كتاب : الأدب الكبير والأدب الصغير المؤلف : ابن المقفع الأدب الصغير بسم الله الرحمن الرحيم قال ابن المقفع: أما بعد، فإن لكل مخلوقٍ حاجةً، ولكل حاجةٍ غايةً، ولكل غاية سبيلاً. والله وقت للأمُور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبب الحاجات ببلاغها. فغايةُ الناسِ وحاجاتهم صلاحُ المعاشِ والمغاد، والسبيل إلى دركها العقل الصحيح. وأمارةُ صحةِ العقلِ اختيارُ الأمورِ بالبصرِ، وتنفيذُ البصرِ بالعزمِ. الأدب ينمي العقول وللعقولِ سجياتٌ وغرائزُ بها تقبل الأدب، وبالأدبِ تنمى العقولُ وتزكو. فكما أن الحبة المدفونة في الأرضِ لا تقدر أن تخلعَ يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرضِ بزهرتها وريعها ونضرتها ونمائها إلا بمعونةِ الماء الذي يغورُ إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقةُ العقلِ مكنونةٌ في مغرزها من القلبِ: لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدبُ الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها. وجل الأدب بالمنطق وجل المنطقِ بالتعلمِ. ليس منه حرف من حروف متعجمه، ولا اسم من أنواع أسمائها إلا وهو مروي، متعلمٌ، مأخوذٌ عن إمام سابقٍ، من كلامٍ أو كتابٍ. وذلك دليلٌ على أنّ الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قبلِ العليمِ الحكيمِ. فإذا خرجَ الناسُ من أن يكونَ لهم عملٌ أصيلٌ وأن يقولوا قولاً بديعاً فليعلمِ الواصفونَ المخبئون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبر حداً ومرجاناً، فنظمه قلائد وسموطاً وأكاليل، ووضع كل فص موضعهُ، وجمعَ إلى كل لونٍ شبهه وما يزيدهُ بذلك حسناً، فسمي بذلك صانعاً رفيقاً، وكصاغة الذهب والفضة، صنعوا منها ما يعجبُ الناس من الحلي والآنية، وكالنحل وجدت ثمراتٍ أخرجها الله طيبةً، وسلكت سبلاً جعلها الله ذللاً، فصار ذلك شفاءً وطعاماً، وشراباً منسوباً إليها، مذكوراً به أمرها وصنعتها. فمن جرى على لسانه كلامٌ يستحسنهُ أو يستحسنُ منهُ، فلا يعجبن إعجاب المخترع المبتدعِ، فإنه إنما اجتناهُ كما وصفنا. الاقتداء بالصالحين ومن أخذ كلاماً حسناً إن غيره فتكلم به في موضعه وعلى وجهه، فلا ترين عليه في ذلك ضؤولة. فإن من أعين على حفظِ كلامٍ المصيبين، وهدي للإقتداء بالصالحين، ووفق للأخذِ عنِ الحكماء، ولا عليهِ أن لا يزداد، فقد بلغ الغاية، وليس بناقصهِ في رأيه ولا غامطهِ من حقه أن لا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه. فإنما إحياء العقل الذي يتم به وستحكم خصالٌ سبعٌ: الإيثارُ بالمحبةِ، والمبالغة في الطلب، والتثبتُ في الاختيارِ، والاعتيادُ للخيرِ، وحسنُ الرعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعهُ قولاً وعملاً. أما المحبة فإنها تبلغ المرء مبلغَ الفضلِ في كل شيء من أمرِ الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته. فلا يكون شيءٌ أمرأ ولا أحلى عنده منه. وأما الطلبُ، فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون وهو أهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه. ولا تدركُ لهم بغيتهم ونفاستها في أنفسهم، دون الجد والعمل. وأما التثبتُ والتخيرُ، فإن الطلبَ لا ينفعُ إلا معهُ وبه. فكم من طالب رشدٍ وجدهُ والغي معاً، فاصطفى منهُما الذي منهُ هربَ، وألغى الذي إليه سعى، فإذا كان الطالبُ يحوي غير ما يريدُ، وهو لا يشك في الظفرِ، فما أحقهُ بشدةِ التبيينِ وحسنِ الابتغاء! وأما اعتقادُ الشيء بعد استبانته، فهو ما يطلبُ من إحراز الفضل بعد معرفته. وأما الحفظُ والتعهد، فهو تمام الدركِ. لأن الإنسان موكل به النسيانُ والغفلةُ: فلا بد لهُ، إذا اجتبى صواب قولٍ أو فعلٍ من أن يحفظهُ عليه ذهنهُ لأوان حاجته. وأما البصرُ بالموضعِ، فإنما تصيرُ المنافعُ كلها إلى وضعِ الأشياء مواضعها، وبنا إلى هذا كله حاجةٌ شديدةٌ. فإنا لم نوضع في الدنيا موضعَ غنى وخفضِ ولكن بموضعِ فاقةٍ وكدٍ، ولسنا إلى ما يمسكُ أرماقنا من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يشبتُ عقولنا من الأدبِ الذي به تفاوتُ العقول. وليس غذاءُ الطعامِ بأسرعَ في نباتِ الجسدِ من غداء الأبدٍ في نباتِ العقلِ. ولسنا بالكد في طلبِ المتاعِ الذي يلتمسُ بهِ دفعُ الضررِ والغلبةُ بأحق منا بالكد في طلبِ العلمِ الذي يلتمسُ بهِ صلاحُ الدينِ والدنيا. ما وضع في هذا الكتاب وقد وضعتُ في هذا الكتاب من كلام الناسِ المحفوظِ حروفاً فيها عونٌ على عمارةِ القلوبِ وصقالها وتجليةِ أبصارها، وإحياءٌ للتفكيرِ وإقامةٌ للتدبير، ودليلٌ على محامدِ الأمور ومكارمِ الأخلاقِ إن شاء اللهُ! انظر أين تضع نفسك الواصفون أكثرُ من العارفين، والعارفون أكثرُ من الفاعلينَ. فلينظرُ امرؤ أين يضعُ نفسه. فإن لكل امرئ لم تدخل عليه آفةً نصيباً من اللب يعيشُ به، لا يُحب أن لهُ به من الدنيا ثمناً. وليس كل ذي نصيبٍ من اللب بمستوجبٍ أن يسمى في ذوي الألبابِ، ولا يوصفُ بصفاتهم. فمن رام أن يجعل نفسهُ لذلك الاسم والوصفِ أهلاً، فليأخذ له عتادهُ وليعد له طول أيامه، وليؤثره على أهوائهِ. فإنهُ قد رام أمراً جسيماً لا يصلحُ على الغفلة، ولا يدركُ بالعجزةٍ، ولا يصيرُ على الأثرةِ. وليس كسائرِ أمورِ الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدركُ منها المتواني ما يفوتُ الثابرُ، ويصيبُ منها العاجزُ ما يخطئ الحازمُ. جماع الصواب وجماع الخطأ وليعلم أن على العاقلِ أموراً إذا ضيعها حكم عليه عقلهُ بمقارنة الجهار. فعلى العاقلِ أن يعلم أن الناس مشتركونَ مستون في الحبُ لما يوافقُ والبغضِ لما يؤذي، وأن هذه منزلةٌ اتفق عليها الحمقى الأكياسُ، ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصالٍ هن جماعُ الصوابِ وجماعُ الخطأ، وعندهن تفرقتِ العلماءُ والجهال، والحزمةُ والعجزةُ. الباب الأول من ذلك أن العاقل ينظرُ فيما يؤذيه وفيما يسرهُ، فيعلم أنّ أحق ذلك بالطلبِ، إن كان مما يحب، وأحقهُ بالاتقاء، إن كان مما يكرهُ، أطوالهُ وأدومُهُ وأبقاهُ، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرةِ على الدنيا، وفضل سرورِ المروءةِ على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامعِ الذي تصلحُ به الأنفُسُ والأعقابُ على حاضرِ الرأي الذي يستمتعُ به قليلاً ثم يضمحل، وفضل الأكلاتِ على الأكلة والساعات على الساعة. الباب الثاني من ذلك أن ينظُرَ فيما يؤثرُ من ذلك، فيضعَ الرجاءَ والخوفَ فيهِ موضعهُ، فلا يجعل اتقاءهُ لغيرٍ المخوفِ ولا رجاءهُ في غيرِ المدركِ. فيتوقى. عاجلَ اللذاتِ طلباً لآجلها، ويحتملُ قريبَ الأذى توقياً لبعيدهِ. فإذا صارَ إلى العاقبةِ، بدا لهُ أن قرارهُ كان تورطاً وأن طلبه كان تنكباً. الباب الثالث من ذلك هو تنفيذُ البصرِ بالعزمِ بعد المعرفةِ بفضل الذي هو أدوم، وبعد التثبتِ في مواضعِ الرجاء والخوف. فإن طالب الفضل بغير بصرٍ تائهٌ حيرانُ، ومبصرُ الفضلِ بغيرِ عزمٍ ذو زمانةٍ محروم. محاسبة النفس وعلى العاقل مخاصمةُ نفسه ومحاسبتُها والقضاءُ عليها والإثابةُ والتنكيلُ بها. أما المحاسبةُ، فيحاسبُها بما لها، فإنهُ لا مال لها إلا أيامُها المعدودةُ التي ما ذهبَ منها لم يستخلف كما تستخلفُ النفقةُ، وما جعل منها في الباطلِ لم يرجع إلى الحق، فيتنبهُ لهذه المحاسبةِ عند الحول إذا حال، والشهر إذا انقضى، واليوم إذا ولى، فينظر فيما أفنى من ذلك، وما كسب لنفسهِ، وما اكتسب عليها في أمرِ الدينِ وأمرِ الدنيا. فيجمعُ ذلك في كتابٍ فيه إحصاءٌ، وجدٌ، وتذكيرٌ للأمورِ، وتبكيتٌ للنفسِ وتذليل لها حتى تعترفَ تذعن. وأما الخصومةُ، فإن من طباعِ النفسِ الآمرةِ بالسوء أن تدعي المعاذير فيما مضى، والأماني فيما بقي، فيرد عليها معاذيرها وعللها وشبهاتها. وأما القضاءُ، فإنهُ يحكمُ فيما أرادت من ذلك على السيئة بأنها فاضحةٌ مرديةٌ موبقةٌ، وللحسنةِ بأنها زائنةٌ منجيةٌ مربحةٌ. وأما الإثابةُ والتنكيلُ، فإنهُ يسر نفسهُ بتذكر تلك الحسناتِ ورجاء عواقبها وتأميلِ فضلها، ويعاقبُ نفسه بالتذكر للسيئاتِ والتبشعِ بها والاقشعرار منها والحزن لها. فأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه بهذا أخذاً، وأقلهم عنها فيه فترةً. ذكر الموت وعلى العاقل أن يذكر الموتَ في كل يومٍ وليلةٍ مراراً، ذكراً يباشر به القلوبَ ويقدعُ الطماح، فإن في كثرةِ ذكر الموتِ عصمةً من الأشرِ، وأماناً بإذن الله، من الهلعِ إحصاء المساوئ وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين وفي الأخلاق وفي الآدابِ، فيجمع ذلك كلهُ في صدرهِ أو في كتابٍ، ثم يكثر عرضهُ على نفسه، ويكلفها إصلاحهُ، ويوظف ذلك عليها توظيفاً من إصلاح الخلةِ والخلتينِ والخلالِ في اليومِ أو الجمعةِ أو الشهرِ. فكلما أصلحَ شيئاً محاهُ، وكلما نظر إلى محوٍ استبشر، وكلما نظر إلى ثابتٍ اكتأب. الخصال الصالحة وعلى العاقلِ أن يتفقد محاسنَ الناسِ ويحفظها على نفسه، ويتعهدها بذلك مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوي. وعلى العاقل أن لا يخادن ولا يُصاحبَ ولا يجاورَ من الناس، ما استطاعَ، إلا ذا فضلٍ في العلم والدينِ والأخلاقِ فيأخذُ عنهُ، أو موافقاً لهُ على إصلاحِ ذلك فيؤيدُ ما عندهُ، وإن لم يكن لهُ عليهِ فضلٌ. فإن الخصال الصالحة من البر لا تحيا ولا تنمى إلا بالموافقين والمؤيدين. وليس لذي الفضلِ قريبٌ ولا حميمٌ أقربُ إليهِ ممن وافقهُ على صالحِ الخصال فزادهُ وثبتهُ. ولذلك زعم بعضُ الأولينَ أن صُحبةَ بليدٍ نشأ مع العلماء أحب إليهم من صحبةِ لبيبٍ نشأ مع الجهال. من نسي وتهاون خسر وعلى العاقلِ أن لا يحزن على شيءٍ فاتهُ من الدنيا أو تولى، وأن ينزلَ ما أصابهُ من ذلك ثم انقطعَ عنهُ منزلةَ ما لم يصب، وينزل ما طلبَ من ذلك ثم لم يدركهُ منزلة ما لم يطلب، ولا يدع حظهُ من السرورِ بما أقبل منها، ولا يبلغن ذلك سُكراً ولا طغياناً، فإن مع السكر النسيانَ، ومع الطغيانِ التهاونَ، ومن نسي وتهاون خسر. إيناس ذوي الألباب وعلى العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه ويجرئهم عليها حتى يصيروا حرساً على سمعهِ وبصرهِ ورأيه، فيستنيم إلى ذلك ويرحَ له قلبهُ، ويعلم أنهم لا يغفلونَ عنه إذا هو غفل عن نفسه. ساعة عون على الساعات وعلى العاقل، ما لم يكن مغلوباً على نفسه، أن لا يشغلهُ شغلٌ عن أربعِ ساعاتٍ: ساعةٍ يرفعُ فيها حاجتهُ إلى ربهِ، وساعةٍ يحاسبُ فيها نفسهُ، وساعةٍ يفضي فيها إلى إخوانهِ وثقاته الذين يصدقونه عن غيوبهِ ويصونوهُ في أمرهِ، وساعةٍ يُخلي فيها بين نفسهِ وبين لذتها مما يحل ويجملُ، فإن هذه الساعةَ عونٌ على الساعات الأخرِ، وإنّ استجمام القلوبِ وتوديعها زيادةُ قوةٍ لها وفضل بلغةٍ. الرغبات الثلاث وعلى العاقلِ أن لا يكونَ راغباً إلا في إحدى ثلاثٍ: تزودٍ لمعادٍ، أو مرمةٍ لمعاشٍ، أو لذةٍ في غير محرمٍ. الناس طبقتان متباينتان وعلى العاقلِ أن يجعل الناسَ طبقتينِ متباينتينِ، ويلبس لهم لباسينِ مختلفينِ، فطبقةٌ من العامة يلبسُ لهم لباسَ انقباضٍ وإنجاز وتحفظٍ في كل كلمةٍ وخطوةٍ، وطبقةٌ من الخاصة يخلعُ عندهم لباسَ ويلبسُ لباس الآنسة واللطف والبذلة والمفاوضة. ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحداً من الألف وكلهم ذو فضلٍ في الرأي، وثقةٍ في المودة، وأمانةٍ في السر، ووفاءٍ بالإخاء. الصغير يصير كبيرا ً وعلى العاقل أن لا يستصغر شيئاً من الخطأ في الرأي، والزللِ في العلمِ، والإغفال في الأمور، فإنهُ من استصغر الصغير أوشكَ أن يجمعَ إليه صغيراً وصغيراً، فإن الصغير كبيرٌ. وإنما هي ثلم يثلمها العجزُ والتضييعُ. فإذا لم تسد أوشكت أن تتفجر بما لا يطاقُ. ولم نر شيئاً قط إلا قد أتي من قبلِ الصغير المتهاونِ به، قد رأينا الملكَ يؤتى من العدو المحتقر به، ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفلُ بهِ، ورأينا الأنهار تنبشقُ من الجدول الذي يستخف بهِ. وأقل الأمورِ احتمالاً للضياعِ الملكُ، لأنه ليس شيءٌ يضيعُ، وإن كان صغيراً، إلا اتصل بآخر يكونُ عظيماً. الرأي والهوى عدوان وعلى العاقلِ أن يجبنَ عن المضي على الرأي الذي لا يجدُ عليه موافقاً وإن ظن أنهُ على اليقينِ. وعلى العاقلِ أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان، وأن من شأنِ الناسِ تسويفَ الرأي وإسعافَ الهوى، فيخالفَ ذلك ويلتمس أن لا يزال هواهُ مسوفاً ورأيه مسعفاً وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمرانِ فلم يدرِ في أيهما الصوابُ أن ينظر أهواهما عندهُ، فيحذرهُ. علم نفسك قبل تعليم غيرك ومن نصبَ نفسهُ للناسِ إماماً في الدينِ، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمةِ والرأي واللفظ والأخدانِ، فيكن تعليمهُ بسيرته أبلغَ من تعليمه بلسانهِ. فإنه كما أن كلام الحكمةِ يونقُ الأسماعَ، فكذلكَ عملُ الحكمةِ يروقُ العيونَ والقلوبَ. ومعلمُ نفسه ومؤدبها أحق بالإجلالِ والتفضيلِ من معلمِ الناسِ ومؤدبهم. أعمدة السلطان ولايةُ الناسِ بلاءٌ عظيمٌ. وعلى الوالي أربعُ خصالٍ هي أعمدةُ السلطانِ وأركانهُ التي بها يقومُ وعليها يثبتُ: الاجتهادُ في التخيرِ، والمبالغةُ في التقدمِ، والتعهد الشديدُ، والجزاءُ العتيد. فأما التخيرُ للعمالِ والوزراء فإنهُ نظامُ الأمرِ ووضعُ مؤونةِ البعيد المنتشرِ. فإنهُ عسى أن يكونَ بتخيرهِ رجلاً واحداً قدٍ اختار ألفاً. لأنهُ من كان من العُمالِ خياراً فسيختارُ كما اختيرَ. ولعل عُمالَ العاملِ وعمالَ عُمالهِ يبلغونَ عدداً كثيراً، فمن تبين التخيرَ فقد أخذ بسببٍ وثيقٍ، ومن أسس أمرهُ على غيرِ ذلك لم يجدِ لبنائه قواماً. وأما التقديم والتوكيدُ، فإنهُ ليس كل ذي لبٍ أو ذي أمانةٍ يعرفُ وجوهَ الأمورِ والأعمالِ. ولو كانَ بذلك عارفاً، لم يكن صاحبهُ حقيقاً أن يكل ذلك إلى علمهِ دونَ توقيفهِ عليهِ وتبيينهِ لهُ والاحتجاجِ عليه بهِ. وأما التعهدُ، فإن الوالي إذا فعلَ ذلكَ كان سميعاً بصيراً، وإن العامل إذا فعل ذلك به كان متحصناً حريزاً. وأما الجزاء فإنهُ تشبيتُ المحسنِ والراحةُ من المسيء. بماذا يُستطاع السلطان لا يُستطاعُ السلطانُ إلا بالوزراء والأعوانِ، ولا ينفعُ الوزراء إلا بالمودةِ والنصيحةِ، ولا المودةُ إلا مع الرأي والعفاف. وأعمالُ السلطانِ كثيرةٌ، وقليلٌ ما تستجمعُ الخصالُ المحمودةُ عند أحدٍ، وإنما الوجهُ في ذلك والسبيلُ الذي به يستقيمُ العلم أن يكون صاحبُ السلطانِ عالماً بأمورِ من يريدُ الاستعانةَ به وما عند كل رجلٍ من الرأي والغناء، وما فيه من العيوبِ. فإذا استقر ذلك عنده عن علمهِ وعلم من يأتمنُ وجهَ لكل عملٍ من قد عرف أن عندهُ من الرأي والنجدةِ والأمانةِ ما يحتاجُ إليه فيهِ، وأن ما فيه من العُيوبِ لا يضر بذلك، ويتحفظُ من أن يوجه أحداً وجهاً لا يحتاجُ فيه إلى مروءةٍ، إن كانت عندهُ، لا يأمنُ عيوبهُ وما يكرهُ منه. ثم على الملوكِ، بعد ذلكَ، تعاهدُ عمالهم وتفقد أمورهم، حتى لا يخفى عليهم إحسانُ محسنٍ ولا إساءةُ مسيء. ثم عليهم، بعد ذلكَ، أن لا يتركوا محسناً بغيرِ جزاءٍ ولا يقروا مسيئاً ولا عاجزاً على الإساءةِ والعجزِ. فإنهم إن تركوا ذلك، تهاونَ المحسنُ، واجترأ المسيءُ، وفسد الأمرُ، وضاعَ العملُ. الدنيا دُول اقتصارُ السعي إبقاءٌ للجمامِ، وفي بعد الهمةِ يكون النصب، ومن سأل فوق قدرتهِ استحق الحرمانَ، وسوءُ حملِ الغنى أن يكونَ عند الفرحِ مرحاً، وسوءُ حملِ الفاقةِ أن يكون عند الطلبِ شرهاً، وعارُ الفقر أهونُ من عار الغنى، والحاجةُ مع المحبةِ خيرٌ من الغنى مع البغضةِ. الدنيا دول ٌ، فما كان لك منها أتاكَ على ضعفكَ، وما كان عليك لم تدفعهُ بقُوتكَ. المثل أوضح للمنطق إذا جعل الكلامُ مثلاً، كان ذلك أوضحَ للمنطقِ وأبيسَ في المعنى وآنق للسمعِ وأوسعَ لشعوبِ الحديثِ. لا مال أفضل من العقل أشد الفاقةِ عدمُ العقلِ، وأشدّ الوحدةِ وحدةُ اللجوجِ، ولا مال أفضلُ من العقلِ، ولا أنيس آنسُ من الاستشارةِ. كن ستورا ً مما يعتبرُ به صلاحُ الصالحِ وحسنُ نظرهِ للناسِ أن يكونَ إذا استعتبَ المذنبُ ستُوراً لا يشيعُ ولا يذيعُ، وإذا استشيرَ سمحاً بالنصيحةِ مُجتهداً للرأي، وإذا استشارَ مطروحاً للحياء منفذاً للحزمِ معترفاً للحقّ. الحارس والمحروس القسم الذي يقسمُ للناس ويمتعونَ به نحوان: فمنهُ حارسٌ ومنهُ محروس، فالحارسُ العقلُ، والمرحوسُ المالُ، والعقلُ، بإذن اللهِ، هو الذي يحرزُ الحظ، ويؤنسُ الغربةَ، وينفي الفاقةَ، ويعرفُ النكرة، ويثمرُ المسبكبة، ويطيبُ الثمرةَ، ويوجهُ السوقةَ عند السلطانِ، ويستنزلُ للسلطانِ نصيحةَ السوقةِ، ويكسبُ الصديقَ، ويكفي العدو. الأدب العظيم كلامُ اللبيبِ، وإن كان نزراً، أدبٌ عظيمٌ، ومقارفةُ المأثم، وإن كان محتقراً، مصيبةٌ جليلةٌ. ولقاءُ الإخوانِ، وإن كان يسيراً، غنم حسنٌ. أجناس الناس قد يسعى إلى أبوابِ السلطانِ أجناسٌ من الناسِ كثيرٌ، أما الصالحُ فمدعو، وأما الصالحُ فمقتحم، وأما ذو الأدبِ فطالبٌ، وأما من لا أدبَ لهُ فمختلسٌ، وأما القوي فمُدافعٌ، وأما الضعيف فمدفوعٌ، وأما الحسنُ مستثيب، وأما المسيء فمستجير. فهو مجمعُ البر والفاجر، والعالمِ والجاهلِ، والشريفِ والوضيعِ. الناسُ، إلا قليلاً ممن عصم اللهُ، مدخولونَ في أمورهم: فقائلهم باغٍ، وسامعهم عيابٌ، وسائلهم متعنتٌ، ومجيبهم متكلفٌ، وواعظُهمُ غيرُ محققٍ لقولهِ بالفعلِ، وموعوظهم غير سليمٍ من الاستخفافِ، والأمينُ منهم غيرُ متحفظٍ من إتيان الخيانة، والصدوقُ غيرُ محترسٍ من حديث الكذبةِ، وذو الدينِ غيرُ متورعٍ عن تفريطِ الفجرةِ، والحازمُ منهم غيرُ تاركٍ لتوقعِ الدوائرِ. يتناقضُون الأنباء، ويتراقبون الدول، ويتعايبونَ بالهمز، مولعونَ في الرخاء بالتحاسدِ، وفي الشدةِ بالتخاذُلِ. لا تغتر بالدنيا كم قد انتزعتِ الدنيا ممنِ استمكنَ منها واعتكفت لهُ فأصبحتِ الأعمالُ أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم، وأخذ متاعهم من لم يحمدهم، وخرجوا إلى من لا يعذُرُهُم. فأصبحنا خلفاً من بعدهم، نتوقعُ مثل الذي نزلَ بهم، فنحنُ إذا تدبرنا أمورهم، أحقاءُ أن ننظر ما نغبطهم به فنتبعهُ وما نخافُ عليهم منه فنجتنبهُ. كيف تطلع السلطان على عورتك كان يُقالُ إنّ الله تعالى قد يأمرُ بالشيء ويبتلي بثقلهِ ونهى عن الشيء ويبتلي بشهوته. فإذا كنتَ لا تعملُ من الخير إلا ما اشتهيتهُ، ولا تتركُ من الشر إلا ما كرهتهُ، فقد أطلعتَ الشيطان على عورتك، وأمكنتهُ من رمتك، فأوشك أن يقتحم عليك فيما تُحب من الخير فيكرههُ إليكَ وفيما تكرهُ من الشر فيحببهُ إليك. ولكن ينبغي لكَ في حب ما تُحب من الخير التحاملُ على ما ستثقلُ منه، وينبغي لكَ في كراهةِ ما تكرهُ من الشر التجنبُ لما يحب منهُ. زخرف الدنيا الدنيا زخرفٌ يغلبُ الجوارحَ، ما لم تغلبهُ الألبابُ. والحكيمُ من يغضي عنهُ ولم يشغل به قلبهُ: اطلعَ من أدناهُ فيما وراءهُ، وذكر لواحقَ شرهِ فأكلَ مرهُ وشربَ كدرهُ ليحلو لي لهُ ويصفو في طلوٍ من إقامةِ العيش الذي يبقى ويدومُ، غيرَ عائفٍ للرشدِ إن لم يلقهُ برضاهُ، ولم يأتهِ من طريقٍ هواهُ. القيام على الثقة لا تألفِ المستوخم، ولا تُقِمْ على غيرِ الثقةِ. شكر الله على نعمه والعمل بطاعته قد بلغ فضل الله على الناس من السعة وبلغت نعمتهُ عليهم من السبوغ ما لو أن أخسهم حظاً وأقلهم منهُ نصيباً وأضعفهم علماً وأعجزهم عملاً وأعياهم لساناً بلغ من الشكر له والثناء عليه بما خلص إليه من فضله، ووصل إليه من نعمته، ما بلغ لهُ منه أعظمهم حظاً وأوفرهم نصيباً وأفضلهم علماً وأقوالهم عملاً وأبسطهم لساناً، لكان عما استوجب الله عليه مقصراً وعن بلوغِ غايةِ الشكر بعيداً. ومن أخذ بحظه من شكر الله وحمده ومعرفة نعمهِ والثناء عليه والتحميد لهُ، فقد استوجب بذلك من أدائه إلى الله القربة عندهُ والوسيلة إليه والمزيد فيما شكرهُ عليه من خير الدنيا، وحسن ثوابِ الآخرة. أفضلُ ما يعلم به علم ذي العلم وصلاحُ ذي الصلاح أن يستصلح بما أوتي من ذلك ما استطاع من الناس ويرغبهم فيما رغب فيه لنفسه من حب الله، وحب حكمته، والعمل بطاعته، والرجاء لسحنِ ثوابه في المعادِ إليه، وأن يبينَ الذي لهم من الأخذ بذلك والذي عليهم في تركه، و أن يورث ذلك أهلهُ ومعارفهُ ليلحقهُ أجرهُ من بعد الموتِ. الدين أفضل المواهب الدينُ أفضل المواهبِ التي وصلت من الله إلى خلقهِ، وأعظمها منفعةً، وأحمدُها في كل حكمةٍ، فقد بلغ فضل الدين والحكمة أن مدحا على ألسنةِ الجهال على جهالتهم بهما وعماهُم عنهما. أحق الناس أحق الناسِ بالسلطان أهل المعرفة، وأحقهم بالتدبير العُلماءُ، وأحقهم بالفضل أعودهم على الناس بفضله، وأحقهم بالعلمِ أحسنهم تأديباً، وأحقهم بالغنى أهل الجود، وأقربهم إلى الله أنفذهم في الحق علماً وأكملهم به عملاً، وأحكمهم أبعدهم من الشك في الله، وأصوبهم رجاءً أوثقهم بالله، وأشدهم انتفاعاً بعلمه أبعدهم من الأذى، وأرضاهم في الناسِ أفشاهم معروفاً، وأقواهم أحسنهم معونةً، وأشجعهم أشدهم على الشيطان، وأفلحهم بحجةٍ أغلبهم للشهوة والحرصِ، وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى، وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسهِ حباً، وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعاً، وأطولهم راحةً أحسنهم للأمورِ احتمالاً، وأقلهم دهشاً أرحبهم ذراعاً، وأوسعهم غنى أقنعهم بما أبعدهم من الإفراط، وأظهرهم جمالاً أظهرهم حصافة، وآمنهم في الناس أكلهم ناباً وخلباً، وأثبتهم شهادةً عليهم أنطقهم عنهم، وأعد لهم فيهم أدومهم مسالمةً لهم، وأحقهم بالنعمِ أشكرهم لما أوتي منها. العُجب آفة العقل أفضلُ ما يُورثُ الآباءُ الأبناء، الثناءُ الحسنُ والأدبُ النافعُ والإخوانُ الصالحون. فصلُ ما بين الدينِ والرأي، أن الدين يسلم بالإيمان، وأن الرأي يشبتُ بالخصومةِ، فمن جعل الدين خصومةً، فقد جعل الدين رأياً، ومن جعل الرأي ديناً فقد صار شارعاً، ومن كان هو يشرعُ لنفسهِ الدينَ فلا دين لهُ. قد يشتبهُ الدينُ والرأي في أماكن، لولا تشابههما لم يحتاجا إلى الفصل. العُجب آفةُ العقل، واللجاجةُ قُعودُ الهوى، والبُخل لقاحُ الحرصِ، والمراءُ فسادُ اللسانِ، والحميةُ سببُ الجهلِ، والأنفُ توأمُ السفهِ، والمنافسة أختُ العداوةِ. حكمتان إذا هممت بخيرٍ فبادر هواكَ، لا يغلبك، وإذا هممتَ بشرٍ فسوف هواك لعلك تظفرُ. فإن ما مضى من الأيامِ والساعاتِ على ذلك هو الغنمُ. لا يمنعنك صغرُ شأن امرئ من اجتناء ما رأيتَ من رأيه صواباً والاصطفاء لما رأيتَ من أخلاقه كريماً، فإنّ اللؤلؤة الفائقة لا تهانُ لهوانِ غائصها الذي استخرجها. العلم زين لصاحبه من أبوابِ التوفقِ والتوفيقِ في التعلمِ أن يكون وجه الرجلِ ا لذي يتوجهُ فيه من العلمِ والأدب فيما يوافقُ طاعةً ويكونَ له عندهُ محملٌ وقبولٌ. فلا يذهبُ عناؤهُ في غير غناءٍ، ولا تفنى أيامهُ في غير دركٍ، ولا يستفرغُ نصيبهُ فيما لا يسنجعُ فيه، ولا يكون كرجلٍ أرادَ أن يعمر أرضاً تهمةً فغرسها جوزاً ولوزاً، وأرضاً جلساً فغرسها نخلاً وموزاً. العلم زينٌ لصاحبهِ في الرخاء، ومنجاةٌ لهُ في الشدة. بالأدب تعمرُ القلوبُ، وبالعلمِ تستحكمُ الأحلامُ. العقل الذاتي العقل الذاتي غير الصنيعِ، كالأرضِ الطيبةٍ غير الخرابِ. الدليل على معرفة الله مما يدل على معرفةِ الله وسبب الإيمان أن يوكل بالغيبِ لكل ظاهرٍ من الدنيا، صغيرٍ أو كبيرٍ، عيناً، فهو يُصرفهُ ويحركهُ. فمن كان معتبراً بالجليل من ذلك فلينظر إلى السماء فسيعلمُ أن لها رباً يجري فلكها، ويُدبرُ أمرها، ومن اعتبر بالصغير، فلينظر إلى حبةِ الخردلِ فسيعرفُ أن لها مدبراً ينبتها ويزكيها ويقدرُ لها أقواثها من الأرض والماء، يوقتُ لها زمانَ نباتها وزمانَ تهشمها، وأمر النبوةِ والأحلامِ وما يحدثُ في أنفسِ الناسٍ من حيثُ لا يعلمونَ، ثم يظهرُ منهم بالقولِ والفعلِ، ثم اجتماعِ العلماء والجهالِ والمهتدين والضلال على ذكر الله وتعظيمه، واجتماعِ من شك في اللهِ وكذب بهِ على الإقرارِ بأنهم أنشئوا حديثاً، ومعرفتهم أنهم لم يحدثوا أنفسهم. فكل ذلك يهدي إلى الله ويدُل على الذي كانت منهُ هذه الأمورُ، مع ما يزيدُ ذلك يقيناً عند المؤمنين بأنّ الله حقٌ كبيرٌ ولا يقدرُ أحدٌ على أن يوقن أنه بالباطلِ. حق السلطان المقسط إن للسلطانِ المقُسطِ حقاً لا يصلحُ بخاصةٍ ولا عامةٍ أمرٌ إلا بإرادتهِ، فذو اللُّب حقيقٌ أن يخُلص لهمُ النصيحة، ويبذل لهم الطاعة، ويكتُم سرّهم، ويزينَ سيرتهم، ويذبُّ بلسانه ويده عنهم، ويتوخى مرضاتهم، ويكون من أمرهِ المؤاتاهُ لهم والإيثارُ لأهوائهم ورأيهم على هواهُ ورأيهِ، ويقدرَ الأمور على موافقتهم وإن كان ذلك له مخالفاً، وأن يكون منهُ الجد في المخالفة لمن جانبهم وجهل حقهم، ولا يواصل من الناسِ إلا من لا تُباعد مواصلتهُ إياهُ منهم، ولا تحملهُ عداوةُ أحدٍ لهُ ولا إضرارٌ به على الاضطغانِ عليهم، ولا مؤاتاهُ أحدٍ على الاستخفاف بشيء من أمورهم والانتقاص لشيء من حقهم، ولا يكتُمهم شيئاً من نصيحتهم، ولا يتشاقل عن شيء من طاعتهم، ولا يكتمهم شيئاً من نصيحتهم، ولا يتثاقلَ عن شيء من طاعتهم، ولا يبطر إذا أكرموهُ، ولا يجترئ عليهم إذا قربوه، ولا يطغى إذا سلطوهُ، ولا يلحف إذا سألهم، ولا يدخل عليهمُ المؤونة، ولا يستشقل ما حملوهُ، ولا يعتز عليهم إذا رضوا عنهُ، ولا يتغير لهم إذا سخطوا عليه، وأن يحمدهم على ما أصابَ من خيرٍ منهم أو من غيرهم فإنهُ لا يقدرُ أحدٌ على أن يُصيبهُ بخيرٍ إلا بدفاعِ الله عنهُ بهم. الدليل على علم العالم مما يدلُ على علمِ العالمِ معرفتهُ ما يدركُ من الأمورِ وإمساكه عما لا يدركُ وتزيينهُ نفسهُ بالمكارم، وظهورُ علمهِ للناسِ من غير أن يظهر منهُ فخرٌ ولا عجبٌ، ومعرفتهُ زمانهُ الذي هو فيه، وبصرهُ بالناسِ، وأخذُهُ بالقسطِ، وإرشادهُ المسترشد، وحسن مخالقتهِ خُلطاءهُ، وتسويتهُ بين قلبهِ ولسانهِ، وتحريه العدل في كل أمرٍ، ورحب ذرعه فيما نابهُ، واحتجاجهُ بالحججِ فيما عمل، وحسنُ تبصيرهِ. علم الآخرة من أراد أن يبصر شيئاً من علمِ الآخرة، فالعلم الذي يعرفُ به ذلك، ومن أرداد أن يبصر شيئاً من أمر الدنيا فبالأشياء التي هي تدل عليه. ماذا يجب على المرء ليكنِ المرء سؤولاً، وليكن فصولاً بين الحق والباطل، وليكن صدوقاً ليؤمن على ما قال، وليكن ذا عهد ليوفى لهُ بعهده، وليكن شكوراً ليستوجب الزيادة، وليكن جواداً ليكون للخير أهلاً، وليكن رحيماً بالمضرورين لئلا يبتلى بالضر، وليكن ودوداً لئلا يكون معدناً لأخلاق الشيطان، وليكن متواضعاً ليفرح لهُ بالخير ولا يُحسد عليه، وليكن قنعاً لتقر عينه بما أوتي، وليسر للناسِ بالخيرِ لئلا يؤذيه الحسدُ، وليكن حذراً لئلا تطول مخافتهُ، ولا يكونن حقوداً لئلا يضرّ بنفسهِ إضراراً باقياً، وليكن ذا حياء لئلا يستذم إلى العُلماء. فإن مخافة العالمِ مذمة العُلماء أشد من مخافته عُقوبة السلطان. نصائح سنية حياةُ الشيطان تركُ العلمِ، وروحهُ وجسدهُ الجهلُ، ومعدنهُ في أهل الحقدِ والقساوةِ، ومثواهُ في أهل الغضبِ، وعيشهُ في المصارمةِ، ورجاؤهُ في الإصرار على الذنوبِ. وقال: لا ينبغي للمرء أن يعتمد بعلمه ورأيه ما لم يذاكرهُ ذوو الألباب ولم يجامعوه عليه. فإنهُ لا يستكملُ علمُ الأشياء بالعقلِ الفرد. أعدلُ السير أن تقيس الناس بنفسكَ، فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك. وأنفعُ العقلِ أن تحسنَ المعيشة فيما أوتيت من خيرٍ، وأن لا تكترث من الشر بما لم يصبك. ومن العلمِ أن تعلم أنك لا تعلمُ بما لا تعلمُ. ومن أحسنِ ذوي العقولِ عقلاً من أحسن تقدير أمرِ معاشه ومعادهِ تقديراً لا يفسد عليه واحداً منهما نفادُ الآخر، فإن أعياهُ ذلك رفض الأدنى وأثر عليه الأعظم. وقال: المؤمنُ بشيء من الأشياء، وإن كان سحراً، خيرٌ ممن لا يؤمنُ بشيء ولا يرجو معاداً. لا تؤدي التوبةُ أحداً إلى النار، ولا الإصرارُ على الذنوبِ أحداً إلى الجنةِ. من أفضل البر ثلاث خصالٍ: الصدقُ في الغضبِ، والجودُ في العسرةِ، والعفو عند القدرةِ. رأس الذنوب رأسُ الذنوبِ الكذبُ: هو يؤسسُها وهو يتفقدها ويثبتها. ويتلونُ ثلاثة ألوانٍ: بالأمنيةِ، والجحودِ، والجدلِ، يبدو لصاحبهِ بالأمنية الكاذبة فيما يزينُ لهُ من الشهواتِ فيشجعهُ عليها بأن ذلك سيخفى. فإذا ظهر عليه قابلهُ بالجحودِ والمكابرةِ، فإن أعياهُ ذلك ختم بالجدلِ، فخاصم عن الباطل ووضع لهُ الحجج، والتمس به التثبت وكابر بهِ الحق حتى يكون مسارعاً للضلالةِ ومكابراً بالفواحشِ. دين المرء لا يثبتُ دين المرء على حالةٍ واحدةٍ أبداً، ولكنهُ لا يزالُ إما زائداً وإما ناقصاً. علامات اللئيم من علاماتِ اللئيم المخادعِ أن يكون حسن القولِ، سيء الفعلِ، بعيد الغضب، قريب الحسد، حمولاً للفحشِ، محازياً بالحقد، متكلفاً للجود، صغير الخطر، متوسعاً فيما ليس لهُ، ضيقاً فيما يملكُ. اشتغل بالأعظم وكان يقالُ: إذا تخالجتك الأمور فاشتغل بأعظمها خطراً، فإن لم تستبن ذلك فأرجاها دركاً، فإن اشتبه ذلك فأجدرها أن لا يكون له مرجوعٌ حتى تولي فرصته. الرجال أربعة وكان يقالُ: الرجالُ أربعةٌ: اثنان تختبرُ ما عندهما بالتجربةِ، واثنان قد كفيت تجربتهما. فأما اللذانِ تحتاجُ إلى تجربتهما، فإن أحدهما برٌّ كان مع أبرارٍ، والآخر فاجرٌ كان مع فُجّارٍ، فإنك لا تدري لعل البر منهما إذا خالط الفُجّارَ أن يتبدل فيصير فاجراً، ولعل الفاجر منهما إذا خالط الأبرار أن يتبدل براً، فيتبدلُ البر فاجراً، والفاجر براً. وأما اللذان قد كفيتَ تجربتهما وتبين لك ضوءُ أمرهما، فإن أحدهما فاجرٌ كان في أبرارٍ، والآخر بر كان في فُجّارٍ. حكم متفرقة حق على العاقل أن يتخذ مراتينِ، فينظر من إحداهما في مساوئ نفسه فيتصاغر بها ويصلح ما استطاع منها، وينظر في الأخرى في محاسن الناسِ، فيحليهم بها ويأخذ ما استطاع منها. أحضر خصومةَ الأهل والولدِ والصديق والضعيفِ، واحتج عليهم بالحجج. لا يوقعنك بلاءٌ خلصتَ منهُ في آخر لعلك لا تخلصُ منهُ. الورعُ لا يخدعُ، والأريبُ لا يخدعُ. ومن ورعِ الرجلِ أن لا يقولَ ما لا يعلمُ، ومن الإربِ أن يتشبت فيما يعلمُ. وكان يقالُ: عمل الرجلِ فيما يعلم أنه خطأ هوى، والهوى آفةُ العفافِ. وتركهُ العمل بما يعلم أنه صوابٌ تهاونٌ، والتهاونُ آفةُ الدين. وإقدامُهُ على ما لا يدري أصوابٌ هو أم خطأ جماح، والجماح آفة العقلِ. وكان يقالُ: وفر من فوقك، ولن لمن دونك، وأحسن مؤاتاة أكفائك. وليكن آثر ذلك عندك مؤاتاةُ الإخوان، فإن ذلك هو الذي يشهد لك بأن إجلالك من فوقك ليس بخضوعٍ منك لهم، وأن لينكَ لمن دونك ليس لالتماسِ خدمتهم. غير المغتبطين خمسةٌ غير مغتبطين في خمسة أشياء، يتندمون عليها، الواهنُ المفرطُ إذا فاته العملُ، والمنقطعُ من إخوانه وصديقهِ إذا نابتهُ النوائبُ، والمستمكنُ منه عدوهُ لسوء رأيه إذا تذكر عجزهُ، والمفارق للزوجة الصالحة إذا ابتلي بالطالحةِ، والجريء على الذنوبِ إذا حضرهُ الموتُ. ماذا ينفع لا ينفع العقلُ بغير ورعٍ، ولا الحفظُ بغيرِ عقلٍ، ولا شدةُ البطشِ بغير شدة القلب، ولا الجمالُ بغيرِ حلاوةٍ، ولا الحسبُ بغير أدبٍ، ولا السرورُ بغير أمنٍ، ولا الغنى بغير جُودٍ، ولا المروءةُ بغير تواضعٍ، ولا الخفض بغير كفايةٍ، ولا الاجتهادُ بغير توفيقٍ. أمور هن تبع الأمور فالمروءاتُ كلها تبعٌ للعقلِ، والرأي تبعٌ للتجربةِ، والغبطةُ تبعٌ لحسنِ الثناء، والسرورُ تبعٌ للأمنِ، والقرابةُ تبع للمودةِ، والعملُ تبعٌ للقدرِ، والجدةُ تبعٌ للإنفاقِ. أصول وثمرات أصلُ العقل التثبتُ، وثمرتهُ السلامة، وأصل الورع القناعةُ، وثمرتهُ الظفرُ، وأصل التوفيقِ العملُ، وثمرتهُ النجحُ. الذكر السيء لا يذكر الفاجرُ في العقلاء، ولا الكذوبُ في الأعفّاء، ولا الحذولُ في الكرماء، ولا الكفورُ بشيءٍ من الخيرِ. من تؤاخي لا تؤاخين خباً، ولا تستنصرنً عاجزاً، ولا تستعيننّ كسلاً. بم يروح المرء عن نفسه ومن أعظمِ ما يروحُ به المرءُ نفسهُ أن لا يجري لما يهوى وليس كائناً، ولا لما لا يهوى وهو لا محالة كائنٌ. لا تفرح بالبطالة اغتنم من الخير ما تعجلت، ومن الأهواء ما سوفت، ومن النصب ما عاد عليكَ. ولا تفرح بالبطالةِ، ولا تجبن عن العملِ. ضياع العقل من استعظم من الدنيا شيئاً فبطر، واستصغر من الدنيا شيئاً فتهاون، واحتقر من الإثم شيئاً فاجترأ عليه، واغتر بعدوٍ وإن قل فلم يحذره، فذلك من ضياعِ العقلِ. ذو العقل لا يستخف بأحد لا يستخفُ ذو العقلِ بأحدٍ. وأحق من لم يستخف به ثلاثةٌ: الأتقياءُ والولاةُ والإخوانُ، فإنهُ من استخف بالأتقياء أهلك دينهُ، ومن استخف بالولاةِ أهلك دنياهُ، ومن استخف بالإخوانِ أفسد مروءتهُ. أزواج من حاول الأمورَ احتاج فيها إلى ست: العلمِ، والتوفيق، والفرصةِ، والأعوانِ، والأدبِ، والاجتهادِ. وهن أزواجٌ: فالرأيُ والأدبُ زوجٌ. لا يكملُ الرأي بغيرِ الأدبِ، ولا يكملُ الأدبُ إلا بالرأي. والأعوانُ والفرصةُ زوجٌ لا ينفعُ الأعوانُ إلا عند الفرصةِ، ولا تتم الفرصةُ إلا بحضورِ الأعوانِ. والتوفيقُ والاجتهادُ زوجٌ، فالاجتهادُ سببُ التوفيقِ، وبالتوفيقِ ينجحُ الاجتهادُ. سلامة العاقل يسلمُ من عظامِ الذنوبِ و العيوبِ بالقناعةِ ومحاسبةِ النفسِ. لا تجدُ العاقلَ يُحدثُ من يخافُ تكذيبهُ، ولا يسألُ من يخافُ منعهُ، ولا يعدُ بما لا يجدُ إنجازهُ، ولا يرجو ما يعنفُ برجائهِ، ولا يقدمُ على من يخافُ العجزَ عنهُ. وهو يسخي بنفسهِ عما يغبطُ بهِ القوالون خروجاً من عيبِ لتكذيبِ، ويسخي بنفسه عما ينالُ السائلون سلامةً من مذلةِ لمسألةِ، ويسخي بنفسهِ عن محمدةِ المواعيد براءة من مذمةِ لخلفِ، ويسخي بنفسهِ عن فرحِ الرجاء خوفَ الإكداء، ويسخيهِ عن مراتبِ المقدمين ما يرى من فضائحِ المقصرين. ذو العقل لا عقل لمن أغفلهُ عن آخرتهِ ما يجدُ من لذةِ دنياهُ، وليس من العقلِ أن يحرمهُ حظهُ من الدنيا بصرهُ بزوالها. سعيد ومرجو ّ حاز الخير رجُلانِ: سعيدٌ ومرجو. فالسعيد الفالجُ، والمرجو من لم يخصم. والفالجُ الصالحُ ما دام في قيدِ الحياةِ وتعرض الفتنِ في مُخاصمةٍ الخصماء من الأهواء والأعداء. السعيد يرغبه الله والشقي يرغبه الشيطان السعيدُ يُرغبهُ اللهُ في الآخرةِ حتى يقُول: لا شيء غيرها، فإذا هضمَ دنياهُ وزهدَ فيها لآخرتهِ، لم يحرمهُ الله بذلكَ نصيبهُ من الدنيا ولم ينقصهُ من سرورهِ فيها. والشقي يرغبهُ الشيطانُ في الدنيا حتى يقول: لا شيء غيرها. فيجعلُ الله له النغيص في الدنيا التي آثر مع الخزي الذي يلقى بعدها. الرجال أربعة الرجالُ أربعةٌ: جوادٌ، وبخيلٌ، ومسرفٌ، ومقتصدٌ. فالجوادُ الذي يوجهُ نصيبَ آخرتهِ ونصيبَ دنياهُ جميعاً في أمرِ آخرتهِ. والبخيلُ الذي يخطئ واحدةً منهما نصيبها. والمسرفُ الذي يجمعهما لدنُياهُ. والمقتصدُ الذي يلحقُ بكل واحدةٍ منهُما نصيبها. أغنى الناس وخير ما يؤتى المرء أغنى الناس أكثرهم إحساناً. قال رجلٌ لحكيمٍ: ما خيرُ ما يؤتى المرء؟ قال: غريزةُ عقلٍ. قال: فإن لم يكن؟ قال: فتعلمُ علمٍ. قال: فإن حرمهُ؟ قال: صدقُ اللسانِ قال: فإن حرمهُ؟ قال: سكوتٌ طويلٌ. قال: فإن حرمه؟ قال: ميتةٌ عاجلةٌ. أشدّ العيوب من أشد عيوبِ الإنسانِ خفاءً عيوبهُ عليه. فإن من خفي عليه عيبه خفيت عليه محاسنُ غيره، ومن خفي عليه عيبُ نفسه ومحاسنُ غيرهِ فلن يقلعَ عن عيبهِ الذي لا يعرفُ ولن ينال محاسنَ غيرهِ التي لا يبصرُ أبداً. الخصال المذمومة خمولُ الذكر أجملُ من الذكرِ الذميم. لا يوجد الفخورُ محموداً، ولا الغضوبُ مسروراً، ولا الحر حريصاً، ولا الكريمُ حسوداً، ولا الشرهُ غنياً، ولا الملولُ ذا إخوانٍ. خصالٌ يسرُ بها الجاهلُ، كلها كائنٌ عليهِ وبالاً: منها، أن يفخر من العلمِ والمروءةِ بما ليس عندهُ ومنها، أني أرى بالأخيار من الاستهانة والجفوةِ ما يشمتهُ بهم. ومنها، أن يناقل عالماً وديعاً منصفاً لهُ في القولِ فيشتد صوتُ ذلكَ الجاهلِ عليه ثم يفلجهُ نظراؤهُ من الجهالِ حولهُ بشدةٍ الصوت. ومنها، أن تفرطَ منهُ الكلمةُ أو الفعلةُ المعجبةُ للقومِ فيذكر بها. ومنها، أن يكون مجلسهُ في المحفلِ وعند السلطانِ فوق مجالسِ أهل الفضلِ عليهِ. سخافة المتكلم من الدليلِ على سخافةِ المتكلمِ أن يكون ما يُرى من ضحكه ليس على حسبِ ما عندهُ من القولِ، أو الرجلُ يكلّمُ صاحبهُ فيُجاذبهُ الكلام ليكونَ هو المتكلم، أو يتمنى أن يكون صاحبهُ قد فرغَ وأنصت لهُ فإذا نصتَ لهُ لم يحسنِ الكلامَ. القائد إلى النار وخازن الشيطان فضلُ العلمِ في غير الدينِ مهلكةٌ، وكثرةُ الأدبِ في غيرِ رضوانِ الله ومنفعةِ الأخبارِ قائدٌ إلى النارِ. والحفظُ الذاكي الواعي لغيرِ العلمِ النافعِ مضرٌ بالعملِ الصالحِ، والعقلُ غيرُ الوازع عن الذنوبِ خازنُ الشيطانِ. أخوف ما يكون لا يؤمننك شر الجاهلِ قرابةٌ ولا جوارٌ ولا إلفٌ. فإن أخوف ما يكونُ الإنسانُ لحريقِ النارِ أقربُ ما يكونُ منها، وكذلك الجاهلُ إن جاورك أنصبكَ، وإن ناسبكَ جنى عليك، وإن ألفلك حمل عليك ما لا تطيقُ، وإن عاشرك آذاك وأخافك، مع أنهُ عند الجوعِ سبعٌ ضارٍ، وعند الشبعِ ملكٌ فظٌ، وعند الموافقةِ في الدين قائدٌ إلى جهنم. فأنت بالهربِ منه أحق منكَ بالهربِ من سم الأساودِ والحريقِ المخوفِ والدينِ الفادحِ والداء العياء. ماذا يعمل الحازم وكان يقالُ: قارب عدوكَ بعض المقاربة، تنل حاجتك، ولا تقاربهُ كل المقاربةِ، فيجترئ عليك عدوك وتذل نفسك ويرغب عنك ناصركَ. ومثل ذلك مثل العود المنصوبِ في الشمسِ، إن أملتهُ قليلاً زاد ظلهُ، وإن جاوزتهُ الحد في إمالتهِ، نقص الظل. الحازمُ لا يأمنُ عدوهُ على حالٍ: إن كان بعيداً لم يأمن مغاورته، وإن كان قريباً لم يأمن مواثبتهُ، وإن كان منكشفاً لم يأمن استطرادهُ، وكمينهُ، وإن رآه وحيداً لم يأمن مكرهُ. الملكُ الحازم يزدادُ برأي الوزراء الحزمةِ كما يزدادُ البحرُ بموادهِ من الأنهارِ. الظفر بالحزمِ، والحزمُ بإجالة الرأي بتحصينِ الأسرارِ. فائدة المشورة إن المستشير وإن كان أفضل من المستشار رأياً، فهو يزدادُ برأيه رأياً، كما تزدادُ النارُ بالودكِ ضوءاً. على المُستشارِ مُوافقةُ المستشير على صوابِ ما يرى، والرفقُ به في تبصير خطأ إن أتى بهِ، وتقليبُ الرأي فيما شكا فيه، حتى تستقيم لهما مشاورتهما. الطمع لا يطمعنَ ذو الكبر في حسن الثناء، ولا الخِبُّ في كثرة الصديق، ولا السيء الأدبِ في الشرفِ، ولا الشحيحُ في المحمدةِ، ولا الحريصُ في الإخوانِ، ولا الملكُ المعُجبُ بثباتِ الملكِ. صرعة اللين صرعةُ اللين أشد استئصالاً من صرعة المكابرة. أربعة أشياء أربعةُ أشياءَ لا يستقل منها قليلٌ: النارُ، والمرضُ، والعدو، والدينُ. أحق الناسِ بالتوفير الملكُ الحليمُ، العالمُ بالأمورِ وفرصِ الأعمالِ ومواضعِ الشدةِ و اللين والغضبِ والرضا والمعالجةِ والأناة، الناظرُ في أمرِ يومه وغدهِ وعواقبِ أعمالهِ. العاجز والحازم السببُ الذي يندركُ به العاجزُ حاجتهُ هو الذي يحولُ بينّ الحازمِ وبين طلبتهِ. أهل العقل والكرم إن آهل العقلِ والكرمِ يبتغون إلى كل معروفٍ وصلةً وسبيلاً. والمودة بين الأخيار سريع اتصالها بطئ الانكسار هين الإصلاح. والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها بطئ اتصالها، كالكوز من الفخار يكسره أدنى عبث ثم لا وصل له أبداً. والكريم يمنح الرجل مودتهُ عن لقيةٍ واحدةٍ أو معرفةِ يومٍ. واللئيم لا يصلُ أحداً إلا عن رغبةٍ أو رهبةٍ. فإن أهل الدنيا يتعاطون فيما بينهم أمرين ويتواطأون عليهما: ذات النفسِ، وذات اليد. فأما المتبادلون ذات اليد فهُمُ المتعاونون المستمتعونَ الذينَ يلتمسُ بعضهمُ الانتفاعَ ببعضٍ مناجزةً ومُكايلةً. المال كلّ شيء ما التبعُ والأعوانُ والصديقُ والحشمُ إلا للمالِ. ولا يظهرُ المروءةَ إلا المالُ. ولا الرأي ولا القوةُ إلا بالمال. ومن لا إخوانَ لهُ فلا أهلَ لهُ، ومن لا أولاد لهُ فلا ذكر لهُ، ومن لا عقلَ لهُ فلا دنيا لهُ ولا آخرة، ومن لا مال لهُ فلا شيء لهُ. الفقر مجمعة للبلايا والفقرُ داعيةٌ إلى صاحبهِ مقتَ الناسِ، وهو مسلبةٌ للعقلِ والمروءةِ، مذهبةٌ للعلمِ والأدبِ، ومعدنٌ للتهمةِ، ومجمعةٌ للبلايا. ومن نزل به الفقرُ والفاقةُ لم يجد بُدّاً من تركِ الحياءِ، ومن ذهب حياؤهُ ذهبَ سرورهُ، ومن ذهبَ سرورهُ مقتَ، ومن مقتَ أو ذي، ومن أوذي خزنَ، ومن حزنَ فقد ذهبَ عقلهُ واستنكرَ حفظُهُ وفهمهُ. ومن أصيبَ في عقله وفهمهِ وحفظهِ كان أكثر قولهِ وعملهِ فيما يكون عليك لا لهُ. فإذا افتقر الرجلُ اتهمهُ من كان له مؤتمناً، وأساء به الظن من كان يظن به حسناً، فإذا أذنب غيرهُ ظنوهُ وكان للتهمةِ وسوء الظن موضعاً. وليس من خلةٍ هي للغني مدحٌ إلا هي للفقيرٍ عيبٌ، فإن كانَ شجاعاً سمي أهوج، وإن كانَ جواداً سمي مفسداً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي مفسداً، وإن كان حليماً سمي ضعيفاً، وإن كان وقوراً سمي بليداً، وإن كان لسناً سمي مهذاراً، وإن كان صموتاً سمي عيياً. الموت راحة وكان يقالُ: من ابتلي بمرضٍ في جسدهِ لا يفارقهُ، أو بفراق الأحبةِ والأخوان، أو بالغربةِ حيثُ لا يعرفُ مبيتاً ولا مقيلاً ولا يرجو إياباً، أو بفاقةٍ تضطرهُ إلى المسألة: فالحياةُ لهُ موتٌ، والموتُ له راحةٌ. البلايا في الحرص والشره وجدنا البلايا في الدنيا إنما يسوقُها إلى أهلها الحرصُ والشرهُ. ولا يزالُ صاحبُ الدنيا يتقلبُ في بليةٍ وتعبٍ، لأنه لا يزالُ بخلةِ الحرصِ والشرهِ. ماذا قال العلماء وسمعت العلماء قالوا: لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسبَ كحسنِ الخلقِ، ولا غنى كالرضى. وأحق ما صبر عليه ما لا سبيل إلى تغييرهِ. وأفضلُ البر الرحمةُ، ورأسُ المودةِ الاسترسالُ، ورأسُ العقلِ المعرفةُ بما يكونُ وما لا يكونُ، وطيبُ النفسِ حسنُ الانصرافِ عما لا سبيل إليه. وليس من الدنيا سرورٌ يعدلُ صحبةَ الإخوانِ، ولا فيها غم يعدلُ غم فقدهم. تمام حسن الكلام لا يتم حسنُ الكلامِ إلى بحسنِ العملِ، كالمريض الذي قد علمَ دواء نفسهِ، فإذا هو لم يتداو به لم يغنهِ علمهُ. صاحب المروءة الرجلُ ذو المروءة قد يكرمُ على غير مالٍ، كالأسد الذي يهابُ وإن كان عقيراً. والرجلُ الذي لا مروءةً لهُ يهانُ وإن كثر مالهُ، كالكلبِ الذي يهونُ على الناسِ وإن هو طوق وخلخلَ. تعاهد نفسك ليحسنُ تعاهدكَ نفسكَ بما تكونُ به للخيرِ أهلاً. فإنك إذا فعلتَ ذلك، أتاك الخيرُ يطلبكَ، كما يطلبُ الماءُ السيل إلى الحدورة. أشياء غير ثابتة وقيل في أشياء ليس لها ثباتٌ ولا بقاءٌ: ظل الغمامِ، وخلة الأشرارِ، وعشق النساء، والنبأ الكاذبُ، والمالُ الكثيرُ. وليس يفرحُ العاقلُ بالمالِ الكثير، ولا يحزنهُ قلتهُ. ولكن مالهُ عقلهُ وما قدم من صالحِ عملهِ. أولى الناس إن أولى الناس بفضلِ السرورِ وكرمِ العيشِ وحسنِ الثناء من لا يبرحُ رحله من إخوانهِ وأصدقائه من الصالحين موطوءاً ولا يزال عندهُ منهم زحامٌ، ويسرهم ويسرونهُ من وراء حاجاتهم وأمورهمُ، فإنّ الكريم إذا عثر لم يستقل إلا بالكرامِ، كالفيلِ إذا وحل لم يستخرجهُ غلا الفيلةُ. شراء العظيم بالصغير لا يرى العاقلُ معروفاً صنعهُ، وإن كان كثيراً. ولو خاطر بنفسه وعرضها في وجوهِ المعروف، لم ير ذلك عيباً. بل يعلمُ أنما أخطر الفاني بالباقي، واشترى العظيم بالصغير. وأغبط الناس عند ذوي العقلِ أكثرهم سائلا منجحاً، ومستجيراً آمناً. المشاركة في المال لا تعد غنياً من لم يشارك في مالهِ، ولا تعد نعيماً ما كان فيه تنغيص وسوءُ ثناء، ولا تعد الغنم غنماً إذا ساق غرماً ولا الغرمَ غُرماً إذا ساقَ غنماً، ولا تعتد من الحياةِ ما كان في فراقِ الأحبة. المعونة على تسلية الهموم ومن المعونة على تسلية الهمومِ وسكون النفسِ لقاءُ الأخِ أخاهُ، وإفضاءُ كل واحدٍ منهما إلى صاحبهِ ببثةِ. وإذا فرق بين الأليف وأليفهِ فقد سُلبَ قرارهُ وحُرمَ سرورهُ. من بلاء إلى بلاء وقلّ ما ترانا نُخلِّفُ عَقَبَةً من البلاء إلا صرنا في أُخرى. تقلب الأحوال وتعاقبها لقد صدق القائل الذي يقول: لا يزال الرجلُ مستمراً ما لم يعثر، فإذا عثر مرة واحدةً في أرضِ الخبارِ لج بهِ العثارُ، وإن مشى في جدد لأن هذا الإنسان موكلٌ به البلاءُ، فلا يزالُ في تصرفٍ وفي تقلبٍ لا يدومُ له شيءٌ ولا يثبت معهُ، كما لا يدومُ لطالعِ النجومِ طلوعُهُ ولا لآفلها أفولهُ. ولكنها في تقلبٍ وتعاقُبٍ: فلا يزال الطالعُ يكُونُ آفلاً طالعاً. الأدبُ الكبير بسم الله الرحمن الرحيم قال عبد الله بن المقفع: إنا وجدنا الناس قبلنا كانوا أعظم أجساماً، وأوفر مع أجسامهم أحلاماً، وأشد قوةً، وأحسن بقوتهم للأمور إتقاناً، وأطول أعماراً، وأشد قوةً، وأحسنَ بقوتهم للأمورِ إتقاناً، وأطول أعماراً، وأفضل بأعمارهم للأشياء اختباراً. فكان صاحبُ الدين منهمُ أبلغ في أمر الدينِ علماً وعملاً من صاحبِ الدين منا، وكان صاحبُ الدنيا على مثلِ ذلك من البلاغةِ والفضلِ. ووجدناهم لم يرضوا بما فازوا به من الفضلِ الذي قسم لأنفسهم حتى أشركونا معهم في ما أدركوا من علمِ الأولى والآخرةِ فكتبوا به الكتبَ الباقية، وضربوا الأمثالَ الشافيةَ، وكفونا به مؤونة التجارب والفطنِ. وبلغَ من اهتمامهم بذلكَ أن الرجلَ منهم. كان يفتحُ له البابُ من العلم، أو الكلمة من الصوابِ وهو في البلد غير المأهولِ فيكتبهُ على الصخورِ مبادرةً للأجلِ وكراهية منهُ أن بسقط ذلك عمن بعدهُ. فكان صنيعهم في ذلك صنيع الوالدِ الشفيقِ على ولدهِ، الرحيمِ البر بهم، الذي يجمعٌ لهمُ الأموال والعقد إرادة ألا تكون عليهم مؤونة في الطلبِ، وخشيةَ عجزهم، إن هم طلبوا. فمنتهى علم عالمنا في هذا الزمانِ أن يأخذ من علمهم، وغايةُ إحسانِ محسنناً أن يفتدي بسيرتهم. وأحسنُ ما يصيبُ من الحديث مُحدثنا أن ينظر في كتبهم فيكونَ كأنه إياهم يحاورُ، ومنهم يستمعُ، وآثارهم يتبع. غير أن الذي نجد في كبتهم هو المنتخل من آرائهم والمنتقى من أحاديثهم. ولم نجدهم غادروا شيئاً يجدُ واصفٌ بليغٌ في صفةٍ له مقالاً لم يسبقوهُ إليه: لا في تعظيم للهِ، عزّ وجلّ، وترغيبٍ فيما عندهُ، ولا في تصغيرٍ للدنيا وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف العلمِ وتقسيمِ أقسامها وتجزئةِ أجزائها وتوضيحِ سبلها وتبيينِ مآخذها، ولا في وجهٍ من وجوهِ الأدبِ وضروبِ الأخلاقِ. فلم يبق في جليلِ الأمر ولا صغيرةِ لقائلٍ بعدهم مقالٌ. وقد بقيت أشياءُ من لطائفِ الأمورِ فيها مواضعُ لصغارِ الفطنِ، مشتقةٌ من جسام حكمِ الأولينَ وقولهم، فمن ذلك بعضُ ما أنا كاتبٌ في كتابي هذا من أبوابِ الأدبِ التي يحتاجُ إليها الناسُ. يا طالب الأدب يا طالبَ الأدبِ إن كنتَ نوعَ العلمِ تريدُ فاعرفِ الأصولَ والفصول. فإن كثيراً من الناسِ يطلبونًَ الفصول مع إضاعةِ الأصول فلا يكونُ دركهم دركاً. ومن أحرز الأصول اكتفى بها عنِ الفصولِ. وإن أصابَ الفصل بعد إحرازِ الأصلِ فهو أفضلُ. فأصل الأمرِ في الدينِ أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنبَ الكبائرَ، وتُؤدي الفريضةَ. فالزم ذلك لزوم من لا غنى له عنهُ طرفهَ عينٍ، ومن يعلم أنهُ إن حرمهُ هلك. ثم إن قدرتَ على أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة فهو أفضلُ وأكملُ وأصلُ الأمرِ في صلاح الجسد ألا تحمل عليه من المآكلِ والمشارب والباهِ إلا خُفاقاً، ثم إن قدرت على أن تعلم جميعَ منافعِ الجسد ومضارهِ والانتفاع بذلك كله فهو أفضلُ. وأصلُ الأمر في البأسِ والشجاعةِ ألا تُحدثَ نفسك بالإدبارِ، وأصحابكَ مقبلونَ على عدوهم. ثم إن قدرت على أن تكونَ أولِ حاملٍ وآخر منصرفٍ، من غير تضييعٍ للحذرِ فهو أفضلُ. وأصلُ الأمرِ في الجودِ ألا تضن بالحقوق على أهلها. ثم إن قدرتَ أن تزيدَ ذا الحق على حقه وتطول على من لا حق لهُ فافعل فهو أفضلُ. وأصلُ الأمرِ في الكلامِ أن تسلم من السقطِ بالتحفظِ. ثم إن قدرت على بارعِ الصوابِ فهو أفضلُ. وأصلُ الأمر في المعيشة ألا تني عن طلبٍ الحلالِ، وأن تحسن التقدير لما تفيد وما تنفقُ. ولا يغرنكَ من ذلك سعةٌ تكونُ فيها. فإن أعظمَ الناسِ في الدنيا خطراً أحوجهم إلى التقدير، والملوكُ أحوجُ إليهِ من السوقةِ لأن السوقة قد تعيشُ بغيرِ مالٍ، والملوكَ لا قوام لهم إلا بالمالِ. ثم إن قدرتَ على الرفقِ واللطفِ في الطلبِ والعلمِ بوجوهِ المطالبِ فهو أفضلُ. وأنا واعظُكَ في أشياء من الأخلاقِ اللطيفةِ والأمورِ الغامضةِ التي لو حنكتك سنٌ كنتَ خليقاً أن تعلمها، وإن لم تخبر عنها. ولكنني قد أحببتُ أن أقدمَ إليكَ فيها قولاً لتروض نفسك على محاسنها قبل أن تجري على عادةِ مساوئها. فإن الإنسانَ قد تبتدرُ إليهِ في شبيبتهِ المساوئ، وقد يغلبُ عليه ما بدر إليه منها للعادةِ، وإن لترك العادةِ مؤونةً شديدةً ورياضةً صعبةً. في السلطان إذا ابتُليت بالسلطان تعوذ بالعلماء إن ابتُليتَ بالسلطان فتعوذ بالعلماء. واعلم أن من العجبِ أن يبتلى الرجلُ بالسلطان فيريد أن ينتقص من ساعات نصبهِ وعملهِ فيزيدها في ساعاتِ دعتهِ وفراغهِ وشهوتهِ وعبثه ونومهِ. وإنما الرأي لهُ وحقُ عليهِ أن يأخذ لعملهِ من جميعِ شغله، فيأخذ لهُ من طعامهِ وشرابهِ ونومهِ وحديثهِ ولهوهِ ونسائهِ. وإنما تكون الدعةُ بعد الفراغِ. فإذا تقلدت شيئاً من مرِ السلطان فكن فيه أحد رجلينِ: إما رجلا مغتبطاً به، محافظاً عليهِ مخافة أن يزول عنهُ، وإما رجلاً كارهاً عليهِ. فالكارهُ عاملٌ في سخرةٍ: إما للملوكِ، إن كانوا هم سلطوهُ، وإما لله تعالى، إن كان ليس فوقهُ غيرهُ. وقد علمتَ أنه من فرط في سخرةِ الملوكِ أهلكوهُ. فلا تجعل للهلاكِ على نفسكَ سلطاناً ولا سبيلاً. إيّاك وحبّ المدح وإياكَ إذا كُنتَ والياً، أن يكونَ من شأنك حبّ المدحِ والتزكية وأن يعرفَ الناسُ ذلك منكَ، فتكونَ ثلمة من الثلم يتقحمونَ عليك منها، وباباً يفتتحونك منهُ، وغيبةً يغتابونك بها ويضحكون منك لها. واعلم أن قابل المدحِ كمادحِ نفسهِ. والمرءُ جديرٌ أن يكونَ حبهُ المدحَ هو الذي يحملهُ على ردهِ. فإن الرادّ لهُ محمودٌ، والقابل له معيبٌ. لتكن حاجتُكَ في الولاية إلى ثلاثة خصالٍ: رضي ربكَ ورضى سلطانٍ، إن كانَ فوقك، ورضى صالحِ من تلي عليهِ. ولا عليكَ أن تلهو عن المالِ والذكرِ، فسيأتيك منهُما ما يحسنُ ويطيبُ ويُكتفى به. واجعلِ الخصالَ الثلاثَ منكَ بمكان ما لا بد لك منهُ. واجعل المال والذكر بمكانٍ ما أنتَ واجدٌ منهُ بداً. اعرف الفضل في أهل الدينِ والمروءةَ في كل كورةٍ وقريةٍ وقبيلةٍ. فيكونوا هم إخوانكَ وأعوانك وأخدانكَ وأصفياءك وبطانتك وثقاتكَ وخلطاءكَ. ولا تقذفن في روعك أنك إن استشرت الرجال ظهر للناسِ منكَ الحاجةُ إلى رأي غيركَ، فإنكَ لست تريدُ الرأي للافتخارِ به، ولكنما تُريدُهُ للانتفاع بهِز ولو أنكَ مع ذلك أردت الذكر، كان أحسنَ الذاكرينِ وأفضلهما عند أهلِ الفضلِ والعقلِ أن يقالَ: لا يتفردُ برأيهِ دونَ استشارةِ ذوي الرأي إنك إن تلتمس رضى جميع الناس تلتمس ما لا يدركُ. وكيف يتفقُ لك رأي المختلفينَ، وما حاجتكَ إلى رضى من رضاهُ الجورُ، وإلى موافقةِ من موافقتهُ الضلالةُ والجهالةُ؟ فعليك بالتماسِ رضى الأخيارِ منهم وذوي العقلِ. فإنك متى تصب ذلك تضع عنكَ مؤونة ما سواهُ. ما ينبغي للسلطان نحو رعيته لا تُمكن أهل البلاء الحسنِ عندك من التدللِ عليكَ، ولا تمكنن من سواهمُ من لاجتراء عليهم والعيبِ لهم. لتعرف رعيتكَ أبوابكَ التي لا ينالُ ما عندكَ من الخيرِ إلا بها، والأبوابَ التي لا يخافكَ خائفٌ إلا من قبلها. احرصِ الحرص كلهُ على أن تكونَ خابرا أمور عمالكَ، فإن المسيء يفرقُ من خبرتكَ قبل أن تُصيبهُ عقوبتكَ، وإن المحسنَ يستبشرُ بعلمكَ قبلَ أن يأتيهُ معرُوفكَ. ليعرفِ الناسُ، في ما يعرفونَ من أخلاقك، أنك لا تُعاجلُ بالثوابِ ولا بالعقابِ، فإن ذلك أدومُ لخوفٍ الخائفِ ورجاء الراجي. عود نفسك الصبر على من خالفكَ من ذوي النصيحة، والتجرع لمرارةِ قولهم وعذلهم، ولا تسهلن سبيلَ ذلك إلا لأهلِ العقلِ والسن والمروءةِ، لئلاً ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيهٌ أو يستخفُ به شانئ. مباشرة الصغير تضيع الكبير لا تتركن مُباشرة جسيمِ أمركَ فيعودَ شأنكَ صغيراً، ولا تُلزمن نفسكَ مباشرةَ الصغيرِ، فيصيرَ الكبيرُ ضائعاً. وأعلم أن مالكَ لا يغني الناسَ كلهم فاخصص به أهل الحق، وأن كرامتك لا تطيقُ العامة كلها فتوخ بها أهل الفضلِ، وأن قلبكَ لا يتسعُ لكل شيء ففرغه للمهم، وأن ليلكَ ونهاركَ لا يستوعبان حاجاتكَ، وإن دأبت فيهما، وأن ليس لك إلى إدامة الدأب فيهما سبيلٌ مع حاجةِ جسدك إلى نصيبهِ منهما فأحسن قسمتهُما بين عملك ودعتكَ. واعلم أن ما شغلت من رأيك بغير المهم أزرى بكَ في المهم، وما صرفتَ من مالكَ في الباطلِ فقدتهُ حينَ تُريدهُ للحقّ، وما عدلتَ به من كرامتك إلى أهلِ النقصِ أضر بكَ في العجزِ عن أهلِ الفضلِ، وما شغلتَ من ليلكَ ونهاركَ في غير الحاجةِ أزرى بكَ عند الحاجةِ منكَ إليهِ. إياك والإفراط في الغضب اعلم أنّ من الناسِ ناساً كثيراً يبلغُ من أحدهمِ الغضبُ، إذا غضبَ، أن يحملهُ ذلك في الكلوحِ والقطوبِ في وجهِ غيرِ من أغضبهُ، وسوء اللفظ لمن لا ذنب لهُ، والعقوبةِ لمن لم يكن يهم بمعاقبتهِ، وشدةِ المعاقبةِ باللسانِ واليد لمن لم يكن يريدُ به إلا دون ذلكَ. ثم يبلغُ به الرضى، إذا رضي، أن يتبرع بالأمر ذي الخطرِ لمن ليس بمنزلةِ ذلك عندهُ، ويُعطي من لم يكن يُريدُ إعطاءهُ، ويكرمَ من لم يُرد إكرامهُ ولا حق له ولا مودةَ عندهُ. فاحذر هذا الباب الحذر كله! فإنه ليس أحدٌ أسوأ فيه حالاً من أهلِ السلطانِ الذين يفرطون باقتدارهم في غضبهم، وبتسرعهم في رضاهم. فإنهُ لو وصفَ بهذه الصفةِ من يلتبسُ بعقلهِ أو يتخبطهُ المس أن يعاقبَ عند غضبهِ غير من أغضبهُ ويحبو عند رضاهُ غير من أرضاهُ لكان جائزاً ذلكَ في صفتهِ. الملك ثلاثة اعلم أن الملك ثلاثةٌ: ملكُ دينٍ، وملكُ حزمٍ، وملكُ هوى. فأما ملكُ الدينِ فإنهُ إذا أقام للرعيةِ دينهم، وكان دينهم هو الذي يعطيهم الذي لهم ويلحقُ بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليمِ. وأما ملكُ الحزمِ فإنهُ يقومُ به الأمرُ ولا يسلمُ من الطعنِ والتسخطِ. ولن يضر طعنُ الضعيفِ مع حزمِ القوي. وأما ملكُ الهوى فلعب ساعةٍ ودمار دهرٍ. الاعتدال في الكلام والسلام إذا كان سلطانُكَ عند جدةِ دولةٍ، فرأيتَ أمراً استقام بغيرِ رأيٍ، وأعواناً أجزوا بغيرِ نيلٍ، وعملاً أنجح بغيرِ حزمٍ، فلا يغرنك ذلك ولا تستنيمن إليه. فإن الأمر الجديد ربما يكونُ لها مهابةٌ في أنفسِ أقوامِ وحلاوةٌ في قلوبِ آخرينَ، فيُعينُ قومٌ على أنفسهم ويعينُ قومٌ بما قبلهم. ويستتب ذلكَ الأمرُ غير طويلٍ ثم تصيرُ الشؤونُ إلى حقائقها وأصولها. فما كان من الأمور بنى على غيرِ أركانٍ وثيقةٍ ولا دعائم محكمةٍ أوشك أن يتداعى ويتصدع. لا تكونن نزر الكلام والسلامِ، ولا تبلغن بهما إفراط الهشاشةِ والبشاشةِ. فإن إحداهُما من الكبرِ والأخرى من السخف. بأي شيء تكون الثقة إذا كانت إنما تضبطُ أمورك وتصولُ على عدوكَ بقومٍ لست منهم على ثقةٍ من دينٍ ولا رأي ولا حفاظٍ من نيةٍ فلا تنفعنكَ نافعةٌ حتى تحولهم، إن استطعتَ إلى الرأي والأدبِ الذي بمثلهِ تكون الثقة، أو تستبدل بهم، إن لم تستطع نقلهم إلى ما تريد. ولا تغرنكَ قوتكَ بهم على غيرهم، فإنما أنت في ذلك كراكبِ الأسدِ الذي يهابهُ من نظر إليه، وهو لمركبهِ أهيبُ. تجنب الغضب والكذب. ليس للملكِ أن يغضبَ، لأن القدرة من وراء حاجتهِ. وليس لهُ أن يكذبَ، لأنه لا يقدرُ أحدٌ على استكراههِ على غير ما يريدُ. وليس له أن يبخل، لأنه أقلُ الناسِ عذراً في تخوف الفقرِ. وليس له أن يكون حقوداً، لأن خطرهُ قد عظُمَ عن مجاراةِ كل الناسِ وليس لهُ أن يكونَ حلاّفاً، لأن أحق الناسِ باتقاء الأيمان الملوكُ، فإنما يحملُ الرجلَ على الحلفِ إحدى هذه الخصال: إما مهانةٌ يجدها في نفسه، وضرعٌ وحاجةٌ إلى تصديقِ الناسِ إياهُ. وإما عنيٌّ بالكلامِ، فيجعل الأيمان لهُ حشواً ووصلاً. وإما تهمةٌ قد عرفها من الناسِ لحديثهِ، فهو ينزلُ نفسهُ منزلةَ من لا يقبلُ قولهُ إلى بعد جهد اليمين. وإما عبثُ بالقولِ وإرسالٌ للسانِ على غيرِ رويةٍ ولا حسنِ تقديرٍ، ولا تعويدٍ له قولَ السدادِ والتثبتَ. التفويض إلى الكفاة لا عيبَ على الملكِ في تعيشهِ وتنعمهِ ولعبهِ ولهوهِ، إذا تعهد الجسيم من أمرهِ بنفسهِ، وأحكمَ المهم، وفوض ما دون ذلك إلى الكفاةِ. ما يزين الجور ويحمل على الباطل كل أحدٍ حقيقٌ، حين ينظرُ في أمورِ الناسِ، أن يتهم نظرهُ بعينِ الريبةِ، وقلبهُ بعينِ المقتِ، فإنهما يزينانِ الجور ويحملانِ على الباطلِ ويقبحانِ الحسنَ ويُحسنانِ القبيحَ. وأحقُّ الناسِ باتهامِ نظرهِ بعينِ الريبةِ وعينِ المقتِ السلطانُ الذي ما وقعَ في قلبهِ ربا مع ما يقيضُ له من تزيينِ القرناءِ والوزراءِ. وأحقُّ الناسِ بإجبار نفسه على العدل في النظر والقولِ والفعلِ الوالي الذي ما قال أو فعل كان أمراً نافذاً غير مردودٍ. ليعلمِ الوالي أن الناسَ يصفون الولاةَ بسوء العهدِ ونسيانِ الود، فليكابد نقض قولهم، وليبطل عن نفسهِ وعن الولاة صفاتِ السوءِ التي يوصفونَ بها. تفقد الوالي لرعيته وتجنبه الحسد حق الوالي أن يتفقد لطيفَ أمورِ رعيتهِ، فضلاً عن جسيمها، فإن للطيفِ موضعاً ينتفعُ به، وللجسيم موضعاً لا يتسغني عنهُ. ليتفقد الوالي، في ما يتفقدُ من أمورِ رعيتهِ، فاقةَ الأخيارِ الأحرار منهم، فليعمل في سدها، وطغيانَ السفلةِ منهم فليقمعهُ، وليستوحش من الكريمِ الجائعِ واللئيم الشبعانِ، فإنما يصولُ الكريمُ إذا جاعَ، واللئيم إذا شبعَ. لا ينبغي للوالي أن يحسدَ الولاة إلى على حسنِ التدبيرِ. ولا يحسدن الوالي من دونه فإنه أقل في ذلك عذراً من السوقةِ التي إنما تحسدُ من فوقها، وكلٌّ لا عذر لهُ. لا يلومن الوالي على الزلة من ليس بمتهمٍ عندهُ في الحرصِ على رضاهُ إلا لوم أدبٍ وتقويم، ولا يعدلن بالمجتهد في رضاهُ البصيرِ بما يأتي أحداً. فإنهما إذا اجتمعا في الوزير والصاحبِ نام الوالي واستراح، وجلبت إليه حاجاتهُ، وإن هدأ عنها، وعمل لهُ فيما يهمهُ وإن غفلَ. لا يولعنَ الوالي بسوءٍ الظنّ لقولِ الناسِ، وليجعل لحسنِ الظنّ من نفسهِ نصيباً موفوراً يروحُ بهِ عن قلبهِ ويُصدرُ عنه في أعمالهِ. لا يُضيعن الوالي التثبت عندما يقولُ، وعندما يُعطي، وعندما يعملُ. فإنّ الرجوعَ عن الصمتِ أحسنُ من الرجوعِ عن الكلامِ، وإن العطيةَ بعد المنعِ أجملُ من المنعِ بعد الإعطاء، وإن الأقدامَ على العمل بعد التأني فيه أحسنُ من الإمساكِ عنهُ بعد الإقدام عليه. وكل الناسِ محتاجٌ إلى التثبت. وأحوجهم إليهِ ملوكهمُ الذين ليس لقولهم وفعلهم دافعٌ، وليس عليهم مستحث. كيف يكسد الفجور والدناءة ليعلم الوالي أن الناس على رأيهِ إلا من لا بال لهُ. فليكن للدين والبر والمروءةِ عندهُ نفاقٌ فيكسد بذلك الفجورَ والدناءةَ في آفاقِ الأرضِ. ما يحتاج إليه الوالي من أمر الدنيا جماعُ ما يحتاجُ إليه الوالي من أمر الدنيا رأيانِ: رأي يقوي به سلطانهُ، ورأيٌ يزينهُ في الناسِ. ورأي القوةِ أحقهما بالبداءةِ وأولاهما بالأثرة. ورأي التزيين أحضرهما حلاوةً وأكثرهم أعواناً. مع أن القُوةَ من الزينةِ، والزينةَ من القوةِ. لكن الأمر يُنسبُ إلى معظمهِ وأصلهِ. ماذا على المبتلى بصحبة السلطان وصحبة الوالي. إن ابتليتَ بصحبة السلطانِ فعليكَ بطولِ المواظبة في غير معاتبةٍ، ولا يحدثنَ لك الاستئناسُ به غفلةً ولا تهاوُناً. إذا رأيتَ السلطانَ يجعلُكَ أخاً فاجعله أباً، ثم إن زادك فزدهُ إذا نزلتَ من ذي منزلةٍ أو سلطانٍ فلا ترين أن سلطانهُ زادك له توقيراً وإجلالاً، من غيرِ أن يزيدكَ ودّاً ولا نصحاً. وأنك ترى حقاً له التوقيرَ والإجلالَ. وكن في مداراتهِ والرفقِ به كالمؤتنفِ ما قبلهُ، ولا تقدرِ الأمر بينكَ وبينهُ على ما كنتَ تعرفُ من أخلاقهِ، فإن الأخلاقَ مستحيلةٌ مع الملكِ، وربما رأينا الرجل المدل على ذي السلطانِ بقدمهِ قد أضر بهِ قدمهُ. إن استطعتَ ألا تصحبَ من صحبتَ من الولاةِ إلا على شعبةٍ من قرابةٍ أو مودةٍ، فافعل. فإن أخطأك ذلك فاعلم أنكَ إنما تعمل على السخرةِ. إن استطعتَ أن تجعل صحبتكَ لمن قد عرفك بصالحِ مروءتكَ وصحة دينكَ وسلامةِ أموركَ قبلَ ولايتهِ فافعل. فإن الوالي لا علم لهُ بالناسِ إلا ما قد علم قبلَ ولايته. أما إذا ولي فكل الناسِ يلقاهُ بالتزينِ والتصنعِ وكلهم يحتالُ لان يثني عليه عندهُ بمال ليس فيهِ. غير أن الأنذال والأرذال هم أشدٌ لذلكَ تصنعاً وأشد عليهِ مثابرةً وفيه تمحلاً. فلا يمتنعُ الوالي، وإن كان بليغَ الرأي والنظرِ، من أن ينزل عندهُ كثيرٌ من الأشرار بمنزلةِ الأخيارِ، وكثيرٌ من الخانةِ بمنزلةِ الأمناءِ، وكثيرٌ من الغدرة بمنزلةِ الأوفياء، ويغطى عليهِ أمرُ كثيرٍ من أهل الفضل الذينَ يصونونَ أنفسهم عنِ التمحلِ والتصنعِ. إذا عرفتَ نفسك من الوالي بمنزلةِ الثقةِ، فاعزل عنهُ كلامَ الملقِ، ولا تكثرنَ من الدعاء لهُ في كل كلمة، فإنّ ذلك شبيهٌ بالوحشةِ والغربةِ، إلا أن تكلمهُ على رؤوس الناسِ، فلا تأل عما عظمهُ ووقرهُ. لا يعرفنكَ الولاة بالهوى في بلدٍ من البلدانِ ولا قبيلةٍ من القبائلِ، فيوشكَ أن تُحتاجَ فيهما إلى حكايةٍ أو شهادةٍ، فتُتهمَ في ذلك. فإذا أردت أن يُقبلَ قولكَ فصحح رأيكَ ولا تشوبنهُ بشيءٍ من الهوى، فإن الرأي الصحيحَ يقبلهُ منكّ العدو، والهوى يردهُ عليكَ الولدُ والصديقُ. وأحقُّ منِ احترستَ من أن يظُنّ بكَ خلطَ الرأي بالهوى الولاةُ، فإنها خديعةٌ وخيانةٌ وكفرٌ عندهم. إن ابتليتَ بصحبةِ والٍ لا يُريدُ صلاحَ رعيتهِ فاعلم أنكَ قد خيرتَ بين خلتينِ ليس منهما خيارٌ: إما الميلُ مع الوالي على الرعيةِ، وهذا هلاكُ الدينِ. وإما الميلُ مع الرعيةِ على الوالي، وهذا هلاكُ الدنيا، ولا حيلةَ لكَ إلا الموتُ أو الهربُ. واعلم أنهُ لا ينبغي لكَ، وإن كانَ الوالي غيرَ مرضي السيرةِ إذا علقت حبالكَ بحبالهِ، إلا المحافظةُ عليهِ، إلا أن تجد إلى الفراقِ الجميلِ سبيلاً. تبصر ما في الوالي من الأخلاقِ التي تحبّ له والتي تكرهُ، وما هو عليهِ من الرأي الذي ترضى لهُ والذي لا ترضى. ثم لا تكابرنهُ بالتحويلِ لهُ عما يُحبّ ويكرهُ إلى ما تحبَ وتكرهُ. فإنّ هذه رياضةٌ صعبةٌ تحملُ على التنائي والقلى. فإنكَ قلما تقدرُ على ردّ رجلٍ عن طريقةٍ هو عليها بالمكابرة والمناقضةِ، وإن لم يكن ممن يتجمحُ بهِ عز السلطانِ. ولكنكَ تقدرُ على أن تعينهُ على أحسنِ رأيهِ، وتُسددهُ فيه وتزينهُ، وتقويهُ عليهِ، فإذا قويت منهُ المحاسن كانت هي التي تكفيكَ المساوئ. وإذا استحكمت منهُ ناحيةٌ من الصوابِ كان ذلكَ الصوابُ هو الذي يبصرهُ مواقعَ الخطأ بألطف من تبصيركَ وأعدل من حكمكَ في نفسهِ. فإن الصوابَ يؤيدُ بعضهُ بعضاً ويدعو بعضهُ إلى بعضٍ حتى تستحكم لصاحبهِ الأشياءُ، ويظهرَ عليها بتحكيمِ الرأي، فإذا كانت لهُ مكانةٌ من الأصالةِ اقتلعَ ذلك الخطأ كلهُ. فاحفظ هذا الباب وأحكمهُ. لا تسأل السلطان ولا تتدل عليه لا يكونن طلبكَ ما عند الوالي بالمسألةِ، لا تستبطئهُ، وإن أبطأ عليكَ. وليس أطلبُ ما قبلهُ بالاستحقاق لهُ، واستأنِ به وإن طالتِ الأناةُ منهُ. فإنك إذا استحققتهُ أتاكَ عن غيرِ طلبٍ، وإن لم تستبطئهُ كان أعجلَ لهُ. لا تخبرنَ الوالي أن لكَ عليهِ حقاً، وأنكَ تعتد عليهِ ببلاء وإنِ استطعتَ ألا ينسى حقك وبلاءك فافعل. وليكن ما يذكره بهِ من ذلك تجديدكَ لهُ النصيحةَ والاجتهادَ، وألا يزالَ ينظرُ منكَ إلى آخرٍ يذكرهُ أول بلائكَ. واعلم أن السلطانَ إذا انقطعَ عنهُ الآخرُ نسي الأولَ، وأن الكثير من أولئكَ أرحامهم مقطوعةٌ وحبالهم مصرومةٌ، إلا عمن رضوا عنهُ وأغنى عنهم في يومهم وساعتهم. إياك أن يقع في قلبك تعتبٌ على الوالي أو استزراءٌ لهُ. فإنهُ إن وقعَ في قلبك بدا في وجهكَ، إن كنت حليماً، وبدا على لسانكَ، إن كنتَ سفيهاً. فإن لم يزد ذلكّ على أن يظهر في وجهكَ لآمنِ الناس عندك فلا تأمنن أن يظهرّ ذلك للوالي. فإنّ الناس إلى السلطان بعوراتِ الإخوانِ سراعٌ، فإذا ظهر ذلك للوالي كان قلبهُ هو أسرع إلى النفورِ والتغيرِ من قلبكَ فمحقَ ذلك حسناتكَ الماضية، وأشرفَ بكَ على الهلاك، وصرتَ تعرفُ أمركَ مستدبراً وتلتمسُ مرضاةَ سلطانك مستصعباً. ولو شئت كنتَ تركتهُ راضياً وازددت من رضاهُ دُنُواً. احذر سخط السلطان واخضع له اعلم أن أكثرَ الناسِ عدواً جاهداً حاضراً جريئاً واشياً وزيرُ السلطانِ ذو المكانةِ عندهُ. لأنهُ منفوسٌ عليه مكانهُ بما ينفسُ على صاحبِ السلطانِ. لأن من حاسديه أحباءً السلطانِ وأقاربهُ الذين يشاركونهُ في المداخلِ والمنازلِ. وهم وغيرهم من عدوهِ الذينَ هم حضارهُ ليسوا كعدو السلطانِ النائي عنهُ والمكتتمِ منهُ. وهم لا ينقطعُ طمعهم من الظفر بهِ، فلا يغفلونَ عن نصبِ الحبائلِ لهُ. فاعرف هذهِ الحالَ، والبس لهؤلاء القومِ الذينَ هم أعداؤكَ سلاحَ الصحةِ والاستقامة ولزومَ المحجةِ فيما تسر وتعلنُ. ثم روح عن قلبك حتى كأنكَ لا عدو لك ولا حاسدَ. وإن ذكرك ذاكرٌ عند السلطانِ بسوء في وجهكَ أو في عينيكَ فلا يرين السلطانُ ولا غيرهُ منكَ اختلاطاً لذلك ولا اغتياظاً ولا ضجراً. ولا يقعنّ ذلك في نفسك موقع ما يكرثكَ، فإنهُ إن وقع منكَ ذلك الموقعَ، أدخل عليك أموراً مشتبهتةً بالريبةِ مذكرةً لما قالَ فيكَ العائبُ. وإن اضطركَ الأمرُ في ذلكَ إلى الجواب فإياكَ وجوابَ الغضبِ والانتقامِ وعليك بجوابِ الحجةِ في حلمٍ ووقارٍ. ولا تشكنَّ في أن الغلبةَ والقوةَ للحليمِ أبداً. لا تتكلمن عند الوالي كلاماً أبداً إلا لعنايةٍ، أو يكونَ جواباً لشيء سئُلتَ عنه. ولا تحضرن عند الوالي كلاماً أبداً لا تعني بهِ أو تؤمرُ بحضورهِ. ولا تعدن شتم الوالي شتماً، ولا إغلاظهُ إغلاظاً، فإن ربح العزةِ قد تبسطُ اللسانَ بالغلظةِ في غير سخطٍ ولا بأسٍ. جانب المسخوط عليهِ والظنين به عند السلطانِ. ولا يجمعنكَ وإياهُ مجلسٌ ولا منزلٌ، ولا تظهرنَ لهُ عذراً، ولا تثنينّ عليه خيراً عند أحدٍ من الناسِ. فإذا رأيتهُ قد بلغ من الإعتابِ مما سخط عليه فيه ما ترجو أن تلينَ لهُ به قلبَ الوالي، واستيقنتَ أن الوالي قد استيقنَ بمباعدتك إياهُ وشدتك عليهِ عند الناسِ فضع عذرهُ عند الوالي واعمل في إرضائه عنهُ في رفقٍ ولطفٍ. ليعلمِ الوالي أنكَ لا تستنكفُ عن شيء من خدمتهِ. ولا تدع مع ذلك أن تقدمَ إليه القولَ، عند بعضِ حالاتِ رضاهُ وطيبِ نفسهِ، في الاستعفاء من الأعمال التي هي أهلٌ أن يكرهها ذو الدينِ وذو العقلِ و ذو العرضِ وذو المروءةِ، من ولاية القتلِ والعذابِ وأشباهِ ذلكَ. وإذا أصبتَ الجاه والخاصة عند السلطانِ، فلا يحدثن لكَ ذلك تغيراً على أحدٍ من أهلهِ وأعوانهِ، ولا استغناء عنهم، فإنك لا تدري متى ترى أدنى جفوةٍ أو تغيرٍ فتذل لهم فيها. وفي تلونِ الحال عند ذلك من العارِ ما فيهِ. ليكن مما تحكمُ من أمركَ ألا تُسارَ أحداً من الناس ولا تهمس إليه بشيء تخفيهِ على السلطانِ أو تعلنهُ فإن السرارَ مما يخيلُ إلى كل من رآهُ من ذي سلطانٍ أو غيرهِ أنهُ المرادُ بهِ. فيكونُ ذلك في نفسهِ حسيكةً ووغراً وثقلاً. الكذب يبطل الحق ويرد الصدق لا تتهاونن بإرسال الكذبة عند الوالي أو غيرهِ في الهزلِ، فإنها تسرعُ في إبطالِ الحق ورد الصدقِ مما تأتي بهِ. تنكب، في ما بينكَ وبينَ السلطانِ وفي ما بينكَ وبينَ الإخوانِ، خلقاً قد عرفناهُ في بعضِ الوزراء والأعوان في ادعاء الرجلِ، عندما يظهرُ من صاحبهِ حسنُ أثرٍ أو صوابُ رأيٍ، أنهُ عملَ في ذلك وأشار به، وإقرارهِ بذلكَ إذا مدحهُ به مادحٌ. بل إن استطعتَ أن تعرفَ صاحبكَ أنك تنحلهُ صوابَ رأيكَ، فضلاً عن أن تدعي صوابهُ، وتسندَ ذلك إليه وتزينهُ بهِ، فافعل. فإن الذي أنت آخذٌ بذلك أكثرُ مما أنتَ معطٍ بأضعافٍ. لا تجب إلا إذا سئلت، وأحسن الإصغاء إذا سأل الوالي غيرك فلا تكونن أنت المجيبَ عنهُ. فإن استلابكَ الكلام خفةٌ بكَ واستخفافٌ منك بالمسؤولِ وبالسائلِ. وما أنتَ قائلٌ إن قال لكَ السائلُ: ما إياك سألتُ؟ أو قال لكَ المسؤولُ عندَ المسألةِ يعادُ له بها: دونكَ فأجب. وإذا لم يقصدِ السائلُ في المسألةِ لرجلٍ واحدٍ وعم بها جماعةَ من عندهُ فلا تُبادرن بالجواب، ولا تسابقِ الجلساءَ، ولا تواثب بالكلام مواثبةً. فإن ذلك يجمعُ من شينِ التكلفِ والخفة أنكَ إذا سبقتَ القومَ إلى الكلامِ صارُوا لكلامكَ خصماءَ فتعقبوهُ بالعيبِ والطعنِ. وإذا أنتَ لم تعجل بالجوابِ وخليتهُ للقومِ، اعترضت أقاويلهم على عينكَ، ثم تدبرتها وفكرتَ في ما عندك، ثم هيأتَ من تفكيركَ ومحاسنِ ما سمعتَ جواباً رضياً، ثم استدبرت به أقاويلهم حين تصيخُ إليك الأسماعُ و يهدأ عنكَ الخصُومُ. وإن لم يبلغكَ الكلامُ حتى يُكتفى بغيركَ، أو ينقطعِ الحديثُ قبل ذلكَ، فلا يكونُ من العيبِ عندك ولا من الغبنِ في نفسكَ فوتُ ما فاتكَ من الجوابِ. فإن صيانةَ القولِ خيرٌ من سوء وضعهِ، وإن كلمةً واحدةً من الصوابِ تصيبُ موضعها خيرٌ من مئةِ كلمةٍ تقولها في غيرِ فرصها ومواضعها. مع أن كلامَ العجلةِ والبدارِ موكلٌ بهِ الزللُ وسوءُ التقدير، وإن ظن صاحبهُ أنهُ قد أتقن وأحكمَ. واعلم أن هذه الأمورَ لاتدركُ ولا تملكُ إلا برحبِ الذرعِ عند ما قيل وما لم يقل، وقلةِ الإعظامِ لما ظهرَ من المروءةِ وما لم يظهر، وسخاوةِ النفسِ عن كثيرٍ من الصوابِ مخافةَ الخلافِ والعجلةِ والحسدِ والمراءِ. إذا كلمكَ الوالي فأصغِ إلى كلامهِ. ولا تشغل طرفك عنهُ بنظرٍ إلى غيرهِ، ولا أطرافك بعملٍ، ولا قلبك بحديثِ نفسٍ. واحذر هذه الخصلةَ من نفسكَ، وتعاهدها بجهدك. رفق الوزير بنظرائه ارفق بنُظرائكَ من وزراء السلطانِ وأخلائهِ ودُخلائهِ. واتخذهم إخواناً، ولا تتخذهم أعداء. لا تُنافسهم في الكلمةِ يتقربون بها، أو العملِ يؤمرون به دونكَ. فإنما أنت في ذلك أحدُ رجُلين: إما أن يكونَ عندك فضلٌ على ما عند. غيركَ فسوف يبدوُ ذلك ويحتاجُ إليهِ ويلتمسُ منكَ، وأنتَ مجملٌ. وإما ألا يكون ذلك عندكَ، فما أنت مُصيبٌ من حاجتكَ عند وزراء السلطان بمقاربتكَ إياهم وملاينتكَ، وما أنت واجدٌ في موافقتكَ إياهم ولينك لهم منه موافقتهم إياك ولينهم لك أفضلُ مما أنتَ مدركٌ بالمنافسةِ والمنافرةِ لهم. لا تجترئن على خلافِ أصابكَ عند الوالي، ثقةً باعترافهم لكَ ومعرفتهم بفضلِ رأيك، فإنا قد رأينا الناسً يعترفونَ بفصلِ الرجلِ وينقادونَ لهُ ويتعلمونَ منهُ، وهم أخلياء. فإذا حضروا السلطانَ، لم يرضَ أحدٌ منهم أن يقر لهُ، ولا أن يكون لهُ عليهِ في الرأي والعلم فضلٌ، فاجترأوا عليهِ في الرأي والعلمِ فضلٌ، فاجترأوا عليه بالخلاف والنقضِ. فإن ناقضهم صارَ كأحدهم. وليس بواجدٍ في كل حينٍ سامعاً فهماً أو قاضياً عدلاً. وإن تركَ مناقضتهم، كان مغلوبَ الرأي مردودَ القولِ. لكل أليف وجليس إذا أصبت عندَ السلطانِ لطفَ منزلةٍ، لغناءٍ يجدهُ عندكَ أو هوى يكونُ لهُ فيكَ، فلا تطمحن كل الطماحِ ولا تُزينن لك نفسكَ المزايلة لهُ عن أليفهِ وموضعِ ثقتهِ وسرهِ قبلكَ: تُريدُ أن تقلعهُ وتدخلَ دونه، فإن هذه خلةٌ من خلالِ السفهِ قد يبتلى بها الحلماءُ عند الدنو من السلطانِ حتى يحدثُ الرجلُ منهم نفسهُ أن يكونَ دون الأهلِ والولدِ، لفضلٍ يظنهُ بنفسهِ أو نقصٍ يظنهُ بغيرهِ. ولكل رجلٍ من الملوكِ أو ذي هيئةٍ من السوقةِ أليفٌ وأنيسٌ قد عرفَ روحهُ واطلع على قلبهِ. فليست عليهِ مؤونةٌ في تبذلٍ يتبذلهُ عندهُ، أو رأي يستبينُ منهُ، أو سرٍ يفشيهِ إليه. غير أن تلكَ الأنسة وذلك الإلفَ يستخرجُ من كل واحدٍ منهما ما لم يكن ليظهر منهُ عند الانقباضِ والتشدد. ولو التمس ملتمسٌ مثلَ ذلك عندَ من يستأنفُ مُلاطفتهُ ومؤانستهُ ومناسمتهُ، وإن كانَ ذا فضلٍ في الرأي وبسطةٍ في العلمِ، لم يجد عنده مثلَ ما هو منتفعٌ به ممن هو دونَ ذلك في الرأي ممن قد كفي مؤانستهُ ووقعَ على طباعهِ. لأن الأنسة روحٌ للقلوبِ، وأن الوحشة روعٌ عليها. ولا يلتاطُ بالقلوبِ إلا ما لان عليها. ومن استقبلَ الأنسَ بالوحشةِ استقبل أمراً ذا مؤونةٍ. فإذا كلفتك نفسكَ السمو إلى منزلةِ من وصفتُ لكَ، فاقدعها عن ذلك بمعرفةِ فضلِ الأليفِ والأنيسِ، وإذا حدثتكَ نفسكَ أو غيركَ، ممن لعلهُ أن يكونَ عندهُ فضلٌ في مروءةٍ، أنك أولى بالمنزلةِ عند السلطان من بعضِ دخلائهِ وثقاتهِ فاذكر الذي على السلطانِ من حق أليفهِ وثقتهِ وأنيسهِ في التكرمةِ والمكانةٍ والرأي، والذي يُعينُهُ على ذلكَ من الرأي أنهُ يجدُ عندهُ من الإلفِ والأنسِ ما ليس واجداً عندَ غيرهِ. فليكن هذا مما تحفظُ فيهِ على نفسكَ وتعرف فيه عذر السلطان ورأيهُ. والرأي لنفسكَ مثلُ ذلكَ، إن أرادكَ مريدٌ على الدخولِ دونَ أليفكَ وأنيسكَ وموضعِ ثقتكَ وسركَ وجدكَ وهزلكَ. واعلم أنهُ يكادُ يكونُ لكل رجلٍ غالبةُ حديثٍ لا يزالُ يُحدثُ به: إما عن بلدٍ من البلدانِ أو ضربٍ من ضروبِ العلمِ أو صنفٍ من صنوفِ الناسِ أو وجهٍ من وجوهِ الرأي. وعندما يغرمُ به الرجلُ من ذلك يبدو منهُ السخفُ ويعرفُ منهُ الهوى، فاجتنب ذلك في كل موطنٍ، ثم عند السلطانِ خاصةً. احتمل ما خالفك من رأي السلطان لا تشكون إلى وزراء السلطانِ ودخلائهِ ما اطلعتَ عليه من رأي تكرههُ لهُ. فإنك لا تزيدُ على أن تفطنهم لهواهُ أو تقربهمُ منهُ وتغريهم بتزيينِ ذلك والميلِ عليكَ معهُ. واعلم أن الرجل ذا الجاهِ عند السلطانِ والخاصةِ لا محالةَ أن يرى من الوالي ما يُخالفهُ من الرأي في الناسِ والأمورِ. فإذا آثر أن يكرهَ كل ما خالفهُ أو شكَ أن يمتعضَ من الجفوةِ يراها في المجلسِ، أو النبوةِ في الحاجةِ، أو الرد للرأي، أو الإدناءِ لمن لا يهوى إدناءهُ، أو الإقصاءِ لمن يكرهُ إقصاءهُ. فإذا وقعت في قلبهِ الكراهيةُ تغيرَ لذلك وجههُ ورأيهُ وكلامهُ حتى يبدو ذلك للسلطانِ وغيرهِ، فيكونّ ذلكَ لفسادِ منزلتهِ ومروءتهِ سبباً وداعياً. فذلل نفسكَ باحتمالِ ما خالفكَ من رأي السلطان، وقررها على أن السلطان إنما كان سلطاناً لتتبعهُ في رأيهِ وهواهُ وأمرهِ، ولا تكلفهُ اتباعكَ وتغضبَ من خلافهِ إياكَ. تصحيح النصيحة للسلطان اعلم أن السلطان يقبلُ من الوزراء التبخيل ويعدهُ منهم شفقةً ونظراً لهُ، ويحمدهمُ عليهِ، فإن كان جواداً وكنت مبخِّلاً، شنتَ صاحبكَ بفسادِ مروءتهِ، وإن كنتَ مسخياً، لم تأمن إضرارَ ذلك بمنزلتكَ عندهُ. فالرأي لك تصحيحُ النصيحةِ على وجهها، والتماس المخلصِ من العيبِ واللائمةِ في ما تتركُ من تبخيلِ صاحبكَ بألا يعرفَ منكَ في ما تدعوهُ إليهِ ميلاً إلى شيءٍ من هواكَ ولا طلباً لغيرِ ما ترجو أن يزينهُ وينفعهُ. الطاعة للملوك لا تكونن صُحبتكَ للمُلوكِ إلا بعد رياضةٍ منك لنفسكَ على طاعتهم في المكروهِ عندكَ، وموافقتهم فيما خالفكَ، وتقديرِ الأمورِ على أهوائهم دون هواكَ، وعلى ألا تكتمهم سرك ولاتستطلع ما كتموكَ، وتُخفي ما أطلعوكَ عليهِ على الناسِ كلهم حتى تحمي نفسك الحديثَ بهِ، وعلى الاجتهادِ في رضاهم، والتلطفِ لحاجتهم، والتثبيتِ لحُجتهم، والتصديقِ لمقالتهم، والتزيين لرأيهم، وعلى قلةِ الاستقباحِ لما فعلوا إذا أساؤوا، وتركِ الانتحالِ لما فعلوا إذا احسنوا، وكثرةِ النشرِ لمحاسنهم، وحسنِ الستر لمساوئهم، والمقاربةِ لمن قاربوا وإن كانوا بعداءَ، والمباعدةَ لمن باعدوا وإن كانوا أقرباءَ، والاهتمام بأمرهم وإن لم يهتموا بهِ، والحفظ لُهم وإن ضيعوهُ، والذكر لهم وإن نسوهُ، والتخفيفِ عنهم من مؤونتكَ، والاحتمال لهم كل مؤونةٍ، والرضى منهم بالعفوِ، وقلةِ الرضى من نفسكَ لهم إلا بالاجتهادِ. وإن وجدت عنهم وعن صحبتهم غنى، فأغن عن ذلكَ نفسكَ واعتزلهُ جهدكَ فإنهُ من يأخذ عملهم بحقهِ، يحل بينهُ و بينَ لذةِ الدنيا وعملِ الآخرةِ. ومن لا يأخُذ بحقهِ، يحتملِ الفضيحةَ في الدنيا والوزر في الآخرةِ. إنكَ لا تأمنُ أنفةُ الملوكِ إن أعلمتهم، ولا تأمنُ عقوبتهم إن كتمتهم، ولا تأمنُ غضبتهم إن صدقتهم، ولا تأمن سلوتهم إن حدثتهم. وإنك إن لزمتهم لم تأمن تبرمهم بكَ، وإن زايلتهم لم تأمن عقابهم، وإن تستأمرهم حملتَ المؤونةَ عليهمِ، وإن قطعتَ الأمرَ دونهم لم تأمن فيهِ مخالفتهم. إنهم إن سخطوا عليكَ أهلكوك. وإن رضوا عنكَ تكلفتَ من رضاهم ما لا تُطيقُ. فإن كنتَ حافظاً إن بلوكَ، جلداً إن قربوك، أميناً إن ائتمنوكَ: تعلمهم وأنت تريهم أنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنهم يؤدبونكَ: تشكرهم ولا تكلفهمُ الشكر، بصيراً بأهوائهم مؤثراً لمنافعهم، ذليلاً إن ظلموكَ، راضياً إن أسخطوكَ، وإلا فالبعدَ منهم كل البعدِ، والحذر منهم كل الحذرِِ. تحرز من سكر السلطانِ وسكر المالِ وسكرِ العلمِ وسكرِ المنزلةِ وسكر الشبابِ، فإنهُ ليسَ من هذا شيءٌ إلا وهو ريحُ جنةٍ تسلبُ العقلَ وتذهبُ بالوقارِ وتصرفُ القلبَ والسمعَ والبصرَ واللسان إلى غير المنافعِ. في الأصدقاء أبذل لصديقك دمك ومالك ابذل لصديقكَ دمكَ ومالك، ولمعرفتكَ رفدكَ ومحضركَ، وللعامةِ بشركَ وتحننكَ، ولعدوك عدلكَ وإنصافكَ، واضنن بدينكَ وعرضكَ على كل أحدٍ. لا تنتحل رأي غيرك إن سمعت من صاحبكَ كلاماً أو رأيتَ منهُ رأياً يعجبُكَ فلا تنتحلهُ تزيناً به عند الناسِ. واكتفِ من التزينِ بأن تجتني الصوابَ إذا سمعتهُ، وتنسبهُ إلى صاحبهِ. واعلم أن انتمالَك ذلكَ مسخطةُ لصاحبكَ، وأن فيه مع ذلك عاراً وسخفاً. فإن بلغَ بك ذلكَ أن تشيرَ برأي الرجلِ وتتكلمَ بكلامهِ وهو يسمعُ جمعتَ مع الظلمِ قلةَ الحياء. وهذا من سوء الأدبِ الفاشي في الناسِ. ومن تمام حسنِ الخلقِ والأدبِ في هذا الباب أن تسخو نفسكَ لأخيكَ بما انتحل من كلامك ورأيكَ، وتنسبَ إليه رأيهُ وكلامهُ، وتُزينهُ مع ذلك ما استطعتَ. تمام إصابة الرأي والقول لا يكونن من خلقك أن تبتدئ حديثاً ثم تقطعهُ وتقولَ: " سوفَ " كأنك روأت فيه بعد ابتدائك إياه. وليكن ترويكَ فيه قبل التفوهِ بهِ. فإن احتجانَ الحديثِ بعد افتتاحه سخفٌ وغم. اخزن عقلكَ وكلامكَ إلى عند إصابةِ الموضعِ. فإنهُ ليس في كل حينٍ يحسنُ كل صوابٍ، وإنما تمام إصابةِ الرأي والقولِ بإصابةِ الموضعِ. فإن أخطأك ذلك أدخلتَ المحنة على عقلك وقولكَ حتى تأتي به إن أتيتَ بهِ في غيرِ موضعهِ وهو لا بهاء ولا طلاوةَ لهُ. وليعرفِ العُلماءُ حينَ تُجالسهمُ أنكَ على أن تسمعَ أحرصُ منكَ على أن تقولَ ا تخلط الجد بالهزل إن آثرت أن تُفاخر أحداً ممن تستأنسُ إليهِ في لهو الحديثِ فاجعل غايةَ ذلك الجد، ولا تعتد أن تتكلم فيهِ بما كان هزلاً، فإذا بلغهُ أو قاربهُ فدعهُ. ولا تخلطن بالجد هزلاً، ولا بالهزلِ جداً. فإنكَ إن خلطتَ بالجد هزلاً هجنتهُ، وإن خلطتَ بالهزلِ جداً كدرتهُ. غير أني قد علمتُ موطناً واحداً إن قدرتَ أن تستقبلَ فيه الجد بالهزلِ أصبتَ الرأي وظهرتَ على الأقرانِ: وذلك أن يتوردك متوردٌ بالسفةِ والغضبِ وسوء اللفظِ، فتجيبهُ إجابة الهازلِ المداعبِ، برحبٍ من الذرعِ، وطلاقةٍ من الوجهِ، وثباتٍ من المنطقِ. لا تتطاول على الأصحاب إن رأيتَ صاحبكَ مع عدوكَ فلا يغضبنكَ ذلك، فإنما هو أحدٌ رجلين: إن كان رجلاً من أخوانِ الثقةِ فأنفعُ مواطنهِ لك أقربها من عدوكَ لشرٍ يكفهُ عنكَ، أو لعورةٍ يسترها منكَ، أو غائبةٍ يطلعُ عليها لكَ، فأما صديقكَ فما أغناكَ أن يحضرهُ ذو ثقتك. وإن كان رجلاً من غيرِ خاصةِ إخوانكَ فبأي حقٍ تقطعهُ عنِ الناسِ وتكلفهُ ألا يتصاحبَ ولا يُجالسَ إلا من تهوى؟ تحفظ في مجلسك وكلامكَ من التطاولِ على الأصحابِ، وطب نفساً عن كثيرٍ مما يعرضُ لك فيهِ صوابُ القولِ والرأي، مُداراةً لئلا يظن أصحابكَ أن دأبكَ التطاوُلُ عليهم. إذا أقبل إليكَ مقبلٌ بودهِ فسركَ ألا يدبرَ عنكَ، فلا تنعمِ الإقبالَ عليهِ والتفتحَ لهُ، فإنّ الإنسانَ طبعَ على ضرائبِ لؤمٍ. فمن شأنهِ أن يرحل عمن لصقَ بهِ ويلصقَ بمن رحلَ عينه إلا من حفظَ بالأدبِ نفسهُ وكابرَ طبعهُ. فتحفظ من هذا فيكَ وفي غيركَ. ادعاء العلم فضيحة لا تكثرن ادعاء العلمِ في كل ما يعرضُ بينكَ وبين أصحابكَ فإنك من ذلك بين فضيحتينِ. إما أن ينازعوك فيما ادعيتَ فيهجمَ منكَ على الجهالةِ والصلفِ، وإما ألا ينازعوك ويخلوا في يديك ما ادعيت من الأمورِ، فينكشفَ منكَ التصنعُ والمعجزةُ. واستحي الحياء كلهُ من أن تخبرَ صاحبكَ أنكَ عالمٌ وأنهُ جاهلٌ: مصرحاً أو معرضاً. وإن استطلتَ على الأكفاء فلا تثقنَّ منهم بالصفاء. وإن آنستَ من نفسكَ فضلاً فتحرج أن تذكرهُ أو تبديهُ واعلم أن ظهورهُ منكَ بذلك الوجهِ يقررُ لكَ في قلوبِ الناسِ من العيبِ أكثر مما يقررُ لكَ من الفضلِ. واعلم أنكَ إن صبرتَ ولم تعجل ظهرَ ذلك منكَ بالوجهِ الجميلِ المعروفِ عند الناسِ. ولا يخفين عليكَ أن حرصَ الرجلِ على إظهارِ ما عنده وقلةَ وقارهِ في ذلك بابُ من أبوابِ البخلِ واللؤمِ. وأن من خيرِ الأعوان على ذلك السخاءً والتكرمَ. وإن أردتَ أن تلبسَ ثوبَ الوقارِ والجمالِ وتتحلى بحليةِ المودةِ عند العامةِ وتسلك الجدد الذي لا خبار فيه ولا عثارَ فكن عالماً كجاهلٍ وناطقاً كعيي. فأما العلمُ فيزينكَ ويرشدكَ. وأما قلةُ ادعائهِ فتنفي عنكَ الحسد. وأما المنطقُ إذا احتجتَ إليه فيبلغكَ حاجتكَ. وأما الصمتُ فيكسبكَ المحبةَ والوقارَ. وإذا رأيتَ رجلاً يُحدثُ حديثاً قد علمته أو يخبرُ خبراً قد سمعتهُ فلا تشاركهُ فيهِ ولا تتعقبهُ عليه، حرصاً على أن يعلم الناسُ أنكَ قد علمتهُ، فإن في ذلك خفةً وشحاً وسوءَ أدبٍ وسخفاً. وليعرف إخوانك والعامةُ أنكَ، إن استطعتَ، وإلى أن تفعلَ ما لا تقولُ أقربُ منك إلى أن تقولَ ما لا تفعلُ. فإن فضل القولِ على الفعلِ عارٌ وهُجنةٌ، و فضلَ الفعلِ على القولِ زينةٌ. وأنتَ حقيقٌ فيما وعدتَ من نفسكَ أو أخبرتَ بهِ صاحبكَ أن تحتجنَ بعض ما في نفسكَ، إعداداً لفضلِ الفعلِ على القولِ، وتحرزاً بذلك عن تقصيرِ فعلٍ إن قصرَ. وقلما يكونُ إلا مُقصراً. العدل نحو العدو والرضى نحو الصديق احفظ قولَ الحكيمِ الذي قالَ: لتكُن غايتُكَ فيما بينكَ وبينَ عدوكَ العدل، وفيما بينكَ وبينَ صديقكَ الرضاء. وذلك أن العدو خصمٌ تصرعهُ بالحجةِ وتغلبهُ بالحكامِ، وأن الصديقَ ليس بينكَ وبينهُ قاضٍ، فإنما حكمهُ رضاهُ. كيف تختار صديقك َ اجعل غاية تشبثكَ في مؤاخاةِ من تؤاخي ومواصلةِ من تواصلُ توطينَ نفسكَ على أنه لا سبيل لكَ إلى قطيعةِ أخيكَ، وإن ظهر لكَ منهُ ما تكرهُ، فإنهُ ليس كالمملوكِ تعتقهُ متى شئتَ أو كالمرأة التي تُطلقها إذا شئتَ، ولكنهُ عرضكَ ومروءتكَ. فإنما مروءةُ الرجلِ إخوانهُ وأخدانهُ. فإن عثر الناسُ على أنكَ قطعتَ رجلاً من إخوانكَ، وإن كنتَ معذراً، نزلَ ذلك عند أكبرهم بمنزلةِ الخيانةِ للإخاء والملالِ فيهِ. وإن أنتَ معَ ذلك تصبرتَ على مقارتهِ على غير الرضى عادَ ذلكَ إلى العيبِ والنقيصةِ. فالاتئادَ الاتئاد! والتثبتَ التثبتَ. وإذا نظرتَ في حال من ترتئيهِ لإخائك، فإن كان من إخوانِ الدينِ فليكن فقيهاً غير مراءٍ ولا حريصٍ، وإن كان من أخوانِ الدنيا فليكن حراً ليس بجاهلٍ ولا كذابٍ ولا شريرٍ ولا مشنوعٍ. فإن الجاهل أهلٌ أن يهربَ منهُ أبواهُ، وإن الكذابَ لا يكونُ أخاً صادقاً. لأن الكذب الذي يجري على لسانهِ إنما هو من فضولِ كذبِ قلبهِ، وإنما سمي الصديقُ من الصدقِ. وقد يتهمُ صدقُ القلبِ وإن صدقَ اللسانُ. فكيفَ إذا ظهرَ الكذبُ على اللسانِ؟ وإن الشريرَ بمكسبكَ العدو. ولا حاجةَ لكَ في صداقةٍ تجلبُ العداوةَ وإن المشنوعَ شانعٌ صاحبهُ. واعلم أن انقباضكَ عن الناسِ يُكسبكَ العداوةَ. وأن انبساطكَ إليهم يكسبكَ صديق السوء. وسوءُ الأصدقاء أضر من بغضِ الأعداء. فإنك إن واصلتَ صديقَ السوء أعيتكَ جرائرهُ، وإن قطعتهُ شانك اسم القطيعةِ، وألزمك ذلك من يرفع عيبكَ ولا ينشرُ عذركَ. فإن المعايبَ تنمي والمعاذير لا تنمي. لباس انقباض ولباس انبساط البس للناسِ لباسينِ ليس للعاقلِ بدٌّ منهما، ولا عيشَ ولا مروءةَ إلا بهما: لباسَ انقباضٍ واحتجازٍ من الناسِ، تلبسهُ للعامةِ فلا يلقونكَ إلا متحفظاً متشدداً متحرزاً مستعداً. ولباسَ انبساطٍ واستئناسٍ، تلبسهُ للخاصةِ الثقاتِ من أصدقائك فتلقاهمُ بذاتِ صدركَ وتفضي إليهم بمصونِ حديثكَ وتضعُ عنكَ مؤونةَ الحذرِ والتحفظِ في ما بينكَ وبينهم. وأهل هذه الطبقةِ، الذين هم أهلها، قليلٌ من قليلٍ حقاً. لأن ذا الرأي لا يدخلُ أحداً من نفسهِ هذا المدخل إلا بعد الاختبارِ والتكشفِ والثقةِ بصدقِ النصيحةِ ووفاء العهدِ. صُن لسانك اعلم أن لسانك أداةٌ مُصلتةٌ، يتغالبُ عليهِ عقلكَ وغضبكَ وهواك وجهلكَ. فكُل غالبٍ مستمتعٌ به وصارفهُ في محبتهِ، فإذا غلبَ عليهِ عقلكَ فهو لكَ، وإن غلبَ عليه شيءٌ من أشباهِ ما سميتُ لك فهو لعدوكَ. فإنِ استطعتَ أن تحتفظ به وتصونهُ فلا يكونَ إلا لكَ، ولا يستولي عليهِ أو يشارككَ فيه عدوكَ، فافعل. مؤاساة الصديق إذا نابت أخاكَ إحدى النوائبِ من زوالِ نعمةٍ أو نزولِ بليةٍ، فاعلم أنكَ قد ابتليتَ معهُ: إما بالمؤاساةِ فتشاركهُ في البليةِ، وإما بالخذلانِ فتحتملُ العارَ. فالتمس المخرجَ عند أشباهِ ذلكَ، وآثر مروءتكَ على ما سواها. فإن نزلت الجائحةُ التي تأبى نفسكَ مشاركةَ أخيكَ فيها فأجمل، فلعلّ الإجمالَ يسعكَ، لقلةِ الإجمالِ في الناسِ. وإذا أصابَ أخاكَ فضلٌ فإنهُ ليسَ في دنوكَ منهُ وابتغائكَ مودتهُ وتواضعكَ لهُ مذلةٌ. فاغتنم ذلك واعمل بهِ. إلى من تعتذر لا تعتذرن إلا إلى من يُحب أن يجد لكَ عذراً، ولا تستعين إلا بمن يحب أن يظفركَ بحاجتكَ، ولا تُحدثنَ إلا من يرى حديثكَ مغنماً، ما لم يغلبكَ اضطرارٌ. وإذا اعتذر إليكَ معتذرٌ، فتلقهُ بوجهٍ مشرقٍ وبشرٍ ولسانٍ طلقٍ إلا أن يكونَ ممن قطيعتهُ غنيمةٌ. إذا غرستَ من المعروفِ غرساً وأنفقت عليهِ نفقةً فلا تضنن في تربية ما غرستَ واستنمائهِ، فتذهب النفقةُ الأولى ضياعاً. إخوان الصدق اعلم أن إخوانَ الصدقِ هم خيرُ مكاسبِ الدنيا، هم زينةٌ في الرخاء، وعدةٌ في الشدةِ، ومعونةٌ على خيرِ المعاشِ والمعادِ. فلا تفرطن في اكتسابهم وابتغاء الوصلاتِ والأسبابِ إليهم. واعلم أنكَ واجدٌ رغبتكَ من الإخاء عند أقوامٍ قد حالت بينكَ وبينهم بعضُ الأبهةِ التي قد تعتري بعض أهلِ المروءاتِ فتحجزُ عنهم كثيراً ممن يرغبُ في أمثالهم. فإذا رأيتَ أحداً من أولئكَ قد عثر بهِ الدهرُ فأقله. الاستطالة تهدم الصنيعة وتكدر المعروف إذا كانت لكَ عند أحدٍ صنيعةٌ، أو كان لك عليه طول فالتمس إحياءَ ذلك بإماتتهِ، وتعظيمهُ بالتصغيرِ لهُ. ولا تقتصرن في قلةِ المن بهِ على أن تقولَ: لا أذكرهُ ولا أصغي بسمعي إلى من يذكرهُ، فإن هذا قد يستحيي منهُ بعضُ من لا يوصفُ بعقلٍ ولا كرمٍ. ولكن احذر أن يكونَ في مجالستكَ إياهُ، وما تكلمهُ به، أو تستعينهُ عليهِ، أو تجاريه فيه، شيءٌ من الاستطالة، فإن الاستطالةَ تهدمُ الصنيعةَ وتكدرُ المعروفَ. احترس من سورة الغضب احترس من سورةِ الغضبِ وسورةِ الحميةِ وسورةِ الحقدِ وسورة الجهلِ، وأعدد لكل شيءٍ من ذلك عدةً تجاهدهُ بها من الحلمِ والتفكرِ والرويةِ وذكر العاقبةِ وطلبِ الفضيلةِ. واعلم أنك لا تُصيبُ الغلبةَ إلا بالاجتهاد والفضلِ، وأنّ قلةَ الإعدادِ لمدافعةِ الطبائعِ المتطلعةِ هو الاستسلامُ لها. فإنهُ ليس أحدٌ من الناسِ إلا وفيه من كل طبيعةٍ سوءُ غريزةٍ. وإنما التفاضلُ بينَ الناسِ في مغالبةِ طبائع السوء. فأما أن يسلم أحدٌ من أن تكونَ فيه تلك الغرائزُ فليس في ذلك مطمعٌ. إلا أن الرجل القوي إذا كابرها بالقمعِ لها كلما تطلعت لم يلبث أن يميتها حتى كأنها ليست فيهِ. وهي في ذلكَ كامنةٌ كمونَ النارِ في العُودِ، فإذا وجدت قادحاً من علةٍ، أو غفلةً استورت كما تستوري النارُ عند القدحِ، ثم لا يبدأ ضرها إلا بصاحبها، كما لا تبدأ النارُ إلا بعودها الذي كانت فيهِ. ذلل نفسك على الصبر ذلل نفسك بالصبر على جار السوء، وعشيرِ السوء، وجليسِ السوء. فإنّ ذلك مما لا يكادُ يخطئُكَ. واعلم أن الصبر صبرانِ: صبرُ المرءِ على ما يكرهُ، وصبرهُ عما يحب. والصبرُ على المكروهِ أكبرهما وأشبههما أن يكون صاحبهُ مضطراً. واعلم أن اللئامَ أصبر أجساداً، وأنّ الكرامَ هم أصبرُ نفوساً. وليس الصبرُ الممدوحُ بأن يكون جلد الرجلُ وقاحاً على الضربِ، أو رجلهُ قويةً على المشي، أو يدهُ قويةً على العملِ. فإنما هذا من صفات الحميرِ. ولكن الصبر الممدوحَ أن يكونَ للنفسِ غلوباً، وللأمورِ محتملاً، وفي الضراء متجملاً، و لنفسهِ عند الرأي والحفاظِ مرتبطاً وللحزمِ مؤثراً، وللهوى تاركاً، وللمشقةِ التي يرجو حسن عاقبتها مستخفاً، وعلى مجاهدةِ الأهواء والشهواتِ مواظباً، ولبصيرتهِ بعزمهِ منفذاً. حبب العلم إلى نفسك حبب إلى نفسك العلمَ حتى تلزمهُ وتألفهُ، ويكونَ هو لهوكَ ولذتكَ وسلوتكَ وبلغتكَ. واعلم أن العلم علمانِ: علمٌ للمنافعِ، وعلم لتذكيةِ العقولِ. وأفشى العلمينِ وأحراهُما أن ينشطَ لهُ صاحبهُ من غيرِ أن يُحض عليه علمُ المنافعِ. وللعلمِ الذي هو ذكاءُ العقولِ وصقالُها وجلاؤها فضيلةُ منزلةٍ عند أهلِ الفضيلةِ والألبابِ. في السخاء كمال الجود والكرم عوّد نفسكَ السخاءَ. واعلم أنه سخاءان: سخاوةُ نفسِ الرجلِ بما في يديه، وسخاوتهُ عما في أيدي الناسِ. وسخاوةُ نفسِ الرجلِ بما في يديهِ أكثرهما وأقربهما من أن تدخل فيه المفاخرةُ. وتركهُ ما في أيدي الناسِ أمحضُ في التكرمِ وأبرأ من الدنسِ وأنزهُ. فإن هو جمعهما فبذلَ وعف فقدِ استكمل الجودَ والكرمَ. لا تكن حسودا ً ليكن مما تصرفُ به الأذى والعذابَ عن نفسكَ ألا تكونَ حسوداً. فإن الحسد خلقٌ لئيمٌ. ومن لؤمهِ أنهُ موكلٌ بالأدنى فالأدنى من الأقاربِ والأكفاء والمعارفِ والخُلطاء والإخوانِ. فليكن ما تُعاملُ به الحسد أن تعلم أن خير ما تكونُ حينَ تكونُ مع من هو خيرٌ منكَ، وأن غنماً حسناً لكَ أن يكونَ عشيرُكَ وخليطُكَ أفضل منكَ في العلمِ، فتقتبسَ من علمهِ، وأفضلَ منكَ في القوة، فيدفع عنكَ بقوتهِ، وأفضلَ منكَ في المالِ، فتفيد من مالهِ، وأفضل منكَ في الجاهِ، فتصيبَ حاجتكَ بجاههِ، وأفضلَ منكَ في الدينِ، فتزداد صلاحاً بصلاحهِ. كيف تعامل عدوك ليكن مما تنظرُ فيه من أمرِ عدوكَ وحاسدكَ أن تعلمَ أنهُ لا ينفعكَ أن تخبر عدوكَ وحاسدكَ أنكَ لهُ عدو، فتنذرهُ بنفسك وتؤذنهُ بحربكَ قبل الإعداد والفرصةِ، فتحملهُ على التسلحِ لكَ، وتوقد نارهُ عليكَ. واعلم أنه أعظمُ لخطركَ أن يرى عدوكَ أنكَ لا تتخذهُ عدواً فإن ذلك غرةٌ لهُ وسبيلٌ لكَ إلى القدرةِ عليهِ. فإن أنتَ قدرتَ واستطعتَ اغتفارِ العداوةِ عن أي تكافئ بها فهنالكَ استكملتَ عظيم الخطرِ. إن كنتَ مكافئاً بالعداوةِ والضررِ فإياكَ أن تكافئ عداوةَ السر بعداوةِ العلانية، وعداوةَ الخاصةِ بعداوةِ العامةِ، فإن ذلك هو الظلمُ. واعلم مع ذلك أنهُ ليس له العداوةِ والضررِ يكافأ بمثلهِ: كالخيانةِ لا تكافأ بالخيانةِ، والسرقة لا تكافأ بالسرقةِ. ومن الحيلة في أمركَ مع عدوك أن تصادقَ أصدقاءهُ وتُؤاخي إخوانهُ، فتدخُل بينهُ وبينهم في سبيلِ الشقاقِ والتلاحي والتجافي حتى ينتهي ذلك بهم إلى القطيعةِ والعداوةِ لهُ ليس رجلٌ ذو طرقٍ يمتنعُ من مؤاخاتكَ إذا التمستَ ذلك منهُ. وإن كان إخوانُ عدوكَ غير ذوي طرقٍ فلا عدو لكَ. لا تدع، مع السكوتِ عن شتمِ عدوكَ، إحصاءَ مثالبهِ ومعايبهِ وابتاعَ عوراتهِ، حتى لا يشذ عنكَ من ذلك صغيرٌ ولا كبيرٌ، من غيرِ أن تشيعَ ذلك لعيه فيتقيكَ بهِ، وستعد لهُ، أو تذكرهُ في غيرِ موضعهِ فتكونَ كمستعرضِ الهواء بنبلهِ قبل إمكانِ الرمي. ولا تتخذن اللعنَ والشتمَ على عدوكَ سلاحاً، فإنهُ لا يجرحُ في نفسٍ ولا منزلةٍ ولا مالٍ ولا دينٍ. إن أردتَ أن تكون داهياً فلا تُحبنَ أن تسمى داهياً. فإنهُ من عرفَ بالدهاء خاتل علانيةً، وحذرهُ الناسُ، حتى يمتنعَ منهُ الضعيفُ، ويتعرض له القوي. وإن من إربِ الأريبِ دفنَ إربهِ ما استطاعَ حتى يُعرفَ بالمسامحةِ في الخليقةِ والاستقامةِ في الطريقةِ. ومن إربهِ ألايؤاربَ العاقلَ المستقيم الطريقةِ والذي يطلعُ على غامضِ إربهِ فيمقتُهُ عليهِ. وإن أردت السلامةَ فاشعر قلبكَ الهيبةَ للأمورِ، من غيرِ أن تظهرَ منكَ الهيبةُ فتُفطنَ الناسَ بنفسكَ وتُجرئهُم عليكَ وتدعو إليك منهم كل الذي تهابُ. فاشعب لمداراةٍ ذلك من كتمانِ الهيبةِ وإظهارِ الجرأةِ والتهاونِ طائفةً من رأيكَ. وإن ابتليتَ بمحاربةِ عدوكَ فحالف هذه الطريقةَ التي وصفتُ لكَ من استشعارِ الهيبةِ وإظهارِ الجرأةِ والتهاونِ، وعليكَ بالحذرِ والجد في أمركَ، والجرأةِ في قلبَ، حتى تملأ قلبكَ جراءةً ويستفرغ عملكَ الحذر. اعلم أن من عدوكَ من يعملُ في هلاككَ، ومنهم من يعملُ في مصالحتكَ، ومنهم من يعملُ في البعدِ منكَ. فاعرف على منازلهم. ومن أقوى القوةِ لكَ على عدوكَ، وأعز أنصاركَ في الغلبةِ لهُ، أن تحصي على نفسكَ العُيوبَ والعوراتِ كما تُحصيها على عدوكَ، وتنظُر عند كل عيبٍ تراهُ أو تسمعهُ لأحدٍ من الناسِ: هل قارفتَ ذلكَ العيبَ أ و ما شاكلهُ أو سلمتَ منهُ. فإن كنتَ قارفتَ شيئاً منهُ جعلتهُ مما تحصي على نفسكَ. حتى إذا أحصيتَ ذلكَ كلهُ فكاثر عدوكَ بإصلاحِ نفسكَ وعثراتك وتحصينِ عوراتكَ وإحراز مقاتلكَ. وخذ نفسكَ بذلكَ ممسياً ومصبحاً. فإذا آنستَ منها دفعاً وتهاوناً بهِ فاعدد نفسكَ عاجزاً ضائعاً خائباً، معوراً لعدوكَ ممكناً لهُ من رميكَ. وإن حصلَ من عيوبكَ وعوراتكَ ما لا تقدرُ على إصلاحهِ من ذنبٍ مضى لكَ، أو أمرٍ يعيبكَ عند الناسِ ولا تراهُ أنتَ عيباً، فاحفظ ذلك وما عسى أن يقولَ فيه قائلٌ من حسبكَ أو مثالبِ آبائكَ أو عيبِ إخوانكَ ثم اجعل ذلكَ كلهُ نصبَ عينك واعلم أن عدوكَ مريدكَ بذلك. فلا تفعل عن التهيؤ لهُ والإعدادِ لقوتكَ وحُجتكَ وحيلتكَ فيهِ سراً وعلانية. فأما الباطلُ لا تروعن بهِ قلبكَ ولا تستعدن لهُ ولا تشتغلنّ بشيءٍ من أمرهِ، فإنهُ لا يهولكَ ما لم يقع، وما إن وقع اضمحلَ. الشهود العدل واعلم أنهُ قلما بُده أحد بشيء يعرفهُ من نفسهِ، وقد كان يطمعُ في إخفائهِ عن الناسِ، فيعيرهُ به معيرٌ عند السلطانِ أو غيرهِ، إلا كاد يشهدُ بهِ عليهِ وجههُ وعيناهُ ولسانُهُ، للذي يبدو منهُ عندَ ذلكَ، والذي يكونُ من انكسارهِ وفتورهِ عند تلكَ البديهةِ. فاحذر هذه وتصنع لها، وخذ أهبتكَ لبغتاتها وتقدم في أخذِ العتادِ لنفيها. حاذر الغرام بالنساء اعلم أن من أوقعِ الأمورِ في الدينِ وأنهكها للجسدِ وأتلفها للمالِ وأقتلها للعقلِ وأزراها للمروءةِ وأسرعها في ذهابِ الجلالةِ والوقارِ الغرامِ بالنساء. ومن البلاء على المغرمِ بهن أنهُ لا ينفكّ يأجمُ ما عندهُ وتطمحُ عيناهُ إلى ما ليسَ عندهُ منهن. إنما النساء أشباهٌ. وما يتزينُ في العيونِ والقلوبِ من فضلِ مجهولاتهن على معروفاتهن باطلٌ وخدعةٌ. بل كثيرٌ مما يرغبِ عنهُ الراغبُ مما عندهُ أفضلُ مما تتوقُ إليهِ نفسهُ منهن. وإنما المرتغبُ عما في رحلهِ منهن إلى ما في رحالٍ الناسِ كالمرتغبِ عن طعامِ بيتهِ إلى ما في بيوتٍ الناسِ: بل النساءُ بالنساء أشبهُ من الطعامِ بالطعامِ، وما في رحالٍ الناسِ من الأطعمةِ أشد تفاضلاً وتفاوتاً مما في رحالهم من النساء. ومن العجبِ أن الرجلُ الذي لا بأس بليةٍ ورأيهِ يرى المرأةَ من بعيدٍ متلفقةً في ثيابها، فيصور لها في قلبهِ الحسن والجمالَ حتى تعلقَ بها نفسهُ من غير رؤيةٍ ولا خبرِ مخبر، ثم لعلهُ يهجمُ منها على أقبحِ القبحِ وأدم الدمامةِ، فلا يعظهُ ذلكَ ولا يقطعهُ عن أمثالها. ولا يزالُ مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبقَ في الأرضِ غيرُ امرأةٍ واحدةٍ، لظن أن لها شأناً غير شأنِ ما ذاقَ. وهذا هو الحمقُ والشقاء والسفهُ. ومن لم يحمِ نفسهُ ويظلفها ويحلئها عن الطعامِ والشرابِ والنساء في بعض ساعاتِ شهوتهِ وقدرتهِ، كانَ أيسرَ ما يُصيبهُ من وبالِ ذلكَ انقطاعُ تلكَ اللذاتِ عنهُ بخمودٍ نارِ شهوتهِ وضعفِ حواملِ جسدهِ. قل من تجدهُ إلا مخادعاً لنفسهِ في أمرِ جسدهِ عند الطعامِ والشرابِ والحمية والدواء، وفي أمرِ مروءتهِ عندَ الأهواء والشهواتِ، وفي أمرٍ دينهِ عندَ الريبةِ والشبهةِ والطمعِ. كن متواضعاً واحذر المراءاة إن استطعتَ أن تضع نفسكَ دونَ غايتكَ في كل مجلسٍ ومقامٍ ومقالٍ ورأيٍ وفعلٍ فافعل، فإن رفع الناس إياكَ فوقَ المنزلةِ التي تحط إليها نفسك، وتقريبهم إياكَ إلى المجلسِ الذي تباعدتَ منهُ، وتعظيمهم من أمركَ ما لم تُعظم، وتزيينهم من كلامكَ ورأيكَ وفعلكَ ما لم تُزين هو الجمالُ. لا يُعجبكَ العالمُ ما لم يكن عالماً بمواضعِ ما يعلمُ، ولا العاملُ إذا جعلَ موضعَ ما يعملُ. وإن غلبتَ على الكلامِ وقتاً فلا تغلبن على السكوتِ، فإنهُ لعلهُ يكونُ أشدهما لكَ زينةً، وأجلبهما إليكَ للمودةِ، وأبقاهُما للمهابةِ، وأنفاهما للحسدِ. احذرِ المراءَ وأغربهُ، ولا يمنعنكَ حذرُ المراء من حسنِ المناظرةِ والمُجادلةِ. واعلم أن المماري هو الذي لا يريدُ أن يتعلمَ ولا أن يتعلمَ منهُ. فإن زعمَ زاعمٌ أنهُ مُجادلٌ في الباطلِ عن الحق، فإن المجادل، وإن كانَ ثابتَ الحُجةِ ظاهرِ البينةِ حاضر الذهنِ، فإنهُ يُخاصمُ إلى غير قاضٍ، وإنما قاضيهِ الذي لا يعدلُ بالخصومةِ إلا إليه عدلُ صاحبهِ وعقلهُ. فإن آنس أو رجا عندَ صاحبهِ عدلاً يقضي بهِ على نفسهِ فقد أصابَ وجه أمرهِ. وإن تكلم على غيرِ ذلك كان ممارياً. وإن استطعتَ ألا تخبر أخاكَ عن ذاتِ نفسك بشيءٍ إلا وأنتَ مُحتجن عنهُ بعضَ ذلك التماساً لفضلِ الفعلِ على القولِ واستعداداً لتقصيرِ فعلٍ، إن قصرَ، فافعل. واعلم أن فضلَ الفعلِ على القولِ زينةٌ، وفضل القولِ على الفعلِ هُجنةٌ، وأن إحكامَ هذه الخلةِ من غرائبِ الخلال. الصبر على الأعمال يخففها إذا تراكمت عليكَ الأعمالُ فلا تلتمسِ الروح في مدافعتها بالروغانِ منها. فإنهُ لا راحة لكَ إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنكَ، والضجر هو الذي يُراكمُها عليكَ. فتعهد من ذلك في نفسكَ خصلةً قد رأيتها تعتري بعضَ أصحابِ الأعمالِ. وذلكَ أن الرجالَ يكونُ في أمرٍ من أمرهِ، فيردُ عليهِ شغلٌ أخرُ، أو يأتيهِ شاغلٌ من الناسِ يكدرهُ إتيانهُ فيكدرُ ذلكَ بنفسهِ تكديراً يفسدُ ما كان فيه وما وردَ عليهِ، حتى لا يُحكمَ واحداً منهُما. فإذا وردَ عليكَ مثلُ ذلكَ فليكن معكَ رأيكَ وعقلكَ اللذانِ بهما تختارُ الأمورَ، ثم اختر أولى الأمرين بشغلكَ، فاشتغل بهِ حتى فرغ منهُ. ولا يعظُمن عليكَ فوتُ ما فاتَ وتأخيرُ ما تأخر إذا أعملتَ الرأي معملهُ وجعلتَ شغلك في حقهِ، واجعل لنفسكَ في كل شغلٍ غايةً ترجو القوةَ والتمامَ عليها. لا تجاوز الغاية اعلم أنكَ إن جاوزتَ الغايةَ في العبادةِ صرتَ إلى التقصيرِ، وإن جاوزتها في حملِ العلمِ لحقتَ بالجهالِ، وإن جاوزتها في تكلفِ رضى الناسِ والخفةِ معهم في حاجاتهم كنتَ المحشود المصنع. واعلم أن بعضَ العطيةِ لؤمٌ، وبعضَ السلاطةِ غيمٌ، وبعض البيانِ عي، وبعض العلمِ جهلٌ. فإن استطعتَ ألا يكون عطاؤك جوراً، ولا بيانُكَ هذراً، ولا علمكَ وبالاً، فافعل. احفظ المليح والرائع من الأحاديث اعلم أنه ستمر عليكَ أحاديثُ تُعجبكَ: إما مليحةٌ وإما رائعةٌ. فإذا أعجبتكَ كنتَ خليقاً أن تحفظها، فإن الحفظ موكلٌ بما ملُح وراعَ. وستحرصُ على أن تعجبَ منها الأقوامُ. فإن الحرصَ على ذلك التعجبِ من شأنِ الناسِ. وليس كل معجبٍ لكَ معجباً لغيركَ. فإذا نشرتَ ذلك المرةَ والمرتينِ، فلم ترهُ وقعَ من السامعينَ موقعهُ منكَ فازدجر عن العودةِ. فإن العجبَ من غيرِ عجيبٍ سخفٌ شديد. وقد رأينا من الناسِ من يعلقُ الشيء ولا يُقلعُ عنهُ وعنِ الحديثِ بهِ، ولا يمنعُهُ قلةُ قبولِ أصحابهِ لهُ من أن يعودَ إليه ثم يعودَ. ثم انظر الأخبار الرائعةَ فتحفظ منها. فإن الإنسان من شأنه الحرصُ على الأخبارِ، ولا سيما ما راعَ منها، فأكثرُ الناسِ من يحدثُ بما سمع، ولا يبالي ممن سمعَ. وذلك مفسدةٌ للصدقِ ومزراةٌ بالمروءةِ، فإن استطعتَ ألا تخبرَ بشيء إلا وأنتَ بهِ مصدقٌ، ولا يكونُ تصديقكَ إلا ببرهانٍ، فافعل. ولا تقل كما يقولُ السفهاء: أخبرُ بما سمعتُ. فإنّ الكذب أكثرُ ما أنتَ سامعٌ، وإن السفهاء أكثرُ من هو قائلٌ. وإنك إن صرتَ للأحاديثِ واعياً وحاملاً كان ما تعي وتحملُ عن العامةِ أكثر مما يخترعُ المخترعُ بأضعافٍ. من تصاحب من الناس انظر من صاحبتَ من الناسِ: من ذي فضلٍ عليكَ بسلطانٍ أو منزلةٍ، أو من دونَ ذلك من الأكفاء والخلطاء والإخوانِ، فوطن نفسكَ في صُحبتهِ على أن تقبل منهُ العفوَ وتسخو نفسكَ عما اعتاص عليكَ مما قبلهُ، غير مُعاتبٍ ولا مستبطئ ولا مستزيدٍ. فإن المُعاتبةَ مقطعةٌ للودّ، وإن الاستزادة من الجشعِ، وإن الرضا بالعفوِ والمُسامحةِ في الخلقِ مقربٌ لكَ كل ما تشوقُ إليهِ نفسكَ مع بقاء العرضِ والمودةِ والمروءةِ. واعلم أنكَ ستبلى من أقوامٍ بسفهٍ، وأن سفهِ السفيهِ سيُطلعُ لهُ منكَ حقداً، فإن عارضتهُ أو كافأتهُ بالسفهِ فكأنكَ قد رضيتَ ما أتى بهِ، فأحببتَ أن تحتذي على مثالهِ. فإن كانَ ذلك عندكَ مذموماً فحقق ذمك إياهُ بتركِ معارضتهِ. فأما أن تذمهُ وتمتثلهُ فليس في ذلك لك سدادٌ. لا تصاحب أحداً إلا بمروءة لاتصاحبن أحداً، وإن استأنستَ بهِ أخاً ذا قرابةٍ أو أخاً ذا مودةٍ، ولا والداً ولا ولداً إلا بمروءةٍ، فإنّ كثيراً من أهلِ المروءةِ قد يحملهمُ الاسترسالُ والتبذلُ على أن يصحبوا كثيراً من الخلطاء بالإدلالِ والتهاونِ والتبذلِ. ومن فقدَ من صاحبهِ صحبةَ المروءةِ ووقارها وجلالها أحدثَ ذلكَ لهُ في قلبهِ رقةَ شأنٍ وسخفَ منزلةٍ. ولا تلتمس غلبةَ صاحبكَ والظفر عليه عند كل كلمةٍ ورأي ولا تجترئن على تقريعهِ يظفركَ إذا استبانَ، وحُجتكَ عليه إذا وضحت. فإن أقواماً قد يحملهم حب الغلبةِ وسفهُ الرأي في ذلكَ على أن يتعقبوا الكلمةَ بعدما تنسى، فيلتمسوا فيها الحجةَ، ثم يستطيلوا بها على الأصحابِ. وذلكَ ضعفٌ في العقلِ ولؤمٌ في الأخلاقِ. أي إكرام يعجب لا يُعجبنكَ إكرامُ من يكرمكَ لمنزلةٍ أو لسلطانٍ، فإن السلطانَ أوشك أمورِ الدنيا زوالاً. ولا يُعجبنكَ إكرامُ من يكرمكَ للمالِ، فإنهُ هو الذي يتلو السلطانَ في سرعةِ الزوالِ. ولا يُعجبنكَ إكرامهم إياكَ للنسب، فإنّ الأنسابَ أقل مناقبِ الخير غناءً عن أهلها في الدينِ والدنيا. ولكن إذا أكرمتَ على دينٍ أو مروءةٍ فذلكَ فليعجبكَ! فإن المروءةَ لا تزايلكَ في الدنيا. وإن الدينَ لا يزايلكَ في الآخرةِ. الجبن والرص مقتلة ومحرمة واعلم أن الجبنَ مقتلةٌ، وأن الحرص محرمةٌ. فانظر في ما رأيتَ أو سمعتَ: أمن قتلَ في القتالِ مقبلاً أكثر أم من قتلَ مدبراً؟ وانظر أمن يطلبُ إليكَ بالإجمالِ والتكرمِ أحق أن تسخو نفسكَ له بطلبتهِ أم من يطلبُ إليكَ بالشرهِ والزيغِ؟ اعلم أنهُ ليس كلُ من كان لكَ فيه هوى، فذكرهُ ذاكرٌ بسوء وذكرتهُ أنتَ بخيرٍ ينفعهُ ذلكَ. بل عسى أن يضرهُ. فلا يستخفنكَ ذكر أحدٍ من صديقكَ أو عدوك إلا في مواطنِ دفعٍ أو محاماةٍ. فإن صديقكَ أو عدوكَ إلا في مواطنِ دفعٍ أو محاماةٍ. فإن صديقكَ إذا وثق بكَ في مواطنِ المحاماةِ لم يحفلِ بما تركَ مما سوى ذلكَ، ولم يكن لهُ عليكَ سبيلُ لائمةٍ. وإن من أحزمِ الرأي لكَ في أمرِ عدوكَ ألا تذكرهُ إلى حيث تضُرهُ. وألا تعُد يسيرَ الضررِ لهُ ضرراً. احترس مما يقال فيك اعلم أن الرجل قد يكونُ حليماً، فيحملهُ الحرصُ على أن يقولَ الناسُ جليدٌ، والمخافةُ أن يقالَ مهينٌ على أن تتكلفَ الجهل. وقد يكونُ الرجلُ زميتاً فيحملهُ الحرصُ على أن يقالَ لسنٌ، والمخافةُ من أن يقالَ عيي على أن يقولَ في غيرِ موضعهِ فيكونَ هذراً. فاعرف هذا وأشباهه، واحترس منهُ كلهِ. نزاهة العرض وبقاء العز ّ إذا بدهكَ أمرانِ لا تدري أيهما أصوبُ فانظر أيهُما أقربُ إلى هواكَ فخالفهُ، فإن أكثر الصوابِ في خلافِ الهوى. وليجتمع في قلبكَ الافتقارُ إلى الناسِ والاستغناء عنهم، وليكنِ افتقاركَ إليهم في لينِ كلمتكَ لهم، وحسنِ بشركَ بهم. وليكنِ استغناؤكَ عنهم في نزاهةِ عرضكَ وبقاء عزكَ. كيف تجالس الناس لا تُجالسِ امرأ بغيرِ طريقتهِ، فإنكَ إن أردتَ لقاءَ الجاهلِ بالعلمِ، والجافي بالفقهِ، والعيي بالبيانِ لم تزد على أن تضيعَ علمكَ وتؤذي جليسكَ بحملكَ عليهِ ثقل مالا يعرفُ وغمكَ إياهُ بمثلِ ما يغتم بهِ الرجلُ الفصيحُ من مخاطبةِ الأعجمي الذي لا يفقهُ عنهُ. واعلم أنه ليس من علمٍ تذكرهُ عند غيرِ أهلهِ إلا عابوه، ونصبوا لهُ ونقضوهُ عليكَ، وحرصوا على أن يجعلوهُ جهلاً، حتى إنّ كثيراً من اللهو واللعبِ الذي هو أخفُ الأشياء على الناسِ ليحضرهُ من لا يعرفهُ فيثقُلُ عليهِ ويغتم به. وليعلم صاحبكَ أنكَ تشفقُ عليهِ وعلى أصحابهِ، وإياكَ إن عاشركَ امرؤ أو رافقكَ أن لا يرى منكَ بأحدٍ من أصحابهِ وإخوانهِ وأخدانهِ رأفةً، فإنّ ذلكَ يأخذُ من القلوبِ مأخذاً. وإن لطفكَ بصاحبِ صاحبكَ أحسنُ عندهُ موقعاً من لطفكَ بهِ في نفسهِ. واتقِ الفرحَ عندَ المحزونِ، واعلم أنهُ يحقدُ على المنطلقِ ويشكرُ للمكتئبِ. اعلم أنكَ ستسمع من جلسائك الرأي والحديثَ تنكرهُ وتستجفيهِ وتستشنعُهُ بهِ عن نفسهِ أو غيرهِ، فلا يكونن منكَ التكذيبُ ولا التسخيفُ لشيءٍ مما يأتي به جليسك. ولا يجرئنكَ على ذلكَ أن تقولَ: إنما حدثَ عن غيرهِ، فإن كل مردودٍ عليهِ سيمتعضُ من الرد. وإن كانَ في القومِ من تكرهُ أن يستقر في قلبهِ ذلك القولُ، لخطأ تخافُ أن يعقدَ عليه، أو مضرةٍ تخشاها على أحدٍ فإنكَ قادرٌ على أن تنقضَ ذلك في سترٍ، يكونَ ذلك أيسرَ للنقضِ وأبعدَ للبعضةِ. ثم اعلم أن البغضةَ خوفٌ، وأن المودةَ أمنٌ، فاستكثر من المودةِ صامتاً، فإنّ الصمت سيد عوها إليكَ. إذا ناطقتَ فناطق بالحسنى، فإن المنطق الحسنَ يزيدُ في ود الصديق ويستل سخيمةَ الوغرِ. واعلم أن خفضَ الصوتِ وسكون الريحِ ومشي القصدِ من دواعي المودةِ، إذا لم يخالط ذلك بأو ولا عجبٌ. أما العجبُ فهو من دواعي المقتِ والشنآن. المستشار ليس بضامن وجه الصواب واعلم أن المستشار ليس بكفيلٍ، وأن الرأي ليس بمضمونٍ. بل الرأيُ كلهُ غررٌ، لأن أمورَ الدنيا ليس شيءٌ منها بثقةٍ، ولأنه ليس من أمرها شيءٌ يدركهُ الحازمُ إلى وقد يدركهُ العاجزُ. بل ربما أعيا الحزمةَ ما أمكنَ العجزةَ. فإذا أشارَ عليكَ صاحبكَ برأي، ثم لم تجد عاقبتهُ على ما كنتَ تأملُ فلا تجعل ذلك عليهِ ذنباً، ولا تلزمهُ لوماً وعذلاً بأن تقولَ: أنت فعلتَ هذا بي، وأنت أمرتني، ولولا أنتَ لم أفعل، ولا جرمَ لا أطيعكَ في شيء بعدها. فإن هذا كلهُ ضجرٌ ولؤمٌ وخفةٌ. فإن كنت أنتَ المشيرَ، فعملَ برأيكَ أو تركهُ، فبدا صوابكَ فلا تمنن بهِ ولا تكثرنّ ذكرهُ إن كان فيهِ نجاحٌ، ولا تلمهُ عليه إن كانَ قد استبانَ في تركهِ ضررٌ بأن تقول: ألم أقل لكَ افعل هذا، فإن هذا مُجانبٌ لأدبِ الحكماء. حسن الاستماع تعلم حسنَ الاستماعِ كما تتعلمُ حسنَ الكلامِ. ومن حسنِ الاستماع إمهالُ المتكلمِ حتى ينقضي حديثهُ، وقلة التلفت إلى الجوابِ، والإقبالُ بالوجهِ والنظر إلى المتكلمِ، والوعي لما يقولُ. واعلم، في ما تكلمُ بهِ صاحبكَ، أن مما يهجنُ صوابَ ما يأتي به، ويذهبُ بطعمهِ وبهجتهِ، ويزري به في قبولهِ، عجلتكَ بذلك، وقطعك حديثَ الرجل قبل أن يفضي إليك بذاتِ نفسهِ. كيف يكون الزهد إن رأيتَ نفسك تصاغرت إليها الدنيا، أودعتكَ إلى الزهادةِ فيها على حالِ تعذرٍ من الدنيا عليكَ فلا يغرنكَ ذلك من نفسكَ على تلكَ الحال، فإنها ليست بزهادةٍ، ولكنها ضجرٌ واستخذاءٌ وتغيرُ نفسٍ عندما أعجزكَ من الدنيا وغضبٌ منكَ عليها مما التوى عليكَ منها. ولو تمت على رفضها وأمسكتَ عن طلبها أوشكتَ أن ترى من نفسكَ من الضجرِ والجزعِ أشد من ضجركَ الأولَِ بأضعافِ. ولكن إذا دعتكَ نفسكَ إلى رفضِ الدنيا وهي مقبلةٌ عليكَ، فأسرع إلى إجابتها. حسن المجالسة وسوءها اعرف عوراتك. إياك أن تعرض بأحد في ما ضارعها. وإذا ذكرت من أحد خيلقةٌ فلا تناضل عنه مناضلة المدافعِ عن نفسهِ المصغرِ لما يعيبُ الناسُ منهُ فتتهمَ بمثلها. ولا تُلح كل الإلحاحِ. وليكن ما كان منك في غيرِ اختلاطٍ، فإن الاختلاط من محققاتِ الريبِ. إذا كنتَ في جماعة قومٍ أبداً فلا تعممنَ جيلاً من الناسِ أو أمةً من الأمم بشتمٍ ولا ذمٍ. فإنك لا تدري: لعلك تتناولُ بعض أعراضِ جُلسائكَ مخطئاً، فلا تأمن مكافأتهم. أو معتمداً فتنسبَ إلى السفهِ. ولا تذمن مع ذلك اسماً من أسماء الرجالِ أو النساء بأن تقولَ إن هذا لقبيحٌ من الأسماء. فإنكَ لا تدري، لعلّ ذلك غيرُ موافقٍ لبعض جلسائكَ، ولعلهُ يكونُ بعض أسماء الأهلينَ الحرمِ. ولا يستصغرن من هذا شيئاً، فكل ذلك يجرحُ في القلبِ. وجرحُ اللسان أشد من جرحِ اليد. ومن الأخلاقِ السيئةِ على كل حالٍ مغالبةُ الرجلِ على كلامهِ والاعتراضُ فيهِ، والقطعُ للحديثِ. ومن الأخلاقِ التي أنتَ جديرٌ بتركها إذا حدث الرجلُ حديثاً تعرفهُ، ألا تسابقهُ إليه وتفتحهُ عيهِ وتشاركهُ فيهِ، حتى كأنكَ تظهر للناس أنك تريدُ أن يعلموا أنكَ تعلمُ مثل الذي يعلمُ. وما عليكَ أن تهنئهُ بذلكَ وتفرده بهِ. وهذا البابُ من أبوابِ البخلِ. وأبوابه الغامضةُ كثيرةٌ. إذا كنتَ في قومٍ ليسوا بلغاء ولا فُصحاء، فدعِ التطاولَ عليهم بالبلاغةِ والفصاحة. واعلم أن بعض شدة الحذرِ عونٌ عليكَ في ما تحذرُ وأن بعض شدةِ الاتقاء مما يدعو إليك ما تتقي. واعلم أن الناسَ يخدعونَ أنفسهم بالعريضِ والتوقيعِ بالرجالِ في التماسِ مثالبهم ومساويهم ونقيصتهم. وكل ذلك أبينُ عند سامعيهِ من وضح الصبحِ. فلا تكونن من ذلك في غرورٍ ولا تجعلنَ نفسكَ من أهلهِ. اعلم أن من تنكبِ الأمورِ ما يسمى حذراً، ومنهُ ما يُسمى خوراً. فإن استطعتَ أن يكونَ جُنبكَ من الأمرِ قبل مواقعتكَ إياهُ فافعل. فإن هذا الحذرُ. ولا تنغمس فيه ثم تتهيبهُ. فإن هذا هو الخوارُ. فإن الحكيم لا يخوضُ نهراً حتى يعلمَ مقدارَ غورهِ. قد رأينا من سوء المجالسةِ أن الرجل تثقلُ عليهِ النعمةُ براها بصاحبهِ، فيكون ما يشتفي بصاحبهِ، في تصغيرِ أمرهِ وتكديرِ النعمةِ عليه، أن يذكر الزوالَ والفناء والدولَ، كأنهُ واعظٌ وقاص. فلا يخفى ذلك على من يعنى بهِ ولا غيرهِ. ولا ينزلُ قولهُ بمنزلةِ الموعظةِ والإبلاغِ، ولكن بمنزلةِ الضجرِ من النعمةِ، إذا رآها لغيرهِ، والاغتمامِ بها والاستراحةِ إلى غير روحِ. وإني مخبركَ عن صاحبِ لي كانَ من أعظمِ الناسِ في عيني، وكان رأسُ ما أعظمه في عيني صغر الدنيا في عينهِ: كان خارجاً من سلطانِ بطنهِ، فلا يتشهى ما لا يجدُ، ولا يكثرُ إذا وجدَ. وكان خارجاً من سلطانِ فرجهِ، فلا يدعو إليه ريبةً، ولا يستخف له رأياً ولا بدناً. وكان خارجاً من سلطان لسانهِ، فلا يقولُ ما لا يعلمُ، ولا يُنازعُ في ما يعلمُ. وكان خارجاً من سلطانِ الجهالةِ، فلا يقدمُ أبداً إلا على ثقةٍ بمنفعة. كان أكثر دهرهِ صامتاً. فإذا نطق بذَّ الناطقينَ. كان يرى متضاعفاً مستضعفاً، فإذا جاء الجد فهو الليثُ عادياً. كان لا يدخلُ في دعوى، ولا يشتركُ في مراءٍ، ولا يدلي بحجةٍ حتى يرى قاضياً عدلاً وشهوداً عدولاً. وكان لا يلوم أحداً على ما قد يكون العذرُ في مثلهِ حتى يعلمَ ما اعتذارهُ. وكان لا يشكو وجعاً إلا إلى من يرجو عندهُ البرء. وكان لا يستشير صاحباً إلى من يرجو عندهُ النصيحةِ. وكان لا يتبرمُ، ولا يتسخطُ، ولا يشتهى، ولا يتشكى. وكان لا ينقمُ على الولي، ولا يغفلُ عن العدو، ولا يخص نفسهُ دونَ إخوانهِ بشيءٍ من اهتمامهِ حيلتهِ وقوتهِ. فعليكَ بهذه الأخلاقِ إن أطقت، ولن تطيق، ولكن أخذ القليلِ خيرٌ من تركِ الجميعِ. واعلم أن خيرَ طبقاتِ أهل الدنيا طبقةٌ أصفها لكَ: من لم ترتفع عن الوضع ولم تتضع عن الرفيعِ. الصفحة الرئيسية حول الموقع اتصل بنا ترجمات القران أعلى الصفحة ISLAMICBOOK.WS © 2022 | جميع الحقوق متاحة لجميع المسلمين ييببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببببب كتاب عيار الشعر المؤلف : ابن طباطبا العلوي بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله الطاهرين. قال أبو الحسن. محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي، رحمة الله عليه: وفقك الله للصواب، وأعانك عليه، وجنبك الخطأ، وباعدك منه، وأدام أنس الآداب باصطفائك لها، وحياة الحكمة باقتنائك إياها. فهمت - حاطك الله - ما سألت أن أصفه لك من الشعر، والسبب الذي يتوصل به إلى نظمه، وتقريب ذلك على فهمك، والتأتي لتيسير ما عسر منه عليك. وأنا مبين ما سألت عنه، وفاتح ما يستغلق عليك منه، إن شاء الله تعالى. الشعر وأدواته الشعر - أسعدك الله - كلام منظوم، بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم، بما خص به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته الأسماع، وفسد على الذوق. ونظمه معلوم محدود، فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه، ومن اضطراب عليه الذوق لم يستغن من تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به، حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذي لا تكلف معه. وللشعر أدوات يجب إعدادها قبل مراسه وتكلف نظمه. فمن تعصت عليه أداة من أدواته، لم يكمل له ما يتكلفه منه، وبان الخلل فيما ينظمه، ولحقته العيوب من كل جهة. فمنها: التوسع في علم اللغة، والبراعة في فهم الإعراب، والرواية لفنون الآداب، والمعرفة بأيام الناس وأنسابهم، ومناقبهم ومثالبهم، والوقوف على مذاهب العرب في تأسيس الشعر، والتصرف في معانيه، في كل فن قالته العرب فيه؛ وسلوك مناهجها في صفاتها ومخاطباتها وحكاياتها وأمثالها، والسنن المستدلة منها، وتعريضها، وإطنابها وتقصيرها، وإطالتها وإيجازها، ولطفها وخلابتها، وعذوبة ألفاظها، وجزالة معانيها وحسن مبانيها، وحلاوة مقاطعها، وإيفاء كل معنى حظه من العبارة، وإلباسه ما يشاكله من الألفاظ حتى يبرز في أحسن زي وأبهى صورة. وأجتناب ما يشينه من سفساف الكلام وسخيف اللفظ، والمعاني المستبردة، والتشبيهات الكاذبة، والإشارات المجهولة، والأوصاف البعيدة، والعبارات الغثة، حتى لا يكون متفاوتا مرقوعاً، بل يكون كالسبيكة المفرغة، والوشي المنمنم والعقد المنظم، واللباس الرائق، فتسابق معانيه ألفاظه، فيلتذ الفهم بحسن معانيه كالتذاذ السمع بمونق لفظه، وتكون قوافيه كالقوالب لمعانيه، وتكون قواعد للبناء يتركب عليها ويعلو فوقها، فيكون ما قبلها مسوقاً إليها، ولا تكون مسوقة إليه، فتقلق في مواضعها، ولا توافق ما يتصل بها، وتكون الألفاظ منقادة لما تراد له، غير مستكرهة، ولا متعبة، لطيفة الموالج، سهلة المخارج. وجماع هذه الأدوات كمال العقل الذي به تتميز الأضداد، ولزوم العدل وإيثار الحسن، واجتناب القبيح، ووضع الأشياء مواضعها. صناعة الشعر فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه. فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه؛ بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه وبين ما قبله. فإذا كملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظاماً لها وسلكاً جامعاً لما تشتت منها. ثم يتأمل ما قد أداه إليه طبعه ونتجته فكرته، يستقصي انتقاده، ويرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية، وإن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضاد للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويكون كالنساج الحاذق الذي يفوف وشيه بأحسن التفويت ويسديه وينيره ولا يهلهل شيئاً منه فيشينه، وكالنقاش الرفيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان، وكناظم الجوهر الذي يؤلف بين النفيس منها والثمين الرائق، ولا يشين عقوده، بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها. وكذلك الشاعر إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي الفصيح لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها، وكذلك إذا سهل ألفاظه لم يخلط بها الألفاظ الوحشية النافرة الصعبة القيادة، ويقف على مراتب القول، والوصف في فن بعد فن، ويتعمد الصدق والوفق في تشبيهاته وحكاياته، ويحضر لبه عند كل مخاطبة ووصف، فيخاطب الملوك بما يستحقونه من جليل المخاطبات، ويتوقى حطها عن مراتبها، وأن يخلطها بالعامة، كما يتوقى أن يرفع العامة إلى درجات الملوك. ويعد لكل معنى ما يليق به، ولكل طبقة ما يشاكلها، حتى تكون الاستفادة من قوله في وضعه الكلام مواضعه أكثر من الاستفادة من قوله في تحسين نسجة وإبداع نظمه. ويسلك منهاج أصحاب الرسائل في بلاغاتهم، وتصرفهم في مكاتباتهم، فإن للشعر فصولا كفصول الرسائل، فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه على تصرفه في فنونه صلة لطيفة، فيتخلص من الزل إلى المديح، ومن المديح إلى الشكوى، ومن الشكوى إلى الاستماحة، ومن وصف الديار والآثار إلى وصف الفيافي والنوق، ومن وصف الرعود والبروق إلى وصف الرياض والرواد ومن وصف الظلمان والأعيار إلى وصف الخيل والأسلحة، ومن وصف المفاوز والفيافي إلى وصف الطرد والصيد، ومن وصف الليل والنجوم إلى وصف الموارد والمياه والهواجر والآل، والحرابي والجنادب. ومن الافتخار إلى اقتصاص مآثر الأسلاف، ومن الاستكانة والخضوع إلى الاستعتاب والاعتذار، ومن الإباء والاعتياض إلى الإجابة والتسمح، بألطف تخلص وأحسن حكاية، بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله، بل يكون متصلا به وممنزجاً معه، فإذا استقصى المعنى وأحاطه بالمراد الذي إليه يسوق القول بأبسر وصف وأخف لفظ لم يحتج إلى تطويله وتكريره. والشعر على تحصيل جنسه ومعرفة أسمه، متشابه الجملة، متفاوت التفصيل، مختلف كاختلاف الناس في صورهم، وأصواتهم، وعقولهم، وحظوظهم وشمائلهم، وأخلاقهم، فهم متفاضلون في هذه المعاني، وكذلك الأشعار هي متفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس؛ ومواقعها من اختيار الناس إياها كمواقع الصور الحسنة عندهم، واختيارهم لما يستحسنونه منها. ولكل اختيار يؤثره، وهوى يتبعه، وبغية لا يستبدل بها ولا يؤثر سواها. وقد جمعنا ما اخترناه من أشعار الشعراء في كتاب سميناه تهذيب الطبع يرتاض من تعاطى قول الشعر بالنظر فيه، ويسلك المنهاج الذي سلكه الشعراء، ويتناول المعاني اللطيفة كتناولهم إياها، فيحتذي على تلك الأمثلة في الفنون التي طرقوا أقوالهم فيها. واقتصرنا على ما أخترناه من غير نفي لما تركناه، بل لاستحسان له خصصناه به دون ما سواه، وقد شذ عنا الكثير مما وجب اختياره وإيثاره، وإذا استنفدناه ألحقناه بما اخترناه إن شاء الله تعالى. فمن الأشعار أشعار محكمة متقنة الألفاظ حكيمة المعاني، عجيبة التأليف إذا نقضت وجعلت نثراً لم تبطل جودة معانيها، ولم تفقد جزالة ألفاظها. ومنها أشعار مموهة، مزخرفة عذبة، تروق الأسماع والأفهام إذا مرت صفحاً، فإذا حصلت وانتقدت بهرجت معانيها، وزيفت ألفاظها، ومجت حلاوتها، ولم يصلح نقضها لبناء يستأنف منه، فبعضها كالقصور المشيدة، والأبنية الوثيقة الباقية على مر الدهور، وبعضها كالخيام الموتدة التي تزعزعها الرياح، وتوهيها الأمطار، ويسرع إليها البلى، ويخشى عليها التقوض. المعاني والألفاظ وللمعاني ألفاظ تشاكلها فتحسن فيها وتقبح في غيرها، فهي لها كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حسناً في بعض المعارض دون بعض. وكم من معنى حسن قد شين بمعرضه الذي أبرز فيه، وكم معرض حسن قد ابتذل على معنى قبيح ألبسه، وكم من صارم غضب قد انتضاه من وددت لو أنه انتضاه فهزه ثم لم يضرب به، وكم من جوهرة نفيسة قد شينت بقرينة لها بعيدة منها، فأفردت عن أخواتها المشاكلات لها، وكم من زائف وبهرج قد نفقا على نقادهما، ومن جيد نافق قد بهرج عند البصير بنقده فنفاه سهواً، وكم من زبر للمعاني في حشو الأشعار لا يحسن أن يطلبها غير العلماء بها، والصياقلة للسيوف المطبوعة منها، وكم من حكمة غريبة قد أزدريت لرثاثة كسوتها، ولو جليت في غير لباسها ذاك لكثر المشيرون إليها، وكم من سقيم من الشعر قد يئس طبيبه من برئه، عولج سقمه فعاودته سلامته، وكم من صحيح جني عليه فأرداه حينه. وليس يخلو ما أودعناه اختيارنا المسمى تهذيب الطبع من بناء إن لم يصلح لأن تسكن الأفهام في ظله لم يبطل أن ينتفع بنقضه، فبعض البناء يحتاج إليه. شعر المولدين وستعثر في أشعار المولدين بعجائب استفادوها ممن تقدمهم، ولطفوا في تناول أصولها منهم، ولبسوها على من بعدهم، وتكثروا بأبداعها فسلمت لهم عند إدعائها، للطيف سحرهم فيها، وزخرفتهم لمعانيها. والمحنة على شعراء زماننا في أشعارهم أشد منها على من كان قبلهم لأنهم قد سبقوا إلى كل معنى بديع ولفظ فصيح، وحيلة لطيفة، وخلابة ساحرة. فإن أتوا بما يقصر عن معاني أولئك، ولا يربى عليها لم يتلق بالقبول وكان كالمطرح المملول. ومع هذا فإن من كان قبلنا في الجاهلية الجهلاء، وفي صدر الإسلام، من الشعراء كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها مديحاً وهجاء، وافتخاراً ووصفا، وترغيباً وترهيباً، إلا ما قد احتمل الكذب فيه في حكم الشعر: من الإغراق في الوصف والإفراط في التشبيه. وكان مجرى ما يوردونه مجرى القصص الحق، والمخاطبات بالصدق، فيحابون بما يثابون ويثابون بما يحابون. والشعراء في عصرنا إنما يثابون على ما يستحسن من لطيف ما يوردونه من أشعارهم، وبديع ما يغربون من معانيهم، وبليغ ما ينظمونه من ألفاظهم ومضحك ما يوردونه من نوادرهم، وأنيق ما ينسجونه من وشي قولهم، دون حقائق ما يشتمل عليه من المدح، والهجاء، وسائر الفنون التي يصرفون القول فيها. فإذا كان المديح ناقصاً عن الصفة التي ذكرناها، كان سبباً لحرمان قائله، والمتوسل به. وإذا كان الهجاء كذلك أيضاً كان سبباً لاستهانة المهجو به وأمنه من سيره، ورواية الناس له، وإذا عتهم إياه وتفكههم بنوادره لا سيما وأشعارهم متكلفة غير صادرة عن طبع صحيح، كأشعار العرب التي سبيلهم في منظومها سبيلهم في منثور كلامهم الذي لا مشقة عليهم فيه. فينبغي للشاعر في عصرنا أن لا يظهر شعره إلا بعد ثقته بجودته وحسنه وسلامته من العيوب التي نبه عليها، وأمر بالتحرز منها، ونهي عن استعمال نظائرها، ولا يضع في نفسه أن الشعر موضع اضطرار، وأنه يسلك سبيل من كان قبله، ويحتج بالأبيات التي عيبت على قائلها؛ فليس يقتدى بالمسيء، وإنما الاقتداء بالمحسن، وكل واثق فيه مجل له إلا القليل. ولا يغير على معاني الشعر فيودعها شعره، ويخرجها في أوزان ومخالفة لأوزان الأشعار التي يتناول منها ما يتناول، ويتوهم أن تغييره للألفاظ والأوزان مما يستر سرقته، أو يوجب له فضيلة، بل يديم النظر في الأشعار التي قد اخترناها لتلصق معانيها بفهمه، وترسخ أصولها في قلبه، وتصير مواد لطبعه، ويذرب لسانه بألفاظها؛ فإذا جاش فكره بالشعر أدى إليه نتائج ما استفاده مما نظر فيه من تلك الأشعار، فكانت تلك النتيجة كسبيكة مفرغة من جميع الأصناف التي تخرجها المعادن. وكما قد اغترف من واد قد مدته سيول جارية من شعاب مختلفة، وكطيب تركب من أخلاط من الطيب كثيرة، فيستغرب عيانه، ويغمض مستبطنه ويذهب في ذلك إلى ما يحكى عن خالد بن عبد الله القسري، فإنه قال: حفظني أبي ألف خطبة ثم قال لي: تناسها؛ فتناسيتها؛ فلم أرد بعد ذلك شيئاً من الكلام إلا سهل على. فكان حفظه لتلك الخطب رياضة لفهمه، وتهذيباً لطبعه، وتلقيحاً لذهنه، ومادة لفصاحته، وسبباً لبلاغته ولسنه وخطابته. طريقة العرب في التشبيه واعلم أن العرب أودعت أشعارها من الأوصاف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها، وأدركه عيانها، ومرت به تجاربها وهم أهل وبر: صحونهم البوادي وسقوفهم السماء، فليست تعدو أوصافهم ما رأوه منها وفيها، وفي كل واحدة منهما في فصول الزمان على اختلافها: من شتاء، وربيع، وصيف، وخريف، من ماء، وهواء، ونار، وجبل، ونبات وحيوان، وجماد، وناطق، وصامت، ومتحرك، وساكن، وكل متولد من وقت نشوئه، وفي حال نموه إلى حال انتهائه. فتضمنت أشعارها من التشبيهات ما أدركه من ذلك عيانها وحسها، إلى ما في طبائعها وأنفسها من محمود الأخلاق ومذمومها، في رخائها وشدتها، ورضاها وغضبها، وفرحها وغمها، وأمنها وخوفها، وصحتها وسقمها، والحلات المتصرفة في خلقها، من حال الطفولة إلى حال الهرم، وفي حال الحياة إلى حال الموت. فشبهت الشيء بمثله تشبيهاً صادقاً على ما ذهبت إليه في معانيها التي أرادتها فإذا تألمت أشعارها وفتشت جميع تشبيهاتها وجدتها على ضروب مختلفة تتدرج أنواعها. فبعضها أحسن من بعضه، وبعضها ألطف من بعض. فأحسن التشبيهات ما إذا عكس لم ينتقص، بل يكون كل مشبه بصاحبه مثل صاحبه، ويكون صاحبه مثله مشتبهاً به صورة ومعنى. وربما أشبه الشيء الشيء صورة وخالفه معنى، وربما أشبهه معنى وخالفه صورة، وربما قاربه وداناه أو شامه. وأشبهه مجازاً لا حقيقة. فإذا اتفق لك في أشعار العرب التي يحتج بها تشبيه لا تتلقاه بالقبول، أو حكاية تستغر بها فابحث عنه ونقر عن معناه، فإنك لا تعدم أن تجد تحته خبيئة إذا أثرتها عرفت فضل القوم بها، وعلمت أنهم أدق طبعاً من أن يلفظوا بكلام لا معنى تحته. وربما خفى عليك مذهبهم في سنن يستعملونها بينهم في حالات يصفونها في أشعارهم، فلا يمكنك استنباط ما تحت حكاياتهم، ولا تفهم مثلها إلا سماعاً، فأذا وقفت على ما أرادوه لطف موقع ما تسمعه من ذلك عند فهمك. والكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه. كما قال بعض الحكماء: للكلام جسد وروح، فجسده النطق وروحه معناه. فأما ما وصفته العرب، وشبهت بعضه ببعض فما أدركه عيانها فكثير لا يحصر عدده، وأنواعه كثيرة. وسنذكر بعض ذلك ونبين حالاته وطبقاته إن شاء الله تعالى. المثل الاخلاقية عند العرب وبناء المدح والهجاء عليها وأما ما وجدته في أخلاقها ومدحت به سواها، وذمت من كان على ضد حاله فيه فخلال مشهورة كثيرة: منها في الخلق الجمال والبسطة، ومنها في الخلق السخاء والشجاعة، والحلم والحزم والعزم، والوفاء، والعفاف، والبر، والعقل، والأمانة، والقناعة، والغيرة، والصدق، والصبر، والورع، والشكر، والمداراة، والعفو، والعدل والإحسان، وصلة الرحم، وكتم السر، والمواناة، وأصالة الرأي، والأنفة، والدهاء وعلو الهمة، والتواضع، والبيان، والبشر، والجلد، والتجارب، والنقض والإبرام. وما يتفرع من هذه الخلال التي ذكرناها من قرى الأضياف، وإعطاء العفاة، وحمل المغارم، وقمع الأعداء، وكظم الغيظ، وفهم الأمور، ورعاية العهد، والفكرة في العواقب، والجد، والتشمير، وقمع الشهوات، والإيثار على النفس، وحفظ الودائع، والمجازاة، ووضع الأشياء مواضعها، والذب عن الحريم، واجتلاب المحبة، والتنزه عن الكذب، واطراح الحرص، وإدخار المحامد والأجر، والاحتراز من العدو، وسيادة العشيرة، واجتناب الحسد، والنكاية في الأعداء، وبلوغ الغابات، والاستكثار من الصدق، والقيام بالدية وكبت الحساد، والإسراف في الخير، واستدامة النعمة، وإصلاح كل فاسد، واعتقاد المنن، واستعباد الأحرار بها، وإيناس النافر، والإقدام على بصيرة، وحفظ الجار. وأضداد هذه الخلال: البخل، والجبن، والطيش، والجهل، والغدر، والاغترار، والفشل، والفجور، والعقوق، والخيانة، والحرص والمهانة، والكذب، والهلع، وسوء الخلق، ولؤم الظفر، والخور، والإساءة، وقطيعة الرحم، والنميمة، والخلاف، والدناءة، والغفلة، والحسد، والبغي، والكبر، والعبوس، والإضاعة، والقبح، والدمامة، والقماءة، والابتذال، والخرف، والعجز، والعي. ولتلك الخصال المحمودة حالات تؤكدها، وتضاعف حسنها، وتزيد في جلالة المتمسك بها، كما أن لأضدادها أيضاً حالات تزيد في الحط ممن وسم بشيء منها ونسب إلى استشعار مذمومها، والتمسك بفاضحها، كالجود في حال العسر موقعه فوق موقعه في حال الجدة، وفي حال الصحو أحمد منه في حال السكر، كما أن البخل من الوافر القادر أشنع منه من المضطر العاجز، والعفو في حال المقدرة أجل موقعاً منه في حال العجز، والشجاعة في حال مبارزة الأقران أحمد منها في حال الإحراج ووقوع الضرورة، والعفة في حال اعتراض الشهوات والتمكن من الهوى أفضل منها في حال فقدان اللذات، واليأس من نيلها، والقناعة في حال تبرج الدنيا ومطامعها أحسن منها في حال اليأس وانقطاع الرجاء منها. وعلى هذا التمثيل، وجميع الخصال التي ذكرناها. فاستعملت العرب هذه الخلال وأضدادها، ووصفت بها في حالي المدح والهجاء مع وصف ما يستعد به لها ويتهأ لاستعماله فيها، وشعبت منها فنوناً من القول وضروباً من الأمثال وصنوفاً من التشبيهات ستجدها على تفننها واختلاف وجوهها في الاختيار الذي جمعناه، فتسلك في ذلك منهاجهم، وتحتذي على مثالهم إن شاء الله تعالى. عيار الشعر علة حسن الشعر وعيار الشعر أن يورد على الفهم الثاقب، فما قبله واصطفاه فهو راف، وما مجه ونفاه فهو ناقص. والعلة في قبول الفهم الناقد للشعر الحسن الذي يرد عليه، ونفيه للقبيح منه، واهتزازه لما يقبله، وتكرهه لما ينفيه، إن كل حاسة من حواس البدن إنما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له إذا كان وروده عليها وروداً لطيفاً باعتدال لاجور فيه، وبموافقة لا مضادة معها، فالعين تألف المرأى الحسن، وتقذى بالمرأى القبيح الكريه، والأنف يقبل المشم الطيب، ويتأذى بالمنتن الخبيث، والفم يلتذ بالمذاق الحلو، ويمج البشع المر، والأذن تتشوف للصوت الخفيض الساكن وتتأذى بالجهير الهائل، واليد تنعم بالملمس اللين الناعم، وتتأذى بالخشن المؤذي. والفهم يأنس من الكلام بالعدل الصواب الحق، والجائز المعروف المألوف، ويتشوف إليه، ويتجلى له، ويستوحش من الكلام الجائر، والخطأ الباطل، والمحال المجهول المنكر، وينفر منه، ويصدأ له. فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوماً، مصفى من كدر العي، مقوماً من أود الخطأ واللحن، سالماً من جور التأليف، موزوناً بميزان الصواب لفظاً ومعنى وتركيباً اتسعت طرقه، ولطفت موالجه، فقبله الفهم وارتاح له، وأنس به. وإذا ورد عليه على ضد هذه الصفة، وكان باطلا محالاً مجهولاً، انسدت طرقه ونفاه واستوحش عند حسه به، وصدىء له، وتأذى به، كتأذى سائر الحواس بما يخالفها على ما شرحناه. وعلة كل حسن مقبول الاعتدال، كما أن علة كل قبيح منفي الاضطراب. والنفس تسكن إلى كل ما وافق هواها، وتقلق مما يخالفه، ولها أحوال تتصرف بها، فإذا ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزت له وحدثت لها أريحية وطرب، فإذا ورد عليها ما يخالفها قلقت وأستوحشت. وللشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم لصوابه ويرد عليه من حسن تركيبه واعتدال اجزائه. فإذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى وعذوبة اللفظ فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تم قبوله له، واشتماله عليه، وإن نقص جزء من أجزائه التي يعمل بها وهي: اعتدال الوزن، وصواب المعنى، وحسن الألفاظ، كان إنكار الفهم إياه على قدر نقصان أجزائه. ومثال ذلك الغناء المطرب الذي يتضاعف له طرب مستعمه، المتفهم لمعناه ولفظه مع طيب ألحانه. فأما المقتصر على طيب اللحن منه دون ما سواه فناقص الطرب. وهذه حال الفهم فيما يرد عليه من الشعر الموزون مفهوماً أو مجهولاً. وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفة عند الفهم لا تحد كيفيتها: كمواقع الطعوم المركبة الخفية التركيب اللذيذة المذاق، وكالأراييح الفائحة المختلفة الطيب والنسيم، وكالنقوش الملونة التقاسيم والأصباغ، وكالإيقاع المطرب المختلف التأليف، وكالملامس اللذيذة الشهية الحس، فهي تلائمه إذا وردت عليه - أعني الأشعار الحسنة للفهم - فيلتذها ويقبلها، ويرتشفها كارتشاف الصديان للبارد الزلال، لأن الحكمة غذاء الروح، فأنجع الأغذية ألطفها. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر حكمة وقال عليه السلام: ما خرج من القلب وقع القلب، وما خرج من اللسان لم يتعد الآذان. فإذا صدق ورود القول نثراً ونظماً أثلج صدره. وقال بعض الفلاسفة: إن للنفس كلمات روحانية من جنس ذاتها. وجعل ذلك برهاناً على نفع الرقى ونجعها فيما تستعمل له. فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ، التام البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم، وكان أنفذ من نفث السحر، وأخفى دبيباً من الرقى، وأشد إطراباً من الغناء، فسل السخائم، وحلل العقد، وسخى الشحيح، وشجع الجبان، وكان كالخمر في لطف دبيبه وإلهائه، وهزه وإثارته. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً. علة أخرى ولحسن الشعر وقبول الفهم إياه علة أخرى وهي موافقته للحال التي يعد معناه لها؛ كالمدح في حال المفاخرة، وحضور من يكبت بانشاده من الأعداء، ومن يسر به من الأولياء. وكالهجاء في حال مباراة المهاجى، والحط منه حيث ينكى فيه استماعه له. وكالمراثي في حال جزع المصاب، وتذكر مناقب المفقود عند تأبينه، والتعزية عنه. وكالاعتذار والتنصل من الذنب عند سل سخيمة المجني عليه، المعتذر إليه. وكالتحريض على القتال عند التقاء الأقران وطلب المغالبة. وكالغزل والنسيب عند شكوى العاشق، واهتياج شوقه وحنينه إلى من يهواه. صدق العبارة فإذا وافقت هذه الحالات، تضاعف حسن موقعها عند مستمعها، لا سيما إذا أيدت بما يجذب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها، والتصريح بما كان يكتم منها، والاعتراف بالحق في جميعها. والشعر هو ما إن عري من معنى بديع لم يعر من حسن الديباجة. وما خالف هذا فليس بشعر. ومن أحسن المعاني والحكايات في الشعر وأشدها استفزازاً لمن يسمعها، الابتداء بذكر ما يعلم السامع له إلى أي معنى يساق القول فيه قبل استتمامه، وقبل توسط العبارة عنه، والتعريض الخفي الذي يكون بخفائه أبلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر دونه. فموقع هذين عند الفهم كموقع البشرى عند صاحبها لثقة الفهم بحلاوة ما يرد عليه من معناهما. ضروب التشبيهات والتشبيهات على ضروب مختلفة. فمنها: تشبيه الشيء بالشيء صورة وهيئة، ومنها تشبيهه به معنى، ومنها تشبيهه به حركة، وبطئاً وسرعة، ومنها تشبيهه به لوناً، ومنها تشبيهه به صوتاً. وربما امتزجت هذه المعاني بعضها ببعض، فإذا اتفق في الشيء المشبه بالشيء معنيان أو ثلاثة معان من هذه الأوصاف قوي التشبيه وتأكد الصدق فيه، وحسن الشعر به للشواهد الكثيرة المؤيدة له. فأما تشبيه الشيء بالشيء صورة وهيئة فكقول امرىء القيس: كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي وكقوله: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب وكقول عدي بن الرقاع: تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها وأما تشبيه الشيء بالشيء لوناً وصورة فكقول امرىء القيس يصف الدرع: ومسرودة السك موضونة ... تضاءل في الطي كالمبرد تفيض على المرء أردانها ... كفيض الأتي على الجدجد وكقول النابغة: تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... بردا أسف لثاته بالإثمد كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي وكقول حميد بن ثور: على أن سحقا من رماد كأنه ... حصى إثمد بين الصلاء سحيق وأما تشبيه الشيء بالشيء صورة ولوناً وحركة وهيئة فكقول ذي الرمة: ما بال عينك منها الدمع ينسكب ... كأنه من كلى مفرية سرب وفراء غرفية أثأى خوارزها ... مشلشل ضيعته بينها الكتب وكقول الشماخ: لليلى بالعنيزة ضوء نار ... تلوح كأنها الشعرى العبور إذا ما قلت أخمدها زهاها ... سواد الليل والريح الدبور وكقول ابن الشماخ: وهو جنادة بن جزي. والشمس كالمرآة في كف الأشل وكقول امرىء القيس: جمعت ردينياً كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان وكقول ليلى الأخيلية: قوم رباط الخيل وسط بيوتهم ... وأسنة زرق يخلن نجوما وأما تشبيه الشيء بالشيء حركة وهيئة فكقول عنترة: وترى الذباب بها يغني وحده ... هزجاً كفعل الشارب المترنم غرداً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم وكقول الأعشى. غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهويني كما يمشي الوجى الوجل كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل وكقول حميد بن ثور. أرقت لبرق آخر الليل يلمع ... سرى دائبا فيه يهب ويهجع دنا الليل واستن استنانا زفيفه ... كما استن في الغاب الحريق المشيع وكقوله: خفا كإقتذاء الطير والليل مدبر ... بجثمانه والصبح قد كان يسطع وكقول ابن هرمة: ترى ظلها عند الرواح كأنه ... إلى دفها رأل يخب جنيب وكقول الآخر. يضحى بها الحرباء وهو كأنه ... خصم معد للخصومة موفق وكقول الآخر: كأن أنوف الطير في عرصاتها ... خراطيم أقلام تخط وتعجم وأما تشبيه الشيء بالشيء معنى لا صورة فكتشبيه الجواد الكثير العطاء بالبحر والحيا، وتشبيه الشجاع بالأسد، وتشبيه الجميل الباهر الحسن الرواء بالشمس، وتشبيه المهيب الماضي في الأمور بالسيف، وتشبيه العالي الهمة بالنجم، وتشبيه الحليم الركين بالجبل، وتشبيه الحيي بالبكر، وتشبيه العزيز الصعب المرام بالمتوقل في الجبال والسامي في العلو، وتشبيه الفائت بالحلم، وبأمس الذاهب. وتشبيه أضداد هذه المعاني بأشكالها على هذا القياس: كاللئيم بالكلب، والجبان بالصفرد، والطائش بالفراش، والذليل بالنقد وبالوتد، والقاسي بالحديد والصخر. وقد فاز قوم بخلال شهروا بها من الخير والشر وصاروا أعلاماً فيها فربما شبه بهم فيكونون في المعاني التي احتووا عليها وذكروا بشهرتها نجوماً يقتدى بهم، وأعلاماً يشار إليهم كالسمو أل في الوفاء، وحاتم في السخاء، والأحنف في الحلم، وسحبان في البلاغة، وقيس في الخطابة، ولقمان في الحكمة، فهم في التشبيه يجرون مجرى ما قدمنا ذكره من البحر والحيا والشمس والقمر والسيف، ويكون التشبيه بهم مدحاً كالتشبيه بها، وكذلك أضدادها. وقوم يذمون فيما شهروا به، يشبه بهم في حال الذم، كما يشبه بهؤلاء في حال المدح: كباقل في العي وهنبقة في الحمق، والكسعى في الندامة، والمنزوف صرطاً في الجبن. فالشاعر الحاذق يمزج بين هذه المعاني في التشبيهات لتكثر شواهدها ويتأكد حسنها، ويتوقى الاقتصار على ذكر المعاني التي يغير عليها دون الإبداع فيها والتلطيف لها لئلا يكون كالشيء المعاد المملول. أدوات التشبيه فما كان من التشبيه صادقاً قلت في وصفه كأنه أو قلت ككذا، وما قارب الصدق قلت فيه تراه أو تخاله أو يكاد. فمن التشبيه الصادق قول أمرىء القيس: نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لقفال فشبه النجوم بمصابيح رهبان لفرط ضيائها وتعهد الرهبان لمصابيحهم وقيامهم عليها لتزهر إلى الصبح، فكذلك النجوم زاهرة طول الليل وتتضاءل للصباح كتضاؤل المصابيح له. وقال: تشب لقفال لأن أحياء العرب بالبادية إذا قفلت إلى مواضعها التي تأوي إليها من مصيف إلى مشتى، ومن مشتى إلى مربع أوقدت نيراناً على قدر كثرة منازلها وقلتها ليهتدي بها، فشبه النجوم ومواقعها من السماء بتفرق تلك النيران واجتماعها في مكان بعد مكان على حسب منازل القفال من أحياء العرب، ويهتدي بالنجوم كما يهتدي القفال بالنيران الموقدة لهم. وأما تشبيه الشيء بالشيء معنى لا صورة فكقول: النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وكقوله أيضاً: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع وكقوله: وإنك غيث ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنية قاطع وكقول الأعشى: كالهندواني لا يخزيك مشهده ... وسط السيوف إذا ما تضرب البهم وكقول زهير: لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنير لليلة البدر ولأنت أجود بالعطاء من ال ... ريان لما جاد بالقطر ولأنت أشجع من أسامة إذ ... رأب الصريخ ولج في الذعر ولانت أحيا من مخدرة ... عذراء تقطن جانب الخدر ولأنت أبين حين تنطق من ... لقمان لما عي بالمكر وكقول النابغة الجعدي: فقد بليت وأفنانى الزمان كما ... يفني تقلب أقطار الرحى القطبا وقال الراعي، وكالسيف إن لاينته لأن متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان وكقول الراعي: فما أم عبد الله إلا عطية ... من الله أعطاها امرءاً هو شاكر هي الشمس وافاها الهلال بنوهما ... نجوم بآفاق السماء نظائر تذكرها المعروف وهي حيية ... وذو اللب أحيانا مع الحلم ذاكر كما استقبلت غيثا جنوب ضعيفة ... فأسبل ريان الغمامة ماطر وأما تشبيه الشيء بالشيء حركة وبطئاً وسرعة فكقول الراعي: كأن يديها بعد ما انضم بدنها ... وصوب حاد بالركاب يسوق يدا ماتح عجلان رخو ملاطه ... له بكرة تحت الرشاء فلوق وكقول امرىء القيس: كأن الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رجلها حذف أعسرا وكقول الآخر: كأنما الرجلان واليدان ... طالبتا وتر وهاربان وكقول الأخطل: وهن عند اغترار القوم ثورتها ... يرهقن مجتمع الأعناق والركب فهن ثمت يزفى قذف أرجلها ... إهذاب أيد بها يضرين كالعذب كلمع أيدي مثاكيل مثلبة ... ينعين فنيان ضرس الدهر والخطب وكقول حميد بن ثور: من كل يعملة يظل زمامها ... يسعى كما هرب الشجاع المنفر وكقول الشماخ. وكلهن يباري ثني مطرد ... كحية الطود ولى غير مطرود وكقول امرىء القيس: مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل أصاح ترى برقاً أريك وميضه ... كلمح اليدين في حبي مكلل وأما تشبيه الشيء لوناً فكقول الأعشى. وسبيئة مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جربالها وكقول حميد بن ثور: والليل قد ظهرت نحيزته ... والشمس في صفراء كالورس وكقول الشماخ: إذا ما الليل كان الصبح فيه ... أشق كمفرق الرأس الدهين وكقول عبيد بن الأبرص: يا من لبرق أبيت الليل أرقبه ... في عارض كمضيء الصبح لماح وكقول زهير: زجرت عليه حرة أرحبية ... وقد صار لون الليل مثل الأرندج وكقول امرىء القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي وكقول كعب بن زهير: وليلة مشتاق كأن نجومها ... تفرقن منها في طيالسة خضر وكقول ذي الرمة: وليل كسربال الغراب ادرعته ... إليك كما احتث اليمامة أجدل وكقول ابن هرمة: وقد لاح للساري الذي كحل السرى ... على أخريات الليل فتق مشهر كلون الحصان الأنبط البطن قائما ... تمايل عنه الجل واللون أشقر وكقوله: إلي أن يشق الليل ورد كأنه ... وراء الدجى جاد أغر جواد وأما تشبيه الشيء بالشيء صوتاً فكقول الشماخ: أجد كأن صريفها بسديسها ... في البيد صارخة صرير الأخطب وكقول الراعي: كأن دوي الحلي تحت ثيابها ... حصاد السفا لاقى الرياح الزعازعا وكقول الشماخ: كأن نهيفهن بكل فج ... إذا ارتحلوا تأوه نائحات وكقوله: إذا أنبض الراموان عنها ترنمت ... ترنم ثكلى أوجعتها الجنائز وكقول الأعشبي: تسمع للحلى وسواساً إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل وأما الابتداء بما يحس السامع بما ينقاد إليه القول فيه قبل استتمامه فكقول النابغة: إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي بعصائب فقدم في هذا البيت معنى ما تحلق الطير من أجله، ثم أوضحه بقوله: يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم ... من الضاريات بالدماء الذوارب تراهن خلف القوم زوراً كأنها ... جلوس شيوخ في مسوك الأرانب جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب لهن عليهم عادة قد عرفنها ... إذا عرضوا الخطي فوق الكواثب وقول الآخر: لعمرك ما الناس أثنوا عليك ... ولا مدحوك ولا عظموا ولو أنهم وجدوا مسلكا ... إلى أن يعيبوك ما أحجموا فقدم معنى ما ساق إليه الإبتداء، فقال في تمامه: ولكن صبرت لما ألزموك ... وجدت بما لم يكن يلزم وأنت بفضلك ألجأتهم ... إلى أن يقولوا وأن يعظموا وأما التعريض الذي ينوب عن التصريح، والاختصار الذي ينوب عن الإطالة. فكقول عمرو بن معدي كرب: فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت، ولكن الرماح أجرت أي لو أن قومي اعتنوا في القتال، وصدقوا المصاع، وطعنوا أعداءهم برماحهم فأنطقتني بمدحهم وذكر حسن بلائهم نطقت، ولكن الرماح أجرت أي شقت لساني كما يجر لسان الفصيل، يريد أسكتتني. وكقول الآخر في معناه: بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا وكقول قيس بن خويلد في ضده: وكنا أناساً أنطقتنا سيوفنا ... لنا في لقاء القوم جد وكوكب وكقول الآخر: لعمري لنعم الحي حي بني كعب ... إذا نزل الخلخال منزلة القلب يقول: إذا ريعت صاحبة الخلخال فأبدت ساقها وشمرت للهرب. والقلب السوار تبديه المرأة وتخفي الخلخال إذا لبستهن. وقد قيل في معنى هذا البيت أيضاً إن المرأة إذا ريعت لبست الخلخال في يدها دهشاً. وكقول حميد بن ثور: أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما وكقول لبيد: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر ومن الاختصار قول لبيد: وبنو الريان أعداء للا ... وعلى ألسنتهم ذلت نعم زينت أحسابهم أنسابهم ... وكذاك الحلم زين للكرم ومن المدح البليغ الموجز قول امرئ القيس: وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... ومن خاله ومن يزيد ومن حجر سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... وتأمل ذا إذا صحا وإذا سكر وكقول محمد بن بشير الخارجي: يا أيها المتمني أن يكون فتى ... مثل ابن زيد لقد خلى لك السبلا أعدد نظائر أخلاق عددن له ... هل سب من أحد أو سب أو بخلا وكقول الآخر: علم الغيث الندى حتى إذا ... ما حكاه علم البأس الأسد فله الغيث مقر بالندى ... وله الليث مقر بالجلد وكقول الآخر: يا من نؤمل أن تكون خصاله ... كخصال عبد الله أنصت واستمع فلأنصحنك في المشورة والذي ... حج الحجيج إليه فاقبل أوفدع أصدق وعف وبر واصبر واحتمل ... واحلم وكف ودار واسمع واشجع وكقول الآخر: شبه الغيث فيه والليث والبد ... ر فسمح ومحرب وجميل فهذه أمثلة لأنواع التشبيهات التي وعدنا شرحها، وفي كتاب تهذيب الطبع ما يسد الخلل الذي فيها، ويأتي على ما أغفلنا وصفه والاستشهاد به من هذا الفن إن شاء الله تعالى. الأشعار المحكمة وأضدادها ونذكر الآن أمثلة للأشعار المحكمة الرصف، المستوفاة المعاني، السلسة الألفاظ، الحسنة الديباجة، وأمثلة لأضدادها. وننبه على الخلل الواقع فيها، ونذكر التي قد زادت قريحة قاثليها فيها على عقولهم، والأبيات التي أغرق قائلوها فيما ضمنوها من المعاني، والأبيات التي قصروا فيها عن الغايات التي جروا إليها في الفنون التي وصفوها، والقوافي القلقة في مواضعها، والقوافي المتمكنة في مواقعها، والألفاظ المستكرهة، النافرة الشائنة للمعاني التي اشتملت عليها، والمعاني المسترذلة الشائنة للألفاظ المشغولة بها. والأبيات الرائقة سماعا، الواهية تحصيلاً، والأبيات القبيحة نسجاً وعبارة، العجيبة معنى وحكمة وإصابة. سنن العرب وتقاليدها وأمثلة لسنن العرب المستعملة بينها، التي لا تفهم معانيها إلا سماعاً، كإمساك العرب عن بكاء قتلاها حتى تطلب بثأرها، فإذا أدركته بكت حينئذ قتلاها. وفي هذا المعنى: من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء جواسراً يندبنه ... يطلمن أوجههن بالأسحار قد كن يكنن الوجوه تستراً ... فالآن حين برزن للنظار يقول: من كان مسروراً بمقتل مالك فليستدل ببكاء نسائنا وندبهن إياه على أنا قد أخذنا بثأرنا وقتلنا قاتله. وككيهم إذا أصاب إبلهم العر والجرب السليم منها ليذهب العر عن السقيم. وفي ذلك يقول النابغة متمثلاً: يكلفني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع وكحكمهم إذا أحب الرجل منهم امرأة وأحبته، فلم يشق برقعها ولم تشق هي رداءه فإن حبهما يفسد، وإذا فعلاه دام أمرهما. وفي ذلك يقول عبد بني الحسحاس سحيم: فكم قد شققنا من رداء محبر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دواليك حتى كلنا غير لابس وكتعليقهم الحلي والجلاجل على السليم ليفيق. وفي ذلك يقول النابغة: يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلى النساء في يديه قعاقع ويقول رجل من عذرة: كأني سليم ناله كلم حية ... ترى حوله حلي النساء موضعا وكفقئهم عين الفحل إذا بلغت إبل أحدهم ألفا، فإن زادت عن الألف فقأوا العين الأخرى، يقولون إن ذلك يدفع عنها الغارة والعين. وفي ذلك يقول قائلهم يشكر ربه على ما وهب له: وهبتها وأنت ذو امتنان ... يفقاً فيها أعين البعران وقال بعض العرب ممن أدرك الإسلام يذكر أفعالهم: وكان شكر القوم عند المنن ... كي الصحيحات وفقاً الأعين وكسقيهم العاشق الماء على خرزة تسمى السلوان فيسلو، ففي ذلك يقول القائل: يا ليت أن لقلبي من يعلله ... أو ساقياً فسقاه اليوم سلوانا وقال آخر: شربت على سلوانه ماء مزنة ... فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو وكإيقادهم خلف المسافر الذي لا يحبون رجوعه ناراً، ويقولون: أبعده الله وأسحقه. وأوقد ناراً إثره. وفي ذلك يقول شاعرهم. وذمة أقوام حملت ولم نكن ... لنوقد ناراً إثرهم للتندم وكضربهم الثور إذا امتنعت البقر من الماء، ويقولون إن الجن تركب الثيران فتصد البقر عن الشراب. قال الأعشى: فإني وما كلفتموني وربكم ... ليعلم من أمسى أحق وأحوبا لكالثور والجني يركب ظهره ... وما ذنبه أن عافت الماء مشربا وما ذنبه أن عافت الماء باقر ... وما إن تعاف الماء إلا ليضربا وقال نهشل بن حري: أتترك عامر وبنو عدي ... وتغرم دارم وهم براء كذاك الثور يضرب بالهراوي ... إذا ما عافت البقر الظماء وكزعمهم أن المقلات - وهي التي لا يبقى لها ولد - إذا وطئت قتيلا شريفاً بقي ولدها. وفي ذلك يقول القائل: تظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يلقى على المرء مئزر وقال الكميت: وتظل المؤزرات المقاليت ... يطلن القعود بعد القيام وإنما يفعل النساء ذلك بالشريف إذا كان مقتولاً غدراً أو قوة. وكزعمهم أن الرجل إذا خدرت رجله فذكر أحب الناس إليه ذهب عنه الخدر. وقال كثير: إذا خدرت رجلي ذكرتك أشتفي ... بذكرك من خدر بها فيهون وقالت امراة من بني بكر بن كلاب: صب محب إذا ما رجله خدرت ... نادى كنيسة حتى يذهب الخدر وكحذف الصبي منهم سنه إذا سقطت في عين الشمس، وقوله، أبدليني بها أحسن منها، وليجر في ظلمها إياتك. سقته إياه الشمس إلا لثاته ... أسف ولم يكمد عليه بإثمد وقال أبو دؤاد: ألقى عليه إياه الشمس أدرانا وزعم العرب أن الصبي إذا فعل ذلك لم تنبت أسنانه عوجاً ولا ثعلاً. وقال طرفة بن العبد في ذلك: بدلته الشمس من منبته ... برداً أبيض مصقول الأشر وكزعمهم أن المهقوع - وهو الفرس الذي به هقعة - وهي دائرة تكون بالفرس فيقال فرس مهقوع إذا ركبه رجل فعرق الفرس اغتلمت امراته وطمحت إلى غير بعلها. وقال بعض العرب لصاحب فرس مهقوع: إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حراً عجانها فأجابه: وقد يركب المهقوع من لست مثله ... وقد يركب المهقوع زوج حصان كعقدهم السلع والعشر في أذناب الثيران؛ وإضرامهم النيران فيها، وإصعادهم إياها على تلك الحالة في جبل يستسقون بذلك ويدعون الله. وهذا إذا حبست السماء قطرها. وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي: سنة ازمة تخيل بالنا ... س ترى للعضاه فيها صريرا لا على كوكب نوء ولا ... ريح جنوب ولا ترى طحرورا ويسوقون باقر السهل للطور ... مهازيل خشية ان تبورا سلع ما ومثله عشر ما ... عائل وعالت البيقورا أي أثقلت البقر بما حلمت من السلع والعشر. وفي هذا المعنى للورل الطائي: لا در در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الأزمات بالعشر جاعل أنت بيقوراً مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر وكزعمهم أن من ولد في القمر رجعت قلفته إلى وراء. فكان كالمختون. دخل امرؤ القيس على قيصر الحمام فرآه فقال فيه: إني حلفت يميناً غير كاذبة ... إنك أقلف إلا ما جنى القمر إذا طعنت به مالت عمامته ... كما تجمع تحت الفلكة الوبر وكعقدهم خيطاً يسمونه الرتم في غصن شجرة أو ساقها، إذا سافر أحدهم وتفقد ذلك الخيط عند رجوع المسافر منهم فإن وجده على حاله قضى بان أهله لم تخنه، وإن رآه قد حل حكم بأنها قد خانته. وأنشد في هذا المعنى: هل ينفعنك اليوم أن همت بهم ... كثرة ما توصي وانعقاد الرتم وفي معناه أيضاً: خانته لما رأت شيباً بمفرقه ... وغرو خلفها والعقد الرتم وقال الراجز: به من الجوى لمم ... وغره عقد الرتم وكزعمهم أن الرجل إذا أراد قرية فخاف وباءها فوقف على بابها قبل أن يدخل فعثركما ينهق الحمار، ثم دخلها لم يصبه وباؤها. وقال عروة بن الورد في ذلك، وكان خرج مع أصحابه له إلى خيبر يمتارون فخافوا وباءها، فعشروا وأبى عروة أن يفعل، فلما دخلوها وامتاروا وانصرفوا نحو بلادهم لم يبلغوا مكانهم إلا وعامتهم ميت أو مريض إلا عروة، فقال: لعمري لئن عشرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إنني لجزوع فلا وألت تلك النفوس ولا أتت ... على روضة الأجداد وهي جميع وكزعمهم أن من علق على نفسه كعب أرنب لم تقربه الجن. وفي ذلك يقول الشاعر: ولا ينفع التعشير إن حم واقع ... ولا دعدع يغني ولا كعب أرنب قال ابن الأعرابي: قلت لزيد بن كسوة: من علق على نفسه كعب أرنب لم تقربه جنات الحمى وعمار الدار فقال إي والله وشيطان الحماط، وجان العشيرة، وغول القفر، وكل الخوافي، إي والله وتطفأ عنه نيران السعالي وتبوخ. وكزعمهم إذا أرادت جنية صبي قوم فلم تقدر عليه، من سن ثعلب أو سن هرة، وأشباه ذلك. فلما رجعت إلى صواحباتها ضرطا من ذلك قالت: كانت عليه نقرة ثعالب وهررة، والحيض حيض السمرة - وحيض السمرة شيء يسيل من السمرة في حمرة دم الغزال، فإذا يبس كان أسود فإذا ديف بالماء عاد أحمر كما كان، ذلك يزابل صبيانهم. حين تلد المرأة تخط به وجه الصبي ورأسه، وتنقط وجه أمه، تسميه نقطة الماء، واسم هذا الخط الدودم فهذه الأشياء لا تفهم معانيها إلا سماعاً، وربما كانت لها نظائر في أشعار المحدثين من وصف أشياء تعرض في حالات غامضة، إذا لم تكن المعرفة بها متقدمة عسر استنباط معانيها واستبرد المسموع منها. وكقول أبي تمام: تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت ... أعمارهم قبل نضج التين والعنب وكان القوم الذين وصفهم يتواعدون الجيش الذي كان بإزائهم بالقتال، وأن ميعاد فنائهم وقت نضج التين والعنب وكانت مدة ذلك قريبة في ذلك الوقت، فلما ظفر بهم حلى الطائي قولهم على جهة التقريع والشماتة، ولولا ما ذهب إليه في هذا المعنى لكان ما أورده من أبرد الكلام وأغثه، على أن قوله: نضجت أعمارهم، ليس بمستحسن ولا مقبول. الأبيات المتفاوتة النسج فأما هذه الأبيات المستكرهة الألفاظ المتفاوتة النسج، القبيحة العبارة، التي يجب الاحتراز من مثلها فيقول الأعشى: أفي الطوف خفت علي الردى ... وكم من رد أهله لم يرم يريد لم يرم أهله. وكقول الراعي: فلما أتاها حبتر بسلاحه ... مضى غير مبهور ومنصله انتضى يريد: وانتضى منصله. وكقول عروة بن أذينة: واسق العدو بكأسه واعلم له ... بالغيب ان قد كان قبل سقاكها واجز الكرامة من ترى أن لو ... له يوماً بذلت كرامة لجزاكها فقوله في البيت الأول: وأعلم له بالغيب كلام غث وله رديئة الموقع بشعة المسمع، والبيت الثاني كان مخرجه أن يقول: واجز الكرامة من ترى، أن لو بذلت له يوماً كرامة لجزاكها. كقوله أيضاً: وأعملت المطية في التصابي ... رهيص الخف دامية الأظل أقول لها لهان علي فيما ... أحب فما اشتكاؤك أن تكلي يريد: أقول لهان علي فيما أحب أن تكلي فما اشتكاؤك وكقول النابغة: يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم ... من الضاريات بالدماء الذوارب يريد من الضاريات الذوارب بالدماء، وإنما يصح مثل هذا إذا التبس بما قبله، لأن الدماء جمع والذوارب جمع، ولو كان من الضاريات بالدم الذوارب لم يلتبس، وإن كانت هذه الكلمة حاجزة بين الكلمتين، أعني بين الضاريات والذوارب اللتين يجب أن تقرنا معاً. وكقول النابغة أيضاً: يثرن الثرى حتى يباشرن برده ... إذا الشمس مجت ريقها بالكلاكل وكقول الشماخ: تخامض عن برد الوشاح إذا مشت ... تخامص حافي الخيل في الأمعز الوجى يريد: تخامص حافي الخيل الوجى في الأمعز. وكقول النابغة الجعدي: وشمول قهوة بكارتها ... في التباشير من الصبح الأول يريد: في التباشير الأول من الصبح. وكقول ذي الرمة: كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات الفراريج يريد: كأن أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن بنا. وكقوله أيضاً: البرد عنه وهو من ذو جنونه ... أجاري تسهاك وصوت صلاصل يريد: وهو من جنونه ذو أجاري وكقول عمرو بن قميئة. لما رأت سانيد ما استعبرت ... لله در اليوم من لامها يريد: لله در من لامها اليوم. وكقول أبي حية النميري: كما خط الكتاب بكف يوماً ... يهودي يقارب أو يزيل يريد: كما خط الكتاب يوما بكف يهودي يقارب أو يزيل. وكقول امرأة من قيس: لها أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يوما نبوة ودعاهما وكقول الفرزدق: وما مثله في الناس إلا مملكاً ... أبو أمه حي أبوه يقاربه فهذا هو الكلام الغث المستكره الغلق، وكذلك ما نقدمه، فلا تجعلن هذا حجة ولتجتنب ما أشبهه. والذي يحتمل فيه بعض هذا إذا ورد في الشعر هو ما يضطر إليه الشاعر عند اقتصاص خبر أو حكاية كلام إن أزيل عن جهته لم يجز، ولم يكن صدقاً ولا يكون للشاعر معه اختيار، لأن الكلام يملكه حينئذ فيحتاج إلى اتباعه والانقياد له، فأما ما يمكن الشاعر فيه من تصريف القول وتهذيب الألفاظ واختصارها وتسهيل مخارجها، فلا عذر له عند الإتيان بمثل ما وصفناه من هذه الأبيات المتقدمة. وعلى الشاعر إذا اضطر إلى اقتصاص خبر في عشر دبره تدبيراً يسلس له معه القول ويطرد فيه المعنى. فبنى شعره على وزنت يحتمل أن يخشى بما يحتاج إلى اقتصاصه بزيادة من الكلام يخلط به، او نقص يحذف منه. وتكون الزيادة والنقصان بسيرين غير مخدجين؛ لما يستعان فيه بهما وتكون الألفاظ المزيدة غير خارجة من جنس ما يقتضيه، بل تكون مؤيدة له، وزائدة في رونقه وحسنه. كقول الأعشى فيما اقتصه من خبر السموأل: كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كرهاء الليل جرار بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار إذ سامه خطتي خسف فقال له ... أعرض علي كذا أسمعهما حار فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ لمختار فشك غير قليل ثم قال له: ... اقتل أسيرك إني مانع جاري فإن له خلفاً إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريماً غير غوار مالاً كثيراً وعرضاً غير ذي دنس ... وأخوة مثله ليسوا بأشرار جروا على أدب مني فلا نزق ... ولا إذا شمر حرب بأغمار وسوف يخلفه إن كنت قاتله ... رب كريم وبيض ذات أطهار لا سرهن لدينا ضائع مذق ... وكاتمات إذا استودعن أسراري فقال تقدمة إذ قام يقتله: ... أشرف سموأل فانظر للدم الجاري أأقتل ابنك صبراً أو تجيء بها ... طوعاً فأنكر هذا أي انكار فشك أو داجه والصدر في مضض ... عليه منطوياً كاللذع بالنار واختار أدرعه أن لا يسب بها ... ولم يكن عهده فيها بختار وقال: لا أشتري عاراً بمكرمة ... فاختار مكرمة الدنيا على العار والصبر منه قديماً، شيمة خلق ... وزنده في يالوفاء الثاقب الواري فانظر إلى استواء هذا الكلام، وسهولة مخرجه، وتمام معانيه وصدق الحكاية فيه، ووقوع كل كلمة موقعها الذي أريدت له من غير حشد مجتلب ولا خلل شائن. وتأمل لطف الأعشى فيما حكاه واختصره في قوله: أأقتل ابنك صبراً أو تجيء بها، فأضمر ضمير الهاء في قوله: واختار أدراعه أن لا يسب بها، فتلافى ذلك الخلل بهذا الشرح، فاستغنى سامع هذه الأبيات عن استماع القصة فيها، ولا شتما لها على الخبر كله بأوجز كلام، وأبلغ حكاية وأحسن تأليف، وألطف إيماءة. عيار الشعر الأبيات التي اغرق قائلوها في معانيها فأما الأبياتُ التي أغرق قائلوها في معانيها فكقول النابغة الجعدي: بلغنا السماء نجدةً وتكرُّماً ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا وكقول الطرماح: لو كان يُخفَى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيتْ عنه بنو أسد قومُ أقامَ بدار الذُّل أوَّلهُم ... كما أقامت عليه جِذمة الوتد وقوله: ولو أنَّ حرقوصاً يزقق مكةً ... إذا نهلت منه تميم وعلَّتِ ولو أنّ برغوثاً على ظهرِ نملةٍ ... يكرُّ على صَفَّيْ تميمٍ لولَّت ولو جَمَعَتْ عُليا تميمٍ جموعَها ... على ذرَّةٍ معقولةٍ لاستقلَّت ولو أنّ أمّ العنكبوتِ بنت لهم ... مظلّتها يوم الندى لاستظلتِ وكقول زهير: أو كان يقعدُ فوق الشمسِ من كرمٍ ... قومٌ بأولهم أو مجدهم قعدوا وكقول أبي الطمحان القيني: أضاءت لهم أحسابهُم ووجوهُهُم ... دجَى الليل حتى نظَّم الجزْع ثاقبه أو كقول امرىء القيس: من القاصرات الطرفِ لو دبَّ محولٌ ... من الذرِّ فوق الإِتبِ منها لأثَّرا وكقول قيس بن الخطيم: طعنتُ ابن عبد القيس طعنةَ ثائرٍ ... لها نفذٌ لولا الشعاعُ أضاءها ملكت بها كفّي فأنهرتُ فتقَهاً ... يُرى قائمٌ من دونها ما وراءها وقول الآخر: ضربته في الملتقى ضربةً ... فزال عن منكبه الكاهلُ فصار ما بينهما رهوةً ... يمشي بها الرامح والنابلُ وقول أبي وجزة السعدي: ألا عللاني والمعللُ أروَحُ ... وينطق ما شاح اللسان المسرحُ بإجَّانة لو أنه خرَّ بازلٌ ... من البُخْت فيها ظل للشقِّ يسبح وكقول النابغة: وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن لمنتأى عنك واسعُ خطاطيف حُجْنٍ في حبال متينة ... تمد بها أيدٍ إليك نوازع وإنما قال: كالليل الذي هو مدركي ولم يقل: كالصبح، لأنه وصفه في حال سخطه، فشبهه بالليل وهو له، فهي كلمة جامعة لمعان كثيرة. ومثله للفرزدق: لقد خفت حتى لو رأى الموت مقبلا ... ليأخذني والموت يكره زائرُهْ لكان من الحجاج أهونُ روعةً ... إذا هو أغفى وهو سام نواظره فانظر إلى لطفه في قوله: إذا هو أغفى ليكون أشد مبالغة في الوصف إذا وصفه عند إغفاله بالموت، فما ظنك به ناظراً متأملاً يقظاً ثم نزهه عن الإِغفاء فقال: وهو سام نواظره. وكقول جرير: ولو وُضِعتْ فِقاح بني نمير ... على خبث الحديد إذاً لذابا إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلَّهُمُ غضاباً وقد سلك جماعة من الشعراء المحدثين سبيل الأوائل في المعاني التي أغرقوا فيها. وقال أبو نواس: وأخَفَتَ أهل الشرك حتى أنه ... لتخافك النطفُ التي لم تُخلقِ وقال بكر بن النطاح: لو صال من غضبٍ أبو دُلفٍ على ... بيض السيوف لذُبْنَ في الأغماد قال: قالوا وينظمُ فارسين بطعنه ... يوم الهياج ولا يراه جليلا لا تعجبوا فلو أن طول قناته ... ميلٌ إذاً نظم الفوارس ميلا قال: فمن الأشعار المحكمة المتقنةِ المستوفاةِ المعاني، الحسنةِ الرصف، السلسةِ الألفاظ، التي قد خرجت خروج النثر سهولة وانتظاماً، فلا استكراه في قوافيها، ولا تكلف في معانيها، ولا داعيّ لأصحابها فيها قول زهير: سئمت تكاليفَ الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبالك يسأمِ رأيت المنايا خبط عشواء من تِصِبْ ... تُمِتْهُ ومن تِخْطىءْ يعمَّر فيهرم ومن لا يصانعْ في أمور كثيرة ... يضرَّس بأنياب ويوطأ بمنسم وأعلَمُ ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غدٍ عم ومن يجعل المعروفَ من دون عرضه ... يِفَرْهُ ومن لا يتقِ الشتمَ يُشتمِ ومن يَكُ ذا فضل فيبخل بفضلهِ ... على قومه يستغنَ عنه ويذمم ومن يوفِ لا يذمم ومن يفض قلبُه ... إلى مطمئن البر لا يتجمجم ومن يعصَ أطراف الزّجاج فإنه ... يطيع العوالي رَكبِّت كلَّ لهذم ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يُهَدَّمْ ومن لا يظلمِ الناسَ يظلم ومن يغتربْ يحسبْ عدواً صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يُكرَّمٍ كقوله: هنالك إن يُسْتَخْبَلُوا المال يخبلُوا ... وأن يُسْألُوا يعطوا وأن ييسروا يغلوا وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجُوهُهم ... وأنديةٌ ينتابها القول والفعلُ على مُكْثريهم حقُّ من يعترِيهُم ... وعند المقلين السماحة والبذْلُ وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالسَ قد يشفى بأحخلامها الجَهْلُ وإن قام منهم حامل قال قاعدٌ ... شُكِرْتَ فلا غرمٌ عليك ولا جذلُ سعى بعدهم قوم لكي يدركوهُم ... فلم يفعلوا ولم يكتموا ولم يألوا وما يَكُ من خير أتوه فإنما ... توارثه آباءُ آبائهم قَبْلُ وهل ينبت الخطِّي إلا وشيجه ... وتُغرس إلا في منابتها النخلُ وكقول أبي ذؤيب: أَمِنَ المنونِ وريبِها تتوجع ... والدهر ليس بمعتْب من يَجْزعُ وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تَنْفَعُ والنفسُ راغِبةٌ إذا رغَّبتها ... وإذا تردُّ إلى قليل تقنعُ وكقول أبي قيس بن الأسلت: قالت ولم تقصد لقِيل الخنا ... مهلاً فقد أبلغت أسماعي واستنكرت لوناً له شاحباً ... والحربُ غولٌ ذاتُ أوجاعِ من يذقاِ الحربَ يجدْ طَعْمَها ... مُراً وَتُبْرِكُه بِجعْجاع قد حصِّت البيضَّةُ رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاعِ أسعى على جُلِّ بني مالِكِ ... كُلُّ امرىءٍ في شأنه ساعِ أعددت للأعداء فضفاضةً ... موضونةً كالنهيِ بالقاعِ أُحفِّزها عنِّي بذي رونَقٍ ... أبيض مثل الملْحِ قطَّاع صدقٍ حسامٍ وادقٍ حدُّه ... ومازنٍ أسمر قَرَّاعِ بزِّ امرىءٍ مستبسلٍ حاذرٍ ... للدهر جلدٍ غير مِجْزَاع الكيسُ والقوةُ خير من الإِ ... دهان والفكة والهَاعِ ليس قطاً مثل قطيِّ ولا الم ... رعيُّ في الأقوامِ كالراعي لا نألمُ القتلَ ونجزي به الأعداء كيل الصاع بالصاعِ بين يدي رجراجةٍ فخمةٍ ... ذات عرانين ودُفَّاع كأنهم أسد لدى أشْبُلٍ ... تَهْتزُّ في غيلٍ وأجْزاع هلاَّ سألت القوم إذْ قَلَّصتْ ... ما كان إبطائي وإسراعي هلْ أبذلُ المال على حقِّهِ ... فيهم وآبى دعوة الداعي وأضربُ القونس يوم الوغى ... بالسيف لم يقصر به باعي وكقول النمر بن تولب: لعمري لقد أنكرت نفسي اربني ... مع الشيب أبذالي التي أتبذَّلُ فصولٌ أراها في أديمي بعد ما ... يكون كفافُ اللحمِ أو هو أجْمَلُ كأنَّ محطَّا في يدَيْ حارثيةٍ ... صناعٌ علت به الجِلْدَ مِنْ عَلُ تداركَ ما قبل الشبابِ وبَعده ... حوادثُ أيام تَمُرُّ وأغْفُلُ يودُّ الفتى طولَ السلامة جاهداً ... فكيف ترى طول السلامة يفعَلُ وكقول عنترة: إني أمرؤٌ من خير عبسٍ منصباً ... شطري وأحمي سائري بالمنصلِ وإذا الكتيبةُ أحجمت وتلاحظت ... أُلْفيت خيراً من مُعمٍّ مُخْولِ والخيل تعلمُ والفوارسُ أنني ... فرقت جمعَهم بضربة فَيْصَل إذ لا أبادرُ في المضيقِ فوارسِي ... أو لا أوكَّلُ بالرعيل الأوَّلِ إن يلحقوا أكْرُرْ، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن يلفوا بضنكٍ أنزل حين النزول يكون غايةُ مثلنا ... ويفرّ كلُّ مضللٍ مستوِهلِ ولقد أبيتِ على الطوى وأظلُّه ... حتى أنال به كريمَ المأكلِ بكرت تخوفَني الحتُوفَ كأنّني ... أصبحت عن غرض الحتوفِ بمعزل فأجبتها: إن المنية منهلٌ ... لا بُدَّ أن أُسقى بذاك المنهلِ إن المنية لو تُمَّثلُ مُثِّلَتْ ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزلِ والخيل ساهمةُ الوجوهِ كأنَّما ... تسقي فوارِسها نقيعَ الحَنْظلِ وكقول الأسود بن يعفر: ماذا أؤملُ بعد آل محرِّقٍ ... تركوا منازلهم وبعد إيادِ أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعبُ بنُ مامة وابنُ أم دؤاد جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد ولقد غنوا فيها بأنعم عيشةٍ ... في ظلِّ ملكٍ ثابتِ الأوتادِ إمَّا تريني قد بليت وغاضني ... ما نِيل من بصري ومن أجلادي وعصيت أصحاب اللذاذة والصبا ... وأطعت عاذلتي وذلَّ قيادي فلقد أروح إلى التجار مرجَّلاً ... مذلاً بمالي ليناً أجيادي وكقول الخنساء: لو أن للدهر مالا كان مُتْلِدَهُ ... لكان للدهر صخرٌ مالَ قُنْيان آبي النصيحةِ حمالُ العظيمةِ متلا ... فُ الكريمةِ لا سقطٍ ولا وَان حامي الحقيقةِ نسّالُ الوديقةِ ... مِعتاقُ الوثيقةِ جلدٌ غيرُ ثُنيان ربَّاءُ مرقبةٍ، مناعُ مغلقةٍ ... ورَّاد مشربةٍ، قطاع أقرانِ يعطيك مالا تكاد النفسُ تبذُله ... من التلادِ وهوبٌ غيرُ منَّان شهَّاد أنجيةٍ، حمَّالُ ألوية ... هبَّاط أوديةٍ، سرحان قيعان التاركُ القرنِ مخضوباً أناملُهُ ... كأن في ريطتيه نضخُ أرْقَانِ وكقول القطامي: والعيش لا عيشَ إلا ما تقرُّ به ... عيناً ولا حالَ إلا سوفَ تَنْتقِل والناسُ من يلقَ خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطىء الهبلُ قد يدرك المتأنِّي بعضَ حاجتِهِ ... وقد يكون من المستعجلِ الزلّلُ وفيها يقول: يمشين رهواً فلا الأعجازُ خاذلةٌ ... ولا الصدورُ على الأعجاز تتكِلُ فهن معترضات والحصى رِمضٌ ... والريحُ ساكنة والظِلُّ مُعتدلُ يتبعن ساميةَ العينين تحسبُها ... مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبِلُ إن ترجعي من أبي عثمان منجحةً ... فقد يهون مع المستنجح العَملُ أهلُ المدينةِ لا يحزنك شأنهُمُ ... إذا تَخَطَّأ عبدَ الواحِد الأجَلُ وكقوله أيضاً: يقتلَننا بحديثٍ ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكتومهُ بادي فهن ينبذن من قولٍ يصبْن به ... مواقِعَ الماء من ذي الغُلة الصادي من مبلغٌ زفَرَ القيسيَّ مدحتَه ... من القطامِيِّ قولاً غير أفنادِ إني وإن كان قومي ليس بينهُمُ ... وبَيْنَ قومِك إلا ضَربةَ الهادي مثنِ عليك فما استيقنت معرفتي ... وقد تعرَّض مني مقتلٌ بادي فلن أُثيبَك بالنعماء مشتمةً ... ولن أبدِّل إحساناً بإفسادِ فإن هجوتك ما تمت مكارمتي ... وإن مدحتُ لقد أحسنت إصْفادي وإن قدرت على يوم جزيت به ... والله يجعل أقْواماً بمرصادِ أبلغْ ربيعةَ وأعلاها وأسفلها ... أنَّا وقيساً توَاعدنا لميعادِ نقريهم لهذميات نقُدُّ بِها ... ما كان خاط عليهم كلُّ زرَّادِ وكقول ذي الرمة: من آل أبي موسى ترى القومَ حوله ... كأنهم الكراونُ أبصرن بازياً فما يغربون الضّحكَ إلا تبسماً ... ولا ينبسون القولَ إلاَّ تناجيا لدى ملكٍ يعلو الرجالَ بضوئه ... كما يبهر البدرُ النجوم السواريا إذا أمست الشِّعرى العبور كأنها ... مهاةٌ علت من رمْل يبرين رابيا فما مرتع الجيران إلا جفانكم ... تبارَوْنَ أنتم والشمالُ تبارِيا وكقول سلاَّمةَ بن جندل: سَوَّى الثِّقَافُ قناها فهِي محكمةٌ ... قليلة الزْيع من سَنِّ وتركيبِ كأنها بأكفِّ القوم إذا لَحِقُوا ... مواتِحُ البئر أو أشطانُ مطلوبِ كُنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ ... كان الصراخُ له قرعَ الظَّنابيب وشَدَّ كورٍ على وجناءَ ناجيةٍ ... وشَدَّ لِبدٍ على جرداء سرحوب وكقول المغيرة بن حبناء: فإن يكُ عاراًىما لقيت فربما ... أتى المرء يومُ السوءِ من حيث لا يدري ولم أرَ ذا عيش يدُومُ ولا أرى ... زمان الغنى إلا قريباَ منَ الفقر ومن يفتقرْ يعلمْ مكان صديقِهِ ... ومن يحيى لا يعدم بلاءَ من الدَّهرِ وإني لأستحيي إذا كنت معسِراً ... صديقي والخلانَ أن يعلموا عُسْري وأهجر خلاني وما خان عهدهم ... حياءً وإكراماً وما بي من كِبر وأكرم نفسي أن ترى بي حاجةً ... إلى أحدٍ دوني وإن كان ذا وفر ولما رأيتُ المالَ قد حيل دونه ... وصُدَّتْ وجوهٌ دون أرحامها البترُ جعلتُ حليفَ النفسِ عَصْباً ونثرةً ... وأزرقَ مشحوذاً كحافية النسرِ ولا خيْرَ في عيش أمرىءٍ لا ترى له ... وظيفة حق في ثناء وفي أجر وكقول الفرزدق: ولو أن قوماً قاتلوا الدَّهر قبلنا ... بشيء لقاتلنا المنية عن بشر ولكن فجعنا والرَّزيئَةُ مثله ... بأبيضَ ميمونِ النقيبةِ والأمرِ أغرُّ أبو العاصي أبوه كأنما ... تفرجت الأثوابُ عن قمر بدْرِ فإلا تكُن هندٌ بكته فقد بكت ... عليه الثريا في كواكبها الزُّهْرِ وإنَّ أبا مروانَ بِشْرٌ أخاكُمُ ... ثوى غير متبوع بذمٍ ولا غدْرِ وما أحدٌ ذا فاقةٍ كان مثلنا ... إليه ولكن لا تقيةَ للدهْرِ ألم تَرَ أن الأرض هُدَّت جبالُها ... وأن نجومَ الليل بعدك لا تسري ضربت ولم أظْلم لبشرٍ بصارمٍ ... شوى فرسٍ بين الجنازة والقبر أغرَّ صريحياً فلا أعوجّ أمته ... طويلاً أمرَّته الجياد على شَزْرِ ألست شحيحاً إن ركبتك بعده ... ليوم رهانٍ لو غدوت معي تجري وقال يرثى بنيه: ولو كان البكاءُ يردُّ شيئاً ... على الباكي بكيت على صقوري بنيّ أصابهُمُ قدرُ المنايا ... وما منهن من أحد مجيري ولو كانوا بني جبلٍ فمانوا ... لأمسي وهو مختشعُ الصُّخور إذا حنّت نوارٌ تهيجُ منِّي ... حرارة مثل ملتهب السَّعيرِ حنين الوالهين إذا ذكرنا ... فؤادينا اللذين مع القبور كأنَّ تشرُّبُ العبراتِ منها ... هراقةُ شنتين على بَعيرِ كأن الليل يحبسه علينا ... ضِرارٌ أو يكرُّ إلى نذورِ كأنَّ نجومَهُ شولٌ تثنَّى ... لأدهم في مباركها عقيرِ وكقوله: ومحفورةٍ لا ماءَ فيها مهيبةٍ ... لغمِّي بأعواد المنية بابُها أناخ إليها أبْناي ضيفي مقامة ... إلى عصبة لا تُستعارُ ثوابُها وكانوا هم المال الذي لا أبيعُهُ ... ودرعي إذا ما الحربُ هرْت كلابُها وكم قاتلٍ للجوع قد كان فيهمُ ... ومن حيةٍ قد كان سماًّ لُعابها إذا ذكرت أسماؤهم أو دعوتُهم ... تكاد حيازيمي تفرُّ صلابُها وإني وأشرافي عليهم وما أرى ... كنفسي إذ هم في فؤادي لبابُها كراكز أرماحٍ تجزَّعنَ بعد ما ... أقيمت عواليها وَشُدَّت حرابُها إذا ذكرتْ عيني الذين هُم لها ... قذىً هيجَ مني بالبكاءِ انسكابُها بنو الأرض قد كانوا بنيَّ فعزَّني ... عليهم بآجالِ المنايا كتابُها وداعٍ عليَّ اللهُ لو متُّ قد رأى ... بدعوته ما يتقي لو يُجابُها ومن متمَنٍّ أن أموت وقد بنت ... حياتي له شمَّا عظاماً قبابُها بقيت وأبقت من قناتي مصيبتي ... عَشوْزَنةً زوراءَ صُمَّا كعابُها على حدث لو أن سلمى أصابها ... بمثل بنيَّ انفضّ عنها هضابُها وما زلت أرمي الحرب حتى تركتها ... كسير الجناح ما تُدقُّ عقابُها وكقول الراعي: وإني وإياك والشكوى التي قصرت ... خطوي ونأيك والوجد الذي أجدُ لكالماءِ والظالِعِ الصديان يطلُبه ... هو الشفاء له والريُّ لو يردُ ضافي العطية راجيه وسائلُه ... سيان أفلح من يعطي ومن يعدُ أزرى بأموالنا قوم أمَرْتُهُم ... بالحق فينا فما أبقوا وما قصدوا أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبدُ واختل ذو الوفر والمثرون قد بقيت ... علا التلاتلَ من أموالهم عُقَدُ فإن رفعت بهم رأساً نعشتهُم ... وإن لقوا مثلها في قابلٍ فسدوا وكقول أبي النجم العجلي: والخيل تسبحُ بالكماةِ كأنها ... طيرٌ نمطر من ظلال عَمَاءِ يخرجن من رَهجٍ دُوَينَ ظلالهِ ... مثل الجنادب من حصي المعزاءِ يلفظنَ من وجعِ الشّكيم وعجمه ... زبداً خلطن بياضه بدماءِ كم من كريمةِ معشرٍ أيَّمنها ... وتركن صاحبها بدار ثواءِ إن الأعادي لن تنالَ قديمنا ... حتى تنالَ كواكبَ الجوازاءِ كم في لجيمٍ من أغرَّ كأنه ... صبحٌ يشقُّ طيالس الظلماءِ بحرٌ يكلل بالسديف جفانهُ ... حتى يموت شمالُ كل شتاءِ ومجربٌ خضلُ السِّنانِ إذا التقى ... رجعت بخاطره صدُورُ ظماءِ صدىءُ القباءِ من الحديد كأنه ... جَملٌ تعمَّدَهُ عصيمُ هَنَاءِ إنَّا وجدِّكَ ما يكون سلاحُنا ... حجرُ الأكام ولا عصا الطرفاءِ نأوى إلى حلق الحديد وقَرَّحٍ ... قُبٍّ تشوَّقُ نَحو كلِّ دُعَاءِ ولقد غَدوْنَ على طهيَّةِ غدْوَةٍ ... حتى طرقن نساءنا بنساءِ تلكم مراكبُنا وفوق حبائنا ... بيض الغضون سوابغُ الأثناء قدِّرن من حلق كأن شعاعها ... ثلجٌ يطنّ على متون نهاءِ تحمي الرماحُ لنا حمانا كلَّه ... وتبيحُ بعدُ مسارحَ الأحماءِ إن السيوفَ تجيرنا ونجيرُها ... كُلٌّ يجيرُ بعزةٍ ووفاءِ لا ينثنين ولا نردُّ حُدودَها ... عن حدِّ كلِّ كتيبةٍ خرساءِ إنا لتعملُ بالصفوف سيوفُنا ... عَمَلَ الحريقِ بيابس الحَلْفَاءِ وكقول عبد الشارق بن عبد العَزَى الجهني. ألا حييت عنا يا رُدَيْنا ... نحييها وإن كرمت علينا ردينةُ لو رأيت غداة جئنا ... على أضماتنا وقد احتوينا فأرسلنا أبا عمرو ربيئاً ... فقال ألا انعموا بالقوم عينا ودَسُّوا فارساً منهم عشاءً ... فلم نغدرْ بفارسهم لدَينا فجاءُوا عارضاً برداً وجئنا ... كمثل السيل نركب وازِعيْنَا تنَادوا يا لِبُهثَةَ إذا رأونا ... فقلنا أحسني صبراً جُهينا سمعنا دعوةً عن ظهر غيبٍ ... فجلنا جَولةً ثم أرعوينا فلما أن تواقفنا قليلا ... أنخنا للكلاكِلِ فارتمينا فلما لم تَدَعْ قوساً وسهماً ... مشينا نحوهم ومشوا إلينا تلألُؤ مزنةٍ برقت لأخرى ... إذا حجلوا بأسياف ردينا شددنا شدةً فقتلت منهم ... ثلاثة فتيةً وقتلت قينا وشدُّوا شدة أخرى فجرُّوا ... بأرجُل مثلهم ورَمَوْا جُوَينا وكان أخي جوينٌ ذا حفاظٍ ... وكان القتلُ للفتيان زينا فآبوا بالرماح مكَسَّراتٍ ... وأبنا بالسيوف قد انحنينا وباتوا بالصعيد لهم أحاحٌ ... ولو خفت لنا الكلمى سَليْنا وكقول المثقب العبدي: أفاطِمُ قبل بيتِكِ متعيني ... ومنعك ما سألتُ كأنْ تبيني فلا تعدي مواعِدَ كاذباتِ ... تَمُرُّ بها رياحُ الصيف دُوني فإني لو تعاندني شمالي ... عنادَك ما وصلتُ بها يميني إذاً لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني وفيها يقول: وإما أن تكون أخي بحقِّ ... فأعرف منك غثِّي من سميني وإلا فاطَّرِحْني واتخذني ... عدوًّا أتقيك وتتقيني فما أدري إذا يمَّمت أرضاً ... أريد الخيرَ أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشرُّ الذي هو يبتغيني وكقول نهشل بن حري المازني: إنّا مُحيُّوكِ يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرامَ الناس فاسقينا إنّا بني نهشلٍ لا ندعي لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا إن تبتدر غاية يوماً لمكرمةٍ ... تلقَ السوابقَ منا والمصلينا وليس يهلكُ منا سيدٌ أبداً ... إلا افْتَلَيْنَا غلاماً سيداً فينا إنا لنرخصُ يومَ الروعِ أنفسنا ... ولو نسام بها في الأين أغلينا بيضٌ مفارقُنا تغلي مراجلُنا ... نأسو بأموالنا آثار أيدينا إني لمن معشرٍ أفنى أوائِلُهمُ ... قولُ الكماة أَلاَ أين المحامونا لو كان في الألف منّا واحدٌ فدَعوْا ... من فارسٌ خالهم إياه يعنونا إذا الكماةُ تَنَحَّوْا أن ينالَهُمُ ... حدُّ الظباة وصلناها بأيدينا ولا تراهم وإن جلَّت مصيبتُمُ ... مع البكاة على من فات يبكونا ونركب الكرهَ أحياناً فيفرجه ... عنّا الحفاظ وأسيافٌ تواتينا وكقول عدي بن زيد التميمي: كفى واعظاً للمرء أيام دهره ... تروحُ له بالواعظات وتغتدي بليت وأبليت الرجال وأصبحت ... سنون طوالٌ قد أتت دون مولدي فلا أنا بدعٌ من حوادثَ تعتري ... رجالاً عرت من مثل بؤسَى وأَسعُد فنفسُك فاحفظها من الغيِّ والرَّدى ... متى تَغوها يغوِ الذي بك يقتدى وإن كانت النعماءُ عندك لا مرىءٍ ... فمثلاً بها فاجز المطالب أو زِدِ إن أنت لم تنفع بودك أهلَه ... ولم تنْكِ بالبؤسى عدوّك فابعدِ إذا أنت فاكهت الرجالَ فلا تلع ... وقل مثلما قالوا ولا تتزيَّد عن المرء لا تسأل وأبصرْ قرِينَهُ ... فإن القرين بالمقارنِ مقتد إذا أنت طالبت الرجال نوالهم ... فعفَّ ولا تطلبْ بجهدِ فتنكدِ ستدرك من ذي الفحش حقَّك كلَّه ... بحلمك في رفقٍ ولما تشدَّدِ فلا تقصرن من سعي من قد ورثته ... وما اسطعت من خيرٍ لنفسك فازدد وبالصدقْ فانطق إن نطقت ولا تلم ... وذا الذم فاذممه وذا الحمد فاحمدِ عسى سائلٌ ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلاً أن يُيَسَّر في غد وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضةً ... على المرء من وقع الحسام المُهَنَّدِ إذا ما رأيت الشرَّ يبعث أهله ... وقام جناة الشرّ للشر فاقْعُد وكقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي: تُعيِّرنا أنَّا قليل عديدنُا ... فقلت لها إن الكرام قليل وما قلَّ من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا وكهولُ وما ضرَّنا أنّا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين ذليلٌ لنا جبلٌ يحتله من نجيره ... منيعٌ يردَّ الطَّرف وهو كليلُ رسا أصله تحت الثرى وسما به إلى النجم فرعٌ لا ينالُ طويلُ ونحن أناسٌ لا نرى القتل سُبَّةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ يقصِّر حبُّ الموتِ آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطولُ وما مات منا سيِّدٌ حتف أَنْفِهِ ... ولا طُلَّ منا حيث كان قتيلُ تسيل على حد الظُّباة نفوسنا ... وليست على غير الحديد تسيلُ وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقولُ إذا سيِّدٌ منا خلا قام سيدٌ ... قئول لما قال الكرامُ فعولُ وما أُخمدت نارٌ لنا دون طارقٍ ... ولا ذمَّنا في النازلين نزيلُ وأيامُنا مشهودةٌ في عَدُوِّنا ... لها غررٌ معلومة وحجولُ وأسيافنا في كل شرقٍ ومغربٍ ... بها من قراع الدارعين فلولُ معوَّدةٌ ألا تُسَلَّ نصالُها ... فتغمد حتى يستباحَ قَبيلُ وكقول مروان بن أبي حفصة: بنو مطرٍ يوم اللقاء كأنهم ... أسودٌ لها في غيَل خفان أشبُلُ هُمُ المانعون الجارَ حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل بها ليلُ في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوَّلهم في الجاهلية أول هم القومُ إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا ولا يستطيعُ الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا تُلاث بأمثال الجبال حُباهُم ... وأحلاهم منها لدى الوزن أثقلُ فهذه الأشعار وما شاكلها من أشعار القدماء والمحدثين أصحاب البدائع والمعاني اللطيفة الدقيقة تجبُ روايتُها والتكثُر لحفظها. الأشعار الغثة المتكلفة النسج ومن الأشعار الغثة الألفاظ، الباردة المعاني، المتكلفة النسج، القلقةِ القوافي، المضادة للأشعار التي قدمناها، قَولُ الأعشى: بانت سعاد وأمسى حبلُها انقطعا ... واحتلت الغَمر فالجدين فالفرعا لا يسلم منها خمسة أبيات، ونكتبها ليوقَفَ على التكلف الظاهر فيها: بانت وقد أسأرت في النفس حاجتها ... بعد ائتلاف وخير الودّ ما نفعا تعصي الوشاة وكان الحبُّ آونةً ... مما يُزيِّن للمشغوفِ ما صنعا وكان شيءٌ إلى شيءٍ فغيَّرهُ ... دهرٌ يعود على تشتيت ما جمعا وأنكرتني وما كان الذي نكرتْ ... من الحوادثِ إلا الشيب والصَّلعا قد يترك الدهرُ في حلقاءَ راسيةٍ ... وهياً ويُنزلُ منها الأعصمَ الصدعَا وما طِلابُك شيئاً لست مُدركه ... إن كان عنك غرابُ البين قد وقعا تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً ... يا ربِّ جنب أبي الإتلافَ والوجعا واستشفعتْ من سراةِ القومِ ذا شرف ... فقد عصاها أبوها والذي شفعا مهلاً بنيةُ إن المرءَ يبعثُه ... همٌّ إذا خالط الحيزوم والضّلعَا عليك مثل الذي صليت واغتمضي ... نوماً فإن لجنبِ المرء مضطجعا واستنجدي قافلَ الركبانِ وانتظري ... أوبَ المسافر إن ريثاً وإن سَرَعَا ولا تكوني كمن لا يرتجي أحداً ... لذي اغترابٍ ولا يرجو له رجَعاَ كوني كمثل الذي إذ غابَ واحِدُها ... أهدت له من بعيد نظرةً جَزعا ما نظّرت ذات أشفار كنظرتها ... حقَّاً كما صدق الذئبيُّ إذ سجعا إذ قلَّبت مقلةً ليست بمقرفةٍ ... إنسانَ عينٍ ومؤقاً لم يكن قمعا فنظّرت نظرةً ليست بكاذبة ... ورفَّع الآلُ رأس الكلب فارتفعا قالت أرى رجلاً في كفّه كتفٌ ... أو يخصف النعل ويلي أيةٌ صنعا فكذبوها بما قالت فصبَّحهم ذو آل ... جيشان يزجي الموت والشِّرعا فاستنزلوا أهل جُوّ من مساكنهم ... وهدَّموا شاخص البنيان فاتضعا وبلدةٍ يرهبُ الجُوَّابُ خشيتها ... حتى تراه عليها يبتغي الشيعا لا يسمعُ المرءُ فيها ما يؤنِّسهُ ... بالليل إلا نثيم البُوم والضُّوَعا كلفت عمياءَها نفسي وشيَّعني ... هَمِّي عليها إذا ما آلَها لَمَعا بذات لوثٍ عفرناة إذا عثرت ... فاللعن أولى لها من أن يقال لعا تخالُ حقَّا عليها كلما ضمرت ... بعد الكلالةِ أن تستوفي النَّسعا تُلوى بعذقِ خصابٍ كلما خَطَرت ... عن فرج معقومةٍ لم تتبعِ ربُعَا كأنها بعد ما أفضي النجادُ بها ... بالشَّيِّطين مهاةٌ تبتغى دَرعا أهَوى لها ضابىء في الأرض مفتحصٌ ... للصيدِ قدماً خفِىُّ الشخصِ إذ خشعا بأكلُبٍ كسراءِ النَّبلِ ضاريةٍ ... ترى من القِدِّفي أعناقِها قطعا فظلَّ يخدعُها عن نفس واحدِها ... ومثلُه مثلَها عن واحدٍ خدَعا حتى إذا غفلت عنه وما شعرت ... أن المنيةَ يوماً أرسلتِ سَبُعاً دارت لتطعمه لحماً ويفجعها ... بابن فقد أطعمت لحماً وقد فجعا فظل يأكلُ منه وهي لاهيةٌ ... صَدْر النهارِ تراعى ثيرةً رُتَعَا حتى إذا فيْقةٌ في ضرعها اجتمعت ... جاءت لترضع شق النفس لو رضعا عجلى إلى المعهد الأدنى ففاجأها ... أقطاعُ مسكٍ وسافتَ من دمٍ دُفعا فانصرفت والها ثكلى على عجلِ ... كلُّ دهاها وكلٌّ عندها اجتمعا وبات قطرٌ وشفانٌ يصفقها ... من ذا لهذا وقلبُ الشاةِ قد صقعا حتى إذا ذرَّ قرنُ الشمسِ صبَّحَها ... ذو آل بنهان يبغى صحبه المتعا بأكلبٍ كسراءِ النبلِ ضاربةٍ ... ترى من القِدِّ في أعناقها قطَعَا فتلك لم يترك من خلفها شبهاً ... إلا الدوائرَ والأظلافَ والزِّمعا أنضيتُها بعد ما طال الهبابُ بها ... تَؤُمُّ هوذةَ لانِكسا ولا ورعا يا هوذُ إنك من قومٍ أولى حسبٍ ... لا يفشلون إذا ما آنسوا فزعا هم الخضارمُ إن غابوا وإن شهدوا ... ولا يرون إلى جاراتهم خُنُعا قومٌ سيوفُهُم أمنٌ لجارهمُ ... يوماً إذا ضمت المحذورة القزعا وهم إذا الحربُ قد أبدت نواجذَها ... مثلَ السيوفِ وسمُّ عاتق نقعا من يعفُ هوذة أو يحللْ بساحته ... يكن عليه عيالاً طول ما اجتمعا وإن تجامعهْ في الجلَّى مجامعةً ... يكن لهوذةَ فيما نابه تبعاً ومن يَرَ هوذَة يسجدْ غير متئب ... إذا تعمم فوقَ التاجِ أو وضعا له اكاليلُ بالياقوت قصَّصها ... صواغُها لا ترى عيباً ولا طبعا وكلُّ زوجٍ من الديباج يلبسُه ... أبو قدامة محبُوًّا بذاك معا أغرُّ أبلجُ يُستسقى الغمامُ به ... لو قارعَ الناس عن أحسابهم قرعا لم ينقضِ الشيبُ منه فتل مِرَّته ... وقد تجاوز عنه الجهل فانقشعا قد حمَّلوه فَتِيَّ السن ما حملت ... أشياخهم فأطاق الحملَ واضطلعا وجرّبوه فما زادت تجاربهَم ... أبا قدامةَ إلا الحزم فارتفعا يرعى إلى قول ساداتِ الرجالِ إذا ... أبدوا له الحزمَ أو أن شاء مبُتدعا قد نالَ أهلُ شآم فضلَ سؤودَده ... وكاد يسمو إلى الجوزاءِ واطَّلعا ثم تناول كلباً في سماوتها ... قدماً سما لجسيمِ الأمر فافترعا قاد الجياد من الجوَّين منعلةً ... إلى المدائنِ خاض الموت وادَّرعا لا يرقعُ الناسُ ما أوهى وإن جهدوا ... طولَ الحياةِ ولا يوهون ما رقعا وما يردَ جميعٌ بعدَ فرَّقه ... وما يرد بعدُ من ذي فرقةٍ جمعا وما مجاورُ هيتٍ إذ طغى فطما ... يَدقُّ آذيُّه البوصيَّ والشرعا يجيشُ طوفانُه إذ عبَّ محتفلاً ... يكاد يعلو ربا الجرفين مطَّلعا هبت له الريحُ فامتدت غوار بُه ... ترى حوالبَهُ من مدِّهِ تُرعا يوماً بأجودَ منه حين تسأله ... إن ضَنَّ ذو الوفرِ بالإِعطاءِ أو خدعا ومثلُ هوذةُ أعطى المالَ سائلهُ ... ومثلُ أخلاقِه من سيءِ منعا تلقى له سادة الأقوامِ تابعة ... كلٌّ سيرضى بأن يُدعى له تبعا يا هوذُ يا خيرَ من يمشى على قدم ... بحر المواهب للوُرَّادِ والشِّرعا سائل تميماً بِهم أيامَ صفقتِهم ... لما أتوه أسارى كلهم ضُرَعا وسط المشقَّر في عشواءَ مظلمة ... لا يستطيعون بعد الضّرِّ منتفعا لو أطعموا المنَّ والسلوى مكانُهُم ... لما رأى الناس فيهم مطعما نجعا بظلمهم ينطاع الملك إذ غدروا ... فقد حسوا بعد من أنفاسِه جُرَعا وقال لِلملك أطلقْ منهُمُ مائةً ... رسلاً من القول مخفوضاً وما رفعَا ففكَّ عن مائةٍ منهم أسارهم ... فكُلُّهم عانيا من غلة خلعا به تقرب يوم الفصح محتسباً ... يرجوا إلاله بما أسدى وما صنَعَا وما أرادَ بها نعمى يثابُ بها ... إن قال كلمةَ معروف بها نَفَعا فلا يرون بذاكم نعمةً سبقت ... إن قال قائلُنا حقا بها وسَعَى فهذه القصيدة ستة وسبعون بيتاً التكلف فيها ظاهرٌ بيِّنٌ إلا في ستة أبيات وهي: تقول بِنتي وقد قرَّبتُ مرتحلاً ... يا رب جنِّب أبي الإِتلاف والوجعَا بذات لوثٍ عفرناة إذا عثرت ... فاللعن أدنى لها من أن أقول لعا بأكلب كسراءٍ النبْل ضاربة ... ترى من القِدِّ في أعناقها قطعاً يا هوذ إنك من قومٍ أولى حسبٍ ... لا يفشلون إذا ما آنسوا فزعاً أغرُّ أبلجٌ يستسقى الغمامُ به ... لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا لا يرقعُ الناسُ ما أوهى وإن جهدوا ... طول الحياةِ ولا يوهون ما وقعا وفيها خللٌ ظاهر، ولكنها بالإضافة الى سائرِ الأبيات نقيةٌ بعيدةٌ عن التكلف. والذي يوجبه نسجُ الشعرِ أن يقول: يا رب جنب أبي الاتلاف والأوجاع أو التلف والوجع. ومثل هذه القصيدة في التكلف وبشاعةِ القولِ قولُه أيضاً في قصيدته: لعمرك ما طول هذا الزمن فإن يتبعوا أمره يُرشدوا ... وإن يسألوا مالهُ لا يَضِنْ وما إن على قلبه غمرةٌ ... وما إن بعظم له من وهَنْ وما إن على جاره تَلْفةٌ ... يساقطها كسقاط اللَّجَنْ ولم يسعَ في الحرب سعي امرىءٍ ... إذا بِطْنَةٌ راجعته سكنْ عليها وإن فاته أكلةٌ ... تلافى لأخرى عظيم العُكَنْ يرى هَمَّه أبداً خصرهُ ... وهَمُّكَ في الغزو لا في السِّمَنْ فمثل هذا الشعر وما شاكله يصدىء الفهم ويورث الغم، لا كما يجلو الهم ويشحذ الفهم من قول أحمد بن أبي طاهر: إذا أبو أحمَد جادت لنا يدُهُ ... لم يحمد الأجودان البحرُ والمَطَرُ وإن أضاء لنا نورٌ بغرته ... تضاءلَ الأنور ان الشمسُ والقمرُ وإن مضى رأيه أو جدَّ عزمتَه ... تأخر الماضيان السيفُ والقدَرُ من لم يكن حذِراً من حدِّ سطوتِه ... لم يدر ما المزعجان الخوفُ والحذرُ حلو إذا أنت لم تبعث مرارته ... فإن أمِرَّ فحلوٌ عنده الصبرُ سهل الخلائق إلا أنه خشِنٌ ... لين المهزة إلا أنه حجرُ لا حَيَّةٌ ذكر في مثل صولته ... إن صال يوماً ولا الصمصامة الذكرُ إذا الرجال طغوا أو إذ هم وعدوا ... بالأمر رُدَّ عليه الرأي والنظَرُ الجودُ منه عيانٌ لا ارتيابَ به ... إذ جودُ كلِ جوادٍ عنده خبَرُ فهذا الشعر من الصفو الذي لا كدرَ فيه. وأكثر من يستحسن الشعر تقليداً على حسب شهرة الشاعر وتقدم زمانه، وإلا فهذا الشعر أولى بالاستحسان والاستجادة من كل شعر تقدمه. المعاني المشتركة السرقات وإذا تناول الشاعر المعانيَ التي قد سُبقَ إليها فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها لم يعب بل وجَبَ له فضل لطفه وإحسانه فيه.. كقول أبي نواس: وإن جرت الألفاظُ منا بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني أخذه من الأحوص حيث يقول: متى ما أقلْ في آخرِ الدهرِ مدحةً ... فما هي إلا لابن ليلى المكرَّمِ وكقول دعبل: أحبُّ الشيبَ لما قيل ضيفٌ ... كحبّي للضيوف النازلينا أخذه من قول الأحوص أيضاً حيث يقول: فبان مني شبابي بعد لذتهِ ... كأنما كان ضيفاً نازلاً رحلا وكقول دعبل أيضاً: لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيبُ برأسه فبكى أخذه من قول الحسين بن مطير: كل يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماءِ وكقول أبي نواس: تدور علينا الراح في عسجديةً ... حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتُها كسرى وفي جنباتها ... مها تدَّريها بالقسيِّ الفوارس فللخمر ما زرّت عليه جيوبها ... وللماء ما حازت عليه القلانس أخذه أبو الحسين بن أحمد بن يحيى الكاتب فقال: ومدامةٍ لا يبتغي من ربِّه ... أحدٌ جَبَاه بها لديه مزيدا في كأسها صورٌ يُظنُّ لحسنها ... عُرباً برزن من الجنان وغيدا قد صُفَّ في كاساتها صورٌ حلت ... للشاربين بها كواِعِبُ غيدا فإذا جرى فيها المزاج تقسمت ... ذهباً ودرًّا توأماً وفريدا فكأنَّهن لبسن ذاك مجاسداً ... وجعلن ذا لنحورهن عقودا فهذا من أبدع ما قيل في هذا المعنى وأحسنه. ويحتاج من سلك هذه السبيل إلى الطاف الحيلة وتدقيق النظر في تناول المعاني واستعارتها، وتلبيسها حتى تخفى على نقادها والبصراءِ بها، وينفرد بشهرتها كأنه غير مسبوق إليها، فيستعمل المعاني المأخوذة في غير الجنس الذي تناولها منه، فإذا وجد معنىً لطيفاً في تشبيب أو غزل استعمله في المديح، وإن وجده في المديح استعمله في الهجاء؛ وإن وجده في وصف ناقة أو فرس استعمله في وصف الإِنسان، وإن وجده في وصف إنسان استعمله في وصف بهيمة، فإن عكس المعاني على اختلاف وجوهها غير متعذر على من أحسن عكسها واستعمالها في الأبواب التي يحتاج إليها فيها، وإن وجد المعنى اللطيف في المنثور من الكلام، أو في الخطب والرسائل فتناوله وجعله شعراً كان أخفى وأحسن. ويكون ذلك كالصائغ الذي يذيب الذهب والفضة المصوغين فيعيد صياغتهما بأحسن مما كانا عليه، وكالصباغ الذي يصبغ الثوب على ما رأى من الأصباغ الحسنة. فإذا أبرز الصائغ ما صاغه في غير الهيئة التي عهد عليها، وأظهر الصباغ ما صبغه على غير اللون الذي عهد قبل، التبس الأمر في المصوغ وفي المصبوغ على رائيهما، فكذلك المعاني وأخذها واستعمالها في الأشعار على اختلاف فنون القول فيها. قيل للعتابي: بماذا قدرت على البلاغة فقال: بحل معقود الكلام؛ فالشعرُ رسائلُ معقودة، والرسائلُ شعرٌ، وإذا فتشت أشعار الشعراء كلها وجدتها متناسبة، إما تناسباً قريباً أو بعيداً. وتجدها مناسبة لكلام الخطباء، وخطب البلغاء، وفقر الحكماء. وسنذكر من ذلك ما يكون شاهداً على ما نقول. من ذلك أن عطاء بن أبي صيفي الثقفي دخل على يزيد بن معاوية فعزاه عن أبيه وهنأه بالخلافة، وهو أول من عزى وهنأ في مقام واحد فقال: أصبحت رزيت خليفة اللَّه، وأعطيت خلافة اللَّه، قضى معاوية نحبه فيغفر اللَّه ذنبه، ووليت الرياسة وكنت أحق بالسياسة فاشكر اللَّه على عظيم العطية، واحتسب عند اللَّه جليل الرَّزية، وأعظم اللَّه في معاوية أجرك، وأجزل على الخلافة عونك. فأخذه أبو دلامة فقال يرثي المنصور ويمدح المهدي: عيناي واحدةٌ تُرى مسرورةً ... بإمامها جذلى، وأخرى تذرفُ تبكي وتضحك تارة يسؤوها ... ما أنكرت ويسرها ما تعرفُ فيسوءها موتُ الخليفةِ أولاً ... ويسرها أن قام هذا الأرأفُ ما إن سمعتُ ولا رأيتُ كما أرى ... شعراً أرجله وآخر أنتفُ هلك الخليفةُ يال أمة أحمد ... وأتاكم من بعده من يخلفُ أهدى لهذا اللَّه فضلَ خلافةٍ ... ولذاك جناتُ النعيم وزخرفُ فابكوا لمصرع خيرِكم ووليكم ... واستبشروا بقيام ذا وتشرفوا فأخذه أبو الشيص فقال يرثي الرشيد ويمدح المخلوع: جرت جوادٍ بالسعد والنحس ... فنحن في وحشةٍ وفي أنْسِ فالعينُ تبكي والسنُ ضاحكةٌ ... فنحن في مأتم وفي عُرس يضحكنا القائمُ الأمينُ ... وتبكينا وفاةُ الإِمام بالأمسِ بدرانِ، هذا أمس ببغداد في ... الخلْد وهذا بطوس في رمْسِ ولما مات الاسكندر ندبه أرسططاليس فقال: طالما كان هذا الشخص واعظاً بليغاً. وما وعظ بكلامه موعظة قط أبلغ من وعظه بسكوته: فأخذه صالح بن القدوس فقال: وينادونه وقد صم عنهُمُ ... ثم قالوا وللنساء نحيبُ من الذي عاق أن تردَّ جوابا ... أيها المقولُ الألدُّ الخطيبُ إن تكن لا تطيقُ رجعَ جوابٍ ... فيما قد ترى وانت خطيبُ ذو عظات وما وعظت بشيء ... مثل وعظِ السكوتِ إذ لا تُجيبُ فاختصره أبو العتاهية في بيت فقال: وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... فأنت اليَوم أوعظُ منك حيا وقال ابن عائشة: انصرفت من مجلس فقال لي أبي: ما حدثكم حماد فقلت: حدثنا أن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - قال: لو لم يلفَ ابن آدم إلا على الصحة والسلامة لكفى بهما داءً. فقال أبي: قاتل اللَّه حميد بن ثور حيث يقول: أرى بصري قد خانني بعد صحةٍ ... وحسبك داءً أن تصحَّ وتَسْلمَا وللَّه درُّ النمر بن تولب حيث يقول: كانت قناتي لا تليين لغامزٍ ... فألانها الإِصباحُ والإِمساءُ ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليُصبحَني فإذا السلامةُ داءُ وحيث يقول أيضاً: يودُّ الفتى طولَ السلامةِ جاهداً ... فكيف تُرى طولُ السلامةِ يفْعَلُ وللَّه در القائل: لا يعجبُ المرءُ أن يُقال له ... أمسى فلانٌ لأهله حكَما إن سرَّهُ طولُ عيشِهِ فلقد ... أضحى على الوجه طولَ ما سَلمَا فسمع محمودُ الواراق هذه الأبيات فقال: يهوى البقاءَ فإن مدَّ البقاءُ له ... وساعدت نفسه فيها أمانيها أبقى البقاءُ له في نفسه شُغُلا ... لما يرى من تصاريف البِلى فيها فأخذه عبد الصمد بن المعذَّل فقال: يهوى البقاءَ رهبة الفناءِ ... وإنما يفنى من البقاء وربما أحسن الشاعر في معنى ببدعه فيكرره في شعره على عبارات مختلفة، وإذا انقلبت الحالةُ التي يصفُ فيها ما يصف، قلب ذلك المعنى ولم يخرج عن حد الإِصابة فيه، كما قال عبد الصمد بن المعذَّل في مدح سعيد بن سلم الباهلي: ألا قل لسارقِ الليل لا تخشَ ضَلَّةً ... سعيد بن سلمٍ ضوءُ كلِّ بِلاد فلما مات رثاه فقال: يا ساريا حيرة ضَلالُه ... ضوءُ البلادِ قد خبا ذُبالُه وكما قال عليُّ بنُ الجهم: قالوا حُبست فقلتُ ليس بضائري ... حبس وأيُّ مهنَّدٍ لا يُغْمدُ أو ما رأيتُ الليث يألف غيلَهُ ... كِبْراً وأوباش السِّباعِ تردَّدُ فلما نُصبَ للناس وعُري بالشاذياخ قال: نصبوا بحمد اللَّه ملءَ عيونهم ... حسناً وملءَ صدورهم تبجيلا ما غابهُ أن بُزَّ عنه ثِيابُه ... فالسيفُ أهولُ ما يُرى مسلُولا فتشبه في حال حبسه بالسيف مغمدا، وفي حال تعريته بالسيف مسلولا وبالليث إلفا لغيله تارة، ومفارقاً لغيله تارة. ومما يستحسن جدّاً قول علي بن محمود بن نصر: لا أظلمُ الليلَ ولا أدَّعي ... أن نجومَ الليلِ ليست تغُورُ ليلي كما شاءَتْ فإن لم تَزُرْ ... طالَ وإن زارت فليلي قَصِيرُ وأخذ هذا المعنى من قول الرجل لمعاوية حيث سأله: كيف الزمان عليك فقال: يا أمير المؤمنين أنت الزمان، إذا صلحت صلح الزمان، وإذا فسدت فسد الزمان. وكل ما أودعناه هذا الكتاب فأمثلةٌ يقاس عليها أشكالُها، وفيها مقنع لمن دَقَّ نَظَرَه ولطف فهمه، ولو ذهبنا نستقصي كلَّ باب من الأبواب التي أودعناها كتابنا لطال وطال النظر فيه، وف فاستشهدنا بالجزء على الكل، وآثرنا الاختصار على التطويل. الشعر الحسنُ اللفظ الواهي المعنى ومن الأبيات الحسنةِ الألفاظ المستعذبة الرائقة سماعاً، الواهيةِ تحصيلا ومعنى، وإِنَّما يستحسن منها اتفاق الحالات التي وُضِعَت فيها، وتذكر اللذات بمعانيها. والعبارة عما كان في الضمير منها، وحكايات ما جرى من حقائقها دون نسج الشعر وجودته، وإحكام وصفه وإتقان معناه قول جميل: فيا حسنها إذ يغسل الدمعُ كحلَها ... وإذ هي تذري الدمعَ منها الأنامِلُ عشيةَ قالت في العتاب قتلتني ... وقتلي بما قالت هناك تحاولُ وكقول جرير: إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزال معينا غيَّضنَ من عبراتهِن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوَى ولقينا وكقول الأعشى: قالت هريرةُ لما جئت زائرُها ... ويلي عليك وويلي منك يا رجُلُ ويلي الأولى تهدد، وويلي الثانية استكانه. وكقول قيس بن ذريح: خليليَّ هَذِي زفرةٌ قد غلبتُها ... فمن لي بأخرى مثلها قد أطلُّت وبي زفراتٌ لو يدمن قتلتني ... تسوق التي تأتي التي قد توّلَّتِ وكقول عمر بن أبي ربيعة: غفلن عن الليل حتى بدا ... تباشير من واضحٍ أسفْراً ففممن يعفِّينَ آثارنا ... بأكسية الخزِّ أن تُقْفِراً فالمستحسن من هذه الأبيات حقائق معانيها الواقعة لأصحابها الواصفين لها دون صنعة الشعر وأحكامه، فأما قول القائل: ولما قضينا من مِنى كلَّ حاجةٍ ... ومسَّح بالأركان من هو ماسح وشُدَّت على حُدْبِ المهاري رحالُنا ... ولا ينظر الغادي الذي هو رائح أخذنا بأطرافِ الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيِّ الأباطحُ هذا الشعرُ هو استشعارُ قائِله لفرحةِ قفوله إلى بلده وسروره بالحاجة التي وصفها، من قضاء حجة وأنسه برفقائه، ومحادثتهم ووصفه سيل الأباطح بأعناق المطي كما تسيل بالمياه. فهو معنى مستوفى على قدر مراد الشاعر. وأما المعرض الحسن الذي ابتذل على ما يشاكله من المعاني فكقول كثير. فقلت لها يا عزُّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يوما لها النفس ذلَّت قد قالت العلماء لو أن كثيراً جعل هذا البيت في وصف حرب لكان أشعر الناس. وكقول القطامى في وصف النوق: يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلةٌ ... ولا الصدور على الأعجاز تتكِلُ لو جعل هذا الوصف للنساء دون النوق كان أحسن. وكقول كثير أيضاً: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ... إلينا مقليَّة إذا ما تقلَّتِ قالت العلماء لو قال: البيت في وصف الدنيا لكان أشعر الناس. ومن الأبيات التي تخلب معانيها للطافة الكلام فيها قول زهير: تراه إذا ما جئته متهلِلاً ... كأنَك تعطيه الذي أنت سائِلُه أخى ثقةٍ ما تُهلكُ الخمرُ مالَه ... ولكنه قد يُهلكُ المالَ نائِلُهْ غدوتُ عليه غدوةً فرأيتُه ... قعوداً لديه بالصريم عواذلُهْ يفديِّنه طوراً وطوراً يلمنَهُ ... وأعيا فما يدرين أين مخاتلُهْ فأعرض منه عن كريمٍ مُرَّزءٍ ... فعُولٍ إذا ما وجدَّ بالأمر فاعِلُهْ وقول طفيل الغنوي: جزى الله عنا جعفراً حين أزلفت ... بنا فَعْلُنَا في الواطئين فزلَّتِ أبوا أن يملُّوتا ولو أن أُمَّنا ... تلاقي الذي لاقوهُ منا لملَّمتِ وكقول كثير بن عبد الرحمن الخزاعي: إذا ما أورد الغزوَ لم تثن هَمَّهُ ... حصَانٌ عليها نظم دُرَّ يزينُها نهَتْهُ فلما لم تر النهيَ عاقَةُ ... بكت فبكى مما شجاها قطينُها وقول ابن هرمة إنى نذرت لئن لقيتك سالماً ... أن لا أعالجَ بعدَكَ الأسفارا وقول حمزة بن بيض: تقول لي والعيونُ هاجعةٌ ... أقم علينا يوماً فلم أقُمِ أيَّ الوجوهِ انتجعتَ قلت لَها ... وأيَّ وجه إلاَّ إلى الحكم متى يقلْ صاحبا سرادقة ... هذا ابن بيضٍ بالباب يَبْتَسمِ قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات إذا حَلَّ أعْطني سَلَمي وقول الآخر: نقلِّبه لِنَبْلُوَ حالتَيْهِ ... فتخبر منهما كرماً ولينا نميلُ على جوانبِه كأنَّا ... نميل إذا نميلُ على أبينا وقول أبي العتاهية: إن المطايا تشتكيك لأنها ... تفري إليك سباسباً ورمالا فإذا أتين بنا أتين مخفَّةً ... وإذا رجعنَ بنا رجعنَ ثقالا الشعر الصحيح المعنى، الرث الصياغة ومن الحكم العجيبة، والمعاني الصحيحة الرثة الكسوية، التي لم يتنوق في معرضها الذي أبرزت فيه قول القائل: نُرَاع إذا الجنائزُ قابلتنا ... ونسكن حين تمضي ذاهباتِ كروعة ثلةٍ لمغارِ ذِئْبٍ ... فلما غاب عادت رَائعاتِ وكقول الآخر: وما المرءُ إلا كالشهاب وضوؤهُ ... يحورُ رماداً بعد إذ هو ساطِعُ وما المالُ والأهلونَ إلا وديعةٌ ... ولا بُدَّ أن تُردَّ الودائِعُ وكقول الآخر: دار العدُوَّ تَنَظُّرا ... بِهمُ غدا فِعْلَ المُوارِبْ فإذا ظفرت بهمْ ظِفرْ ... تَ بمَّنةٍ إن لم تعاقبْ وكقول الآخر: قدرتَ على نفسي فأزمعتَ قتلها ... فأنت رخيُّ البال والنفسُ تَذْهبُ كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يَسومُها ... ورودَ حياضِ الموتِ والطفلُ يَلْعبُ وكقول الآخر: من يَلُمِ الدَّهرَ ألا ... فالدهرُ غيرُ مُعْتبهْ أو يتعجَّبْ لصرو ... فِ الدهر أو تَقلُّبهْ ومن يصاحبْ صاحباً ... ينسب إلى مصطحبهْ بزائناتِ رشدْهِ ... أو شائناتِ ريبهْ وَربما غرَّ صحيحاً ... جَرِبَ بِجَربِهْ تعرفْ ما حالُ الفتى ... في لبسه ومركبهْ وفي شمأزيزته ... عَنْك وفي توثُّبِهْ عليكَ أو إصغائِه ... إليك أو تحبُّبِهْ والمرء قد يُدْركُه ... يوماً خمولُ منصبِهْ المعنى البارع في المعرض الحسن فأما المعنى الصحيح البارع الحسن، الذي قد أبرز في أحسن معرض وأبهى كسوة، وأرق لفظ، فقول مسلم بن الوليد الأنصاري: وإني وإسماعيلُ بعد فراقِه ... لكالغمدِ يوم الروعِ زايله النصْلُ فإن أغش قوماً بعده أو أزرهُمُ ... فالكالوحش يدنيها منَ الأنس المحْلُ التشبيهات البعيدة الغلو ومن التشبيهات البعيدة التي لم يطلف أصحابها فيها، ولم يخرج كلامهم في العبارة عنها سلساً سهلا قول النابغة: تخْدى بهم أُدُمٌ كأنَّ رِحالها ... عَلَقٌ أريق على مُتونِ صوارِ وكقول زهير بن أبي سلمى: فزلَّ عنها وأوفى رأسَ رقبتِهِ ... كمنصل العترِ دمَّى رأسهُ النُّسكُ وكقول خفاف بن ندبه: أبقى لها التعداءُ من عتداتها ... ومتونها كخيوطه الكتَّانُ والعتدات القوائم. أراد أن قوائمها دقت حتى عادت كأنها الخيوط، وأراد ضلوعها فقال متونها وقول بشر بن أبي خازم: وجرَّ الرامسات بها ذيولا ... كأنَّ شمالها بعد الدبورِ رمادٌ بين أظّارٍ ثلاثٍ ... كما وشِمَ النواشِرُ بالنؤورِ فشبه الشمال والدبور بالرماد. وكقول أوس بن حجر: كأن هِرّاً جنينا عند غُرضَتِها ... والتفَّ ديكٌ برجلها وخنزيرْ وكقول لبيد بن ربيعة: فخمةٌ زفراءُ ترتِي بالعُرى ... قردمانيّاً وتركا كالبصَلْ وكقول النابغة الجعدي: كأنَّ حجاجَ مقلتها قليبٌ ... من السمقين أخلقَ مستقاها والحجاج لا يغور لأنه العظم الذي ينبت عليه شعر الحاجب وقول ساعدة بن جؤية: كساها رطيبُ الريش فاعتدلت لها ... قداحٌ كأعناقِ الظباء الفوارِقِ شبه الهام بأعناق الظباء، ولو وصفها بالدقة كان أولى. الأبيات التي زادت قريحة قائليها على عقولهم ومن الأبيات التي زادت قريحة قائليها على عقولهم قول كثير: فإنّ أمير المؤمنين برفقه ... غزا كامنات الودِّ مني فنالها وقوله أيضاً يخاطب عبد الملك: وما زالت رقاك تسلُّ ضغني ... وتخرج من مكامنها ضِبابي ويرقيني لك الحاوون حتى ... أجابت حيَّة تحَت الحجابِ وقوله أيضاً: ألا ليتنا يا عزُّ من غير ريبةٍ ... بعيران نرعى في الخلاء ونعزُبُ كِلانا به عَرٌّ فمن يَرنا يقُلْ ... على حسنها جرباءُ تعدى وأجربُ نكون لذي مالٍ كثيرٍ مغَفَّل ... فلا هو يرعانا ولا نحن نُطلبُ إذا ما وردنا مَنْهلاً صاحَ أهلُهُ ... علينا فلا ننفكُّ نرمى ونضربُ وددت وبيتِ الله أنك بكرةٌ ... هجانٌ وأني مصعب ثم نهربُ فقال له عزة: لقد أردت بي الشقاء الطويل، ومن المنية ما هو أوطأ من هذه الحال. وكقول الآخر في زبيدة أم محمد الأمين: أزبيدة ابنة جعفرٍ ... طوبى لسائِلكِ المثابْ تُعطين من رجليكِ ما ... تُعْطى الأكفُّ من الرِّغابْ وكقول جرير بن عطية: هذا ابن عمي في دمشقَ خليفةٌ ... لو شئت ساقكُمُ إليّ قطينا فقيل له: يا أبا حزرة لم تصنع شيئاً، أعجزت أن تفخر بقومك حتى تعديت إلى ذكر الخلفاء! وقال له عمر بن عبد العزيز: جعلتني شرطياً لك. أما لو قلت: لو شاء ساقكم إلي قطينا، لسقتهم إليك عن آخر. يا بشرُ حُقَّ لوجْهِكَ التبشيرُ ... هلا غضبتَ لنا وأنت أميرُ قد كان حقُّك أن تقولَ لبارقِ ... يا آل بارقَ فيمَ سُبَّ جَريرُ فقال بشر: أما وجد ابن اللخناء رسولاً غيري وقال: وكقول الأخطل: ألا سائِلِ الجحَّافَ هَلْ هوثائِرٌ ... لقتلي أصيبتْ من سَليمٍ وعامِر فقدر أن يعير الجحاف بهذا القول ويقصر به فيه، فأجراه الجحاف مجرى التحريض، ففعل بقومه ما دعى الأخطل إلى أن يقول: لقد أوقعَ الجحافُ بالبِشْرِ وقْعةً ... إلى اله منها المشتكى والمعَوَّلُ فلو سكت عن هذا بعد ذلك القول الأول لكان أجمل به، ثم لم يرض حتى أوعد وتهدد عند ذلك الخليفة فقال: فإن لم تُغَيِّرها قُريشٌ بملكها ... يكُنْ عن قُريشٍ مستَمارُ ومرحَلُ وكقوله أيضاً: فلا هَدَى الله قيساً من ضَلالتها ... ولا لعاً لبني ذكوان إذ عثروا ضجُّوا من الحرب إذا عضت غَواربَهم ... وقيس عيلان من أخلاقِهم الضَّجرُ فقال له عبد الملك: لو كان كما زعمت لما قلت: لقد أوقع الجحافُ بالبشر وقعة ... الى الله منها المشتكيَّ والمعوَّلُ وكقول الفرزدق أوجدْت فينا غيرَ غدْرِ مُجاشِعِ ... ومجُرَّ جعثِنُ والزبير مقالا فأقر بأشياء لو سكت عنها كان أستر. قال: وكقوله أيضاً: وإن تميماً كلها غير سعدِها ... زعانفُ لولا عزُّ سعدٍ لذلَّتِ وقد وضع من قومه وهجاهم بهذا القول قال: وكقول بشر: تكن لك في قومي بدٌ يشكرونها ... وأيدي الندي في الصالحين فروضُ وقول النابغة الجعدي: وما رابها من ريبةٍ غير أنها ... رأت لمتي شَابتْ وشابت لِداتيا وأي ريبة أعظم من أن رأته قد شاب: وقول الأعشى: رأت رجلاً غائرَ الوافدين ... منتشلُ النحضِ أعمى ضريراً وقوله: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادثِ إلا الشّيبَ والصلعا وقوله: صَدَّت هريرةُ ما تكلِّمنا ... جهلاً بأمِّ خليدٍ حَبْلَ من تَصِلُ أأن رأت رجلاً أعشى أضرَّ به ... ريبُ المنون ودهرٌ خاتِلُ خَبِل وكقول الكميت: إليك يا خيرَ من تضمنتِ الأرضُ ... وإن عاب قولي العُيُبُ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولايعيب قوله في وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عائب إلا كافر بالله مشرك. وقول حسان: أكرم بقومٍ رسولُ الله شعيتُهم ... إذا تفرقت الأهواءُ والشيعُ كان يجب أن يقول: هم شيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن في هذا الكلام جفاء. وقول جنادة بن نجية: من حُبِّها أتمنى أن يُلاقيَني ... من نحو بلدتها ناع فينعاها لكي أقول فراقٌ لا لقاءَ له ... أو تضمن النفسُ يأساً ثم تسلاها الشعر القاصر عن الغايات ومن الأبيات التي قصر فيها أصحابها عن الغايات التي أجروا إليها ولم يسدوا الخلل الواقع فيها معنى ولفظاً قول امريء القيس: فللساق أُلُهوبٌ وللسوطِ درَّةٌ ... وللزجر منه وقعُ أخرج مهذبِ فقيل له: إن فرساً يحتاج إلى أن يستعان عليه بهذه الأشياء لغير جواد. وقول المسيب بن علس: وقد أتناسى الهمَّ عند احتضاره ... بناجٍ عليه الصعيرية مكدمِ فسمعه طرفة فقال: استنوق الجمل. والصعيرية من سمات النوق. وقول الشماخ: فنعم المعترى رحلت إليه ... رحى حيزومها كرحى الطحينِ وإنما توصف النجائب بصغر الكركرة ولطف الخف. وقوله: وأعددت للساقين والرَّجل والنسا ... لجاماً وسرجاً فوق أعوجَ مختالِ وإنما يلجم الشدقان لا الساقان. وقول الأعشى وما مزبدٌ من خليج الفراتِ ... جونٌ غواربه تلتطمْ بأجود منه بما عونِه ... إذا ما سماؤهم لم تغِمْ يمدح ملكاً ويذكر أنه إنما يجود بالماعون. وقوله: شتَان ما يومي على كورها ... ويوم حيانَ أخي جابر وكان حيان أشهر وأعلى ذكراً من جابر فأضافه إليه اضطرارا. وقول عدي بن زيد: ولقد عديت دوسرةً ... كصلاةِ القينِ مِذكارا والمذكار التي تلد الذكران، والمثنات عندهم أحمد. وقال الشماخ: بانت سعاد ففي العينين ملمولُ ... وكان في قصرٍ من عهدها طولُ كان ينبغي أن يقول: وكان في طول من عهدها قصر، أو يقول: وصاري في قصر من عهدها طول. وقول أبي داؤد الإيلدي: لو أنَّها بذلت لذي سقم ... مَرْةِ الفؤادِ مشارفُ القبضِ أنُسُ الحديثِ لظلَّ مكتئباً ... حَرَّانَ من وجدٍ بها مضٍّ لو أنه قال: يذهب سقمه، لكان أبلغ لنعتها. وقول أبي ذؤيب: ولا يُهنئ الواشين أن قد هجرتُها ... وأظلم دوني ليلَها ونهارُها كان ينبغي أن يقول: وأظلم دونها ليلي ونهاري. وقوله: عصاني إليها القلبُ إني لأمره ... سميعٌ فما أدري أرشدٌ طلابُها كان ينبغي أن يقول: أم غي، فنقص العبارة. وقول ساعدة بن جؤبة: فلو نبأتَك الأرضُ أو لو سمعتَهُ ... لآيقنت أني كدت بعدك أكمدُ لو قال: إني بعدك كمد، لكان أبلغ من قوله: كدت أكمد. وقول أبن أحمر: غادرني سهمه أعشى وغادرهُ ... سيف ابن أحمر يشكو الرأسَ والكبدا أراد: غادرني سهمه أعور فلم يمكنه، فقال أعشى. وقول طرفة: كأن جناحي مضرحيِّ تكنَّفا ... حفافيه شكا في العسيبِ بمسردِ وإنما توصف النجائب بدقة شعر الذنب وخفته، وجعله هذا كثيفاً طويلا عريضاً. وقول امرئ القيس: وأركب في الروعِ خيفانةً ... كسا وجَهها سعفٌ مُنْتشرْ شبه ناصيتها بسعف النخل لطولها، وإذا غطى الشعر العين لم يكن الفرس كريماً: وقول الحطيئة: ومن يطلب مساعي آل لأي ... تصعّده الأمورُ إلى علاها كان ينبغي أن يقول: من طلب مساعيهم عجز عنها وقصر ن بلوغها فأما إذا تساوى بهم غيرهم فأي فضل لهم. وقوله: صفوفٌ وماذيُّ الحديد عليهم ... وبيضٌ كأولاد النعام كثيف شبه البيض باولاد النعام، أراد بيض النعام. وقول لبيد العامري: ولقد أُعْوِصُ بالخصمِ وقد ... أملأ الجفنةَ من شحم القُلَلْ أراد السنام، ولا يسمى السنام شحما وقوله: لو يقومُ الفيلُ أو فيالُهُ ... زَلَّ عن مثل مقامي وزَحَلْ وليس للفيال مثل أيد الفيل فيذكره. ولقوله النابغة الذبياني: ماضي الجنانِ أخي صبر إذا نَزلت ... حربٌ يوائل منها كلُّ تنبالِ التنبال القصير من الرجال، فإن كان كذلك فكيف صار القصير أولى بطلب الموئل من الطويل، وإن جعل التنبال الجبان فهو أعيب لأن الجبان خائف وجل، اشتدت به الحرب أم سكنت، وإن كان عن مثل قول الهمذاني: يكرُّ على المصاف إذا تعادى ... من الأهوال شجعانُ الرجالِ وقول طرفة بن العبد: من الزمرات أسبل قادماها ... وضرتها مركنَّةٌ ذرورُ لا يكون القادمان إلا لما له آخرون، وتلك الناقة التي لها أربعة أخلاف. ومثله قول امرئ القيس: إذا مسَّتْ قوادمها أرنَّتْ ... كأنَّ الحيَّ بينهُمُ نِعيُّ وقول المسيب بن علس: فتسلَّ حاجتها إذا هي أعرضت ... بخميصةٍ سرح اليدين وساعِ وكأن قنطرة بموضع كورها ... ملساءَ بين عوامض الأنساعِ وإذا أطفْت بها أطفت بكلكلٍ ... نبض الفرائض مجفر الأضلاعِ فكيف تكون خميصة وقد شبهها بالقنطرة لا تكون إلا عظيمة، وقال هي مجفرة الأضلاع، فكل هذا ينقض ما ذكره من الخمص. قال: وقول الحطيئة: حرجُ يلاوذُ بالكناسِ كأنه ... متطرفُ حتى الصباح يدورُ حتى إذا ما الصبحُ شق عمودَهُ ... وعلاه أسطع لا يردُّ منيرُ وحصى الكثيبِ بصفحتيه كأنَّهُ ... صدأُ الحديدِ أطارهن الكيرُ زعم أنه لم يزل يطوف حتى أصبح وأشرف على الكثيب فمن أين الحصى بصفحتيه. الشعر الرديء النسج ومن الأبيات المستكرهة الألفاظ القلقة القوافي، الرديئة النسح فليست تسلم من عيب يلحقها في حشوها أو قوافيها، أو ألفاظها، او معانيها، قول أبي العيال الهذلي: ذكرتُ أخي فعاودني ... صداع الرأسِ والوصبُ فذكر الرأس مع الصداع فضل. وقول أوس بن حجر: وهم لمقلِّ المالِ أولادُ علّةِ ... وإن كان محضاً في العمومة مخولا فقوله المال مع مقل فضل. وكقول عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الخزرجي: قيدت وقد لان هاديِهَا وحارِكها ... والقلبُ منها مطارُ القلب محذورُ وكقول الآخر: ألا حبذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ ... وهندُ أتى من دونها النأيُ والبعدُ فقوله البعد مع ذكر النأي فضل. وكقول الأعشى: فرميت غفلةَ عينهِ عن شأتِه ... فأصبتُ حبةَ قلبِها وطحالها وقوله: استأثر اللهُ فالوفاءِ وبالعدل ... وأولى الملامةَ الرجلا وقول الحطيئة: قَرَوْا جارك العيمان لما جفوته ... وقلَّص عن برد الشارب مشافرُهُ أراد شفتيه. وقول المزرد داعي الزنج: فما برح الولدان حتى رأيته ... على البكرِ يمريه بساقٍ وحافِر يريد بساق وقدم. وقول حسان: وتكلفي اليومَ الطويلَ وقد ... صَرَّت جنادبُه من الظهرِ أراد بالظهر حر الظهيرة. وقول المتلمس إن تسلكي سبلَ الموماةِ منجدةً ... ما عاش عمرو، وما عمَّرت قابوسْ أراد ما عاش عمرو وما عمر قابوس. وقوله: من القاصرات سجوفُ الحِجال ... لم ترَ شمْساً ولا زمهريرا أراد لم تر شمساً ولا قمراً، ولم يصبها حر ولا برد. وقول علقمة بن عبدة: كأنهم صابتْ عليهم ساحبةُ ... صَواعقُها لطيرهنّ دبيبُ وقوله: يحملن أترجةً نضحَ العبيرُ بها ... كأنَ تطيابها في الأنف مشمومُ وقول عامر بن الطفيل: تناولته فاحتل سيفي ذبابَة ... شرا سيفِهِ العليا وجذَّ المعاصما وقول خفاف بن ندبة: إن تعرضي وتضني بالنوالِ لنا ... فواصلين إذا واصلت أمْثالي وقول علقمة بن عبدة: طحابكَ قلبٌ في الحسان طروبُ ... بُعيدَ الشباب عصرَ حان مشيبُ الشعر المحكم النسج ومن القوافي الواقعة في مواضعها، المتمكنة من مواقعها، قول أمرئ القيس في قصديته التي يقول فيها: وقد أغتدى قبل العُطاسِ بهيكل ... شديدٍ مَشكِّ الغضا الجَنْبِ فَعْمِ المُنطَّقِ قوله: بعثنا ربيثاً قبل ذلك محملاً ... كذئبِ الغضا يمشي الضَّراء ويتقي فوقعت يتقي موقعاً حسناً. وكذلك قول النابغة: تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... برداً أُسِفَّ لَثَاتُهُ بالإِثْمدِ كالأقحوانِ غداةَ غبّ سمائِه ... جفتْ أعاليهُ وأسفلُهُ ندي زعم الهمامُ بأن فاها باردٌ ... عذبٌ إذا ما ذقته قلت ازْدَدِ زعم الهمامُ ولم أذقه أنه ... يروى بريِّقها من العَطش الصدي فقوله وأسفله ندي: ومن العطش الصدي وقعا موقعين عجيبين. وقول زهير: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علمِ ما في غدٍ عَمِ فقوله: عم واقعة موقعاً حسناً. وكقوله: صحا القلبُ عن سلمى فقد كان لا يصحو ... واقفرَ من سلمى التعانيقُ فالثقلُ وقد كنت من سلمى سنينا ثمانياً ... على صيرِ أمرٍ ما يمرُّ وما يحلوُ فقوله: يحلو حسنة الموقع. وكقوله في قصيدته التي يقول فيها: لذي الحلمِ من ذبيانَ عندي مودةٌ ... وحفظٌ ومَن يُلْحم إلى الشرِّ أنشج قوله: مخوف كأنَّ الطَّير في مَنزلاتِه ... على جيَف الحْسرَى مجَالسُ تنتْجي فقوله: تنتجي حسنة الموقع جداً. وكقوله: ولنعم حَشْوُ الدِّرعِ أنت إذا ... دُعيت نزَالِ وَلُجِّ في الذُّعْرِ وإنَّك تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخْلْقُ ثم لا يَغري ولأنت أشجع حين يتَّجهُ الأب ... طالُ من ليثِ أبي أجْري فقوله: ثم لا يفري وأبي أجري حسنان في موقعهما. وكقول بشر: فما صدعٌ بحيَّةَ أو بشرجِ ... على زَلَقِ زوالقُ ذي كهافِ تَزلُّ اللقوةُ الشغْواءُ عنها ... مخالبُها كأطرافِ الأسافي بأحرزَ موئلا من جارِ أوسِ ... إذا ما ضيم جيرانُ الضِّعافِ فقوله: كأطراف الأسافي حسنة الموقع. وكقول الأعشى: وإذا تكونُ كتيبةٌ ملمومةٌ ... خرساءُ يخشى الذائدون نصالَها كنت المقدَّم غير لابس جُنَّةٍ ... بالسيف تضرب معلما أبْطالَها وعلمتَ أن النفس تلقى حتفَها ... ما كان خالقُها المليكُ قضى لها فقوله: قضى لها عجيبة الموقع. وكقوله: ومثلُ الذي تُولونني في بيُوتِكم ... يُروِّي سناناً كالقُدامَى وثَعْلبَا وما عنده زرفى علمتُ دلالَه ... علي من الريح الجنوب ولا الصبا وكذلك قوله: وكأسٍ شربتُ على لذةٍ ... وأخرى تداويت منها بِها لكي يعلَم الناسُ أنِّي أمرؤٌ ... أتيت الفُتوةَ من بابِها فقوله: منها بها لطيفة حسنة الموقع جداً. وكقول أبي كبير الهذلي: ولقد ربأتُ إلى الصحابِ تواكلوا ... جَمْر الظهيرةِ في اليفاع الأطولِ في رأسِ مشرفةِ القذالِ كأنها ... جمرٌ بمسبكةٍ تُشَبُّ لمصطلي وكقول أبي خراش: ولم أدْرِ من ألقى عليه رداءَه ... سوى أنه قد سُلَّ عن ماجدٍ محضِ بلى إنها تعفو الكلُوم وإنما ... تُوكَّلُ بالأدنى وإن جل ما يمضي فقوله يمضي حسنة جيداً. وكقول عروة بن أذينة: وكلُّ هوىً دان عني زمانا ... له من بعد ميعته تجَلي كأني لم أكن من بعد ألفٍ ... عذلتُ النفسَ قبلُ على هوىً لي فإن أقصرْ فقد أجريت عصراً ... وبلَّاني الهوى فيمن يُبَلي فقوله هوى لي لطيفة الموقع. وكقول ذي الرمة في قصيدته: أراح فريقُ جيرتِك الجمالا ... كأنهم يريدون احتمالا فكدت أموت من حزنٍ عليهم ... ولم أرَ نادي الآظعان بالي فقوله: بالي عجيبة الموقع. وكقول الفرزدق: فإن تهجُ آل الزبرقان فإنما ... هجوتَ الطوالَ الشمَّ من هضب يذبلِ وقد ينبح الكلبُ النجومَ ودونه ... فراسخُ تنضي الطرف للمتأمِّلِ أرى الليلَ يجلوه النهارُ ولا أرى ... عِظامَ المخازي عن عَطيَّة تنجَلي فقوله: تنجلي متمكنة في موضعها. وكقول الحطيئة: من يفعل الخيرَ لا يعدم جوازيه ... لا يذهبُ العرفُ بين الله والناسِ دعِ المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنَّك أنت الطَّاعم الكاسي فقوله: الكاسي عجيبة الموقع. وكقوله: إذا نزلَ الشتاءُ بأرض قوْمٍ ... تجَّنبَ جارَ بيتهِمُ الشتاءُ هم القوُم الذين إذا ألمَّت ... من الأيامِ مظلمةٌ أضاءوا فقوله: أضاءوا حسنة الموقع. فهذه أمثله قد احتذى عليها المحدثون من الشعراء وسلكوا منهاج من تقدمهم فيها، وأبدعوا في أشياء منها ستعثر بها في أشعارهم كقول أبي عيينة المهلبي: دنيا دعوتكِ مسمعاً فأجيبي ... وبما اصطفيتك للهوى فأثيبي دومى أدُمْ لك بالوفاء على الصَّفا ... إنِّي بعهدك واثقٌ فثقي بي فقوله: فثقي بي لطيفة جداً يستدل بها على حذق قائلها بنسج الشعر. التخلص ومن الأبيات التي تخلص بها قائلوها إلى المعاني التي أرادوها من مديح أو هجاء أو افتخار او غير ذلك، ولطفوا في صلة ما بعدها بهافصارت غير منقطعة عنها، ما أبدعه المحدثون من الشعراء دون من تقدمهم، لأن مذهب الأوائل في ذلك واحد، وهو قولهم عند وصف الفيافي وقطعها بسير النوق، وحكاية ما عانوا في أسفارهم: إنا تجشمنا ذلك إلى فلان يعنون الممدوح: كقول الأعشى: إلى هوذةِ الوَهَّابِ أزجي مطيتي ... أُرجِّي عطاء صالحاً من نوالكا وكقوله: أنضيتُها بعدما طال الهبابُ بها ... نؤمُّ هوذَة لا نكساً ولا وَرَعا يا هوذُ إنك من قومِ أولى حسبٍ ... لا يفشلون إذا ما آنسوا فَزَعا وكقوله: فذلك شبهته ناقتي ... وما إن لغيرك إعمالُها فمنك تؤوب إذا أدبرت ... وقصدكَ يعطفُ إقبالُها وكقوله: فعلى مثلها أزورُ بني قي ... سَ إذا شطَّ بالحبيبِ الفراقُ وكقوله: إليكَ ابنَ جفنةَ من شقةٍ ... دأبتُ السَّرى وحسرتُ القَلوصَا تَشكَّى إليَّ فلم أشُكها ... مناسمَ تَدمى وخُفّاً رهيصا يَراك الأعادي على رَغْمهم ... تحُلُّ عليهم محلاَّ عويصا وكقوله: وإلى ابن سُلمى حارثٌ قطعَتْ ... عرضَ السِّخالِ مطيَّتي تَضعُ ورثَ السيادةَ عن أوائِله ... فأتمَّ أحسَنَ ما هُمُ صَنَعُوا وكقوله: إلى المرءِ قيسٍ أطُيلُ السَّرى ... وآخذُ من كلِّ حيٍّ عُصمْ أو يستأنف الكلام بعد انقضاء التشبيب ووصف القبائل والنوق وغيرها فيقطع عما قبله ويبدأ بمعنى المديح: قول زهير: وأبيضَ فياضٍ يداه غمامةٌ ... على معتفيه ما تغِبُّ نوافِلُه أو يتوصل إلى المديح بعد شكوى الزمان ووصف محنه وخطوبه فيستجار منه بالممدوح. أو يستأنف وصف السحاب أو البحر أو الأسد أو الشمس أوالقمر. فيقال: فما عرض أو فما مزيداً أو فما مخدراً أو فما الشمس والقمر أو البدر باجود بأشجع أو بأحسن من فلان، يعنون الممدوح، فسلك المحدثون غير هذه السبيل ولطفوا القول في معنى التخلص إلى المعاني التي أرادوها، فمن ذلك قول منصور النمري: إذا امتنعَ المقالُ عليك فأمدح ... أميرَ المؤمنين تجدْ مقالاً فتى ما إن تزالُ به ركابٌ ... وضعنَ مدائحاً وحملنَ مالا وقول أبي الشيص: أكلَ الوجيفُ لحومَها ولحومَهم ... فاتوك أنقاضاً على أنقاضِ ولقد أتتك على الخطوب سواخطا ... ورجعن عنك وهن عنه رواضِ وكقول محمد بن وهب: حتى استردَ الليلُ خلعته ... وبدا خلالَ سوادِهِ وضحُ وبدا الصباحُ كأنَ غرتَهُ ... وجهُ الخليفةِ حين يمُتدحُ وكقوله في تخلصه من وصف الديار إل وصف شوقه: طللانِ طالَ عليهما الأمدُ ... دَثَرا فلا عَلَمٌ ولا نَضَدُ لبسا البلى فكأنما وجَدَا ... بعد الأحبةِ مثل ما أجِدُ وكقول بكر بن النطاح في تخلصه إلى الافتخار: ودوِّيَّةٍ خلقت للسرا ... بِ فأمواجُه بينها تزخَرُ ترى جِنَّها بين أضعافِها ... حُلُولاً كأنمهم البرْبَرُ كأن حنيفةَ تحميهُمُ ... فألينهُمُ خَشِنٌ أزوْرُ وكقوله: يا من يريدُ بأنَّ تكلمَه الندى ... بلسانِ قاسمِهِ الندى يتكلَّمُ مَدْحُ ابن عيسى قاسمٍ فاسددْ به ... كلتا يديك الكيمياءُ الأعظمُ وكقول دعبل: وميثاءَ خضراءَ زريبة ... بها النَّوْرُ يُزْهرُ من كلِّ فَنْ ضحوكاً إذا لاعبَتْهُ الرَّياحُ ... تأوَّدَ كالشَّاِرب المرْجحن فشبَّه صحْبي نوارَهُ ... بديباجِ كسرى وعَصْبِ اليَمنْ فقلتُ بعُدتُم ولكنَّنى ... أشُبِّهُهُ بجنابِ الحَسنْ فتَى لا يرىالمال إلا العطَاءَ ... ولا الكنزَ إلا اعتقاد المنن وكقوله: قالت وقد ذكرتُها عهد الصبا ... باليأس تُقطعُ عادةُ المعتادِ إلا الإِمَام فإن عادة جودِه ... موصولةٌ بزيادة المزدادِ وكقول عبد الرحمن بن محمد الغساني: وكأنَّ الرسومَ أخنى عليها ... بعضُ غاراتنا على الأعداءِ كقوله في تخلصه الى الافتخار أيضاً: وانهي جمالك ان ينال مقاتلي ... فتصيب قومك سطوة من معشري وكقول أبي تمام الطائي: صُب الفراقِ علينا صَبَّ من كثبٍ ... عليه اسحقُ يوم الروع منتقما وكقول البحتري: شقائقُ يحملنَ الندى فكأنه ... دموعُ التصابي في خدود الخرائدِ كأن يد الفتحِ بن خاقانِ أقبلت ... تليها بتلك البارقات الرواعِدِ وكقوله: بين الشقيقةِ فاللِّوى فالأجرعِ ... دمِنٌ حُبِسْنَ على الرياح الأرْبَعِ فكأنما ضَمِنتْ معالَمها الذي ... ضمنته أحشاءُ المحبِ الموجَعِ وكقوله: يجرُّ على الغيثِ هدابَ مزنةِ ... وآخرُهُ فيه وأولُهُ عندي تعجَّلَ عن ميقاته فكأنه ... أبو صالح قد بت منه على وعْدِ وكقوله: أقول لثجاجِ الغمامِ وقد سرى ... بمحتفل الشؤبوب صاب فأفعما أقلَّ وأكثر لَست تبلَعُ غاية ... تبين بها حتى تضارعَ هيثما فتى لَبِستْ منه الليالي محاسنا ... أضاءَ لها الأفقُ الذي كان مظلما وكقوله: لعمرك ما الدنيا بناقصةِ الجَداً ... إذ بقي الفتح بن خاقان والقَطْرُ وكقوله: أبَرقٌ تجلى أم بَدَا ابنُ مدبّرٍ ... بغرّةِ مسؤولٍ رأى البِشرَ سائلُه وكقوله: أدارُهُمُ الأولى بدارةِ جُلْجلِ ... سقاكِ الحيا روحاته وبواكرُهْ وجاءك يحكي يوسفَ بن محمدٍ ... فروّتكِ ريَّاهُ وجادكِ ماطِرُهْ وكقوله: كأن سناها بالعشِّي لِشرْبها ... تبلُّجُ عيسى حين يلفظُ بالوعْدِ وكقوله: آليتُ لا أجعلُ الإعدامَ حادثةً ... تخُشى وعيسى بنُ إبراهيم لي سَنَدُ وكقول وهب الهمداني: وأطلبِ الرَّيفَ يا نديمي والر ... يفُ في الأرض حيث اسماعيل وكقوله: أيامُ غصنِ الشبابِ يهتزُّ ... كالأسمرِ في راحةِ ابنِ حَمَّادِ وكقوله: لا والذي سنَّ للمدامةِ وال ... مِاء نكاحاً بغير تطليقِ ما مقلَتْ مقلتايَ اسمعُ في الع ... الم من أحمد بن مسروِق وكقول علي بن جبلة: وغيثٍ تألفَّهُ نوُءهُ ... وألبسهُ غَلَلا أرمدا تظلُّ الرياحُ تُهادي به ... إذا ما تحير أو عَرَّدا صَدوق المخيلةِ وإني الظلا ... ل قد وعد الأرض أن تَرغدا كأنّ تواليه بالعَرا ... ءِ أهوى إلى الجلمدِ الجلمدا تداعي تميمٍ غداة الجفار ... تدعو زرارة أو مَعْبَداً وكقول علي بن الجهم: وساريةٍ ترتادُ أرضا تجودُها ... شغلت بها عيناً قليلاً هجودها أتتنا بها ريحُ الصبا وكأنها ... فتاةٌ تزجَّيها عجوزٌ تقودُها فما برحت بغداد حتَّى تفجرت ... بأوديةٍ ما تستفيقُ مُدودُها فلما قضت حقَّ العراقِ وأهْلَهُ ... أتاها من الريح الشمالِ يُريدُها فمرت كفوْت الطرفِ سعياً كأنهَّا ... جنودُ عبيد الله ولَّت بنودُها وكقوله: وترن وللصباح معقباتٌ ... تُقلِّصُ عنه أعجازَ الظلامِ فلما أن تجلىّ قال صحبي ... أَضَوْءُ الصبحِ أم ضوء الإِمامِ وقول أبي الغمر هارون بن محمد الرازي: مكفهرُّ ترنَحُ أعطافُهُ رجاً ... كما جاوب المطىَّ المطيٌّ وتلالا كأنّما في حشاهُ ... حَبَلٌ حانَ وضْعُهَ حَوْلىُّ ظلّ يحكي بجودِهِ جودَ كَفَّيْ ... مَلكٍ سيبُه هنِيُّ مَرِيُّ وكقول البحتري: سقيت رباك بكل نوءِ جَاعلٍ ... من وبله حقَّا لها معلوما فلو أنني أُعْطيتُ فيهنّ المنى ... لسقيتُهُنَّ بكفِّ إبراهيما وكقوله: قل لداعى الغمام: لبيك واحلُلْ ... عُقلَ العيسِ كي تجيبَ الدعَاءَ عارضٌ من أبي سعيدِ دعَاني ... بسنا بَرْقِهِ غداةَ تَراءَى وقول أبي تمام: إساءةَ الحادثاتِ اسْتَبْطِنِي نفقا ... فقد أَظَلَّكِ إحسانُ ابن حسَّانِ وكقوله: يا صاحبيَّ تقصيا نظريكما ... تريا وجوهَ الأرضِ كيف تصوَّرُ تًريًا نًهاراً مُشرِقْاً قد شابَهُ ... زهرُ الرُّبَا فكأنما و مُقْمِرُ خَلَقٌ أطلَّ من الربيع كأنَّه ... خُلقُ الإِمامِ وهْديُهُ المتيسرُ وقوله: إن الذي خلق الخلائِقَ قاتَها ... أقْواتها لتصرُّفِ الأحراسِ فالأرضُ معروفُ السماءِ قِرىً لها ... وبنو الرجاءِ لُهم بنو العبَّاسِ القومُ ظلُّ اللهِ أسكنَ دينَهُ ... فيهم وهم جَبَلُ الملوك الراسي وقوله: يجاهدُ الشوقَ طوراً ثم يتبعه ... مجاهداتُ القوافِي في أبي دلفا وكقوله: إذا العيسُ وافت بي أبادلفٍ فقد ... تقطّع ما بيني وبين النوائبِ وقوله: تداوَ من شوقك الأقصى بما صنعت ... خيلُ ابن يوسف والأبطالُ تَطَّرِدُ ذَاك السرورُ الذي آلَتْ بشَاشتُهُ ... أَلاَّ يجاورَها في مهجةٍ كمدُ وقوله: لم يجتمْع قطُّ في مصر ولا طرفٍ ... محمدُ بن أبي مروان والنُّوبُ وكقوله: ولقد بَلَون خلائِقي فوجَدْتني ... سمْحَ اليدينِ بِبَذْل ودٍّ مُضمرَ يَعجبْن مني إن سمحتُ بمهجتي ... وكذاك أعجبُ من سماحةِ جعفرِ ملكٌ إذا الحاجاتُ لذن بحقْوهِ ... صافحن كفِّ نواله المُيَسرِ الشعر البعيد الغلق وينبغي للشاعر أن يجتنب الإشارات البعيدة، والحكايات الغلقة، والإيماء المشكل، ويتعمد ما خالف ذلك، ويستعمل من المجاز ما يقارب الحقيقة، ولا يبعد عنها، ومن الاستعارات ما يليق بالمعاني التي يأتي بها، فمن الحكايات الغلقة والإشارات البعيدة قول المثقب في وصف ناقته: تقولُ وقد درأتُ لها وضيني ... أهذا دينُهُ أبداً وديني أكلُّ الدهرِ حلٌّ وارتحالٌ ... أما يُبْقي عَليَّ ولا يقيني فهذه الحكاية كلها عن ناقته من المجاز المباعد للحقيقة، وإنما أراد الشاعر أن الناقة لو تكلمت لأعربت عن شكواها بمثل هذا القول. والذي يقارب الحقيقة قول عنترة في وصف فرسه: فازوَّر عن وقعِ القنا بلبانِهِ ... وشكا إليَّ بِعبرة وتحَمْحُمٍ وقول بشار: غدتْ عانةٌ تشكو بأبصارها الصَدى ... إلى الجأتب إلا أنَّها لا تخاطُبه ومن الإيماء المشكل الذي لا يفهم، وقد أفرط في حكايته قول الآخر: أومت بكفيها منَ الهَوْدج ... لولاك هذا العام لم أحْججِ أنت إلى مكةَ أخرجتني ... خُبيّاً ولولا أنتَ لم أخرجِ فهذا الكلام كله ليس مما يدل عليه إيماء ولا تعبر عنه إشارة. ملاءمة معاني الشعر لمبانيه وليست تخلو الأشعار من أن يقتص فيها أشياء هي قائمة في النفوس والعقول، فيحسن العبارة عنها وإظهار ما يكمن في الضمائر منها فيبتهج السامع لما يريد عليه مما قد عرفه طبعه وقبله فهمه، فيثار بذلك ما كان دفيناً ويبرز به ما كان مكنوناً، فينكشف للفهم غطاؤه، فيتمكن من وجدانه بعد العناء في نشدانه، أو تودع حكمة تألفها النفوس، وترتاح لصدق القول فها وما أتت به التجارب منها، أو تضمن صفات صادقة وتشبيهات موافقة، وأمثالاً مطابقة تصاب حقائقها، ويلطف في تقريب البعيد منها، فيؤنس النافر الوحشي حتى يعود مألوفاً محبوباً، ويبعد المألوف المأنوس به حتى يصير وحشياً غريباً، فإن السمع إذا ورد عليه ما قد مله من المعاني المكررة والصفات المشهورة التي قد كثر وردوها عليه مجه وثقل عليه رعيه، فإذا لطف الشاعر لشوب ذلك بما يلبسه عليه، فقرب منه بعيداً أو بعد منه قريباً، أو جلل لطفياً، أو لطف جليلاً أصغى إليه ودعاه واستحسنه السامع واجتباه. وهذا تطريق إلى تناول المعاني واستعارتها، والتلطف في استعمالها على اختلاف جهاتها التي تتناول منها، كما نبهنا عليه قبل، أو تضمن أشياء يوجبها أحوال الزمان على اختلافه وحوادثه على تصرفها، فيكون فيها غرائب مستحسنة وعجائب بديعة مستطرفة، من صفات وحكايات ومخاطبات في كل فن توجبه الحال التي ينشأ قول الشعر من أجلها، فتدفع به العظائم وتسل به السخائم، وتخلب به العقول، وتسحر به الألباب لما يشتمل عليه من دقيق اللفظ ولطيف المعنى. وإذ قد قالت الحكماء إن للكلام الواحد جسداً وروحاً. فجسده النطق وروحه معناه، فواجب على صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة، لطيفة مقبولة حسنة، مجتلبة لمحبة السامع له والناظر بعقله إليه، مستدعية لعشق المتأمل في محاسنه، والمتفرس في بدائعه، فيحسه جسماً ويحققه روحاً، أي يتيقنه لفظاً، ويبدعه معنى، ويجتنب إخراجه على ضد هذه الصفة فيكسوه قبحاً ويبرزه مسخاً، بل يسوي أعضاءه وزناً، ويعدل أجزاءه تأليفاً، ويحسن صورته إصابه، ويكثر رونقه اختصاراً، ويكرم عنصره صدقاً، ويفيده القبول رقة ويحصنه جزالة، ويدنيه سلاسة وينأى به إعجازاً، ويعلم أنه نتيجة عقله، وثمرة لبه وصورة علمه، والحاكم عليه أوله. مفتتح الشعر مطلعه وينبغي للشاعر أن يحترز في أشعاره ومفتتح أقواله مما يتطير به أو يستجفى من الكلام والمخاطبات، كذكر البكاء ووصف إقفار الديار، وتشتت الألاف ونعي الشباب، وذم الزمان. لا سيما في القصائد التي تضمن المدائح أو التهاني. وتستعمل هذه المعاني في المراثي ووصف الخطوب الحادثة، فإن الكلام إذا كان مؤسساَ على هذا المثال تطير منه سامعه، وإن كان يعلم أن الشاعر إنما يخاطب نفسه دون الممدوح، فيجتنب، مثل ابتداء قول الأعشى: ما بكاء الكبير بالأطلال ... وسؤالي وهل ترد سؤالي دمنة قفرة تعاورها الصي ... ف بريحين من صباً وشمال ومثل قول ذي الرمة: ما بال عينك منها الدمع ينسكب ... كأنه من كلى مفرية سرب وقد أنكر الفضل بن يحيى البرمكي على أبي نواس قوله: أربع البلى إن الخشوع لبادي ... عليك وإني لم أخنك ودادي وتطير منه فلما انتهى إلى قوله: سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغادي استحكم تطيره، فيقال إنه لم ينقص إلا أسبوع حتى نزلت به النازلة. وأنشد البحتري أبا سعيد محمد بن يوسف الثغري قصيدته التي أولها: لك الويل من ليل تطاول آخره ... ووشك نوى حي تزم أباعره فقال له أبو سعيد: الويل لك والحرب. وليجتنب في التشبيب من يوافق اسمها بعض نساء الممدوح من أمة أو قرابة أو غيرها، وكذلك ما يتصل به سببه أو يتعلق به وهمه، فإن أرطأة بن سهية الشاعر دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: ما بقي من شعرك فقال: ما أطرب ولا أحزن يا أمير المؤمنين وإنما يقال الشعر لأحدهما. ولكني قد قلت: رأيت الدهر يأكل كل حي ... كأكل الأرض ساقطة الحديد وما تبغي المنية حين تغدو ... سوى نفس ابن آدم من مزيد وأحسب أنها ستكر يوماً ... توفي نذرها بأبي الوليد فقال له عبد الملك: ما تقول ثكلتك أمك فقال: أنا أبو الوليد يا أمير المؤمنين. وكان عبد الملك يكنى أبا الوليد أيضاً، فلم يزل يعرف كراهة شعره في وجه عبد الملك إلى أن مات. فليجتنب الشاعر هذا وما شاكله مما سبيله كسبيله، وإذا مر له معنى يستبشع اللفظ به لطف في الكناية عنه وأجل المخاطب عن استقباله بما يتكرهه منه وعدل اللفظ عن كاف المخاطبة إلى ياء الإضافة إلى نفسه إن لم ينكر الشعر، او احتال في ذلك بما يحتزز به مما ذممناه ويوقف به على أرب نفسه ولطف فهمه كقول القائل: ولا تحسبن الحزن يبقي فإنه ... شهاب حريق واقد ثم خامد سآلف فقدان الذي قد فقدته ... كإلفك وجدان الذي أنت واجد وإنما أراد الشاعر: ستألف فقدان الذي قد فقدته كإلفك وجدان الذي قد وجدته؛ أي تتعزى عن مصيبتك بالسلو فانظر إليه كيف لطف في إضافة ذكر المفقود الذي يتطير منه إلى نفسه، وما يتفاءل إليه من الوجدان إلى المخاطب، فجعل الموجود المألوف للمعزى، والمفقود لنفسه. ويحكى أن أبا دلف استنشد أبا حكيمة راشداً الكاتب بعض ما رثى أيره وأعجب بما سمعه من معاني قوله في ذلك الفن فانشده: ألا ذهب الأير الذي كنت تعرف فقال له أبو دلف: أمك كانت تعرف. تأليف الشعر وينبغي للشاعر أن يتأمل تأليف شعره، وتنسيق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه فيلائم بينها لتنتظم له معانيها، ويتصل كلامه فيها، ولا يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه وبين تمامه فضلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه، فينسي السامع المعنى الذي يسوق القول إليه، كما أنه يحترز من ذلك في كل بيت، فلا يباعد كلمة من أختها، ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها، ويتفقد كل مصراع، هل يشاكل ما قبله، فربما اتفق للشاعر بيتان يضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر، فلا يتنبه على ذلك إلا من دق نظره ولطف فهمه. وربما وقع الخلل في الشعر من جهة الرواة والناقلين له فيسمعون على جهة ويؤدونه على غيرها سهواً، ولايتذكرون حقيقة ما سمعوه منه، كقول أمرئ القيس: كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال هكذا الرواية وهما بيتان حسنان، ولو وضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر كان أشكل وأدخل في استواء النسج فكان يروي: كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم وأتبطن كاعباً ذات خلخال وكقول ابن هرمة: وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زناداً شحاحاً كتاركة بيضها في العراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا وقال الفرزدق: وإنك إذ تهجو تميماً وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب اذاعته رياح السمائم كان يجب أن يكون بيت لابن هرمة مع بيت للفرزدق، وبيت للفرزدق مع بيت لابن هرمة فيقال: وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زناداً شحاحا كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم ويقال: وإنك إذا تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا حتى يصح التشبيه للشاعرين جميعاً وإلا كان تشبيهاً بعيداً غير واقع موقعه الذي أريد له. وإذا تأملت أشعار القدماء لم تعدم فيها أبياتاً مختلفة المصاريع. كقول طرفة: ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم ارفد فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول، كقول الأعشى: وإن امرءاً أهواه بيني وبينه ... فيأف تنوفات وبهماء خيفق لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق فقوله: وأن تعلمي أن المعان موفق غير مشاكل لما قبله. وكقوله: أغر أبيض يستسقي الغمام به ... لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول وإن كان كل واحد منهما قائماً بنفسه. وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتسق به أوله مع آخره على ما ينسقه قائله، فإن قدم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل الرسائل والخطب إذا نفض تأليفها، فإن الشعر إذا أسس فصول الرسائل القائمة بأنفسها، وكلمات الحكمة المستقلة بذاتها، والأمثال السائرة الموسومة باختصارها لم يحسن نظمه، بل يجب أن تكون القصيدة كلها ككلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها، نسجاً وحسناً وفصاحة، وجزالة ألفاظ، ودقة معان وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنى يصنعه إلى غيره من المعاني خروجاً لطيفاً على ما شرطناه في أول الكتاب، حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغاً، كالأشعار التي استشهدنا بها في الجودة والحسن واستواء النظم، لا تناقض في معانيها، ولا وهي في مبانيها، ولا تكلف في نسجها، تقتضي كل كلمة ما بعدها، ويكون ما بعدها متعلقاً بها مفتقراً إليها. فإذا كان الشعر على هذا المثال سبق السامع إلى قوافيه قبل أن ينتهي إليها رواية، وربما سبق إلى إتمام مصراع منه إصراراً يوجبه تأسيس الشعر كقول البحتري: سليل البيض قبرها فأقاموا ... لظباها التأويل والتنزيلا فيقتضي هذا المصراع أن يكون تمامه: وإذا سالموا أعزوا ذليلا وكقوله: أحلت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي فداؤك ما أبقيت مني فإنه ... حشاشة صب في نحول عظامي صلي مغرماً قد واتر الشوق دمعه ... سجاما على الخدين بعد سجام فليس الذي حللته بمحلل. يقتضي أن يكون تمامه: وليس الذي حرمته بحرام. وأحسن الشعر ما يوضع فيه كل كلمة موضعها حتى يطابق المعنى الذي أريدت له ويكون شاهدها معها لا تحتاج إلى تفسير من غير ذاتها كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب: فأقسمت يا عمرو لو نبأك ... إذاً نبها منك داه عضالا إذا نبها ليث عريسة ... مقيتاً، مفيداً نفوساً ومالا وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكى الكلالا فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا فتأمل تنسيق هذا الكلام وحسنه. وقولها مقيتاً ثم فسرت ذلك فقالت نفوساً ومالا، ووصفته نهاراً بالشمس، وليلاً بالهلال، فعلى هذا المثال يجب أن ينسق الكلام صدقاً لا كذب فيه، وحقيقة لا مجاز معها فلسفياً كقول القائل: وفي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا دار أيها هاج لي كربي أوجهك في عيني أم الريق في فمي ... أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي القوافي وسألت أسعدك الله عن حدود القوافي، وعلى كم وجه تتصرف قوافي الشعر قوافي الشعر كلها تنقسم على سبعة أقسام: أما أن تكون على فاعل مثل كاتب وحاسب وضارب، أو على فعال مثل كتاب وحساب وجواب، أو على مفعل مثل مكتب ومضرب ومركب، أو على فعيل مثل حبيب وكئيب وطبيب. أو على فعل مثل ذهب، وحسب وطرب، أو على فعل مثل ضرب، وقلب، وقطب. أو على فعيل مثل كليب، ونصيب وعذيب. على هذا حتى تأتي على الحروف الثمانية والعشرين، فمنها ما يطلق ومنها ما يقيد ثم يضاف كل بناء منها إلى هائها المذكر أو المئنث، فيقول كاتبه أو كاتبها، أو كتابها، أو مركبة، أو مركبها، أو حبيبه، أو حبيبها، أو ذهبه أو ذهبها أو ضربه أو ضربها، أو كليبه أو كليبها، ويتفق هذا في الرجز. فهذه حدود القوافي التي لم يذكرها أحد ممن تقدم، فأدرها على جميع الحروف واختر من بيتها أعذبها وأشكلها للمعنى الذي تروم بناء الشعر عليه إن شاء الله. نفعك الله بفهمك ومتعك بعلمك وأسعدك في الدارين بمنه ورأفته.
نزل تشريع الطلاق في سورتين علي مرحلتين متتابعتين تاريخيا 1. سورة البقرة في العام 1 أو 2هجري وتوابعه في سورة النساء والاحزاب وبعض المواضع المتفرقة بين سورة البقرة وسورة الطلاق { في الخمسة اعوام الاولي بعد الهجرة} وبيانات قاعدته في هذه المواضع التلفظ بالطلاق ثم الاعتداد استبراءا ثم التسريح. * 2.ثم نزل التشريع الاخير المحكم في العام 6 او7 هجري بتبترتيب تشريعي معكوس وبعلم الله الباري في سورة الطلاق في العامين السادس6. او السابع7. الهجري فؤمر كل من يريد التطليق عكس موضعي الطلاق بالعدة والعدة بالطلاق
تفسير الطبري سورة الكهف وما بعدها
فهرس تفسير الطبري للسور 18 - تفسير الطبري سورة الكهف تفسير سورة الكهف بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله عز ذكره : الْحَمْدُ لِلَّ...
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
-
- سورة الطلاق واياتها 12. وتفسير جزئياتها تفصيلا سورة الطلاق واياتها 12 . 65- سورة الطلاق واياتها 12 مدنية نزلت العام السادس ا...
-
يمتنع مع لام القَبْلِ {تسمي ايضا لام الإبتداء} أن تسري دلالات الآيات التالية: بل تسري مع اللام بمعني بعد [وتسمي أيضا ل...
-
اللغة الموسوعة التاريخية الرئيسة الموسوعة التاريخية تنويه سَردٌ تاريخيٌّ مختصرٌ، مُجردٌ من التعليقِ والتحليل مُحاوَلةُ اليَهودِ تَسميمِ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق