلق من آدم زوجته حوّاء، ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) . كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) : أي والله خلق آدم، ثم خلق زوجته منه ثم جعل لكم بنين وحفدة. واختلف أهل التأويل في المعنيين بالحفدة، فقال بعضهم: هم الأختان، أختان الرجل على بناته. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا ثنا أبو معاوية، قال: ثنا أبان بن تغلب، عن المنهال بن عمرو، عن ابن حبيش، عن عبد الله ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال: الأختان. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، عن عاصم، عن ورقاء سألت عبد الله: ما تقول في الحَفَدَة؟ هم حَشَم الرجل يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لا ولكنهم الأختان. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ؛ وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قالا جميعا: ثنا سفيان، عن عاصم بن بَهْدَلة، عن زِرّ بن حُبَيْش، عن عبد الله، قال: الحَفَدَة: الأختان. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي. عن سفيان بإسناده عن عبد الله، مثله. حدثنا ابن بشار وأحمد بن الوليد القرشي وابن وكيع وسوار بن عبد الله العنبريّ ومحمد بن خلف بن خراش والحسن بن خلف الواسطيّ، قالوا: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، قال: الحَفَدَة: الأختان. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: الحَفَدَة: الأختان. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال: الحَفَدَة: الأختان. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الحَفَدَة: الخَتْن. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن عاصم، عن زِرّ، عن عبد الله، قال: الأختان. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا حفص، عن أشعث، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: الأختان. وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ عن ابن عباس، قوله ( وَحَفَدَةً ) قال: الأصهار. حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، عن عاصم ، عن زِرّ، عن ابن مسعود، قال: الحَفَدَة: الأختان. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، قال: قال لي عبد الله بن مسعود: ما الحَفَدَة يا زِرّ؟ قال: قلت: هم أحفاد الرجل من ولده وولد ولده. قال: لا هم الأصهار. وقال آخرون: هم أعوان الرجل وخدمه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثني سليم بن قتيبة، عن وهب بن حبيب الأسَدي، عن أبي حمزة، عن ابن عباس سئل عن قوله ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال: من أعانك فقد حَفَدك، أما سمعت قوله الشاعر: حَــفَدَ الوَلائِــدُ حَـوْلَهُنَّ وأُسْـلِمَتْ بـــأكُفِّهِنَّ أزِمَّـــةُ الأجْمـــال حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال: الحفدة: الخُدّام. حدثني محمد بن خالد بن خداش، قال: ثني سَلْم بن قتيبة، عن حازم بن إبراهيم البَجَلي، عن سماك، عن عكرمة، قال: قال: الحَفَدَة: الخُدّام. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن عكرمة، قال: هم الذين يعينون الرجل من ولده وخدمه. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة ( وَحَفَدَةً ) قال: الحَفَدَة: من خدمك مِنْ ولدك. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن آدم، عن سلام بن سليم، وقيس عن سِماك، عن عكرمة، قال: هم الخدم. حدثنا أحمد، قال: ثنا أبو أحمد ، قال: ثنا سلام أبو الأحوص، عن سِماك، عن عكرمة، مثله. حدثني محمد بن خالد، قال: ثني سلمة، عن أبي هلال، عن الحسن، في قوله ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال: البنين وبني البنين، مَنْ أعانك من أهل وخادم فقد حفدك. حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحسن، قال: هم الخَدَم. حدثني محمد بن خالد وابن وكيع، ويعقوب بن إبراهيم، قالوا: ثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الحَفَدة: الخَدَم. حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: ثنا أبو أحمد وحدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي وحدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، جميعا عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال: ابنه وخادمه. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال: أنصارًا وأعوانًا وخدامًا. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا زمعة، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: الحفدة: الخدم. حدثنا ابن بشار مرّة أخرى، قال: ابنه وخادمه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قال ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) مهنة يمهنونك ويخدمونك من ولدك، كرامة أكرمكم الله بها. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السُّديّ، عن أبي مالك: الحَفَدَة، قال: الأعوان. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن عكرمة، قال: الذين يعينونه. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمر، عن الحكَم بن أبان، عن عكرمة، في قوله ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال: الحفدة: من خدمك من ولدك وولد ولدك. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن التيميّ، عن أبيه، عن الحسن، قال: الحَفَدَة: الخَدَم. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن حصين، عن عكرمة ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال: ولده الذين يعينونه. وقال آخرون: هم ولد الرجل وولد ولده. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ( وَحَفَدَةً ) قال: هم الولد وولد الولد. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد وسعيد بن جبير، عن ابن عباس في هذه الآية ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال: الحَفَدَة: البنون. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا غُنْدَر، عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بنوك حين يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك، قال حميد: حَــفَدَ الوَلائِــدُ حَـوْلَهُنَّ وأُسْـلِمَتْ بـــأكُفِّهِنَّ أزِمَّـــةُ الأجْمـــال حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) قال: الحَفَدَة: الخدم من ولد الرجل هم ولده، وهم يخدمونه ؛ قال: وليس تكون العبيد من الأزواج، كيف يكون من زوجي عبد ، إنما الحَفَدَة: ولد الرجل وخدمه. حُدثت عن الحسين بن الفَرَج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله ( بَنِينَ وَحَفَدَةً ) يعني: ولد الرجل يحفِدونه ويخدُمونه، وكانت العرب إنما تخدمهم أوْلادهم الذكور. وقال آخرون: هم بنو امرأة الرجل من غيره. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) يقول: بنو امرأة الرجل ليسوا منه ، ويقال: الحَفَدَة: الرجل يعمل بين يدي الرجل، يقول: فلان يحفد لنا، ويزعم رجال أن الحَفَدَة أخْتان الرجل. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى أخبر عباده معرفهم نعمه عليهم، فيما جعل لهم من الأزواج والبنين، فقال تعالى ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) فأعلمهم أنه جعل لهم من أزواجهم بنين وحفَدة، والحفَدة في كلام العرب: جمع حافد، كما الكذبة: جمع كاذب، والفسَقة: جمع فاسق. والحافد في كلامهم ؛ هو المتخفِّف في الخدمة والعمل. والحَفْد: خفة العمل يقال: مرّ البعير يَحفِد حفَدَانا: إذا مرّ يُسرع في سيره. ومنه قولهم: « إليك نسعى ونحفِد » : أي نسرع إلى العمل بطاعتك. يقال منه: حَفد له يحفد حفدا وحفودا وحفدانا ومنه قول الراعي: كَــلَّفْتُ مَجْهُولَهَــا نُوقــا يَمَانيَّـةً إذا الحُــدَاةُ عـلى أكْسـائها حَـفَدُوا وإذ كان معنى الحفدة ما ذكرنا من أنهم المسرعون في خدمة الرجل ، المتخففون فيها، وكان الله تعالى ذكره أخبرنا أن مما أنعم به علينا أن جعل لنا حفدة تحفد لنا، وكان أولادنا وأزواجنا الذين يصلحون للخدمة منا ومن غيرنا وأختاننا الذين هم أزواج بناتنا من أزواجنا وخدمنا من مماليكنا إذا كانوا يحفدوننا ، فيستحقون اسم حفدة، ولم يكن الله تعالى دلّ بظاهر تنـزيله ، ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ولا بحجة عقل، على أنه عنى بذلك نوعا من الحفدة ، دون نوع منهم، وكان قد أنعم بكلّ ذلك علينا، لم يكن لنا أن نوجه ذلك إلى خاص من الحفدة دون عام، إلا ما اجتمعت الأمة عليه أنه غير داخل فيهم. وإذا كان ذلك كذلك فلكلّ الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا وجه في الصحة ، ومَخْرج في التأويل. وإن كان أولى بالصواب من القول ما اخترنا ، لما بيَّنا من الدليل. وقوله ( وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ) يقول: ورزقكم من حلال المعاش والأرزاق والأقوات ، ( أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ) يقول تعالى ذكره: يحرّم عليهم أولياء الشيطان من البحائر والسوائب والوصائل، فيصدّق هؤلاء المشركون بالله ( وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ) يقول: وبما أحلّ الله لهم من ذلك ، وأنعم عليهم بإحلاله، يكفرون ، يقول: ينكرون تحليله، ويجحدون أن يكون الله أحله. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ ( 73 ) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( 74 ) يقول تعالى ذكره: ويعبد هؤلاء المشركون بالله من دونه أوثانًا لا تملك لهم رزقا من السموات، لأنها لا تقدر على إنـزال قطر منها لإحياء موتان الأرضين ، والأرض: يقول: ولا تملك لهم أيضًا رزقًا من الأرض لأنها لا تقدر على إخراج شيء من نباتها وثمارها لهم ، ولا شيئًا مما عدّد تعالى في هذه الآية أنه أنعم بها عليهم ( وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) يقول: ولا تملك أوثانهم شيئًا من السموات والأرض، بل هي وجميع ما في السموات والأرض لله ملك، ولا يستطيعون يقول: ولا تقدر على شيء. وقوله ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ ) يقول: فلا تمثلوا لِلهِ الأمثال، ولا تشبِّهوا له الأشباه، فإنه لا مِثْل له ولا شِبْه. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الأمثال الأشباه. وحدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ ) يعني اتخاذهم الأصنام، يقول: لا تجعلوا معي إلهًا غيري، فإنه لا إله غيري. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) قال: هذه الأوثان التي تُعْبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها رزقا ولا ضرّا ولا نفعا، ولا حياة ولا نشورا. وقوله ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ ) فإنه أحَد صَمَد لم يَلِد ولم يُولَد ولم يكن له كُفُوًا أحد ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) يقول: والله أيها الناس يعلم خطأ ما تمثلون وتضربون من الأمثال وصوابه، وغير ذلك من سائر الأشياء، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه. واختلف أهل العربية في الناصب قوله ( شَيْئًا ) فقال بعض البصريين: هو منصوب على البدل من الرزق، وهو في معنى: لا يملكون رزقا قليلا ولا كثيرا. وقال بعض الكوفيين: نصب ( شَيْئًا ) بوقوع الرزق عليه، كما قال تعالى ذكره أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا أي تكفت الأحياء والأموات، ومثله قوله تعالى ذكره أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ قال: ولو كان الرزق مع الشيء لجاز خفضه، لا يملك لكم رزق شيء من السموات، ومثله فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ القول في تأويل قوله تعالى : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 75 ) يقول تعالى ذكره: وشَبَّه لكم شَبها أيها الناس للكافر من عبيده، والمؤمن به منهم. فأما مثَل الكافر: فإنه لا يعمل بطاعة الله، ولا يأتي خيرا، ولا ينفق في شيء من سبيل الله ماله لغلبة خذلان الله عليه، كالعبد المملوك ، الذي لا يقدر على شيء فينفقه. وأما المؤمن بالله فإنه يعمل بطاعة الله ، وينفق في سبيله ماله كالحر الذي آتاه الله مالا فهو ينفق منه سرّا وجهرا، يقول: بعلم من الناس وغير علم ( هَلْ يَسْتَوُونَ ) يقول هل يستوي العبد الذي لا يملك شيئا ولا يقدر عليه، وهذا الحرّ الذي قد رزقه الله رزقًا حسنًا فهو ينفق كما وَصَف ، فكذلك لا يستوي الكافر العامل بمعاصي الله المخالف أمره ، والمؤمن العامل بطاعته. وبنحو ما قلنا في ذلك كان بعض أهل العلم يقول. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) هذا مثل ضربه الله للكافر، رزقه مالا فلم يقدم فيه خيرا ولم يعمل فيه بطاعة الله، قال الله تعالى ذكره ( وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ) فهذا المؤمن أعطاه الله مالا فعمل فيه بطاعة الله وأخذ بالشكر ومعرفة حق الله، فأثابه الله على ما رزقه الرزق المقيم الدائم لأهله في الجنة، قال الله تعالى ذكره هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا والله ما يستويان ( الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) . حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) قال: هو الكافر لا يعمل بطاعة الله ولا ينفق خيرا ( وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا ) قال: المؤمن يطيع الله في نفسه وماله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) يعني: الكافر أنه لا يستطيع أن ينفق نفقة في سبيل الله ( وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا ) يعني المؤمن، وهذا المثل في النفقة. وقوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) يقول: الحمد الكامل لله خالصًا دون ما تَدْعُون أيها القوم من دونه من الأوثان فإياه فاحمدوا دونها. وقوله ( بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) يقول: ما الأمر كما تفعلون، ولا القول كما تقولون، ما للأوثان عندهم من يد ولا معروف فتُحْمد عليه، إنما الحمد لله ، ولكن أكثر هؤلاء الكفرة الذين يعبدونها لا يعلمون أن ذلك كذلك، فهم بجهلهم بما يأتون ويَذَرون يجعلونها لله شركاء في العبادة والحمد. وكان مجاهد يقول: ضرب الله هذا المثل، والمثل الآخر بعده لنفسه، والآلهة التي تعبد من دونه. القول في تأويل قوله تعالى : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 76 ) وهذا مثل ضربه الله تعالى لنفسه والآلهة التي تُعبد من دونه، فقال تعالى ذكره ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) يعني بذلك الصنم أنه لا يسمع شيئا ، ولا ينطق، لأنه إما خشب منحوت ، وإما نحاس مصنوع لا يقدر على نفع لمن خدمه ، ولا دفع ضرّ عنه وهو كَلٌّ على مولاه ، يقول: وهو عيال على ابن عمه وحلفائه وأهل ولايته، فكذلك الصنم كَلّ على من يعبده، يحتاج أن يحمله ، ويضعه ويخدمه، كالأبكم من الناس الذي لا يقدر على شيء، فهو كَلّ على أوليائه من بني أعمامه وغيرهم ( أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ) يقول: حيثما يوجهه لا يأت بخير، لأنه لا يفهم ما يُقال له، ولا يقدر أن يعبر عن نفسه ما يريد، فهو لا يفهم ، ولا يُفْهَم عنه ، فكذلك الصنم ،لا يعقل ما يقال له ، فيأتمر لأمر من أمره، ولا ينطق فيأمر وينهي ، يقول الله تعالى ( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) يعني: هل يستوي هذا الأبكم الكلّ على مولاه الذي لا يأتي بخير حيث توجه ومن هو ناطق متكلم يأمر بالحقّ ويدعو إليه وهو الله الواحد القهار ، الذي يدعو عباده إلى توحيده وطاعته ، يقول: لا يستوي هو تعالى ذكره، والصنم الذي صفته ما وصف. وقوله ( وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول: وهو مع أمره بالعدل، على طريق من الحقّ في دعائه إلى العدل ، وأمره به مستقيم، لا يَعْوَجّ عن الحقّ ولا يزول عنه. وقد اختلف أهل التأويل في المضروب له هذا المثل، فقال بعضهم في ذلك بنحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) قال: هو الوثن ( هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) قال: الله يأمر بالعدل ( وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وكذلك كان مجاهد يقول إلا أنه كان يقول: المثل الأوّل أيضا ضربه الله لنفسه وللوثَن. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا و ( رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ ) ( وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) قال: كلّ هذا مثل إله الحقّ، وما يُدعى من دونه من الباطل. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ ) قال: إنما هذا مثل ضربه الله. وقال آخرون: بل كلا المثلين للمؤمن والكافر. وذلك قول يُروَى عن ابن عباس، وقد ذكرنا الرواية عنه في المثل الأوّل في موضعه. وأما في المثل الآخر: فحدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ ) ... إلى آخر الآية، يعني بالأبكم: الذي هو كَلٌّ على مولاه الكافر، وبقوله ( وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ) المؤمن، وهذا المثل في الأعمال. حدثنا الحسن بن الصباح البزار، قال: ثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني، قال: ثنا حماد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إبراهيم، عن عكرمة، عن يَعْلى بن أمية، عن ابن عباس، في قوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا قال: نـزلت في رجل من قريش وعبده. وفي قوله ( مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ) ... إلى قوله ( وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) قال: هو عثمان بن عفان . قال: والأبكم الذي أينما يُوَجَّهُ لا يأت بخير، ذاك مولى عثمان بن عفَّان، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المئونة، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف، فنـزلت فيهما. وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في المثل الأوّل لأنه تعالى ذكره مثَّل مثَل الكافر بالعبد الذي وصف صفته، ومثَّل مثل المؤمن بالذي رزقه رزقًاحسنًا ، فهو ينفق مما رزقه سرّا وجهرا، فلم يجز أن يكون ذلك لله مثلا إذ كان الله إنما مثل الكافر الذي لا يقدر على شيء بأنه لم يرزقه رزقا ينفق منه سرّا ؛ ومثَّل المؤمن الذي وفَّقه الله لطاعته فهداه لرشده ، فهو يعمل بما يرضاه الله، كالحرّ الذي بسط له في الرزق فهو ينفق منه سرًّا وجهرًا، والله تعالى ذكره هو الرازق غير المرزوق، فغير جائز أن يمثل إفضاله وجوده بإنفاق المرزوق الرزق الحسن ، وأما المثل الثاني، فإنه تمثيل منه تعالى ذكره مَنْ مثله الأبكم الذي لا يقدر على شيء والكفار لا شكّ أن منهم من له الأموال الكثيرة، ومن يضرّ أحيانا الضرّ العظيم بفساده، فغير كائن ما لا يقدر على شيء، كما قال تعالى ذكره مثلا لمن يقدر على أشياء كثيرة. فإذا كان ذلك كذلك كان أولى المعاني به تمثيل ما لا يقدر على شيء كما قال تعالى ذكره بمثله ما لا يقدر على شيء، وذلك الوثن الذي لا يقدر على شيء، بالأبكم الكَلّ على مولاه الذي لا يقدر على شيء كما قال ووصف. القول في تأويل قوله تعالى : وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِم شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 77 ) يقول تعالى ذكره: ولله أيها الناس مِلك ما غاب عن أبصاركم في السموات والأرض دون آلهتكم التي تدعون من دونه، ودون كلّ ما سواه، لا يملك ذلك أحد سواه. ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) يقول: وما أمر قيام القيامة والساعة التي تنشر فيها الخلق للوقوف في موقف القيامة، إلا كنظرة من البصر، لأن ذلك إنما هو أن يقال له كن فيكون. كما حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) والساعة: كلمح البصر، أو أقرب. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمر، عن قتادة ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ) قال: هو أن يقول: كن، فهو كلمح البصر فأمر الساعة كلمح البصر أو أقرب، يعني يقول: أو هو أقرب من لمح البصر. وقوله ( إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يقول: إن الله على إقامة الساعة في أقرب من لمح البصر قادر، وعلى ما يشاء من الأشياء كلها، لا يمتنع عليه شيء أراده. القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 78 ) يقول تعالى ذكره: والله تعالى أعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من بعد ما أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعقلون شيئا ولا تعلمون، فرزقكم عقولا تفقهون بها ، وتميزون بها الخير من الشرّ وبصَّركم بها ما لم تكونوا تبصرون، وجعل لكم السمع الذي تسمعون به الأصوات، فيفقه بعضكم عن بعض ما تتحاورون به بينكم والأبصار التي تبصرون بها الأشخاص فتتعارفون بها وتميزون بها بعضا من بعض. ( وَالأفْئِدَةَ ) يقول: والقلوب التي تعرفون بها الأشياء فتحفظونها وتفكرون فتفقهون بها. ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) يقول: فعلنا ذلك بكم، فاشكروا الله على ما أنعم به عليكم من ذلك، دون الآلهة والأنداد، فجعلتم له شركاء في الشكر، ولم يكن له فيما أنعم به عليكم من نعمه شريك. وقوله ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ) كلام متناه، ثم ابتدئ الخبر، فقيل: وجعل الله لكم السمع والأبصار والأفئدة. وإنما قلنا ذلك كذلك، لأن الله تعالى ذكره جعل العبادة والسمع والأبصار والأفئدة قبل أن يخرجهم من بطون أمهاتهم، وإنما أعطاهم العلم والعقل بعد ما أخرجهم من بطون أمهاتهم. القول في تأويل قوله تعالى : أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 79 ) يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين: ألم تَرَوا أيُّها المشركون بالله إلى الطير مسخرات في جوّ السماء، يعني: في هواء السماء بينها وبين الأرض، كما قال إبراهيم بن عمران الأنصاريّ: وَيْـلُ امِّهـا مِـنْ هَـوَاءِ الجَـوّ طَالِبَةً وَلا كَهـذا الَّـذِي فـي الأرْضِ مَطْلُوبُ يعني: في هواء السماء. ( مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ ) يقول: ما طيرانها في الجوّ إلا بالله ، وبتسخيره إياها بذلك، ولو سلبها ما أعطاها من الطيران لم تقدر على النهوض ارتفاعا. وقوله ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يقول: إن في تسخير الله الطير ، وتمكينه لها الطيران في جوّ السماء، لعلامات ودلالات على أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه لاحظ للأصنام والأوثان في الألوهة ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يعني: لقوم يقرّون بوجدان ما تعاينه أبصارهم ، وتحسه حواسهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ) : أي في كبد السماء. القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ( 80 ) يقول تعالى ذكره ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ ) أيها الناس، ( مِنْ بُيُوتِكُمْ ) التي هي من الحجر والمدر، ( سَكَنًا ) تسكنون أيام مقامكم في دوركم وبلادكم ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا ) وهي البيوت من الأنطاع والفساطيط من الشعر والصوف والوبر. ( تَسْتَخِفُّونَهَا ) يقول: تستخفون حملها ونقلها، ( يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ) من بلادكم وأمصاركم لأسفاركم، ( وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ) في بلادكم وأمصاركم. ( وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا ) . وبنحو الذي قلنا في معنى السكن قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن ، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ) قال: تسكنون فيه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وأما الأشعار فجمع شَعْر تثقل عينه وتخفف، وواحد الشَّعْر شَعْرة. وأما الأثاث فإنه متاع البيت لم يسمع له بواحد، وهو في أنه لا واحد له مثل المتاع. وقد حكي عن بعض النحويين أنه كان يقول: واحد الأثاث أثاثة ولم أر أهل العلم بكلام العرب يعرفون ذلك. ومن الدليل على أن الأثاث هو المتاع، قول الشاعر: أهــاجَتْكَ الظَّعــائِنُ يَــوْمَ بـانُوا بِـذِي الـرّئْيِ الجَـمِيلِ مِـنَ الأثـاث ويروى: بذي الزيّ ، وأنا أرى أصل الأثاث اجتماع بعض المتاع إلى بعض حتى يكثر كالشعر الأثيث وهو الكثير الملتف، يقال منه، أثّ شعر فلان يئِثّ أثًّا: إذا كثر والتفّ واجتمع. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( أثاثا ) يعني بالأثاث: المال. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( أثاثا ) قال: متاعا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( أثاثا ) قال: هو المال. حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن حرب الرازي، قال: أخبرنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن حميد بن عبد الرحمن، في قوله ( أثاثا ) قال: الثياب. وقوله ( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) فإنه يعني: أنه جعل ذلك لهم بلاغا، يتبلَّغون ويكتفون به إلى حين آجالهم للموت. كما حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) فإنه يعني: زينة، يقول: ينتفعون به إلى حين. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) قال: إلى الموت. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة ( وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ) إلى أجل وبلغة. القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ( 81 ) يقول تعالى ذكره: ومن نعمة الله عليكم أيها الناس أن جعل لكم مما خلق من الأشجار وغيرها ظلالا تستظلون بها من شدة الحرّ، وهي جمع ظلّ. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا الحكم بن بشير، قال: ثنا عمرو، عن قتادة، في قوله ( مِمَّا خَلَقَ ظِلالا ) قال: الشجر. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا ) إي والله، من الشجر ومن غيرها. وقوله ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ) يقول: وجعل لكم من الجبال مواضع تسكنون فيها، وهي جمع كنّ. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ) يقول: غيرانا من الجبال يسكن فيها. ( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) يعني ثياب القطن والكتان والصوف وقمصها. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) من القطن والكتان والصوف. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة ( سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) قال: القطن والكتان. وقوله ( وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) يقول: ودروعا تقيكم بأسكم، والبأس: هو الحرب، والمعنى: تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم. كما حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) من هذا الحديد. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة ( وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ) قال: هي سرابيل من حديد. وقوله ( كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) يقول تعالى ذكره: كما أعطاكم ربكم هذه الأشياء التي وصفها في هذه الآيات نعمة منه بذلك عليكم، فكذا يُتِمّ نعمته عليكم لعلكم تسلمون. يقول: لتخضعوا لله بالطاعة، وتذِلّ منكم بتوحيده النفوس، وتخلصوا له العبادة. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ( لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ ) بفتح التاء. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، قال: ثنا ابن المبارك، عن حنظلة، عن شهر بن حَوْشب، قال: كان ابن عباس يقول: ( لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ ) قال: يعني من الجراح. حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم بن سلام، قال: ثنا عباد بن العوّام، عن حنظلة السَّدوسيّ، عن شهر بن حَوْشب، عن ابن عباس، أنه قرأها: ( لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ ) من الجراحات، قال أحمد بن يوسف: قال أبو عبيد: يعني بفتح التاء واللام. فتأويل الكلام على قراءة ابن عباس هذه: كذلك يتمّ نعمته عليكم بما جعل لكم من السرابيل التي تقيكم بأسكم، لتسلموا من السلاح في حروبكم، والقراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها بضم التاء من قوله ( لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) وكسر اللام من أسلمت تُسْلِم يا هذا، لإجماع الحجة من قرّاء الأمصار عليها. فإن قال لنا قائل: وكيف جعل لكم سرابيل تقيكم الحر، فخص بالذكر الحر دون البرد، وهي تقي الحر والبرد ، أم كيف قيل ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ) وترك ذكر ما جعل لهم من السهل ؟ قيل له: قد اختُلِف في السبب الذي من أجله جاء التنـزيل كذلك، وسنذكر ما قيل في ذلك ثم ندلّ على أولى الأقوال في ذلك بالصواب. فرُوِي عن عطاء الخراساني في ذلك ما حدثني الحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا محمد بن كثير، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه ، قال: إنما نـزل القرآن على قدر معرفتهم، ألا ترى إلى قول الله تعالى ذكره: ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ) وما جعل لهم من السهول أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب جبال، ألا ترى إلى قوله وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ؟ و ما جعل لهم من غير ذلك أعظم منه وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب وَبَر وَشَعر ألا ترى إلى قوله وَيُنَـزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ يعجِّبهم من ذلك؟ وما أنـزل من الثلج أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا لا يعرفون به، ألا ترى إلى قوله ( سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ) وما تقي من البرد، أكثر وأعظم؟ ولكنهم كانوا أصحاب حرّ ، فالسبب الذي من أجله خصّ الله تعالى ذِكرُه السرابيل بأنها تقي الحرّ دون البرد على هذا القول، هو أن المخاطبين بذلك كانوا أصحاب حرّ، فذكر الله تعالى ذكره نعمته عليهم بما يقيهم مكروه ما به عرفوا مكروهه دون ما لم يعرفوا مبلغ مكروهه، وكذلك ذلك في سائر الأحرف الأخَر. وقال آخرون: ذكر ذلك خاصة اكتفاء بذكر أحدهما من ذكر الآخر، إذ كان معلومًا عند المخاطبين به معناه ، وأن السرابيل التي تقي الحرّ تقي أيضًا البرد وقالوا: ذلك موجود في كلام العرب مستعمل، واستشهدوا لقولهم بقول الشاعر: وَمـــا أدْرِي إذا يَمَّمْــتُ وَجْهًــا أُرِيـــدُ الخَــيْرَ أيُّهُمــا يَلِينِــي فقال: أيهما يليني: يريد الخير أو الشرّ، وإنما ذكر الخير لأنه إذا أراد الخير فهو يتقي الشرّ. وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: إن القوم خوطبوا على قدر معرفتهم، وإن كان في ذكر بعض ذلك دلالة على ما ترك ذكره لمن عرف المذكور والمتروك وذلك أن الله تعالى ذكره إنما عدّد نعمه التي أنعمها على الذين قُصدوا بالذكر في هذه السورة دون غيرهم، فذكر أياديه عندهم. القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 82 ) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ( 83 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن أدبر هؤلاء المشركون يا محمد عما أرسلتك به إليهم من الحقّ، فلم يستجيبوا لك وأعرضوا عنه، فما عليك من لوم ولا عذل لأنك قد أديت ما عليك في ذلك، إنه ليس عليك إلا بلاغهم ما أرسلت به. ويعني بقوله ( الْمُبِينُ ) الذي يبين لمن سمعه حتى يفهمه. وأما قوله ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ) فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنى بالنعمة التي أخبر الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين أنهم ينكرونها مع معرفتهم بها، فقال بعضهم: هو النبيّ صلى الله عليه وسلم عرفوا نبوته ثم جحدوها وكذبوه. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن السديّ ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ) قال: محمد صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن السديّ، مثله. وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم بذلك عليهم، ولكنهم يُنْكرون ذلك، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنا المثنى، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ) قال: هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، تعرف هذا كفار قريش، ثم تنكره بأن تقول: هذا كان لآبائنا، فروّحونا إياه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: فورّثونا إياها. وزاد في الحديث عن ابن جريج، قال ابن جريج: قال عبد الله بن كثير: يعلمون أن الله خلقهم وأعطاهم ما أعطاهم، فهو معرفتهم نعمته ثم إنكارهم إياها كفرهم بعد. وقال آخرون في ذلك، ما حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا معاوية، عن عمرو، عن أبي إسحاق الفزاري، عن ليث، عن عون بن عبد الله بن عتبة ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ) قال: إنكارهم إياها، أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا. وقال آخرون: معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم: من رزقكم؟ أقرّوا بأن الله هو الذي رزقهم، ثم يُنْكرون ذلك بقولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بتأويل الآية، قول من قال: عني بالنعمة التي ذكرها الله في قوله ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ) النعمة عليهم بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم داعيًا إلى ما بعثه بدعائهم إليه ، وذلك أن هذه الآية بين آيتين كلتاهما خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما بعث به، فأولى ما بينهما أن يكون في معنى ما قبله وما بعده، إذ لم يكن معنى يدلّ على انصرافه عما قبله وعما بعده فالذي قبل هذه الآية قوله ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ * يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا ) وما بعده وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا وهو رسولها. فإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الآية: يعرف هؤلاء المشركون بالله نعمة الله عليهم يا محمد بك، ثم ينكرونك ويجحدون نبوّتك ( وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ) يقول: وأكثر قومك الجاحدون نبوّتك، لا المقرّون بها. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( 84 ) يقول تعالى ذكره: يعرفون نعمة الله ثم يُنْكرونها اليوم ويستنكرون ( يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ) وهو الشاهد عليها بما أجابت داعي الله، وهو رسولهم الذي أرسل إليهم ( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) يقول: ثم لا يؤذن للذين كفروا في الاعتذار، فيعتذروا مما كانوا بالله وبرسوله يكفرون ( وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) فيتركوا الرجوع إلى الدنيا فينيبوا ويتوبوا وذلك كما قال تعالى هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ) وشاهدها نبيها، على أنه قد بلغ رسالات ربه، قال الله تعالى وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ . القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ( 85 ) يقول تعالى ذكره: وإذا عاين الذين كذّبوك يا محمد ، وجَحَدُوا نُبوّتك والأمم الذين كانوا على منهاج مشركي قومك عذاب الله، فلا ينجيهم من عذاب الله شيء ، لأنهم لا يؤذن لهم ، فيعتذرون ، فيخفَّف عنهم العذاب بالعذر الذي يدعونه، ( وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) يقول: ولا يُرْجَئُون بالعقاب، لأن وقت التوبة والإنابة قد فات، فليس ذلك وقتا لهما، وإنما هو وقت للجزاء على الأعمال، فلا ينظر بالعتاب ليعتب بالتوبة. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ( 86 ) يقول تعالى ذكره: وإذا رأى المشركون بالله يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله من الآلهة والأوثان وغير ذلك، قالوا: ربنا هؤلاء شركاؤنا في الكفر بك، والشركاء الذين كنا ندعوهم آلهة من دونك ، قال الله تعالى ذكره ( فألْقَوْا ) يعني: شركاءهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله ، القول ، يقول: قالوا لهم: إنكم لكاذبون أيها المشركين، ما كنا ندعوكم إلى عبادتنا. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء ؛ وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ) قال: حدّثوهم. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 87 ) يقول تعالى ذكره: وألقى المشركون إلى الله يومئذ السلم يقول: استسلموا يومئذ وذَلُّوا لحكمه فيهم، ولم تغن عنهم آلهتهم التي كانوا يدعون في الدنيا من دون الله، وتبرأت منهم، ولا قومهم، ولا عشائرهُم الذين كانوا في الدنيا يدافعون عنهم ، والعرب تقول: ألقيت إليه كذا تعني بذلك قلت له . وقوله ( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) يقول: وأخطأهم من آلهتهم ما كانوا يأملون من الشفاعة عند الله بالنجاة. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ) يقول: ذلوا واستسلموا يومئذ ( وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) . القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ( 88 ) يقول تعالى ذكره: الذين جحدوا يا محمد نبوّتك وكذّبوك فيما جئتهم به من عند ربك، وصَدُّوا عن الإيمان بالله وبرسوله ، ومن أراده زدناهم عذابًا يوم القيامة في جهنم فوق العذاب الذي هم فيه قبل أن يزادوه. وقيل: تلك الزيادة التي وعدهم الله أن يزيدهموها عقارب وحيات. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله ( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال: عقارب لها أنياب كالنخل. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية وابن عيينة، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله ( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال: زيدوا عقارب لها أنياب كالنخل الطوال. حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، قال: ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله، مثله. حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن سليمان، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله، نحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا إسرائيل، عن السدّي، عن مرّة، عن عبد الله، قال ( زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ ) قال: أفاعِيَ. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السديّ، عن مرّة، عن عبد الله، قال: أفاعيَ في النار. حدثنا ابن وكيع ، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مرّة، عن عبد الله، مثله. حدثنا مجاهد بن موسى والفضل بن الصباح، قالا ثنا جعفر بن عون، قال: أخبرنا الأعمش، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير، قال: إن لجهنم جبابا فيها حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال الدهم، يستغيث أهل النار إلى تلك الجِباب أو الساحل، فتثب إليهم فتأخذ بشِفاههم وشفارهم إلى أقدامهم، فيستغيثون منها إلى النار، فيقولون: النارَ النارَ ، فتتبعهم حتى تجد حرّها فترجع، قال: وهي في أسراب. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، قال: إن لجهنم سواحل فيها حيات وعقارب أعناقها كأعناق البخت. وقوله ( بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ) يقول: زدناهم ذلك العذاب على ما بهم من العذاب بما كانوا يفسدون ، بما كانوا في الدنيا يعصُون الله ، ويأمرون عباده بمعصيته، فذلك كان إفسادهم، اللهم إنا نسألك العافية يا مالك الدنيا والآخرة الباقية. القول في تأويل قوله تعالى وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( 89 ) يقول تعالى ذكره ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) يقول: نسأل نبيهم الذي بعثناه إليهم للدعاء إلى طاعتنا ، وقال ( مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) لأنه تعالى ذكره كان يبعث إلى أمم أنبياءها منها: ماذا أجابوكم، وما ردّوا عليكم ( وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ ) يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وجئنا بك يا محمد شاهدا على قومك وأمتك الذين أرسلتك إليهم بما أجابوك ، وماذا عملوا فيما أرسلتك به إليهم. وقوله ( وَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) يقول: نـزل عليك يا محمد هذا القرآن بيانا لكلّ ما بالناس إليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب ( وَهُدًى ) من الضلال ( وَرَحْمَةً ) لمن صدّق به، وعمل بما فيه من حدود الله ، وأمره ونهيه، فأحل حلاله ، وحرّم حرامه ( وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) يقول: وبشارة لمن أطاع الله وخضع له بالتوحيد ، وأذعن له بالطاعة، يبشره بجزيل ثوابه في الآخرة ، وعظيم كرامته. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، قال: ثنا أبان بن تغلب، عن الحكم، عن مجاهد ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) قال: مما أحلّ وحرّم. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن أبان بن تغلب، عن مجاهد، في قوله ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) مما أحلّ لهم وحرّم عليهم. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، قوله ( تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) قال: ما أمر به، وما نَهَى عنه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله ( وَنـزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) قال: ما أُمِروا به، ونهوا عنه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن فضيل، عن أشعث، عن رجل، قال: قال ابن مسعود: أنـزل في هذا القرآن كل علم وكلّ شيء قد بين لنا في القرآن. ثم تلا هذه الآية. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 90 ) يقول تعالى ذكره: إن الله يأمر في هذا الكتاب الذي أنـزله إليك يا محمد بالعدل، وهو الإنصاف ، ومن الإنصاف: الإقرار بمن أنعم علينا بنعمته، والشكر له على إفضاله، وتولي الحمد أهله. وإذا كان ذلك هو العدل ، ولم يكن للأوثان والأصنام عندنا يد تستحقّ الحمد عليها، كان جهلا بنا حمدها وعبادتها، وهي لا تنعِم فتشكر ، ولا تنفع فتعبد، فلزمنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولذلك قال من قال: العدل في هذا الموضع شهادة أن لا إله إلا الله. ذكر من قال ذلك : حدثني المثنى، وعلي بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ) قال: شهادة أن لا إله إلا الله وقوله والإحسان ، فإن الإحسان الذي أمر به تعالى ذكره مع العدل الذي وصفنا صفته: الصبر لله على طاعته فيما أمر ونهى، في الشدّة والرخاء ، والمَكْرَه والمَنْشَط، وذلك هو أداء فرائضه. كما حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَالإحْسَانِ ) يقول: أداء الفرائض . وقوله ( وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) يقول: وإعطاء ذي القربى الحقّ الذي أوجبه الله عليك بسبب القرابة والرحم. كما حدثني المثنى وعلي، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) يقول: الأرحام. وقوله ( وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ) قال: الفحشاء في هذا الموضع: الزنا. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، عن عليّ، عن ابن عباس ( وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ ) يقول: الزنا. وقد بيَّنا معنى الفحشاء بشواهده فيما مضى قبل. وقوله ( والبَغْيِ ) قيل: عُنِيَ بالبغي في هذا الموضع: الكبر والظلم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( والبَغْيِ ) يقول: الكبر والظلم.وأصل البغي: التعدّي ومجاوزة القدر والحدّ من كلّ شيء. وقد بيَّنا ذلك فيما مضى قبل. وقوله ( يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) يقول: يذكركم أيها الناس ربكم لتذكروا فتنيبوا إلى أمره ونهيه، وتعرفوا الحقّ لأهله. كما حدثني المثنى وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ( يَعِظُكُمْ ) يقول: يوصيكم ( لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) . وقد ذُكر عن ابن عيينة أنه كان يقول في تأويل ذلك: إن معنى العدل في هذا الموضع استواء السريرة والعلانية من كلّ عامل لله عملا وإن معنى الإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته، وإن الفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته. وذُكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في هذه الآية، ما حدثني المثنى، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت منصور بن النعمان، عن عامر، عن شتَير بن شَكَل، قال: سمعت عبد الله يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) ... إلى آخر الآية. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن الشعبيّ، عن سُتَيْر بن شَكَل، قال: سمعت عبد الله يقول: إن أجمع آية في القرآن لخير أو لشر، آية في سورة النحل ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ ) .... الآية. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ) ... الآية، إنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خُلق سيِّئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدّم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومَذامِّها. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( 91 ) يقول تعالى ذكره: وأوفوا بميثاق الله إذا واثقتموه، وعقده إذا عاقدتموه، فأوجبتم به على أنفسكم حقا لمن عاقدتموه به وواثقتموه عليه ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) يقول: ولا تخالفوا الأمر الذي تعاقدتم فيه الأيمان، يعني بعد ما شددتم الأيمان على أنفسكم، فتحنثوا في أيمانكم وتكذبوا فيها وتنقضوها بعد إبرامها، يقال منه: وكَّد فلان يمينه يوكدها توكيدًا: إذا شددها وهي لغة أهل الحجاز، وأما أهل نجد، فإنهم يقولون: أكدتها أؤكدها تأكيدا. وقوله ( وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ) يقول: وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم راعيًا يرعى الموفى منكم بعهد الله الذي عاهد على الوفاء به والناقض. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف بينهم فيمن عني بهذه الآية وفيما أنـزلت، فقال بعضهم: عُنِيَ بها الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وفيهم أنـزلت. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو ليلى، عن بريدة، قوله ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ) قال: أنـزلت هذه الآية في بيعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، كان من أسلم بايع على الإسلام، فقالوا ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ) هذه البَيعة التي بايعتم على الإسلام ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) البيعة، فلا يحملكم قلة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام، وإن كان فيهم قلة والمشركين فيهم كثرة. وقال آخرون: نـزلت في الحِلْف الذي كان أهل الشرك تحالفوا في الجاهلية، فأمرهم الله عزّ وجلّ في الإسلام أن يوفّوا به ولا ينقضوه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) قال: تغليظها في الحلف. حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) يقول: بعد تشديدها وتغليظها. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هؤلاء قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا وأعطى بعضهم العهد، فجاءهم قوم، فقالوا: نحن أكثر وأعزّ وأمنع، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ففعلوا، فذلك قول الله تعالى ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ) أن تكون أمة هي أربى من أمة، هي أربَى أكثر من أجل أن كان هؤلاء أكثر من أولئك، نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء، فكان هذا في هذا. حدثني ابن البَرقيّ، قال: ثنا ابن أبي مَريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: سألت يحيى بن سعيد، عن قول الله ( وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ) قال: العهود. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى أمر في هذه الآية عباده بالوفاء بعهوده التي يجعلونها على أنفسهم، ونهاهم عن نقض الأيمان بعد توكيدها على أنفسهم لآخرين بعقود تكون بينهم بحقّ مما لا يكرهه الله. وجائز أن تكون نـزلت في الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهيهم عن نقض بيعتهم حذرا من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، وأن تكون نـزلت في الذين أرادوا الانتقال بحلفهم عن حلفائهم لقلة عددهم في آخرين لكثرة عددهم، وجائز أن تكون في غير ذلك. ولا خبر تَثْبُت به الحجة أنها نـزلت في شيء من ذلك دون شيء ؛ ولا دلالة في كتاب ولا حجة عقل أيّ ذلك عُنِيَ بها، ولا قول في ذلك أولى بالحق مما قلنا لدلالة ظاهره عليه، وأن الآية كانت قد نـزلت لسبب من الأسباب، ويكون الحكم بها عامًّا في كلّ ما كان بمعنى السبب الذي نـزلت فيه. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ) قال: وكيلا. وقوله ( إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الناس يعلم ما تفعلون في العهود التي تعاهدون الله من الوفاء بها والأحلاف والأيمان التي تؤكدونها على أنفسكم، أتبرّون فيها أم تنقضونها وغير ذلك من أفعالكم، محص ذلك كله عليكم، وهو مسائلكم عنها وعما عملتم فيها، يقول: فاحذروا الله أن تلقوه وقد خالفتم فيها أمره ونهيه، فتستوجبوا بذلك منه ما لا قِبَل لكم به من أليم عقابه. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 92 ) يقول تعالى ذكره ناهيا عباده عن نقض الأيمان بعد توكيدها، وآمرًا بوفاء العهود، وممثلا ناقض ذلك بناقضة غزلها من بعد إبرامه وناكثته من بعد إحكامه: ولا تكونوا أيها الناس في نقضكم أيمانكم بعد توكيدها وإعطائكم الله بالوفاء بذلك العهود والمواثيق ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) يعني: من بعد إبرام. وكان بعض أهل العربية يقول: القوّة: ما غُزِل على طاقة واحدة ولم يثن. وقيل: إن التي كانت تفعل ذلك امرأة حمقاء معروفة بمكة. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال: خرقاء كانت بمكة تنقضه بعد ما تُبْرِمه. حدثنا المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن صدقة، عن السديّ ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) قال: هي خَرْقَاءُ بمكة كانت إذا أبرمت غزلها نقضته. وقال آخرون: إنما هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد، فشبهه بامرأة تفعل هذا الفعل. وقالوا في معنى نقضت غزلها من بعد قوة، نحوا مما قلنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم: ما أحمق هذه! وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال: غزلها: حبلها تنقضه بعد إبرامها إياه ولا تنتفع به بعد. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ) قال: نقضت حبلها من بعد إبرام قوّة. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا ) قال: هذا مثل ضربه الله لمن نقض العهد الذي يعطيه، ضرب الله هذا له مثلا بمثل التي غزلت ثم نقضت غزلها، فقد أعطاهم ثم رجع، فنكث العهد الذي أعطاهم. وقوله ( أَنْكَاثًا ) يعني: أنقاضا، وكلّ شيء نُقِض بعد الفتل فهو أنكاث، واحدها: نكْث حبلا كان ذلك أو غزلا يقال منه: نَكَث فلان هذا الحبل فهو ينكُثُه نكثا، والحبل منتكِث: إذا انتقضت قُواه. وإنما عني به في هذا الموضع نكث العهد والعقد. وقوله ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول تعالى ذكره: تجعلون أيمانكم التي تحلفون بها على أنكم موفون بالعهد لمن عاقدتموه ( دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يقول: خديعة وغرورا ليطمئنوا إليكم وأنتم مضمرون لهم الغدر وترك الوفاء بالعهد والنُّقلة عنهم إلى غيرهم من أجل أن غيرهم أكثر عددًا منهم. والدَّخَل في كلام العرب: كلّ أمر لم يكن صحيحًا، يقال منه: أنا أعلم دَخَل فلان ودُخْلُلَه وداخلة أمره ودخلته ودخيلته. وأما قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) فإن قوله أربى: أفعل من الربا، يقال: هذا أربى من هذا وأربأ منه، إذا كان أكثر منه ؛ ومنه قول الشاعر: وأسْــمَرَ خَــطِّيّ كــأنَّ كُعُوبَـهُ نَوى القسْبِ قد أرْبَى ذرَاعا على العَشْرِ وإنما يقال: أربى فلان من هذا وذلك للزيادة التي يزيدها على غريمه على رأس ماله. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول: أكثر. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول: ناس أكثر من ناس. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء ؛ وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) قال: كانوا يحالفون الحلفاء، فيجدون أكثر منهم وأعزّ، فينقضون حِلْف هؤلاء ، ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ منهم، فنهوا عن ذلك. حدثنا ابن المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وحدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يقول: خيانة وغدرا بينكم ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) أن يكون قوم أعزّ وأكثر من قوم. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا أبو ثور، عن مَعْمر، عن قتادة ( دَخَلا بَيْنَكُمْ ) قال: خيانة بينكم. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ) يغرّ بها، يعطيه العهد يؤمنه وينـزله من مأمنه، فتزلّ قدمه وهو في مأمن، ثم يعود يريد الغدر، قال: فأوّل بدو هذا قوم كانوا حلفاء لقوم تحالفوا ، وأعطى بعضهم بعضا العهد، فجاءهم قوم قالوا: نحن أكثر وأعزّ وأمنع، فانقضوا عهد هؤلاء وارجعوا إلينا ، ففعلوا، وذلك قول الله تعالى وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) هي أربى: أكثر من أجل أن كانوا هؤلاء أكثر من أولئك نقضتم العهد فيما بينكم وبين هؤلاء، فكان هذا في هذا، وكان الأمر الآخر في الذي يعاهده فينـزله من حِصْنه ثم ينكث عليه، الآية الأولى في هؤلاء القوم وهي مبدؤه، والأخرى في هذا. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله ( أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ) يقول: أكثر، يقول: فعليكم بوفاء العهد. وقوله ( إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ) يقول تعالى ذكره: إنما يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بعهد الله إذا عاهدتم، ليتبين المطيع منكم المنتهي إلى أمره ونهيه من العاصي المخالف أمره ونهيه ( وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) يقول تعالى ذكره: وليبينن لكم أيها الناس ربكم يوم القيامة إذا وردتم عليه بمجازاة كلّ فريق منكم على عمله في الدنيا، المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته، ( مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) والذي كانوا فيه يختلفون في الدنيا أن المؤمن بالله كان يقرّ بوحدانية الله ونبوّة نبيه، ويصدق بما ابتعث به أنبياءه، وكان يكذّب بذلك كله الكافر فذلك كان اختلافهم في الدنيا الذي وعد الله تعالى ذكره عباده أن يبينه لهم عند ورودهم عليه بما وصفنا من البيان. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 93 ) يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربكم أيها الناس للطف بكم بتوفية من عنده، فصرتم جميعًا جماعة واحدة ، وأهل ملة واحدة لا تختلفون ولا تفترقون ، ولكنه تعالى ذكره خالف بينكم ، فجعلكم أهل ملل شتى، بأن وفَّق هؤلاء للإيمان به ، والعمل بطاعته ، فكانوا مؤمنين، وخذل هؤلاء فحَرَمهم توفيقه فكانوا كافرين، وليسألنكم الله جميعا يوم القيامة عما كنتم تعملون في الدنيا فيما أمركم ونهاكم، ثم ليجازينكم جزاء المطيع منكم بطاعته ، والعاصي له بمعصيته. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 94 ) يقول تعالى ذكره: ولا تتخذوا أيمانكم بينكم دَخَلا وخديعة بينكم، تغزون بها الناس ( فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ) يقول: فتهلكوا بعد أن كنتم من الهلاك آمنين. وإنما هذا مثل لكل مبتلى بعد عافية، أو ساقطٍ في ورطة بعد سلامة، وما أشبه ذلك: ( زلَّت قدمه ) ، كما قال الشاعر: سـيَمْنَعُ مِنْـكَ السَّـبْقُ إنْ كُـنْتَ سابِقا وتُلْطَــعُ إنْ زَلَّــتْ بـكَ النَّعْـلانِ وقوله ( وَتَذُوقُوا السُّوءَ ) يقول: وتذوقوا أنتم السوء وذلك السوء: هو عذاب الله الذي يعذّب به أهل معاصيه في الدنيا، وذلك بعض ما عذّب به أهل الكفر ( بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) يقول: بما فَتنتم من أراد الإيمان بالله ورسوله عن الإيمان ( وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) في الآخرة، وذلك نار جهنم ، وهذه الآية تدلّ على أن تأويل بُرَيْدة الذي ذكرنا عنه ، في قوله وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ والآيات التي بعدها، أنه عُنِيَ بذلك : الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، عن مفارقة الإسلام لقلة أهله، وكثرة أهل الشرك هو الصواب، دون الذي قال مجاهد أنهم عنوا به، لأنه ليس في انتقال قوم تحالفوا عن حلفائهم إلى آخرين غيرهم ، صدّ عن سبيل الله ولا ضلال عن الهدى، وقد وصف تعالى ذكره في هذه الآية فاعِلِي ذلك ، أنهم باتخاذهم الأيمان دَخَلا بينهم ، ونقضهم الأيمان بعد توكيدها، صادّون عن سبيل الله، وأنهم أهل ضلال في التي قبلها، وهذه صفة أهل الكفر بالله لا صفة أهل النُّقْلة بالحلف عن قوم إلى قوم. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 95 ) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 96 ) يقول تعالى ذكره: ولا تنقضوا عهودكم أيها الناس ، وعقودكم التي عاقدتموها من عاقدتم مؤكِّديها بأيمانكم، تطلبون بنقضكم ذلك عرضًا من الدنيا قليلا ولكن أوفوا بعهد الله الذي أمركم بالوفاء به ، يثبكم الله على الوفاء به، فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك ، هو خير لكم إن كنتم تعلمون ، فضل ما بين العِوَضين اللذين أحدهما الثمن القليل ، الذي تشترون بنقض عهد الله في الدنيا ، والآخر الثواب الجزيل في الآخرة على الوفاء به ، ثم بين تعالى ذكره فرْق ما بين العِوَضين وفضل ما بين الثوابين، فقال: ما عندكم أيها الناس مما تتملكونه في الدنيا ، وإن كَثُر فنافدٌ فان، وما عند الله لمن أوفى بعهده وأطاعه من الخيرات باق غير فانٍ، فلما عنده فاعملوا وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا. وقوله ( وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يقول تعالى ذكره: وليثيبنّ الله الذين صبروا على طاعتهم إياه في السّراء والضرّاء، ثوابهم يوم القيامة على صبرهم عليها ، ومسارعتهم في رضاه، بأحسن ما كانوا يعملُون من الأعمال دون أسوئها، وليغفرنّ الله لهم سيئها بفضله. القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 97 ) يقول تعالى ذكره: من عمل بطاعة الله، وأوفى بعهود الله إذا عاهد من ذكر أو أنثى من بني آدم وهو مؤمن: يقول : وهو مصدّق بثواب الله الذي وعد أهل طاعته على الطاعة، وبوعيد أهل معصيته على المعصية ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) . واختلف أهل التأويل في الذي عَنى الله بالحياة الطيبة التي وعد هؤلاء القوم أن يُحْيِيَهموها، فقال بعضهم: عنى أنه يحييهم في الدنيا ما عاشوا فيها بالرزق الحلال. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سَمِيع عن أبي مالك وأبي الربيع، عن ابن عباس، بنحوه. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن أبي الربيع، عن ابن عباس، في قوله ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: الرزق الحسن في الدنيا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع، عن ابن عباس ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: الرزق الطيب في الدنيا. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) يعني في الدنيا. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن عيينة، عن مطرف، عن الضحاك ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: الرزق الطيب الحلال. حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا عون بن سلام القرشيّ، قال: أخبرنا بشر بن عُمارة، عن أبي رَوُق، عن الضحاك، في قوله ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: يأكل حلالا ويلبس حلالا. وقال آخرون ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) بأن نرزقه القناعة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن يمان، عن المنهال بن خليفة، عن أبي خزيمة سليمان التمَّار، عمن ذكره عن عليّ ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: القنوع. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو عصام، عن أبي سعيد، عن الحسن البصريّ، قال: الحياة الطيبة: القناعة. وقال آخرون: بل يعني بالحياة الطيبة الحياة مؤمنًا بالله عاملا بطاعته. ذكر من قال ذلك : حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) يقول: من عمل عملا صالحًا وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة، فحياته طيبة، ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل صالحًا، عيشته ضنكة لا خير فيها. وقال آخرون: الحياة الطيبة السعادة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى وعليّ بن داود، قالا ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: السعادة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: الحياة في الجنة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هَوْذة، عن عوف، عن الحسن ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: لا تطيب لأحد حياة دون الجنة. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الحسن ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) فإن الله لا يشاء عملا إلا في إخلاص، ويوجب عمل ذلك في إيمان، قال الله تعالى ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) وهي الجنة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: الآخرة يحييهم حياة طيبة في الآخرة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) قال: الحياة الطيبة في الآخرة: هي الجنة، تلك الحياة الطيبة، قال ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) وقال: ألا تراه يقول يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي قال: هذه آخرته. وقرأ أيضًا وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ قال: الآخرة دار حياة لأهل النار وأهل الجنة، ليس فيها موت لأحد من الفريقين. حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) قال: الإيمان: الإخلاص لله وحده، فبين أنه لا يقبل عملا إلا بالإخلاص له. وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: فلنحيينه حياة طيبة بالقناعة ، وذلك أن من قنعه الله بما قسم له من رزق لم يكثر للدنيا تعبه ، ولم يعظم فيها نَصَبه ولم يتكدّر فيها عيشه باتباعه بغية ما فاته منها وحرصه على ما لعله لا يدركه فيها. وإنما قلت ذلك أولى التأويلات في ذلك بالآية ، لأن الله تعالى ذكره أوعد قوما قبلها على معصيتهم إياه إن عصوه أذاقهم السوء في الدنيا ، والعذاب في الآخرة، فقال تعالى وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فهذا لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، فهذا لهم في الآخرة. ثم أتبع ذلك لمَن أوفى بعهد الله وأطاعه فقال تعالى: ما عندكم في الدنيا ينفد، وما عند الله باق، فالذي هذه السيئة بحكمته أن يعقب ذلك الوعد لأهل طاعته بالإحسان في الدنيا، والغفران في الآخرة، وكذلك فَعَلَ تعالى ذكره. وأما القول الذي رُوي عن ابن عباس أنه الرزق الحلال، فهو مُحْتَمَل أن يكون معناه الذي قلنا في ذلك، من أنه تعالى يقنعه في الدنيا بالذي يرزقه من الحلال ، وإن قلّ فلا تدعوه نفسه إلى الكثير منه من غير حله. لا أنه يرزقه الكثير من الحلال، وذلك أن أكثر العاملين لله تعالى بما يرضاه من الأعمال لم نرهم رُزِقوا الرزق الكثير من الحلال في الدنيا، ووجدنا ضيق العيش عليهم أغلب من السعة. وقوله ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فذلك لا شك أنه في الآخرة . وكذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي مالك، عن ابن عباس ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) قال: إذا صاروا إلى الله جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سَمِيع، عن أبي مالك، وأبي الربيع، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع، عن ابن عباس ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ ) قال: في الآخرة. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي الربيع، عن ابن عباس، مثله. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) يقول: يجزيهم أجرهم في الآخرة بأحسن ما كانوا يعملون. وقيل: إن هذه الآية نـزلت بسبب قوم من أهل مِلَل شتى تفاخروا، فقال أهل كلّ ملة منها: نحن أفضل، فبين الله لهم أفضل أهل الملل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يعلى بن عبيد، عن إسماعيل، عن أبي صالح، قال: جلس ناس من أهل الأوثان وأهل التوراة وأهل الإنجيل، فقال هؤلاء: نحن أفضل ، وقال هؤلاء: نحن أفضل ، فأنـزل الله تعالى ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) . القول في تأويل قوله تعالى : فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( 98 ) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 99 ) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ( 100 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا كنت يا محمد قارئًا القرآن، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. وكان بعض أهل العربية يزعم أنه من المؤخر الذي معناه التقديم. وكان معنى الكلام عنده: وإذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم، فاقرأ القرآن ، ولا وجه لما قال من ذلك، لأن ذلك لو كان كذلك لكان متى استعاذ مستعيذ من الشيطان الرجيم لزمه أن يقرأ القرآن، ولكن معناه ما وصفناه ، وليس قوله ( فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) بالأمر اللازم، وإنما هو إعلام وندب . وذلك أنه لا خلاف بين الجميع ، أن من قرأ القرآن ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم . قبل قرأته أو بعدها أنه لم يضيع فرضا واجبا. وكان ابن زيد يقول في ذلك نحو الذي قلنا. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) قال: فهذا دليل من الله تعالى دلّ عباده عليه. وأما قوله ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) فإنه يعني بذلك: أن الشيطان ليست له حجة على الذين آمنوا بالله ورسوله ، وعملوا بما أمر الله به وانتهوا عما نهاهم الله عنه ( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) يقول: وعلى ربهم يتوكلون فيما نابهم من مهمات أمورهم ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ) يقول: إنما حجته على الذين يعبدونه، ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) يقول: والذين هم بالله مشركون. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ ) قال: حجته. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ) قال: يطيعونه. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله لم يسلط فيه الشيطان على المؤمن. فقال بعضهم بما حُدّثت عن واقد بن سليمان، عن سفيان، في قوله ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر. وقال آخرون: هو الاستعاذة، فإنه إذا استعاذ بالله منع منه ، ولم يسلط عليه ، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الله تعالى: وَإِمَّا يَنْـزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَـزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة الحِجْر. وقال آخرون في ذلك، بما حدثني به المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) إلى قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) يقال: إن عدوّ الله إبليس قال لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فهؤلاء الذين لم يجعل للشيطان عليهم سبيل، وإنما سلطانه على قوم اتخذوه وليا ، وأشركوه في أعمالهم. حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) يقول: السلطان على من تولى الشيطان وعمل بمعصية الله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ) يقول: الذين يطيعونه ويعبدونه. وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا فاستعاذوا بالله منه، بما ندب الله تعالى ذكره من الاستعاذة ( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) على ما عرض لهم من خطراته ووساوسه. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية ، لأن الله تعالى ذكره أتبع هذا القول ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) وقال في موضع آخر: وَإِمَّا يَنْـزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَـزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فكان بينا بذلك أنه إنما ندب عباده إلى الاستعاذة منه في هذه الأحوال ليُعيذهم من سلطانه. وأما قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم فيه بما قلنا إن معناه: والذين هم بالله مشركون. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) قال: يعدلون بربّ العالمين. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) قال: يعدلون بالله. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: ثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) عدلوا إبليس بربهم، فإنهم بالله مشركون. وقال آخرون: معنى ذلك: والذين هم به مشركون، أشركوا الشيطان في أعمالهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) أشركوه في أعمالهم. والقول الأوّل، أعني قول مجاهد، أولى القولين في ذلك بالصواب ، وذلك أن الذين يتولون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم، لا أنهم يشركون بالشيطان. ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع، لكان التنـزيل: الذين هم مشركوه، ولم يكن في الكلام به ، فكان يكون لو كان التنـزيل كذلك ، والذين هم مشركوه في أعمالهم، إلا أن يوجه موجه معنى الكلام ، إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهة الشيطان ، ويشركون الله به في عبادتهم إياه، فيصحّ حينئذ معنى الكلام، ويخرج عما جاء التنـزيل به في سائر القرآن ، وذلك أن الله تعالى وصف المشركين في سائر سور القرآن أنهم أشركوا بالله ، ما لم ينـزل به عليهم سلطانا، وقال في كلّ موضع تقدّم إليهم بالزجر عن ذلك ، لا تشركوا بالله شيئا، ولم نجد في شيء من التنـزيل: لا تشركوا الله بشيء، ولا في شيء من القرآن. خبرا من الله عنهم أنهم أشركوا الله بشيء فيجوز لنا توجيه معنى قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) إلى والذين هم بالشيطان مشركو الله. فبين إذًا إذ كان ذلك كذلك ، أن الهاء في قوله ( وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ ) عائدة على الربّ في قوله ( وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) . القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 101 ) يقول تعالى ذكره: وإذا نسخنا حكم آية ، فأبدلنا مكانه حكم أخرى، والله أعلم بما ينـزل : يقول: والله أعلم بالذي هو أصلح لخلقه فيما يبدِّل ويغير من أحكامه، قالوا: إنما أنت مفتر يقول: قال المشركون بالله ، المكذبو رسوله لرسوله: إنما أنت يا محمد مفتر: أي مكذب تخرص بتقوّل الباطل على الله ، يقول الله تعالى بل أكثر هؤلاء القائلين لك يا محمد: إنما أنت مفتر جهال ، بأنّ الذي تأتيهم به من عند الله ناسخه ومنسوخه ، لا يعلمون حقيقة صحته. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) رفعناها فأنـزلنا غيرها. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) قال: نسخناها، بدّلناها، رفعناها، وأثبتنا غيرها. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) هو كقوله مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ ) قالوا: إنما أنت مفتر، تأتي بشيء وتنقضه، فتأتي بغيره. قال: وهذا التبديل ناسخ، ولا نبدل آية مكان آية إلا بنسخ. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( 102 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للقائلين لك إنما أنت مفتر فيما تتلو عليهم من آي كتابنا ، أنـزله روح القُدُس : يقول: قل جاء به جَبرئيل من عند ربي بالحقّ. وقد بيَّنت في غير هذا الموضع معنى: روح القُدس، بما أغنى عن إعادته. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الأعلى بن واصل، قال: ثنا جعفر بن عون العمَريّ، عن موسى بن عبيدة الرَّبَذيّ، عن محمد بن كعب، قال: روح القُدُس: جبرئيل. وقوله ( لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ) يقول تعالى ذكره: قل نـزل هذا القرآن ناسخه ومنسوخه ، روح القدس عليّ من ربي، تثبيتا للمؤمنين ، وتقوية لإيمانهم، ليزدادوا بتصديقهم لناسخه ومنسوخه إيمانا لإيمانهم ، وهدى لهم من الضلالة، وبُشرى للمسلمين الذين استسلموا لأمر الله ، وانقادوا لأمره ونهيه ، وما أنـزله في آي كتابه، فأقرّوا بكل ذلك ،وصدقوا به قولا وعملا. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ( 103 ) يقول تعالى ذكره: ولقد نعلم أن هؤلاء المشركين يقولون جهلا منهم: إنما يعلم محمدا هذا الذي يتلوه بشر من بني آدم، وما هو من عند الله ، يقول الله تعالى ذكره مكذّبهم في قيلهم ذلك: ألا تعلمون كذب ما تقولون ، إن لسان الذي تلحدون إليه: يقول: تميلون إليه بأنه يعلم محمدا أعجميّ ، وذلك أنهم فيما ذُكر كانوا يزعمون أن الذي يعلِّم محمدا هذا القرآن عبد روميّ، فلذلك قال تعالى ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) يقول: وهذا القرآن لسان عربيّ مبين. وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في اسم الذي كان المشركون يزعمون أنه يعلِّم محمدا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن من البشر، فقال بعضهم: كان اسمه بَلْعام، وكان قَينا بمكة نصرانيا. ذكر من قال ذلك: حدثني أحمد بن محمد الطُّوسِيّ، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا إبراهيم بن طَهْمان، عن مسلم بن عبد الله المَلائي، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّم قينا بمكة، وكان أعجميّ اللسان، وكان اسمه بَلْعام، فكان المشركون يَرَوْن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يدخل عليه ، وحين يخرج من عنده، فقالوا: إنما يعلِّمه بلعام ، فأنـزل الله تعالى ذكره ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) . وقال آخرون: اسمه يعيش. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن عكرمة، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقرئ غلامًا لبني المغيرة أعجميا ، قال سفيان: أراه يقال له: يَعِيش ، قال: فذلك قوله ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) وقد قالت قريش: إنما يعلمه بشر، عبد لبني الحَضْرميّ يقال له يعيش، قال الله تعالى: ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) وكان يعيش يقرأ الكُتُب. وقال آخرون: بل كان اسمه جَبْر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرًا ما يجلس عند المَرْوَة إلى غلام نصراني يقال له جَبْر، عبد لبني بياضة الحَضْرَمِيّ، فكانوا يقولون: والله ما يعلِّم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جَبْرٌ النصرانيُّ غلام الحضرميّ ، فأنـزل الله تعالى في قولهم ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) . حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عبد الله بن كثير: كانوا يقولون: إنما يعلمه نصرانيّ على المَرْوة، ويعلم محمدا رُوميّ يقولون اسمه جَبْر وكان صاحب كُتُب عبد لابن الحضرميّ، قال الله تعالى ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) . وقال آخرون: بل كانا غلامين اسم أحدهما يسار والآخر جَبْر. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حُصَيْن، عن عبد الله بن مسلم الحضرميّ: أنه كان لهم عبدان من أهل عير اليمن، وكانا طفلين، وكان يُقال لأحدهما يسار ، والآخر جبر، فكانا يقرآن التوراة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما جلس إليهما، فقال كفار قريش: إنما يجلس إليهما يتعلم منهما، فأنـزل الله تعالى ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) . حدثني المثنى، قال: ثنا معن بن أسد، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن حصين، عن عبد الله بن مسلم الحضرميّ، نحوه. حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا ابن فضيل، عن حصين، عن عبد الله بن مسلم، قال: كان لنا غلامان فكان يقرآن كتابًا لهما بلسانهما، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يمرّ عليهما، فيقوم يستمع منهما، فقال المشركون: يتعلم منهما، فأنـزل الله تعالى ما كذّبهم به، فقال: ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) وقال آخرون: بل كان ذلك سَلْمان الفارسي. ذكر من قال ذلك : حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ) كانوا يقولون: إنما يعلِّمه سَلْمان الفارسي. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حُذيفة، قال: ثنا شبل وحدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) قال: قول كفار قريش: إنما يعلِّم محمدا عبدُ ابن الحضرميّ، وهو صاحب كتاب، يقول الله: ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) . وقيل: إن الذي قال ذلك رجل كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ عن الإسلام. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب: أن الذي ذكر الله إنما يعلمه بشر ، إنما افتتن إنه كان يكتب الوحي، فكان يملي عليه رسول الله صلى اللهعليه وسلم : سَمِيعٌ عَلِيمٌ أو عَزِيزٌ حَكِيمٌ وغير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الوحي، فيستفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: أعزيز حكيم، أو سميع عليم، أو عزيز عليم؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ ذلك كتبت فهو كذلك ، ففتنه ذلك، فقال: إن محمدا يكل ذلك إليّ، فأكتب ما شئت ، وهو الذي ذكر في سعيد بن المسيب من الحروف السبعة. واختلف القرّاء في قراءة قوله ( يُلْحِدُونَ ) فقرأته عامَّة قرّاء المدينة والبصرة ( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ ) بضم الياء من ألحد يلحد إلحادا، بمعنى يعترضون ، ويعدلون إليه ، ويعرجون إليه ، من قول الشاعر: قُـدْنِيَ مِـنْ نَصْـرِ الخـبَيْبَيْنِ قَـدِي لَيْسَ أمــيرِي بالشَّــحيحِ المُلْحِــدِ وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة: ( لِسَانُ الَّذِي يَلْحِدُونَ إلَيْهِ ) بفتح الياء، يعني: يميلون إليه، من لحد فلان إلى هذا الأمر يلحد لحدا ولحودا ، وهما عندي لغتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب فيهما الصواب. وقيل ( وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) يعني: القرآن كما تقول العرب لقصيدة من الشعر يعرضها الشاعر: هذا لسان فلان، تريد قصيدته ؛ كما قال الشاعر: لِســانُ السُّــوءِ تُهْدِيهــا إلَيْنَــا وحِــنْتَ وَمــا حَسِـبْتُكَ أنْ تَحِينـا يعني باللسان القصيدة والكلمة . القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 104 ) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ( 105 ) يقول تعالى إن الذين لا يؤمنون بحجج الله وأدلته ، فيصدّقون بما دلَّت عليه لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ يقول: لا يوفقهم الله لإصابة الحقّ ، ولا يهديهم لسبيل الرشد في الدنيا، ولهم في الآخرة وعند الله إذا وردوا عليه يوم القيامة عذاب مؤلم موجع. ثم أخبر تعالى ذكره المشركين الذين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مفتر، أنهم هم أهل الفرية والكذب، لا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنون به، وبرأ من ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال: إنما يتخرّص الكذب ، ويتقوّل الباطل، الذين لا يصدّقون بحجج الله وإعلامه ، لأنهم لا يرجون على الصدق ثوابا ، ولا يخافون على الكذب عقابا، فهم أهل الإفك وافتراء الكذب، لا من كان راجيا من الله على الصدق الثواب الجزيل، وخائفا على الكذب العقاب الأليم. وقوله ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) يقول: والذين لا يؤمنون بآيات الله هم أهل الكذب لا المؤمنون. القول في تأويل قوله تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 106 ) اختلف أهل العربية في العامل في « مَنْ » من قوله ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ) ومن قوله ( وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ) ، فقال بعض نحويي البصرة: صار قوله ( فَعَلَيْهِمْ ) خبرًا لقوله ( وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ) ، وقوله ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ ) فأخبر لهم بخبر واحد، وكان ذلك يدلّ على المعنى. وقال بعض نحويي الكوفة: إنما هذان جزءان اجتمعا، أحدهما منعقد بالآخر، فجوابهما واحد كقول القائل: من يأتنا فمن يحسن نكرمه، بمعنى: من يحسن ممن يأتنا نكرمه. قال : وكذلك كلّ جزاءين اجتمعا الثاني منعقد بالأوّل، فالجواب لهما واحد . وقال آخر من أهل البصرة: بل قوله ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ ) مرفوع بالردّ على الذين في قوله إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ومعنى الكلام عنده: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره من هؤلاء وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، وهذا قول لا وجه له . وذلك أن معنى الكلام لو كان كما قال قائل هذا القول، لكان الله تعالى ذكره قد أخرج ممن افترى الكذب في هذه الآية الذين وُلدوا على الكفر وأقاموا عليه ، ولم يؤمنوا قطّ، وخصّ به الذين قد كانوا آمنوا في حال، ثم راجعوا الكفر بعد الإيمان ، والتنـزيل يدلّ على أنه لم يخصص بذلك هؤلاء دون سائر المشركين الذين كانوا على الشرك مقيمين، وذلك أنه تعالى أخبر خبر قوم منهم أضافوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم افتراء الكذب، فقال: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَـزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وكذّب جميع المشركين بافترائهم على الله وأخبر أنهم أحق بهذه الصفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ، ولو كان الذين عنوا بهذه الآية هم الذين كفروا بالله من بعد إيمانهم، وجب أن يكون القائلون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما أنت مفتر حين بدّل الله آية مكان آية، كانوا هم الذين كفروا بالله بعد الإيمان خاصة دون غيرهم من سائر المشركين ، لأن هذه في سياق الخبر عنهم، وذلك قول إن قاله قائل ، فبين فساده مع خروجه عن تأويل جميع أهل العلم بالتأويل. والصواب من القول في ذلك عندي أن الرافع لمن الأولى والثانية، قوله ( فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ) والعرب تفعل ذلك في حروف الجزاء إذا استأنفت أحدهما على آخر. وذكر أن هذه الآية نـزلت في عمار بن ياسر وقوم كانوا أسلموا ففتنهم المشركون عن دينهم، فثبت على الإسلام بعضهم ، وافتتن بعض. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمى، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) ... إلى آخر الآية ، وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذّبوه، ثم تركوه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدّثه بالذي لقي من قريش ، والذي قال: فأنـزل الله تعالى ذكره عذره ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ ) ... إلى قوله ( وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) قال: ذُكِر لنا أنها نـزلت في عمار بن ياسر، أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر ميمون وقالوا: اكفر بمحمد ، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره، فأنـزل لله تعالى ذكره ( إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ) : أي من أتى الكفر على اختيار واستحباب، ( فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) . حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ تَجدُ قَلْبَكَ؟ قال: مطمئنا بالإيمان. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: « فإنْ عادُوا فَعُدْ » . حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، في قوله ( إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) قال: نـزلت في عمار بن ياسر. حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي ، قال: لما عذّب الأعبد أعطوهم ما سألوا إلا خباب بن الأرت، كانوا يضجعونه على الرضف فلم يستقلوا منه شيئا. فتأويل الكلام إذن: من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره على الكفر ، فنطق بكلمة الكفر بلسانه وقلبه مطمئنّ بالإيمان، موقن بحقيقته ، صحيح عليه عزمه ، غير مفسوح الصدر بالكفر ، لكن من شرح بالكفر صدرا فاختاره وآثره على الإيمان ، وباح به طائعا، فعليهم غضب من الله ، ولهم عذاب عظيم. وبنحو الذي قلنا في ذلك ورد الخبر ، عن ابن عباس. حدثني عليّ بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله ( إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ) فأخبر الله سبحانه أنه من كفر من بعد إيمانه، فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم ، فأما من أكره فتكلم به لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه، فلا حرج عليه، لأن الله سبحانه إنما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم. القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 107 ) يقول تعالى ذكره: حلّ بهؤلاء المشركين غضب الله ، ووجب لهم العذاب العظيم، من أجل أنهم اختاروا زينة الحياة الدنيا على نعيم الآخرة، ولأن الله لا يوفق القوم الذين يجحدون آياته مع إصرارهم على جحودها. القول في تأويل قوله تعالى : أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ( 108 ) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 109 ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء المشركون الذين وصفت لكم صفتهم في هذه الآيات أيها الناس، هم القوم الذين طبع الله على قلوبهم، فختم عليها بطابعه، فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصمّ أسماعهم فلا يسمعون داعي الله إلى الهدى، وأعمى أبصارهم فلا يبصرون بها حجج الله إبصار معتبر ومتعظ ( وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) يقول: وهؤلاء الذين جعل الله فيهم هذه الأفعال هم الساهون ، عما أعدّ الله لأمثالهم من أهل الكفر وعما يراد بهم. وقوله ( لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) الهالكون، الذين غَبَنوا أنفسهم حظوظها من كرامة الله تعالى. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 110 ) يقول تعالى ذكره: ثم إن ربك يا محمد للذين هاجروا من ديارهم ومساكنهم وعشائرهم من المشركين، وانتقلوا عنهم إلى ديار أهل الإسلام ومساكنهم وأهل ولايتهم ، من بعد ما فتنهم المشركون الذين كانوا بين أظهرهم قبل هجرتهم عن دينهم ، ثم جاهدوا المشركين بعد ذلك بأيديهم بالسيف وبألسنتهم بالبراءة منهم ، ومما يعبدون من دون الله ، وصبروا على جهادهم ( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول: إن ربك من بعد فعلتهم هذه لهم لغفور ، يقول: لذو ستر على ما كان منهم من إعطاء المشركين ما أرادوا منهم من كلمة الكفر بألسنتهم ، وهم لغيرها مضمرون ، وللإيمان معتقدون ، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها مع إنابتهم إلى الله وتوبتهم . وذكر عن بعض أهل التأويل أن هذه الآية نـزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا تخلَّفوا بمكة بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فاشتدّ المشركون عليهم حتى فتنوهم عن دينهم ، فأيسوا من التوبة ، فأنـزل الله فيهم هذه الآية : فهاجروا ولحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو ، قال ثنا أبو عاصم ، قال ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال ثنا الحسن ، قال ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ قال ناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، أن هاجروا ، فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة ، فأدركتهم قريش بالطريق ، ففتنوهم وكفروا مكرهين ، ففيهم نـزلت هذه الآية. حدثني القاسم ، قال: ثنا الحسين ، قال: ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه. قال ابن جريج: قال الله تعالى ذكره: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ ثم نسخ واستثنى ، فقال: ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) . حدثنا بشر ، قال: ثنا يزيد ، قال: ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) ذكر لنا أنه لما أنـزل الله أن أهل مكة لا يُقبل منهم إسلام حتى يهاجروا ، كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة ؛ فلما جاءهم ذلك تبايعوا بينهم على أن يخرجوا ، فإن لحق بهم المشركون ، من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله ، فخرجوا فأدركهم المشركون ، فقاتلوهم ، فمنهم من قُتِل ، ومنهم من نجا ، فأنـزل الله تعالى ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ) ... الآية. حدثنا أحمد بن منصور ، قال ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال ثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم ، وقُتِل بعض ، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنـزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ ... إلى آخر الآية ؛ قال: وكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين هذه الآية لا عذر لهم ، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة ، فنـزلت هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ... إلى آخر الآية ، فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فخرجوا وأيسوا من كلّ خير ، ثم نـزلت فيهم ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) فكتبوا إليهم بذلك: إن الله قد جعل لكم مخرجا ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، ثم نجا من نجا ، وقُتِل من قُتِل. حدثنا ابن حميد ، قال: ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال: نـزلت هذه الآية في عمَّار ابن ياسر وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا ) . وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في شأن ابن أبي سرح. ذكر من قال ذلك: حدثني ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري، قالا في سورة النحل مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ثم نسخ واستثنى من ذلك، فقال ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزلَّه الشيطان، فلحق بالكفار، فأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُقتل يوم فتح مكة، فاستجار له أبو عمرو فأجاره النبيّ صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله تعالى : يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 111 ) يقول تعالى ذكره: إن ربك من بعدها لغفور رحيم ( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ ) تخاصم عن نفسها، وتحتجّ عنها بما أسلفت في الدنيا من خير أو شرّ أو إيمان أو كفر ، ( وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ ) في الدنيا من طاعة ومعصية ( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) : يقول: وهم لا يفعل بهم إلا ما يستحقونه ويستوجبونه بما قدّموه من خير أو شرّ، فلا يجزى المحسن إلا بالإحسان ولا المسيء إلا بالذي أسلف من الإساءة، لا يعاقب محسن ولا يبخس جزاء إحسانه، ولا يثاب مسيء إلا ثواب عمله. واختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله قيل تجادل ، فأنَّث الكلّ، فقال بعض نحويِّي البصرة: قيل ذلك لأن معنى كلّ نفس: كلّ إنسان، وأنث لأن النفس تذكر وتؤنث، يقال: ما جاءني نفس واحد وواحدة. وكان بعض أهل العربية يرى هذا القول من قائله غلطا ويقول: كلّ إذا أضيفت إلى نكرة واحدة خرج الفعل على قدر النكرة ، كلّ امرأة قائمة، وكل رجل قائم، وكل امرأتين قائمتان ، وكل رجلين قائمان، وكل نساء قائمات، وكل رجال قائمون، فيخرج على عدد النكرة وتأنيثها وتذكيرها، ولا حاجة به إلى تأنيث النفس وتذكيرها. القول في تأويل قوله تعالى : وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( 112 ) يقول الله تعالى ذكره: ومثل الله مثلا لمكة التي سكنها أهل الشرك بالله هي القرية التي كانت آمنة مطمئنة ، وكان أمنها أن العرب كانت تتعادى ، ويقتل بعضها بعضا ، ويَسْبي بعضها بعضا، وأهل مكة لا يغار عليهم ، ولا يحارَبون في بلدهم، فذلك كان أمنها. وقوله ( مُطْمَئِنَّةً ) يعني: قارّة بأهلها، لا يحتاج أهلها إلى النَّجْع ، كما كان سكان البوادي يحتاجون إليها ( يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا ) يقول: يأتي أهلها معايشهم واسعة كثيرة. وقوله ( مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) يعني: من كلّ فجّ من فِجاج هذه القرية ، ومن كلّ ناحية فيها. وبنحو الذي قلنا في أن القرية التي ذُكِرت في هذا الموضع أريد بها مكة ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ) يعني: مكة. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ) قال: مكة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد. مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ) قال: ذّكر لنا أنها مكة. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة ( قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً ) قال: هي مكة. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ) ... إلى آخر الآية. قال: هذه مكة. وقال آخرون: بل القرية التي ذكر الله في هذا الموضع مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: ثني عبد الرحمن بن شريح، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرميّ، حدث أنه سمع مِشْرَح بن عاهانَ، يقول: سمعت سليم بن نمير يقول: صدرنا من الحجّ مع حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعثمان محصور بالمدينة ، فكانت تسأل عنه ما فعل، حتى رأت راكبين، فأرسلت إليهما تسألهما، فقالا قُتِل فقالت حفصة: والذي نفسي بيده إنها القرية، تعني المدينة التي قال الله تعالى ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ) قرأها ، قال أبو شريح: وأخبرني عبد الله بن المغيرة عمن حدثه، أنه كان يقول: إنها المدينة ، وقوله: ( فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ) يقول: فكفر أهل هذه القرية بأنعم الله التي أنعم عليها. واختلف أهل العربية في واحد الأنعم ، فقال بعض نحويِّي البصرة: جمع النعمة على أنعم، كما قال الله حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ فزعم أنه جمع الشِّدّة. وقال آخر منهم الواحد نُعْم، وقال: يقال: أيام طُعْم ونعم: أي نعيم، قال: فيجوز أن يكون معناها: فكفرت بنعيم الله لها. واستشهد على ذلك بقول الشاعر: وعنـدي قُـرُوضُ الخَـيرِ والشَّرّ كلِّه فبُــؤْسٌ لِـذي بُـؤْسٍ ونُعْـمٍ بـأنْعُمِ وكان بعض أهل الكوفة يقول: أنعم: جمع نعماء، مثل بأساء وأبؤس، وضرّاء وأضرّ ؛ فأما الأشدّ فإنه زعم أنه جمع شَدّ. وقوله ( فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ) يقول تعالى ذكره: فأذاق الله أهل هذه القرية لباس الجوع ، وذلك جوع خالط أذاه أجسامهم، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لمخالطته أجسامهم بمنـزلة اللباس لها. وذلك أنهم سلط عليهم الجوع سنين متوالية بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أكلوا العلهز والجِيَف. قال أبو جعفر: والعلهز: الوبر يعجن بالدم والقُراد يأكلونه ؛ وأما الخوف فإن ذلك كان خوفهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت تطيف بهم. وقوله ( بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) يقول: بما كانوا يصنعون من الكفر بأنعم الله، ويجحدون آياته، ويكذّبون رسوله ، وقال: بما كانوا يصنعون ، وقد جرى الكلام من ابتداء الآية إلى هذا الموضع على وجه الخبر عن القرية، لأن الخبر وإن كان جرى في الكلام عن القرية ، استغناء بذكرها عن ذكر أهلها لمعرفة السامعين بالمراد منها، فإن المراد أهلها فلذلك قيل ( بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) فردّ الخبر إلى أهل القرية، وذلك نظير قوله فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ولم يقل قائلة، وقد قال قبله فَجَاءَهَا بَأْسُنَا ، لأنه رجع بالخبر إلى الإخبار عن أهل القرية ، ونظائر ذلك في القرآن كثيرة. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ( 113 ) يقول تعالى ذكره: ولقد جاء أهل هذه القرية التي وصف الله صفتها في هذه الآية التي قبل هذه الآية ( رَسُولٌ مِنْهُمْ ) يقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، يقول: من أنفسهم يعرفونه ، ويعرفون نسبه وصدق لهجته، يدعوهم إلى الحقّ ، وإلى طريق مستقيم ( فَكَذَّبُوهُ ) ولم يقبلوا ما جاءهم به من عند الله ( فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ) وذلك لباس الجوع والخوف مكان الأمن والطمأنينة والرزق الواسع الذي كان قبل ذلك يرزقونه، وقتل بالسيف ( وَهُمْ ظَالِمُونَ ) يقول: وهم مشركون، وذلك أنه قتل عظماؤهم يوم بدر بالسيف على الشرك. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ) إي والله، يعرفون نسبه وأمره ، ( فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) ، فأخذهم الله بالجوع والخوف والقتل. القول في تأويل قوله تعالى : فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 114 ) يقول تعالى ذكره: فكلوا أيها الناس مما رزقكم الله من بهائم الأنعام التي أحلها لكم حلالا طيبا مُذَكَّاة غير محرّمة عليكم ( وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ ) يقول: واشكروا الله على نعمه التي أنعم بها عليكم في تحليله ما أحلّ لكم من ذلك، وعلى غير ذلك من نعمه ( إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) يقول: إن كنتم تعبدون الله، فتطيعونه فيما يأمركم وينهاكم. وكان بعضهم يقول: إنما عنى بقوله ( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا ) طعامًا كان بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين من قومه في سِنِي الجدب والقحط رقة عليهم، فقال الله تعالى للمشركين: فكلوا مما رزقكم الله من هذا الذي بعث به إليكم حلالا طيبا ، وذلك تأويل بعيد مما يدلّ عليه ظاهر التنـزيل، وذلك أن الله تعالى قد أتبع ذلك بقوله: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ... الآية والتي بعدها، فبين بذلك أن قوله ( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا ) إعلام من الله عباده أن ما كان المشركون يحرّمونه من البحائر والسوائب والوصائل ، وغير ذلك مما قد بيَّنا قبل فيما مضى لا معنى له، إذ كان ذلك من خطوات الشيطان، فإن كلّ ذلك حلال لم يحرم الله منه شيئا. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 115 ) يقول تعالى ذكره مكذّبًا المشركين الذين كانوا يحرّمون ما ذكرنا من البحائر وغير ذلك: ما حرّم الله عليكم أيها الناس إلا الميتة والدم ولحم الخنـزير ، وما ذبح للأنصاب ، فسمي عليه غير الله ، لأن ذلك من ذبائح من لا يحلّ أكل ذبيحته، فمن اضطرّ إلى ذلك أو إلى شيء منه لمجاعة حلَّت فأكله ( غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يقول: ذو ستر عليه أن يؤاخذه بأكله ذلك في حال الضرورة، رحيم به أن يعاقبه عليه. وقد بيَّنا اختلاف المختلفين في قوله ( غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ ) والصواب عندنا من القول في ذلك بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) ... الآية قال: وإن الإسلام دين يطهره الله من كلّ سوء، وجعل لك فيه يا ابن آدم سعة إذا اضطرت إلى شيء من ذلك. قوله ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ ) غير باغ في أكله ولا عاد أن يتعدّى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مندوحة. القول في تأويل قوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ( 116 ) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 117 ) اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الحجاز والعراق ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ) فتكون تصف الكذب، بمعنى: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب، فتكون « ما » بمعنى المصدر. وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبِ ) هذا بخفض الكذب، بمعنى: ولا تقولوا للكذب الذي تصفه ألسنتكم ( هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ) فيجعل الكذب ترجمة عن « ما » التي في لمَا، فتخفضه بما تخفض به « ما » . وقد حُكي عن بعضهم: ( لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكُذُبُ ) يرفع الكُذُب، فيجعل الكُذُب من صفة الألسنة، ويخرج على فُعُل على أنه جمع كُذُوب وكذب، مثل شُكُور وشُكُر. والصواب عندي من القراءة في ذلك نصب الكَذِب لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك لما ذكرنا: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذبَ فيما رزق الله عباده من المطاعم: هذا حلال، وهذا حرام، كي تفتروا على الله بقيلكم ذلك الكذبَ، فإن الله لم يحرم من ذلك ما تُحرِّمون، ولا أحلّ كثيًرا مما تُحِلون ، ثم تقدّم إليهم بالوعيد على كذبهم عليه، فقال ( إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) يقول: إن الذين يتخرّصون على الله الكذب ويختلقونه، لا يخلَّدون في الدنيا ، ولا يبقون فيها، إنما يتمتعون فيها قليلا. وقال ( مَتَاعٌ قَلِيلٌ ) فرفع، لأن المعنى الذي هم فيه من هذه الدنيا متاع قليل، أو لهم متاع قليل في الدنيا. وقوله ( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يقول: ثم إلينا مرجعهم ومعادهم، ولهم على كذبهم وافترائهم على الله بما كانوا يفترون عذاب عند مصيرهم إليه أليم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ) في البحيرة والسائبة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: البحائر والسوائب. القول في تأويل قوله تعالى : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 118 ) يقول تعالى ذكره: وحرّمنا من قبلك يا محمد على اليهود ، ما أنبأناك به من قبل في سورة الأنعام، وذاك كلّ ذي ظفر، ومن البقر والغنم ، حرمنا عليهم شحومهما ، إلا ما حملت ظُهورهما أو الحوايا ، أو ما اختلط بعظم ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ) بتحريمنا ذلك عليهم ( وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) فجزيناهم ذلك ببغيهم على ربهم ، وظُلمِهم أنفسهم بمعصية الله، فأورثهم ذلك عقوبة الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أبى رجاء، عن الحسن، في قوله ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ) قال: في سورة الأنعام. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن أيوب، عن عكرمة، في قوله ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ) قال في سورة الأنعام. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ) قال: ما قصّ الله تعالى في سورة الأنعام حيث يقول وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... الآية. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 119 ) يقول تعالى ذكره: إن ربك للذين عصوا الله فجهلوا بركوبهم ما ركبوا من معصية الله ، وسَفُهوا بذلك ثم راجعوا طاعة الله والندم عليها ، والاستغفار والتوبة منها ، من بعد ما سلف منهم ما سلف من ركوب المعصية، وأصلح فعمل بما يحبّ الله ويرضاه ( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا ) يقول: إن ربك يا محمد من بعد توبتهم له ( لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) . القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 120 ) شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 121 ) يقول تعالى ذكره: إن إبراهيم خليل الله كان مُعَلِّم خَيْر ، يأتمّ به أهل الهدى قانتا ، يقول: مطيعًا لله حنيفا: يقول: مستقيما على دين الإسلام ( وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) يقول: ولم يك يُشرك بالله شيئا، فيكون من أولياء أهل الشرك به ، وهذا إعلام من الله تعالى أهل الشرك به من قريش أن إبراهيم منهم بريء وأنهم منه برآء ( شَاكِرًا لأنْعُمِهِ ) يقول: كان يخلص الشكر لله فيما أنعم عليه، ولا يجعل معه في شكره في نعمه عليه شريكا من الآلهة والأنداد وغير ذلك ، كما يفعل مشركو قريش ( اجْتَبَاهُ ) يقول: اصطفاه واختاره لخُلته ( وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) يقول: وأرشده إلى الطريق المستقيم، وذلك دين الإسلام لا اليهودية ولا النصرانية. وبنحو الذي قلنا في معنى ( أُمَّةً قَانِتًا ) قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني زكريا بن يحيى، قال: ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العُبَيدين، أنه جاء إلى عبد الله فقال: من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأنّ ابن مسعود رقّ له، فقال: أخبرني عن الأمَّة ، قال: الذي يُعلَّم الناس الخير. حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العُبَيدين أنه سأل عبد الله بن مسعود، عن الأمَّة القانت، قال: الأمَّة: معلم الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن عُلَية، عن منصور، يعني ابن عبد الرحمن، عن الشعبي ، قال: ثني فروة بن نوفل الأشجعي، قال: قال ابن مسعود: إن معاذا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا ، فقلت في نفسي: غلط أبو عبد الرحمن، إنما قال الله تعالى ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) فقال: تدري ما الأمَّة ، وما القانت؟ قلت: الله أعلم ، قال: الأمَّة: الذي يعلم الخير، والقانت: المطيع لله ولرسوله، وكذلك كان مُعاذ بن جبل يعلم الخير ، وكان مطيعًا لله ولرسوله. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت فراسا يحدّث، عن الشعبيّ، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، أنه قال: إن مُعاذا كان أُمَّة قانتًا لله ، قال: فقال رجل من أشجع يُقال له فروة بن نوفل: نسي إنما ذاك إبراهيم ، قال: فقال عبد الله: من نسي إنما كنا نشبهه بإبراهيم ، قال: وسُئِل عبد الله عن الأمَّة ، فقال: معلم الخير، والقانت: المطيع لله ورسوله. حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن فراس، عن الشعبيّ، عن مسروق قال: قرأت عند عبد الله هذه الآية ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) فقال: كان معاذ أُمَّةً قانتًا ، قال: هل تدري ما الأمَّة ، الأمَّة الذي يعلم الناس الخير، والقانت: الذي يطيع الله ورسوله. حدثنا أبو هشام الرفاعيّ، قال: ثنا ابن فضيل، قال: ثنا بيان بن بشر البَجَلي، عن الشعبيّ، قال: قال عبد الله: إن معاذا كان أُمَّة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ، فقال له رجل: نسيت ، قال: لا ولكنه شبيه إبراهيم، والأمَّة: معلِّم الخير، والقانت: المطيع. حدثني عليّ بن سعيد الكندي، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن عون، عن الشعبيّ، في قوله: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ) قال: مطيعا. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو بكر، قال: قال عبد الله: إن معاذا كان أُمَّة قانتا معلِّم الخير. وذُكر في الأمَّة أشياء مختلف فيها، قال وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يعني: بعد حين و أُمَّةً وَسَطًا . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن سعيد بن سابق، عن ليث، عن شَهْر بن حَوْشَب، قال: لم تبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض وتخرج بركتها، إلا زمن إبراهيم فإنه كان وحده. حدثنا القاسم ، قال: ثنا الحسين، قال: أخبرنا هشيم، قال: أخبرنا سيار، عن الشعبيّ، قال: وأخبرنا زكريا ومجالد، عن الشعبيّ، عن مسروق، عن ابن مسعود، نحو حديث يعقوب، عن ابن عُلَية وزاد فيه: الأمَّة: الذي يعلم الخير ويُؤْتمّ به ، ويقتدى به ؛ والقانت: المطيع لله وللرسول ، قال له أبو فروة الكندي: إنك وهمت. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ) على حدة ( قَانِتًا لِلَّهِ ) قال: مطيعا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: مطيعًا لله في الدنيا. قال ابن جريج: وأخبرني عويمر، عن سعيد بن جبير، أنه قال: قانتًا: مطيعًا. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ ) قال: كان إمام هُدًى مطيعًا تُتَّبع سُنَّته ومِلَّته. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن مَعْمر، عن قتادة، أن ابن مسعود قال: إن مُعاذ بن جَبَلْ كان أُمَّةً قانتا ، قال غير قتادة: قال ابن مسعود: هل تدرون: ما الأمَّة ؟ الذي يعلم الخير. حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق ، قال: أخبرنا الثوريّ، عن فراس، عن الشعبيّ، عن مسروق، قال: قرأت عند عبد الله بن مسعود ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا ) فقال: إن معاذا كان أُمَّةً قانتا، قال: فأعادوا، فأعاد عليهم، ثم قال: أتدرون ما الأمَّة ؟ الذي يعلم الناس الخير، والقانت: الذي يطيع الله. وقد بيَّنا معنى الأمَّة ووجوهها ، ومعنى القانت باختلاف المختلفين فيه في غير هذا الموضع من كتابنا بشواهده، فأغنى بذلك عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله تعالى : وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 122 ) يقول تعالى ذكره: وآتينا إبراهيم على قنوته لله ، وشكره له على نعمه ، وإخلاصه العبادة له في هذه الدنيا ذكرًا حسنا ، وثناءً جميلا باقيا على الأيام ( وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) يقول: وإنه في الدار الآخرة يوم القيامة لممن صلح أمره وشأنه عند الله ، وحَسُنت فيها منـزلته وكرامته. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) قال: لسان صدق. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ( وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ) فليس من أهل دين إلا يتولاه ويرضاه. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 123 ) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 124 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم أوحينا إليك يا محمد وقلنا لك: اتبع ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة ( حَنِيفًا ) يقول: مسلما على الدين الذي كان عليه إبراهيم، بريئًا من الأوثان والأنداد التي يعبدها قومك، كما كان إبراهيم تبرأ منها. وقوله ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) يقول تعالى ذكره: ما فرض الله أيها الناس تعظيم يوم السبت إلا على الذين اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو أعظم الأيام، لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة، ثم سَبَتَ يوم السبت. وقال آخرون: بل أعظم الأيام يوم الأحد، لأنه اليوم الذي ابتدأ فيه خلق الأشياء، فاختاروه وتركوا تعظيم يوم الجمعة الذي فَرَض الله عليهم تعظيمه واستحلوه. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) اتبعوه وتركوا الجمعة. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ ) قال: أرادوا الجمعة فأخطئوا، فأخذوا السبت مكانه. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) استحله بعضهم، وحرّمه بعضهم. حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يُمان، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن أبي مالك وسعيد بن جُبير ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) قال: باستحلالهم يوم السبت. حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ) قال: كانوا يطلبون يوم الجمعة فأخطئوه، وأخذوا يوم السبت فجعله عليهم. وقوله ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يقول تعالى ذكره: إن ربك يا محمد ليحكم بين هؤلاء المختلفين بينهم في استحلال السبت وتحريمه عند مصيرهم إليه يوم القيامة، فيقضي بينهم في ذلك وفي غيره مما كانوا فيه يختلفون في الدنيا بالحق، ويفصل بالعدل بمجازاة المصيب فيه جزاءه والمخطئ فيه منهم ما هو أهله. القول في تأويل قوله تعالى : ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 125 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ( ادْعُ ) يا محمد من أرسلك إليه ربك بالدعاء إلى طاعته ( إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ) يقول: إلى شريعة ربك التي شرعها لخلقه، وهو الإسلام ( بِالْحِكْمَةِ ) يقول بوحي الله الذي يوحيه إليك وكتابه الذي ينـزله عليك ( وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ) يقول: وبالعبر الجميلة التي جعلها الله حجة عليهم في كتابه ، وذكّرهم بها في تنـزيله، كالتي عدّد عليهم في هذه السورة من حججه ، وذكّرهم فيها ما ذكرهم من آلائه ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) يقول: وخاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها أن تصفح عما نالوا به عرضك من الأذى، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربك. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أعرض عن أذاهم إياك. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقوله ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربك يا محمد هو أعلم بمن جار عن قصد السبيل من المختلفين في السبت وغيره من خلقه، وحادّ الله، وهو أعلم بمن كان منهم سالكا قصد السبيل ومَحَجة الحقّ، وهو مُجازٍ جميعهم جزاءهم عند ورودهم عليه. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ( 126 ) يقول تعالى ذكره للمؤمنين: وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة، ولئن صبرتم عن عقوبته ، واحتسبتم عند الله ما نالكم به من الظلم ، ووكلتم أمره إليه ، حتى يكون هو المتولى عقوبته ( لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) يقول: للصبر عن عقوبته بذلك خير لأهل الصبر احتسابا ، وابتغاء ثواب الله ، لأن الله يعوّضه مِنَ الذي أراد أن يناله بانتقامه من ظالمه على ظلمه إياه من لذّة الانتصار، وهو من قوله ( لَهُوَ ) كناية عن الصبر ، وحسن ذلك ، وإن لم يكن ذكر قبل ذلك الصبر لدلالة قوله: ( وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ ) عليه. وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نـزلت هذه الآية. وقيل: هي منسوخة أو محكمة ، فقال بعضهم: نـزلت من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقسموا حين فعل المُشركون يوم أُحد ما فعلوا بقتلى المسلمين من التمثيل بهم أن يجاوزوا فعلهم في المُثْلة بهم إن رزقوا الظفر عليهم يومًا، فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية وأمرهم أن يقتصروا في التمثيل بهم إن هم ظفروا على مثل الذي كان منهم، ثم أمرهم بعد ذلك بترك التمثيل ، وإيثار الصبر عنه بقوله وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ فنسخ بذلك عندهم ما كان أذن لهم فيه من المُثلة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت داود، عن عامر: أن المسلمين قالوا لما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد: لئن ظهرنا عليهم لنفعلنّ ولنفعلنّ ، فأنـزل الله تعالى ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) قالوا: بل نصبر. حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود، عن عامر، قال: لما رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد، من تبقير البطون ، وقطع المذاكير ، والمُثلة السيئة، قالوا: لئن أظفرنا الله بهم، لنفعلنّ ولنفعلنّ ، فأنـزل الله فيهم وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ . حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نـزلت سورة النحل كلها بمكة، وهي مكية، إلا ثلاث آيات في آخرها نـزلت في المدينة بعد أُحد، حيث قُتِل حمزة ومُثِّل بِه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لَئِنْ ظَهَرْنا عَلَيْهمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِثَلاثِينَ رَجُلا مِنْهُمْ » فلما سمع المسلمون بذلك، قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلنّ بهم مُثْلة لم يمثِّلْها أحد من العرب بأحد قطُّ فأنـزل الله ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ... إلى آخر السورة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال : ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) قال المسلمون يوم أُحد فقال ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ... إلى قوله: ( لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ثم قال بعد وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ . حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لما أصيب في أهل أُحد المُثَل، فقال: المسلمون: لئن أصبناهم لنمثلنّ بهم ، فقال الله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ثم عزم وأخبر فلا يمثل، فنهي عن المُثَل، قال: مثَّل الكفار بقتلى أُحد، إلا حنظلة بن الراهب، كان الراهب أبو عامر مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك. وقال آخرون: نسخ ذلك بقوله في براءة: ( اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) قالوا: وإنما قال: ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) خبرًا من الله للمؤمنين أن لا يبدءوهم بقتال حتى يبدءوهم به، فقال: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) قال: هذا خبر من الله نبيه أن يُقاتل من قاتله. قال: ثم نـزلت براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم ، قال: فهذا من المنسوخ. وقال آخرون: بل عنى الله تعالى بقوله: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ نبيّ الله خاصة دون سائر أصحابه، فكان الأمر بالصبر له عزيمة من الله دونهم. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) قال: أمرهم الله أن يعفوا عن المشركين، فأسلم رجال لهم منعة، فقالوا: يا رسول الله، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب ، فنـزل القرآن ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) واصبر أنت يا محمد، ولا تكن في ضيق ممن ينتصر، وما صبرك إلا بالله ، ثم نسخ هذا وأمره بجهادهم، فهذا كله منسوخ. وقال آخرون: لم يُعْنَ بهاتين الآيتين شيء مما ذكر هؤلاء، وإنما عُنِيَ بهما أن من ظُلِم بظُلامة ، فلا يحلّ له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منه، وقالوا: الآية محكمة غير منسوخة. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خالد، عن ابن سيرين ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) يقول: إن أخذ منك رجل شيئا، فخذ منه مثله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: إن أخذ منك شيئا فخذ منه مثله. قال الحسن: قال عبد الرزاق: قال سفيان: ويقولون: إن أخذ منك دينارًا فلا تأخذ منه إلا دينارًا، وإن أخذ منك شيئا فلا تأخذ منه إلا مثل ذلك الشيء. حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) لا تعتدوا. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر من عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عوقب به، إن اختار عقوبته، وأعلمه أن الصبر على ترك عقوبته ، على ما كان منه إليه خير وعزم على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر ، وذلك أن ذلك هو ظاهر التنـزيل، والتأويلات التي ذكرناها عمن ذكروها عنه ، محتملها الآية كلها. فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أيّ ذلك عنى بها من خبر ولا عقل كان الواجب علينا الحكم بها إلى ناطق لا دلالة عليه ؛ وأن يقال: هي آية محكمة أمر الله تعالى ذكره عباده أن لا يتجاوزوا فيما وجب لهم قِبَل غيرهم من حقّ من مال أو نفس ، الحقّ الذي جعله الله لهم إلى غيره، وأنها غير منسوخة، إذ كان لا دلالة على نسخها، وأن للقول بأنها محكمة وجهًا صحيحًا مفهوما. القول في تأويل قوله تعالى : وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ( 127 ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واصبر يا محمد على ما أصابك من أذى في الله. ( وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ) يقول: وما صبرك إن صبرت إلا بمعونة الله ، وتوفيقه إياك لذلك ( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) يقول: ولا تحزن على هؤلاء المشركين الذين يكذّبونك وينكرون ما جئتهم به في آن ولوا عنك وأعرضوا عما أتيتهم به من النصيحة ( وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) يقول: ولا يضق صدرك بما يقولون من الجهل ، ونسبتهم ما جئتهم به إلى أنه سحر أو شعر أو كهانة ، مما يمكرون: مما يحتالون بالخدع في الصّد عن سبيل الله ، من أراد الإيمان بك ، والتصديق بما أنـزل الله إليك. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء العراق ( وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ ) بفتح الضَّاد في الضيق على المعنى الذي وصفت من تأويله. وقرأه بعض قرّاء أهل المدينة ( وَلا تَكُ فِي ضِيقٍ ) بكسر الضاد. وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه في ضَيْقٍ ، بفتح الضاد، لأن الله تعالى إنما نهى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يَضيق صدره مما يلقى من أذى المشركين على تبليغه إياهم وحي الله وتنـزيله، فقال له فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وقال: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْـزِلَ عَلَيْهِ كَنْـزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ ، وإذ كان ذلك هو الذي نهاه تعالى ذكره، ففتح الضاد هو الكلام المعروف من كلام العرب في ذلك المعنى ، تقول العرب: في صدري من هذا الأمر ضيق، وإنما تكسر الضاد في الشيء المعاش ، وضيق المسكن ، ونحو ذلك ؛ فإن وقع الضَّيق بفتح الضاد في موضع الضِّيق بالكسر. كان على الذي يتسع أحيانا ، ويضيق من قلة أحد وجهين، إما على جمع الضيقة، كما قال أعشى بني ثعلبة: فَلَئِـــنْ رَبُّــكَ مِــنْ رَحْمَتِــهِ كَشَــف الضَّيْقَــةَ عَنَّــا وَفسَـحْ والآخر على تخفيف الشيء الضَّيِّق، كما يخفف الهيِّن اللَّيِّن، فيقال: هو هَيْن لَيْن. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ( 128 ) يقول تعالى ذكره ( إِنَّ اللَّهَ ) يا محمد ( مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ) الله في محارمه فاجتنبوها، وخافوا عقابه عليها، فأحجموا عن التقدّم عليها ( وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) يقول: وهو مع الذين يحسنون رعاية فرائضه ، والقيام بحقوقه ، ولزوم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه. وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) قال: اتقوا الله فيما حرّم عليهم، وأحسنوا فيما افترض عليهم. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن الحسن، مثله. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن هَرِم بن حَيان العَبْدِي لما حضره الموت، قيل له: أوص ، قال: ما أدري ما أُوصي، ولكن بيعوا درعي ، فاقضوا عني ديني، فإن لم تف ، فبيعوا فرسي، فإن لم يف فبيعوا غلامي، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما نـزلت هذه الآية قال بَلْ نَصْبرُ « . » آخر سورة النحل