تفسير الطبري سورة الكهف وما بعدها

 فهرس تفسير الطبري للسور 18 - تفسير الطبري سورة الكهف  تفسير سورة الكهف بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله عز ذكره : الْحَمْدُ لِلَّ...

الاثنين، 10 نوفمبر 2025

تفسير سور الانعام والمائدة والانفال الطبري


فهرس تفسير الطبري للسور 10 - تفسير الطبري سورة يونس التالي السابق سورة يونس القول في تأويل قوله تعالى : الر قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم تأويله: أنا الله أرى. ذكر من قال ذلك: حدثنا يحيى بن داود بن ميمون الواسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي روق، عن الضحاك، في قوله : ( الر ) ، أنا الله أرى. حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قوله: ( الر ) ، قال: أنا الله أرى. وقال آخرون: هي حروف من اسم الله الذي هو « الرحمن » . ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن الحسين قال حدثني أبي، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( الر ) و ( حم ) و ( نون ) حروف « الرَّحمن » مقطعةً. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عيسى بن عبيد عن الحسين بن عثمان قال: ذكر سالم بن عبد الله: ( الر ) و ( حم ) و ( نون ) ، فقال: اسم « الرحمن » مقطع ثم قال: « الرحمن » . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا مندل عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: ( الر ) و ( حم ) و ( نون ) ، هو اسم « الرحمن » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو الكلبي، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن عامر : أنه سئل عن: ( الر ) و ( حم ) و ( ص ) ، قال: هي أسماء من أسماء الله مقطعة بالهجاء، فإذا وصلتها كانت اسمًا من أسماء الله تعالى. وقال آخرون: هي اسم من أسماء القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( الر ) ، اسم من أسماء القرآن. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا اختلاف الناس ، وما إليه ذهب كل قائل في الذي قال فيه وما الصواب لدينا من القول في ذلك في نظيره، وذلك في أول « سورة البقرة » ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وإنما ذكرنا في هذا الموضع القدرَ الذي ذكرنا ، لمخالفة من ذكرنا قوله في هذا ، قوله في ( الم ) ، فأما الذين وفَّقوا بيْن معاني جميع ذلك، فقد ذكرنا قولهم هناك ، مكتفًى عن الإعادة ههنا. القول في تأويل قوله تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( 1 ) قال أبو جعفر: اختلف في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تلك آيات التوراة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجاهد: ( تلك آيات الكتاب الحكيم ) ، قال: التوراة والإنجيل. . . . . قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة: ( تلك آيات الكتاب ) ، قال: الكُتُب التي كانت قبل القرآن. وقال آخرون: معنى ذلك: هذه آيات القرآن. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوّله: « هذه آيات القرآن » ، ووجّه معنى ( تلك ) إلى معنى « هذه » ، وقد بينا وجه توجيه ( تلك ) إلى هذا المعنى في « سورة البقرة » ، بما أغنى عن إعادته. و ( الآيات ) ، الأعلام و ( الكتاب ) ، اسم من أسماء القرآن، وقد بينا كل ذلك فيما مضى قبل. وإنما قلنا: هذا التأويل أولى في ذلك بالصواب، لأنه لم يجيء للْتوراة والإنجيل قبلُ ذكرٌ ولا تلاوةٌ بعدُ، فيوجه إليه الخبر. فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: والرحمن، هذه آيات القرآن الحكيم. ومعنى ( الحكيم ) ، في هذا الموضع، « المحكم » ، صرف « مُفْعَل » إلى « فعيل » ، كما قيل: عَذَابٌ أَلِيمٌ ، بمعنى مؤلم، وكما قال الشاعر: *أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ* وقد بينا ذلك في غير موضع من الكتاب. فمعناه إذًا: تلك آيات الكتاب المحكم ، الذي أحكمه الله وبينه لعباده، كما قال جل ثناؤه: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [ سورة هود : 1 ] القول في تأويل قوله تعالى : أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أكان عجبًا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم بإنذارهم عقابَ الله على معاصيه، كأنهم لم يعلموا أنَّ الله قد أوحى من قبله إلى مثله من البشر، فتعجَّبوا من وحينا إليه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: اللهُ أعظمُ من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد ! فأنـزل الله تعالى: ( أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم ) ، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا [ سورة يوسف: 109 ] . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: عجبت قريش أن بُعث رجل منهم. قال: ومثل ذلك: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [ سورة الأعراف: 65 ] ، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ، [ سورة الأعراف: 73 ] ، قال الله: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ ، [ سورة الأعراف: 69 ] . القول في تأويل قوله تعالى : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أما كان عجبًا للناس أن أوحينا إلى رجل منهم : أن أنذر الناس، وأن بشر الذين آمنوا بالله ورسوله: ( أن لهم قدم صدق ) ، عطفٌ على ( أنذر ) . واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( قدم صدق ) ، فقال بعضهم: معناه: أن لهم أجرًا حسنًا بما قدَّموا من صالح الأعمال. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال: ثواب صِدق. . . . . قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال: الأعمال الصالحة. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، يقول: أجرًا حسنًا بما قدَّموا من أعمالهم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حبان، عن إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث، عن مجاهد: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال: صلاتهم وصومهم، وصدقتُهم، وتسبيحُهم. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( قدم صدق ) ، قال: خير. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( قدم صدق ) ، مثله. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: ( قدم صدق ) ، ثواب صدق ( عند ربهم ) . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق ) ، قال: « القدم الصدق » ، ثواب الصّدق بما قدّموا من الأعمال. وقال آخرون: معناه: أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح عن علي، عن ابن عباس قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، يقول: سبقت لهم السعادة في الذِّكر الأَوّل. وقال آخرون: معنى ذلك أنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم، قَدَمَ صدق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل بن عمرو بن الجون، عن قتادة أو الحسن : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال: محمدٌ شفيعٌ لهم. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) : أي سلَفَ صدقٍ عند ربهم. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، في قوله: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثوابَ. وذلك أنه محكيٌّ عن العرب: « هؤلاء أهْلُ القَدَم في الإسلام » أي هؤلاء الذين قدَّموا فيه خيرًا، فكان لهم فيه تقديم. ويقال: « له عندي قدم صِدْق ، وقدم سوء » ، وذلك ما قدَّم إليه من خير أو شر، ومنه قول حسان بن ثابت: لَنَــا القَــدَمُ العُلْيَـا إِلَيْـكَ وَحَلْفُنَـا لأَوّلِنَــا فِــي طَاعَــةِ اللـهِ تَـابِعُ وقول ذي الرمة: لَكُــمْ قَــدَمٌ لا يُنْكِـرُ النَّـاسُ أَنَّهَـا مَـعَ الحَسَـبِ العَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى البَحْرِ قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وبشر الذين آمنوا أنّ لهم تقدِمة خير من الأعمال الصالحة عند ربِّهم. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ( 2 ) قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: ( إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ) ، بمعنى: إن هذا الذي جئتنا به يعنون القرآن لسحر مبين. وقرأ ذلك مسروق، وسعيد بن جبير ، وجماعة من قراء الكوفيين: ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ) . وقد بينت فيما مضى من نظائر ذلك: أن كل موصوف بصفةٍ ، يدل الموصوف على صفته، وصفته عليه. والقارئ مخيَّرٌ في القراءة في ذلك، وذلك نظير هذا الحرف: ( قال الكافرون إن هذا لسحر مبين ) ، و « لساحر مبين » . وذلك أنهم إنما وصفوه بأنه « ساحر » ، ووصفهم ما جاءهم به أنه « سحر » يدل على أنهم قد وصفوه بالسحر. وإذْ كان ذلك كذلك ، فسواءٌ بأيِّ ذلك قرأ القارئ، لاتفاق معنى القراءتين. وفي الكلام محذوف ، استغني بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره ، وهو: « فلما بشرهم وأنذرهم وتلا عليهم الوحي » قال الكافرون : إن هذا الذي جاءنا به لسحرٌ مبين. قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا: أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم: أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم؟ فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم، قال المنكرون توحيد الله ورسالة رسوله: إن هذا الذي جاءنا به محمدٌ لسحر مبين أي : يبين لكم عنه أنه مبطِلٌ فيما يدعيه. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 3 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إن ربكم الذي له عبادة كل شيء، ولا تنبغي العبادة إلا له، هو الذي خلق السماوات السبع والأرضين السبع في ستة أيام، وانفرد بخلقها بغير شريك ولا ظهيرٍ، ثم استوى على عرشه مدبرًا للأمور ، وقاضيًا في خلقه ما أحبّ، لا يضادُّه في قضائه أحدٌ، ولا يتعقب تدبيره مُتَعَقِّبٌ، ولا يدخل أموره خلل. ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ، يقول : لا يشفع عنده شافع يوم القيامة في أحد ، إلا من بعد أن يأذن في الشفاعة « ( ذلكم الله ربكم ) ، يقول جل جلاله : هذا الذي هذه صفته ، سيِّدكم ومولاكم ، لا من لا يسمع ولا يبصر ولا يدبِّر ولا يقضي من الآلهة والأوثان ( فاعبدوه ) ، يقول : فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته ، وأخلصوا له العبادة ، وأفردوا له الألوهية والربوبية ، بالذلة منكم له ، دون أوثانكم وسائر ما تشركون معه في العبادة ( أفلا تذكرون ) ، يقول : أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الآيات والحجج ، فتنيبون إلى الإذعان بتوحيدِ ربكم وإفراده بالعبادة، وتخلعون الأنداد وتبرؤون منها؟ » وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يدبر الأمر ) ، قال: يقضيه وحدَه. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ( يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ، قال: يقضيه وحده. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يدبر الأمر ) قال: يقضيه وحده. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى : إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 4 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إلى ربكم الذي صفته ما وصَفَ جل ثناؤه في الآية قبل هذه ، معادُكم ، أيها الناس ، يوم القيامة جميعًا. ( وعد الله حقا ) فأخرج ( وعد الله ) مصدَّرًا من قوله: ( إليه مرجعكم ) ، لأنه فيه معنى « الوعد » ، ومعناه: يعدكم الله أن يحييكم بعد مماتكم وعدًا حقًّا، فلذلك نصب ( وعد الله حقا ) ( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) يقول تعالى ذكره: إن ربكم يبدأ إنشاء الخلق وإحداثه وإيجاده ( ثم يعيده ) ، يقول : ثم يعيده فيوجده حيًّا كهيئته يوم ابتدأه ، بعد فنائه وبَلائِه. كما:- حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يبدأ الخلق ثم يعيده ) ، قال: يحييه ثم يميته قال أبو جعفر: وأحسبه أنا قال: « ثم يحييه » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: ( يبدأ الخلق ثم يعيده ) ، قال: يحييه ثم يميته، ثم يحييه. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) ، : يحييه ، ثم يميته، ثم يبدؤه ، ثم يحييه. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، بنحوه. وقرأت قراء الأمصار ذلك: ( إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ) ، بكسر الألف من ( إنه ) ، على الاستئناف. وذكر عن أبي جعفر الرازي أنه قرأه ( أَنَّهُ ) بفتح الألف من ( أنه ) . كأنه أراد: حقًّا أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، ف « أنّ » حينئذ تكون رفعًا، كما قال الشاعر: أحَقًّــا عِبَـادَ اللـهِ أَنْ لَسْـتُ زَائِـرًا رُبَــى جَنَّــة إِلا عَــلَيَّ رَقِيــبُ وقوله: ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ) ، يقول: ثم يعيده من بعد مماته كهيئته قبل مماته عند بعثه من قبره ( ليجزي الذين آمنوا ) ليثيب من صدّق الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به من الأعمال ، واجتنبوا ما نهاهم عنه ، على أعمالهم الحسنة ( بالقسط ) يقول: ليجزيهم على الحسن من أعمالهم التي عملوها في الدنيا الحسنَ من الثواب ، والصالحَ من الجزاء في الآخرة وذلك هو « القسط » ، و « القسط » العدلُ والإنصاف، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بالقسط ) ، بالعدل. وقوله: ( والذين كفروا لهم شَرَاب من حميم ) ، فإنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عما أعدَّ الله للذين كفروا من العذاب، وفيه معنى العطف على الأول. لأنه تعالى ذكره عمَّ بالخبر عن معادِ جميعهم ، كفارهم ومؤمنيهم ، إليه. ثم أخبر أن إعادتهم ليجزي كلَّ فريق بما عمل المحسنَ منهم بالإحسان ، والمسيءَ بالإساءة. ولكن لما كان قد تقدم الخبر المستأنفُ عما أعدّ للذين كفروا من العذاب ، ما يدلُّ سامعَ ذلك على المرادِ ، ابتدأ الخبر ، والمعنيُّ العطف فقال: والذين جحدوا الله ورسولَه وكذبوا بآيات الله ( لهم شراب ) في جهنم ( من حميم ) وذلك شراب قد أُغلي واشتدّ حره ، حتى إنه فيما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ليتساقطُ من أحدهم حين يدنيه منه فروةُ رأسه، وكما وصفه جل ثناؤه: كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ، [ سورة الكهف: 29 ] . وأصله : « مفعول » صرف إلى « فعيل » ، وإنما هو « محموم » : أي مسخّن، وكل مسخَّن عند العرب فهو حميم، ومنه قول المرقش: وَكُـــلُّ يَـــوْمٍ لَهَــا مِقْطَــرَةٌ فِيهَـــا كِبَــاءٌ مُعَــدٌّ وَحَــمِيمْ يعني ب « الحميم » ، الماء المسخَّن. وقوله: ( عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ، يقول: ولهم مع ذلك عذاب موجع، سوى الشراب من الحميم، بما كانوا يكفرون بالله ورسوله. القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 5 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض ( هو الذي جعل الشمس ضياء ) ، بالنهار ( والقمر نورًا ) بالليل. ومعنى ذلك: هو الذي أضاء الشمسَ وأنار القمر ( وقدّره منازل ) ، يقول: قضاه فسوّاه منازلَ ، لا يجاوزها ولا يقصر دُونها ، على حالٍ واحدةٍ أبدًا. وقال: ( وقدّره منازل ) ، فوحّده، وقد ذكر « الشمس » و « القمر » ، فإن في ذلك وجهين: أحدهما : أن تكون « الهاء » في قوله: ( وقدره ) للقمر خاصة، لأن بالأهلة يُعرف انقضاءُ الشهور والسنين ، لا بالشمس. والآخر: أن يكون اكتفي بذكر أحدهما عن الآخر، كما قال في موضع آخر: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ، [ سورة التوبة: 62 ] ، وكما قال الشاعر: رَمَـانِي بِـأَمْرٍ كُـنْتُ مِنْـهُ وَوَالِـدِي بَرِيًّـا, وَمِـنْ جُـولِ الطَّـوِيِّ رَمَانِي وقوله: ( لتعلموا عدد السنين والحساب ) ، يقول: وقدّر ذلك منازل ( لتعلموا ) ، أنتم أيها الناس ( عدد السنين ) ، دخول ما يدخل منها، أو انقضاءَ ما يستقبل منها ، وحسابها يقول: وحساب أوقات السنين ، وعدد أيامها، وحساب ساعات أيامها ( مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ ) ، يقول جل ثناؤه: لم يخلق الله الشمس والقمر ومنازلهما إلا بالحق. يقول الحق تعالى ذكره: خلقت ذلك كله بحقٍّ وحدي، بغير عون ولا شريك ( يفصل الآيات ) يقول: يبين الحجج والأدلة ( لقوم يعلمون ) ، إذا تدبروها، حقيقةَ وحدانية الله وصحةَ ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، من خلع الأنداد ، والبراءة من الأوثان. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ( 6 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، منبِّهًا عبادَه على موضع الدّلالة على ربوبيته ، وأنه خالق كلِّ ما دونه: إن في اعتقاب الليل النهارَ ، واعتقاب النهار الليلَ، . إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب هذا، وفيما خلق الله في السماوات من الشمس والقمر والنجوم ، وفي الأرض من عجائب الخلق الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء ( لآيات ) ، يقول : لأدلة وحججًا وأعلامًا واضحةً ( لقوم يتقون ) الله، فيخافون وعيده ويخشون عقابه على إخلاص العبادة لربهم. فإن قال قائل: أوَ لا دلالة فيما خلق الله في السماوات والأرض على صانعه ، إلا لمن اتقى الله؟ قيل: في ذلك الدلالة الواضحةُ على صانعه لكل من صحَّت فطرته، وبرئ من العاهات قلبه. ولم يقصد بذلك الخبرَ عن أن فيه الدلالة لمن كان قد أشعرَ نفسه تقوى الله وإنما معناه: إن في ذلك لآيات لمن اتَّقى عقاب الله ، فلم يحمله هواه على خلاف ما وضحَ له من الحق، لأن ذلك يدلُّ كل ذي فطرة صحيحة على أن له مدبِّرًا يستحقّ عليه الإذعان له بالعبودة ، دون ما سواه من الآلهة والأنداد. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ( 7 ) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 8 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يخافون لقاءَنا يوم القيامة، فهم لذلك مكذِّبون بالثواب والعقاب، متنافسون في زين الدنيا وزخارفها، راضُون بها عوضًا من الآخرة، مطمئنين إليها ساكنين والذين هم عن آيات الله وهي أدلته على وحدانيته، وحججه على عباده ، في إخلاص العبادة له ( غافلون ) ، معرضون عنها لاهون، لا يتأملونها تأمُّل ناصح لنفسه، فيعلموا بها حقيقة ما دلَّتهم عليه، ويعرفوا بها بُطُول ما هم عليه مقيمون ( أولئك مأواهم النار ) ، يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم ( مأواهم ) ، مصيرهم إلى النار نار جهنم في الآخرة ( بما كانوا يكسبون ) ، في الدنيا من الآثام والأجْرام، ويجْترحون من السيئات. والعرب تقول: « فلان لا يرجو فلانًا » : إذا كان لا يخافه. ومنه قول الله جل ثناؤه: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا . [ سورة نوح: 13 ] ، ومنه قول أبي ذؤيب: إِذَا لَسَـعَتْهُ النَّحْـلُ لَـمْ يُـرْج لَسْـعَهَا وَخَالَفهَـا فِـي بَيْـتِ نُـوب عَوَاسِـلِ وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واطمأنوا بها ) ، قال: هو مثل قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ) ، قال: هو مثل قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا [ سورة هود: 15 ] . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون ) ، قال: إذا شئتَ رأيتَ صاحب دُنْيا، لها يفرح، ولها يحزن، ولها يسخط، ولها يرضى. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ) ، الآية كلها، قال: هؤلاء أهل الكفر. ثم قال: ( أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ) . القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 9 ) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 10 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، إن الذين صدَّقوا الله ورسوله ( وعملوا الصالحات ) ، وذلك العمل بطاعة الله والانتهاء إلى أمره ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) ، يقول: يرشدهم ربهم بإيمانهم به إلى الجنة، كما:- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ) بلغنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة حَسَنة فيقول له: ما أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ صِدْقٍ! فيقول: أنا عملك! فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة. وأما الكافر إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة سيئة وشارة سيئة فيقول: ما أنت ؟ فوالله إني لأراك امرأ سَوْء! فيقول: أنا عملك! فينطلق به حتى يدخله النار. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) ، قال: يكون لهم نورًا يمشون به. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح. عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله وقال ابن جريج: ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) ، قال: يَمْثُل له عمله في صورة حسنة وريحٍ طيبة، يعارِض صاحبه ويبشره بكل خير، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك! فيجعل له نورًا من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله: ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) . والكافر يَمْثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيلازم صاحبه ويُلازُّهُ حتى يقذفه في النار. وقال آخرون: معنى ذلك: بإيمانهم ، يهديهم ربهم لدينه. يقول: بتصديقهم هَدَاهم. ذكر من قال ذلك: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: ( تجري من تحتهم الأنهار ) ، يقول: تجري من تحت هؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم ، أنهار الجنة ( في جنات النعيم ) ، يقول في بساتين النعيم ، الذي نعَّم الله به أهل طاعته والإيمان به. فإن قال قائل: وكيف قيل : ( تجري من تحتهم الأنهار ) ، وإنما وصف جل ثناؤه أنهار الجنة في سائر القرآن أنها تجري تحت الجنات؟ وكيف يمكن الأنهار أن تجري من تحتهم ، إلا أن يكونوا فوق أرضها والأنهار تجري من تحت أرضها؟ وليس ذلك من صفة أنهار الجنة، لأن صفتها أنها تجري على وجه الأرض في غير أخاديد؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى ذلك: تجري من دونهم الأنهار إلى ما بين أيديهم في بساتين النعيم، وذلك نظير قول الله: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [ سورة مريم: 24 ] . ومعلوم أنه لم يجعل « السري » تحتها وهي عليه قاعدة إذ كان « السري » هو الجدول وإنما عني به : جعل دونها: بين يديها، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل فرعون، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ، [ سورة الزخرف: 51 ] ، بمعنى: من دوني، بين يديّ. وأما قوله: ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) ، فإن معناه: دعاؤهم فيها : سبحانك اللهم، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله: ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) ، قال: إذا مرّ بهم الطيرُ يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم! وذلك دعواهم، فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فيسلم عليهم فيردّون عليه، فذلك قوله: ( وتحيتهم فيها سلام ) . قال: فإذا أكلوا حمدوا الله ربّهم، فذلك قوله: ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) . حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) ، يقول: ذلك قولهم فيها ( وتحيتهم فيها سلام ) . حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبيد الله الأشجعي قال: سمعت سفيانا يقول: ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام ) ، قال: إذا أرادوا الشيء قالوا: « اللهم » ، فيأتيهم ما دَعَوا به. وأما قوله: ( سبحانك اللهم ) ، فإن معناه: تنـزيها لك ، يا رب ، مما أضاف إليك أهل الشرك بك ، من الكذب عليك والفِرْية. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي. عن غير واحدٍ عطيةُ فيهم: « سبحان الله » تنـزيهٌ لله. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن « سبحان الله » ، قال: إبراء الله عن السوء. حدثنا أبو كريب ، وأبو السائب ، وخلاد بن أسلم قالوا، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا قابوس، عن أبيه: أن ابن الكوّاء سأل عليًّا رضي الله عنه عن « سبحان الله » ، قال: كلمة رضيها الله لنفسه. حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي قال ، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان بن سعيد الثوري ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب الطلحي، عن موسى بن طلحة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن « سبحان الله » ، فقال: تنـزيهًا لله عن السوء. حدثني علي بن عيسى البزار قال ، حدثنا عبيد الله بن محمد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن حماد قال ، حدثني حفص بن سليمان قال ، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير « سبحان الله » ، فقال: هو تنـزيه الله من كل سوء. حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي قال ، حدثنا سليمان بن أيوب قال : حدثني أبي، عن جدي، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله ، قول « سبحان الله » ؟ قال: تنـزيه الله عن السوء. ( وتحيتهم ) ، يقول: وتحية بعضهم بعضًا ( فيها سلام ) ، أي : سَلِمْتَ وأمِنْتَ مما ابتُلي به أهل النار. والعرب تسمي الملك « التحية » ، ومنه قول عمرو بن معد يكرب: أَزُورُ بِهَــا أَبَــا قَــابُوسَ حَـتَّى أُنِيــخَ عَــلَى تَحِيَّتِــهِ بِجُــنْدِي ومنه قول زهير بن جناب الكلبي: مِــنْ كُــلِّ مَــا نَــالَ الفَتَــى قَــــدْ نِلْتُــــهُ إلا التَّحِيَّـــهْ وقوله: ( وآخر دعواهم ) ، يقول: وآخر دعائهم ( أن الحمد لله رب العالمين ) ، يقول: وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين « ، ولذلك خففت » أن « ولم تشدّد لأنه أريد بها الحكاية. » القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 11 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولو يعجل الله للناس إجابةَ دعائهم في الشرّ ، وذلك فيما عليهم مضرّة في نفس أو مال ( استعجالهم بالخير ) ، يقول: كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به ( لقضي إليهم أجلهم ) ، يقول: لهلكوا ، وعُجِّل لهم الموت، وهو الأجل. وعني بقوله: ( لقضي ) ، لفرغ إليهم من أجلهم ، ونُبذ إليهم، كما قال أبو ذؤيب: وَعَلَيْهِمَــا مَسْــرُودَتَانِ قَضَاهُمَــا دَاوُدُ , أَوْ صَنَــعُ السَّــوَابِغِ تُبَّــعُ ( فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ) ، يقول: فندع الذين لا يخافون عقابنا ، ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور، ( في طغيانهم ) ، يقول: في تمرّدهم وعتوّهم، ( يعمهون ) يعني: يترددون. وإنما أخبر جل ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم ، من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشرّ لو استجاب لهم ، أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرُّب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) ، قال: قولُ الإنسان إذا غضب لولده وماله: « لا باركَ الله فيه ولعنه » ! حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) ، قال: قولُ الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: « اللهم لا تبارك فيه والعنه » ! فلو يعجّل الله الاستجابة لهم في ذلك، كما يستجاب في الخير لأهلكهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) ، قال: قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: « اللهم لا تبارك فيه والعنه » ( لقضي إليهم أجلهم ) قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) ، قال: قول الرجل لولده إذا غضب عليه أو ماله: « اللهم لا تبارك فيه والعنه » ! قال الله: ( لقضي إليهم أجلهم ) ، قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته. قال: ( فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ) ، قال يقول: لا نهلك أهل الشرك، ولكن نذرهم في طغيانهم يعمهون. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قوله: ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) ، قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( لقضي إليهم أجلهم ) ، قال: لأهلكناهم. وقرأ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ، [ سورة فاطر: 45 ] . قال: يهلكهم كلهم. ونصب قوله : ( استعجالهم ) ، بوقوع ( يعجل ) عليه، كقول القائل: « قمت اليوم قيامَك » بمعنى : قمت كقيامك، وليس بمصدّرٍ من ( يعجل ) ، لأنه لو كان مصدّرًا لم يحسن دخول « الكاف » أعني كاف التشبيه فيه. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( لقضي إليهم أجلهم ) . فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: ( لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله ، بضم القاف من « قضي » ، ورفع « الأجل » . وقرأ عامة أهل الشأم: ( لَقَضَى إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ ) ، بمعنى: لقضى الله إليهم أجلهم. قال أبو جعفر: وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أني أقرؤه على وجه ما لم يسمَّ فاعله، لأن عليه أكثر القراء. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 12 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وإذا أصاب الإنسان الشدة والجهد ( دعانا لجنبه ) ، يقول: استغاث بنا في كشف ذلك عنه ( لجنبه ) ، يعني مضطجعًا لجنبه. ( أو قاعدًا أو قائمًا ) بالحال التي يكون بها عند نـزول ذلك الضرّ به ( فلما كشفنا عنه ضره ) ، يقول: فلما فرّجنا عنه الجهد الذي أصابه ( مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) ، يقول: استمرَّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء أو تناساه، وترك الشكر لربه الذي فرّج عنه ما كان قد نـزل به من البلاء حين استعاذ به، وعاد للشرك ودَعوى الآلهةِ والأوثانِ أربابًا معه. يقول تعالى ذكره: ( كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون ) ، يقول: كما زُيِّن لهذا الإنسان الذي وصفنا صفتَه ، استمرارُه على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر، كذلك زُيّن للذين أسرفوا في الكذِب على الله وعلى أنبيائه، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به، ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك وبه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: ( دعانا لجنبه ) ، قال: مضطجعًا. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 13 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولقد أهلكنا الأمم التي كذبت رسل الله من قبلكم أيها المشركون بربهم ( لما ظلموا ) ، يقول: لما أشركوا وخالفوا أمر الله ونهيه ( وجاءتهم رسلهم ) من عند الله، ( بالبينات ) ، وهي الآيات والحجج التي تُبين عن صِدْق من جاء بها. ومعنى الكلام: وجاءتهم رسلهم بالآيات البينات أنها حق ( وما كانوا ليؤمنوا ) يقول: فلم تكن هذه الأمم التي أهلكناها ليؤمنوا برسلهم ويصدِّقوهم إلى ما دعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له ( وكذلك نجزي المجرمين ) ، يقول تعالى ذكره: كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم ، أيها المشركون ، بظلمهم أنفسَهم ، وتكذيبهم رسلهم ، وردِّهم نصيحتَهم، كذلك أفعل بكم فأهلككم كما أهلكتهم بتكذيبكم رسولكم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وظلمكم أنفسكم بشرككم بربكم، إن أنتم لم تُنيبوا وتتوبوا إلى الله من شرككم فإن من ثواب الكافر بي على كفره عندي ، أن أهلكه بسَخَطي في الدنيا ، وأوردُه النار في الآخرة. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( 14 ) قال أبو جعفر يقول تعالى ذكره: ثم جعلناكم ، أيها الناس، خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا ، تخلفونهم في الأرض، وتكونون فيها بعدهم ( لننظر كيف تعملون ) ، يقول: لينظر ربكم أين عملكم من عمل من هلك من قبلكم من الأمم بذنوبهم وكفرهم بربهم، تحتذون مثالهم فيه، فتستحقون من العقاب ما استحقوا، أم تخالفون سبيلَهم فتؤمنون بالله ورسوله وتقرّون بالبعث بعد الممات، فتستحقون من ربكم الثواب الجزيل، كما:- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) ، ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صدق ربُّنا ، ما جعلنا خُلفاء إلا لينظر كيف أعمالُنا، فأرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار ، والسر والعلانية. حدثني المثنى قال ، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد قال ، حدثنا حماد عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عوف بن مالك رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه: رأيتُ فيما يرى النائم كأن سببًا دُلِّي من السماء ، فانتُشِط رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دُلِّي فانتُشِط أبو بكر، ثم ذُرِع الناس حول المنبر، ففضَل عمر رضي الله عنه بثلاث أذرع إلى المنبر. فقال عمر: دعنا من رؤياك، لا أرَبَ لنا فيها ! فلما استخلف عمر قال: يا عوف ، رؤياك! قال: وهل لك في رؤياي من حاجة؟ أو لم تنتهرني! قال: ويحك ! إني كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ! فقصّ عليه الرؤيا، حتى إذا بلغ : « ذُرِع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع » ، قال: أمّا إحداهن ، فإنه كائن خليفةً. وأما الثانية ، فإنه لا يخاف في الله لومة لائم. وأما الثالثة ، فإنه شهيد. قال: فقال يقول الله: ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) ، فقد استخلفت يا ابن أم عمر، فانظر كيف تعمل. وأما قوله: « فإني لا أخاف في الله لومة لائم » فما شاء الله. وأما قوله: « فإني شهيد » فأنَّى لعمر الشهادة ، والمسلمون مُطِيفون به! ثم قال : إن الله على ما يشاء قدير. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 15 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتاب الله الذي أنـزلنَاه إليك ، يا محمد ( بينات ) ، واضحات ، على الحق دالاتٍ ( قال الذين لا يرجون لقاءنا ) ، يقول: قال الذين لا يخافون عقابنا ، ولا يوقنون بالمعاد إلينا ، ولا يصدّقون بالبعث ، لك ( ائت بقرآن غير هذا أو بدّله ) ، يقول: أو غيِّره ( قل ) لهم ، يا محمد ( ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ) ، أي: من عندي. والتبديل الذي سألوه ، فيما ذكر، أن يحوّل آية الوعيد آية وعد ، وآية الوعد وعيدًا والحرامَ حلالا والحلال حرامًا، فأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن ذلك ليس إليه، وأن ذلك إلى من لا يردّ حكمه ، ولا يُتَعَقَّب قضاؤه، وإنما هو رسول مبلّغ ومأمور مُتّبع. وقوله: ( إن أتبع إلا ما يوحى إليّ ) ، يقول: قل لهم: ما أتبع في كل ما آمركم به أيها القوم ، وأنهاكم عنه ، إلا ما ينـزله إليّ ربي ، ويأمرني به ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) ، يقول: إني أخشى من الله إن خالفت أمره ، وغيَّرت أحكام كتابه ، وبدّلت وَحيه، فعصيته بذلك، عذابَ يوم عظيمٍ هَوْلُه، وذلك: يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتَضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 16 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه ، معرِّفَه الحجةَ على هؤلاء المشركين الذين قالوا له : ( ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) ( قل ) لهم ، يا محمد ( لو شاء الله ما تلوته عليكم ) ، أي: ما تلوت هذا القرآن عليكم ، أيها الناس ، بأن كان لا ينـزله عليَّ فيأمرني بتلاوته عليكم ( ولا أدراكم به ) ، يقول: ولا أعلمكم به ( فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله ) يقول: فقد مكثت فيكم أربعين سنة من قبل أن أتلوَه عليكم ، ومن قبل أن يوحيه إليّ ربي ( أفلا تعقلون ) ، أني لو كنت منتحلا ما ليس لي من القول، كنت قد انتحلته في أيّام شبابي وحَداثتي ، وقبل الوقت الذي تلوته عليكم؟ فقد كان لي اليوم ، لو لم يوح إليّ وأومر بتلاوته عليكم ، مندوحةٌ عن معاداتكم ، ومتّسَعٌ، في الحال التي كنت بها منكم قبل أن يوحى إلي وأومر بتلاوته عليكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ولا أدراكم به ) ، ولا أعلمكم. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ) ، يقول: لو شاء الله لم يعلمكموه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ) ، يقول: ما حذَّرتكم به. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ، وهو قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله أفلا تعقلون ) ، لبث أربعين سنة. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ) ، ولا أعلمكم به. حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، أنه كان يقرأ: ( وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ ) ، يقول: ما أعلمتكم به. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ولا أدراكم به ) ، يقول: ولا أشعركم الله به. قال أبو جعفر: وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن ، عند أهل العربية غلطٌ. وكان الفرّاء يقول في ذلك : قد ذكر عن الحسن أنه قال: ( وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ ) . قال: فإن يكن فيها لغة سوى « دريت » و « أدريت » ، فلعل الحسن ذهب إليها. وأما أن تصلح من « دريت » أو « أدريت » فلا لأن الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحتا ولم تنقلبا إلى ألف ، مثل « قضيت » و « دعوت » . ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها، لأنها تضارع « درأت الحد » ، وشبهه. وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز فيهمزون غير المهموز. وسمعت امرأة من طيّ تقول: « رثَأْتُ زوجي بأبيات » ، ويقولون: « لبّأتُ بالحجّ » و « حلأت السويق » ، فيغلطون، لأن « حلأت » ، قد يقال في دفع العطاش، من الإبل، و « لبأت » : ذهبت به إلى « اللبأ » لِبَأ الشاء، و « رثأت زوجي » ، ذهبت به إلى « رثأت اللبن » ، إذا أنت حلبت الحليب على الرائب، فتلك « الرثيثة » . وكان بعض البصريين يقول: لا وجه لقراءة الحسن هذه لأنها من « أدريت » مثل « أعطيت » ، إلا أن لغةً لبني عقيل : « أعطَأتُ » ، يريدون: « أعطيت » ، تحوّل الياء ألفًا، قال الشاعر: لَقَــدْ آذَنَــتْ أَهْـلُ الْيَمَاَمَـةِ طَيِّـئٌ بِحَــرْبٍ كَنَاصَـاةِ الأَغَـرِّ المُشَـهَّرِ يريد: كناصية، حكي ذلك عن المفضّل، وقال زيد الخيل: لَعَمْـرُكَ مَـا أَخْشَـى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَا عَـلَى الأَرْضِ قَيْسِـيٌّ يَسُـوقُ الأَبَاعِرَا فقال « بقا » ، وقال الشاعر : لَزَجَــرْتُ قَلْبًــا لا يَـرِيعُ لِزَاجِـرٍ إِنَّ الغَــوِيَّ إِذَا نُهَــا لَــمْ يَعْتِـبِ يريد « نُهِي » . قال: وهذا كله على قراءة الحسن، وهي مرغوب عنها، قال: وطيئ تصيِّر كل ياء انكسر ما قبلها ألفًا، يقولون: « هذه جاراة » ، وفي « الترقوة » « ترقاة » و « العَرْقوة » « عرقاة » . قال: وقال بعض طيئ: « قد لَقَت فزارة » ، حذف الياء من « لقيت » لما لم يمكنه أن يحوّلها ألفًا ، لسكون التاء ، فيلتقي ساكنان. وقال: زعم يونس أن « نَسَا » و « رضا » لغة معروفة، قال الشاعر: وَأُبْنِيْـتُ بِـالأَعْرَاض ذَا الْبَطْـنِ خالِدًا نَسَــا أوْ تَنَاسَــى أَنْ يَعُـدَّ المَوَالِيَـا ورُوي عن ابن عباس في قراءة ذلك أيضًا روايةٌ أخرى، وهي ما:- حدثنا به المثنى قال ، حدثنا المعلى بن أسد قال ، حدثنا خالد بن حنظلة عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس : أنه كان يقرأ: ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ ) . قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نستجيزُ أن نعدوها ، هي القراءة التي عليها قراء الأمصار: ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ ) ، بمعنى: ولا أعلمكم به، ولا أشعركم به. القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ( 17 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين الذين نسبوك فيما جئتهم به من عند ربّك إلى الكذب: أيُّ خلق أشدُّ تعدّيًا ، وأوضع لقيله في غير موضعه، ممن اختلق على الله كذبًا ، وافترى عليه باطلا ( أو كذب بآياته ) يعني بحججه ورسله وآيات كتابه؟ يقول له جل ثناؤه: قل لهم : ليس الذي أضفتموني إليه بأعجب من كذبكم على ربكم ، وافترائكم عليه ، وتكذيبكم بآياته ( إنه لا يفلح المجرمون ) ، يقول: إنه لا ينجح الذين اجترموا الكفر في الدنيا يوم القيامة ، إذا لقوا ربّهم، ولا ينالون الفلاح. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 18 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ويعبُد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك ، يا محمد صفتهم ، من دون الله الذي لا يضرهم شيئًا ولا ينفعهم ، في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها ( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ، يعني: أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: ( قل ) لهم ( أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ) ، يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟ وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما؟ وذلك باطلٌ لا تعلم حقيقته وصحته، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون ، وأنها لا تشفع لأحد ، ولا تنفع ولا تضر ( سبحان الله عما يشركون ) ، يقول: تنـزيهًا لله وعلوًّا عما يفعله هؤلاء المشركون ، من إشراكهم في عبادته ما لا يضر ولا ينفع ، وافترائهم عليه الكذب. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 19 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان الناس إلا أهل دين واحد وملة واحدة فاختلفوا في دينهم، فافترقت بهم السبل في ذلك ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) ، يقول: ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قوما إلا بعد انقضاء آجالهم « لقضي بينهم فيما فيه يختلفون » يقول: لقضي بينهم بأن يُهلِك أهل الباطل منهم، وينجي أهل الحق . وقد بينا اختلاف المختلفين في معنى ذلك في « سورة البقرة » ، وذلك في قوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ، [ سورة البقرة: 213 ] ، وبينا الصواب من القول فيه بشواهده ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) ، حين قتل أحدُ ابني آدم أخاه. حدثني المثنى قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، بنحوه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. القول في تأويل قوله : وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 20 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون: هلا أنـزل على محمد آيةٌ من ربه يقول: عَلَمٌ ودليلٌ نعلم به أن محمدًا محق فيما يقول؟ قال الله له: ( فقل ) يا محمد ( إنما الغيب لله ) ، أي : لا يُعلم أحدٌ يفعل ذلك إلا هو جل ثناؤه، لأنه لا يعلم الغيب وهو السرُّ والخفيّ من الأمور إلا الله ، فانتظروا أيها القوم ، قضاءَ الله بيننا ، بتعجيل عقوبته للمبطل منا ، وإظهاره المحقَّ عليه، إني معكم ممن ينتظر ذلك. ففعل ذلك جل ثناؤه فقضى بينهم وبينه بأن قتلهم يوم بدرٍ بالسيف. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ( 21 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا رزقنا المشركين بالله فرجًا بعد كرب ، ورخاء بعد شدّة أصابتهم. وقيل: عنى به المطر بعد القحط، و « الضراء » : وهي الشدة، و « الرحمة » : هي الفرج. يقول: ( إذا لهم مكر في آياتنا ) ، استهزاء وتكذيبٌ ، كما:- حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إذا لهم مكر في آياتنا ) قال: استهزاء وتكذيب. . . . قال: حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقوله: ( قل الله أسرع مكرًا ) يقول تعالى ذكره: ( قل ) لهؤلاء المشركين المستهزئين من حججنا وأدلتنا ، يا محمد ( الله أسرع مكرًا ) ، أي : أسرع مِحَالا بكم ، واستدراجًا لكم وعقوبةً، منكم ، من المكر في آيات الله. والعرب تكتفي ب « إذا » من « فعلت » و « فعلوا » ، فلذلك حُذِف الفعل معها. وإنما معنى الكلام: ( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ) ، مكروا في آياتنا فاكتفى من « مكروا » ، ب « إذا لهم مكر » . ( إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) ، يقول: إن حفظتنا الذين نرسلهم إليكم ، أيها الناس ، يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا. القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 22 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي يسيركم، أيها الناس ، في البر على الظهر وفي البحر في الفلك ( حتى إذا كنتم في الفلك ) ، وهي السفن ( وجرين بهم ) يعني: وجرت الفلك بالناس ( بريح طيبة ) ، في البحر ( وفرحوا بها ) ، يعني: وفرح ركبان الفلك بالريح الطيبة التي يسيرون بها. و « الهاء » في قوله: « بها » عائدة على « الريح الطيبة » . ( جاءتها ريح عاصف ) ، يقول: جاءت الفلك ريحٌ عاصف، وهي الشديدة. والعرب تقول: « ريح عاصف ، وعاصفة » ، و « وقد أعصفت الريح ، وعَصَفت » و « أعصفت » ، في بني أسد، فيما ذكر، قال بعض بني دُبَيْر: حَـتَّى إِذَا أَعْصَفَـتْ رِيـحٌ مُزَعْزِعَـةٌ فِيهَـا قِطَـارٌ وَرَعْـدٌ صَوْتُـهُ زَجِـلُ ( وجاءهم الموج من كل مكان ) يقول تعالى ذكره: وجاء ركبانَ السفينة الموجُ من كل مكان ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) ، يقول: وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق ( دعوا الله مخلصين له الدين ) ، يقول: أخلصوا الدعاء لله هنالك ، دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها، كما:- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: ( دعوا الله مخلصين له الدين ) ، قال: إذا مسّهم الضرُّ في البحر أخلصوا له الدعاء. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة في قوله: ( مخلصين له الدين ) ، « هيا شرا هيا » تفسيره: يا حي يا قوم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا كان الضر لم يدعوا إلا الله، فإذا نجاهم إذا هم يشركون . ( لئن أنجيتنا ) من هذه الشدة التي نحن فيها ( لنكونن من الشاكرين ) ، لك على نعمك ، وتخليصك إيانا مما نحن فيه ، بإخلاصنا العبادة لك ، وإفراد الطاعة دون الآلهة والأنداد. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( هو الذي يسيركم ) فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ ) من « السير » بالسين. وقرأ ذلك أبو جعفر القاري: ( هُوَ الَّذِي يَنْشُرُكُمْ ) ، من « النشر » ، وذلك البسط، من قول القائل: « نشرت الثوب » ، وذلك بسطه ونشره من طيّه. فوجّه أبو جعفر معنى ذلك إلى أن الله يبعث عباده فيبسطهم برًّا وبحرًا وهو قريب المعنى من « التسيير » . وقال: ( وجرين بهم بريح طيبة ) ، وقال في موضع آخر: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [ سورة يس: 41 ] فوحد . والفلك: اسم للواحدة ، والجماع ، ويذكر ويؤنث. قال: ( وجرين بهم ) ، وقد قال ( هو الذي يسيركم ) فخاطب ، ثم عاد إلى الخبر عن الغائب. وقد بينت ذلك في غير موضع من الكتاب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وجواب قوله: ( حتى إذا كنتم في الفلك ) ( جاءتها ريح عاصف ) . وأما جواب قوله: ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) ف ( دعوا الله مخلصين له الدين ) . القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 23 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنُّوا في البحر أنهم أحيط بهم ، من الجهد الذي كانوا فيه، أخلفوا الله ما وعدُوه، وبغوا في الأرض، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه ، من الكفر به ، والعمل بمعاصيه على ظهرها. يقول الله: يا أيها الناس ، إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم ، وإياها تظلمون. وهذا الذي أنتم فيه ( متاع الحياة الدنيا ) ، يقول: ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم. وعلى هذا التأويل، « البغي » يكون مرفوعًا بالعائد من ذكره في قوله: ( على أنفسكم ) ويكون قوله ( متاع الحياة الدنيا ) ، مرفوعًا على معنى: ذلك متاع الحياة الدنيا، كما قال: لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ ، [ سورة الأحقاف: 35 ] ، بمعنى: هذا بلاغ. وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم، لأنكم بكفركم تكسبونها غضبَ الله، متاع الحياة الدنيا، كأنه قال: إنما بغيكم متاعُ الحياة الدنيا، فيكون « البغي » مرفوعًا ب « المتاع » ، و « على أنفسكم » من صلة « البغي » . وبرفع « المتاع » قرأت القراء سوى عبد الله بن أبي إسحاق ، فإنه نصبه ، بمعنى: إنما بغيكم على أنفسكم متاعًا في الحياة الدنيا، فجعل « البغي » مرفوعًا بقوله: ( على أنفسكم ) ، و « المتاع » منصوبًا على الحال. وقوله: ( ثم إلينا مرجعكم ) يقول: ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم، وذلك بعد الممات يقول: فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 24 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما مثل ما تباهون في الدنيا وتفاخرون به من زينتها وأموالها ، مع ما قد وُكِّلَ بذلك من التكدير والتنغيص وزواله بالفناء والموت، كمثل ماءٍ أنـزلناه من السماء، يقول: كمطر أرسلناه من السماء إلى الأرض ( فاختلط به نبات الأرض ) ، يقول: فنبت بذلك المطر أنواعٌ من النبات ، مختلطٌ بعضها ببعض، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: ( إنما مَثَل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) ، قال: اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس ، كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار، وما يأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي. وقوله: ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) يعني: ظهر حسنها وبهاؤها ( وازينت ) ، يقول : وتزينت ( وظن أهلها ) ، يعني: أهل الأرض ( أنهم قادرون عليها ) ، يعني: على ما أنبتت. وخرج الخبر عن « الأرض » والمعنى للنبات، إذا كان مفهوما بالخطاب ما عُنِي به. وقوله: ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارًا ) ، يقول: جاء الأرض « أمرنا » ، يعني : قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إما ليلا وإما نهارًا ( فجعلناها ) ، يقول: فجعلنا ما عليها ( حصيدًا ) يعني: مقطوعة مقلوعة من أصولها. وإنما هي « محصودة » صرفت إلى « حصيد » . ( كأن لم تغن بالأمس ) ، يقول: كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتةً قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس. وأصله: من « غَنِيَ فلان بمكان كذا ، يَغْنَى به » ، إذا أقام به، كما قال النابغة الذبياني: غَنِيَــتْ بِـذَلِكَ إِذْ هُـمُ لَـكَ جِـيرَةٌ مِنْهَــا بِعَطْــفِ رِسَــالَةٍ وَتَـوَدُّد يقول: فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم وزخارفها، فيفنيها ويهلكها كما أهلك أمرُنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها ، حتى صارت كأن لم تغن بالأمس، كأن لم تكن قبل ذلك نباتًا على ظهرها. يقول الله جل ثناؤها: ( كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) ، يقول: كما بينَّا لكم أيها الناس ، مثل الدنيا وعرّفناكم حكمها وأمرها، كذلك نُبين حججنا وأدلَّتنا لمن تفكَّر واعتبر ونظر. وخصَّ به أهل الفكر، لأنهم أهل التمييز بين الأمور ، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشُّبَه في الصدور. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) ، الآية، : أي والله، لئن تشبَّثَ بالدنيا وحَدِب عليها ، لتوشك الدنيا أن تلفظه وتقضي منه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وازينت ) ، قال : أنبتت وحسُنَت . حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: سمعت مروان يقرأ على المنبر هذه الآية: ( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا ) ، قال: قد قرأتها، وليست في المصحف. فقال عباس بن عبد الله بن العباس: هكذا يقرؤها ابن عباس. فأرسلوا إلى ابن عباس فقال: هكذا أقرأني أبيُّ بن كعب. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة: ( كأن لم تغن بالأمس ) ، يقول : كأن لم تعشْ ، كأن لم تَنْعَم. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : في قراءة أبيّ : ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ وَمَا أَهْلَكْنَاهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) واختلفت القراء في قراءة قوله: ( وازينت ) . فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: ( وَازَّيَّنَتْ ) بمعنى: وتزينت، ولكنهم أدغموا التاء في الزاي لتقارب مخرجيهما، وأدخلوا ألفا ليوصل إلى قراءته، إذ كانت التاء قد سكنت ، والساكن لا يُبْتَدأ به. وحكي عن أبي العالية ، وأبي رجاء ، والأعرج ، وجماعة أخر غيرهم ، أنهم قرءوا ذلك: ( وَأَزْيَنَتْ ) على مثال « أفعلت » . قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك: ( وَازَّيَّنَتْ ) لإجماع الحجة من القراء عليها. القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 25 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لعباده: أيها الناس ، لا تطلبوا الدنيا وزينتَها، فإن مصيرها إلى فناءٍ وزوالٍ ، كما مصير النبات الذي ضربه الله لها مثلا إلى هلاكٍ وبَوَارٍ، ولكن اطلبوا الآخرة الباقية، ولها فاعملوا، وما عند الله فالتمسوا بطاعته، فإن الله يدعوكم إلى داره، وهي جناته التي أعدَّها لأوليائه، تسلموا من الهموم والأحزان فيها، وتأمنوا من فناء ما فيها من النَّعيم والكرامة التي أعدَّها لمن دخلها، وهو يهدي من يشاء من خلقه فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم، وهو الإسلام الذي جعله جل ثناؤه سببًا للوصول إلى رضاه ، وطريقًا لمن ركبه وسلك فيه إلى جِنانه وكرامته، كما:- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: « الله » ، السلام، ودارُه الجنة. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( والله يدعو إلى دار السلام ) ، قال: « الله » هو السلام، ودارُه الجنة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، قيل لي: « لتنم عينُك، وليعقِل قلبك، ولتسمع أُذُنك » فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذني. ثم قيل: « سيّدٌ بنى دارًا، ثم صنع مأدُبة، ثم أرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المأدبة ، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب الداعي ، لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المأدبة ، ولم يرضَ عنه السيد » ، فالله السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم « . » حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ، ذكر لنا أن في التوراة مكتوبًا: « يا باغي الخير هلمّ ، ويا باغي الشرِّ انتَهِ » . حدثني الحسين بن سلمة بن أبي كبشة قال ، حدثنا عبد الملك بن عمرو قال ، حدثنا عباد بن راشد، عن قتادة قال ، حدثني خُلَيد العَصَريّ، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجَنَبَتَيْها ملكان يناديان، يسمعُه خلق الله كلهم إلا الثَّقلين : « يا أيها الناس هلمُّوا إلى ربِّكم، إنّ ما قلَّ وكفى خير مما كثر وأَلْهَى » . قال: وأنـزل ذلك في القرآن في قوله: ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: إني رأيت في المنام كأنَّ جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا ! فقال: اسْمَع سمعتْ أُذنك، واعقل عَقَل قلبك، إنما مَثَلك ومَثَل أمتك ، كمثل ملك اتخذ دارًا ، ثم بنى فيها بيتًا ، ثم جعل فيها مأدُبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه . فالله الملك، والدار الإسلام، والبيتُ الجنَّة، وأنت يا محمد الرسولُ، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها. القول في تأويل قوله تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: للذين أحسنوا عبادَة الله في الدنيا من خلقه ، فأطاعوه فيما أمر ونَهَى ، ( الحسنى ) . ثم اختلف أهل التأويل في معنى « الحسنى » ، و « الزيادة » اللتين وعدهما المحسنين من خلقه. فقال بعضهم: « الحسنى » ، هي الجنة، جعلها الله للمحسنين من خلقه جزاء « والزيادة عليها » ، النظر إلى الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن أبي بكر الصديق: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. حدثنا سفيان قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه الله. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد قال: في هذه الآية: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: « الزيادة » ، النظر إلى وجه الرحمن. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم بن نذير، عن حذيفة: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال: النظر إلى وجه ربهم. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا شريك قال: سمعت أبا إسحاق يقول في قول الله: ( وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه الرحمن. حدثني علي بن عيسى قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا أبو بكر الهذلي قال: سمعت أبا تميمة الهُجَيْمِيّ ، يحدِّث عن أبي موسى الأشعري قال: إذا كان يومُ القيامة بعث الله إلى أهل الجنة مناديًا ينادي: « هل أنجزكم الله ما وعدكم » ! فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامة، فيقولون: نعم! فيقول: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، النظرُ إلى وجه الرحمن. حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال: أخبرنا أبو تميمة الهجيمي قال، سمعت أبا موسى الأشعري يخطب على منبر البصرة يقول: إن الله يبعث يوم القيامة مَلَكًا إلى أهل الجنة فيقول: « يا أهل الجنة ، هل أنجزكم الله ما وعدكم » ! فينظرون، فيرون الحليّ والحُلل والثمار والأنهار والأزواجَ المطهَّرة، فيقولون: « نعم، قد أنجزنا الله ما وعدنا » ! ثم يقول الملك: « هل أنجزكم الله ما وعدكم » ؟ ثلاث مرات، فلا يفقدون شيئًا مما وُعِدوا، فيقولون: « نعم » ! فيقول: « قد بقى لكم شيءٌ، إن الله يقول: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، ألا إن الحسنى الجنة، والزيادة النظرُ إلى وجه الله » . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني شبيب، عن أبان، عن أبي تميمة الهجيمي: أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث يوم القيامة مناديًا ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أوّلهم وآخرهم: « إن الله وعدكم الحسنى وزيادةً، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن » . حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. وقرأ: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ، قال: بعد النظر إلى وجْه ربهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة قال، أخبرنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: ( وزيادة ) ، قال: قيل له: أرأيت قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ؟ قال: إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة فأُعطوا فيها ما أُعْطُوا من الكرامة والنعيم، قال: نودوا : « يا أهل الجنة ، إن الله قد وعدكم الزيادة، فيتجلى لهم » قال ابن أبي ليلى: فما ظنك بهم حين ثَقُلت موازينهم، وحين صارت الصُّحف في أيمانهم، وحين جاوزوا جسر جهنم ودخلوا الجنة، وأعطوا فيها ما أعطوا من الكرامة والنعيم؟ كل ذلك لم يكن شيئًا فيما رأوا!. . . . . قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر ، وسليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. . . . . قال: حدثنا الحجاج ، ومعلّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ قال لهم: إنه قد بقي من حقكم شيءٌ لم تُعْطَوْه! قال: فيتجلى لهم تبارك وتعالى. قال: فيصغر عندهم كل شيء أعطوه. قال: ثم قال: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه ربهم، ولا يرهقُ وجوههم قترٌ ولا ذلةٌ بعد ذلك. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، النظر إلى وجه الله. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا هوذة قال ، حدثنا عوف، عن الحسن في قول الله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، النظر إلى الربّ. حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ ، وأهلُ النارِ النارَ، نودوا: « يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا » ! قالوا: ما هو؟ ألم تبيّض وجوهنا، وتُثْقِل موازيننا، وتُدخلنا الجنة، وتُنْجِنَا من النار؟ فيكشف الحجابُ، فيتجلى لهم، فوالله ما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ولفظ الحديث لعمرو. حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب قال، تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: « إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهل النار النار، نادى منادٍ: » يا أهل الجنة، إنّ لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكُمُوه « . فيقولون: » وما هو؟ ألم يُثقل الله موازيننا، ويبيِّض وجوهنا؟ ثم ذكر سائر الحديث نحو حديث عمرو بن علي ، وابن بشار، عن عبد الرحمن. . . . . قال، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. . . . . قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، بلغنا أن المؤمنين لما دَخلوا الجنة ناداهم منادٍ: إن الله وعدكم الحسنى وهي الجنة، وأما الزيادة، فالنظر إلى وجه الرحمن. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عجرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: الزيادة، النظرُ إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى. . . . . قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط قال: « الحسني » ، النضرة و « الزيادة » ، النظر إلى وجه الله. حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، سمعت زهيرًا، عمن سمع أبا العالية قال ، حدثنا أبيّ بن كعب: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن قول الله ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: الحسنى: الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله. وقال آخرون في « الزيادة » ، بما:- حدثنا به يحيى بن طلحة قال ، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: « الزيادة » ، غرفة من لؤلؤة واحدةٍ لها أربعة أبواب. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه، نحوه، إلا أنه قال: فيها أربعة أبواب. . . . .قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم بن عتيبة، عن علي رضي الله عنه، مثل حديث يحيى بن طلحة، عن فضيل ، سواءً. وقال آخرون: « الحسنى » واحدةٌ من الحسنات بواحدة و « الزيادة » ، التضعيف إلى تمام العشر. ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: هو مثل قوله: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ، [ سورة ق: 35 ] ، يقول: يجزيهم بعملهم، ويزيدهم من فضله. وقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، [ سورة الأنعام: 160 ] . حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن علقمة بن قيس: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال قلت: هذه الحسنى، فما الزيادة؟ قال: ألم تر أن الله يقول: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ؟ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول في هذه الآية: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: الزيادة: بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف. * وقال آخرون: « الحسنى » حسنة مثل حسنة و « الزيادة » زيادة مغفرة من الله ورضوان. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( للذين أحسنوا الحسنى ) ، مثلها حسنى « وزيادة » ، مغفرة ورضوان. وقال آخرون: « الزيادة » ، ما أعطوا في الدنيا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: « الحسنى » ، الجنة « وزيادة » ما أعطاهم في الدنيا ، لا يحاسبهم به يوم القيامة. وقرءوا : وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ، [ سورة العنكبوت: 27 ] ، قال: ما آتاه مما يحب في الدنيا، عجل له أجره فيها. وكان ابن عباس يقول في قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى ) ، بما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى ) ، يقول: للذين شهدوا أن لا إله إلا الله. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وَعَد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى ، أن يجزيهم على طاعتهم إيّاه الجنة ، وأن تبيض وجوههم، ووعدهم مع الحسنى الزيادة عليها. ومن الزيادة على إدخالهم الجنة أن يكرمهم بالنظر إليه، وأن يعطيهم غُرفا من لآلئ، وأن يزيدَهم غفرانا ورضوانًا، كل ذلك من زيادات عطاء الله إياهم على الحسنى التي جعلها الله لأهل جناته. وعمّ ربنا جل ثناؤه بقوله: ( وزيادة ) ، الزيادات على « الحسنى » ، فلم يخصص منها شيئًا دون شيء، وغير مستنكَرٍ من فضل الله أن يجمع ذلك لهم، بل ذلك كله مجموع لهم إن شاء الله. فأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يُعَمَّ ، كما عمَّه عز ذكره. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 26 ) قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ) ، لا يغشى وجوههم كآبة، ولا كسوف ، حتى تصير من الحزن كأنما علاها قترٌ. و « القتر » الغبار ، وهو جمع « قَتَرَةٍ » ومنه قول الشاعر: مُتَــوَّجٌ بِــرِداءِ المُلْــكِ يَتْبَعُــهُ مَـوْجٌ تَـرَى فَوْقَـهُ الرَّايـاتِ وَالْقَتَرَا يعني ب « القتر » الغبار. ( ولا ذلة ) ، ولا هوان ( أولئك أصحاب الجنة ) ، يقول: هؤلاء الذين وصفت صفتهم ، هم أهل الجنة وسكانها ، ومن هو فيها ( هم فيها خالدون ) ، يقول : هم فيها ماكثون أبدًا ، لا تبيد ، فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمخرجين فتتنغَّص عليهم لذَّتُهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وكان ابن أبي ليلى يقول في قوله: ( ولا يرهق وجوههم قتر ) ما:- حدثنا محمد بن منصور الطوسي قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا حماد بن زيد قال ، حدثنا زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ( ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ) ، قال: بعد نظرهم إلى ربِّهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج ، ومعلَّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، بنحوه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: ( ولا يرهق وجوههم قتر ) ، قال: سوادُ الوجوه. القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: والذين عملوا السيئات في الدنيا، فعصوا الله فيها، وكفروا به وبرسوله ( جزاء سيئة ) ، من عمله السيئ الذي عمله في الدنيا ( بمثلها ) ، من عقاب الله في الآخرة ( وترهقهم ذلة ) ، يقول: وتغشاهم ذلة وهوان، بعقاب الله إياهم ( ما لهم من الله من عاصم ) ، يقول: ما لهم من الله من مانع يمنعهم ، إذا عاقبهم ، يحول بينه وبينهم. وبنحو الذي قلنا قوله: « وترهقهم ذلة » قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( وترهقهم ذلة ) ، قال: تغشاهم ذلة وشدّة. واختلف أهل العربية في الرافع ل « الجزاء » . فقال بعض نحويي الكوفة: رُفع بإضمار « لهم » ، كأنه قيل: ولهم جزاء السَّيئة بمثلها، كما قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، [ سورة البقرة: 196 ] ، والمعنى: فعليه صيام ثلاثة أيام، قال: وإن شئت رفعت الجزاءَ بالباء في قوله: ( جزاء سيئة بمثلها ) . وقال بعض نحويي البصرة: « الجزاء » مرفوع بالابتداء، وخبره ( بمثلها ) . قال: ومعنى الكلام: جزاء سيئة مثلها، وزيدت « الباء » ، كما زيدت في قوله: « بحسبك قول السُّوء » . وقد أنكر ذلك من قوله بعضُهم ، فقال: يجوز أن تكون « الباء » في « حسب » [ زائدة ] لأن التأويل: إن قلت السوء فهو حسبك فلما لم تدخل في الخبر، أدخلت في « حسب » ، « بحسبك أن تقوم » : إن قمت فهو حسبك. فإن مُدح ما بعد « حسب » أدخلت « الباء » ، فيما بعدها ، كقولك: « حسبك بزيد » ، ولا يجوز « بحسبك زيد » ، لأن زيدًا الممدوح ، فليس بتأويل خبَرٍ . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يكون « الجزاء » مرفوعًا بإضمارٍ، بمعنى: فلهم جزاء سيئة بمثلها، لأن الله قال في الآية التي قبلها: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ، فوصف ما أعدَّ لأوليائه، ثم عقب ذلك بالخبر عما أعدّ الله لأعدائه، فأشبهُ بالكلام أن يقال: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة، وإذا وُجِّه ذلك إلى هذا المعنى ، كانت الباء صلة للجزاء. القول في تأويل قوله تعالى : كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 27 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات ( قِطَعًا من الليل ) ، وهي جمع « قطعة » . وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ما:- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر ، عن قتادة: ( كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا ) ، قال: ظلمة من الليل. واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى: ( قطعًا ) فقرأته عامة قراء الأمصار: ( قِطَعًا ) بفتح الطاء ، على معنى جمع « قطعة » ، وعلى معنى أنَّ تأويل ذلك: كأنما أُغشِيَت وَجْه كل إنسان منهم قطعةٌ من سواد الليل، ثم جمع ذلك فقيل: كأنما أغشيت وجوههم قطعا من سواد، إذ جُمِع « الوجه » . وقرأه بعض متأخري القراء: « قِطْعًا » بسكون الطاء، بمعنى: كأنما أغشيت وجوههم سوادًا من الليل، وبقيةً من الليل، ساعةً منه، كما قال: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ، [ سورة هود: 81 /سورة الحجر: 65 ] ، أي: ببقية قد بقيت منه. ويعتلُّ لتصحيح قراءته كذلك، أنه في صحف أبيّ: ( وَيَغْشَى وُجُوهَهُمْ قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمٌ ) . قال أبو جعفر : والقراءة التي لا يجوز خلافها عندي ، قراءةُ من قرأ ذلك بفتح الطاء، لإجماع الحجة من قراء الأمصار على تصويبها ، وشذوذ ما عداها. وحسبُ الأخرى دلالةً على فسادها، خروج قارئها عما عليه قراء أهل أمصار الإسلام. فإن قال لنا قائل: فإن كان الصواب في قراءة ذلك ما قلت، فما وجه تذكير « المظلم » وتوحيده، وهو من نعت « القطع » ، و « القطع » ، جمع لمؤنث؟ قيل : في تذكير ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون قَطْعًا من « الليل » . وإن يكون من نعت « الليل » ، فلما كان نكرةً ، و « الليل » معرفةً ، نصب على القَطْع، فيكون معنى الكلام حينئذ: كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل المظلم ثم حذفت الألف واللام من « المظلم » ، فلما صار نكرة وهو من نعت « الليل » ، نصب على القطع. وتسمي أهل البصرة ما كان كذلك « حالا » ، والكوفيون « قطعًا » . والوجه الآخر : على نحو قول الشاعر: * لَوْ أَنَّ مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا * والوجه الأوّل أحسن وجهيه. وقوله: ( أولئك أصحاب النار ) ، يقول: هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهلُ النار الذين هم أهلها ( هم فيها خالدون ) ، يقول: هم فيها ماكثون. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ( 28 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويوم نجمع الخلق لموقف الحساب جميعًا، ثم نقول حينئذ للذين أشركوا بالله الآلهةَ والأندادَ: ( مكانَكم ) ، أي: امكثوا مكانكم، وقفوا في موضعكم، أنتم، أيها المشركون، وشُركاؤكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الآلهة والأوثان ( فزيّلنا بينهم ) ، يقول: ففرقنا بين المشركين بالله وما أشركوه به . [ من قولهم: « زِلْت الشيء أزيلُه » ، إذا فرّقت بينه ] وبين غيره وأبنته منه. وقال: « فزيّلنا » إرادة تكثير الفعل وتكريره، ولم يقل: « فزِلْنا بينهم » . وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه: ( فَزَايَلْنَا بَيْنَهُمْ ) ، كما قيل: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ ، [ سورة لقمان: 18 ] ، والعرب تفعل ذلك كثيرًا في « فعَّلت » ، يلحقون فيها أحيانًا ألفًا مكان التشديد، فيقولون: « فاعلت » إذا كان الفعل لواحدٍ. وأما إذا كان لاثنين ، فلا تكاد تقول إلا « فاعلت » . ( وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ) ، وذلك حين تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ، لما قيل للمشركين: « اتبعوا ما كنتم تعبدون من دون الله » ، ونصبت لهم آلهتهم، قالوا: « كنا نعبد هؤلاء » !، فقالت الآلهة لهم: ( ما كنتم إيانا تعبدون ) ، كما:- حدثت عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: يكون يومَ القيامة ساعةٌ فيها شدة ، تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدون، فيقال: « هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله » ، فتقول الآلهة: « والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا » ! فيقولون: « والله لإيّاكم كنا نعبد » ! فتقول لهم الآلهة: فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم ) ، قال: فرّقنا بينهم ( وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ) ! قالوا: بلى ، قد كنا نعبدكم! فقالوا : ( كفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) ، ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نتكلم! فقال الله: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ، الآية. وروي عن مجاهد، أنه كان يتأول « الحشر » في هذا الموضع، الموت. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن الأعمش قال: سمعتهم يذكرون عن مجاهد في قوله: ( ويوم نحشرهم جميعًا ) ، قال: الحشر: الموت. قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بتأويله، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه يقول يومئذ للذين أشركوا ما ذكر أنه يقول لهم، ومعلومٌ أن ذلك غير كائن في القبر، وأنه إنما هو خبَرٌ عما يقال لهم ، ويقولون في الموقف بعد البعث. القول في تأويل قوله تعالى : فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ( 29 ) قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شركاء المشركين من الآلهة والأوثان لهم يوم القيامة، إذ قال المشركون بالله لها: إياكم كنا نعبد ( كفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم ) ، أي إنها تقول: حسبُنا الله شاهدًا بيننا وبينكم ، أيها المشركون، فإنه قد علم أنّا ما علمنا ما تقولون ( إنا كنا عن عبادتكم لغافلين ) ، يقول: ما كنا عن عبادتكم إيانا دون الله إلا غافلين، لا نشعر به ولا نعلم، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) ، قال: كُلُّ شيء يعبد من دون الله. حدثني المثنى قال ، حدثني إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: ( إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) ، قال: يقول ذلك كُلُّ شيء كان يُعْبد من دون الله. القول في تأويل قوله تعالى : هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 30 ) قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة قوله: ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ ) ، بالباء، بمعنى: عند ذلك تختبر كلّ نفس ما قدمت من خيرٍ أو شٍّر. وكان ممن يقرؤه ويتأوّله كذلك ، مجاهدٌ. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ) ، قال: تختبر. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة وبعض أهل الحجاز: ( تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) ، بالتاء. واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله. فقال بعضهم: معناه وتأويله: هنالك تتبع كل نفس ما قدَّمت في الدنيا لذلك اليوم. وروي بنحو ذلك خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من وجْه وسَنَدٍ غير مرتضى أنه قال: يَمْثُل لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله يوم القيامة، فيتَّبعونهم حتى يوردوهم النار. قال: ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت ) . وقال بعضهم: بل معناه: يتلو كتاب حسناته وسيئاته. يعني يقرأ، كما قال جل ثناؤه: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ، [ سورة الإسراء: 13 ] . وقال آخرون: « تَتْلو » تعاين. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( هنالك تَتْلو كل نفس ما أسلفت ) ، قال: ما عملت. تتلو: تعاينه. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القراء، وهما متقاربتا المعنى. وذلك أن من تبع في الآخرة ما أسلفَ من العمل في الدنيا، هجم به على مَوْرده، فيخبر هنالك ما أسلفَ من صالح أو سيئ في الدنيا، وإنّ مَنْ خَبَر من أسلف في الدنيا من أعماله في الآخرة، فإنما يخبرُ بعد مصيره إلى حيث أحلَّه ما قدم في الدنيا من علمه، فهو في كلتا الحالتين مُتَّبع ما أسلف من عمله ، مختبر له، فبأيتهما قرأ القارئ كما وصفنا ، فمصيبٌ الصوابَ في ذلك. وأما قوله: ( وردّوا إلى الله مولاهم الحق ) ، فإنه يقول: ورجع هؤلاء المشركون يومئذٍ إلى الله الذي هو ربهم ومالكهم ، الحقّ لا شك فيه ، دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الآلهة والأنداد ( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) ، يقول: وبطل عنهم ما كانوا يتخرَّصون من الفرية والكذب على الله بدعواهم أوثانهم أنها لله شركاء، وأنها تقرِّبهم منه زُلْفَى، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وردوا إلى الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ) ، قال: ما كانوا يدعون معه من الأنداد والآلهة، ما كانوا يفترون الآلهة، وذلك أنهم جعلوها أندادًا وآلهة مع الله افتراءً وكذبًا. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 31 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الأوثانَ والأصنامَ ( من يرزقكم من السماء ) ، الغيثَ والقطر ، ويطلع لكم شمسها ، ويُغْطِش ليلها ، ويخرج ضحاها ومن الأرض أقواتَكم وغذاءَكم الذي ينْبته لكم ، وثمار أشجارها ( أَمَّنْ يملك السمع والأبصار ) يقول: أم من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم التي تسمعون بها : أن يزيدَ في قواها ، أو يسلبكموها ، فيجعلكم صمًّا، وأبصاركم التي تبصرون بها : أن يضيئها لكم وينيرها، أو يذهب بنورها ، فيجعلكم عُمْيًا لا تبصرون ( ومن يخرج الحي من الميت ) ، يقول: ومن يخرج الشيء الحي من الميت ( ويخرج الميت من الحي ) ، يقول: ويخرج الشيء الميت من الحيّ. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين من أهل التأويل، والصواب من القول عندنا في ذلك بالأدلّة الدالة على صحته ، في « سورة آل عمران » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ( ومن يدبر الأمر ) ، وقل لهم: من يُدبر أمر السماء والأرض وما فيهن ، وأمركم وأمرَ الخلق ؟ ( فسيقولون الله ) ، يقول جل ثناؤه: فسوف يجيبونك بأن يقولوا : الذي يفعل ذلك كله الله ( فقل أفلا تتقون ) ، يقول: أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم ربًّا غيرَ من هذه الصفة صفتُه، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئًا ، ولا يملك لكم ضرًا ولا نفعا، ولا يفعل فعلا؟ القول في تأويل قوله تعالى : فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 32 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لخلقه: أيها الناس، فهذا الذي يفعل هذه الأفعال، فيرزقكم من السماء والأرض ، ويملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت والميت من الحي، ويدبر الأمر; ( الله ربُّكم الحق ) ، لا شك فيه ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ) ، يقول: فأي شيء سوى الحق إلا الضلال ، وهو الجور عن قصد السبيل؟ يقول: فإذا كان الحقُّ هو ذا، فادعاؤكم غيره إلهًا وربًّا، هو الضلال والذهاب عن الحق لا شك فيه ( فأنى تصرفون ) ، يقول: فأيّ وجه عن الهدى والحق تُصرفون ، وسواهما تسلكون ، وأنتم مقرُّون بأن الذي تُصْرَفون عنه هو الحق؟ القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 33 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما قد صُرِف هؤلاء المشركون عن الحق إلى الضلال ( كذلك حقت كلمة ربك ) ، يقول: وجب عليهم قضاؤه وحكمه في السابق من علمه ( على الذين فسقوا ) ، فخرجوا من طاعة ربهم إلى معصيته وكفروا به ( أنهم لا يؤمنون ) ، يقول: لا يصدِّقون بوحدانية الله ولا بنبوة نبيه صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 34 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد ( هل من شركائكم ) ، يعني من الآلهة والأوثان ( من يبدأ الخلق ثم يعيده ) ، يقول: من ينشئ خَلْق شيء من غير أصل، فيحدث خلقَه ابتداءً ( ثم يعيده ) ، يقول: ثم يفنيه بعد إنشائه، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيَه، فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك لها. وفي ذلك الحجة القاطعة والدِّلالة الواضحة على أنهم في دعواهم أنها أربابٌ ، وهي لله في العبادة شركاء ، كاذبون مفترون. فقل لهم حينئذ ، يا محمد: الله يبدأ الخلق فينشئه من غير شيء ، ويحدثه من غير أصل ، ثم يفنيه إذا شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل الفناء ( فأنى تؤفكون ) ، يقول: فأيّ وجه عن قصد السبيل وطريق الرُّشد تُصْرَفون وتُقْلَبُون؟ كما:- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: ( فأنى تؤفكون ) ، قال: أنى تصرفون؟ وقد بينا اختلاف المختلفين في تأويل قوله: ( أنى تؤفكون ) ، والصواب من القول في ذلك عندنا ، بشواهده في « سورة الأنعام » . القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 35 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد لهؤلاء المشركين ( هل من شركائكم ) ، الذين تدعون من دون الله، وذلك آلهتهم وأوثانُهم، ( من يهدي إلى الحق ) يقول: من يرشد ضالا من ضلالته إلى قصد السبيل، ويسدِّد جائرًا عن الهدى إلى واضح الطريق المستقيم؟ فإنهم لا يقدرون أن يدَّعوا أن آلهتهم وأوثانهم تُرشد ضالا أو تهدي جائرًا. وذلك أنهم إن ادَّعوا ذلك لها أكذبتهم المشاهدة ، وأبان عجزَها عن ذلك الاختبارُ بالمعاينة. فإذا قالوا « لا » وأقرُّوا بذلك، فقل لهم. فالله يهدي الضالَّ عن الهدى إلى الحق ( أفمن يهدي ) أيها القوم ضالا إلى الحقّ، وجائرًا عن الرشد إلى الرشد ( أحق أن يتبع ) ، إلى ما يدعو إليه ( أَمَّنْ لا يهدِّي إِلا أن يُهدى ) ؟ واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء أهل المدينة: ( أَمَّنْ لا يَهْدِّي ) بتسكين الهاء ، وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك أنهم وجَّهوا أصل الكلمة إلى أنه: أم من لا يهتدي، ووجدوه في خطّ المصحف بغير ما قرءوا ، وأن التاء حذفت لما أدغمت في الدال، فأقرُّوا الهاء ساكنة على أصلها الذي كانت عليه، وشدَّدوا الدال طلبًا لإدغام التاء فيها، فاجتمع بذلك سكون الهاء والدال. وكذلك فعلوا في قوله: وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ، [ سورة النساء: 154 ] ، وفي قوله: يَخِصِّمُونَ ، [ سورة يس: 49 ] . وقرأ ذلك بعض قراء أهل مكة والشام والبصرة « ( يَهَدِّي ) بفتح الهاء وتشديد الدال. وأمُّوا ما أمَّه المدنيون من الكلمة، غير أنهم نقلوا حركة التاء من » يهتدي « : إلى الهاء الساكنة، ، فحرَّكوا بحركتها ، وأدغموا التاء في الدال فشدّدوها. » وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة: ( يَهِدِّي ) ، بفتح الياء، وكسر الهاء ، وتشديد الدال، بنحو ما قصدَه قراء أهل المدينة، غير أنه كسر الهاء لكسرة الدال من « يهتدي » ، استثقالا للفتحة بعدها كسرةٌ في حرف واحدٍ. وقرأ ذلك بعدُ ، عامة قراء الكوفيين ( أَمَّنْ لا يَهْدِي ) ، بتسكين الهاء وتخفيف الدال. وقالوا: إن العرب تقول: « هديت » بمعنى « اهتديت » ، قالوا: فمعنى قوله: ( أَمَّنْ لا يهدي ) : أم من لا يَهْتَدي إلا أن يهدى . قال أبو جعفر: وأولى القراءة في ذلك بالصواب ، قراءةُ من قرأ: ( أَمَّنْ لا يَهَدِّي ) بفتح الهاء وتشديد الدال، لما وصفنا من العلة لقارئ ذلك كذلك، وأن ذلك لا يدفع صحته ذو علم بكلام العرب ، وفيهم المنكر غيره. وأحقُّ الكلام أن يقرأ بأفصح اللغات التي نـزل بها كلامُ الله. فتأويل الكلام إذًا: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع، أم من لا يهتدي إلى شيء إلا أن يهدى ؟ وكان بعض أهل التأويل يزعم أن معنى ذلك: أم من لا يقدر أن ينتقل عن مكانه إلا أن يُنْقل. وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أَمَّنْ لا يهدّي إلا أن يهدى ) ، قال: الأوثان، الله يهدي منها ومن غيرها من شاء لمن شاء. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( أمن لا يهدي إلا أن يهدى ) ، قال: قال: الوثن. وقوله: ( فما لكم كيف تحكمون ) ، ألا تعلمون أن من يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع من الذي لا يهتدي إلى شيء ، إلا أن يهديه إليه هادٍ غيره، فتتركوا اتّباع من لا يهتدي إلى شيء وعبادته ، وتتبعوا من يهديكم في ظلمات البر والبحر ، وتخلصوا له العبادة فتفردوه بها وحده ، دون ما تشركونه فيها من آلهتكم وأوثانكم؟ القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 36 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ظنا، يقول: إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته، بل هم منه في شكٍّ وريبة ( إن الظن لا يغني من الحق شيئًا ) ، يقول: إن الشك لا يغني من اليقين شيئًا ، ولا يقوم في شيء مقامَه، ولا ينتفع به حيث يُحتاج إلى اليقين ( إن الله عليم بما يفعلون ) ، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون ، من اتباعهم الظن ، وتكذيبهم الحق اليقين، وهو لهم بالمرصاد، حيث لا يُغني عنهم ظنّهم من الله شيئًا . القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 37 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى من دون الله، يقول: ما ينبغي له أن يتخرَّصه أحد من عند غير الله. وذلك نظير قوله: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [ سورة آل عمران: 161 ] ، بمعنى: ما ينبغي لنبي أن يغلَّه أصحابُه. وإنما هذا خبرٌ من الله جل ثناؤه أن هذا القرآن من عنده، أنـزله إلى محمد عبده، وتكذيبٌ منه للمشركين الذين قالوا: « هو شعر وكهانة » ، والذين قالوا: « إنما يتعلمه محمد من يحنّس الروميّ » . يقول لهم جل ثناؤه: ما كان هذا القرآن ليختلقه أحدٌ من عند غير الله، لأن ذلك لا يقدر عليه أحدٌ من الخلق ( ولكن تصديق الذي بين يديه ) ، أي : يقول تعالى ذكره: ولكنه من عند الله أنـزله مصدِّقًا لما بين يديه، أي لما قبله من الكتب التي أنـزلت على أنبياء الله ، كالتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه ( وتفصيل الكتاب ) ، يقول: وتبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفرائضه التي فرضها عليهم في السابق من علمه يقول: ( لا ريب فيه ) لا شك فيه أنه تصديق الذي بين يديه من الكتاب وتفصيل الكتاب من عند رب العالمين، لا افتراءٌ من عند غيره ولا اختلاقٌ. القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 38 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: افترى محمد هذا القرآن من نفسه فاختلقه وافتعله؟ قل يا محمد لهم: إن كان كما تقولون إني اختلقته وافتريته، فإنكم مثلي من العَرب، ولساني مثل لسانكم، وكلامي [ مثل كلامكم ] ، فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن. و « الهاء » في قوله « مثله » ، كناية عن القرآن. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى ذلك: قل فأتوا بسورة مثل سورته ثم ألقيت « سورة » ، وأضيف « المثل » إلى ما كان مضافًا إليه « السورة » ، كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ سورة يوسف: 82 ] يراد به: واسأل أهل القرية. وكان بعضهم ينكر ذلك من قوله ، ويزعم أن معناه: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ، أن « السورة » إنما هي سورة من القرآن، وهي قرآن، وإن لم تكن جميع القرآن. فقيل لهم: ( فأتوا بسورة مثله ) ، ولم يقل: « مثلها » ، لأن الكناية أخرجت على المعنى أعني معنى « السورة » لا على لفظها، لأنها لو أخرجت على لفظها لقيل: « فأتوا بسورة مثلها » . ( وادعوا من استطعتم من دون الله ) ، يقول: وادعوا، أيها المشركون على أن يأتوا بسورة مثلها مَنْ قدرتم أن تدعوا على ذلك من أوليائكم وشركائكم ( من دون الله ) ، يقول: من عند غير الله، فأجمِعُوا على ذلك واجتهدوا، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بسورةٍ مثله أبدًا. وقوله: ( إن كنتم صادقين ) ، يقول: إن كنتم صادقين في أن محمدًا افتراه، فأتوا بسورة مثله من جميع من يعينكم على الإتيان بها. فإن لم تفعلوا ذلك ، فلا شك أنكم كَذَبَةٌ في زعمكم أن محمدًا افتراه، لأن محمدًا لن يَعْدُوَ أن يكون بشرًا مثلكم، فإذا عجز الجميع من الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثله، فالواحد منهم عن أن يأتي بجميعه أعجز. القول في تأويل قوله تعالى : بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ( 39 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين يا محمد ، تكذيبك ولكن بهم التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه ممَّا أنـزل الله عليك في هذا القرآن، من وعيدهم على كفرهم بربهم ( ولما يأتهم تأويله ) ، يقول: ولما يأتهم بعدُ بَيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعّدهم الله في هذا القرآن ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) ، يقول تعالى ذكره: كما كذب هؤلاء المشركون ، يا محمد ، بوعيد الله، كذلك كذّب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم ( فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر ، يا محمد ، كيف كان عُقْبى كفر من كفر بالله، ألم نهلك بعضهم بالرجفة ، وبعضهم بالخسْف وبعضهم بالغرق؟ يقول: فإن عاقبة هؤلاء الذي يكذبونك ويجحدون بآياتي من كفار قومك، كالتي كانت عاقبة من قبلهم من كفرة الأمم، إن لم ينيبوا من كفرهم ، ويسارعوا إلى التوبة. القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ( 40 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن قومك ، يا محمد ، من قريش ، من سوف يؤمن به يقول: من سوف يصدِّق بالقرآن ويقرُّ أنه من عند الله ( ومنهم من لا يؤمن به ) أبدًا ، يقول: ومنهم من لا يصدق به ولا يقرُّ أبدًا ( وربك أعلم بالمفسدين ) يقول : والله أعلم بالمكذّبين به منهم، الذين لا يصدقون به أبدًا، من كل أحدٍ ، لا يخفى عليه، وهو من وراء عقابه. فأما من كتبتُ له أن يؤمن به منهم ، فإني سأتوب عليه. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ( 41 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن كذبك ، يا محمد ، هؤلاء المشركون، وردُّوا عليك ما جئتهم به من عند ربك، فقل لهم: أيها القوم ، لي ديني وعملي ، ولكم دينكم وعملكم، لا يضرني عملكم ، ولا يضركم عملي، وإنما يُجازَى كل عامل بعمله ( أنتم بريئون مما أعمل ) ، لا تُؤْاخذون بجريرته ( وأنا بريء مما تعملون ) ، لا أوخذ بجريرة عملكم. وهذا كما قال جل ثناؤه: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [ سورة الكافرون: 1- 3 ] . وقيل: إن هذه الآية منسوخة، نسخها الجهاد والأمر بالقتال. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم ) الآية، قال: أمرَه بهذا ، ثم نَسَخه وأمرَه بجهادهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ ( 42 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ومن هؤلاء المشركين من يستمعون إلى قولك ( أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ) ، يقول: أفأنت تخلق لهم السمع ، ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به، أم أنا؟ وإنما هذا إعلامٌ من الله عبادَه أن التوفيق للإيمان به بيده لا إلى أحد سواه. يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما أنك لا تقدر أن تسمع ، يا محمد ، من سلبته السمع، فكذلك لا تقدر أن تفهم أمري ونهيي قلبًا سلبته فهم ذلك، لأني ختمتُ عليه أنه لا يؤمن. القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ ( 43 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المشركين، مشركي قومِك، من ينظر إليك ، يا محمد، ويرى أعلامك وحُججَك على نبوتك، ولكن الله قد سلبه التوفيقَ فلا يهتدي، ولا تقدر أن تهديه، كما لا تقدر أن تحدِث للأعمى بصرًا يهتدي به ( أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ) ، يقول: أفأنت يا محمد ، تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك ، فلا يوفَّقون للتصديق بك أبصارًا ، لو كانوا عُمْيًا يهتدون بها ويبصرون؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك، ولا يقدر عليه أحدٌ سواي، فكذلك لا تقدر على أن تبصِّرهم سبيلَ الرشاد أنت ولا أحدٌ غيري، لأن ذلك بيدي وإليّ. وهذا من الله تعالى ذكره تسليةٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم عن جماعةٍ ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذب، وتعزية له عنهم، وأمرٌ برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 44 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله لا يفعل بخلقه ما لا يستحقون منه، لا يعاقبهم إلا بمعصيتهم إيّاه، ولا يعذبهم إلا بكفرهم به ( ولكن الناس ) ، يقول: ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ، باجترامهم ما يورثها غضبَ الله وسخطه. وإنما هذا إعلام من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه لم يسلُبْ هؤلاء الذين أخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم لا يؤمنون الإيمانَ ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم وإخبارٌ أنه إنما سلبهم ذلك باستحقاقٍ منهم سَلْبَه، لذنوبٍ اكتسبوها، فحق عليهم قول ربهم، وطبع على قلوبهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 45 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب، كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم، ثم انقطعت المعرفة ، وانقضت تلك الساعة يقول الله: ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ، قد غُبن الذين جحدوا ثوابَ الله وعقابه وحظوظَهم من الخير وهلكوا ( وما كانوا مهتدين ) يقول: وما كانوا موفّقين لإصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله ، لأنه أكسبهم ذلك ما لا قِبَل لهم به من عذاب الله. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ( 46 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإما نرينّك ، يا محمد ، في حياتك بعضَ الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك من العذاب ( أو نتوفينك ) قبل أن نريك ذلك فيهم ( فإلينا مرجعهم ) ، يقول: فمصيرهم بكل حال إلينا، ومنقلبهم ( ثم الله شهيد على ما يفعلون ) ، يقول جل ثناؤه : ثم أنا شاهد على أفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا، وأنا عالم بها لا يخفى عليّ شيء منها، وأنا مجازيهم بها عند مصيرهم إليّ ومرجعهم ، جزاءهم الذي يستحقُّونه، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم ) ، من العذاب في حياتك ( أو نتوفينك ) ، قبل ( فإلينا مرجعهم ) . حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 47 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكل أمة خلت قبلكم ، أيها الناس ، رسول أرسلته إليهم، كما أرسلت محمدًا إليكم ، يدعون من أرسلتهم إليهم إلى دين الله وطاعته ( فإذا جاء رسولهم ) ، يعني: في الآخرة، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم ) ، قال: يوم القيامة. وقوله: ( قضي بينهم بالقسط ) ، يقول قضي حينئذ بينهم بالعدل ( وهم لا يظلمون ) ، من جزاء أعمالهم شيئًا ، ولكن يجازي المحسن بإحسانه . والمسيءُ من أهل الإيمان ، إما أن يعاقبه الله ، وإما أن يعفو عنه، والكافر يخلد في النارِ. فذلك قضاء الله بينهم بالعدل، وذلك لا شكّ عدلٌ لا ظلمٌ. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( قضي بينهم بالقسط ) ، قال: بالعدل. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 48 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ويقول هؤلاء المشركون من قومك ، يا محمد ( متى هذا الوعد ) ، الذي تعدنا أنه يأتينا من عند الله؟ وذلك قيام الساعة ( إن كنتم صادقين ) ، أنت ومن تبعك ، فيما تعدوننا به من ذلك. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 49 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « قل » ، يا محمد، لمستعجليك وعيدَ الله، القائلين لك: متى يأتينا الوعد الذي تعدنا إن كنتم صادقين؟ ( لا أملك لنفسي ) ، أيها القوم، أي : لا أقدرُ لها على ضرٍّ ولا نفع في دنيا ولا دين ( إلا ما شاء الله ) ، أن أملكه، فأجلبه إليها بإذنه. يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: فإذْ كنت لا أقدر على ذلك إلا بإذنه ، فأنا عن القدرة على الوصول إلى علم الغيب ومعرفة قيام الساعة أعجز وأعجز، إلا بمشيئته وإذنه لي في ذلك ( لكل أمة أجل ) ، يقول: لكل قوم ميقاتٌ لانقضاء مدتهم وأجلهم، فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم ( لا يستأخرون ) ، عنه ( ساعة ) ، فيمهلون ويؤخرون، ( ولا يستقدمون ) ، قبل ذلك، لأن الله قضى أن لا يتقدم ذلك قبل الحين الذي قدَّره وقضاه. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ( 50 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بياتًا، يقول: ليلا أو نهارا، وجاءت الساعة وقامت القيامة ، أتقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم؟ يقول الله تعالى ذكره: ماذا يستعجلُ من نـزول العذاب، المجرمون الذين كفروا بالله، وهم الصالون بحرِّه دون غيرهم، ثم لا يقدرون على دفعه عن أنفسهم؟ القول في تأويل قوله تعالى : أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( 51 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أهنالك إذا وقع عذابُ الله بكم أيها المشركون « آمنتم به » ، يقول: صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيها التصديق، وقيل لكم حينئذ: آلآنَ تصدّقون به، وقد كنتم قبل الآن به تستعجلون، وأنتم بنـزوله مكذبون؟ فذوقوا الآن ما كنتم به تكذّبون. ومعنى قوله: ( أثم ) ، في هذا الموضع: أهنالك ، وليست « ثُمَّ » هذه هاهنا التي تأتي بمعنى العطف. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 52 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( ثم قيل للذين ظلموا ) ، أنفسهم ، بكفرهم بالله ( ذوقوا عذاب الخلد ) ، تجرّعوا عذابَ الله الدائم لكم أبدًا، الذي لا فناء له ولا زوال ( هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) ، يقول: يقال لهم: فانظروا هل تجزون، أي : هل تثابون ( إلا بما كنتم تكسبون ) ، يقول: إلا بما كنتم تعملون في حياتكم قبل مماتكم من معاصي الله. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 53 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويستخبرك هؤلاء المشركون من قومك ، يا محمد ، فيقولون لك: أحق ما تقول ، وما تعدنا به من عذاب الله في الدار الآخرة جزاءً على ما كنا نكسِب من معاصي الله في الدنيا؟ قل لهم يا محمد : « إي وربي إنه لحق » ، لا شك فيه، وما أنتم بمعجزي الله إذا أراد ذلك بكم ، بهربٍ ، أو امتناع، بل أنتم في قبضته وسلطانه وملكه، إذا أراد فعل ذلك بكم، فاتقوا الله في أنفسكم. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 54 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أن لكل نفس كفرت بالله و « ظلمها » ، في هذا الموضع، عبادتُها غيرَ من يستحق عبادته، وتركها طاعة من يجب عليها طاعته ( ما في الأرض ) ، من قليل أو كثير ( لافتدت به ) ، يقول: لافتدت بذلك كلِّه من عذاب الله إذا عاينته وقوله: ( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) ، يقول: وأخفتْ رؤساء هؤلاء المشركين من وضعائهم وسفلتهم الندامةَ حين أبصرُوا عذاب الله قد أحاط بهم، وأيقنوا أنه واقع بهم ( وقضي بينهم بالقسط ) ، يقول: وقضى الله يومئذ بين الأتباع والرؤساء منهم بالعدل ( وهم لا يظلمون ) ، وذلك أنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا بجريرته ، ولا يأخذه بذنب أحدٍ، ولا يعذِّب إلا من قد أعذر إليه في الدنيا وأنذر وتابع عليه الحجج. القول في تأويل قوله تعالى : أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 55 ) قال أبو جعفر: يقول جل ذكره: ألا إنّ كل ما في السموات وكل ما في الأرض من شيء ، لله مِلْك، لا شيء فيه لأحدٍ سواه . يقول: فليس لهذا الكافر بالله يومئذٍ شيء يملكه فيفتدي به من عذاب ربّه، وإنما الأشياء كلها للذي إليه عقابه. ولو كانت له الأشياء التي هي في الأرض ثم افتدى بها ، لم يقبل منه بدلا من عذابه ، فيصرف بها عنه العذاب، فكيف وهو لا شيء له يفتدى به منه ، وقد حقَّ عليه عذاب الله؟ يقول الله جل ثناؤه: ( ألا إن وعد الله حق ) ، يعني أن عذابه الذي أوعد هؤلاء المشركين على كفرهم حقٌّ، فلا عليهم أن لا يستعجلوا به ، فإنه بهم واقع لا شك ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ، يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون حقيقةَ وقوع ذلك بهم، فهم من أجل جهلهم به مكذِّبون. القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 56 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله هو المحيي المميت ، لا يتعذّر عليه فعلُ ما أراد فعله من إحياء هؤلاء المشركين إذا أراد إحياءهم بعد مماتهم ، ولا إماتتهم إذا أراد ذلك، وهم إليه يصيرون بعد مماتهم ، فيعاينون ما كانوا به مكذبين من وعيدِ الله وعقابه. القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 57 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لخلقه: ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ) ، يعني : ذكرى تذكركم عقابَ الله وتخوّفكم وعيده ( من ربكم ) ، يقول: من عند ربكم ، لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يفتعلها أحد، فتقولوا: لا نأمن أن تكون لا صحةَ لها. وإنما يعني بذلك جلّ ثناؤه القرآن، وهو الموعظة من الله. وقوله: ( وشفاء لما في الصدور ) ، يقول: ودواءٌ لما في الصدور من الجهل، يشفي به الله جهلَ الجهال، فيبرئ به داءهم ، ويهدي به من خلقه من أراد هدايته به ( وهدى ) ، يقول: وهو بيان لحلال الله وحرامه، ودليلٌ على طاعته ومعصيته ( ورحمة ) ، يرحم بها من شاء من خلقه، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى، وينجيه به من الهلاك والردى. وجعله تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين به دون الكافرين به، لأن من كفر به فهو عليه عمًى، وفي الآخرة جزاؤه على الكفر به الخلودُ في لظًى. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( 58 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) يا محمد لهؤلاء المكذِّبين بك وبما أنـزل إليك من عند ربك ( بفضل الله ) ، أيها الناس ، الذي تفضل به عليكم، وهو الإسلام، فبيَّنه لكم ، ودعاكم إليه ( وبرحمته ) ، التي رحمكم بها، فأنـزلها إليكم، فعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه، وبصَّركم بها معالم دينكم، وذلك القرآن ( فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه ، والقرآن الذي أنـزله عليهم، خيرٌ مما يجمعون من حُطَام الدنيا وأموالها وكنوزها. وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن الحسن الأزدي قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري في قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) ، قال: بفضل الله القرآن ( وبرحمته ) أن جعَلَكم من أهله. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا فضيل، عن منصور، عن هلال بن يساف: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) ، قال: بالإسلام الذي هداكم، وبالقرآن الذي علّمكم. حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن يمان قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف: ( قل بفضل الله وبرحمته ) ، قال: بالإسلام والقرآن ( فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، من الذهب والفضَّة. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته ) ، قال: « فضل الله » ، الإسلام، و « رحمته » ، القرآن. حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا زيد قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته ) ، قال: الإسلام والقرآن. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف مثله. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) ، أما فضله فالإسلام، وأما رحمته فالقرآن. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: ( قل بفضل الله وبرحمته ) ، قال: فضله: الإسلام، ورحمته القرآن. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( قل بفضل الله وبرحمته ) ، قال: القرآن. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( وبرحمته ) ، قال: القرآن. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: ( هو خير مما يجمعون ) ، قال: الأموال وغيرها. حدثنا علي بن داود قال ، حدثني أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ( قل بفضل الله وبرحمته ) يقول: فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) ، قال: بكتاب الله ، وبالإسلام ( هو خير مما يجمعون ) . وقال آخرون: بل « الفضل » : القرآن و « الرحمة » ، الإسلام. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، قال: ( بفضل الله ) ، القرآن، ( وبرحمته ) ، حين جعلهم من أهل القرآن. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا جعفر بن عون قال ، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: « فضل الله » ، القرآن، و « رحمته » ، الإسلام. حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون، قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته ) قال: ( بفضل الله ) القرآن، ( وبرحمته ) ، الإسلام. حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) ، قال: كان أبي يقول: فضله القرآن، ورحمته الإسلام. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( فبذلك فليفرحوا ) . فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار: ( فَلْيَفْرَحُوا ) بالياء ( هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) بالياء أيضًا على التأويل الذي تأولناه ، من أنه خبر عن أهل الشرك بالله. يقول: فبالإسلام والقرآن الذي دعاهم إليه ، فليفرح هؤلاء المشركون، لا بالمال الذي يجمعون، فإن الإسلام والقرآن خيرٌ من المال الذي يجمعون، وكذلك:- حدثت عن عبد الوهاب بن عطاء، عن هارون، عن أبي التيّاح: ( فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، يعني الكفار. ورُوي عن أبيّ بن كعب في ذلك ما:- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أسلم المنقري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب : أنه كان يقرأ: ( فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) ، بالتاء. حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الأجلح، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب ، مثل ذلك. وكذلك كان الحسن البصري يقول: غير أنه فيما ذُكر عنه كان يقرأ قوله: ( هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) ، بالياء; الأول على وجه الخطاب، والثاني على وجه الخبر عن الغائب. وكان أبو جعفر القارئ، فيما ذكر عنه، يقرأ ذلك نحو قراءة أبيّ ، بالتاء جميعًا. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار من قراءة الحرفين جميعًا بالياء: ( فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) لمعنيين: أحدهما: إجماع الحجة من القراء عليه. والثاني: صحته في العربية، وذلك أن العرب لا تكاد تأمر المخاطب باللام والتاء، وإنما تأمره فتقول: « افعل ولا تفعل » . وبعدُ، فإني لا أعلم أحدًا من أهل العربية إلا وهو يستردئ أمر المخاطب باللام، ويرى أنها لغة مرغوب عنها ، غير الفراء، فإنه كان يزعم أن الّلام في الأمر [ هي البناء الذي خلق له ] ، واجهتَ به أم لم تُوَاجِهْ، إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجَه ، لكثرة الأمر خاصةً في كلامهم، كما حذَفوا التاء من الفعل. قال: وأنت تعلم أن الجازم والناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوله الياء والتاء والنون والألف، فلما حُذِفت التاء ذهبت اللام ، وأُحدِثَت الألف في قولك: « اضرب » و « افرح » ، لأن الفاء ساكنة، فلم يستقم أن يستأنف بحرف ساكنٍ، فأدخلوا ألفًا خفيفة يقع بها الابتداء، كما قال: ادَّارَكُوا ، [ سورة الأعراف: 38 ] و اثَّاقَلْتُمْ ، [ سورة التوبة: 38 ] . وهذا الذي اعتلّ به الفراء عليه لا له، وذلك أن العَرب إن كانت قد حذفت اللام في المواجَه وتركتها، فليس لغيرها إذا نطق بكلامها أن يُدْخِل فيها ما ليس منه ما دام متكلِّمًا بلغتها. فإن فعل ذلك ، كان خارجًا عن لغتها، وكتابُ الله الذي أنـزله على محمد بلسانها، فليس لأحدٍ أن يتلوه إلا بالأفصح من كلامها، وإن كان معروفًا بعضُ ذلك من لغة بعضها، فكيف بما ليس بمعروف من لغة حيّ ولا قبيلة منها؟ وإنما هو دعوى لا تثبتُ بها [ حجّة ] ولا صحة . القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ( 59 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قل ) يا محمد لهؤلاء المشركين: ( أرأيتم ) أيها الناس ( ما أنـزل الله لكم من رزق ) ، يقول: ما خلق الله لكم من الرزق فخَوَّلكموه، وذلك ما تتغذون به من الأطعمة ( فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) ، يقول: فحللتم بعضَ ذلك لأنفسكم، وحرمتم بعضه عليها، وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرِّمونه من حُروثهم التي كانوا يجعلونها لأوثانهم، كما وصفهم الله به فقال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [ سورة الأنعام: 136 ] . ومن الأنعام ما كانوا يحرّمونه بالتبحير والتسيبب ونحو ذلك، مما قدّمناه فيما مضى من كتابنا هذا. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد ( آلله أذن لكم ) بأن تحرِّموا ما حرَّمتم منه ( أم على الله تفترون ) ، : أي تقولون الباطل وتكذبون؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله: ( قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) وهو هذا. فأنـزل الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ الآية [ سورة الأعراف: 32 ] . حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبى قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم ) إلى قوله: ( أم على الله تفترون ) ، قال: هم أهل الشرك. حدثني القاسم، قال، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: ( فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) ، قال: الحرث والأنعام قال ابن جريج قال ، مجاهد: البحائر والسُّيَّب . حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) قال: في البحيرة والسائبة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) ، الآية، يقول: كل رزق لم أحرِّم حرَّمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم ، آلله أذن لكم فيما حرمتم من ذلك ، أم على الله تفترون؟ حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) ، فقرأ حتى بلغ: ( أم على الله تفترون ) ، وقرأ : وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [ سورة الأنعام: 139 ] ، وقرأ: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ حتى بلغ: لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا [ سورة الأنعام: 138 ] فقال: هذا قوله: جعل لهم رزقًا، فجعلوا منه حرامًا وحلالا وحرموا بعضه وأحلوا بعضه. وقرأ: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ ، أيّ هذين حرم على هؤلاء الذين يقولون وأحل لهؤلاء، نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا ، إلى آخر الآيات، [ سورة الأنعام: 144 ] . حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) ، هو الذي قال الله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا إلى قوله: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ، [ سورة الأنعام: 136 ] . القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ( 60 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما ظن هؤلاء الذين يتخرَّصون على الله الكذبَ فيضيفون إليه تحريم ما لم يحرّمه عليهم من الأرزاق والأقوات التي جعلها الله لهم غذاءً، أنَّ الله فاعلٌ بهم يوم القيامة بكذبهم وفريتهم عليه؟ أيحسبون أنه يصفح عنهم ويغفر؟ كلا بل يصليهم سعيرًا خالدين فيها أبدًا ( إن الله لذو فضل على الناس ) ، يقول: إن الله لذو تفضُّل على خلقه بتركه معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا ، وإمهاله إياه إلى وروده عليه في القيامة ( ولكن أكثرهم لا يشكرون ) ، يقول: ولكن أكثر الناس لا يشكرونه على تفضُّله عليهم بذلك ، وبغيره من سائر نعمه. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 61 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وما تكون ) ، يا محمد ( في شأن ) ، يعني: في عمل من الأعمال ( وما تتلوا منه من قرآن ) ، يقول: وما تقرأ من كتاب الله من قرآن ( ولا تعملون من عمل ) ، يقول: ولا تعملون من عمل أيها الناس ، من خير أو شر ( إلا كنَّا عليكم شهودًا ) ، يقول: إلا ونحن شهود لأعمالكم وشئونكم ، إذ تعملونها وتأخذون فيها. وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي القول عن ابن عباس وجماعة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( إذ تفيضون فيه ) ، يقول: إذ تفعلون. وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تشيعون في القرآن الكذبَ. ذكر من قال ذلك: حدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: ( إذ تفيضون فيه ) ، يقول: تشيعون في القرآن من الكذب. وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تفيضون في الحق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إذ تفيضون فيه ) ، في الحق ما كان. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأنه تعالى ذكره أخبر أنه لا يعمل عباده عملا إلا كان شاهدَه، ثم وصل ذلك بقوله: ( إذ يفيضون فيه ) ، فكان معلومًا أن قوله: ( إذ تفيضون فيه ) إنما هو خبرٌ منه عن وقت عمل العاملين أنه له شاهد لا عن وَقْت تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، لأن ذلك لو كان خبرًا عن شهوده تعالى ذكره وقتَ إفاضة القوم في القرآن، لكانت القراءة بالياء: « إذ يفيضون فيه » خبرًا منه عن المكذبين فيه. فإن قال قائل: ليس ذلك خبرًا عن المكذبين، ولكنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أنه شاهده إذْ تلا القرآن. فإن ذلك لو كان كذلك لكان التنـزيل : ( إذ تفيضون فيه ) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم واحدٌ لا جمع، كما قال: ( وما تتلوا منه من قرآن ) ، فأفرده بالخطاب ولكن ذلك في ابتدائه خطابَه صلى الله عليه وسلم بالإفراد ، ثم عَوْده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ، [ سورة الطلاق: 1 ] ، وذلك أن في قوله: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ، دليلا واضحًا على صرفه الخطابَ إلى جماعة المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم مع جماعة الناس غيره، لأنه ابتدأ خطابه ، ثم صرف الخطابَ إلى جماعة الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم. وخبرٌ عن أنه لا يعمل أحدٌ من عباده عملا إلا وهو له شاهد ، يحصى عليه ويعلمه كما قال: ( وما يعزب عن ربك ) ، يا محمد ، عمل خلقه، ولا يذهب عليه علم شيء حيث كان من أرض أو سماء. وأصله من « عزوب الرجل عن أهله في ماشيته » ، وذلك غيبته عنهم فيها، يقال منه: « عزَبَ الرَّجل عن أهله يَعْزُبُ ويَعْزِبُ » . لغتان فصيحتان، قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء. وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما واستفاضتهما في منطق العرب، غير أني أميل إلى الضم فيه ، لأنه أغلب على المشهورين من القراء. وقوله: ( من مثقال ذرة ) ، يعني: من زنة نملة صغيرة. يحكى عن العرب: « خذ هذا فإنه أخف مثقالا من ذاك، أي: أخفُّ وزنًا. » و « الذرّة » واحدة : « الذرّ » ، و « الذرّ » ، صغار النمل. قال أبو جعفر: وذلك خبَرٌ عن أنه لا يخفى عليه جل جلاله أصغر الأشياء، وإن خف في الوزن كلّ الخفة، ومقاديرُ ذلك ومبلغه، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه، وكم مبلغ ذلك . يقول تعالى ذكره لخلقه: فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربَّكم عنكم، فإنّا شهود لأعمالكم، لا يخفى علينا شيء منها، ونحن محصُوها ومجازوكم بها. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) . فقرأ ذلك عامة القراء بفتح الراء من ( أَصْغَرَ ) و ( أَكْبَرَ ) على أن معناها الخفض، عطفًا بالأصغر على الذرة ، وبالأكبر على الأصغر، ثم فتحت راؤهما ، لأنهما لا يُجْرَيان. وقرأ ذلك بعض الكوفيين: [ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ ] رفعًا، عطفًا بذلك على معنى المثقال، لأن معناه الرفع. وذلك أن ( مِنْ ) لو ألقيت من الكلام ، لرفع المثقال، وكان الكلام حينئذٍ: « وما يعزُب عن ربك مثقالُ ذرة ولا أصغرُ من مثقال ذرة ولا أكبرُ » ، وذلك نحو قوله: مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ، و غَيْرُ اللَّهِ ، [ سورة فاطر: 3 ] . قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ بالفتح ، على وجه الخفض والردّ على الذرة، لأن ذلك قراءة قراء الأمصار ، وعليه عَوَامٌّ القراء، وهو أصحُّ في العربية مخرجًا ، وإن كان للأخرى وجهٌ معروفٌ. وقوله: ( إلا في كتاب ) ، يقول: وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله ( مبين ) ، عن حقيقة خبر الله لمن نظر فيه. أنه لا شيء كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جل ثناؤه فيه، وأنه لا يعزُب عن الله علم شيء من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( وما يعزب ) ، يقول: لا يغيب عنه. حدثني محمد بن عمارة قال ، حدثنا عبد الله قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس: ( وما يعزب عن ربك ) ، قال: ما يغيب عنه. القول في تأويل قوله تعالى : أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن أنصار الله لا خوف عليهم في الآخرة من عقاب الله، لأن الله رضي عنهم فآمنهم من عقابه ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. و « الأولياء » جمع « ولي » ، وهو النصير، وقد بينا ذلك بشواهده. واختلف أهل التأويل فيمن يستحق هذا الاسم. فقال بعضهم: هم قومٌ يُذْكَرُ الله لرؤيتهم ، لما عليهم من سيما الخير والإخبات. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان قال ، حدثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، قال: الذين يُذْكَرُ الله لرؤيتهم. حدثنا أبو كريب وأبو هشام قالا حدثنا ابن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن أبي الضحى، مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، قال: الذي يُذْكَر الله لرؤيتهم. . . . . قال، حدثنا ابن مهدي وعبيد الله، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن أبي الضحى قال: سمعته يقول في هذه الآية: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، قال: من الناس مَفَاتِيح ، إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم. . . . . قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن سَهْل أبي الأسد، عن سعيد بن جبير، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن « أولياء الله » ، فقال : الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله. . . . . قال، حدثنا زيد بن حباب، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن عبد الله: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، قال: الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم . . . . قال، حدثنا أبو يزيد الرازي، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر اللهُ. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا فرات، عن أبي سعد، عن سعيد بن جبير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن « أولياء الله » ، قال: هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله. . . . . قال، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام، عن عبد الله بن أبي الهذيل في قوله: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، الآية، قال: إن ولي الله إذا رُئِي ذُكِر الله. وقال آخرون في ذلك بما:- حدثنا أبو هاشم الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا أبي عن عمارة بن القعقاع الضبي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله عبادًا يغبطهم الأنبياء والشهداء! قيل: من هم يا رسول الله؟ فلعلنا نحبُّهم! قال: هم قوم تحابُّوا في الله من غير أموالٍ ولا أنساب، وجوههم من نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله! قالوا: يا رسول الله ، أخبرنا من هم وما أعمالهم؟ فإنا نحبهم لذلك! قال: هم قوم تحابُّوا في الله بروح الله ، على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوا الله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ هذه الآية: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال ، حدثنا يحيى بن حسان قال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال ، حدثنا شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يأتي من أفْنَاء الناس ونوازع القبائل ، قوم لم تَصل بينهم أرحام متقاربة، تحابُّوا في الله ، وتصافَوْا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور ، فيجلسهم عليها، يفزع الناس فلا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. » قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: « الولي » أعني « ولي الله » هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها، وهو الذي آمن واتقى، كما قال الله الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: ( ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، من هم يا ربّ؟ قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ، قال: أبى أن يُتَقَبَّل الإيمان إلا بالتقوى. القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 63 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين صدقوا لله ورسوله، وما جاء به من عند الله، وكانوا يتَّقون الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. وقوله: ( الذين آمنوا ) من نعت « الأولياء » ، ومعنى الكلام: ألا إن أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فإن قال قائل: فإذ كان معنى الكلام ما ذكرت عندك، أفي موضع رفع ( الذين آمنوا ) أم في موضع نصب؟ قيل: في موضع رفع. وإنما كان كذلك ، وإن كان من نعت « الأولياء » ، لمجيئه بعد خبر « الأولياء » ، والعرب كذلك تفعل خاصة في « إنّ » ، إذا جاء نعت الاسم الذي عملت فيه بعد تمام خبره رفعوه فقالوا: « إن أخاك قائم الظريفُ » ، كما قال الله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ، [ سورة سبأ: 48 ] ، وكما قال: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ، [ سورة ص: 64 ] . وقد اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك، مع أن إجماع جميعهم على أن ما قلناه هو الصحيح من كلام العرب. وليس هذا من مواضع الإبانة عن العلل التي من أجلها قيل ذلك كذلك. القول في تأويل قوله تعالى : لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 64 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: البشرى من الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لأولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون. ثم اختلف أهل التأويل في « البشرى » ، التي بشر الله بها هؤلاء القوم ما هي؟ وما صفتها؟ فقال بعضهم: هي الرؤية الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن شيخ، عن أبى الدرداء، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له. حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال: أخبرنا الأوزاعي قال، أخبرني يحيى بن أبي كثير قال ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سأل عبادةُ بن الصامت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك أو قال: غيرك. قال: هي الرؤية الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له. » حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو داود عمن ذكره، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي الرؤية الصالحة يراها المسلم أو تُرى له. حدثنا أبو قلابة قال ، حدثنا مسلم قال ، حدثنا أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. حدثنا ابن المثنى، وأبو عثمان بن عمر قالا حدثنا علي بن يحيى، عن أبي سلمة قال: نُبّئت أن عبادة بن الصامت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، فقال: سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، قال: سأل رجلٌ أبا الدرداء عن هذه الآية فقال: لقد سألتني عن شيء ما سمعت أحدًا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة الجنة. حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا عثمان بن سعيد، عن سفيان، عن ابن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، فقال: ما سألني عنها أحدٌ منْذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرَك، إلا رجلًا واحدًا! سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلها الله غيرك إلا رجلًا واحدًا، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ، حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، سمع عطاء بن يسار يخبر، عن رجل من أهل مصر: أنه سأل أبا الدرداء عن: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، ثم ذكر نحو حديث سعيد بن عمرو السكوني، عن عثمان بن سعيد. حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال ، حدثني يحيى بن سعيد قال ، حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأحموسيّ، عن حميد بن عبد الله المزني قال: أتَى رجلٌ عبادةَ بن الصامت فقال: آية في كتاب الله أسألك عنها، قول الله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ؟ فقال عبادة: ما سألني عنها أحدٌ قبلك! سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مثل ذلك: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، الرؤيا الصالحة يراها العبدُ المؤمن في المنام أو تُرَى له . حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر قال ، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الحسنة، هي البشرى ، يراها المسلم، أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي صالح قال، قال أبو هريرة: الرؤيا الحسنة بشرى من الله، وهي المبشِّرات . حدثنا محمد بن حاتم المؤدب قال ، حدثنا عمار بن محمد قال ، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » ، الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو تُرَى له وهي في الآخرة الجنة. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا محمد بن يزيد قال ، حدثنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن أبي السَّمْح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » الرؤيا الصالحة يُبَشَّر بها العبد جزء من تسعة وأربعين جزءًا من النبوّة. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد بن صفوان، عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، فقد عرفنا بشرى الآخرة، فما بشرى الدنيا؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءًا أو ستين جزءًا من النبوة. حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، حدثنا أبو عمرو قال ، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » ، فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ من أمتي قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. حدثنا أحمد بن حماد الدولابي قال ، حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، عن أم كرز الكعبية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت النبوّة وبقيت المبشّرات. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الأعمش، عن ذكوان، عن رجل، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » ، قال: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل كان بمصر ، قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، فقال أبو الدرداء: ما سألني عنها أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، وفي الآخرة الجنة. . . . . قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي الدرداء قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، قال: ما سألني عنها أحد غيرُك، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء في قوله: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، قال: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له، وفي الآخرة الجنة. . . . . قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح قال ابن عيينة: ثم سمعته من عبد العزيز، عن أبي صالح السمان عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » ، قال: ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلت عليَّ إلا رجلٌ واحدٌ، هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار: أنه سأل رجلا من أهل مصر فقيهًا ، قدم عليهم في بعض تلك المواسم، قال قلت: ألا تخبرني عن قول الله تعالى ذكره: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ؟ قال: سألت عنها أبا الدرداء، فأخبرني أنه سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا أبي، عن علي بن مبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) قال: « هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له. » حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم وأبو الوليد الطيالسي قالا حدثنا أبان قال ، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت، قال: قلت: يا رسول الله، قال الله تعالى: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك أو : أحدٌ من أمتي قال: « هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرَى له. » . . . . قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، قال: سمعت أبا الدرداء، وسئل عن: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، قال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: هي الرؤيا الحسنة يراها الإنسان أو تُرَى له. . . . . وقال: ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن أبي الدرداء أو ابن جريج ، عن محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: هي الرؤيا الصالحة. . . . . وقال ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: هي الرؤيا يراها الرجل. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح. . . . . قال، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن طلحة القناد، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد المسلم لنفسه أو لبعض إخوانه. قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: الرؤيا من المبشِّرات. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: « ما سألني عنها أحدٌ من أمتي منذ أنـزلت عليّ قبلك ! قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل لنفسه أو تُرَى له. » . . . . قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن العوام، عن إبراهيم التيمي، أن ابن مسعود قال: ذهبت النبوة، وبقيت المبشِّرات! قيل: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. قال، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، فهو قوله لنبيه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ، [ سورة الأحزاب: 47 ] . قال: هي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن حرب قال ، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن عطاء في قوله: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: هي رؤيا الرجل المسلم يبشَّر بها في حياته. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث أن درَّاجًا أبا السمح حدثه ، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) : الرؤيا الصالحة يبشَّر بها المؤمن ، جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة. حدثني يونس قال، أخبرنا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه في هذه الآية: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا حميد بن عبد الله: أن رجلا سأل عبادة بن الصامت عن قول الله تعالى: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، فقال عبادة: لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ قبلك، ولقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني فقال لي: يا عبادة لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ من أمتي! تلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو تُرى له. وقال آخرون: هي بشارة يبشَّر بها المؤمن في الدنيا عند الموت. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، وقتادة: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: هي البشارة عند الموت في الحياة الدنيا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يعلى، عن أبي بسطام، عن الضحاك: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: يعلم أين هو قبل الموت. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: « أن الملائكة التي تحضره عند خروج نفسه، تقول لنفسه: اخرجي إلى رحمة الله ورضوانه » . ومنها: بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل، كما قال جل ثناؤه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ الآية ، [ سورة البقرة: 25 ] . وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمه جل ثناؤه : أن ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، وأما في الآخرة فالجنة. وأما قوله: ( لا تبديل لكلمات الله ) ، فإن معناه: إن الله لا خُلْفَ لوعده ، ولا تغيير لقوله عما قال، ولكنه يُمْضي لخلقه مواعيدَه وينجزها لهم، وقد:- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب، عن نافع قال: أطال الحجاج الخطبة، فوضع ابن عمر رأسَه في حِجْري، فقال الحجاج: إن ابن الزبير بدّل كتاب الله! فقعد ابن عمر فقال: لا تستطيع أنت ذاك ولا ابن الزبير ! لا تبديل لكلمات الله! فقال الحجاج: لقد أوتيت علمًا إن نفعك! قال أيوب: فلما أقبل عليه في خاصّة نفسه سكَتَ. وقوله: ( ذلك هو الفوز العظيم ) ، يقول تعالى ذكره: هذه البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة « وهي الفوز العظيم » ، يعني الظفر بالحاجة والطَّلبة والنجاة من النار. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 65 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزنكَ ، يا محمد ، قول هؤلاء المشركين في ربهم ما يقولون، وإشراكهم معه الأوثان والأصنام فإنّ العزة لله جميعًا، يقول تعالى ذكره: فإن الله هو المنفرد بعزة الدنيا والآخرة ، لا شريك له فيها، وهو المنتقم من هؤلاء المشركين القائلين فيه من القول الباطل ما يقولون، فلا ينصرهم عند انتقامه منهم أحدٌ، لأنه لا يُعَازُّه شيء ( هو السميع العليم ) ، يقول: وهو ذو السمع لما يقولون من الفرية والكذب عليه، وذو علم بما يضمرونه في أنفسهم ويعلنونه، مُحْصًى ذلك عليهم كله، وهو لهم بالمرصاد. وكسرت « إن » من قوله: ( إن العزة لله جميعًا ) لأن ذلك خبرٌ من الله مبتدأ، ولم يعمل فيها « القول » ، لأن « القول » ، عني به قول المشركين، وقوله: ( إن العزة لله جميعًا ) ، لم يكن من قِيل المشركين، ولا هو خبرٌ عنهم أنهم قالوه. القول في تأويل قوله تعالى : أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 66 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن لله يا محمد كلَّ من في السموات ومن في الأرض ، ملكًا وعبيدًا ، لا مالك لشيء من ذلك سواه. يقول: فكيف يكون إلهًا معبودًا من يعبُده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام، وهي لله ملك، وإنما العبادة للمالك دون المملوك، وللرب دون المربوب؟ ( وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ) ، يقول جل ثناؤه: وأيُّ شيء يتبع من يدعو من دون الله يعني: غير الله وسواه شركاء. ومعنى الكلام: أيُّ شيءٍ يتبع من يقول لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبًا، والله المنفرد بملك كل شيء في سماء كان أو أرض؟ ( إن يتبعون إلا الظن ) ، يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك ودعواهم إلا الظن، يقول: إلا الشك لا اليقين ( وإن هم إلا يخرصون ) ، يقول: وإن هم إلا يتقوّلون الباطل تظنِّيًا وتَخَرُّصا للإفك ، عن غير علمٍ منهم بما يقولون. القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( 67 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنّ ربكم أيها الناس الذي استوجب عليكم العبادة، هو الرب الذي جعل لكم الليل وفصله من النهار، لتسكنوا فيه مما كنتم فيه في نهاركم من التَّعب والنَّصب، وتهدءوا فيه من التصرف والحركة للمعاش والعناء الذي كنتم فيه بالنهار ( والنهار مبصرًا ) ، يقول: وجَعَل النهار مبصرًا، فأضاف « الإبصار » إلى « النهار » ، وإنما يُبْصَر فيه، وليس « النهار » مما يبصر، ولكن لما كان مفهوما في كلام العرب معناه، خاطبهم بما في لغتهم وكلامهم، وذلك كما قال جرير: لَقَـــدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْـلانَ فِي السُّرَى وَنِمـتِ , وَمَـا لَيْــلُ الْمَطِـيِّ بِنَائِـمِ فأضاف « النوم » إلى « الليل » ووصفه به، ومعناه نفسه، أنه لم يكن نائمًا فيه هو ولا بَعِيره. يقول تعالى ذكره: فهذا الذي يفعل ذلك هو ربكم الذي خلقكم وما تعبدون، لا ما لا ينفع ولا يضر ولا يفعل شيئًا . وقوله: ( إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) ، يقول تعالى ذكره: إن في اختلاف حال الليل والنهار وحال أهلهما فيهما ، دلالةً وحججًا على أن الذي له العبادة خالصا بغير شريك، هو الذي خلق الليل والنهار ، وخالف بينهما، بأن جعل هذا للخلق سكنًا، وهذا لهم معاشًا، دون من لا يخلق ولا يفعل شيئًا ، ولا يضر ولا ينفع. وقال: ( لقوم يسمعون ) ، لأن المراد منه: الذين يسمعون هذه الحجج ويتفكرون فيها ، فيعتبرون بها ويتعظون. ولم يرد به : الذين يسمعون بآذانهم ، ثم يعرضون عن عبره وعظاته. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 68 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد: ( اتخذ الله ولدًا ) ، وذلك قولهم: « الملائكة بنات الله » . يقول الله منـزهًا نفسه عما قالوا وافتروا عليه من ذلك: « سبحان الله » ، تنـزيهًا لله عما قالوا وادَّعوا على ربهم « هو الغني » يقول: الله غنيٌّ عن خلقه جميعًا، فلا حاجة به إلى ولد، لأن الولد إنما يَطْلُبه من يطلبه ، ليكون عونًا له في حياته وذكرًا له بعد وفاته، والله عن كل ذلك غنيٌّ، فلا حاجة به إلى معين يعينه على تدبيره ، ولا يبيدُ فيكون به حاجة إلى خلف بعده ( له ما في السموات وما في الأرض ) ، يقول تعالى ذكره: لله ما في السموات وما في الأرض مِلْكًا ، والملائكةُ عباده وملكه، فكيف يكون عبد الرجل وملكه له ولدًا؟ يقول: أفلا تعقلون أيها القوم خطأ ما تقولون؟ ( إن عندكم من سلطان بهذا ) ، يقول: ما عندكم أيها القوم ، بما تقولون وتدّعون من أن الملائكة بنات الله ، من حجة تحتجون بها وهي السلطان أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته وصحته، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه ، جهلا منكم بما تقولون ، بغير حجة ولا برهان؟ القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ( 69 ) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 70 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) يا محمد ، لهم إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ، فيقولون عليه الباطل، ويدّعون له ولدًا لا يُفْلِحُونَ ، يقول: لا يَبْقَون في الدنيا ، ولكن لهم متاع في الدنيا يمتعون به، وبلاغ يتبلغون به إلى الأجل الذي كُتِب فناؤهم فيه ( ثم إلينا مرجعهم ) ، يقول: ثم إذا انقضى أجلهم الذي كتب لهم ، إلينا مصيرهم ومنقلبهم ( ثم نذيقهم العذاب الشديد ) ، وذلك إصلاؤهم جهنم ( بما كانوا يكفرون ) بالله في الدنيا، فيكذبون رسله ، ويجحدون آياته. ورفع قوله: ( متاع ) بمضمر قبله إما « ذلك » ، و إما « هذا » . القول في تأويل قوله تعالى : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ( 71 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( واتل ) على هؤلاء المشركين الذين قالوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، من قومك ( نبأ نوح ) ، يقول: خبر نوح ( إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي ) ، يقول: إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشقّ عليكم، ( وتذكيري بآيات الله ) ، يقول، ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك ( فعلى الله توكلت ) ، يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم ، وتذكيري بآيات الله ، فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي ، وهو سَنَدي وظهري ( فأجمعوا أمركم ) ، يقول: فأعدُّوا أمركم ، واعزموا على ما تنوُون عليه في أمري. يقال منه: « أجمعت على كذا » ، بمعنى: عزمت عليه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من لم يُجْمِع على الصوم من الليل فلا صَوْم له » ، بمعنى: من لم يعزم، ومنه قول الشاعر: يَـا لَـيْتَ شِعْـرِي وَالْمُنَـى لا تَنْفَــعُ هَلْ أَغْـدُوَنْ يَوْمًــا وَأَمْـرِي مُجْمَــعُ وروي عن الأعرج في ذلك ما:- حدثني بعض أصحابنا ، عن عبد الوهاب ، عن هارون، عن أسيد، عن الأعرج: ( فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) ، يقول: أحكموا أمركم ، وادعوا شركاءكم. ونصب قوله: ( وشركاءكم ) ، بفعل مضمر له، وذلك: « وادعوا شركاءكم » ، وعطف ب « الشركاء » على قوله: ( أمركم ) ، على نحو قول الشاعر: وَرَأَيْــتِ زَوْجَــكِ فِــي الْـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا فالرمح لا يُتَقلَّد، ولكن لما كان فيما أظهر من الكلام دليلٌ على ما حذف، اكتفي بذكر ما ذكر منه مما حذف ، فكذلك ذلك في قوله: ( وشركاءكم ) . واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته قراء الأمصار: ( وَشُرَكَاءَكُمْ ) نصبًا، وقوله: ( فَأَجْمِعُوا ) ، بهمز الألف وفتحها، من : « أجمعت أمري فأنا أجمعه إجماعًا. » وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ) ، بفتح الألف وهمزها ( وَشُرَكَاؤُكُمْ ) ، بالرفع على معنى: وأجمعوا أمركم، وليجمع أمرَهم أيضًا معكم شركاؤكم. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك قراءةُ من قرأ: ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ) ، بفتح الألف من « أجمعوا » ، ونصب « الشركاء » ، لأنها في المصحف بغير واو، ولإجماع الحجة على القراءة بها ، ورفض ما خالفها، ولا يعترض عليها بمن يجوز عليه الخطأ والسهو. وعني ب « الشركاء » ، آلهتهم وأوثانهم. وقوله: ( ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) ، يقول: ثم لا يكن أمركم عليكم ملتبسًا مشكلا مبهمًا. من قولهم: « غُمَّ على الناس الهلال » ، وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبيَّنوه، ومنه قول [ العجاج ] : بَــلْ لَـوْ شَـهِدْتِ النَّـاسَ إِذْ تُكُمُّـوا بِغُمّــةٍ لَــوْ لَــمْ تُفَــرَّجْ غُمُّـوا وقيل: إن ذلك من « الغم » ، لأن الصدر يضيق به ، ولا يتبين صاحبه لأمره مَصدرًا يَصْدُرُه يتفرَّج عليه ما بقلبه، ومنه قول خنساء: وَذِي كُرْبَـةٍ رَاخَـى ابْنُ عَمْرٍو خِنَاقَه وَغُمَّتَــهُ عَــنْ وَجْهِــهِ فَتَجَـلَّتِ وكان قتادة يقول في ذلك ما: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( أمركم عليكم غمة ) ، قال: لا يكبر عليكم أمركم. وأما قوله: ( ثم اقضوا إليّ ) ، فإن معناه: ثم أمضوا إليّ ما في أنفسكم وافرغوا منه، كما:- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون ) ، قال: اقضوا إليّ ما كنتم قاضين. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون ) ، قال: اقضوا إليّ ما في أنفسكم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله: ( ثم اقضوا إليّ ) . . فقال بعضهم: معناه: امضوا إلي، كما يقال: « قد قضى فلان » ، يراد: قد مات ومَضَى. وقال آخرون منهم: بل معناه: ثم افرغوا إليّ، وقالوا: « القضاء » ، الفراغ، والقضاء من ذلك. قالوا: وكأنّ « قضى دينه » من ذلك ، إنما هو فَرَغ منه. وقد حُكي عن بعض القراء أنه قرأ ذلك: ( ثُمَّ أَفْضُوا إِلَيَّ ) ، بمعنى: توجَّهوا إليّ حتى تصلوا إليّ، من قولهم: « قد أفْضَى إليّ الوَجَع وشبهه » . وقوله: ( ولا تنظرون ) ، يقول: ولا تؤخرون. من قول القائل: « أنظرت فلانًا بما لي عليه من الدين » . قال أبو جعفر: وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه نوح عليه السلام لقومه: إنه بنُصرة الله له عليهم واثق ، ومن كيدهم وبوائقهم غير خائف وإعلامٌ منه لهم أن آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع، يقول لهم: أمضوا ما تحدّثون أنفسكم به فيَّ ، على عزم منكم صحيح، واستعينوا مع من شايعكم عليّ بآلهتكم التي تدْعون من دون الله، ولا تؤخروا ذلك ، فإني قد توكلت على الله ، وأنا به واثق أنكم لا تضروني إلا أن يشاء ربي. وهذا وإن كان خبرًا من الله تعالى عن نوح، فإنه حثٌّ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على التأسّي به، وتعريفٌ منه سبيلَ الرشاد فيما قلَّده من الرسالة والبلاغ عنه. القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 72 ) يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نبيه نوح عليه السلام لقومه: ( فإن توليتم ) ، أيها القوم ، عني بعد دعائي إياكم ، وتبليغ رسالة ربي إليكم ، مدبرين، فأعرضتم عمّا دعوتكم إليه من الحقّ ، والإقرار بتوحيد الله ، وإخلاص العبادة له ، وترك إشراك الآلهة في عبادته، فتضييعٌ منكم وتفريطٌ في واجب حق الله عليكم، لا بسبب من قبلي، فإني لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرًا ، ولا عوضًا أعتاضه منكم بإجابتكم إياي إلى ما دعوتكم إليه من الحق والهدى، ولا طلبت منكم عليه ثوابًا ولا جزاءً ( إن أجري إلا على الله ) يقول جل ثناؤه: إن جزائي وأجر عملي وثوابه إلا على ربي ، لا عليكم ، أيها القوم ، ولا على غيركم ( وأمرت أن أكون من المسلمين ) ، وأمرني ربي أن أكون من المذعنين له بالطاعة ، المنقادين لأمره ونهيه ، المذللين له، ومن أجل ذلك أدعوكم إليه ، وبأمره آمركم بترك عبادة الأوثان. القول في تأويل قوله تعالى : فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ( 73 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فكذب نوحًا قومه فيما أخبرهم به عن الله من الرسالة والوحي « فنجيناه ومن معه » ممن حمل معه في « الفلك » ، يعني في السفينة « وجعلناهم خلائف » ، يقول: وجعلنا الذين نجينا مع نوح في السفينة خلائف في الأرض من قومه الذين كذبوه بعد أن أغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، يعني حججنا وأدلتنا على توحيدنا، ورسالة رسولنا نوح. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « فانظر » ، يا محمد كيف كان عاقبة المنذرين « وهم الذين أنذرهم نوحٌ عقابَ الله على تكذيبهم إياه وعبادتهم الأصنام. يقول له جل ثناؤه: انظر ماذا أعقبهم تكذيبهم رسولَهم، فإن عاقبة من كذَّبك من قومك إن تمادوا في كفرهم وطغيانهم على ربهم ، نحو الذي كان من عاقبة قوم نوح حين كذبوه. » يقول جل ثناؤه: فليحذروا أن يحلّ بهم مثل الذي حلّ ، بهم إن لم يتوبوا. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ( 74 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم، فأتوهم ببينات من الحجج والأدلّة على صدقهم، وأنهم لله رسل، وأن ما يدعونهم إليه حقّ ( فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ) ، يقول: فما كانوا ليصدّقوا بما جاءتهم به رسلهم بما كذب به قوم نوح ومن قبلَهم من الأمم الخالية من قبلهم ( كذلك نطبع على قلوب المعتدين ) ، يقول تعالى ذكره: كما طبعنا على قلوب أولئك فختمنا عليها، فلم يكونوا يقبَلون من أنبياء الله نصيحتَهم، ولا يستجيبون لدعائهم إيّاهم إلى ربهم ، بما اجترموا من الذنوب واكتسبوا من الآثام كذلك نطبع على قلوب من اعتدى على ربّه فتجاوز ما أمره به من توحيده، وخالف ما دعاهم إليه رسلهم من طاعته، عقوبة لهم على معصيتهم ربَّهم من هؤلاء الآخرين من بعدهم. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( 75 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الذين أرسلناهم من بعد نوح إلى قومهم، موسى وهارون ابني عمران ، إلى فرعون مصر وملئه ، يعني: وأشراف قومه وسادتهم ( بآياتنا ) ، يقول: بأدلتنا على حقيقة ما دعوهم إليه من الإذعان لله بالعُبُودة، والإقرار لهما بالرسالة ( فاستكبروا ) ، يقول: فاستكبروا عن الإقرار بما دعاهم إليه موسى وهارون ( وكانوا قومًا مجرمين ) ، يعني: آثمين بربهم ، بكفرهم بالله. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ( 76 ) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ( 77 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا ) ، يعني: فلما جاءهم بيانُ ما دعاهم إليه موسى وهارون، وذلك الحجج التي جاءهم بها، وهي الحق الذي جاءهم من عند الله ( قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ) ، يعنون أنه يبين لمن رآه وعاينه أنه سحر لا حقيقة له ( قال موسى ) ، لهم: ( أتقولون للحق لما جاءكم ) ، من عند الله ( أسحر هذا ) ؟ . واختلف أهل العربية في سبب دخول ألف الاستفهام في قوله: ( أسحر هذا ) ؟ فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت فيه على الحكاية لقولهم ، لأنهم قالوا: ( أسحر هذا ) ؟ فقال: أتقولون: ( أسحر هذا ) ؟ وقال بعض نحويي الكوفة: إنهم قالوا : « هذا سحر » ، ولم يقولوه بالألف، لأن أكثر ما جاء بغير ألف. قال: فيقال: فلم أدخلت الألف؟ فيقال: قد يجوز أن تكون من قِيلهم وهم يعلمون أنه سحر، كما يقول الرجل للجائزة إذا أتته: أحقٌّ هذا؟ وقد علم أنه حق. قال: وقد يجوز أن تكون على التعجّب منهم: أسحر هذا؟ ما أعظمه! قال أبو جعفر: وأولى ذلك في هذا بالصواب عندي أن يكون المفعولُ محذوفًا، ويكون قوله: ( أسحر هذا ) ، من قيل موسى ، منكرًا على فرعون وملئه قولَهم للحق لما جاءهم: « سحر » ، فيكون تأويل الكلام حينئذ: قال موسى لهم: ( أتقولون للحق لما جاءكم ) وهي الآيات التي أتاهم بها من عند الله حجة له على صدقه سحرٌ، أسحرٌ هذا الحقّ الذي ترونه؟ فيكون « السحر » الأوّل محذوفًا ، اكتفاءً بدلالة قول موسى ( أسحر هذا ) ، على أنه مرادٌ في الكلام، كما قال ذو الرمة. فَلَمَّـا لَبِسْـنَ اللَّيْـلَ , أَوْ حِينَ نَصَّبَت لَـهُ مِـنْ خَـدَا آذَانِهَـا وَهْـوَ جَـانِحُ يريد: أو حين أقبل، ثم حذف اكتفاءً بدلالة الكلام عليه، وكما قال جل ثناؤه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ [ سورة الإسراء: 7 ] ، والمعنى: بعثناهم لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ فترك ذلك اكتفاء بدلالة الكلام عليه، في أشباه لما ذكرنا كثيرة ، يُتْعب إحصاؤها. وقوله: ( ولا يفلح الساحرون ) ، يقول: ولا ينجح الساحرون ولا يَبْقون. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ( 78 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال فرعون وملؤه لموسى: ( أجئتنا لتلفتنا ) ، يقول: لتصرفنا وتلوينا ( عمّا وجدنا عليه آباءنا ) ، من قبل مجيئك ، من الدين. يقال منه: « لفت فلانٌ [ عنق فلان » إذا لواها، كما قال رؤبة ] : *لَفْتًا وَتْهِزِيعًا سَواءَ اللَّفْتِ* « التهزيع » : الدق، و « اللفت » ، اللّي، كما:- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : ( لتلفتنا ) ، قال: لتلوينا عما وجدنا عليه آباءنا. وقوله: ( وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) ، يعني العظمة، وهي « الفعلياء » من « الكبر » . ومنه قول ابن الرِّقاع: سُــؤْدَدًا غَــيْرَ فَــاحِش لا يُــدَا نِيـــهِ تِجِبَّـــارَةٌ وَلا كِبْرِيـــاءُ حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) ، قال: الملك. . . . . قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد: ( وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) ، قال: السلطان في الأرض. . . . . قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني، عن مجاهد قال: الملك في الأرض. . . . . قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) ، قال: الطاعة. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) قال: الملك. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد قال: السلطان في الأرض. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال كلها متقارباتُ المعاني، وذلك أن الملك سلطان، والطاعة ملك، غير أن معنى « الكبرياء » ، هو ما ثبت في كلام العرب، ثم يكون ذلك عظمة بملك وسلطان وغير ذلك. وقوله: ( وما نحن لكما بمؤمنين ) ، يقول: « وما نحن لكما » يا موسى وهارون « بمؤمنين » ، يعني بمقرِّين بأنكما رسولان أرسلتما إلينا. القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( 79 ) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ( 80 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لقومه: ائتوني بكل من يسحر من السحرة، عليم بالسحر ( فلما جاء السحرة ) ، فرعونَ قال موسى: ( ألقوا ما أنتم ملقون ) ، من حبالكم وعصيِّكم. وفي الكلام محذوف قد ترك، وهو: « فأتوه بالسحرة، فلما جاء السحرة » ، ولكن اكتفى بدلالة قوله: ( فلما جاء السحرة ) ، على ذلك، فترك ذكره. وكذلك بعد قوله: ( ألقوا ما أنتم ملقون ) ، محذوفٌ أيضًا قد ترك ذكرُه، وهو: فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى ، ولكن اكتفى بدلالة ما ظَهَر من الكلام عليه، فتُرك ذكره. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ( 81 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ألقوا ما هم ملقوه ، قال لهم موسى: ما جئتم به السحر. واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق ( مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ) على وجه الخبر من موسى عن الذي جاءت به سحرة فرعون ، أنه سحرٌ. كأن معنى الكلام على تأويلهم: قال موسى: الذي جئتم به أيّها السحرة ، هو السحر. وقرأ ذلك مجاهد وبعض المدنيين والبصريين: ( مَا جِئْتُمْ بِهِ آلسِّحْرُ ) على وجه الاستفهام من موسى إلى السحرة عما جاؤوا به، أسحر هو أم غيره؟ قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأه على وجه الخبر لا على الاستفهام، لأن موسى صلوات الله وسلامه عليه ، لم يكن شاكا فيما جاءت به السحرة أنه سحر لا حقيقة له ، فيحتاج إلى استخبار السحرة عنه ، أي شيء هو؟ وأخرى أنه صلوات الله عليه قد كان على علم من السحرة، إنما جاء بهم فرعون ليغالبوه على ما كان جاءهم به من الحق الذي كان الله آتاه، فلم يكن يذهب عليه أنهم لم يكونوا يصدِّقونه في الخبر عمّا جاءوه به من الباطل، فيستخبرهم أو يستجيز استخبارهم عنه، ولكنه صلوات الله عليه أعلمهم أنه عالم ببطول ما جاؤوا به من ذلك بالحق الذي أتاه ، ومبطلٌ كيدهم بحَدِّه . وهذه أولى بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخرى. فإن قال قائل: فما وجه دخول الألف واللام في « السحر » إن كان الأمر على ما وصفت ، وأنت تعلم أن كلام العرب في نظير هذا أن يقولوا: « ما جاءني به عمرو درهمٌ والذي أعطاني أخوك دينار » ، ولا يكادون أن يقولوا : الذي أعطاني أخوك الدرهم وما جاءني به عمرو الدينار؟ قيل له: بلى، كلام العرب إدخال « الألف واللام » في خبر « ما » و « الذي » إذا كان الخبر عن معهود قد عرفه المخاطَب والمخاطِب، بل لا يجوز إذا كان ذلك كذلك إلا بالألف واللام، لأنّ الخبر حينئذ خبرٌ عن شيء بعينه معروف عند الفريقين، وإنما يأتي ذلك بغير « الألف واللام » ، إذا كان الخبر عن مجهول غير معهود ولا مقصود قصدَ شيء بعينه، فحينئذ لا تدخل الألف واللام في الخبر. وخبرُ موسى كان خبرًا عن معروف عنده وعند السحرة، وذلك أنها كانت نسبت ما جاءهم به موسى من الآيات التي جعلها الله عَلَمًا له على صدقه ونبوته ، إلى أنه سحرٌ، فقال لهم موسى: السحرُ الذي وصفتم به ما جئتكم به من الآيات أيها السحرة، هو الذي جئتم به أنتم ، لا ما جئتكم به أنا. ثم أخبرهم أن الله سيبطله. فقال: ( إن الله سيبطله ) ، يقول: سيذهب به، فذهب به تعالى ذكره ، بأن سلط عليه عصا موسى قد حوّلها ثعبانًا يتلقَّفه ، حتى لم يبق منه شيء ( إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) ، يعني: أنه لا يصلح عمل من سعى في أرض الله بما يكرهه ، وعمل فيها بمعاصيه. وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: ( مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ ) . وفي قراءة ابن مسعود: ( مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرٌ ) ، وذلك مما يؤيد قراءة من قرأ بنحو الذي اخترنا من القراءة فيه. القول في تأويل قوله تعالى : وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( 82 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن موسى أنه قال للسحرة: ( ويحق الله الحق ) ، يقول: ويثبت الله الحق الذي جئتكم به من عنده، فيعليه على باطلكم، ويصححه « بكلماته » ، يعني : بأمره ( ولو كره المجرمون ) ، يعني الذين اكتسبوا الإثم بربِّهم ، بمعصيتهم إياه. القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ( 83 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلم يؤمن لموسى ، مع ما أتاهم به من الحجج والأدلّة ( إلا ذرية من قومه ) خائفين من فرعون وملئهم. ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرية في هذا الموضع. فقال بعضهم: الذرية في هذا الموضع: القليل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه ) ، قال، كان ابن عباس يقول: « الذرية » : القليل. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، « الذرية » ، القليل، كما قال الله تعالى: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [ سورة الأنعام: 133 ] وقال آخرون: معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزمان، لأن الآباء ماتوا وبقي الأبناء، فقيل لهم « ذرية » ، لأنهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل إليهم موسى عليه السلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله تعالى: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، قال: أولاد الذين أرسل إليهم من طول الزمان ، ومات آباؤهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، قال: أولاد الذين أرسل إليهم موسى ، من طول الزمان ومات آباؤهم. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) ، قال: أبناء أولئك الذين أرسل إليهم ، فطال عليهم الزمان وماتت آباؤهم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) ، قال: كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل ، من قوم فرعون يسير، منهم : امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه. وقد روي عن ابن عباس خبرٌ يدل على خلاف هذا القول، وذلك ما:- حدثني به المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( ذرية من قومه ) ، يقول: بني إسرائيل. فهذا الخبر ، ينبئ عن أنه كان يرى أن « الذرية » في هذا الموضع ، هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية، القولُ الذي ذكرته عن مجاهد، وهو أن « الذرية » ، في هذا الموضع أريد بها ذُرّية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل، فهلكوا قبل أن يقرُّوا بنبوته لطول الزمان، فأدركت ذريّتهم ، فآمن منهم من ذكر الله ، بموسى. وإنما قلت : « هذا القولُ أولى بالصواب في ذلك » ، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكرٌ لغير موسى، فَلأن تكون « الهاء » ، في قوله : « من قومه » ، من ذكر موسى لقربها من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليلٌ ، من خبرٍ ولا نظرٍ. وبعدُ، فإن في قوله: ( على خوف من فرعون وملئهم ) ، الدليلُ الواضح على أن الهاء في قوله: ( إلا ذرية من قومه ) ، من ذكر موسى، لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام ، « على خوف منه » ، ولم يكن ( على خوف من فرعون ) . وأما قوله: ( على خوف من فرعون ) ، فإنه يعني على حال خوف ممن آمن من ذرية قوم موسى بموسى فتأويل الكلام: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، من بني إسرائيل ، وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم. وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل: « فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه » ، لأن الذين آمنوا به إنما كانت أمهاتهم من بني إسرائيل، وآباؤهم من القبط، فقيل لهم « الذرية » ، من أجل ذلك، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم: « أبناء » . . والمعروف من معنى « الذرية » في كلام العرب: أنها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرجال والنساء، كما قال جل ثناؤه: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ، [ سورة الإسراء: 3 ] ، وكما قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ثم قال بعد: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ، [ سورة الأنعام: 84، 85 ] ، فجعل من كان من قبل الرجال والنساء من ذرية إبراهيم. وأما قوله: ( وملئهم ) ، فإن « الملأ » : الأشراف. وتأويل الكلام: على خوف من فرعون ومن أشرافهم. واختلف أهل العربية فيمن عُني بالهاء والميم اللتين في قوله: ( وملئهم ) ، فقال بعض نحويي البصرة: عُني بها الذرية. وكأنّه وجَّه الكلام إلى: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، على خوف من فرعون ) وملأ الذرِّية من بني إسرائيل. وقال بعض نحويي أهل الكوفة: عني بهما فرعون. قال: وإنما جاز ذلك وفرعون واحد، لأن الملك إذا ذكر بخوفٍ أو سفر أو قدوم من سفر ، ذهب الوهم إليه وإلى من معه. وقال: ألا ترى أنك تقول: « قدم الخليفة فكثر الناس » ، تريد ، بمن معه « وقدم فغلت الأسعار » ، لأنك تنوي بقدومه قدوم من معه. قال: وقد يكون أن تريد أن بـ « فرعون » آل فرعون، وتحذف « الآل » ، فيجوز، كما قال: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ، [ سورة يوسف: 82 ] ، يريد أهل القرية، والله أعلم. قال: ومثله قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ، [ سورة الطلاق: 1 ] . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: « الهاء والميم » عائدتان على « الذرية » . ووجَّه معنى الكلام إلى أنه : على خوف من فرعون، وملأ الذرية لأنه كان في ذرية القرن الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيًا وأمه إسرائيلية. فمن كان كذلك منهم، كان مع فرعون على موسى. وقوله: ( أن يفتنهم ) ، يقول: كان إيمان من آمن من ذرية قوم موسى على خوف من فرعون « أن يفتنهم » بالعذاب، فيصدّهم عن دينهم، ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله. وقال: ( أن يفتنهم ) ، فوحَّد ولم يقل: « أن يفتنوهم » ، لدليل الخبر عن فرعون بذلك : أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه ، لما قد تقدم من قوله: ( على خوف من فرعون وملئهم ) . وقوله: ( وإن فرعون لعال في الأرض ) ، يقول تعالى ذكره: وإن فرعون لجبّارٌ مستكبر على الله في أرضه « وإنه لمن المسرفين » ، وإنه لمن المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به ، وجحودُه وحدانية الله ، وادّعاؤه لنفسه الألوهة ، وسفكه الدماء بغير حِلِّها. القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ( 84 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى نبيِّه لقومه: يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانية الله، وصدقتم بربوبيته ( فعليه توكلوا ) ، يقول: فبه فثقوا، ولأمره فسلموا، فإنه لن يخذل وليّه، ولن يسلم من توكل عليه ( إن كنتم مسلمين ) ، يقول: إن كنتم مذعنين لله بالطاعة، فعليه توكلوا. القول في تأويل قوله تعالى : فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 85 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقال قوم يا موسى لموسى: ( على الله توكلنا ) ، أي به وثقنا، وإليه فوَّضنا أمرنا. وقوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، يقول جل ثناؤه مخبرًا عن قوم موسى أنهم دعوا ربهم فقالوا: يا ربنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين، ولا تمتحنهم بنا‍‍! يعنون قوم فرعون. وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سألوه ربَّهم من إعاذته ابتلاء قوم فرعون بهم. فقال بعضهم: سألوه أن لا يظهرهم عليهم، فيظنُّوا أنهم خيرٌ منهم ، وأنهم إنما سُلِّطوا عليهم لكرامتهم عليه وهوان الآخرين. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا يظهروا علينا ، فيروا أنهم خير منا. حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن أبى مجلز في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: قالوا: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خيرٌ منّا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تسلّطهم علينا ، فيزدادوا فتنة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تسلطهم علينا فيفتنونا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، لا تسلطهم علينا فيفتنونا. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تسلطهم علينا فيضلونا. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، مثله وقال أيضًا : فيفتنونا. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: « لو كانوا على حقّ ما سُلِّطنا عليهم ولا عُذِّبوا » ، فيفتتنوا بنا. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: « لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا » ، فيفتتنوا بنا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله: ( لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تصبنا بعذاب من عندك ولا بأيديهم ، فيفتتنوا ويقولوا: « لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا » . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، لا تبتلنا ربنا فتجهدنا ، وتجعله فتنة لهم ، هذه الفتنة. وقرأ: فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ، [ سورة الصافات: 63 ] ، قال المشركون ، حين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويرمونهم، أليس ذلك فتنة لهم وسوءًا لهم، وهي بلية للمؤمنين؟. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن القوم رغبوا إلى الله في أن يُجيرهم من أن يكونوا محنة لقوم فرعون وبلاءً، وكلُّ ما كان من أمر كان لهم مصدَّة عن اتباع موسى والإقرار به ، وبما جاءهم به، فإنه لا شك أنه كان لهم « فتنة » ، وكان من أعظم الأمور لهم إبعادًا من الإيمان بالله ورسوله. وكذلك من المصدَّة كان لهم عن الإيمان: أن لو كان قوم موسى عاجلتهم من الله محنةٌ في أنفسهم ، من بلية تنـزل بهم، فاستعاذ القوم بالله من كل معنى يكون صادًّا لقوم فرعون عن الإيمان بالله بأسبابهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 86 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونجِّنا يا ربنا برحمتك، فخلِّصنا من أيدي القوم الكافرين ، قوم فرعون، لأنهم كان يستعبدونهم ويستعملونهم في الأشياء القَذِرة من خدمتهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 87 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتًا. يقال منه: « تبوَّأ فلان لنفسه بيتًا » ، إذا اتخذه. وكذلك تبوَّأ مصْحفًا « ، إذا اتخذه ، » وبوأته أنا بيتًا « : إذا اتخذته له. » ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: واجعلوا بيوتكم مساجدَ تصلُّون فيها. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) . فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان ، عن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: مساجد. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: أمروا أن يتخذوها مساجد. . . . . قال حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال ، حدثنا زهير قال ، حدثنا خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا يَفْرَقُون من فرعون وقومه أن يصلُّوا، فقال لهم: ( اجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: اجعلوها مسجدًا حتى تصلوا فيها. حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: خافوا ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شبل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا لا يصلون إلا في البِيَع، وكانوا لا يصلون إلا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. . . . . قال، حدثنا جرير عن ليث، عن مجاهد قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: مساجد. . . . . قال، حدثنا أحمد بن يونس قال ، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا يصلون في بيوتهم يخافون. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن الحباب، عن أبي سنان، عن الضحاك: ( أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ) ، قال: مساجد. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: قال أبي اجعلوا في بيوتكم مساجدكم تصلُّون فيها، تلك « القبلة » . وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا مساجدكم قِبَل الكعبة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يعني الكعبة. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ) ، قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: لا نستطيع أن نظْهرَ صلاتنا مع الفراعنة! فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قِبَل القبلة. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قال ابن عباس في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: وجِّهوا بيوتكم ، « مساجدكم » نحو القبلة، ألا ترى أنه يقول: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [ سورة النور: 36 ] . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: قِبَل القبلة. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( بيوتكم قبلة ) ، قال: نحو الكعبة، حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلةً الكعبة يصلون فيها سرًّا. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، ثم ذكر مثله سواء. . . . . قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ) ، مساجد. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد: في قوله: ( أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا ) ، قال: مصر، « الإسكندرية » . حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: وذلك حين منعهم فرعون الصلاة، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم ، وأن يوجهوا نحو القبلة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( بيوتكم قبلة ) ، قال: نحو القبلة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق، عن أبي سنان، عن الضحاك: ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ) قال: مساجد ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: قبل القبلة. وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضًا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: يقابل بعضها بعضًا. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي قدمنا بيانه، وذلك أن الأغلب من معاني « البيوت » وإن كانت المساجد بيوتًا البيوت المسكونة ، إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد. لأن « المساجد » لها اسم هي به معروفة ، خاصٌّ لها، وذلك « المساجد » . فأمّا « البيوت » المطلقة بغير وصلها بشيء ، ولا إضافتها إلى شيء، فالبيوت المسكونة. وكذلك « القبلة » الأغلب من استعمال الناس إيّاها في قبل المساجد وللصلوات. فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نـزل به ، دون الخفيّ المجهول ، ما لم تأت دلالة تدل على غير ذلك ولم يكن على قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، دلالةٌ تقطع العذرَ بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا. وكذلك القول في قوله ( قبلة ) ( وأقيموا الصلاة ) ، يقول تعالى ذكره: وأدوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها. . وقوله: ( وبشر المؤمنين ) ، يقول جل ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام: وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله ، يا محمد ، المؤمنين بالثواب الجزيل منه. القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 88 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال موسى يا ربَّنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم وهم « الملأ » « زينة » ، من متاع الدنيا وأثاثها ( وأموالا ) من أعيان الذهب والفضة ( في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ) ، يقول موسى لربه: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك ليضلُّوا عن سبيلك. واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: ( لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) ، بمعنى: ليضلوا الناسَ، عن سبيلك ، ويصدّوهم عن دينك. وقرأ ذلك آخرون: ( لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) ، بمعنى: ليضلوا هم عن سبيلك، فيجورُوا عن طريق الهدى. فإن قال قائل: أفكان الله جل ثناؤه ، أعطَى فرعون وقومه ، ما أعطاهم من زينة الدنيا وأموالها ، ليضلوا الناس عن دينه أو ليضلُّوا هم عنه؟ فإن كان لذلك أعطاهم ذلك، فقد كان منهم ما أعطاهم لذلك، فلا عتب عليهم في ذلك؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت. وقد اختلف أهل العلم بالعربية في معنى هذه « اللام » التي في قوله: ( ليضلوا ) . فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ربنا فَضَلوا عن سبيلك، كما قال: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ، [ سورة القصص: 8 ] ، أي فكان لهم وهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا وحزنًا، وإنما التقطوه فكان لهم. قال: فهذه « اللام » تجيء في هذا المعنى. وقال بعض نحويي الكوفة: هذه « اللام » ، « لام كي » ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم ، كي يضلوا ثم دعا عليهم. وقال آخر: هذه اللامات في قوله : ( ليضلوا ) و لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا ، وما أشبهها بتأويل الخفض: آتيتهم ما أتيتهم لضَلالهم والتقطوه لكونه لأنه قد آلت الحالة إلى ذلك. والعرب تجعل « لام كي » ، في معنى « لام الخفض » ، و « لام الخفض » في معنى « لام كي » ، لتقارب المعنى، قال الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ [ سورة التوبة: 95 ] أي لإعراضكم، ولم يحلفوا لإعراضهم، وقال الشاعر: سَــمَوْتَ وَلَـمْ تَكُـنْ أَهْـلا لِتَسْـمُو وَلَكِــنَّ المُضَيِّــعَ قَــدْ يُصَــابُ قال: وإنما يقال: « وما كنت أهلا للفعل » ، ولا يقال « لتفعل » إلا قليلا. قال: وهذا منه. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنها « لام كي » ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه، ويضلوا عن سبيلك عبادَك، عقوبة منك. وهذا كما قال جل ثناؤه: لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ، [ سورة الجن: 16- 17 ] . وقوله: ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) ، هذا دعاء من موسى، دعا الله على فرعون وملئه أن يغير أموالهم عن هيئتها، ويبدلها إلى غير الحال التي هي بها، وذلك نحو قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ، [ سورة النساء: 47 ] . يعني به: من قبل أن نغيرها عن هيئتها التي هي بها. يقال منه: « طَمَسْت عينَه أَطْمِسْها وأطمُسُها طَمْسًا وطُمُوسا » . وقد تستعمل العرب « الطمس » في العفوّ والدثور ، وفي الاندقاق والدروس، كما قال كعب بن زهير: مِـنْ كُـلِّ نَضَّاحَـةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ عُرْضَتُهَـا طَـامِسُ الأَعْـلامِ مَجْهُول وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك في هذا الموضع. فقال جماعة منهم فيه مثل قولنا. ذكر من قال ذلك: حدثني زكريا بن يحيى بن زائدة قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثني ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: بلغنا عن القرظي في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: اجعل سُكّرهم حجارة. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن محمد بن كعب القرظي قال: اجعل سكرهم حجارة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ( اطمس على أموالهم ) قال: اجعلها حجارة. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس في قوله: ( اطمس على أموالهم ) ، قال: صارت حجارة. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: بلغنا أن زروعهم تحوَّلت حجارة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: بلغنا أن حَرْثًا لهم صارت حجارة. حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: يقولون: صارت حجارة. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق. قال: حدثنا يحيى الحماني قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: صارت حجارة. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: بلغنا أن حروثًا لهم صارت حجارة. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: جعلها الله حجارةً منقوشة على هيئة ما كانت. حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: قد فعل ذلك، وقد أصابهم ذلك، طمَس على أموالهم، فصارت حجارةً، ذهبهم ودراهمهم وعَدَسهم ، وكلُّ شيء. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أهلكها. ذكر من قال ذلك: حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: أهلكها. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، مثله. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، يقول: دمِّر عليهم وأهلك أموالهم. وأما قوله: ( واشدد على قلوبهم ) ، فإنه يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح بالإيمان، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وقال موسى قبل أن يأتي فرعون: « ربنَا اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم » ، فاستجاب الله له، وحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق، فلم ينفعه الإيمان. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( واشدد على قلوبهم ) ، يقول: واطبع على قلوبهم ( حتى يروا العذاب الأليم ) ، وهو الغرق. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واشدد على قلوبهم ) ، بالضلالة. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واشدد على قلوبهم ) ، قال: بالضلالة. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( واشدد على قلوبهم ) ، يقول: أهلكهم كفارًا. وأما قوله: ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ، فإن معناه: فلا يصدقوا بتوحيد الله ويقرُّوا بوحدانيته ، حتى يروا العذاب الموجع، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فلا يؤمنوا ) ، بالله فيما يرون من الآيات ( حتى يروا العذابَ الأليم ) . حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. . .. . قال ، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق، قال: سمعت المنقري يقول: ( فلا يؤمنوا ) ، يقول: دعا عليهم. واختلف أهل العربية في موضع: ( يؤمنوا ) . فقال بعض نحويي البصرة: هو نصبٌ، لأن جواب الأمر بالفاء ، أو يكون دُعاء عليهم إذ عصوا . وقد حكي عن قائل هذا القول أنه كان يقول: هو نصبٌ ، عطفًا على قوله: ( ليضلوا عن سبيلك ) . وقال آخر منهم، وهو قول نحويي الكوفة: موضعه جزمٌ ، على الدعاء من موسى عليهم، بمعنى: فلا آمنوا، كما قال الشاعر: فَـلا يَنْبَسِـطْ مِنْ بَيْن عَيْنَيْكَ مَا انزوَى وَلا تَلْقَنِـــي إِلا وَأَنْفُــكَ رَاغِــمُ بمعنى: « فلا انبسط من بين عينيك ما انـزوى » ، « ولا لقيتني » ، على الدعاء. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: هو دعاء، كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا. قال: وإن شئت جعلتها جوابًا لمسألته إياه، لأن المسألة خرجت على لفظ الأمر، فتجعل : ( فلا يؤمنوا ) ، في موضع نصب على الجواب، وليس يسهل. قال: ويكون كقول الشاعر: يَــا نَــاقُ سِـيرِي عَنَقًـا فَسِـيحَا إِلَـــى سُـــلَيْمَانَ فَنَسْـــتَريحَا قال: وليس الجواب يسهلُ في الدعاء ، لأنه ليس بشرط. قال أبو جعفر:والصواب من القول في ذلك ، أنه في موضع جزم على الدعاء، بمعنى: فلا آمنوا وإنما اخترت ذلك لأن ما قبله دعاءٌ، وذلك قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) ، فإلحاق قوله: ( فلا يؤمنوا ) ، إذ كان في سياق ذلك بمعناه أشبهُ وأولى. وأما قوله: ( حتى يروا العذاب الأليم ) ، فإنّ ابن عباس كان يقول: معناه: حتى يروا الغرق وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك من بعض وجوهها فيما مضى. حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال ابن عباس: ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ، قال: الغرق. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( 89 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عن إجابته لموسى صلى الله عليه وسلم وهارون دعاءهما على فرعون وأشراف قومه وأموالهم. يقول جل ثناؤه: ( قال ) الله لهما : ( قد أجيبت دعوتكما ) ، في فرعون وملئه وأموالهم. فإن قال قائل: وكيف نسبت « الإجابة » إلى اثنين و « الدعاء » ، إنما كان من واحد ؟ قيل: إن الداعي وإن كان واحدًا ، فإن الثاني كان مؤمِّنًا، وهو هارون، فلذلك نسبت الإجابة إليهما، لأن المؤمِّن داعٍ. وكذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة في قوله: ( قد أجيبت دعوتكما ) ، قال: كان موسى يدعو، وهارون يؤمن، فذلك قوله: ( قد أجيبت دعوتكما ) . وقد زعم بعض أهل العربية ، أن العرب تخاطب الواحد خطاب الاثنين، وأنشد في ذلك: فَقُلْـــتُ لِصَــاحِبي لا تُعْجَلانَــا بِــنزعِ أُصُولِــهِ وَاجْــتَزَّ شِـيحَا حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زكريا بن عدي، عن ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قال: ( قد أجيبت دعوتكما ) قال: دعا موسى، وأمن هارون. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وزيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب قال: دعا موسى، وأمَّن هارون. . . . . قال: حدثنا أبو معاوية، عن شيخ له، عن محمد بن كعب قال: دعا موسى وأمّن هارون. حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: ( قد أجيبت دعوتكما ) ، قال: دعا موسى، وأمن هارون. قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وعبد الله بن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: دعا موسى وأمَّن هارون، فذلك قوله: ( قد أجيبت دعوتكما ) . حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن عكرمة في قوله: « قد أجيبت دعوتكما » قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن، فذلك قوله : ( قد أجيبت دعوتكما ) . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: ( قد أجيبت دعوتكما ) لموسى وهارون قال ابن جريج: قال عكرمة: أمّن هارون على دعاء موسى فقال الله: ( قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ) . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: كان هارون يقول: آمين فقال الله: ( قد أجيبت دعوتكما ) فصار التأمين دعوة صار شريكه فيها. وأما قوله: ( فاستقيما ) ، فإنه أمرٌ من الله تعالى لموسى وهارون بالاستقامة والثبات على أمرهما ، من دعاء فرعون وقومه إلى الإجابة إلى توحيد الله وطاعته، إلى أن يأتيهم عقاب الله الذي أخبرهما أنه أجَابَهما فيه ، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: ( فاستقيما ) : فامضيا لأمري، وهي الاستقامة قال ابن جريج : يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة. وقوله: ( ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون ) ، يقول: ولا تسلكانّ طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي، فإن وعْدي لا خلف له، وإن وعيدي نازلٌ بفرعون وعذابي واقع به وبقومه. القول في تأويل قوله تعالى : وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 90 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جاوزوه ( فأتبعهم فرعون ) ، يقول: فتَبعهم فرعون ( وجنوده ) . يقال منه « أتْبَعته » و « تبعته » ، بمعنى واحد. وقد كان الكسائي فيما ذكر أبو عبيد عنه يقول: إذا أريد أنه أتبعهم خيرًا أو شرًّا فالكلام « أتبعهم » بهمز الألف، وإذا أريد : اتبع أثرهم ، أو اقتدى بهم ، فإنه من « اتّبعت » مشددة التاء غير مهموزة الألف. ( بغيًا ) على موسى وهارون ومن معهما من قومهما من بني إسرائيل ( وعدْوًا ) ، يقول: واعتداء عليهم، وهو مصدر من قولهم: « عدا فلان على فلان في الظلم ، يعدو عليه عَدْوًا » مثل « غزا يغزو غزوا » . وقد روى عن بعضهم أنه كان يقرأ: ( بَغْيًا وَعُدُوًّا ) ، وهو أيضًا مصدر من قولهم: « عَدَا يَعدُو عُدُوًّا » ، مثل : « علا يعلو عُلُوًّا » . ( حتى إذا أدركه الغرق ) يقول: حتى إذا أحاط به الغرق وفي الكلام متروك ، قد ترك ذكره لدلالة ما ظهر من الكلام عليه ، وذلك: « فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا فيه » فغرقناه ( حتى إذا أدركه الغرق ) . وقوله: ( قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) ، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل فرعون حين أشفى على الغرق ، وأيقن بالهلكة: ( آمنت ) ، يقول: أقررت، ( أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) . واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأ بعضهم ، وهو قراءة عامّة المدينة والبصرة: ( أَنَّهُ ) بفتح الألف من « أنه » ، على إعمال « آمَنْتُ » فيها ونصبها به. وقرأ آخرون: ( آمَنْتُ إِنَّهُ ) بكسر الألف من « إنه » على ابتداء الخبر. وهي قراءة عامة الكوفيين. والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد قال: اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف، وهم اثنان وسبعون، وخرجوا مع موسى من مصر حين خرجوا وهم ست مائة ألف، فلما أدركهم فرعون فرأوه قالوا: يا موسى أين المخرجُ؟ فقد أدركنا ، قد كنا نلقى من فرعون البلاء؟ فأوحى الله إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرْق كالطود العظيم ، ويبس لهم البحرُ، وكشف الله عن وجه الأرض، وخرج فرعون على فرس حِصان أدهَم على لونه من الدُّهم ثمان مائة ألف سوى ألوانها من الدوابّ، وكانت تحت جبريل عليه السلام فرسٌ ودِيق ليس فيها أنثى غيرها ، وميكائيل يسوقهم، لا يشذُّ رجل منهم إلا ضمّه إلى الناس. فلما خرج آخر بني إسرائيل ، دنا منه جبريل ولَصِق به، فوجد الحصان ريح الأنثى، فلم يملك فرعون من أمره شيئًا ، وقال: أقدموا ، فليس القومُ أحقَّ بالبحر منكم! ثم أتبعهم فرعون ، حتى إذا همّ أوّلهم أن يخرجوا ، ارتطم ونادى فيها: ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) ، ونودي: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وعن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يرفعه أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن جبرائيل كان يدسُّ في فم فرعون الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله. حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « جعل جبرائيل عليه السلام يدسُّ أو: يحشو في فم فرعون الطين ، مخافة أن تدركه الرحمة. » حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن كثير بن زاذان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل: يا محمد ، لو رأيتني وأنا أغطُّه وأدسُّ من الحَالِ في فيه ، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له! يعني فرعون. حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما أغرق الله فرعون قال: ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) ، فقال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حَالِ البحر وأدَسِّيه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة . حدثني المثنى قال ، حدثني عمرو، عن حكام قال ، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما قال فرعون « لا إله إلا الله » ، جعل جبريل يحشو في فيه الطين والتراب. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: أخبرني من سمع ميمون بن مهران يقول في قوله: ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) ، قال: أخذ جبرائيل من حمأة البحر فضرب بها فاه أو قال: ملأ بها فاه مخافة أن تدركه رحمه الله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا الحسين بن علي، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: خطب الضحاك بن قيس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن فرعون كان عبدًا طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق قال: ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) ، قال الله: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . . . . . قال، حدثني أبي، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن فرعون لما أدركه الغرق جعل جبريل يحشو في فيه التراب خشية أن يغفر له. . . . . قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن عيسى بن المغيرة، عن إبراهيم التيمي: أن جبريل عليه السلام قال: ما حسدتُ أحدًا من بني آدم الرحمة إلا فرعون، فإنه حين قال ما قال ، خشيت أن تصل إلى الربّ فيرحمه، فأخذت من حَمْأة البحر وزَبَده ، فضربت به عينيه ووجهه. . . . . قال، أخبرنا أبو خالد الأحمر، عن عمر بن يعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال جبريل عليه السلام: لقد حشوت فاه الحمأة مخافة أن تدركه الرحمة. القول في تأويل قوله تعالى : آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 91 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ، معرِّفًا فرعون قبح صَنيعه أيّام حياته وإساءته إلى نفسه أيام صحته، بتماديه في طغيانه ، ومعصيته ربه ، حين فزع إليه في حال حلول سَخطه به ونـزول عقابه، مستجيرًا به من عذابه الواقع به ، لما ناداه وقد علته أمواج البحر ، وغشيته كرَبُ الموت: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ له، المنقادين بالذلة له، المعترفين بالعبودية الآن تقرُّ لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة، وتخلص له الألوهة، وقد عصيته قبل نـزول نقمته بك ، فأسخطته على نفسك ، وكنت من المفسدين في الأرض ، الصادِّين عن سبيله؟ فهلا وأنت في مَهَلٍ ، وباب التوبة لك منفتح ، أقررت بما أنت به الآن مقرٌّ؟ القول في تأويل قوله تعالى : فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ( 92 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لفرعون: اليوم نجعلك على نَجْوةٍ من الأرض ببدنك، ينظر إليك هالكًا من كذّب بهلاكك ( لتكون لمن خلفك آية ) ، يقول: لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك، ، فينـزجرون عن معصية الله ، والكفر به والسعي في أرضه بالفساد. و « النجوة » ، الموضع المرتفع على ما حوله من الأرض، ومنه قوله أوس بن حجر: فَمَــنْ بِعَقْوَتِــهِ كَــمَنْ بِنجْوَتِــهِ وَالمُسْــتَكِنُّ كَـمَنْ يَمْشِـي بِقِـرْوَاحِ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد وغيره قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: إنه لم يمت فرعون! قال: فأخرجه الله إليهم ينظرون إليه مثل الثور الأحمر. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن سعيد الجريري، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد قال وكان من أكثر الناس أو : أحدث الناس عن بنى إسرائيل؛ قال: فحدّثنا أن أول جنود فرعون لما انتهى إلى البحر ، هابت الخيلُ اللِّهْبَ . قال: ومثل لحصان منها فرس وَديق، فوجد ريحها أحسبه أنا قال: فانسلَّ فاتَّبعته . قال: فلما تتامّ آخر جنود فرعون في البحر ، وخرج آخرُ بني إسرائيل ، أُمر البحر فانطَبق عليهم، فقالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون، وما كان ليموت أبدًا! فسمع الله تكذيبهم نبيَّه، قال: فرمى به على الساحل كأنه ثور أحمرُ، يتراءاه بنو إسرائيل. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: ( فاليوم ننجيك ببدنك ) ، قال: « بدنه » ، جسده ، رمى به البحرُ. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،: ( فاليوم ننجيك ببدنك ) ، قال: بجسدك. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا تميم بن المنتصر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال ، حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما جاوز موسى البحرَ بجميع من معه، التقى البحرُ عليهم يعني على فرعون وقومه فأغرقهم، فقال أصحاب موسى: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه! فدعا ربّه فأخرجه فنبذه البحر ، حتى استيقنوا بهلاكه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ) ، يقول: أنكر ذلك طوائف من بني إسرائيل، فقذفه الله على ساحل البحر ينظرون إليه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( لتكون لمن خلفك آية ) ، قال: لما أغرق الله فرعون لم تصدِّق طائفة من الناس بذلك، فأخرجه الله آيةً وعظةً. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي السليل ، عن قيس بن عباد ، أو غيره، بنحو حديث ابن عبد الأعلى، عن معمر. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: ( فاليوم ننجيك ببدنك ) ، قال: بجسدك. قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، بلغني عن مجاهد: ( فاليوم ننجيك ببدنك ) ، قال: بجسدك. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كذّب بعض بني إسرائيل بموت فرعون، فرمى به على ساحل البحر ليراه بنو إسرائيل، قال أحمر: كأنه ثور . وقال آخرون: تنجو بجسدك من البحر ، فنخرجه منه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ) ، يقول: أنجى الله فرعون لبني إسرائيل من البحر، فنظروا إليه بعد ما غرق. فإن قال قائل: وما وجه قوله: ( ببدنك ) ؟ وهل يجوز أن ينجيه بغير بدنه، فيحتاج الكلام إلى أن يقال فيه ( ببدنك ) ؟ قيل: كان جائزًا أن ينجيه بهيئته حيًّا كما دخل البحر. فلما كان جائزًا ذلك قيل : ( فاليوم ننجيك ببدنك ) ، ليعلم أنه ينجيه بالبدن بغير روح، ولكن ميّتًا. وقوله: ( وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون ) ، يقول تعالى ذكره: ( وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا ) ، يعني: عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة والألوهة لنا خالصةٌ ( لغافلون ) ، يقول: لساهون، لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 93 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أنـزلنا بني إسرائيل منازلَ صِدْق. قيل: عني بذلك الشأم وبيت المقدس. وقيل: عُنِي به الشأم ومصر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: ( مبوّأ صدق ) ، قال: منازل صدق، مصر والشأم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( مبوَّأ صدق ) ، قال: بوّأهم الله الشأم وبيت المقدس. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ) ، الشام. وقرأ: إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [ سورة الأنبياء: 71 ] وقوله: ( ورزقناهم من الطيبات ) ، يقول: ورزقنا بني إسرائيل من حلال الرزق وهو ( الطيب ) . وقوله: ( فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ) ، يقول جل ثناؤه: فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل، حتى جاءهم ما كانوا به عالمين. وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم مجمعين على نبوّة محمدٍ والإقرار به وبمبعثه ، غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبًا عندهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم وآمن به بعضهم، والمؤمنون به منهم كانوا عددًا قليلا. فذلك قوله: فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه نبيًّا لله فوضع ( العلم ) مكان ( المعلوم ) . وكان بعضهم يتأول ( العلم ) ههنا ، كتابَ الله ووحيَه. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ) ، قال: ( العلم ) ، كتاب الله الذي أنـزله ، وأمره الذي أمرهم به، وهل اختلفوا حتى جاءهم العلم بغيًا بينهم ؟ أهل هذه الأهواء، هل اقتتلوا إلا على البغي قال: و « البغي » وجهان: وجه النفاسة في الدنيا ومن اقتتل عليها من أهلها، وبغى في « العلم » ، يرى هذا جاهلا مخطئًا ، ويرى نفسه مصيبًا عالمًا، فيبغي بإصابته وعلمه عَلَى هذا المخطئ. وقوله: ( إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربَّك ، يا محمد ، يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل فيك يوم القيامة ، فيما كانوا فيه من أمري في الدنيا يختلفون، بأن يدخل المكذبين بك منهم النار ، والمؤمنين بك منهم الجنة ، فذلك قضاؤه يومئذ فيما كانوا فيه يختلفون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 94 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما اخترناك فأنـزلنا إليك ، من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوّتك قبل أن تبعث رسولا إلى خلقه، لأنهم يجدونك عندهم مكتوبًا ، ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، من أهل التوراة والإنجيل ، كعبد الله بن سلام ونحوه ، من أهل الصدق والإيمان بك منهم ، دون أهل الكذب والكفر بك منهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، قال: التوراة والإنجيل، الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فآمنوا به، يقول: فاسألهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، قال: هو عبد الله بن سلام، كان من أهل الكتاب ، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) قال: هم أهل الكتاب. حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول: ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، يعني أهل التقوى وأهلَ الإيمان من أهل الكتاب، ممن أدرك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: أوكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من خبَرِ الله أنه حقٌّ يقين ، حتى قيل له: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ؟ قيل: لا وكذلك قال جماعة من أهل العلم. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك ) ، فقال: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سويد بن عمرو، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، قال: ما شك وما سأل. حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير ومنصور، عن الحسن في هذه الآية، قال: لم يشك صلى الله عليه وسلم ولم يسأل. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل. فإن قال: فما وجه مخرج هذا الكلام ، إذنْ ، إن كان الأمر على ما وصفت؟ قيل: قد بيّنا في غير موضع من كتابنا هذا ، استجازة العرب قول القائل منهم لمملوكه: « إن كنت مملوكي فانته إلى أمري » والعبد المأمور بذلك لا يشكُّ سيدُه القائل له ذلك أنه عبده. كذلك قول الرجل منهم لابنه: « إن كنت ابني فبرَّني » ، وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه، وأنّ ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم، وذكرنا ذلك بشواهده، وأنّ منه قول الله: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، [ سورة المائدة: 116 ] ، وقد علم جل ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك. وهذا من ذلك، لم يكن صلى الله عليه وسلم شاكًّا في حقيقة خبر الله وصحته، والله تعالى ذكره بذلك من أمره كان عالمًا، ولكنه جل ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضًا، إذْ كان القرآن بلسانهم نـزل. وأما قوله: ( لقد جاءك الحق من ربك ) الآية، فهو خبرٌ من الله مبتدأ. يقول تعالى ذكره: أقسم لقد جاءك الحق اليقين من الخبر بأنك لله رسولٌ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحّة ذلك، ويجدون نعتك عندهم في كتبهم ( فلا تكونن من الممترين ) ، يقول: فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك وحقيقته. ولو قال قائل: إن هذه الآية خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بها بعضُ من لم يكن صحَّت ، بصيرته بنبوته صلى الله عليه وسلم ، ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه، تنبيها له على موضع تعرف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه، كما قال جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ، [ سورة الأحزاب: 1 ] ، كان قولا غيرَ مدفوعةٍ صحته. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 95 ) قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تكونن يا محمدُ، من الذين كذَّبوا بحجج الله وأدلته، فتكون ممن غُبن حظه ، وباع رحمةَ الله ورضاه ، بسَخَطه وعقابه. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ( 96 ) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 97 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين وجبت عليهم يا محمد « كلمة ربك » ، هي لعنته إياهم بقوله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ، [ سورة هود: 18 ] ، فثبتت عليهم. يقال منه: « حق على فلان كذا يحقُّ عليه » ، إذا ثبت ذلك عليه ووجب. وقوله : ( لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ) ، يقول: لا يصدقون بحجج الله، ولا يقرُّون بوحدانية ربهم، ولا بأنك لله رسول ( ولو جاءتهم كل آية ) ، وموعظة وعبرة ، فعاينوها ، حتى يعاينوا العذاب الأليم، كما لم يؤمن فرعون وملؤه، إذ حقَّت عليهم كلمة ربّك حتى عاينوا العذاب الأليم، فحينئذ قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ، [ سورة يونس: 90 ] ، حين لم ينفعه قيلُه، فكذلك هؤلاء الذين حقت عليهم كلمة ربك من قومك من عبدة الأوثان وغيرهم، لا يؤمنون بك فيتبعونك ، إلا في الحين الذي لا ينفعهم إيمانهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ) ، قال: حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) ، حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ( 98 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فهلا كانت قرية آمنت؟ وهي كذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ. ومعنى الكلام: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب ، ونـزول سَخَط الله بها ، بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه، فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيّه، واستحقاقه سَخَط الله بمعصيته إلا قوم يونس، فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نـزول العقوبة وحلول السخط بهم. فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نـزول العذاب بساحتهم، وأخرجهم منهم، وأخبر خلقه أنه نفعهم أيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم. فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت من أن قوله: ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ) ، بمعنى : فما كانت قرية آمنَت ، بمعنى الجحود، فكيف نصب « قوم » وقد علمت أن ما قبل الاستثناء إذا كان جحدًا كان ما بعده مرفوعًا، وأن الصحيح من كلام العرب: « ما قام أحدٌ إلا أخوك » ، و « ما خرج أحدٌ إلا أبوك » ؟ قيل: إن ذلك فيما يكون كذلك إذا كان ما بعد الاستثناء من جنس ما قبله، وذلك أن « الأخ » من جنس « أحد » ، وكذلك « الأب » ، ولكن لو اختلف الجنسان حتى يكون ما بعد الاستثناء من غير جنس ما قبله ، كان الفصيح من كلامهم النصبُ، وذلك لو قلت: « ما بقي في الدار أحدٌ إلا الوتدَ » ، و « ما عندنا أحدٌ إلا كلبًا أو حمارًا » ، لأن « الكلب » ، و « الوتد » ، و « الحمار » ، من غير جنس « أحد » ، ومنه قول النابغة الذبياني: عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ ثم قال: إِلا أَوَارِيَّ لأيًـــا مَـــا أُبَيَّنُهــا وَالنُّـؤْي كَـالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَـةِ الجَلَدِ فنصب « الأواري » إذ كان مستثنى من غير جنسه. فكذلك نصب ( قوم يونس ) ، لأنهم أمة غير الأمم الذين استثنوا منهم ، ومن غير جنسهم وشكلهم ، وإن كانوا من بني آدم. وهذا الاستثناء الذي يسميه بعض أهل العربية الاستثناء المنقطع، ولو كان ( قوم يونس ) بعض « الأمة » الذين استثنوا منهم ، كان الكلام رفعًا، ولكنهم كما وصفت. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ) ، يقول: لم تكن قرية آمنت فنفعها الإيمان إذا نـزل بها بأس الله، إلا قرية يونس. قال ابن جريج: قال مجاهد: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها كما نفع قوم يونس إيمانهم إلا قوم يونس. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) ، يقول: لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قريةً كفرت ثم آمنت حين حضرها العذابُ، فتُرِكت، إلا قوم يونس ، لما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة ، ولبسوا المسوح ، [ وفرقوا ] بين كل بهيمة وولدها، ثم عجُّوا إلى الله أربعين ليلةً. فلما عرف الله الصِّدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلَّى عليهم. قال: وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرضِ الموصل. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( إلا قوم يونس ) ، قال: بلغنا أنهم خرجوا فنـزلوا على تل ، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ، يدعون الله أربعين ليلة ، حتى تاب عليهم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: غشَّى قوم يونس العذابُ، كما يغشِّي الثوبُ القبرَ. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن صالح المري، عن قتادة، عن ابن عباس: إن العذاب كان هبط على قوم يونس، حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، فلما دَعَوْا كشف الله عنهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وإسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا ) ، قال: كما نفع قوم يونس. زاد أبو حذيفة في حديثه ، قال: لم تكن قرية آمنت حين رأت العذاب فنفعها إيمانها، إلا قوم يونس متعناهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال ، حدثنا رجل قد قرأ القرآن في صدره ، في إمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فحدّث عن قوم يونس حين أنذر قومه فكذّبوه، فأخبرهم أن العذاب يصيبهم ، وفارقهم . فلما رأوا ذلك وغشيهم العذاب ، [ لكنهم ] خرجوا من مساكنهم ، وصعدوا في مكان رفيع، وأنهم جأروا إلى ربهم ودعوه مخلصين له الدين : أن يكشف عنهم العذاب ، وأن يرجعَ إليهم رسولهم. قال: ففي ذلك أنـزل: ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) ، فلم تكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها ، إلا قوم يونس خاصة. فلما رأى ذلك يونس، [ لكنه ] ذهب عاتبًا على ربه ، وانطلق مغاضبًا وظنّ أن لن يُقدرَ عليه، حتى ركب في سفينة ، فأصاب أهلَها عاصفُ الريح فذكر قصة يونس وخبره. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال: « لما رأوا العذاب ينـزل ، فرَّقوا بين كل أنثى وولدها من الناس والأنعام، ثم قاموا جميعًا فدعوا الله ، وأخلصوا إيمانهم، فرأوا العذاب يكشف عنهم. قال يونس حين كشف عنهم العذاب: أرجع إليهم وقد كذَبْتُهم! وكان يونس قد وعدهم العذاب بصبح ثالثةٍ، فعند ذلك خرج مغضبًا وساء ظنُّه. » حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: لما أرسل يونس إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه. قال: فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبِّحهم، فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذبًا ، فانظروا، فإن بات فيكم فليس بشيء ، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم. فلما كان في جوف الليل أخذ عُلاثَةً فتزوّد منها شيئًا ، ثم خرج، فلما أصبحوا تغشَّاهم العذاب ، كما يتغشَّى الإنسان الثوبَ في القبر، ففرقوا بين الإنسان وولده ، وبين البهيمة وولدها، ثم عجُّوا إلى الله فقالوا: آمنا بما جاء به يونس وصدّقنا! فكشف الله عنهم العذاب، فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا ، قال: جَرَّبوا عليّ كذبًا! فذهب مغاضبًا لربه حتى أتى البحر. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال ، حدثنا ابن مسعود في بيت المال ، قال: إن يونس عليه السلام كان قد وعد قومه العذاب ، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرَّقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله واستغفروه . فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا ، وكان من كذب ولم تكن له بيِّنةٌ قُتِل، فانطلق مغاضبًا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا صالح المرى، عن أبي عمران الجوني، عن أبي الجلد جيلان قال: لما غشّى قوم يونس العذاب ، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له: إنه قد نـزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال: قولوا : « يا حيُّ حين لا حيَّ، ويا حي محييَ الموتى، ويا حيُّ لا إله إلا أنت » ! فكشف عنهم العذاب ، ومُتِّعوا إلى حين. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: بلغني في حرف ابن مسعود: « فلولا » ، يقول ( فَهَلا ) . وقوله: ( لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ، يقول: لما صدّقوا رسولهم ، وأقروا بما جاءهم به بعد ما أظلّهم العذاب وغشيهم أمْرُ الله ونـزل بهم البلاء، كشفنا عنهم عَذَاب الهوان والذلّ في حياتهم الدنيا ( ومتعناهم إلى حين ) ، يقول: وأخَّرنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبة، وتركناهم في الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم ، ووقت فناء أعمارهم التي قَضَيْتُ فَنَاءها. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 99 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكر لنبيه: ( ولو شاء ) ، يا محمد ( ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا ) ، بك، فصدَّقوك أنك لي رسول ، وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له ، حقٌّ، ولكن لا يشاء ذلك، لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولا أنه لا يؤمن بك ، ولا يتّبعك فيصدقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور ، إلا من سبقت له السعادةُ في الكتاب الأوّل قبل أن تخلق السموات والأرض وما فيهن، وهؤلاء الذين عجبوا من صِدْق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره ، ممَّن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا ) ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ، [ سورة يونس: 100 ] ، ونحو هذا في القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميعُ الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأَوّل ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاء في الذّكر الأول. فإن قال قائل: فما وجه قوله: ( لآمن من في الأرض كلهم جميعًا ) ، فـ « الكل » يدل على « الجميع » ، و « الجميع » على « الكل » ، فما وجه تكرار ذلك ، وكل واحدة منهما تغني عن الأخرى؟ قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك: فقال بعض نحويي أهل البصرة: جاء بقوله « جميعًا » في هذا الموضع توكيدًا ، كما قال: لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ، [ سورة النحل: 51 ] ، ففي قوله: « إلهين » دليل على « الاثنين » . وقال غيره: جاء بقوله « جميعًا » بعد « كلهم » ، لأن « جميعًا » لا تقع إلا توكيدًا، و « كلهم » يقع توكيدًا واسمًا، فلذلك جاء ب « جميعًا » بعد « كلهم » . قال: ولو قيل إنه جمع بينهما ليعلم أن معناهما واحد ، لجاز ههنا. قال: وكذلك: إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ، العدد كله يفسر به، فيقال: « رأيت قومًا أربعة » ، فلما جاء « باثنين » ، وقد اكتفى بالعدد منه ، لأنهم يقولون: « عندي درهم ودرهمان » ، فيكفي من قولهم: « عندي درهم واحد ، ودرهمان اثنان » ، فإذا قالوا : « دراهم » قالوا : « ثلاثة » ، لأن الجمع يلتبس ، و « الواحد » و « الاثنان » لا يلتبسان، ثم بُنِي الواحد والتثنية على بناء [ ما ] في الجميع، لأنه ينبغي أن يكون مع كل واحدٍ واحدٌ، لأن « درهمًا » يدل على الجنس الذي هو منه، و « واحد » يدل على كل الأجناس. وكذلك « اثنان » يدلان على كل الأجناس، و « درهمان » ، يدلان على أنفسهما، فلذلك جاء بالأعداد ، لأنه الأصل. وقوله: ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ، يقولُ جل ثناؤه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: إنه لن يصدقك يا محمد ، ولن يتبعك ويقرّ بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدّقك، لا بإكراهك إياه ، ولا بحرصك على ذلك ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) لك ، مصدقين على ما جئتهم به من عند ربك؟ يقول له جل ثناؤه: فاصدَعْ بما تؤْمر ، وأعرض عن المشركين الذين حقَّت عليهم كلمة ربّك أنَّهم لا يؤمنون . القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ( 100 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وما كان لنفس خلقتُها من سبيل إلى تصديقك ، يا محمد ، إلا بأن آذن لها في ذلك، فلا تجهدنّ نفسك في طلب هداها، وبلِّغها وعيدَ الله ، وعرِّفها ما أمرك ربك بتعريفها، ثم خلِّها، فإن هداها بيد خالقها. وكان الثوري يقول في تأويل قوله: ( إلا بإذن الله ) ، ما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان في قوله: ( وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ) ، قال: بقضاء الله. وأما قوله: ( ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) ، فإنه يقول تعالى ذكره: إن الله يهدي من يشاء من خلقه للإيمان بك يا محمد، ويأذن له في تصديقك فيصدقك ويتبعك، ويقرّ بما جئت به من عند ربك ( ويجعل الرجس ) ، وهو العذابُ، وغضب الله ( على الذين لا يعقلون ) ، يعني الذين لا يعقلون عن الله حججه ومواعظه وآياته التي دلّ بها جل ثناؤه على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحقيقة ما دعاهم إليه من توحيد الله ، وخَلْع الأنداد والأوثان. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ويجعل الرجس ) ، قال: السَّخَط. القول في تأويل قوله تعالى : قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ( 101 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد ، لهؤلاء المشركين من قومك، السائليك الآياتِ على صحّة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انظروا ، أيها القوم ، ماذا في السمواتِ من الآيات الدّالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله ، من شمسها وقمرها، واختلافِ ليلها ونهارِها، ونـزول الغيث بأرزاق العبادِ من سحابها وفي الأرض من جبالها ، وتصدُّعها بنباتها، وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبَّرتم موعظة ومعتبرًا، ودلالةً على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك ، ولا له على تدبيره وحفظه ظهير يُغْنيكم عما سواه من الآيات. يقول الله جل ثناؤه: ( وما تُغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) ، يقول جل ثناؤه: وما تغني الحجج والعبر والرسل المنذرة عبادة الله عقابه ، عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء ، وقضى لهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار ، لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدِّقون به. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ؟ القول في تأويل قوله تعالى : فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 102 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، محذِّرًا مشركي قومه من حلول عاجل نقمه بساحتهم نحوَ الذي حلَّ بنظرائهم من قبلهم من سائر الأمم الخالية من قبلهم ، السالكة في تكذيب رسل الله وجحود توحيد ربِّهم سبيلَهم: فهل ينتظر ، يا محمد ، هؤلاء المشركون من قومك المكذِّبون بما جئتهم به من عند الله، إلا يومًا يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذي كانوا على مثل الذي هم عليه من الشرك والتكذيب ، الذين مضوا قبلهم فخَلَوْا من قوم نوح وعاد وثمود؟ قل لهم ، يا محمد، إن كانوا ذلك ينتظرون: فانتظروا عقابَ الله إياكم ، ونـزول سخطه بكم، إني من المنتظرين هلاككم وبوارَكم بالعقوبة التي تحلُّ بكم من الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتاده،قوله: ( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ) ، يقول: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم قوم نوح وعادٍ وثمود. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: ( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) ، قال: خوَّفهم عذابه ونقمته وعقوبته، ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمرٌ أنجى الله رسله والذين آمنوا معه، فقال الله: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ . القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ( 103 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل ، يا محمد ، لهؤلاء المشركين من قومك : انتظروا مثل أيام الذين خلوا من قبلكم من الأمم السالفة الذين هلكوا بعذاب الله، فإن ذلك إذا جاء لم يهلك به سواهم، ومن كان على مثل الذي هم عليه من تكذيبك، ثم ننجّي هناك رسولَنَا محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن آمن به وصدّقه واتبعه على دينه، كما فعلنا قبل ذلك برُسلنا الذين أهلكنا أممهم ، فأنجيناهم ومن آمن به معهم من عذابنا حين حقّ على أممهم ( كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ) ، يقول: كما فعلنا بالماضين من رسلنا فأنجيناها والمؤمنين معها وأهلكنا أممها، كذلك نفعل بك ، يا محمد، وبالمؤمنين ، فننجيك وننجي المؤمنين بك ، حقًّا علينا غير شك. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 104 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل ، يا محمد ، لهؤلاء المشركين من قومك الذين عجبوا أن أوحيت إليك : إن كنتم في شك ، أيها الناس ، من ديني الذي أدعوكم إليه ، فلم تعلموا أنه حقّ من عند الله: فإني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عني شيئًا ، فتشكُّوا في صحته. وهذا تعريض ولحنٌ من الكلام لطيفٌ. وإنما معنى الكلام: إن كنتم في شك من ديني، فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل شيئًا ولا تضر ولا تنفع. فأما ديني فلا ينبغي لكم أن تشكُّوا فيه، لأني أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إن شاء ، وينفعهم ويضرُّهم إن شاء . وذلك أن عبادة من كان كذلك لا يستنكرها ذو فطرة صحيحة. وأما عبادة الأوثان فينكرها كل ذي لبٍّ وعقلٍ صحيح. وقوله: ( ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ) ، يقول: ولكن أعبد الله الذي يقبض أرواحكم فيميتكم عند آجالكم ( وأمرت أن أكون من المؤمنين ) ، يقول: وهو الذي أمرني أن أكون من المصدّقين بما جاءني من عنده. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 105 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، و « أن أقم » و « أن » الثانية عطفٌ على « أن » الأولى. ويعني بقوله: ( أقم وجهك للدين ) ، أقم نفسك على دين الإسلام ، ( حنيفًا ) مستقيمًا عليه، غير معوَجّ عنه إلى يهوديةٍ ولا نصرانيةٍ، ولا عبادة وثن ( ولا تكونن من المشركين ) ، يقول: ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه الآلهةَ والأندادَ ، فتكون من الهالكين. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 106 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تدع ، يا محمد ، من دون معبودك وخالقك شيئًا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام. يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفًا ضرَّها، فإنها لا تنفع ولا تضر « فإن فعلت » ، ذلك ، فدعوتها من دون الله ( فإنك إذًا من الظالمين ) ، يقول: من المشركين بالله، الظالمي أنفُسِهم . القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 107 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يصبك الله ، يا محمد ، بشدة أو بلاء ، فلا كاشف لذلك إلا ربّك الذي أصابك به ، دون ما يعبده هؤلاء المشركون من الآلهة والأنداد ( وإن يردك بخير ) ، يقول: وإن يردك ربك برخاء أو نعمة وعافية وسرور ( فلا رادّ لفضله ) ، يقول: فلا يقدر أحدٌ أن يحول بينك وبين ذلك ، ولا يردّك عنه ولا يحرمكه; لأنه الذي بيده السّرّاء والضرّاء ، دون الآلهة والأوثان ، ودون ما سواه ( يصيب به من يشاء ) ، يقول: يصيب ربك ، يا محمد بالرخاء والبلاء والسراء والضراء ، من يشاء ويريد ( من عباده وهو الغفور ) ، لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته ( الرحيم ) بمن آمن به منهم وأطاعه ، أن يعذبه بعد التوبة والإنابة. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ( 108 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد ، للناس : ( يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ) ، يعني: كتاب الله، فيه بيان كل ما بالناس إليه حاجة من أمر دينهم ( فمن اهتدى ) ، يقول: فمن استقام فسلك سبيل الحق، وصدّق بما جاء من عند الله من البيان ( فإنما يهتدي لنفسه ) ، يقول: فإنما يستقيم على الهدى، ويسلك قصد السبيل لنفسه، فإياها يبغي الخيرَ بفعله ذلك لا غيرها ( ومن ضل ) ، يقول: ومن اعوج عن الحق الذي أتاه من عند الله، وخالف دينَه، وما بعث به محمدًا والكتابَ الذي أنـزله عليه ( فإنما يضل عليها ) ، يقول: فإن ضلاله ذلك إنما يجني به على نفسه لا على غيرها، لأنه لا يؤخذ بذلك غيرها ، ولا يورد بضلاله ذلك المهالكَ سوى نفسه. ولا تزر وازرة وزر أخرى ( وما أنا عليكم بوكيل ) ، يقول: وما أنا عليكم بمسلَّط على تقويمكم، إنما أمركم إلى الله، وهو الذي يقوّم من شاء منكم، وإنما أنا رسول مبلّغ أبلغكم ما أرسلتُ به إليكم. القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 109 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتبع ، يا محمد وحي الله الذي يوحيه إليك ، وتنـزيله الذي ينـزله عليك، فاعمل به، واصبر على ما أصابك في الله من مشركي قومك من الأذى والمكاره ، وعلى ما نالك منهم ، حتى يقضي الله فيهم وفيك أمره بفعلٍ فاصلٍ ( وهو خير الحاكمين ) ، يقول: وهو خير القاضين وأعدل الفاصلين . فحكم جل ثناؤه بينه وبينهم يوم بَدْرٍ، ، وقتلهم بالسيف، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فيمن بقي منهم أن يسلك بهم سبيل من أهلك منهم ، أو يتوبوا ويُنيبوا إلى طاعته، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) ، قال: هذا منسوخ ( حتى يحكم الله ) ، حكم الله بجهادهم ، وأمره بالغلظة عليهم . آخر تفسير سورة يونس الرئيسة المصحف الإلكتروني www.e-quran.com. جميع الحقوق محفوظة. ==================== تفسير سورة المائدة فهرس تفسير الطبري للسور 5 - تفسير الطبري سورة المائدة التالي السابق تفسير سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين القول في تأويل قوله عز ذكره يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « يا أيها الذين آمنوا أوفوا » ، يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله، وأذعنوا له بالعبودية, وسلموا له الألوهة وصدَّقوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم في نبوته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه « أوفوا بالعقود » ، يعني: أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربَّكم، والعقود التي عاقدتموها إياه, وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقًا، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضًا, فأتمُّوها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها, ولمن عاقدتموه منكم، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم, ولا تنكُثُوها فتنقضوها بعد توكيدها . واختلف أهل التأويل في « العقود » التي أمر الله جل ثناؤه بالوفاء بها بهذه الآية, بعد إجماع جميعهم على أن معنى « العقود » ، العهود. فقال بعضهم: هي العقود التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضًا على النُّصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءًا, وذلك هو معنى « الحلف » الذي كانوا يتعاقدونه بينهم. ذكر من قال: معنى « العقود » ، العهود. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي, عن ابن عباس قوله: « أوفوا بالعقود » ، يعني: بالعهود. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله جل وعز: « أوفوا بالعقود » ، قال: العهود. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد، مثله . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرّف بن الشخِّير وعنده رجل يحدثهم, فقال: « يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود » ، قال: هي العهود . حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « أوفوا بالعقود » ، قال: العهود. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود » ، قال: هي العهود. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: « أوفوا بالعقود » ، بالعهود. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة في قوله: « أوفوا بالعقود » ، قال: بالعهود. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أوفوا بالعقود » ، قال: هي العهود. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، سمعت الثوري يقول: « أوفوا بالعقود » ، قال: بالعهود. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله. قال أبو جعفر: و « العقود » جمع « عَقْدٍ » ، وأصل « العقد » ، عقد الشيء بغيره, وهو وصله به, كما يعقد الحبل بالحبلِ، إذا وصل به شدًّا. يقال منه: « عقد فلان بينه وبين فلان عقدًا، فهو يعقده » , ومنه قول الحطيئة: قَــوْمٌ إذَا عَقَــدُوا عَقْـدًا لِجَـارِهِمُ شَـدُّوا العِنَـاجَ وَشَـدُّوا فَوْقَـهُ الْكَرَبَا وذلك إذا وَاثقه على أمر وعاهده عليه عهدًا بالوفاء له بما عاقده عليه, من أمان وذِمَّة, أو نصرة, أو نكاح, أو بيع, أو شركة, أو غير ذلك من العقود. ذكر من قال المعنى الذي ذكرنا عمن قاله في المراد من قوله: « أوفوا بالعقود » . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود » ، أي: بعقد الجاهلية. ذُكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: أوفوا بعقد الجاهلية, ولا تحدثوا عقدًا في الإسلام. وذكر لنا أن فرات بن حيَّان العِجلي، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية, فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تسأل عن حِلْف لخْمٍ وتَيْم الله؟ فقال: نعم، يا نبي الله! قال: لا يزيده الإسلام إلا شدة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « أوفوا بالعقود » ، قال: عقود الجاهلية: الحلف. وقال آخرون: بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالإيمان به وطاعته، فيما أحل لهم وحرم عليهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، أخبرنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « أوفوا بالعقود » ، يعني: ما أحل وما حرّم, وما فرض, وما حدَّ في القرآن كله, فلا تغدِروا ولا تنكُثوا. ثم شدَّد ذلك فقال: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إلى قوله: سُوءُ الدَّارِ [ سورة الرعد: 25 ] . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أوفوا بالعقود » ، ما عقد الله على العباد مما أحل لهم وحرَّم عليهم. وقال آخرون: بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم، ويعقدها المرء على نفسه. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي, عن موسى بن عبيدة, عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: العقود خمس: عُقدة الأيمان, وعُقدة النكاح, وعقدة العَهد, وعقدة البيع, وعقدة الحِلْف. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب القرظي أو عن أخيه عبد الله بن عبيدة, نحوه. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود » ، قال: عقد العهد، وعقد اليمين وعَقد الحِلْف, وعقد الشركة, وعقد النكاح. قال: هذه العقود، خمس. حدثني المثنى قال، حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال، حدثنا أبي في قول الله جل وعز: « يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود » ، قال: العقود خمس: عقدة النكاح, وعقدة الشركة, وعقد اليمين, وعقدة العهد, وعقدة الحلف . وقال آخرون: بل هذه الآية أمرٌ من الله تعالى لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم، من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « أوفوا بالعقود » ، قال: العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب: أن يعملوا بما جاءهم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال، قال محمد بن مسلم: قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه على نَجْران فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم, فيه: « هذا بيان من الله ورسوله » : « يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود » ، فكتب الآيات منها حتى بلغ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما قاله ابن عباس, وأن معناه: أوفوا، يا أيها الذين آمنوا، بعقود الله التي أوجبَهَا عليكم، وعقدها فيما أحلَّ لكم وحرم عليكم, وألزمكم فرضه, وبيَّن لكم حدوده. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال, لأن الله جل وعز أتبع ذلك البيانَ عما أحل لعباده وحرم عليهم، وما أوجب عليهم من فرائضه. فكان معلومًا بذلك أن قوله: « أوفوا بالعقود » ، أمرٌ منه عبادَه بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك, ونَهْيٌ منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه, مع أن قوله: « أوفوا بالعقود » ، أمرٌ منه بالوفاء بكل عقد أذن فيه, فغير جائز أن يخصَّ منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها. فإذْ كان الأمر في ذلك كما وصفنا, فلا معنى لقول من وجَّه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي أمرَ الله بالوفاء بها دون بعض. وأما قوله: « أوفوا » فإن للعرب فيه لغتين: إحداهما: « أوفوا » ، من قول القائل: « أوفيت لفلان بعهده، أوفي له به » . والأخرى من قولهم: « وفيت له بعهده أفي » . و « الإيفاء بالعهد » ، إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة. القول في تأويل قوله : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « بهيمة الأنعام » التي ذكر الله عز ذكره في هذه الآية أنه أحلها لنا. فقال بعضهم: هي الأنعام كلها. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى, عن عوف, عن الحسن قال: بهيمة الأنعام، هي الإبل والبقر والغنم. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « أحلت لكم بهيمة الأنعام » ، قال: الأنعام كلها. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا ابن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أحلت لكم بهيمة الأنعام » ، قال: الأنعام كلها. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: « أحلت لكم بهيمة الأنعام » ، قال: الأنعام كلها. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « بهيمة الأنعام » ، هي الأنعام. وقال آخرون: بل عنى بقوله: « أحلت لكم بهيمة الأنعام » ، أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها - إذا نحرت أو ذبحت- ميتةً. ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، أخبرنا أبو عبد الرحمن الفزاري, عن عطية العوفي, عن ابن عمر في قوله: « أحلت لكم بهيمة الأنعام » . قال: ما في بطونها. قال قلت: إن خرج ميتًا آكله؟ قال: نعم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا يحيى بن زكريا, عن إدريس الأودي, عن عطية, عن ابن عمر نحوه وزاد فيه قال: نعم, هو بمنـزلة رئتها وكبدها. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس قال: الجنين من بهيمة الأنعام، فكلوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن مسعر وسفيان, عن قابوس عن أبيه, عن ابن عباس: أن بقرة نحرت فوُجد في بطنها جنين, فأخذ ابن عباس بذنَب الجنين فقال: هذا من بهيمة الأنعام التي أحلّت لكم. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس قال: هو من بهيمة الأنعام. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم ومؤمل قالا حدثنا سفيان, عن قابوس, عن أبيه قال: ذبحنا بقرة, فإذا في بطنها جنين, فسألنا ابن عباس فقال: هذه بهيمة الأنعام. قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: عنى بقوله: « أحلت لكم بهيمة الأنعام » ، الأنعام كلها: أجنَّتها وسِخَالها وكبارها . لأن العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك « بهيمة وبهائم » , ولم يخصص الله منها شيئًا دون شيء. فذلك على عمومه وظاهره، حتى تأتى حجة بخصوصه يجب التسليم لها. وأما « النعم » فإنها عند العرب، اسم للإبل والبقر والغنم خاصة, كما قال جل ثناؤه: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، [ سورة النحل: 5 ] ، ثم قال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [ سورة النحل: 8 ] ، ففصل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان . وأما « بهائمها » ، فإنها أولادها. وإنما قلنا يلزم الكبار منها اسم « بهيمة » ، كما يلزم الصغار, لأن معنى قول القائل: « بهيمة الأنعام » , نظير قوله: « ولد الأنعام » . فلما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر, فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر. وقد قال قوم: « بهيمة الأنعام » ، وحشيُّها، كالظباء وبقر الوحش والحُمُر . القول في تأويل قوله : إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي عناه الله بقوله: « إلا ما يتلى عليكم » . فقال بعضهم: عنى الله بذلك: أحلت لكم أولاد الإبل والبقر والغنم, إلا ما بيَّن الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ، الآية [ سورة المائدة: 3 ] . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ » ، إلا الميتة وما ذكر معها. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ » ، أي: من الميتة التي نهى الله عنها، وقدَّم فيها. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « إلا ما يتلى عليكم » ، قال: إلا الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إلا ما يتلى عليكم » ، الميتة والدم ولحم الخنـزير. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ » ، الميتة ولحم الخنـزير. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ » ، هي الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أُهِلَّ لغير الله به. وقال آخرون: بل الذي استثنى الله بقوله: « إلا ما يتلى عليكم » ، الخنـزير. ذكر من قال ذلك. حدثني عبد الله بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « إلا ما يتلى عليكم » ، قال: الخنـزير. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « إلا ما يتلى عليكم » ، يعني: الخنـزير. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من قال: عنى بذلك: إلا ما يتلى عليكم من تحريم الله ما حرّم عليكم بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ، الآية. لأن الله عز وجل استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الأنعام، ما حرَّم عليهم منها. والذي حرّم عليهم منها، ما بيّنه في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْـزِيرِ [ سورة المائدة: 3 ] . وإن كان حرَّمه الله علينا، فليس من بهيمة الأنعام فيستثنى منها. فاستثناء ما حرَّم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء، أشبهُ من استثناء ما حرَّم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء. القول في تأويل قوله : غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ « غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ » أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ فذلك، على قولهم، من المؤخر الذي معناه التقديم. فـ « غير » منصوب على قول قائلي هذه المقالة على الحال مما في قوله: « أوفوا » من ذكر « الذين آمنوا » . وتأويل الكلام على مذهبهم: أوفوا، أيها المؤمنون، بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه, لا محلّين الصيد وأنتم حرم. وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر « غير محلي الصيد » ، غير مستحلِّي اصطيادها, وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم « . فـ » غير « ، على قول هؤلاء، منصوب على الحال من » الكاف والميم « اللتين في قوله: لَكُمْ ، بتأويل: أحلت لكم، أيها الذين آمنوا، بهيمة الأنعام, لا مستحلِّي اصطيادها في حال إحرامكم . » وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ , إلا ما كان منها وحشيًّا, فإنه صيد، فلا يحل لكم وأنتم حرم. فكأن من قال ذلك, وجَّه الكلام إلى معنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ، إلا ما يبين لكم من وحشيها, غيرَ مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم. فتكون « غير » منصوبة، على قولهم، على الحال من « الكاف والميم » في قوله: إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ . ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشخير، وعنده رجل, فحدّثهم فقال: « أحلت لكم بهيمة الأنعام » صيدًا « غير محلي الصيد وأنتم حرم » , فهو عليكم حرام. يعني: بقر الوحش والظباءَ وأشباهه. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: « أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم » ، قال: الأنعام كلها حِلٌّ، إلا ما كان منها وحشيًّا, فإنه صيد, فلا يحل إذا كان مُحْرِمًا. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما تظاهر به تأويل أهل التأويل في قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ ، من أنها الأنعام وأجنَّتها وسخالها, وعلى دلالة ظاهر التنـزيل قولُ من قال: معنى ذلك: أوفوا بالعقود، غيرَ محلي الصيد وأنتم حرم, فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم, إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم، وما أهل لغير الله به. وذلك أن قوله: إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ، لو كان معناه: « إلا الصيد » , لقيل: « إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه » . وفي ترك الله وَصْلَ قوله: إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ بما ذكرت, وإظهار ذكر الصيد في قوله: « غير محلي الصيد » ، أوضحُ الدليل على أن قوله: إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ، خَبَرٌ متناهية قصته, وأن معنى قوله: « غير محلي الصيد » ، منفصل منه. وكذلك لو كان قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ ، مقصودًا به قصد الوحش, لم يكن أيضًا لإعادة ذكر الصيد في قوله: « غير محلي الصيد » وَجْهٌ، وقد مضى ذكره قبل, ولقيل: « أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلِّيه وأنتم حرم » . وفي إظهاره ذكر الصيد في قوله: « غير محلي الصيد » ، أبينُ الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك. فإن قال قائل: فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه؟ قيل: ذلك من فعلها ضرورة شعر, وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم. وتوجيه كلام الله إلى الأفصح من لغات من نـزل كلامه بلغته، أولى ما وُجد إلى ذلك سبيل من صرفه إلى غير ذلك. قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرّم وأحلّ, لا محلين الصيد في حرمكم, ففيما أحلَّ لكم من بهيمة الأنعام المذكَّاة دون ميتتها، متَّسع لكم ومستغنًى عن الصيد في حال إحرامكم. القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ( 1 ) قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما أراد تحليله, وتحريم ما أراد تحريمه, وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم, وغير ذلك من أحكامه وقضاياه فأوفوا، أيها المؤمنون، له بما عقدَ عليكم من تحليل ما أحل لكم وتحريم ما حرّم عليكم, وغير ذلك من عقوده، فلا تنكثوها ولا تنقضوها. كما:- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إن الله يحكم ما يريد » ، إن الله يحكم ما أراد في خلقه, وبيّن لعباده, وفرض فرائضه, وحدَّ حدوده, وأمر بطاعته, ونهى عن معصيته. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قول الله: « لا تحلوا شعائر الله » . فقال بعضهم معناه: لا تحلوا حُرُمات الله, ولا تتعدَّوا حدوده كأنهم وجهوا « الشعائر » إلى المعالم, وتأولوا « لا تحلوا شعائر الله » ، معالم حدود الله, وأمرَه ونهيَه وفرائضَه. [ ذكر من قال ذلك ] : حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا حبيب المعلم, عن عطاء: أنه سئل عن « شعائر الله » فقال: حُرُمات الله، اجتناب سَخَطِ الله, واتباع طاعته, فذلك « شعائر الله » . وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلوا حَرَم الله فكأنهم وجهوا معنى قوله: « شعائر الله » ، أي: معالم حرم الله من البلاد. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله » ، قال: أما « شعائر الله » ، فحرَم الله. وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلّوا مناسك الحج فتضيعوها وكأنهم وجَّهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حدَّها لكم في حجِّكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, قال ابن عباس قوله: « لا تحلوا شعائر الله » ، قال: مناسك الحج. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله » ، قال: كان المشركون يحجّون البيت الحرام, ويهدُون الهدايا, ويعظِّمون حرمة المشاعر, ويتَّجرون في حجهم, فأراد المسلمون أن يُغَيِّروا عليهم, فقال الله عز وجل: « لا تحلوا شعائر الله » . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « شعائر الله » ، الصفا والمروة, والهَدْي, والبُدْن, كل هذا من « شعائر الله » . حدثني المثنى قال، حدثني أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلوا ما حرَّم الله عليكم في حال إحرامكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « لا تحلوا شعائر الله » ، قال: « شعائر الله » ، ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرِم. وكأن الذين قالوا هذه المقالة, وجَّهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حرّمها عليكم في إحرامكم. قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بقوله: « لا تحلوا شعائر الله » ، قول عطاء الذي ذكرناه من توجيهه معنى ذلك إلى: لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه. لأن « الشعائر » جمع « شعيرة » , « والشعيرة » « فعيلة » من قول القائل: « قد شعر فلان بهذا الأمر » ، إذا علم به. فـ « الشعائر » ، المعالم، من ذلك . وإذا كان ذلك كذلك, كان معنى الكلام: لا تستحلوا، أيها الذين آمنوا، معالم الله فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج: من تحريم ما حرَّم الله إصابته فيها على المحرم, وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها, وفيما حرَّم من استحلال حُرمات حَرَمه, وغير ذلك من حدوده وفرائضه، وحلاله وحرامه, لأن كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أماراتٍ بين الحق والباطل, يُعْلَم بها حلالُه وحرامه، وأمره ونهيه. وإنما قلنا ذلك القول أولى بتأويل قوله تعالى: « لا تحلوا شعائر الله » ، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها نهيًا عامًّا، من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء, فلم يَجُز لأحد أن يوجِّه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها, ولا حجة بذلك كذلك. القول في تأويل قوله : وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ولا الشهر الحرام » ، ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم فيه أعداءَكم من المشركين وهو كقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [ سورة البقرة: 217 ] . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن عباس وغيره. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « ولا الشهر الحرام » ، يعني: لا تستحلوا قتالا فيه. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: كان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت, فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت. وأما « الشهر الحرام » الذي عناه الله بقوله: « ولا الشهر الحرام » ، فرجب مُضَر, وهو شهر كانت مضر تحرِّم فيه القتال. وقد قيل: هو في هذا الموضع « ذو القعدة » . ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قال: هو ذو القعدة. وقد بينا الدلالة على صحة ما قلنا في ذلك فيما مضى, وذلك في تأويل قوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ . القول في تأويل قوله : وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ قال أبو جعفر: « أما الهدي » ، فهو ما أهداه المرء من بعيرٍ أو بقرة أو شاة أو غير ذلك، إلى بيت الله, تقرُّبا به إلى الله، وطلبَ ثوابه . يقول الله عز وجل: فلا تستحلوا ذلك، فتغصبوه أهله غَلَبةً ولا تحولوا بينهم وبين ما أهدوا من ذلك أن يبلُغوا به المحِلَّ الذي جعله الله جل وعزّ مَحِلَّه من كعبته. وقد روي عن ابن عباس أن « الهدي » إنما يكون هديًا ما لم يُقَلَّد. حدثني بذلك محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولا الهدي » ، قال: الهدي ما لم يقلَّد, وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلِّده. وأما قوله: « ولا القلائد » ، فإنه يعني: ولا تحلوا أيضًا القلائد. ثم اختلف أهل التأويل في « القلائد » التي نهى الله عز وجل عن إحلالها. فقال بعضهم: عنى بـ « القلائد » ، قلائدَ الهدي. وقالوا: إنما أراد الله جل وعز بقوله: « ولا الهدي ولا القلائد » ، ولا تحلوا الهدايا المقلَّدات منها وغير المقلَّدات. فقوله: « ولا الهدي » ، ما لم يقلّد من الهدايا « ولا القلائد » ، المقلّد منها. قالوا: ودلّ بقوله: « ولا القلائد » ، على معنى ما أراد من النهي عن استحلال الهدايا المقلّدة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولا القلائد » ، القلائد، مقلَّدات الهدي. وإذا قلَّد الرجل هديه فقد أحرم. فإن فعل ذلك وعليه قميصه، فليخلَعْه. وقال آخرون: يعني بذلك: القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة، من لِحَاء السَّمُر وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها, من الشَّعَر. ذكر من قال ذلك: حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ، قال: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلَّد من السَّمُر، فلم يعرض له أحد. فإذا رجع تقلَّد قِلادة شَعَر، فلم يعرض له أحد. وقال آخرون: بل كان الرجل منهم يتقلّد إذا أراد الخروج من الحرم، أو خرج من لحاء شجر الحرم، فيأمن بذلك من سائر قبائل العرب أن يعرضوا له بسوء. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن مالك بن مغول, عن عطاء: « ولا القلائد » ، قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم, يأمنون بذلك إذا خرجوا من الحرم, فنـزلت: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ، الآية, « ولا الهدي ولا القلائد » . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولا القلائد » ، قال: « القلائد » ، اللحاء في رقاب الناس والبهائم، أمْنٌ لهم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, قوله: « ولا الهدي ولا القلائد » ، قال: إن العرب كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة, فيقيم الرجل بمكانه, حتى إذا انقضت الأشهر الحرم، فأراد أن يرجع إلى أهله، قلَّد نفسه وناقته من لحاء الشجر, فيأمن حتى يأتي أهله. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا القلائد » ، قال: « القلائد » ، كان الرجل يأخذ لحاء شجرة من شجر الحرم، فيتقلدها, ثم يذهب حيث شاء, فيأمن بذلك. فذلك « القلائد » . وقال آخرون: إنما نهى الله المؤمنين بقوله: « ولا القلائد » ، أن ينـزعوا شيئًا من شجر الحرم فيتقلّدوه، كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عبد الملك, عن عطاء في قوله: « ولا الهدي ولا القلائد » ، كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لحاء السَّمُر, فيتقلدونها, فيأمنون بها من الناس. فنهى الله أن ينـزع شجرها فَيُتَقَلَّد. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مُطرِّف بن الشخير, وعنده رجل فحدّثهم في قوله: « ولا القلائد » ، قال: كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لِحاء السمر، فيتقلدون, فيأمنون بها في الناس. فنهى الله عز ذكره أن يُنـزع شجرها فيتقلَّد. قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل قوله: « ولا القلائد » إذ كانت معطوفة على أول الكلام, ولم يكن في الكلام ما يدلّ على انقطاعها عن أوله, ولا أنه عنى بها النهي عن التقلد أو اتخاذ القلائد من شيء أن يكون معناه: ولا تُحِلّوا القلائد. فإذا كان ذلك بتأويله أولى, فمعلوم أنه نَهْيٌ من الله جل ذكره عن استحلال حرمة المقلَّد، هديًا كان ذلك أو إنسانًا, دون حرمة القلادة. وإن الله عز ذكره، إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة، على ما ذكرنا من حرمة المقلَّد, فاجتزأ بذكره « القلائد » من ذكر « المقلد » , إذ كان مفهومًا عند المخاطبين بذلك معنى ما أريد به. فمعنى الآية إذ كان الأمر على ما وصفنا : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله, ولا الشهر الحرام, ولا الهدي, ولا المقلِّد نفسَه بقلائد الحرم. وقد ذكر بعض الشعراء في شعره ما ذكرنا عمن تأوَّل « القلائد » أنها قلائد لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلَّدونه, فقال وهو يعيب رجلين قتلا رجلين كانا تقلَّدا ذلك: أَلَــمْ تَقْتُـلا الْحِرْجَـيْنِ إذْ أَعْوَراكُمَـا يُمِــرَّانِ بِـالأيْدِي اللِّحَـاءَ الْمُضَفَّـرَا و « الحرجان » ، المقتولان كذلك. ومعنى قوله: « أعوراكما » ، أمكناكما من عورتهما. القول في تأويل قوله : وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكره: « ولا آمين البيت الحرام » ، ولا تحلُّوا قاصدي البيت الحرام العامدية . تقول منه: « أممت كذا » ، إذا قصدته وعمدته, وبعضهم يقول: « يَمَمْته » كما قال الشاعر: إنِّــي كَـذَاكَ إذَا مَـا سَـاءَنِي بَلَـدٌ يَمَمْـتُ صَـدْرَ بَعِـيرِي غَـيْرَهُ بَلَـدَا « والبيت الحرام » ، بيت الله الذي بمكة، وقد بينت فيما مضى لم قيل له « الحرام » . « يبتغون فضلا من ربهم » ، يعني: يلتمسون أرباحًا في تجاراتهم من الله « ورضوانًا » ، يقول: وأن يرضى الله عنهم بنسكهم. وقد قيل: إن هذه الآية نـزلت في رجل من بني ربيعة يقال له: « الحُطَمُ » . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: أقبل الحُطم بن هند البكري, ثم أحد بني قيس بن ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده, وخَلَّف خيله خارجة من المدينة. فدعاه، فقال: إلام تدعو؟ فأخبره وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة, يتكلم بلسان شيطان! فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال: انظر، ولعلّي أسلم ولي من أشاوره. فخرج من عنده, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد دخل بوجه كافر, وخرج بعَقِب غادرٍ! فمرَّ بسَرْح من سَرْح المدينة فساقه, فانطلق به وهو يرتجز قَــدْ لَفَّهـَا اللَّيْــلُ بِسَوَّاقٍ حـُـطَمْ لَيْــسَ بِرَاعِــي إبِلٍ وَلا غَـنـَـم وَلا بِجَـــزَّارٍ علــى ظَهْرِ الوَضَـمْ بَــاتُوا نِيَـامًا وَابْنُ هِنْــدٍ لَمْ يَنَـمْ بَــاتَ يـُقَاسِيهَا غـُلامٌ كَـالــزَّلَـمْ خَــدَلَّجُ السَّاقَــيْنِ مَمْسُوحُ القَـدَمْ ثم أقبل من عام قابلٍ حاجًّا قد قلَّد وأهدى, فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه, فنـزلت هذه الآية, حتى بلغ: « ولا آمين البيت الحرام » . قال له ناس من أصحابه: يا رسول الله، خلِّ بيننا وبينه, فإنه صاحبنا! قال: إنه قد قلَّد! قالوا: إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية! فأبى عليهم, فنـزلت هذه الآية. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قال: قدم الحُطَم، أخو بني ضُبيعة بن ثعلبة البكري، المدينةَ في عِير له يحمل طعامًا, فباعه. ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعه وأسلم. فلما ولى خارجًا، نظر إليه فقال لمن عنده: لقد دخل عليّ بوجهٍ فاجرٍ، وولّى بقفا غادرٍ! فلما قدم اليمامة ارتدَّ عن الإسلام, وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة. فلما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, تهيَّأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقتطعوه في عِيره, فأنـزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ، الآية, فانتهى القوم. قال ابن جريج قوله: « ولا آمين البيت الحرام » ، قال: ينهى عن الحجاج أن تُقطع سبلهم. قال: وذلك أن الحطم قدِم على النبي صلى الله عليه وسلم ليرتاد وينظر, فقال: إني داعية قوم فاعرض عليّ ما تقول. قال له: أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشرك به شيئًا, وتقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتصوم شهر رمضان, وتحج البيت. قال الحطم: في أمرك هذا غلظة, أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت, فإن قبلوه أقبلتُ معهم, وإن أدبروا كنت معهم. قال له: ارجع. فلما خرج قال: لقد دخل عليّ بوجه كافرٍ، وخرج من عندي بعَقِبَى غادر, وما الرجل بمسلم! فمرَّ على سَرْح لأهل المدينة فانطلق به، فطلبه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاتهم، وقدم اليمامة, وحضر الحج, فجهّز خارجًا, وكان عظيم التجارة, فاستأذنوا أن يتلقَّوه ويأخذوا ما معه, فأنـزل الله عز وجل: « لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ » . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا آمين البيت الحرام » الآية, قال: هذا يوم الفتح، جاء ناسٌ يؤمُّون البيت من المشركين يُهِلُّون بعمرة, فقال المسلمون: يا رسول الله، إنما هؤلاء مشركون كمثل هؤلاء فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم. فنـزل القرآن: « ولا آمين البيت الحرام » . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « ولا آمين البيت الحرام » ، يقول: من توجَّه حاجًّا. حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « ولا آمين البيت الحرام » ، يعني: الحاج. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشخّير وعنده رجل, فحدثهم فقال: « ولا آمين البيت الحرام » ، قال: الذين يريدون البيت. ثم اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية، بعد إجماعهم على أن منها منسوخًا. فقال بعضهم: نسخ جميعها. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن بيان, عن عامر, قال: لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن سفيان بن حسين, عن الحكم, عن مجاهد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ، نسختها، فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، [ سورة التوبة: 5 ] . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن بيان, عن الشعبي قال، لم ينسخ من سورة المائدة غير هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ الآية, قال: منسوخ. قال: كان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت, فأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحُرم، ولا عند البيت, فنسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن جويبر, عن الضحاك: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ إلى قوله: « ولا آمين البيت الحرام » ، قال: نسختها « براءة » : فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن الضحاك, مثله. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن حبيب بن أبي ثابت: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ ، قال: هذا شيء نهي عنه, فترك كما هو . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ » ، قال: هذا كله منسوخ, نسخ هذا أمرُه بجهادهم كافة . وقال آخرون: الذي نسخ من هذه الآية قوله: « وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ » . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة: نسخ من « المائدة » : « آمين البيت الحرام » ، نسختها « براءة » قال الله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ , وقال: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [ سورة التوبة: 17 ] ، وقال: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [ سورة التوبة: 28 ] ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر, فنادى فيه بالأذان. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ الآية, قال: فنسخ منها: « آمين البيت الحرام » ، نسختها « براءة » , فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ , فذكر نحو حديث عبدة. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: نـزل في شأن الحُطم: « وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ » ، ثم نسخه الله فقال: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [ سورة البقرة: 191 ] . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ إلى قوله: « ولا آمين البيت » ، [ فكان المؤمنون والمشركون يحجون إلى البيت ] جميعًا, فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدًا أن يحجّ البيت أو يعرضوا له، من مؤمن أو كافر, ثم أنـزل الله بعد هذا: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا , وقال: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ , وقال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [ سورة التوبة: 18 ] ، فنفى المشركين من المسجد الحرام. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ، الآية, قال: منسوخ, كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج, تقلَّد من السَّمُر فلم يعرض له أحد. وإذا رجع، تقلَّد قلادة شَعَرٍ فلم يعرض له أحد. وكان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت. وأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحُرُم، ولا عند البيت, فنسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . وقال آخرون: لم ينسخ من ذلك شيء، إلا القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلَّدونها من لِحَاء الشجر. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ، الآية, قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: هذا كله من عمل الجاهلية فِعله وإقامته, فحرَّم الله ذلك كله بالإسلام, إلا لحاء القلائد, فترك ذلك « ولا آمين البيت الحرام » ، فحرم الله على كل أحد إخافتهم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة, قول من قال: نسخ الله من هذه الآية قوله: « وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ » ، لإجماع الجميع على أن الله قد أحلّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة كلها. وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قَلَّد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم، لم يكن ذلك له أمانًا من القتل، إذا لم يكن تقدَّم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان وقد بينا فيما مضى معنى « القلائد » في غير هذا الموضع . وأما قوله: « ولا آمين البيت الحرام » ، فإنه محتمل ظاهره: ولا تحلوا حُرْمة آمِّين البيت الحرام من أهل الشرك والإسلام, لعموم جميع من أمَّ البيت. وإذا احتمل ذلك, فكان أهل الشرك داخلين في جملتهم, فلا شك أن قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، ناسخٌ له. لأنه غير جائز اجتماع الأمر بقتلهم وترك قتلهم في حال واحدة ووقت واحد. وفي إجماع الجميع على أن حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلُهم, أمُّوا البيت الحرام أو البيت المقدس، في أشهر الحرم وغيرها ما يُعلم أن المنع من قتلهم إذا أموا البيت الحرام منسوخٌ. ومحتمل أيضًا: ولا آمين البيت الحرام من أهل الشرك. وأكثر أهل التأويل على ذلك. وإن كان عُني بذلك المشركون من أهل الحرب, فهو أيضًا لا شك منسوخ. وإذْ كان ذلك كذلك وكان لا اختلاف في ذلك بينهم ظاهر, وكان ما كان مستفيضًا فيهم ظاهرًا حجةً فالواجب، وإن احتمل ذلك معنى غير الذي قالوا, التسليمُ لما استفاض بصحته نقلهم. القول في تأويل قوله : يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا قال أبو جعفر: يعني بقوله: « يبتغون » ، يطلبون ويلتمسون و « الفضل » الأرباح في التجارة و « الرضوان » ، رضَى الله عنهم, فلا يحل بهم من العقوبة في الدنيا ما أحلَّ بغيرهم من الأمم في عاجل دنياهم، بحجّهم بيتَه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر, عن قتادة في قوله: « يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا » ، قال: هم المشركون، يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دُنياهم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة في قوله: « يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا » ، والفضل والرضوان اللذان يبتغون: أن يصلح معايشهم في الدنيا, وأن لا يعجَّل لهم العقوبة فيها. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن ابن عباس: « يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا » ، يعني: أنهم يترضَّون الله بحجهم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشِّخِّير, وعنده رجل فحدثهم في قوله: « يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا » ، قال: التجارة في الحج, والرضوان في الحج. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي أميمة قال، قال ابن عمر في الرجل يحج ويحمل معه متاعًا, قال: لا بأس به وتلا هذه الآية: « يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا » . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا » ، قال: يبتغون الأجر والتجارة. القول في تأويل قوله : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا حللتم فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم أن تُحِلُّوه وأنتم حرم. يقول: فلا حرج عليكم في اصطياده، واصطادوا إن شئتم حينئذ, لأن المعنى الذي من أجله كنت حرَّمته عليكم في حال إحرامكم قد زال. وبما قلنا في ذلك قال جميع أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حصين, عن مجاهد أنه قال: هي رخصة يعني قوله: « وإذا حللتم فاصطادوا » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن حجاج, عن القاسم, عن مجاهد قال: خمس في كتاب الله رخصة, وليست بعَزْمة, فذكر: « وإذا حللتم فاصطادوا » ، قال: من شاء فعل, ومن شاء لم يفعل. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن حجاج, عن عطاء, مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن حصين, عن مجاهد: « وإذا حللتم فاصطادوا » ، قال: إذا حلّ, فإن شاء صاد, وإن شاء لم يصطد. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن ابن جريج, عن رجل, عن مجاهد: أنه كان لا يرى الأكل من هَدْي المتعة واجبًا, وكان يتأول هذه الآية: « وإذا حللتم فاصطادوا » فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [ سورة الجمعة: 10 ] . القول في تأويل قوله : وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ولا يجرمنكم » ، ولا يحملنكم، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي, عن ابن عباس قوله: « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ » ، يقول: لا يحملنكم شنآن قوم. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ » ، أي: لا يحملنكم. وأما أهل المعرفة باللغة فإنهم اختلفوا في تأويلها. فقال بعض البصريين: معنى قوله: « ولا يجرمنكم » ، لا يُحِقَّنَّ لكم، لأن قوله: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [ سورة النحل: 62 ] ، هو: حقٌّ أن لهم النار. وقال بعض الكوفيين: معناه: لا يحملنَّكم. وقال: يقال: « جرمني فلان على أن صنعت كذا وكذا » ، أي: حملني عليه. واحتج جميعهم ببيت الشاعر: وَلَقَــدْ طَعَنْـتَ أَبَـا عُيَيْنَـةَ طَعْنَـةً جَـرَمَتْ فَـزَارَةُ بَعْدَهَـا أَنْ يَغْضَبُـوا فتأول ذلك كل فريق منهم على المعنى الذي تأوله من القرآن. فقال الذين قالوا: « لا يجرمنكم » ، لا يُحِقَّن لكم معنى قول الشاعر: « جرمت فزارة » ، أحقَّت الطعنةُ لفزارة الغضبَ. وقال الذين قالوا: معناه: لا يحملنكم معناه في البيت: « جرمت فزارة أن يغضبوا » ، حملت فزارة على أن يغضبوا. وقال آخر من الكوفيين: معنى قوله: « لا يجرمنكم » ، لا يكسبنكم شنآن قوم. وتأويل قائل هذا القول قولَ الشاعر في البيت: « جرمت فزارة » ، كسبت فزارة أن يغضبوا. قال: وسمعت العرب تقول: « فلان جريمة أهله » , بمعنى: كاسبهم « وخرج يجرمهم » ، يكسبهم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه، متقاربة المعنى. وذلك أن من حمل رجلا على بغض رجل، فقد أكسبه بغضه. ومن أكسبه بغضه، فقد أحقَّه له. فإذا كان ذلك كذلك, فالذي هو أحسن في الإبانة عن معنى الحرف, ما قاله ابن عباس وقتادة, وذلك توجيههما معنى قوله: « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ » ، ولا يحملنكم شنآن قومٍ على العدوان. واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ) بفتح « الياء » من: « جَرَمْتُه أجْرِمُه » . وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين وهو يحيى بين وثّاب، والأعمش: ما:- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن الأعمش أنه قرأ: ( وَلا يُجْرِمَنَّكُمْ ) مرتفعة « الياء » ، من: « أجرمته أجرمه، وهو يُجْرِمني » . قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القراءتين, قراءة من قرأ ذلك: ( وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ) بفتح « الياء » , لاستفاضة القراءة بذلك في قرأة الأمصار، وشذوذ ما خالفها, وأنها اللغة المعروفة السائرة في العرب, وإن كان مسموعًا من بعضها: « أجرم يُجْرم » على شذوذه. وقراءة القرآن بأفصح اللغات، أولى وأحق منها بغير ذلك. ومن لغة من قال « جَرَمْتُ » ، قول الشاعر: يَـا أَيُّهَـا المُشْـتَكِي عُكْلا وَمَا جَرَمَتْ إلــى القَبَـائِلِ مِـنْ قَتْـلٍ, وإبْـآسُ القول في تأويل قوله : شَنَآنُ قَوْمٍ اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: ( شَنَآنُ ) بتحريك « الشين والنون » إلى الفتح, بمعنى: بغض قوم، توجيهًا منهم ذلك إلى المصدر الذي يأتي على « فَعَلان » ، نظير « الطيران » و « النَّسَلان » و « العَسَلان » و « الرَّمَلان » . وقرأ ذلك آخرون: ( شَنْآنُ قَوْمٍ ) بتسكين « النون » وفتح « الشين » بمعنى: الاسم، توجيهًا منهم معناه إلى: لا يحملنكم بَغِيض قوم فيخرج « شَنْآن » على تقدير « فَعْلان » , لأن « فَعَل » منه على « فَعِلَ » كما يقال: « سكران » من « سكر » , و « عطشان » من « عطش » , وما أشبه ذلك من الأسماء. قال أبو جعفر: والذي هو أولى القراءتين في ذلك بالصواب, قراءة من قرأ: ( شَنَآنُ قَومٍ ) بفتح « النون » محركة, لشائع تأويل أهل التأويل على أن معناه: بغض قوم وتوجيههم ذلك إلى معنى المصدر دون معنى الاسم. وإذْ كان ذلك موجَّهًا إلى معنى المصدر, فالفصيح من كلام العرب فيما جاء من المصادر على « الفَعلان » بفتح « الفاء » ، تحريك ثانيه دون تسكينه, كما وصفت من قولهم: « الدَّرَجَان » و « الرَّمَلان » ، من « درج » و « رمل » , فكذلك « الشنآن » من « شنئته أشنَؤُه شنآنًا » ، ومن العرب من يقول: « شَنَانٌ » على تقدير « فعال » , ولا أعلم قارئًا قرأ ذلك كذلك, ومن ذلك قول الشاعر: وَمَــا العَيْشُ إلا مَـا تَلَـذُّ وتَشْـتَهِي وَإنْ لامَ فِيــهِ ذُو الشَّــنَانِ وَفَنَّــدَا وهذا في لغة من ترك الهمز من « الشنآن » , فصار على تقدير « فعال » وهو في الأصل « فَعَلان » . ذكر من قال من أهل التأويل: « شنآن قوم » ، بغض قوم. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ » ، لا يحملنكم بغض قوم. وحدثني به المثنى مرة أخرى بإسناده, عن ابن عباس فقال: لا يحملنكم عداوة قوم أن تعتدوا. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ » ، لا يجرمنكم بغض قوم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ » ، قال: بغضاؤهم، أن تعتدوا. القول في تأويل قوله : أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعض أهل المدينة وعامة قرأة الكوفيين: ( أَنْ صَدُّوكُمْ ) بفتح « الألف » من « أن » ، بمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم بصدِّهم إياكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وكان بعض قرأة الحجاز والبصرة يقرأ ذلك: ( ولا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم ) ، بكسر « الألف » من « إن » ، بمعنى: ولا يجرمنكم شنآن قوم إن هم أحدثوا لكم صدًّا عن المسجد الحرام أن تعتدوا فزعموا أنها في قراءة ابن مسعود: ( إن يصدوكم ) ، فقرأوا ذلك كذلك اعتبارًا بقراءته. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي, أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان في قرأة الأمصار, صحيح معنى كل واحدة منهما. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صُدَّ عن البيت هو وأصحابه يوم الحديبية, وأنـزلت عليه « سورة المائدة » بعد ذلك، فمن قرأ ( أَنْ صَدُّوكُمْ ) بفتح « الألف » من « أن » ، فمعناه: لا يحملنكم بغض قوم، أيها الناس، من أجل أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام, أن تعتدوا عليهم. ومن قرأ: ( إن صدوكم ) بكسر « الألف » , فمعناه: لا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم عن المسجد الحرام إذا أردتم دخوله. لأن الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريش يوم فتح مكة، قد حاولوا صَدَّهم عن المسجد الحرام. فتقدم الله إلى المؤمنين في قول من قرأ ذلك بكسر « إن » بالنهي عن الاعتداء عليهم، إن هم صدوهم عن المسجد الحرام، قبل أن يكون ذلك من الصادِّين. غير أن الأمر، وإن كان كما وصفت, فإن قراءة ذلك بفتح « الألف » ، أبينُ معنى. لأن هذه السورة لا تَدَافُعَ بين أهل العلم في أنها نـزلت بعد يوم الحديبية. وإذْ كان ذلك كذلك, فالصدُّ قد كان تقدم من المشركين, فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادِّين من أجل صدِّهم إياهم عن المسجد الحرام. وأما قوله: « أن تعتدوا » ، فإنه يعني: أن تجاوزوا الحدَّ الذي حدَّه الله لكم في أمرهم. فتأويل الآية إذًا: ولا يحملنكم بغض قوم، لأن صدوكم عن المسجد الحرام، أيها المؤمنون، أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه, ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم. وذكر أنها نـزلت في النهي عن الطلب بذُحول الجاهلية. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « أن تعتدوا » ، رجل مؤمن من حلفاء محمد, قتل حليفًا لأبي سفيان من هذيل يوم الفتح بعرفة, لأنه كان يقتل حلفاء محمد, فقال محمد صلى الله عليه وسلم: لعن الله من قتل بذَحْل الجاهلية. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. وقال آخرون: هذا منسوخ ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا » ، قال: بغضاؤهم, حتى تأتوا ما لا يحل لكم. وقرأ: « أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا » , وقال: هذا كله قد نسخ, نسخه الجهاد. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول مجاهد أنه غير منسوخ، لاحتماله: أن تعتدوا الحقَّ فيما أمرتكم به. وإذا احتمل ذلك, لم يجز أن يقال: « هو منسوخ » , إلا بحجة يجب التسليم لها. القول في تأويل قوله : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وتعاونوا على البر والتقوى » ، وليعن بعضكم، أيها المؤمنون، بعضًا « على البر » , وهو العمل بما أمر الله بالعمل به « والتقوى » ، هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه. وقوله: « ولا تعاونوا على الإثم والعدوان » ، يعني: ولا يعن بعضكم بعضًا « على الإثم » , يعني: على ترك ما أمركم الله بفعله « والعدوان » ، يقول: ولا على أن تتجاوزوا ما حدَّ الله لكم في دينكم, وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم. وإنما معنى الكلام: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا, ولكن ليعن بعضكم بعضًا بالأمر بالانتهاء إلى ما حدَّه الله لكم في القوم الذين صدُّوكم عن المسجد الحرام وفي غيرهم, والانتهاء عما نهاكم الله أن تَأتوا فيهم وفي غيرهم، وفي سائر ما نهاكم عنه, ولا يعن بعضكم بعضًا على خلاف ذلك. وبما قلنا في « البر والتقوى » قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « وتعاونوا على البر والتقوى » ، « البر » ما أمرت به, و « التقوى » ما نهيت عنه. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع, عن أبي العالية في قوله: « وتعاونوا على البر والتقوى » قال: « البر » ما أمرت به, و « التقوى » ما نهيت عنه. القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 2 ) قال أبو جعفر: وهذا وعيد من الله جل ثناؤه وتهدُّدٌ لمن اعتدى حدّه وتجاوز أمره يقول عز ذكره: « واتقوا الله » ، يعني: واحذروا الله، أيها المؤمنون، أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حدَّه فيما حدَّ لكم، وخالفتم أمره فيما أمركم به، أو نهيه فيما نهاكم عنه, فتستوجبوا عقابه، وتستحقوا أليم عذابه. ثم وصف عقابه بالشدة فقال عز ذكره: إن الله شديدٌ عقابه لمن عاقبه من خلقه, لأنها نار لا يطفأ حَرُّها, ولا يخمد جمرها, ولا يسكن لهبها، نعوذ بالله منها ومن عمل يقرِّبنا منها. القول في تأويل قوله : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: حرَّم الله عليكم، أيها المؤمنون، الميتة. و « الميتة » : كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره, مما أباح الله أكلها, أهليَّها ووحشيَّها, فارقتها روحها بغير تذكية . وقد قال بعضهم: « الميتة » ، هو كل ما فارقته الحياة من دوابِّ البر وطيره بغير تذكية، مما أحل الله أكله . وقد بيّنا العلة الموجبة صحة القول بما قلنا في ذلك، في كتابنا ( كتاب لطيف القول في الأحكام ) . وأما « الدم » ، فإنه الدم المسفوح، دون ما كان منه غير مسفوح, لأن الله جل ثناؤه قال: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْـزِيرٍ [ سورة الأنعام: 145 ] ، فأما ما كان قد صار في معنى اللحم، كالكبد والطحال, وما كان في اللحم غير منسفح, فإن ذلك غير حرام, لإجماع الجميع على ذلك. وأما قوله: « ولحم الخنـزير » ، فإنه يعني: وحُرِّم عليكم لحم الخنـزير, أهليُّه وبَرِّيّه. فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم, والمراد منهما الخصوص. وأما لحم الخنـزير, فإن ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره, حرام جميعه، لم يخصص منه شيء. وأما قوله: « وما أهلَّ لغير الله به » ، فإنه يعني: وما ذكر عليه غير اسم الله. وأصله من « استهلال الصبي » ، وذلك إذا صاح حين يسقط من بطن أمه. ومنه « إهلال المحرم بالحج » ، إذا لبّى به ومنه قول ابن أحمر: يُهــــلُّ بـــالفَرْقَدِ رُكْبَانُهَـــا كَمَــا يُهِــلُّ الــرَّاكِبُ المُعْتَمِــرْ وإنما عنى بقوله: « وما أهل لغير الله به » ، وما ذبح للآلهة وللأوثان، يسمى عليه غير اسم الله . وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى، فكرهنا إعادته. القول في تأويل قوله : وَالْمُنْخَنِقَةُ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة « الانخناق » الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله: « والمنخنقة » . فقال بعضهم بما:- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والمنخنقة » ، قال: التي تدخل رأسها بين شُعْبتين من شجرة, فتختنق فتموت. 11002م- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك في المنخنقة, قال: التي تختنق فتموت. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر, عن قتادة في قوله: « والمنخنقة » ، التي تموت في خِنَاقها. وقال آخرون: هي التي توثق فيقتلها بالخناق وَثَاقها. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « والمنخنقة » ، قال: الشاة توثق, فيقتلها خِنَاقها, فهي حرام. وقال آخرون: بل هي البهيمة من النَّعم, كان المشركون يخنقونها حتى تموت, فحرَّم الله أكلها. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « والمنخنقة » التي تُخنق فتموت. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والمنخنقة » ، كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة, حتى إذا ماتت أكلوها. وأولى هذه الأقوال بالصواب, قول من قال: « هي التي تختنق, إما في وثاقها, وإما بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه، فتختنق حتى تموت » . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره, لأن « المنخنقة » ، هي الموصوفة بالانخناق، دون خنق غيرها لها, ولو كان معنيًّا بذلك أنها مفعول بها، لقيل: « والمخنوقة » , حتى يكون معنى الكلام ما قالوا. القول في تأويل قوله : وَالْمَوْقُوذَةُ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « والموقوذة » ، والميتة وقيذًا. يقال منه: « وقَذَهُ يَقِذُه وقْذًا » ، إذا ضربه حتى أشرف على الهلاك, ومنه قول الفرزدق: شَــغَّارَةٍ تَقِــذُ الفَصِيــلَ بِرِجْلِهَـا فَطَّــــارَةٍ لِقَـــوَادِمِ الأبْكَـــارِ وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « والموقوذة » ، قال: الموقوذة، التي تضرب بالخشب حتى توقَذَ بها فتموت. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والموقوذة » ، كان أهل الجاهلية يضربونها بالعِصيّ, حتى إذا ماتت أكلوها. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا شعبة, عن قتادة في قوله: « والموقوذة » ، قال: كانوا يضربونها حتى يقذوها, ثم يأكلونها. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « والموقوذة » ، التي توقذ فتموت. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك قال: « الموقوذة » ، التي تضرب حتى تموت. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والموقوذة » ، قال: هي التي تضرب فتموت. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سلمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « والموقوذة » ، كانت الشاة أو غيرها من الأنعام تضرب بالخشب لآلهتهم، حتى يقتلوها فيأكلوها. حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني عقبة بن علقمة, حدثني إبراهيم بن أبي عبلة. قال، حدثني نعيم بن سلامة, عن أبي عبد الله الصنابحي قال: ليست « الموقوذة » إلا في مالك, وليس في الصيد وقيذ. القول في تأويل قوله : وَالْمُتَرَدِّيَةُ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وحرمت عليكم الميتة تردِّيًا من جبل أو في بئر, أو غير ذلك. و « تردِّيها » ، رميُها بنفسها من مكان عالٍ مشرف إلى سُفْله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « والمتردية » ، قال: التي تتردَّى من الجبل. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والمتردية » ، كانت تتردى في البئر فتموت، فيأكلونها. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والمتردية » ، قال: التي تردَّت في البئر. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: « والمتردية » ، قال: هي التي تَرَدَّى من الجبل، أو في البئر, فتموت. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « والمتردية » ، التي تردَّى من الجبل فتموت. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « والمتردية » ، قال: التي تَخِرُّ في ركيٍّ، أو من رأس جبل، فتموت. القول في تأويل قوله : وَالنَّطِيحَةُ قال أبو جعفر: يعني بقوله: « النطيحة » ، الشاة التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح بغير تذكية. فحرم الله جل ثناؤه ذلك على المؤمنين، إن لم يدركوا ذكاته قبل موته. وأصل « النطيحة » ، « المنطوحة » , صرفت من « مفعولة » إلى « فعيلة » . فإن قال قائل: وكيف أثبتت « الهاء » هاء التأنيث فيها, وأنت تعلم أن العرب لا تكاد تثبت « الهاء » في نظائرها إذا صرفوها صرف « النطيحة » من « مفعول » إلى « فعيل » , إنما تقول: « لحية دهين » و « عين كحيل » و « كف خضيب » , ولا يقولون: كف خضيبة، ولا عين كحيلة؟ قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك. فقال بعض نحويي البصرة: أثبتت فيها « الهاء » أعني في « النطيحة » لأنها جعلت كالاسم مثل: « الطويلة » و « الطريقة » . فكأن قائل هذا القول، وجه « النطيحة » إلى معنى « الناطحة » . فتأويل الكلام على مذهبه: وحرمت عليكم الميتة نطاحًا, كأنه عنى: وحرمت عليكم الناطحة التي تموت من نِطاحها. وقال بعض نحويي الكوفة: إنما تحذف العرب « الهاء » من « الفعيلة » المصروفة عن « المفعول » ، إذا جعلتها صفة لاسم قد تقدَّمها, فتقول: « رأينا كفًّا خضيبًا، وعينًا كحيلا » ، فأما إذا حذفت « الكف » و « العين » والاسم الذي يكون « فعيل » نعتًا لها، واجتزأوا بـ « فعيل » منها, أثبتوا فيه هاء التأنيث, ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر, فتقول: « رأينا كحيلةً وخضيبة » و « أكيلة السبع » . قالوا: ولذلك أدخلت « الهاء » في « النطيحة » , لأنها صفة المؤنث, ولو أسقطت منها لم يُدْرَ أهي صفة مؤنث أو مذكر. وهذا القول هو أولى القولين في ذلك بالصواب، لشائع أقوال أهل التأويل بأن معنى: « النطيحة » ، المنطوحة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن أبي عباس قوله: « والنطيحة » ، قال: الشاة تنطح الشاة. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري, عن قيس, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة قال: كان يقرأ: ( وَالمَنْطُوحَةُ ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « والنطيحة » ، الشاتان ينتطحان فيموتان. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والنطيحة » ، هي التي تنطحها الغنم والبقر فتموت. يقول: هذا حرام, لأن ناسًا من العرب كانوا يأكلونه. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والنطيحة » ، كان الكبشان ينتطحان, فيموت أحدهما, فيأكلونه. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والنطيحة » ، الكبشان ينتطحان، فيقتل أحدهما الآخر, فيأكلونه. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك، يقول في قوله: « والنطيحة » ، قال: الشاة تنطح الشاة فتموت. القول في تأويل قوله : وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وما أكل السبع » ، وحرّم عليكم ما أكل السبع غير المعَلَّم من الصوائد. وكذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « وما أكل السبع » ، يقول: ما أخذ السبع. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « وما أكل السبع » ، يقول: ما أخذ السبع. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وما أكل السبع » ، قال: كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئًا من هذا أو أكل منه, أكلوا ما بقي. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري, عن قيس, عن عطاء بن السائب, عن أبي الربيع, عن ابن عباس أنه قرأ: ( وأكيل السبع ) . القول في تأويل قوله : إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « إلا ما ذكَّيتم » ، إلا ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهورًا. ثم اختلف أهل التأويل فيما استثنى الله بقوله: « إلا ما ذكيتم » . فقال بعضهم: استثنى من جميع ما سمى الله تحريمه من قوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « إلا ما ذكيتم » ، يقول: ما أدركتَ ذكاته من هذا كله, يتحرّك له ذنب، أو تطرِف له عين, فاذبح واذكر اسم الله عليه، فهو حلال. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن أشعث, عن الحسن: « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ » ، قال الحسن: أيَّ هذا أدركتَ ذكاته فذكِّه وكُلْ. فقلت: يا أبا سعيد، كيف أعرف؟ قال: إذا طرَفت بعينها، أو ضربت بذَنبها. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « إلا ما ذكيتم » ، قال: فكلُّ هذا الذي سماه الله عز وجل ههنا، ما خلا لحم الخنـزير، إذا أدركتَ منه عينًا تطرف، أو ذنبًا يتحرك، أو قائمة تركض فذكّيته, فقد أحلّ الله لك ذلك. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « إلا ما ذكيتم » ، من هذا كله. فإذا وجدتها تطرف عينها, أو تحرك أذنها من هذا كله, فهي لك حلال. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم وعباد قالا أخبرنا حجاج, عن حصين, عن الشعبي, عن الحارث, عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدًا أو رجلا فكلها. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا معمر, عن إبراهيم قال: إذا أكل السبع من الصيد، أو الوقيذة أو النطيحة أو المتردية، فأدركت ذكاته, فكُل. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن سلام التميمي قال، حدثنا جعفر بن محمد, عن أبيه, عن علي بن أبي طالب قال: إذا ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، وحركت ذنبها, فقد أجزأ. حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني ابن طاوس, عن أبيه قال: إذ ذبحت فَمَصَعَت بذنبها، أو تحركت، فقد حلَّت لك أو قال: فَحَسْبه. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن حميد, عن الحسن قال: إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها, أو تركض برجلها, أو تمصَع بذنبها, فاذبح وكُل. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن قتادة, بمثله. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج, عن أبي الزبير, أنه سمع عبيد بن عمير يقول: إذا طرفت بعينها, أو مصعت بذنبها, أو تحركت, فقد حلَّت لك. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: كان أهل الجاهلية يأكلون هذا, فحرَّم الله في الإسلام إلا ما ذُكِّي منه, فما أُدرك فتحرّك منه رجل أو ذنب أو طَرف، فذكِّي, فهو حلال. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْـزِيرِ ، وقوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ ، الآية « وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ » ، قال: هذا كله محرّم, إلا ما ذكيّ من هذا. فتأويل الآية على قول هؤلاء: حرمت الموقوذة والمتردِّية، إن ماتت من التردِّي والوقذ والنطح وفَرْس السبع, إلا أن تدركوا ذكاتها, فتدركوها قبل موتها, فتكون حينئذ حلالا أكلُها. وقال آخرون: هو استثناء من التحريم, وليس باستثناء من المحرَّمات التي ذكرها الله تعالى في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ، لأن الميتة لا ذكاة لها، ولا للخنـزير. قالوا: وإنما معنى الآية: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما سمينا مع ذلك, إلا ما ذكيتم مما أحلَّه الله لكم بالتذكية, فإنه لكم حلال. وممن قال ذلك جماعة من أهل المدينة. ذكر بعض من قال ذلك: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك، وسئل عن الشاة التي يخرِق جوفها السبع حتى تخرجَ أمعاؤها, فقال مالك: لا أرى أن تذكَّى، ولا يؤكل أي شيء يذكَّى منها. حدثني يونس, عن أشهب قال: سئل مالك عن السبع يَعْدُو على الكبش فيدقُّ ظهره, أترى أن يذكَّى قبل أن يموت فيؤكل؟ قال: إن كان بلغ السَّحْر فلا أرى أن يؤكل. وإن كان إنما أصاب أطرافه, فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له: وثب عليه فدقَّ ظهره؟ قال: لا يعجبني أن يؤكل, هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء؟ قال: إذا شق بطنها، فلا أرى أن تؤكل. وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله: « إلا ما ذكيتم » ، استثناء منقطعًا. فيكون تأويل الآية: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكرنا, ولكن ما ذكيتم من الحيوانات التي أحللتها لكم بالتذكية حلال. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب، القول الأول, وهو أن قوله: « إلا ما ذكيتم » استثناء من قوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ، لأن كل ذلك مستحق الصفة التي هو بها قبل حال موته فيقال لما قرَّب المشركون لآلهتهم فسموه لهم: « هو ما أهل لغير الله به » ، بمعنى سمى قربانًا لغير الله. وكذلك « المنخنقة » ، إذا انخنقت وإن لم تمت، فهي منخنقة. وكذلك سائر ما حرمه الله جل وعز بعد قوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ، إلا بالتذكية، فإنه يوصف بالصفة التي هو بها قبل موته, فحرمه الله على عباده إلا بالتذكية المحللة، دون الموت بالسبب الذي كان به موصوفًا. فإذ كان ذلك كذلك, فتأويل الآية: وحرم عليكم ما أهل لغير الله به والمنخنقة وكذا وكذا وكذا, إلا ما ذكيتم من ذلك. فـ « ما » إذ كان ذلك تأويله في موضع نصب بالاستثناء مما قبلها. وقد يجوز فيه الرفع. وإذ كان الأمر على ما وصفنا, فكل ما أدركت ذكاتُه من طائر أو بهيمة قبل خروج نفسه، ومفارقة روحه جسدَه, فحلال أكله، إذا كان مما أحلَّه الله لعباده. فإن قال لنا قائل: فإذ كان ذلك معناه عندك, فما وجه تكريره ما كرّر بقوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ ، وسائر ما عدَّد تحريمه في هذه الآية, وقد افتتح الآية بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ؟ وقد علمت أن قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ، شامل كل ميتة، كان موته حتف أنفه من علة به من غير جناية أحد عليه, أو كان موته من ضرب ضاربٍ إياه, أو انخناق منه، أو انتطاح، أو فَرْس سبع؟ وهلا كان قوله إن كان الأمر على ما وصفت في ذلك، من أنه معنيٌّ بالتحريم في كل ذلك: الميتة بالانخناق والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك, دون أن يكون معنيًّا به تحريمه إذا تردّى أو انخنق أو فرسه السبع, فبلغ ذلك منه ما يعلم أنه لا يعيش مما أصابه منه إلا باليسير من الحياة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ، مغنيًا من تكرير ما كرر بقوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ ، وسائر ما ذكر مع ذلك، وتَعْدادِه ما عدَّد؟ قيل: وجه تكراره ذلك وإن كان تحريم ذلك إذا مات من الأسباب التي هو بها موصوف, وقد تقدم بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أن الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا لا يعدُّون « الميتة » من الحيوان, إلا ما مات من علة عارضة به غير الانخناق والتردِّي والانتطاح وفرس السبع. فأعلمهم الله أن حكم ذلك، حكم ما مات من العلل العارضة وأن العلة الموجبة تحريم الميتة، ليست موتها من علة مرض أو أذى كان بها قبل هلاكها, ولكن العلة في ذلك أنها لم يذبحها من أجل ذبيحته بالمعنى الذي أحلها به كالذي:- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: « وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ » ، يقول: هذا حرام, لأن ناسًا من العرب كانوا يأكلونه ولا يعدّونه ميتًا, إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع. فحرمه الله عليهم, إلا ما ذكروا اسم الله عليه، وأدركوا ذكاته وفيه الروح. القول في تأويل قوله : وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « وما ذبح على النصب » ، وحرم عليكم أيضًا الذي ذبح على النُّصُب. فـ « ما » في قوله: « وما ذبح » ، رفْعٌ، عطفًا على « ما » التي في قوله: وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ . و « النصب » ، الأوثان من الحجارة، جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض, فكان المشركون يقرِّبون لها, وليست بأصنام. وكان ابن جريج يقول في صفته ما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: « النصب » ليست بأصنام, « الصنم » يصوَّر وينقش, وهذه حجارة تنصب، ثلثمئة وستون حجرًا منهم من يقول ثلثمئة منها لخزاعة فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت وشرَّحوا اللحم وجعلوه على الحجارة. فقال المسلمون: يا رسول الله, كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم, فنحن أحقُّ أن نعظمه! فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك, فأنـزل الله: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا [ سورة الحج: 37 ] . ومما يحقق قول ابن جريج في أن « الأنصاب » غير « الأصنام » ، ما:- حدثنا به ابن وكيع قال: حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما ذبح على النصب » ، قال: حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « النصب » ، قال: حجارة حول الكعبة, يذبح عليها أهل الجاهلية, ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجارة أعجب إليهم منها. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وما ذبح على النصب » ، و « النصب » : حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها, ويذبحون لها, فنهى الله عن ذلك. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وما ذبح على النصب » ، يعني: أنصابَ الجاهلية. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وما ذبح على النصب » ، و « النصب » ، أنصاب كانوا يذبحون ويُهِلُّون عليها. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قوله: « وما ذبح على النصب » ، قال: كان حول الكعبة حجارة كان يَذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجر هو أحبّ إليهم منها. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: « الأنصاب » ، حجارة كانوا يهلّون لها, ويذبحون عليها. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وما ذبح على النُّصب » ، قال: « ما ذبح على النصب » و « ما أهل لغير الله به » , وهو واحد. القول في تأويل قوله : وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ قال أبو جعفر: يعني بقوله: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، وأن تطلبوا علم ما قُسِم لكم أو لم يقسم, بالأزلام. وهو « استفعلت » من « القَسْم » قَسْم الرزق والحاجات. وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرًا أو غزوًا أو نحو ذلك, أَجال القداح وهي « الأزلام » وكانت قِداحًا مكتوبًا على بعضها: « نهاني ربّي » , وعلى بعضها: « أمرني ربّي » فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه: « أمرني ربي » ، مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك. وإن خرج الذي عليه مكتوب: « نهاني ربي » , كفّ عن المضي لذلك وأمسك، فقيل: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، لأنهم بفعلهم ذلك كانوا كأنهم يسألون أزلامهم أن يَقْسِمن لهم، ومنه قول الشاعر مفتخرًا بترك الاستقسام بها: وَلَمْ أَقْسِمْ فَتَرْبُثَنِي القُسُومُ وأما « الأزلام » , فإن واحدها « زَلَم » , ويقال: « زُلَم » , وهي القداح التي وصفنا أمرها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، قال: القداح, كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر جعلوا قداحًا للجلوس والخروج. فإن وقع الخروج خرجوا, وإن وقع الجلوس جلسوا. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شريك, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، قال: حصًى بيضٌ كانوا يضربون بها. قال أبو جعفر: قال لنا سفيان بن وكيع: هو الشطرنج. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عباد بن راشد البزّار, عن الحسن في قوله: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، قال: كانوا إذا أرادوا أمرًا أو سفرًا, يعمَدون إلى قداح ثلاثة، على واحد منها مكتوب: « أؤمرني » , وعلى الآخر: « انهني » , ويتركون الآخر محلَّلا بينهما ليس عليه شيء. ثم يجيلونها, فإن خرج الذي عليه « أؤمرني » مضوا لأمرهم. وإن خرج الذي عليه « انهني » كفُّوا, وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، حجارة كانوا يكتبون عليها، يسمونها « القِداح » . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « بالأزلام » ، قال: القداح، يضربون لكل سفر وغزوٍ وتجارة. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن زهير, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، قال: كِعابُ فارس التي يقمُرون بها, وسهام العرب. حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا زهير, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، قال: سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون بها. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، قال: كان الرجل إذا أراد أن يخرج مسافرًا, كتب في قدح: « هذا يأمرني بالمكث » و « هذا يأمرني بالخروج » , وجعل معهما منيحة. شيء لم يكتب فيه شيئًا, ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج. فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث, وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج, وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القِدْحين. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجًا, أخذ قدحًا فقال: « هذا يأمر بالخروج » , فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرًا، ويأخذ قِدحًا آخر فيقول: « هذا يأمر بالمكوث » , فليس يصيب في سفره خيرًا، و « المنيح » بينهما. فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، قال: كانوا يستقسمون بها في الأمور. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « الأزلام » ، قداح لهم. كان أحدهم إذا أراد شيئًا من تلك الأمور كتب في تلك القداح ما أراد, فيضرب بها, فأي قدح خرج وإن كان أبغض تلك ارتكبه وعمل به. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل, قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، قال: « الأزلام » ، قداح كانت في الجاهلية عند الكهنة, فإذا أراد الرجل أن يسافر، أو يتزوج، أو يحدث أمرًا, أتى الكاهن فأعطاه شيئًا, فضرب له بها. فإن خرج منها شيء يعجبه، أمره ففعل. وإن خرج منها شيء يكرهه، نهاه فانتهى, كما ضرب عبد المطلب على زمزم، وعلى عبد الله والإبل. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير قال: سمعنا أنّ أهل الجاهلية كانوا يضربون بالقداح في الظَّعْن والإقامة أو الشيء يريدونه, فيخرج سهم الظعن فيظعنون, والإقامة فيقيمون. وقال ابن إسحاق في « الأزلام » ، ما:- حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: كانت هُبَل أعظم أصنام قريش بمكة, وكانت على بئر في جوف الكعبة, وكانت تلك البئْر هي التي يجمع فيها ما يُهدي للكعبة. وكانت عند هبل سبعة أقْدُح كل قِدْح منها فيه كتاب. قدح فيه: « العقل » إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة، [ فإن خرج العقل، فعلى من خرج حمله ] وقدح فيه: « نعم » للأمر إذا أرادوه، يضرب به, فإن خرج قدح « نعم » عملوا به. وقدح فيه: « لا » , فإذا أرادوا أمرًا ضربوا به في القداح, فإذا خرج ذلك القدح، لم يفعلوا ذلك الأمر. وقِدْح فيه: « منكم » . وقدح فيه: « مُلْصَق » . وقدح فيه: « من غيركم » . وقدح فيه: « المياه » , إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح, فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا أو أن ينكحوا مَنكحًا, أو أن يدفنوا ميتًا, أو شكوا في نسب واحد منهم ذهبوا به إلى هبل وبمئة درهم، وبجَزور, فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها, ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون, ثم قالوا: « يا إلهنا, هذا فلان بن فلان, قد أردنا به كذا وكذا, فأخرج الحق فيه » . ثم يقولون لصاحب القداح: « اضرب » , فيضرب, فإن - [ خرج عليه « منكم » كان وسيطًا. وإن ] خرج عليه: « من غيركم » , كان حليفًا وإن خرج « ملصق » كان على منـزلته منهم, لا نسب له ولا حلف، وإن خرج فيه شيء سوى هذا مما يعملون به « نعم » ، عملوا به. وإن خرج « لا » , أخّروه عامهم ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى. ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « وأن تستقسموا بالأزلام » ، يعني: القداح, كانوا يستقسمون بها في الأمور. القول في تأويل قوله : ذَلِكُمْ فِسْقٌ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ذلكم » ، هذه الأمور التي ذكرها, وذلك: أكل الميتة، والدم، ولحم الخنـزير، وسائر ما ذكر في هذه الآية مما حرم أكله، والاستقسام بالأزلام، « فسق » ، يعني: خروج عن أمر الله عز ذكره وطاعته، إلى ما نهى عنه وزجر, إلى معصيته. كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: « ذلكم فسق » ، يعني: من أكل من ذلك كله فهو فسق. القول في تأويل قوله : الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « اليوم يئس الذين كفروا من دينكم » ، الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود، أيها المؤمنون، « من دينكم » , يقول: من دينكم أن تتركوه فترتدُّوا عنه راجعين إلى الشرك، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « اليوم يئس الذين كفروا من دينكم » ، يعني: أن ترجعوا إلى دينهم أبدًا. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « اليوم يئس الذين كفروا من دينكم » ، قال: أظنُّ، يئسوا أن ترجعوا عن دينكم. فإن قال قائل: وأيُّ يوم هذا اليوم الذي أخبرَ الله أن الذين كفروا يئسوا فيه من دين المؤمنين؟ قيل: ذكر أن ذلك كان يوم عرفة, عام حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع, وذلك بعد دخول العرب في الإسلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, قال مجاهد: « الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ » ، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، هذا حين فعلت. قال ابن جريج: وقال آخرون ذلك يوم عرفة، في يوم جمعة، لما نظر النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير إلا موحِّدًا، ولم ير مشركًا، حمد الله, فنـزل عليه جبريل عليه السلام: « اليوم يئس الذين كفروا من دينكم » ، أن يعودوا كما كانوا. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « اليوم يئس الذين كفروا من دينكم » ، قال: هذا يوم عرفة. القول في تأويل قوله : فَلا تَخْشَوْهُمْ قال أبو جعفر: يعني بذلك: فلا تخشوا، أيها المؤمنون، هؤلاء الذين قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار, ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم، فيقهروكم ويردُّوكم عن دينكم وَاخْشَوْنِ ، يقول: ولكن خافونِ، إن أنتم خالفتم أمري واجترأتم على معصيتي، وتعدَّيتم حدودي, أن أُحِلَّ بكم عقابي، وأنـزل بكم عذابي. كما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ » ، فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم. القول في تأويل قوله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: يعني جل ثناؤه بقوله: « اليوم أكملت لكم دينكم » ، اليوم أكملت لكم، أيها المؤمنون، فرائضي عليكم وحدودي, وأمري إياكم ونهيي, وحلالي وحرامي, وتنـزيلي من ذلك ما أنـزلت منه في كتابي, وتبياني ما بيَّنت لكم منه بوحيي على لسان رسولي, والأدلة التي نصبتُها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم, فأتممت لكم جميع ذلك, فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة, عام حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوَدَاع. وقالوا: لم ينـزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض، ولا تحليل شيء ولا تحريمه, وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نـزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « اليوم أكملت لكم دينكم » ، وهو الإسلام. قال: أخبر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا, وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدًا, وقد رضيه الله فلا يَسْخَطه أبدًا. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « اليوم أكملت لكم دينكم » ، هذا نـزل يوم عرفة, فلم ينـزل بعدها حلال ولا حرام. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. فقالت أسماء بنت عُمَيس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة, فبينما نحن نسير، إذ تجلّى له جبريل صلى الله عليه وسلم على الرَّاحلة, فلم تطق الراحلة من ثِقْل ما عليها من القرآن, فبركت, فأتيته فسجَّيت عليه برداء كان علي. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نـزلت هذه الآية، إحدى وثمانين ليلة, قوله: « اليوم أكملت لكم دينكم » . حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن فضيل, عن هارون بن عنترة, عن أبيه قال: لما نـزلت: « اليوم أكملت لكم دينكم » ، وذلك يوم الحج الأكبر, بكى عمر, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا, فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال: صدقت. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أحمد بن بشير, عن هارون بن أبي وكيع, عن أبيه, فذكر نحو ذلك. وقال آخرون: معنى ذلك: « اليوم أكملت لكم دينكم » ، حجكم, فأفردتم بالبلد الحرام تحُجُّونه، أنتم أيها المؤمنون، دون المشركين، لا يخالطكم في حَجِّكم مشرك. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي غَنِيَّة, عن أبيه, عن الحكم: « اليوم أكملت لكم دينكم » ، قال: أكمل لهم دينهم: أن حجوا ولم يحجَّ معهم مشرك. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « اليوم أكملت لكم دينكم » ، قال: أخلص الله لهم دينهم, ونفى المشركين عن البيت. حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا قيس, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير: « اليوم أكملت لكم دينكم » ، قال: تمام الحج, ونفي المشركين عن البيت. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به, أنه أكمل لهم يوم أنـزل هذه الآية على نبيه دينَهم, بإفرادهم بالبلدَ الحرام وإجلائه عنه المشركين, حتى حجَّه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون. فأما الفرائض والأحكام, فإنه قد اختلف فيها: هل كانت أكملت ذلك اليوم، أم لا؟ فروي عن ابن عباس والسدّي ما ذكرنا عنهما قبل. وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نـزلت من القرآن: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [ سورة النساء: 176 ] . ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قُبِض, بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعًا. فإذ كان ذلك كذلك وكان قوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ آخرَها نـزولا وكان ذلك من الأحكام والفرائض كان معلومًا أن معنى قوله: « اليوم أكملت لكم دينكم » ، على خلاف الوجه الذي تأوَّله من تأوَّله أعني: كمال العبادات والأحكام والفرائض. فإن قال قائل: فما جعل قولَ من قال: « قد نـزل بعد ذلك فرض » ، أولى من قول من قال: « لم ينـزل » ؟ قيل: لأن الذي قال: « لم ينـزل » , مخبر أنه لا يعلم نـزول فرض, والنفي لا يكون شهادة, والشهادة قول من قال: « نـزل » . وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقًا. القول في تأويل قوله : وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأتممت نعمتي، أيها المؤمنون، بإظهاركم على عدوِّي وعدوكم من المشركين, ونفيِي إياهم عن بلادكم, وقطعي طمعهم من رجوعكم وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجُّون جميعًا, فلما نـزلت « براءة » , فنفى المشركين عن البيت, وحجَّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين, فكان ذلك من تمام النعمة: « وأتممت عليكم نعمتي » . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي » الآية, ذكر لنا أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، يوم جمعة, حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام, وأخلص للمسلمين حجَّهم. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا داود, عن الشعبي قال: نـزلت هذه الآية بعرفات, حيث هدم مَنار الجاهلية واضمحلَّ الشرك, ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عامر في هذه الآية: « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي » ، قال، نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات, وقد أطاف به الناس, وتهدَّمت مَنار الجاهلية ومناسكهم, واضمحلّ الشرك, ولم يَطُف حول البيت عُرْيان, فأنـزل الله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ . حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن داود, عن الشعبي, بنحوه. القول في تأويل قوله : وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ورضيت لكم الاستسلام لأمري، والانقياد لطاعتي, على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه « دينًا » ، يعني بذلك: طاعة منكم لي. فإن قال قائل: أوَ ما كان الله راضيًا الإسلامَ لعباده إلا يوم أنـزل هذه الآية؟ قيل: لم يزل الله راضيًا لخلقه الإسلام دينًا, ولكنه جل ثناؤه لم يزل يصرِّف نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه درجة بعد درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالا بعد حال, حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه، وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه, ثم قال حين أنـزل عليهم هذه الآية: « ورضيت لكم الإسلام » بالصفة التي هو بها اليوم والحال التي أنتم عليها اليوم منه « دينًا » فالزموه ولا تفارقوه. وكان قتادة يقول في ذلك، ما:- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أنه يَمْثُل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة, فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير، حتى يجيء الإسلام فيقول: « رب، أنت السلام وأنا الإسلام » ، فيقول: « إياك اليوم أقبل, وبك اليوم أجزي » . وأحسب أن قتادة وجّه معنى « الإيمان » بهذا الخبر إلى معنى التصديق والإقرار باللسان, لأن ذلك معنى « الإيمان » عند العرب ووجَّه معنى « الإسلام » إلى استسلام القلب وخضوعه لله بالتوحيد, وانقياد الجسد له بالطاعة فيما أمر ونهى, فلذلك قيل للإسلام: « إياك اليوم أقبل, وبك اليوم أجزي » . ذكر من قال: نـزلت هذه الآية بعرفة في حجة الوداع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب قال، قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية لو أنـزلت فينا لاتخذناها عيدًا! فقال عمر: إني لأعلم حين أنـزلت, وأين أنـزلت, وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنـزلت: أنـزلت يوم عرفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة قال سفيان: وأشك, كان يوم الجمعة أم لا « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا » حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب قال، قال يهودي لعمر: لو علمنا معشر اليهود حين نـزلت هذه الآية: « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا » ، لو نعلم ذلك اليوم، اتخذنا ذلك اليوم عيدًا! فقال عمر: قد علمت اليوم الذي نـزلت فيه، والساعة, وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نـزلت: نـزلت ليلة الجمعة، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات لفظ الحديث لأبي كريب, وحديث ابن وكيع نحوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون, عن أبي العميس, عن قيس بن مسلم, عن طارق, عن عمر, نحوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن حماد بن سلمة, عن عمار مولى بني هاشم قال: قرأ ابن عباس: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وعنده رجل من أهل الكتاب فقال: لو علمنا أيَّ يوم نـزلت هذه الآية، لاتخذناه عيدًا! فقال ابن عباس: فإنها نـزلت يوم عرفة، يوم جمعة. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا حماد بن سلمة, عن عمار: أن ابن عباس قرأ: « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا » ، فقال يهودي: لو نـزلت هذه الآية علينا، لاتخذنا يومها عيدًا! فقال ابن عباس: فإنها نـزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد, ويوم جمعة. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن عمار بن أبي عمار, عن ابن عباس، نحوه. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا رجاء بن أبي سلمة قال، أخبرنا عبادة بن نسيّ قال، حدثنا أميرنا إسحاق قال أبو جعفر: إسحاق، هو ابن خَرَشة عن قبيصة قال، قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نـزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الذي أنـزلت فيه عليهم، فاتخذوه عيدًا يجتمعون فيه! فقال عمر: أيُّ آية يا كعب؟ فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ . فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنـزلت فيه, والمكان الذي أنـزلت فيه: يوم جمعة, ويوم عرفة, وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن عيسى بن جارية الأنصاري قال: كنا جلوسًا في الديوان, فقال لنا نصراني: يا أهل الإسلام، لقد نـزلت عليكم آية لو نـزلت علينا، لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيدًا ما بقي منا اثنان: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ! فلم يجبه أحد منا, فلقيت محمد بن كعب القرظي, فسألته عن ذلك فقال: ألا رددتم عليه؟ فقال: قال عمر بن الخطاب: أنـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة, فلا يزال ذلك اليوم عيدًا للمسلمين ما بقي منهم أحد. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود, عن عامر قال: أنـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا » ، عشيَّة عرفة، وهو في الموقف. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود قال: قلت لعامر: إن اليهود تقول: كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه؟ فقال عامر: أو ما حفظته؟ قلت له: فأيّ يوم؟ قال: يوم عرفة, أنـزل الله في يوم عرفة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: بلغنا أنها نـزلت يوم عرفة, ووافق يوم الجمعة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن حبيب, عن ابن أبي نجيح, عن عكرمة: أن عمر بن الخطاب قال: نـزلت « سورة المائدة » يوم عرفة, ووافق يوم الجمعة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن ليث, عن شهر بن حوشب قال: نـزلت « سورة المائدة » على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة على راحلته, فتنوَّخَتْ لأن يُدَقَّ ذراعها. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن شهر بن حوشب, عن أسماء بنت يزيد قالت: نـزلت « سورة المائدة » جميعًا وأنا آخذة بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء. قالت: فكادت من ثقلها أن يُدَقَّ عضد الناقة. حدثني أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني قال، حدثنا هشام بن عمار قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا عمرو بن قيس السكوني: أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، حتى ختمها, فقال: نـزلت في يوم عرفة, في يوم جمعة. وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية أعني قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يوم الاثنين. وقالوا: أنـزلت « سورة المائدة » بالمدينة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة, عن خالد بن أبي عمران, عن حنش, عن ابن عباس: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين, وخرج من مكة يوم الاثنين, ودخل المدينة يوم الاثنين, وأنـزلت: « سورة المائدة » يوم الاثنين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، ورفع الذكر يوم الاثنين. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام, عن قتادة قال: « المائدة » مدنيّة. وقال آخرون: نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في حجة الوداع. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال: نـزلت « سورة المائدة » على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسير في حجة الوداع, وهو راكب راحلته, فبركت به راحلته من ثقلها. وقال آخرون: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس, وإنما معناه: اليوم الذي أعلمه أنا دون خلقي, أكملت لكم دينكم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، يقول: ليس بيوم معلوم يعلمه الناس. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في وقت نـزول الآية, القولُ الذي روي عن عمر بن الخطاب: أنها نـزلت يوم عرفة يوم جمعة, لصحة سنده، وَوَهْيِ أسانيد غيره. القول في تأويل قوله : فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقول: « فمن اضطر » ، فمن أصابه ضُرٌّ « في مخمصة » , يعني: في مجاعة. وهي « مفعلة » ، مثل « المجبنة » و « المبخلة » و « المنجبة » , من « خَمَصِ البطنِ » , وهو اضطماره, وأظنه هو في هذا الموضع معنيٌّ به: اضطماره من الجوع وشدة السَّغَب. وقد يكون في غير هذا الموضع اضطمارا من غير الجوع والسَّغب, ولكن من خلقة, كما قال نابغة بني ذبيان في صفة امرأة بخَمَص البطن: وَالبَطـنُ ذُو عُكَــنٍ خَمِيـصٌ لَيِّـنٌ وَالنَّحْـرُ تَنْفُــجُهُ بثَدْيٍ مُقْــعَدِ فمعلوم أنه لم يرد صفتها بقوله: « خميص » بالهزال والضرّ من الجوع, ولكنه أراد وصفها بلطافة طيِّ ما على الأوراك والأفخاذ من جسدها, لأن ذلك مما يحمد من النساء. ولكن الذي في معنى الوصف بالاضطمار والهزال من الضر من ذلك, قول أعشى بني ثعلبة: تَبِيتُونَ فِــي المَشْتَـى مِلاءً بُطُونُكُمْ وَجَارَاتُكُــمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَــائِصَا يعني بذلك: يبتن مضطمرات البطون من الجوع والسغب والضرّ. فمن هذا المعنى قوله: « في مخمصة » . وكان بعض نحويي البصرة يقول: « المخمصة » ، المصدر من « خَمَصَه الجوع » . وكان غيره من أهل العربية يرى أنها اسم للمصدر، وليست بمصدر، ولذلك تقع « المفعلة » اسمًا في المصادر للتأنيث والتذكير. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن عباس: « فمن اضطر في مخمصة » ، يعني: في مجاعة. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « فمن اضطر في مخمصة » ، أي: في مجاعة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فمن اضطر في مخمصة » ، قال: ذكر الميتة وما فيها، فأحلها في الاضطرار « في مخمصة » ، يقول: في مجاعة. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله: « فمن اضطر في مخمصة » ، قال، المخمصة، الجوع. القول في تأويل قوله : غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن اضطر في مخمصة إلى أكل ما حَرَّمتُ عليه منكم، أيها المؤمنون، من الميتة، والدم ولحم الخنـزير وسائر ما حرمت عليه بهذه الآية « غير متجانف لإثم » ، يقول: لا متجانفًا لإثم. فلذلك نصب « غير » لخروجها من الاسم الذي في قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ وهي بمعنى: « لا » , فنصب بالمعنى الذي كان به منصوبًا « المتجانف » ، لو جاء الكلام: « لا متجانفًا » . وأما « المتجانف لإثم » ، فإنه المتمايل له, المنحرف إليه. وهو في هذا الموضع مراد به المتعمِّد له، القاصد إليه, من « جَنَف القوم عليّ » ، إذا مالوا. وكل أعوج فهو « أجنف » ، عند العرب. وقد بينا معنى « الجنف » بشواهده في قوله: فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا [ سورة البقرة: 182 ] ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما تجانف آكل الميتة في أكلها وفي غيرها مما حرم الله أكله على المؤمنين بهذه الآية، للإثم في حال أكله فهو: تعمده أكل ذلك لغير دفع الضرورة النازلة به ولكن لمعصية الله، وخلاف أمره فيما أمره به من ترك أكل ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ » ، يعني: إلى ما حُرِّم، مما سمَّى في صدر هذه الآية « غير متجانف لإثم » ، يقول: غير متعمد لإثم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « غير متجانف لإثم » ، غير متعمد لإثم. قال: إلى حِرْم الله، ما حَرّم رخّص للمضطر إذا كان غير متعمد لإثم، أن يأكله من جهد. فمن بَغَى، أو عدا، أو خرج في معصيةٍ لله, فإنه محرم عليه أن يأكله. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « غير متجانف لإثم » ، أي: غير متعرِّض لمعصية. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « غير متجانف لإثم » ، غير متعمد لإثم, غير متعرِّض. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « غير متجانف لإثم » ، يقول: غير متعرض لإثم، أي: يبتغي فيه شهوة, أو يعتدي في أكله. حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد فى قوله: « غير متجانف لإثم » ، لا يأكل ذلك ابتغاءَ الإثم, ولا جراءة عليه. القول في تأويل قوله : فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 3 ) قال أبو جعفر: وفي هذا الكلام متروك، اكتفى بدلالة ما ذكر عليه منه. وذلك أن معنى الكلام: فمن اضطر في مخمصة إلى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية, غير متجانف لإثم فأكله, فإن الله غفور رحيم فترك ذكر « فأكله » ، وذكر « له » لدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما. وأما قوله: « فإن الله غفور رحيم » ، فإن معناه: فإن الله لمن أكل ما حرمت عليه بهذه الآية أكله، في مخمصة, غير متجانف لإثم « غفور رحيم » , يقول: يستر له عن أكله ما أكل من ذلك، بعفوه عن مؤاخذته إياه, وصفحه عنه وعن عقوبته عليه « رحيم » ، يقول: وهو به رفيق. ومن رحمته ورفقه به أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية, في حال خوفه على نفسه من كَلَب الجوع وضُرِّ الحاجة العارضة ببدنه. فإن قال قائل: وما الأكل الذي وعد الله المضطر إلى الميتة وسائر المحرَّمات معها بهذه الآية، غفرانَهُ إذا أكل منها؟ قيل: ما:- حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا محمد بن القاسم الأسدي, عن الأوزاعي, عن حسان بن عطية, عن أبي واقد الليثي قال: قلنا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة, فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا, أو تغتبقوا, أو تحتفئوا بقلا فشأنَكم بها . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم, عن الخصيب بن زيد التميمي قال، حدثنا الحسن: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلى متى يحلُّ لي الحرام؟ قال فقال: إلى أن يروَى أهلك من اللبن, أو تجيء مِيرَتُهم « . » حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا خصيب بن زيد التميمي قال، حدثنا الحسن: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم, فذكر مثله إلا أنه قال: أو تُجْبَى ميرتهم . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني عمر بن عبد الله بن عروة، عن جده عروة بن الزبير, عمن حدثه: أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرّم الله عليه، والذي أحل له, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تحل لك الطيبات, وتحرُم عليك الخبائث, إلا أن تفتقر إلى طعام [ لا يحل لك ] ، فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال الرجل: وما فقري الذي يُحِلّ لي؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كنت ترجو نتاجًا، فتبلَّغ بلحوم ماشيتك إلى نِتاجك, أو كنت ترجو غنًى تطلبه، فتبلَّغ من ذلك شيئًا، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال الأعرابي: ما غِناي الذي أدعه إذا وجدته؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أرويت أهلك غَبُوقًا من الليل. فاجتنب ما حرَّم الله عليك من طعام. [ وأمّا ] مالُك فإنه ميسور كله, ليس فيه حرام. « » حدثني يعقوب بن إبراهيم قال،حدثنا ابن علية, عن ابن عون قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة, فقرأته عليه, وكان فيه: ويُجْزي من الاضطرار غَبُوق أو صَبُوح. حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا يحيى بن أبي زائدة, عن ابن عون قال: قرأت في كتاب سَمُرة بن جندب: يكفي من الاضطرار أو: من الضرورة غبوقٌ أو صبوح. حدثني علي بن سعيد الكندي وأبو كريب قالا حدثنا عبد الله بن إدريس, عن هشام بن حسان, عن الحسن قال: إذا اضطر الرجل إلى الميتة، أكل منها قوتَه يعني: مُسْكَتَه. حدثنا هنّاد بن السري قال، حدثنا ابن مبارك, عن الأوزاعي, عن حسان بن عطية قال: قال رجل: يا رسول الله، إنا بأرض مَخْمصة, فما يحلّ لنا من الميتة؟ ومتى تحلّ لنا الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقلا فشأنَكم بها. حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عيسى بن يونس, عن الأوزاعي, عن حسان بن عطية, عن رجل قد سمي لنا: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نكون بأرض مخمصة, فمتى تحل لنا الميتة؟ قال: إذا لم تغتبقوا، ولم تصطبحوا، ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها. قال أبو جعفر: يروى هذا على أربعة أوجه: « تحتفئوا » بالهمزة « وتحتفيوا » بتخفيف « الياء » و « الحاء » و « تحتفّوا » ، بتشديد الفاء و « تحتفوا » بالحاء، والتخفيف, ويحتمل الهمز . القول في تأويل قوله : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك، يا محمد، أصحابك: ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل؟ فقل لهم: أحِل لكم منها « الطيبات » , وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح وأحل لكم أيضًا مع ذلك، صيدُ ما علّمتم من « الجوارح » , وهن الكَواسب من سباع البهائم. والطير سميت « جوارح » ، لجرحها لأربابها، وكسبها إيّاهم أقواتَهم من الصيد. يقال منه: « جرح فلان لأهله خيرًا » ، إذا أكسبهم خيرًا, و « فلان جارِحَة أهله » ، يعني بذلك: كاسبهم, و « لا جارحة لفلانة » ، إذا لم يكن لها كاسب ومنه قول أعشى بني ثعلبة. ذاتَ حَـدٍّ مُنْضِــجٍ مِيسَمُهَــا تُذْكِــرَ الجَــارِحَ مَـا كَانَ اجْتَرَحْ يعني: اكتسب. وترك من قوله: « وما علمتم » ، « وصيد » ما علمتم من الجوارح، اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام على ما تُرِك ذكره. وذلك أن القوم، فيما بلغنا، كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بقتل الكلاب، عما يحلّ لهم اتخاذه منها وصَيْده, فأنـزل الله عز ذكره فيما سألوا عنه من ذلك هذه الآية. فاستثنى مما كان حرّم اتخاذه منها, وأمر بقُنْيَة كلاب الصيد وكلاب الماشية، وكلاب الحرث, وأذن لهم باتخاذ ذلك. ذكر الخبر بذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حباب العكلي قال، حدثنا موسى بن عبيدة قال، أخبرنا أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم, عن سلمى أم رافع, عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه, فأذن له فقال: قد أذنَّا لك يا رسول الله! قال: أجل, ولكنا لا ندخل بيتًا فيه كلب! قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة, فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها, فتركته رحمة لها, ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته, فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته. فجاؤوا فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنـزل الله: « يسألونك ماذا أحِل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علَّمتم من الجوارح مكلبين » . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب, فقتل حتى بلغ العَوالي فدخل عاصم بن عدي، وسعد بن خيثمة، وعويم بن ساعدة, فقالوا: ماذا أحلَّ لنا يا رسول الله؟ فنـزلت: « يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلِّبين » . حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير قال، حدثونا عن محمد بن كعب القرظي قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب, قالوا: يا رسول الله, فماذا يحل لنا من هذه الأمة؟ فنـزلت: « يسألونك ماذا أحل لهم » ، الآية. ثم اختلف أهل التأويل في « الجوارح » التي عنى الله بقوله: « وما علمتم من الجوارح » . فقال بعضهم: هو كل ما عُلِّم الصيدَ فتعلّمه، من بهيمة أو طائر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك, عن إسماعيل بن مسلم, عن الحسن في قوله: « وما علمتم من الجوارح مكلبين » ، قال: كل ما عُلِّم فصادَ، من كلب أو صقر أو فهدٍ أو غيره. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن إسماعيل بن مسلم, عن الحسن: « مكلبين » ، قال: كل ما علم فصاد من كلب أو فهد أو غيره. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في صيد الفهد قال: هو من الجوارح. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: « وما علمتم من الجوارح مكلبين » ، قال: الطير والكلاب. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن الحجاج, عن عطاء, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد, مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن حميد, عن مجاهد: « مكلِّبين » ، قال: من الكلاب والطير. حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « من الجوارح مكلبين » ، قال: من الطير والكلاب. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعبة ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شعبة , عن الهيثم, عن طلحة بن مصرف قال، قال خيثمة بن عبد الرحمن: هذا ما قد بيَّنت لك: أن الصقر والبازي من الجوارح. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت الهيثم يحدث، عن طلحة الإيامي, عن خيثمة قال: بيّنت لك: أن الصقر والباز والكلب من الجوارح. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عبد الله بن عمر, عن نافع, عن علي بن حسين قال: الباز والصقر من الجوارح. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن شريك, عن جابر, عن أبي جعفر قال: الباز والصقر من « الجوارح المكلِّبين » . . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « وما علمتم من الجوارح مكلبين » ، يعني بـ « الجوارح » ، الكلابَ الضواريَ والفهود والصقور وأشباهها. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه: « وما علمتم من الجوارح مكلبين » ، قال: من الكلاب، وغيرها من الصقور والبِيزان وأشباهِ ذلك مما يعلّم. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وما علمتم من الجوارح مكلبين » ، الجوارح: الكلاب والصقور المعلَّمة. حدثني سعيد بن الربيع الرازيّ قال، حدثنا سفيان, عن عمرو بن دينار، سمع عبيد بن عمير يقول في قوله: « من الجوارح مكلبين » ، قال: الكلاب والطير. وقال آخرون: إنما عنى الله جل ثناؤه بقوله: « وما علمتم من الجوارح مكلبين » ، الكلابَ دون غيرها من السِّباع. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبيد, عن الضحاك: « وما علمتم من الجوارح مكلبين » ، قال: هي الكلاب. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « وما علمتم من الجوارح مكلبين » ، يقول: أحل لكم صيد الكلاب التي علَّمتوهن. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج, عن نافع, عن ابن عمر, قال: أمَّا ما صاد من الطير والبُزاةُ من الطير فما أدركت فهو لك, وإلا فلا تطعمه. قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال: « كل ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح, وأنّ صيد جميع ذلك حلال إذا صادَ بعد التعليم » , لأن الله جل ثناؤه عم بقوله: « وما علمتم من الجوارح مكلبين » ، كلَّ جارحة, ولم يخصص منها شيئًا. فكل « جارحة » ، كانت بالصفة التي وصف الله من كل طائر وسبع، فحلال أكل صيدها. وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحو ما قلنا في ذلك خبَرٌ, مع ما في الآية من الدلالة التي ذكرنا على صحة ما قلنا في ذلك, وهو ما:- حدثنا به هناد قال، حدثنا عيسى بن يونس, عن مجالد, عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: ما أمسك عليك فَكُل. فأباح صلى الله عليه وسلم صيد البازي وجعله من الجوارح. ففي ذلك دِلالة بيِّنة على فساد قول من قال: « عنى الله بقوله: » وما علمتم من الجوارح « ، ما علمنا من الكلاب خاصة، دون غيرها من سائر الجوارح » . فإن ظن ظانّ أن في قوله: « مكلبين » ، دلالةً على أن الجوارح التي ذكرت في قوله: « وما علمتم من الجوارح » ، هي الكلاب خاصة, فقد ظن غير الصواب. وذلك أن معنى الآية: قل أحِلَّ لكم، أيها الناس، في حال مصيركم أصحابَ كلاب الطيباتُ، وصيدُ ما علمتوه الصيد من كواسب السباع والطير. فقوله: « مكلبين » ، صفة للقانص, وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه. وهو نظير قول القائل يخاطب قومًا: « أحلّ لكم الطيباتُ وما علمتم من الجوارح مكلبين مؤمنين » . فمعلوم أنه إنما عنى قائل ذلك، إخبارَ القوم أنّ الله جل ذكره أحل لهم، في حال كونهم أهلَ إيمان، الطيبات وصيد الجوارح التي أعلَمهم أنه لا يحل لهم منه إلا ما صادوه به فكذلك قوله: « أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين » لذلك نظيره، في أن التكليب للقانص بالكلاب كان صيده أو بغيرها لا أنه إعلام من الله عز ذكره أنه لا يحل من الصيد إلا ما صادته الكلاب. القول في تأويل قوله : تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « تعلمونهن » ، تؤدِّبون الجوارح فتعلمونهن طلب الصيد لكم « مما علمكم الله » , يعني بذلك: من التأديب الذي أدَّبكم الله، والعلم الذي علمكم. وقد قال بعض أهل التأويل: معنى قوله: « مما علمكم الله » ، كما علمكم الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « تعلمونهن مما علمكم الله » ، يقول: تعلمونهن من الطَّلب كما علمكم الله. ولسنا نعرف في كلام العرب « من » بمعنى « الكاف » , لأن « من » تدخل في كلامهم بمعنى التبعيض, و « الكاف » بمعنى التشبيه. وإنما يوضع الحرف مكان آخر غيره، إذا تقارب معنياهما. فأما إذا اختلفت معانيهما، فغير موجود في كلامهم وضع أحدهما عَقِيب الآخر. وكتاب الله وتنـزيله أحرَى الكلام أن يجنَّب ما خرج عن المفهوم والغاية في الفصاحة من كلام من نـزل بلسانه ........... . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسماعيل بن صُبيح قال، حدثنا أبو هانئ عمر بن بشير قال، حدثنا عامر: أن عدي بن حاتم الطائي قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن صيد الكلاب, فلم يدر ما يقول له, حتى نـزلت هذه الآية: « تعلمونهن مما علمكم الله » . قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم : هو أن يَسْتَشْلِي لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه ويمسك عليه إذا أخذه فلا يأكل منه, ويستجيب له إذا دعاه, ولا يفرُّ منه إذا أراده. فإذا تتابع ذلك منه مرارًا كان « معلَّمًا » . وهذا قول جماعة من أهل الحجاز وبعض أهل العراق. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: كل شيء قتله صائدك قبل أن يعلَّم ويُمسك ويصيد، فهو ميتة. ولا يكون قتله إياه ذكاة، حتى يعلَّم ويُمسك ويصيد. فإن كان ذلك ثم قتل، فهو ذكاته. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: إن المعلم من الكلاب: أن يمسك صيدَه فلا يأكل منه حتى يأتيه صاحبه. فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته, فلا يأكل من صيده. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن طاوس, عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل, فإنما أمسك على نفسه. حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال، حدثنا أبو المعلى, عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: إذا أرسل الرجل الكلبَ فأكل من صيده فقد أفسده, وإن كان ذكر اسم الله حين أرسله فزعم أنه إنما أمسك على نفسه والله يقول: « مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ » ، فزعم أنه إذا أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه أنه ليس بمعلَّم, وأنه ينبغي أن يُضرب ويعلَّم حتى يترك ذلك الخُلُق. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر الرقي, عن حجاج, عن عطاء, عن ابن عباس قال: إذا أخذ الكلب فقَتل فأكل, فهو سَبُع. حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عامر, عن ابن عباس قال: لا يأكل منه, فإنه لو كان معلَّمًا لم يأكل منه، ولم يتعلم ما علَّمتَه. إنما أمسك على نفسه، ولم يُمسك عليك. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا داود, عن الشعبي, عن ابن عباس, بنحوه. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن الشعبي, عن ابن عباس, بمثله. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال: قلت لعامر الشعبي: الرجل يرسل كلبَه فيأكل منه, أنأكل منه؟ قال: لا لم يتعلَّم الذي علَّمته. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد, عن ابن عمر قال: إذا أكل الكلب من صيده فاضربه, فإنه ليس بمعلَّم. حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن جريج, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: إذا أكل الكلب فهو ميتة, فلا تأكله. حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا هشيم, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير وسَيَّار, عن الشعبي ومغيرة, عن إبراهيم أنهم قالوا في الكلب إذا أكل من صيده: فلا تأكل, فإنما أمسك على نفسه. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: إن وجدت الكلب قد أكل من الصيد, فما وجدتَه ميتًا فدعه, فإنه مما لم يمسك عليك صيدًا. إنما هو سبع أمسك على نفسه ولم يمسك عليك, وإن كان قد عُلِّم. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي، بنحوه. وقال آخرون نحو هذه المقالة, غير أنهم حَدُّوا لمعرفة الكلاب بأن كلبه قد قَبِل التعليم وصار من الجوارح الحلال صيدها أن يفعل ذلك كلبه مرات ثلاثًا. وهذا قول محكيٌّ عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن. وقال آخرون ممن قال هذه المقالة: لا حدَّ لعلم الكلاب بذلك من كلبه، أكثر من أن يفعل كلبه ما وصفنا أنه له تعليم. قالوا: فإذا فعل ذلك فقد صار معلَّمًا حلالا صيده. وهذا قول بعض المتأخرين. وفرَّق بعض قائلي هذه المقالة بين تعليم البازي وسائر الطيور الجارحة وتعليم الكلب وضاري السبِّاع الجارحة, فقال: جائز أكل ما أكل منه البازي من الصيد. قالوا: وإنما تعليم البازي أن يطير إذا استُشْلِي, ويجيب إذا دُعِي, ولا ينفر من صاحبه إذا أراد أخذَه. قالوا: وليس من شروط تعليمه أن لا يأكل من الصيد. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم وحجاج, عن عطاء قال: لا بأس بصيد البازي وإن أكل منه. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أسباط قال، حدثنا أبو إسحاق الشيباني, عن حماد, عن إبراهيم, عن ابن عباس أنه قال في الطير: إذا أرسلتَه فقتل، فكُل. فإن الكلبَ إذا ضربته لم يَعُدْ. وإن تعليم الطير أن يرجع إلى صاحبه, وليس يضرب إذا أكل من الصيد ونتف من الريش. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة, عن جابر, عن الشعبي قال: ليس البازي والصقر كالكلب, فإذا أرسلتهما فأمسكا فأكلا فدعوتهما فأتياك, فكل منه. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو زُبَيْد, عن مطرف, عن حماد, قال إبراهيم: كُلْ صيد البازي وإن أكل منه. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم وجابر، عن الشعبي, قالا كُلْ من صيد البازِ وإن أكل. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن حماد, عن إبراهيم: إذا أكل البازي والصقر من الصيد, فكُل, فإنه لا يعلَّم. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حماد, عن إبراهيم قال: لا بأس بما أكل منه البازي. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن حماد: أنه قال في البازي إذا أكل منه، قال: كُلْ. وقال آخرون منهم: سواء تعليم الطير والبهائم والسباع, لا يكون نوع من ذلك معلَّمًا إلا بما يكون به سائر الأنواع معلَّمًا. وقالوا: لا يحل أكل شيء من الصيد الذي صادته جارحة فأكلت منه كائنة ما كانت تلك الجارحة، بهيمةً، أو طائرًا. قالوا: لأن من شروط تعليمها الذي يحل به صيدها: أن تمسك ما صادت على صاحبها، فلا تأكل منه. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا محمد بن سالم, عن عامر قال: قال علي: إذا أكل البازي من صيده فلا تأكل. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن جعفر, عن شعبة, عن مجاهد بن سعيد, عن الشعبي قال: إذا أكل البازي منه فلا تأكل. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن سالم, عن سعيد بن جبير قال: إذا أكل البازي فلا تأكل. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عمر بن الوليد الشنيّ قال: سمعت عكرمة قال: إذا أكل البازي فلا تأكل. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: الكلب والبازي كلُّه واحد, لا تأكل ما أكل منه من الصيد، إلا أن تدرك ذَكاته فتذكِّيه. قال: قلت لعطاء: البازي ينتف الريش؟ قال: فما أدركته ولم يأكل فكل. قال ذلك غير مرَّة. وقال آخرون: تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد. قالوا: وتعليمه الذي يحلُّ به صيده: أن يُشْلَى على الصيد فيَسْتَشلي ويأخذ الصيد ويدعوه صاحبه فيجيب, ولا يفرّ منه إذا أخذه. قالوا: فإذا فعل الجارح ذلك كان « معلمًا » داخلا في المعنى الذي قال الله: « وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ » . قالوا: وليس من شرط تعليم ذلك أن لا يأكل من الصيد. قالوا: وكيف يجوز أن يكون ذلك من شرطه، وهو يؤدَّب بأكله؟ ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد أو سعد , عن سلمان قال: إذا أرسلت كلبك على صيد, وذكرتَ اسم الله، فأكل ثلثيه وبقي ثلثه, فكل ما بقي. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا حميد قال، حدثني القاسم بن ربيعة, عمن حدثه, عن سلمان وبكر بن عبد الله, عمن حدثه, عن سلمان : أن الكلب يأخذ الصيد فيأكل منه, قال: كل، وإن أكل ثلثيه، إذا أرسلته وذكرت اسم الله، وكان معلمًا. حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب قال، قال سلمان: كل وإن أكل ثلثيه يعني: الصيدَ إذا أكل منه الكلب. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن سلمان, نحوه. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد العزيز بن عبد الصمد, عن شعبة ح وحدثنا هناد قال، حدثنا عبدة جميعًا, عن سعيد, عن قتادة: عن سعيد بن المسيب قال، قال سلمان: إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسمَ الله، فأكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل. . حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد, عن سلمان, نحوه. حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد, عن بكر بن عبد الله المزني والقاسم: أن سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل, وإن أكل ثلثيه. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن داود بن أبي الفرات, عن محمد بن زيد, عن سعيد بن المسيب قال: قال سلمان: إذا أرسلت كلبك المعلَّم أو بازَك, فسميَّت فأكل نصفه أو ثلثيه, فكل بقيَّته. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مخرمة بن بكير, عن أبيه, عن حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي: أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب, فقال: كل، وإن لم يبق منه إلا حِذْية - يعني: بَضْعة. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الصمد قال، حدثنا شعبة, عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت بكير بن الأشج يحدّث، عن سعد قال: كُل، وإن أكل ثلثيه. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا شعبة, عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت بكير بن الأشج, عن سعيد بن المسيب قال شعبة: قلت: سمعته من سعيد؟ قال: لا قال: كل وإن أكل ثلثيه قال: ثم إن شعبة قال في حديثه: عن سعد. قال: كل، وإن أكل نصفه. حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عامر, عن أبي هريرة قال: إذا أرسلت كلبك فأكل منه, فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا داود بن أبي هند, عن الشعبي, عن أبي هريرة, بنحوه. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي, عن أبي هريرة, نحوه. حدثنا ابن المثنى قال، حدثني سالم بن نوح العطار, عن عمر يعني: ابن عامر عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن سلمان قال: إذا أرسلت كلبك المعلَّم فأخذ فقتل, فكل، وإن أكل ثلثيه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عبيد الله ح وحدثنا هناد قال، حدثنا عبدة, عن عبيد الله بن عمر عن نافع, عن عبد الله بن عمر قال: إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك, أكل أو لم يأكل. حدثنا ابن المثنى, قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله, عن نافع, عن ابن عمر, بنحوه. حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي ذئب: أن نافعًا حدَّثهم: أن عبد الله بن عمر كان لا يرى بأكل الصيد بأسًا, إذا قتله الكلب أكل منه. حدثني يونس به مرة أخرى فقال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمرو، ابن أبي ذئب، وغير واحد: أن نافعًا حدَّثهم، عن عبد الله بن عمر, فذكر نحوه. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا محمد بن أبي ذئب, عن نافع, عن ابن عمر: أنه كان لا يرى بأسًا بما أكل الكلبُ الضاري. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن ابن أبي ذئب, عن بكير بن عبد الله بن الأشج, عن حميد بن عبد الله, عن سعد قال: قلت لنا: كلاب ضوارٍ يأكلن ويبقين؟ قال: كل، وإن لم يبق إلا بَضْعة. حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن ابن أبي ذئب, عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج, عن حميد قال: سألت سعدًا, فذكر نحوه. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا في تأويل قوله: « تعلمونهن مما علمكم الله » : أن « التعليم » الذي ذكره الله في هذه الآية للجوارح, إنما هو أن يعلِّم الرجل جارحَه الاستشلاء إذا أُشلي على الصيد وطلبه إياه إذا أغرى, أو إمساكه عليه، إذا أخذه من غير أن يأكل منه شيئًا, وألا يفرّ منه إذا أراده, وأن يجيبه إذا دعاه. فذلك، هو تعليم جميع الجوارح، طيرها وبهائمها. فإن أكل من الصيد جارحةُ صائد فجارحه حينئذ غير معلَّم. فإن أدرك صيده صاحبُه حيًّا فذكّاه، حلَّ له أكله. وإن أدركه ميتًا، لم يحلَّ له أكله، لأنه مما أكله السَّبُع الذي حرمه الله تعالى بقوله: وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ، ولم يدرك ذكاته. وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, بما:- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك, عن عاصم بن سليمان الأحول, عن الشعبي, عن عدي بن حاتم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال: إذا أرسلتَ كلبك فاذكر اسم الله عليه, فإن أدركته وقد قتل وأكل منه فلا تأكل منه شيئًا, فإنما أمسكَ على نفسه « . » حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا محمد بن فضيل, عن بيان بن بشر, عن عامر, عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا قوم نتصيَّد بهذه الكلاب؟ فقال: إذا أرسلت كلابَك المعلَّمة وذكرت اسم الله عليها, فكل ما أمسكن عليك وإن قتلن, إلا أن يأكل الكلبُ, فإن أكل فلا تأكل, فإني أخاف أن يكون إنما حَبَسه على نفسه. « » فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدثك به:- قال عمران بن بكّار الكلاعي، حدثنا عبد العزيز بن موسى قال، حدثنا محمد بن دينار, عن أبي إياس, عن سعيد بن المسيب, عن سلمان الفارسي, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه, فليأكل ما بقي. قيل: هذا خبر في إسناده نظر, فإن « سعيدًا » غير معلوم له سماع من « سلمان » , والثقات من أهل الآثار يقفون هذا الكلام على سلمان، ويروونه عنه من قِبَله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والحفَّاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفردٌ ليس له حفظهم, كانت الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم. قال أبو جعفر: وإذا كان الأمر في الكلب على ما ذكرتُ: من أنه إذا أكل من الصيد فغيرُ معلَّم, فكذلك حكم كل جارحة: في أن ما أكل منها من الصيد فغير معلَّم, لا يحل له أكل صيده إلا أن يدرك ذكاته. القول في تأويل قوله : فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ قال أبو جعفر: يعني بقوله: « فكلوا مما أمسكن عليكم » ، فكلوا، أيها الناس، مما أمسكت عليكم جوارحكم. واختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله، حلال أكل كلِّ ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلَّمة من الصيد الحلال أكله, أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه, أدركتْ ذكاته فذُكِّي أو لم تدرَك ذكاته حتى قتلته الجوارح بجرحها إياه أو بغير جَرْح. وهذا قول الذين قالوا: « تعليم الجوارح الذي يحلّ به صيدها أن تعلَّم الاستشلاء على الصيد، وطلبه إذا أشْليت عليه، وأخذه, وترك الهرب من صاحبها، دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته » . وقد ذكرنا قول قائلي هذه المقالة والرواية عنهم بأسانيدها الواردة آنفًا. وقال آخرون: بل ذلك على الخصوص دون العموم. قالوا: ومعناه: فكلوا مما أمسكن عليكم من الصيد جميعه دون بعضه. قالوا: فإن أكلت الجوارح منه بعضًا وأمسكت بعضًا, فالذي أمسكت منه غير جائز أكلُه وقد أكلت بعضه، لأنها إنما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه، على أنفسها لا علينا, والله تعالى ذكره إنما أباح لنا كلَ ما أمسكته جوارحنا المعلمة علينا بقوله: « فكلوا مما أمسكن عليكم » ، دون ما أمسكته على أنفسها. وهذا قول من قال: « تعليم الجوارح الذي يحلُّ به صيدها: أن تَستشلى للصيد إذا أشليت، فتطلبه وتأخذه, فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئًا, ولا تفر من صاحبها » . وقد ذكرنا ممن قال ذلك فيما مضى منهم جماعة كثيرة ونذكر منهم جماعة أخَر في هذا الموضع. حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « فكلوا مما أمسكن عليكم » ، يقول: كلوا مما قتلن قال علي: وكان ابن عباس يقول: إن قتل وأكل فلا تأكل, وإن أمسك فأدركته حيًّا فذكِّه. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: إن أكل المعلَّم من الكلاب من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته, فلا يأكل من صيده. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فكلوا مما أمسكن عليكم » ، إذا صادَ الكلب فأمسكه وقد قتله ولم يأكل منه, فهو حِلٌّ. فإن أكل منه, فيقال: إنما أمسك على نفسه. فلا تأكل منه شيئًا, إنه ليس بمعلَّم. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ إلى قوله: « فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ » ، قال: إذا أرسلت كلبك المعلَّم أو طيرك أو سهمك, فذكرت اسم الله, فأخذ أو قتل, فكل. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: إذا أرسلت كلبك المعلّم فذكرت اسم الله حين ترسله، فأمسك أو قتل، فهو حلال. فإذا أكل منه فلا تأكله, فإنما أمسكه على نفسه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو معاوية, عن عاصم, عن الشعبي, عن عديّ قوله: « فكلوا مما أمسكن عليكم » ، قال: قلت يا رسول الله، إن أرضي أرضُ صيد؟ قال: « إذا أرسلت كلبك وسميت، فكل مما أمسك عليك كلبُك وإن قتل. فإن أكل فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه. » وقد بينا أولى القولين في ذلك بالصواب قبلُ, فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره. فإن قال قائل: وما وجه دخول « من » ، في قوله: « فكلوا مما أمسكن عليكم » , وقد أحل الله لنا صيد جوارحنا الحلالِ, و « من » إنما تدخل في الكلام مبعِّضَة لما دخلت فيه؟ قيل: قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربية. فقال بعض نحويي البصرة: دخلت « من » في هذا الموضع لغير معنًى, كما تدخله العرب في قولهم: « كان من مطر » و « كان من حديث » . قال: ومن ذلك قوله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ [ سورة البقرة: 271 ] , وقوله: وَيُنَـزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [ سورة النور: 43 ] ، قال: وهو فيما فسِّر: وينـزل من السماء جبالا فيها برد. قال: وقال بعضهم: و « ينـزل من السماء من جبال فيها من برد » ، أي: من السماء من برد, بجعل « الجبال من برد » في السماء, وبجعل الإنـزال منها. وكان غيره من أهل العربية ينكر ذلك ويقول: لم تدخل « من » إلا لمعنى مفهوم، لا يجوز الكلام ولا يصلح إلا به. وذلك أنها دالة على التبعيض. وكان يقول: معنى قولهم « قد كان من مطر » و « كان من حديث » ؛ هل كان من مَطَرِ مَطَرَ عندكم؟ وهل من حديث حُدِّث عندكم؟ ويقول: معنى: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ، أي: ويكفر عنكم من سيِّئاتكم ما يشاء ويريد وفي قوله: وَيُنَـزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ ، فيجيز حذف « من » من « من برد » ولا يجيز حذفها من « الجبال » , ويتأول معنى ذلك: وينـزل من السماء أمثالَ جبالٍ بردٍ, ثم أدخلت « من » في « البرد » , لأن « البرد » مفسَّر عنده من « الأمثال » أعني: « أمثال الجبال » , وقد أقيمت « الجبال » مقام « الأمثال » , و « الجبال » وهي « جبال برد » فلا يجيز حذف « من » من « الجبال » , لأنها دالة على أن الذي في السماء الذي أنـزل منه البرد، أمثالُ جبال بردٍ. وأجاز حذف « من » من « البرد » , لأن « البرد » مفسَّر عن « الأمثال » , كما تقول: « عندي رطلان زيتًا » و « عندي رطلان من زيت » , وليس عندك « الرطل » ، وإنما عندك المقدار. فـ « من » تدخل في المفسِّر وتخرج منه. وكذلك عند قائل هذا القول: من السماء, من أمثال جبال, وليس بجبال. وقال: وإن كان: « أنـزل من جبال في السماء من برد جبالا » , ثم حذف « الجبال » الثانية، و « الجبال » الأول في السماء، جاز. تقول: « أكلت من الطعام » , تريد: أكلت من الطعام طعامًا, ثم تحذف « الطعام » ولا تسقط « من » . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن « من » لا تدخل في الكلام إلا لمعنى مفهوم, وقد يجوز حذفها في بعض الكلام وبالكلام إليها حاجة، لدلالة ما يظهر من الكلام عليها. فأما أن تكون في الكلام لغير معنى أفادته بدخولها, فذلك قد بيَّنا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون فيما صحّ من الكلام. ومعنى دخولها في قوله: « فكلوا مما أمسكن عليكم » ، للتبعيض، إذ كانت الجوارح تمسك على أصحابها ما أحل الله لهم لحومه، وحرَّم عليهم فَرْثه ودمَه, فقال جل ثناؤه: « فكلوا » مما أمسكتْ عليكم جوارحكم الطيبات التي أحللت لكم من لحومها، دون ما حرمت عليكم من خبائثه من الفرث والدم وما أشبه ذلك، مما لم أطيبه لكم. فذلك معنى دخول « من » في ذلك. وأما قوله: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ ، فقد بينا وجه دخولها فيه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. وأما دخولها في قوله: وَيُنَـزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ ، فسنبينه إذا أتينا عليه إن شاء الله. . القول في تأويل قوله : وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( واذكروا اسم الله عليه ) على ما أمسكت عليكم جوارحكم من الصيد. كما:- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « واذكروا اسم الله عليه » ، يقول: إذا أرسلت جوارحك فقل: « بسم الله » , وإن نسيت فلا حَرَج. حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « واذكروا اسم الله عليه » ، قال: إذا أرسلته فسَمِّ عليه حين ترسله على الصيد. القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ( 4 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: واتقوا الله، أيها الناس، فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه, فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه, وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلَّمة، أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها, أو تطعَمُوا ما لم يسمَّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صادَه أهل الأوثان وعبدة الأصنام ومن لم يوحِّد الله من خلقه, أو ذبحوه, فإن الله قد حرَّم ذلك عليكم فاجتنبوه. ثم خوَّفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره. فقال: اعلموا أن الله سريعٌ حسابه لمن حاسبه على نِعَمه عليه منكم وشكرِ الشاكر منكم ربَّه على ما أنعم به عليه بطاعته إياه فيما أمر ونهى, لأنه حافظ لجميع ذلك فيكم، فيحيط به, لا يخفى عليه منه شيء, فيجازي المطيعَ منكم بطاعته، والعاصيَ بمعصيته, وقد بيَّن لكم جزاء الفريقين. القول في تأويل قوله : الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « اليوم أحل لكم الطيبات » ، اليوم أحل لكم، أيها المؤمنون، الحلالُ من الذبائح والمطاعم دون الخبائث منها. وقوله: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم » ، وذبائحُ أهل الكتاب من اليهود والنصارى وهم الذين أوتوا التوراة والإنجيل وأنـزل عليهم, فدانُوا بهما أو بأحدهما « حل لكم » يقول: حلالٌ لكم، أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الأوثان والأصنام. فإن من لم يكن منهم مِمَّن أقرَّ بتوحيد الله عزَّ ذكره ودان دين أهل الكتاب, فحرام عليكم ذبائحهم. ثم اختلف فيمن عنى الله عز ذكره بقوله: « وطعام الذين أوتوا الكتاب » ، من أهل الكتاب. فقال بعضهم: عنى الله بذلك ذبيحة كل كتابي ممن أنـزل عليه التوراة والإنجيل, أو ممن دخل في مِلَّتهم فدان دينهم، وحرَّم ما حرَّموا، وحلَّل ما حللوا، منهم ومن غيرهم من سائر أجناس الأمم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا عكرمة قال، سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب, فقرأ هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ إلى قوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، الآية [ سورة المائدة: 51 ] . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان: عن عاصم الأحول, عن عكرمة, عن ابن عباس, مثله. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن عثمة قال، حدثنا سعيد بن بشر, عن قتادة, عن الحسن وعكرمة: أنهما كانا لا يريان بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب، وبتزوُّج نسائهم, ويتلوان: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن الحسن وسعيد بن المسيب: أنهما كانا لا يريان بأسًا بذبيحة نصارى بني تغلب. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي حصين, عن الشعبي: أنه كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب, وقرأ: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ، [ سورة مريم: 64 ] . حدثني ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني ابن شهاب عن ذبيحة نصارى العرب, قال. تؤكل من أجل أنهم في الدين أهلُ كتاب, ويذكرون اسمَ الله. حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء: إنما يقرُّون بدين ذلك الكتاب. حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادًا وقتادة عن ذبائح نصارى بني تغلب, فقالوا: لا بأس بها. قال: وقرأ الحكم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ ، [ سورة البقرة: 78 ] . حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: كلوا من ذبائح بني تغلب, وتزوَّجوا من نسائهم, فإن الله قال في كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [ سورة المائدة: 51 ] ، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية، لكانوا منهم. حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال، حدثنا ابن علية, عن ابن أبي عروبة, عن قتادة: أن الحسن كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب, وكان يقول: انتحلوا دينًا، فذاك دينهم. وقال آخرون: إنما عنى بالذين أوتوا الكتاب في هذه الآية, الذين أنـزل عليهم التوراة والإنجيل من بني إسرائيل وأبنائهم, فأما من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم ممن دان بدينهم وهم من غير بني إسرائيل, فلم يعن بهذه الآية، وليس هو ممن يحل أكل ذبائحه، لأنه ليس ممن أوتي الكتاب من قَبْل المسلمين. وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعي يقوله حدثنا بذلك عنه الربيع ويتأول في ذلك قول من كره ذبائح نصارى العرب من الصحابة والتابعين. ذكر من حرَّم ذبائح نصارى العرب. حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أيوب, عن محمد, عن عبيدة قال، قال علي رضوان الله عليه: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب, فإنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر. حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, عن علي قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب, فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر. حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا عبد الله بن بكر قال، حدثنا هشام, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة قال: سألت عليًّا عن ذبائح نصارى العرب, فقال: لا تؤكل ذبائحهم, فإنهم لم يتعلَّقوا من دينهم إلا بشرب الخمر. حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن عابس, عن عطاء بن السائب, عن أبي البختري قال: نهانا عليٌّ عن ذبائح نصارى العرب. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي حمزة القصاب قال: سمعت محمد بن علي يحدث، عن علي: أنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال، لا تأكلوا ذبائح نصارى العرب، وذبائح نصارى أرْمينية. قال أبو جعفر: وهذه الأخبار عن عليّ رضوان الله عليه, إنما تدل على أنه كان ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب، من أجل أنهم ليسوا على النصرانية, لتركهم تحليل ما تحلِّل النصارى، وتحريم ما تُحَرّم، غير الخمر. ومن كان منتحلا ملّة هو غير متمسك منها بشيء فهو إلى البراءة منها أقرب منه إلى اللحاق بها وبأهلها. فلذلك نهى عليٌّ عن أكل ذبائح نصارى بني تغلب, لا من أجل أنهم ليسوا من بني إسرائيل. فإذ كان ذلك كذلك, وكان إجماعًا من الحجة أن لا بأس بذبيحة كل نصرانيّ ويهوديّ دان دين النصرانيّ أو اليهودي فأحل ما أحلُّوا, وحرَّم ما حرموا، من بني إسرائيل كان أو من غيرهم فبيِّنٌ خطأ ما قال الشافعي في ذلك، وتأويله الذي تأوّله في قوله: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم » ، أنه ذبائح الذين أوتوا الكتابَ التوراةَ والإنجيلَ من بني إسرائيل وصوابُ ما خالف تأويله ذلك, وقولِ من قال: إن كل يهودي ونصراني فحلال ذبيحتُه، من أيِّ أجناس بني آدم كان. وأمَّا « الطعام » الذي قال الله: « وطعام الذين أوتوا الكتاب » ، فإنه الذبائح. وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم » ، قال: الذبائح. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » ، قال: ذبائحهم. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, مثله. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي, عن أبي سنان, عن ليث, عن مجاهد, مثله. حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » ، قال: ذبيحة أهل الكتاب. حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم في قوله: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » ، قال: ذبائحهم. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة, عن إبراهيم, بمثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن مغيرة, عن إبراهيم, مثله. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن مغيرة, عن إبراهيم, مثله. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان, عن مغيرة, عن إبراهيم، مثله. حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » ، قال: ذبائحهم. حدثني المثنى قال، حدثنا المعلى بن أسد قال، حدثنا خالد, عن يونس, عن الحسن, مثله. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » ، أي: ذبائحهم. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » ، أما طعامهم، فهو الذبائح. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » ، قال: أحل الله لنا طعامهم ونساءَهم. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: أما قوله: « وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم » ، فإنه أحلَّ لنا طعامهم ونساءهم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته يعني ابن زيد عما ذبح للكنائس وسُمِّي عليها، فقال: أحل الله لنا طعام أهل الكتاب, ولم يستثن منه شيئًا. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني معاوية, عن أبي الزاهرية حدير بن كريب, عن أبي الأسود, عن عُمَير بن الأسود: أنه سأل أبا الدرداء عن كبش ذُبح لكنيسة يقال لها « جرجس » ، أهدوه لها, أنأكل منه؟ فقال أبو الدرداء: اللهم عفوًا! إنما هم أهل كتاب, طعامهم حلٌّ لنا، وطعامنا حل لهم! وأمره بأكله. وأما قوله: « وطعامكم حل لهم » ، فإنه يعني: ذبائحكم، أيها المؤمنون، حِلٌّ لأهل الكتاب. القول في تأويل قوله : وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « والمحصنات من المؤمنات » ، أحل لكم، أيها المؤمنون، المحصنات من المؤمنات وهن الحرائر منهن أن تنكحوهن « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، يعني: والحرائر من الذين أعطوا الكتاب وهم اليهود والنصارى الذين دانوا بما في التوراة والإنجيل من قبلكم، أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم من العرب وسائر الناس, أن تنكحوهن أيضًا « إذا آتيتموهن أجورهن » ، يعني: إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتِكم ومحصناتهم « أجورهن » ، وهي مهورُهن. واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي عناهن الله عز ذكره بقوله: « والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » . فقال بعضهم: عنى بذلك الحرائر خَاصة, فاجرةً كانت أو عفيفةً. وأجاز قائلو هذه المقالة نكاح الحرة، مؤمنة كانت أو كتابية من اليهود والنصارى، من أيِّ أجناس الناس كانت بعد أن تكون كتابية، فاجرة كانت أو عفيفةً. وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يُتَزَوَّجن بكل حال لأن الله جل ثناؤه شرطَ من نكاح الإماء الإيمانَ بقوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ، [ سورة النساء: 25 ] . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب » ، قال: من الحرائر. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، قال: من الحرائر. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب: أن رجلا طلَّق امرأته وخُطِبَت إليه أخته, وكانت قد أحدثت, فأتى عمر فذكر ذلك له منها, فقال عمر: ما رأيت منها؟ قال: ما رأيت منها إلا خيرًا! فقال: زوِّجها ولا تُخْبِر. حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، حدثنا عامر قال: زنت امرأة منَّا من همدان, قال: فجلدها مُصَدِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحدَّ ثم تابت. فأتوا عمر فقالوا: نـزوّجها، وبئسَ ما كان من أمرها! قال عمر: لئن بلغني أنكم ذكرتم شيئًا من ذلك، لأعاقبنكم عقوبةً شديدة. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن قيس بن مسلم, عن طارق بن شهاب: أن رجلا أراد أن يزوِّج أخته, فقالت: إني أخشى أن أفضَح أبي, فقد بَغَيْتُ! فأتى عمر، فقال: أليس قد تابت؟ قال: بلى! قال: فزوّجها. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن الشعبي: أن نُبَيْشة، امرأةً من همدان، بغتْ, فأرادت أن تذبح نفسها, قال: فأدركوها، فداووها فبرئت, فذكروا ذلك لعمر, فقال: انكحوها نكاحَ العفيفة المسلمة. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن عامر: أن رجلا من أهل اليمن أصابت أختُه فاحشة, فأمرَّت الشَّفرة على أوداجها, فَأُدْرِكت, فدُووِي جُرْحها حتى برئت. ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة, فقرأت القرآن ونَسَكت, حتى كانت من أنسك نسائهم. فخطبت إلى عمها, وكان يكره أن يدلِّسها, ويكره أن يفشي على ابنة أخيه, فأتى عمر فذكر ذلك له, فقال عمر: لو أفشيت عليها لعاقبتك! إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوّجها إيّاه. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عامر: أن جارية باليمن يقال لها: « نبيشة » , أصابت فاحشة, فذكر نحوه. حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا إسماعيل، عن عامر قال: أتى رجل عمر فقال: إن ابنةً لي كانت وُئِدت في الجاهلية, فاستخرجتها قبل أن تموت, فأدركت الإسلام, فلما أسلمت أصابت حدًّا من حدود الله, فعمدتْ إلى الشفرة لتذبح بها نفسها, فأدركتها وقد قطعت بعض أوداجها, فداويتها حتى برئت, ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة, فهي تخطب إلَيّ يا أمير المؤمنين, فأخبر من شأنها بالذي كان؟ فقال عمر: أتخبر بشأنها؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه! والله لئن أخبرت بشأنها أحدًا من الناس لأجعلنك نَكالا لأهل الأمصار، بل أنكحها بنكاحِ العفيفة المسلمة. حدثنا أحمد بن منيع قال، حدثنا مروان, عن إسماعيل, عن الشعبي قال: جاء رجل إلى عمر، فذكر نحوه. حدثنا مجاهد قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا يحيى بن سعيد, عن أبي الزبير: أن رجلا خطب من رجل أخته, فأخبره أنها قد أحدثتْ. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب, فضرب الرجل وقال: ما لك والخبر! أنكح واسكُت. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال, عن قتادة, عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن لا أدع أحدًا أصابَ فاحشة في الإسلام أن يتزوج مُحْصنة! فقال له أبيّ بن كعب: يا أمير المؤمنين, الشرك أعظم من ذلك, وقد يقبل منه إذا تاب! وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله: « والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، العفائفَ من الفريقين, إماءً كنَّ أو حرائر. فأجاز قائلو هذه المقالة نكاحَ إماء أهل الكتاب الدائنات دينَهم بهذه الآية, وحرَّموا البغايا من المؤمنات وأهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، قال: العفائف. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد, مثله. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مطرف, عن عامر: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني، وأن تغتَسِل من الجنابة. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن مطرف, عن عامر: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن تغتسل من الجنابة, وأن تحصن فرجَها. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن مطرف, عن رجل, عن الشعبي في قوله: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني, وأن تغتسل من الجنابة. حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن مطرف, عن الشعبي في قوله: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، قال: إحصانها: أن تغتسل من الجنابة, وأن تحصن فرجها من الزنا. حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد, قال، أخبرنا مطرف، عن عامر, بنحوه. حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله: المحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) ، قال: العفائف. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، قال: أما « المحصنات » ، فهنّ العفائف. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: أن امرأة اتخذت مملوكها وقالت: تأوّلت كتابَ الله: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، قال: فأتى بها عمر بن الخطاب, فقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تأوّلت آية من كتاب الله على غير وجهها. قال فغَرَّب العبد وجزَّ رأسه. وقال: أنتِ بعده حرام على كل مسلم. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن إبراهيم أنه قال: في التي تزني قبل أن يُدْخل بها قال: ليس لها صداق، ويفرَّق بينهما. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا أشعث, عن الشعبي، في البكر تفجُر قال: تضرب مئة سوط, وتنفى سنة, وترُدّ على زوجها ما أخذت منه. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا أشعث, عن أبي الزبير, عن جابر, مثل ذلك. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا أشعث عن الحسن, مثل ذلك. حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس: أن الحسن كان يقول: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشةً فاستيقن، فإنه لا يمسكها. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أبي ميسرة قال: مملوكات أهل الكتاب بمنـزلة حرائرهم. ثم اختلف أهل التأويل في حكم قوله عز ذكره: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، أعام أم خاصٌّ؟ فقال بعضهم: هو عامٌّ في العفائف منهن, لأن « المحصنات » ، العفائف. وللمسلم أن يتزوج كل حرة وأمة كتابيةٍ، حربيةً كانت أو ذميَّةً. واعتلُّوا في ذلك بظاهر قوله تعالى: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، وأن المعنيَّ بهن العفائف، كائنة من كانت منهن. وهذا قول من قال: عني بـ « المحصنات » في هذا الموضع: العفائف. وقال آخرون: بل اللواتي عنى بقوله جل ثناؤه: « والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، الحرائرَ منهن, والآية عامة في جميعهن. فنكاح جميع الحرائر اليهود والنصارى جائز, حربيّات كنّ أو ذميات, من أيِّ أجناس اليهود والنصارى كنَّ. وهذا قول جماعة من المتقدمين والمتأخرين. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب والحسن: أنهما كانا لا يريان بأسًا بنكاح نساء اليهود والنصارى, وقالا أحلَّه الله على علم. وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك نكاحَ بني إسرائيل الكتابياتِ منهن خاصة، دون سائر أجناس الأمم الذين دانوا باليهودية والنصرانية. وذلك قول الشافعي ومن قال بقوله. وقال آخرون: بل ذلك معنىٌّ به نساءُ أهل الكتاب الذين لهم من المسلمين ذمَّة وعهدٌ. فأما أهل الحرب، فإن نساءهم حرام على المسلمين. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عقبة, قال، حدثنا الفزاري, عن سفيان بن حسين, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس قال: من نساء أهل الكتاب من يحلُّ لنا, ومنهم من لا يحلُّ لنا, ثم قرأ: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ، [ سورة التوبة: 29 ] . فمن أعطى الجزية حلَّ لنا نساؤه, ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم، فأعجبه. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال: عنى بقوله: « والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، حرائرَ المؤمنين وأهل الكتاب. لأن الله جل ثناؤه لم يأذن بنكاح الإماء الأحرارِ في الحال التي أباحهن لهم، إلا أن يكنَّ مؤمنات, فقال عز ذكره: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [ سورة النساء: 25 ] ، فلم يبح منهن إلا المؤمنات. فلو كان مرادًا بقوله: « والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب » ، العفائفَ, لدخل العفائف من إمائهم في الإباحة, وخرج منها غير العفائف من حرائرهم وحرائر أهل الإيمان. وقد أحل الله لنا حرائر المؤمنات, وإن كن قد أتين بفاحشة بقوله: وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ [ سورة النور: 32 ] . وقد دللنا على فساد قول من قال: « لا يحلُّ نكاح من أتى الفاحشة من نساء المؤمنين وأهل الكتاب للمؤمنين » ، في موضع غير هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلال للمؤمنين, كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة, ذميةً كانت أو حربيّةً, بعد أن تكون بموضع لا يخافُ الناكح فيه على ولده أن يُجْبر على الكفر, بظاهر قول الله جل وعز: « والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » . فأما قول الذي قال: « عنى بذلك نساء بني إسرائيل، الكتابيّات منهن خاصة » فقول لا يوجب التشاغل بالبيان عنه، لشذوذه والخروج عما عليه علماء الأمة، من تحليل نساء جميع اليهود والنصارى. وقد دللنا على فساد قول قائل هذه المقالة من جهة القياس في غير هذا الموضع بما فيه الكفاية، فكرهنا إعادته. وأما قوله: « إذا آتيتموهن أجورهن » ، فإن « الأجر » : العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها, وهو المهر. كما:- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس في قوله: « آتيتموهن أجورهن » ، يعني: مهورهن. القول في تأويل قوله : مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أحل لكم المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم, وأنتم محصنون غير مسافحين ولا متخذي أخدان. ويعني بقوله جل ثناؤه: « محصنين » ، أعفَّاء « غير مسافحين » ، يعني: لا معالنين بالسفاح بكل فاجرة، وهو الفجور « ولا متخذي أخدان » ، يقول: ولا منفردين ببغيّة واحدة، قد خادنها وخادنته، واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها. وقد بينا معنى « الإحصان » ووجوهه ومعنى « السفاح » و « الخدن » في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع وهو كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « محصنين غير مسافحين » ، يعني: ينكحوهن بالمهر والبينة غير مسافحين متعالنين بالزنا « ولا متخذي أخدان » ، يعني: يسرُّون بالزنا. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قال: أحل الله لنا محصنتين: محصنة مؤمنة, ومحصنة من أهل الكتاب « ولا متخذي أخدان » : ذات الخدان، ذات الخليل الواحد. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سليمان بن المغيرة, عن الحسن قال: سأله رجل: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات! فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حَصانًا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لَمَح الرجل، إليها بعينه اتّبعته. القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 5 ) قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « ومن يكفر بالإيمان » ، ومن يجحد ما أمر الله بالتصديق به، من توحيد الله ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله وهو « الإيمان » ، الذي قال الله جل ثناؤه: « ومن يكفر بالإيمان فقد حَبِطَ عمله » يقول: فقد بَطل ثواب عمله الذي كان يعمله في الدنيا, يرجو أن يدرك به منـزلة عند الله. « وهو في الآخرة من الخاسرين » ، يقول: وهو في الآخرة من الهالكين، الذين غَبَنوا أنفسَهم حظوظها من ثواب الله بكفرهم بمحمد، وعملهم بغير طاعة الله. وقد ذكر أن قوله: « ومن يكفر بالإيمان » ، عنى به أهل الكتاب، وأنه أنـزل على رسول الله صلى عليه وسلم من أجل قوم تحرَّجوا نكاح نساءِ أهل الكتاب لما قيل لهم: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال, حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسًا من المسلمين قالوا: كيف نتزوّج نساءهم يعني: نساء أهل الكتاب وهم على غير ديننا؟ فأنـزل الله عز ذكره: « ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين » ، فأحل الله تزويجهن على علم. وبنحو الذي قلنا في تأويل « الإيمان » قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء: « ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله » ، قال: « الله » ، الإيمان. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن واصل, عن عطاء: « ومن يكفر بالإيمان » ، قال: « الإيمان » ، التوحيد. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن جريج, عن مجاهد: « ومن يكفر بالإيمان » ، قال: بالله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى, عن سفيان, عن ابن جريج, عن مجاهد, مثله. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: « ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله » ، قال: من يكفر بالله. حدثنا محمد قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ومن يكفر بالإيمان » ، قال: من يكفر بالله. حدثنا محمد قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ومن يكفر بالإيمان » ، قال: الكفر بالله. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة. قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله » ، قال: أخبر الله سبحانه أن « الإيمان » هو العروة الوثقى, وأنه لا يقبل عملا إلا به, ولا يحرِّم الجنة إلا على من تركه. فإن قال لنا قائل: وما وجه تأويل مَنْ وجَّه قوله: « ومن يكفر بالإيمان » ، إلى معنى: ومن يكفر بالله؟ قيل: وجه تأويله ذلك كذلك، أن « الإيمان » هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه، و « الكفر » جحود ذلك. قالوا: فمعنى « الكفر بالإيمان » ، هو جحود الله وجحود توحيده. ففسروا معنى الكلمة بما أريد بها, وأعرضوا عن تفسير الكلمة على حقيقة ألفاظها وظاهرها في التلاوة. فإن قال قائل: فما تأويلها على ظاهرها وحقيقة ألفاظها؟ قيل: تأويلها: ومن يأبَ الإيمان بالله، ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه, فقد حبط عمله. وذلك أن « الكفر » هو الجحود في كلام العرب, و « الإيمان » التصديق والإقرار. ومن أبى التصديق بتوحيد الله والإقرار به، فهو من الكافرين فذلك تأويل الكلام على وجهه. القول في تأويل قوله عز ذكره : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة، وأنتم على غير طهر الصلاة، فاغسلوا وجوهكم بالماء، وأيديكم إلى المرافق. ثم اختلف أهل التأويل في قوله: « إذا قمتم إلى الصلاة » ، أمرادٌ به كلَّ حال قام إليها، أو بعضها؟ وأيّ أحوال القيام إليها؟ فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه، من أنه معنيٌّ به بعضُ أحوال القيام إليها دون كل الأحوال، وأنّ الحال التي عُني بها، حالُ القيام إليها على غير طُهْر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا عبيد الله قال: سئل عكرمة عن قول الله: « إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ » ، فكلَّ ساعة يتوضأ؟ فقال: قال ابن عباس: لا وضوء إلا من حَدَثٍ. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت مسعود بن علي الشيباني قال، سمعت عكرمة قال: كان سعد بن أبي وقاص يُصلِّي الصلوات بوضوءٍ واحد. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن مسعود بن علي، عن عكرمة قال: كان سعد بن أبي وقاص يقول: صلّ بطهورك ما لم تحدث. حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال: أخبرنا سليم بن أخضر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة السلماني: ما يوجب الوضوء؟ قال: الحدَث. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن يزيد بن طريف أو: طريف بن يزيد: أنهم كانوا مع أبي موسى على شاطئ دجلة، فتوضأوا فصلوا الظهر، فلما نودي بالعصر، قام رجال يتوضأون من دجلة، فقال: إنه لا وضوء إلا على من أحدث. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن طريف بن زياد أو: زياد بن طريف عن واقع بن سحبان: أنه شهد أبا موسى صلى بأصحابه الظهر، ثم جلسوا حِلَقًا على شاطئ دجلة، فنودي بالعصر، فقام رجال يتوضأون، فقال أبو موسى: لا وضوء إلا على من أحدث. حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث، عن واقع بن سحبان، عن طريف بن يزيد أو: يزيد بن طريف قال: كنت مع أبي موسى بشاطئ دجلة، فذكر نحوه. حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن طريف بن يزيد أو: يزيد بن طريف، عن أبي موسى، مثله. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا أبو خالد قال، توضأت عند أبي العالية الظهرَ أو العصر، فقلت: أصلي بوضوئي هذا، فإني لا أرجع إلى أهلي إلى العَتَمة؟ قال أبو العالية: لا حرج. وعلّمنا: إذا توضأ الإنسان فهو في وضوئه حتى يحدث حدثا. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا ابن هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: الوضوء من غير حدث اعتداء. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود، قال حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن سعيد، مثله. حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش قال: رأيت إبراهيم صلَّى بوضوء واحد، الظهرَ والعصرَ والمغربَ. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام قال، حدثنا الأعمش قال: كنت مع يحيى، فأصلّي الصلوات بوضوء واحد. قال: وإبراهيم مثل ذلك. حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم قال: سمعت الحسن سئل عن الرجل يتوضأ فيصلي الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال: لا بأس به ما لم يُحْدث. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك، قال: يصلِّي الصلوات بالوضوء الواحد ما لم يحدث. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن الأعمش، عن عمارة قال: كان الأسود يصلي الصلوات بوضوء واحد. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة » يقول: قمتم وأنتم على غير طهر. حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن الأسود: أنه كان له قَعبٌ قدرَ رِيِّ رجل ، فكان يتوضأ ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها. حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي قال، حدثنا الفضل بن المبشر قال: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدثَ، توضأ ومسح بفضل طَهوره الخفين. فقلت: أبا عبد الله، أشيء تصنعه برأيك؟ قال: بل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. وقال آخرون: معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني من سمع مالك بن أنس، يحدث عن زيد بن أسلم، قوله: « يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة » قال: يعني: إذا قمتم من النوم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب: أن مالك بن أنس أخبره عن زيد بن أسلم، بمثله. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ » قال فقال، قمتم إلى الصلاة من النوم. وقال آخرون: بل ذلك معنيٌّ به كل حال قيام المرء إلى صلاته، أن يجدِّد لها طُهرًا. ذكر من قال ذلك: حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن مسعود بن علي قال، سألت عكرمة، قال قلت: يا أبا عبد الله، أتوضأ لصلاة الغداة، ثم آتي السوق فتحضر صلاة الظهر، فأصلي؟ قال: كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه يقول: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ » . حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت مسعود بن علي الشيباني قال، سمعت عكرمة يقول: كان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه الآية: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ » ... الآية. حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا أزهر، عن ابن عون، عن ابن سيرين: أن الخلفاء كانوا يتوضأون لكل صلاة. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس قال، توضأ عمر بن الخطاب وضوءًا فيه تجوٌّز خفيفًا، فقال، هذا وضوء من لم يحدث. حدثنا ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النـزال، قال، رأيت عليًّا صلى الظهر ثم قعد للناس في الرَّحْبة، ثم أتِيَ بماء فغسل وجهه ويديه، ثم مَسَح برأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدِث. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: أن عليًّا اكتالَ من حُبٍّ فتوضأ وضوءًا فيه تجوُّزٌ، فقال: هذا وضوء من لم يحدث. وقال آخرون: بل كان هذا أمرًا من الله عز ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به: أن يتوضَّأوا لكل صلاة، ثم نُسخ ذلك بالتخفيف. ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري ثم المازني، مازن بني النجار فقال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، عمَّن هو؟ قال: حدثتنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب: أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، الغسيل حدَّثها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه، فأمِر بالسواك، ورفع عنه الوضوء إلا من حدّث. فكان عبد الله يرى أنّ به قوة عليه، فكان يتوضأ. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري قال: قلت لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة ، ثم ذكر نحوه. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة. فلما كان عام الفتح، صلَّى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله! قال، « عمدا فعلته. » حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة. فلما كان يوم فتح مكة، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد. حدثنا ابن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن، قال، حدثنا سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ، فذكر نحوه. حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله، صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال، « عمدا فعلته يا عمر. » حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، فلما فتح مكة، صلى الظهرَ والعصرَ والمغرب والعشاء بوضوء واحد. حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا الحكم بن ظُهَير، عن مِسْعر، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلىالله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال: إن الله عنى بقوله: « إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا » جميعَ أحوال قيام القائم إلى الصلاة، غير أنه أمرُ فرضٍ بغسل ما أمر الله بغسله القائمَ إلى صلاته، بعد حَدَثٍ كان منه ناقضٍ طهارتَه، وقبل إحداث الوضوء منه وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته. ولذلك كان عليه السلام يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة، ثم صلىّ يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد، ليعلّم أمته أن ما كان يفعل عليه السلام من تجديد الطهر لكل صلاة، إنما كان منه أخذا بالفضل، وإيثارا منه لأحب الأمرين إلى الله، ومسارعةً منه إلى ما ندبه إليه ربّه لا على أن ذلك كان عليه فرضًا واجبًا. فإن ظنّ ظانٌّ أن في الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن حنظلة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة دلالةً على خلاف ما قلنا من أن ذلك كان ندبا للنبي عليه السلام وأصحابه، وخُيِّل إليه أن ذلك كان على الوجوب فقد ظنّ غير الصواب. وذلك أن قول القائل: « أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا » ، محتملٌ من وجوه لأمر الإيجاب، والإرشاد والندب والإباحة والإطلاق. وإذ كان محتملا ما ذكرنا من الأوجه، كان أولى وجوهه به ما على صحته الحجة مجمعة، دون ما لم يكن على صحته برهان يوجب حقيقة مدَّعيه. . وقد أجمعت الحجة على أن الله عز وجل لم يوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم ولا على عباده فرضَ الوضوء لكل صلاة، ثم نسخ ذلك، ففي إجماعها على ذلك، الدلالةُ الواضحةُ على صحة ما قلنا: من أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل من ذلك، كان على ما وصفنا، من إيثاره فعلَ ما ندبه الله عز ذكره إلى فعله وندبَ إليه عباده المؤمنين بقوله: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ » ... الآية، وأن تركه في ذلك الحال الذي تركه، كان ترخيصا لأمته، وإعلاما منه لهم أن ذلك غير واجب ولا لازم له ولا لهم، إلا من حدَثٍ يوجب نقضَ الطهر. وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أخبار: حدثنا ابن المثنى، قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقَعْبٍ صغير فتوضأ. قال: قلت لأنس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم! قلت: فأنتم؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد. . حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقّي، حدثنا عيسى بن يونس، عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، عن أبي غطيف، قال: صليت مع ابن عمر الظهر، فأتى مجلسا في داره فجلس وجلست معه. فلما نُودي بالعصر دعا بوضوء فتوضأ، ثم خرج إلى الصلاة، ثم رجع إلى مجلسه. فلما نودي بالمغرب دعا بوضوء فتوضأ، فقلت: أسنة ما أراك تَصنع؟ قال، لا وإن كان وَضوئي لصلاة الصبح كافيَّ للصلوات كلها ما لم أحدِث، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من توضأ على طهرٍ كتب له عشر حسنات » ، ، فأنا رغبت في ذلك. حدثني أبو سعيد البغدادي، قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن هريم، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي غطيف، عن ابن عمر، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات. وقد قال قوم: إن هذه الآية أنـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إعلاما من الله له بها أن لا وضوء عليه، إلا إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال كلها، وذلك أنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلِّها حتى يتوضأ، فأذن الله بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث عَدَا الصلاة توضأ أو لم يتوضأ، وأمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة قبل الدخول فيها. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى يأتي منـزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة. فقلنا: يا رسول الله، نكلمك فلا تكلمنا، ونسلم عليك فلا ترد علينا؟ قال: حتى نـزلت آية الرخصة: « يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة » ، الآية. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في حدّ « الوجه » الذي أمر الله بغسله، القائمَ إلى الصلاة بقوله: « إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ » . فقال بعضهم: هو ما ظهر من بَشرة الإنسان من قُصَاص شعر رأسه، منحدرا إلى منقطع ذَقَنه طولا وما بين الأذنين عرضا. قالوا: فأما الأذن وما بطن من داخل الفم والأنف والعين، فليس من الوجه وغير واجب غسلُ ذلك ولا غسل شيء منه في الوضوء. قالوا: وأما ما غطاه الشعر منه كالذقن الذي غطاه شعر اللحية، والصدغين اللذين قد غطاهما عِذَار اللحية، فإن إمرار الماء على ما على ذلك من الشعر، مجزئ من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه، لأن « الوجه » عندهم: هو ما عَنَّ لعين الناظر من ذلك فقابلها دون غيره. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمر بن عبيد، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال، يجزئ اللحية ما سال عليها من الماء. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا المغيرة، عن إبراهيم قال: يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته. حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، بنحوه. حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بنحوه. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة في تخليل اللحية، قال: يجزيك ما مرَّ على لحيتك. حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال، حدثنا مصعب بن المقدام، قال، حدثنا زائدة، عن منصور، قال: رأيت إبراهيم يتوضأ، فلم يخلِّل لحيته. حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن إدريس، عن سعيد الزبيدي، عن إبراهيم، قال: يجزيك ما سال عليها من أن تخللها. حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن يونس، قال: كان الحسن إذا توضأ مسح لحيته مع وجهه. حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن إدريس، قال، حدثنا هشام، عن الحسن، أنه كان لا يخلِّل لحيته. حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا ابن المبارك، عن هشام، عن الحسن أنه كان لا يخلل لحيته إذا توضأ. حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن الحسن، مثله. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، عن أشعث، عن ابن سيرين، قال، ليس غسلُ اللحية من السنة. حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن عيسى بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن: أنه كان إذا توضأ لم يبلِّغ الماء في أصول لحيته. حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن أبي شيبة سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي، قال: سألت إبراهيم: أخلِّل لحيتي عند الوضوء بالماء؟ فقال، لا إنما يكفيك ما مرَّت عليه يدك. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء، فقال: قال المغيرة، قال إبراهيم: يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال، حدثنا حجاج بن رشدين قال، حدثنا عبد الجبار بن عمر: أن ابن شهاب وربيعة توضآ فأمرا الماء على لحاهما، ولم أر واحدا منهما خلّل لحيته. حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت سعيد بن عبد العزيز، عن عَرْك العارضين في الوضوء، فقال: ليس ذلك بواجب، رأيت مكحولا يتوضأ فلا يفعل ذلك. حدثنا أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن القرشي، قال، حدثنا الوليد، قال، أخبرني سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، قال، ليس عَرْك العارضين في الوضوء بواجب. حدثنا أبو الوليد، قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني إبراهيم بن محمد، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: يكفيه ما مرَّ من الماء على لحيته. حدثنا أبو الوليد القرشي، قال، حدثنا الوليد، قال، أخبرني ابن لهيعة، عن سليمان بن أبي زينب، قال، سألت القاسم بن محمد: كيف أصنع بلحيتي إذا توضأت؟ قال: لستُ من الذين يغسلون لحاهم. حدثنا أبو الوليد، قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: ليس عَرْك العارضين وتشبيك اللحية بواجب في الوضوء. ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بَطَن من الفم والأنف. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لولا التلمُّظ في الصلاة ما مضمضتُ. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت عبد الملك يقول: سئل عطاء عن رجل صلى ولم يتمضمض، قال: ما لم يسَّم في الكتاب يجزئه. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ليس المضمضة والاستنشاق من واجب الوضوء. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح، عن أبي سنان قال: كان الضحاك ينهانا عن المضمضة والاستنشاق في الوضوء في رمضان. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت هشامًا، عن الحسن قال: إذا نسى المضمضة والاستنشاق، قال: إن ذكر وقد دخل في الصلاة فليمض في صلاته. وإن كان لم يدخل تمضمض واستنشق. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة قال: سألت الحكم وقتادة عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق، فقال: يمضي في صلاته. ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة: من أن الأذنين ليستا من الوجه. حدثني يزيد بن مخلد الواسطي قال، حدثنا هشيم، عن غيلان قال: سمعت ابن عمر يقول: الأذنان من الرأس. حدثنا عبد الكريم بن أبي عمي، قال، حدثنا أبو مطرف [ .... ] قال، حدثنا غيلان مولى بني مخزوم، قال: سمعت ابن عمر يقول: الأذنان من الرأس. حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس، فإذا مسحت الرأس فامسحهما. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني غيلان بن عبد الله مولى قريش، قال: سمعت ابن عمر سأله سائل قال: إنه توضأ ونسي أن يمسح أذنيه، قال فقال ابن عمر: الأذنان من الرأس. ولم ير عليه بأسا. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد ح، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن جميعا، عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن سعيد بن مرجانة، عن ابن عمر، أنه قال: الأذنان من الرأس. حدثني ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن رجل، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: الأذنان من الرأس. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا الأذنان من الرأس. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة قال: الأذنان من الرأس عن الحسن وسعيد. حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني أبو عمرو، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس. حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن ابن عمر، مثله. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عيسى بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن قال، الأذنان من الرأس. حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة أو: عن أبي هريرة، شك ابن بزيع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأذنان من الرأس. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معلى بن منصور، عن حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: الأذنان من الرأس قال حماد: لا أدري هذا عن أبي أمامة أو: عن النبي صلى الله عليه وسلم. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال، حدثني حماد بن زيد قال، حدثني سنان بن ربيعة أبو ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأذنان من الرأس. حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني ابن جريج وغيره، عن سليمان بن موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأذنان من الرأس. حدثنا الحسن بن شبيب، قال، حدثنا علي بن هاشم بن البريد قال، حدثنا إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأذنان من الرأس. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن يونس: أن الحسن قال: الأذنان من الرأس. وقال آخرون: « الوجه » كل ما دون منابت شعر الرأس إلى منقطع الذَّقَن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا، ما ظهر من ذلك لعين الناظر، وما بَطَن منه من منابت شعر اللحية النابت على الذَّقَن وعلى العارضين، وما كان منه داخل الفم والأنف، وما أقبل من الأذنين على الوجه. كل ذلك عندهم من « الوجه » الذي أمر الله بغسله بقوله: « فاغسلوا وجوهكم » . وقالوا: إن ترك شيئا من ذلك المتوضِّئ فلم يغسله لم تُجْزِه صلاته بوضوئه ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني محمد بن بكر وأبو عاصم قالا أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان يبُلّ أصول شعر لحيته، ويغلغِل بيده في أصول شعرها حتى يَكثر القَطَرانُ منها. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج قال، أخبرني نافع مولى ابن عمر: أن ابن عمر كان يغلغل يديه في لحيته حتى يَكثر منها القَطَران. حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن سعيد قال، حدثنا ليث، عن نافع، عن ابن عمر: كان إذا توضأ خلَّل لحيته حتى يبلغ أصول الشعر. حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا معلى بن جابر اللقيطي قال، أخبرني الأزرق بن قيس قال: رأيت ابن عمر توضأ فخلَّل لحيته. حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ليث، عن نافع: أن ابن عمر كان يخلّل لحيته بالماء حتى يبلغ أصول الشعر. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير: أن أباه عبيد بن عمير كان إذا توضأ غَلغل أصابعه في أصول شعر الوجه يغلغلها بين الشعر في أصوله، يدلك بأصابعه البشرة فأشار لي عبد الله كما أخبره الرجل، كما وصف عنه. حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، حدثنا أبو عمرو، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ عرَك عَارضيه بعض العرك، وشبَّك لحيته بأصابعه أحيانا ويترك أحيانًا. حدثنا أبو الوليد وعلي بن سهل قالا حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو، وأخبرني عبدة، عن أبي موسى الأشعري، نحو ذلك. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مسلم قال: رأيت ابن أبي ليلى توضأ فغسل لحيته، وقال: من استطاع منكم أن يُبْلغ الماء أصولَ الشعر فليفعل. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج، عن عطاء قال: حقٌّ عليه أن يبل أصول الشعر. حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: كان مجاهد يخلِّل لحيته. حدثنا حميد قال، حدثنا سفيان، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد: أنه كان يخلِّل لحيته إذا توضأ. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن ابن شبرمة، عن سعيد بن جبير قال: ما بال اللحية تغسل قبل أن تنبت فإذا نبتت لم تغسَل؟ حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ليث، عن طاوس: أنه كان يخلِّل لحيته. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن ابن سيرين: أنه كان يخلل لحيته. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن هشام، عن ابن سيرين، مثله. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء، فذكر عن الحكم بن عتيبة: أن مجاهدا كان يخلل لحيته. حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن عمرو عن معروف، قال، رأيت ابن سيرين توضأ فخلل لحيته. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، مثله. حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الزبير بن عدي، عن الضحاك قال: رأيته يخلل لحيته. حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن أبي الأشهب، عن موسى بن أبي عائشة، عن زيد الخدري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فخلَّل لحيته، فقلت: لم تفعل هذا يا نبي الله؟ قال: « أمرني بذلك ربيِّ » . حدثنا تميم قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن سلام بن سَلْم، عن زيد العمي، عن معاوية بن قرة أو: يزيد الرقاشي عن أنس، قال: وضّأت النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخل أصابعه من تحت حَنَكه، فخلَّل لحيته، وقال: « بهذا أمرني ربي جل وعز » . حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال، حدثنا المحاربي، عن سلام بن سَلْم المديني، قال، حدثنا زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا أبو عبيدة الحداد، قال حدثنا موسى بن ثروان، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « هكذا أمرني ربي » ! وأدخل أصابعه في لحيته، فخلَّلها حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام وعبيد الله بن موسى، عن خالد بن إلياس، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فخلّل لحيته. حدثنا علي بن الحسين بن الحر، قال، حدثنا محمد بن ربيعة، عن واصل بن السائب، عن أبي سورة، عن أبي أيوب، قال: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وخلّل لحيته. حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عمر بن سليمان، عن أبي غالب، عن أبي أمامة: « أن النبي صلى الله عليه وسلم خلّل لحيته » . حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال، حدثنا سفيان، عن عبد الكريم أبي أمية: أن حسان بن بلال المزني رأى عمار بن ياسر توضأ وخلل لحيته، فقيل له: أتفعل هذا، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، حدثنا أبو عمرو قال، أخبرني عبد الواحد بن قيس، عن يزيد الرقاشي وقتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا توضأ عَرك عارضيه، وشبك لحيته بأصابعه. حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني أبو مهدي سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي أبو عبد الله قال، حدثني واصل الرقاشي، عن أبي سودة هكذا قال الأحمسي عن أبي أيوب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ تمضمض ومسح لحيته من تحتها بالماء. ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بَطن من الأنف والفم. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح قال، سمعت مجاهدا يقول: الاستنشاق شَطْر الوضوء. حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة قال: سألت حمادا عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق، قال حماد: ينصرف فيتمضمض ويستنشق. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح، عن أبي سنان قال: قدمت الكوفة فأتيت حمادا فسألته عن ذلك يعني: عمن ترك المضمضة والاستنشاق وصلى فقال: أرى عليه إعادة الصلاة. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة قال: كان قتادة يقول: إذا ترك المضمضة أو الاستنشاق أو أذنه أو طائفة من رجله حتى يدخل في صلاته، فإنه ينفتِلُ ويتوضأ، ويعيد صلاته. ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة من أن ما أقبل من الأذنين فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس. حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي، قال: ما أقبل من الأذنين فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني شعبة، عن الحكم وحماد، عن الشعبي في الأذنين: باطنهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن الشعبي قال: مقدَّم الأذنين من الوجه، ومؤخَّرهما من الرأس. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم وحماد، عن الشعبي بمثله إلا أنه قال: باطن الأذنين. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي بمثله، إلا أنه قال: باطن الأذنين. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي، بمثله. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: باطن الأذنين من الوجه، وظاهرهما من الرأس. حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا أبو تميلة ح، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قالا جميعا، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله الخولاني، عن ابن عباس قال: قال علي بن أبي طالب: ألا أتوضأ لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال قلنا: نعم! فتوضأ، فلما غسل وجهه، ألقَم إبهاميه ما أقبل من أذنيه. قال: ثم لما مسح برأسه مسح أذنيه من ظهورهما قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندنا قولُ من قال: « الوجه » الذي أمر الله جل ذكره بغسله القائمَ إلى صلاته: كل ما انحدر عن منابت شَعَر الرأس إلى مُنقطع الذَّقَن طولا وما بين الأذنين عرضا مما هو ظاهر لعين الناظر، دون ما بطن من الفم والأنف والعين، ودون ما غطاه شعر اللحية والعارضين والشاربين فستره عن أبصار الناظرين، ودون الأذنين. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب وإن كان ما تحت شعر اللحية والشاربين قد كان « وجها » يجب غسله قبل نبات الشعر الساتر عن أعين الناظرين على القائم إلى صلاته لإجماع جميعهم على أن العينين من الوجه، ثم هم - مع إجماعهم على ذلك- مجمعون على أن غسلَ ما علاهما من أجفانهما دون إيصال الماء إلى ما تحت الأجفان منهما مجزئ. فإذْ كان ذلك منهم إجماعا بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على ذلك، فنظير ذلك كل ما علاه شيء من مواضع الوضوء من جسد ابن آدم من نفس خلقه ساتِرَه لا يصل الماء إليه إلا بكلفة ومؤنة وعلاج، قياسا لما ذكرنا من حكم العينين في ذلك. فإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن مثلَ العينين في مؤنة إيصال الماء إليهما عند الوضوء ما بطن من الأنف والفم وشَعَر اللحية والصدغين والشاربين، لأن كل ذلك لا يصل الماء إليه إلا بعلاجٍ لإيصال الماء إليه نحو كلفة علاج الحدقتين لإيصال الماء إليهما أو أشدّ. وإذا كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أن غسل مَنْ غسل من الصحابة والتابعين ما تحت منابت شعر اللحية والعارضين والشاربين، وما بطن من الأنف والفم، إنما كان إيثارًا منه لأشق الأمرين عليه: من غسل ذلك وترك غسله، كما آثر ابن عمر غسل ما تحت أجفان العينين بالماء بصبِّه الماء في ذلك لا على أنّ ذلك كان عليه عنده فرضا واجبا. فأما من ظنّ أن ذلك من فعلهم كان على وجه الإيجاب والفرض، فإنه خالف في ذلك بقوله منهاجَهم وأغفل سبيلَ القياس، لأن القياس هو ما وصفنا من تمثيل المختلف فيه من ذلك، بالأصل المجمع عليه من حكم العينين وأنْ لا خبر عن واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب على تارك إيصال الماء في وضوئه إلى أصول شعر لحيته وعارضيه، وتارك المضمضة والاستنشاق إعادةَ صلاته إذا صلى بطهره ذلك. ففي ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا من أن فعلهم ما فعلوا من ذلك كان إيثارا منهم لأفضل الفعلين من الترك والغسل. فإن ظن ظان أن في الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إذا توضأ أحدكم فليستنثر » . دليلا على وجوب الاستنثار، فإن في إجماع الحجة على أن ذلك غيرُ فرض واجب، يجب على من تركه إعادة الصلاة التي صلاها قبل غسله، ما يغني عن إكثار القول فيه. وأما الأذنان فإن في إجماع جميعهم على أن ترك غسلهما، أو غسل ما أقبل منهما مع الوجه، غيُر مفسد صلاةَ من صلى بطهره الذي ترك فيه غسلهما مع إجماعهم جميعا على أنه لو ترك غسل شيء مما يجب عليه غسله من وجهه في وضوئه أن صلاته لا تجزئه بطهوره ذلك ما ينبئ عن أنّ القول في ذلك ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا قولهم: إنهما ليسا من الوجه دون ما قاله الشعبي. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « المرافق » ، هل هي من اليد الواجب غسلها، أم لا؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب. فقال مالك بن أنس وسئل عن قول الله: « فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ » أترى أن يخلف المرفقين في الوضوء؟ قال: الذي أمر به أن يُبْلغ « المرفقين » ، قال تبارك وتعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فذهب هذا يغسل خلفه!! فقيل له: فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما؟ فقال، لا أدري « ما لا يجاوزهما » أما الذي أمر به أن يبلغ به فهذا: إلى المرفقين والكعبين حدثنا يونس، عن أشهب عنه. وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن المرافق فيما يغسل، كأنه يذهب إلى أن معناها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى أن تُغْسَل المرافق حدثنا بذلك عنه الربيع. وقال آخرون: إنما أوجب الله بقوله: « وأيديكم إلى المرافق » غسلَ اليدين إلى المرفقين، فالمرفقان غايةٌ لما أوجب الله غسله من آخر اليد، والغاية غير داخلة في الحدِّ، كما غير داخل الليلُ فيما أوجب الله تعالى على عباده من الصوم بقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [ سورة البقرة: 187 ] لأن الليل غاية لصوم الصائم، إذا بلغه فقد قضى ما عليه. قالوا: فكذلك المرافق في قوله: « فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ » غاية لما أوجب الله غسلَه من اليد. وهذا قول زُفَر بن الهذيل. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إن تركه أو شيئا منه تارك، لم تجزه الصلاة مع تركه غسلَه. فأما المرفقان وما وراءهما، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندبَ إليه صلى الله عليه وسلم أمته بقوله: « أمتي الغرُّ المحجلون من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته فليفعل أمتي » فلا تفسد صلاة تاركِ غسلِهما وغسل ما وراءهما، لما قد بينا قبلُ فيما مضى: من أن كل غاية حُدَّت بـ « إلى » فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحدّ وخروجها منه. وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه، إلا لمن لا يجوز خلافه فيما بيَّن وحَكم، ولا حُكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا ممن يجب التسليم بحكمه. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة « المسح » الذي أمر الله به بقوله: « وامسحوا برءوسكم » . فقال بعضهم: وامسحوا بما بدا لكم أن تمسحوا به من رءوسكم بالماء، إذا قمتم إلى الصلاة. ذكر من قال ذلك: حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حماد بن مسعدة، عن عيسى بن حفص قال: ذكر عند القاسم بن محمد مسحُ الرأس فقال: يا نافع كيف كان ابن عمر يمسح؟ فقال، مسحةً واحدة ووصف أنه مسح مقدَّم رأسه إلى وجهه فقال القاسم: ابن عمر أفقهُنا وأعلمُنا. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني نافع: أن ابن عمر كان إذا توضأ ردَّ كفه اليمنى إلى الماء ووضعهما فيه، ثم مسح بيديه مقدَّم رأسه. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكير، قال أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان يضع بطن كفه اليمنى على الماء، لا ينفضهما ثم يمسح بها ما بين قَرْنيه إلى الجبين واحدًة، ثم لا يزيد عليها في كل ذلك مسحةٌ واحدة، مقبلةً من الجبين إلى القرن. حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ مسح مقدَّم رأسه. حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: يجزيك أن تمسح مقدَّم رأسك إذا كنت معتمرا. وكذلك تفعل المرأة. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الله الأشجعي، عن سفيان، عن ابن عجلان، عن نافع قال: رأيت ابن عمر مسح بَيافوخه مسحة وقال سفيان: إن مسح شعرةً أجزأه يعني واحدةً. حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: أيّ جوانب رأسك أمْسَسْتَ الماء أجزأك. حدثنا أبو هشام قال، حدثنا علي بن ظبيان قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: أي جوانب رأسك أمسست الماء أجزأك. حدثنا الرفاعي قال، حدثنا وكيع، عن إسماعيل الأزرق، عن الشعبي، مثله. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع قال: كان ابن عمر يمسح رأسه هكذا فوضع أيوب كفّه وسط رأسه، ثم أمرَّها على مقدَّم رأسه. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن سفيان، قال: إن مسح رأسه بأصبع واحدة أجزأه. حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لأبي عمرو: ما يجزئ من مسح الرأس؟ قال: أن تمسح مقدَّم رأسك إلى القفا أحبُّ إلّي. حدثني العباس بن الوليد، عن أبيه، عنه، نحوه. وقال آخرون: معنى ذلك: فامسحوا بجميع رءوسكم. قالوا: إن لم يمسح بجميع رأسه بالماء، لم تجزِه الصلاة بوضوئه ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا أشهب قال، قال مالك: من مسح بعضَ رأسه ولم يعمَّ أعاد الصلاة بمنـزلة من غسل بعضَ وجهه أو بعضَ ذراعه. قال، وسئل مالك عن مسح الرأس، قال: يبدأ من مقدَّم وجهه، فيدير يديه إلى قفاه، ثم يردُّهما إلى حيث بدأ منه. وقال آخرون: لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع. وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله جل ثناؤه أمر بالمسح برأسه القائمَ إلى صلاته مع سائر ما أمره بغسله معه أو مسحه، ولم يحدَّ ذلك بحدٍّ لا يجوز التقصير عنه ولا يجاوزه. وإذ كان ذلك كذلك، فما مسح به المتوضئ من رأسه فاستحقَّ بمسحه ذلك أن يقال: « مسح برأسه » ، فقد أدّى ما فرض الله عليه من مسح ذلك لدخوله فيما لزمه اسم « ماسحٍ برأسه » إذا قام إلى صلاته. فإن قال لنا قائل: فإن الله قد قال في التيمم: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [ سورة النساء: 43 ] أفيجزئ المسحُ ببعض الوجه واليدين في التيمم؟ قيل له: كلَّ ما مسح من ذلك بالتراب، فيما تنازعت فيه العلماء فقال بعضهم: « يجزيه ذلك من التيمم » وقال بعضهم: « لا يجزيه » فهو مجزئه، لدخوله في اسم « الماسحين به » . وما كان من ذلك مجمعا على أنه غير مجزئه، فمسلَّم لما جاءت به الحجة نقلا عن نبيِّها صلى الله عليه وسلم. ولا حجة لأحد علينا في ذلك، إذ كان من قولنا: إن ما جاء في آي الكتاب عامًّا في معنىً، فالواجب الحكم أنه على عمومه، حتى يخصه ما يجب التسليم له، فإذا خُصَّ منه شيء، كان ما خُصَّ منه خارجا من ظاهره، وحكم سائره على العموم. وقد بيَّنا العلة الموجبة صحة القول بذلك في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. و « الرأس » الذي أمر الله جل وعز بالمسح به بقوله: « وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ » هو منابت شعر الرأس، دون ما جاوز ذلك إلى القفا ممَّا استدبر، ودون ما انحدر عن ذلك مما استقبلَ من قِبل وجه إلى الجبهة. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه جماعة من قرأة الحجاز والعراق: ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) ، نصبًا، فتأويله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم إلى المرافق وأرجلَكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم وإذا قرئ كذلك، كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون « الأرجل » منصوبة عطفا على « الأيدي » . وتأول قارئو ذلك كذلك، أن الله جل ثناؤه: إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها. ذكر من قال: عنى الله بقوله: « وأرجلكم إلى الكعبين » الغسلَ. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة أن رجلا صلى وعلى ظهر قدمه موضع ظُفُر، فلما قضى صلاته، قال له عمر: أعدْ وضوءك وصلاتَك. حدثنا حميد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا عبد الله بن حسن قال، حدثنا هزيل بن شرحبيل، عن ابن مسعود قال: خلِّلوا الأصابع بالماء، لا تخلَّلها النارُ. حدثنا عبد الله بن الصباح العطار قال، حدثنا حفص بن عمر الحوضي، قال، حدثنا مُرجَّى يعني: ابن رجاء اليشكري قال، حدثنا أبو روح عمارة بن أبي حفصة، عن المغيرة بن حنين: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتوضأ وهو يغسل رجليه، فقال: بهذا أمرت. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن واقد مولى زيد بن خليدة، قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: رأى عمر بن الخطاب قوما يتوضأون فقال: خلِّلوا. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى قال، سمعت القاسم قال: كان ابن عمر يخلع خفَّيه، ثم يتوضأ فيغسل رجليه، ثم يخلِّل أصابعه. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم قال: قلت للأسود: رأيتَ عمر يغسل قدميه غَسْلا؟ قال: نعم. حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا إسحاق بن منصور، قال، حدثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمر بن عبد العزيز: أنه قال لابن أبي سويد: بلغنا عن ثلاثة كلهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يغسل قدميه غسلا أدناهم ابن عمك المغيرة. حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا الصباح، عن محمد وهو ابن أبان عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: اغسلوا الأقدام إلى الكعبين. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن أبي قلابة: أن عمر بن الخطاب رأى رجلا قد ترك على ظهر قدمه مثل الظُفُر، فأمره أن يعيد وضوءه وصلاته. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن شيبة بن نِصاح قال: صحبت القاسم بن محمد إلى مكة، فرأيته إذا توضأ للصلاة يُدخل أصابع رجليه يصب عليها الماء، قلت: يا أبا محمد، لم تصنع هذا؟ قال: رأيت ابن عمر يصنعه. حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي، عن حماد، عن إبراهيم في قوله: « فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ » قال: عاد الأمرُ إلى الغسل. حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال، حدثنا أبي، عن حفص الغاضري، عن عامر بن كليب، عن أبي عبد الرحمن قال: قرأ عليَّ الحسن والحسين رضوان الله عليهما، فقرآ: ( وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فسمع علي رضى الله عنه ذلك وكان يقضي بين الناس فقال: « وَأَرْجُلَكُمْ » ، هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب بن عبد الأعلى، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه قرأها: ( فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب، وقال: عاد الأمر إلى الغسل. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه قرأها: ( وَأَرْجُلَكُمْ ) وقال: عاد الأمر إلى الغسل. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن المبارك، عن قيس، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: أنه كان يقرأ: ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: « فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ » ، فيقول: اغسلوا وجوهكم، واغسلوا أرجلكم، وامسحوا برءوسكم. فهذا من التقديم والتأخير. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن شيبان، قال، أثبت لي عن علي أنه قرأ: ( وَأَرْجُلَكُمْ ) . حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: ( وأرجلكم ) رجع الأمر إلى الغسل. حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خالد، عن عكرمة، مثله. حدثني المثنى، قال، حدثنا الحماني، قال، حدثنا شريك، عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأونها: ( وَأَرْجُلَكُمْ ) فيغسلون. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: اغسل القدمين إلى الكعبين. حدثني عبد الله بن محمد الزهري قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي السوداء، عن ابن عبد خير، عن أبيه قال: رأيت عليًّا توضأ، فغسل ظاهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَل ذلك، ظننت أن بَطْنَ القدم أحقُّ من ظاهرها. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء قال: لم أر أحدا يمسح على القدمين. حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن مجاهد أنه قرأ: ( وَأرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فنصبها، وقال: رجع إلى الغسل. حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا جابر بن نوح قال، سمعت الأعمش يقرأ: ( وَأَرْجُلَكُمْ ) بالنصب. حدثني يونس، قال، أخبرنا أشهب قال: سئل مالك عن قول الله: « وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ » أهي: « أرجلَكم » أو « أرجلِكم » ؟ فقال: إنما هو الغسل وليس بالمسح، لا تُمْسح الأرجل، إنما تُغسل. قيل له: أفرأيت من مسح أيجزيه ذلك؟ قال: لا. حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك: « وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ » قال: اغسلوها غسلا. وقرأ ذلك آخرون من قراء الحجاز والعراق: ( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ ) بخفض « الأرجل » . وتأول قارئو ذلك كذلك: أنّ الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها، وجعلوا « الأرجل » عطفا على « الرأس » ، فخفضوها لذلك. ذكر من قال ذلك من أهل التأويل: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن قيس الخراساني، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الوضوء غَسْلتان ومَسْحتان. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن حميد ح، وحدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا حميد قال، قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة إن الحجاج خطبَنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطَّهور فقال: « اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم، وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرَب إلى خَبَثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورَهما وعَرَاقيبهما » . فقال أنس: صدق الله وكذبَ الحجاج، قال الله: « وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ » قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلَّهما. حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا حماد قال، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس قال: نـزل القرآن بالمسح، والسنة الغسلُ. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن موسى بن أنس قال: خطب الحجاج فقال: « اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلَكم، ظهورَهما وبطونَهما وعراقيبَهما، فإن ذلك أدنى إلى خبثكم » . قال أنس: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله: « وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ » . حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة قال: ليس على الرجلين غسل، إنما نـزل فيهما المسح. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: امسح على رأسك وقدميك. حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: نـزل جبريل بالمسح. قال: ثم قال الشعبي: ألا ترى أن « التيمم » أن يمسح ما كان غسلا ويُلغِي ما كان مسحًا ؟ حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: أُمر بالتيمم فيما أُمر به بالغسل. حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي أنه قال: إنما هو المسح على الرجلين، ألا ترى أنه ما كان عليه الغسل، جعل عليه المسح، وما كان عليه المسح أهمل؟ حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر أنه قال: أمر أن يمسح في التيمم، ما أمر أن يغسل في الوضوء، وأبطل ما أمر أن يُمسح في الوضوء: الرأس والرجلان. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي قال: أمر أن يمسح بالصعيد في التيمم، ما أمر أن يغسل بالماء. وأهمِل ما أمر أن يمسح بالماء. حدثنا ابن أبي زياد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا إسماعيل قال: قلت لعامر: إن ناسًا يقولون إن جبريل صلى الله عليه وسلم نـزل بغسل الرجلين! فقال: نـزل جبريل بالمسح. حدثنا أبو بشر الواسطي إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن يونس قال، حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه، إنما يمسح عليهما، حتى خرج منها. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ » افترض الله غَسلتين ومسحتين. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش، عن يحيى بن وثَاب، عن علقمة: أنه قرأ: « وَأَرْجُلِكُمْ » مخفوضة « اللام » . حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش، مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو الحسين العكلي، عن عبد الوارث، عن حميد، عن مجاهد: أنه كان يقرأ: « وَأَرْجُلِكُمْ » . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال، كان الشعبي يقرأ: « وَأَرْجُلِكُمْ » بالخفض. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الحسن بن صالح، عن غالب، عن أبي جعفر، أنه قرأ: « وَأَرْجُلِكُمْ » بالخفض. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك: أنه قرأ « وَأَرْجُلِكُمْ » بالكسر. قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك، أن الله عزّ ذكره أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم. وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ، كان مستحقًّا اسم « ماسحٍ غاسلٍ » ، لأن « غسلهما » إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء. و « مسحهما » ، إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما. فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو « غاسل ماسح » . ولذلك من احتمال « المسح » المعنيين اللذين وصفتُ من العموم والخصوص اللذين. أحدهما مسح ببعض والآخر مسح بالجميع اختلفت قراءة القرأة في قوله: « وأرجلكم » فنصبها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكارًا منه المسح عليهما، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم مسحهما بالماء. وخفضها بعضهم، توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح. ولما قلنا في تأويل ذلك إنه معنّي به عموم مسح الرجلين بالماء كره من كره للمتوضئ الاجتزاءَ بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده، أو بما قام مقام اليد، توجيها منه قوله: « وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ » إلى مسح جميعهما عامًّا باليد، أو بما قام مقام اليد، دون بعضهما مع غسلهما بالماء، كما:- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا نافع، عن ابن عمر عن الأحول، عن طاوس، أنه سئل عن الرجل يتوضأ ويدخل رجليه في الماء. قال: ما أعدُّ ذلك طائلا. وأجاز ذلك من أجاز، توجيهًا منه إلى أنه معنيٌّ به الغسل. كما:- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت هشاما يذكر، عن الحسن، في الرجل يتوضأ في السفينة، قال: لا بأس أن يغمس رجليه غمسًا. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال: أخبرني أبو حرّة، عن الحسن في الرجل إذا توضأ على حرف السفينة، قال: يخضخِضُ قدميه في الماء. فإذا كان « المسحَ » المعنيان اللذان وصفنا: من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما به وكان صحيحًا بالأدلّة الدالة التي سنذكرها بعدُ، أنّ مراد الله من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى « الغسل » و « المسح » فبيِّنٌ صواب قرأة القراءتين جميعًا أعني النصب في « الأرجل » والخفض. لأن في عموم الرجلين بمَسحهما بالماء غسلُهما، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحُهما. فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومها بإمرار الماء عليهما. ووجهُ صواب قراءة من قرأه خفضا، لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد، مسحا بهما. غير أنّ ذلك وإن كان كذلك، وكانت القراءتان كلتاهما حسنًا صوابًا، فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها، قراءة من قرأ ذلك خفضًا، لما وصفت من جمع « المسح » المعنيين اللذين وصفت، ولأنه بعد قوله: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ فالعطف به على « الرءوس » مع قربه منه، أولى من العطف به على « الأيدي » ، وقد حيل بينه وبينها بقوله: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ . فإن قال قائل: وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم، دون أن يكون خصوصًا، نظيرَ قولك في المسح بالرأس؟ قيل: الدليل على ذلك، تظاهرُ الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ويل للأعقاب وبُطون الأقدام من النار » . ولو كان مسح بعض القدم مجزئا عن عمومها بذلك لما كان لها الويل بترك ما تُرك مسحه منها بالماء بعد أن يُمسح بعضها. لأن من أدَّى فرض الله عليه فيما لزمه غسلُه منها لم يستحق الويل، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل. وفي وجوب الويل لعَقِب تارك غسل عَقِبه في وضوئه، أوضحُ الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء، وصحةِ ما قلنا في ذلك، وفسادِ ما خالفه. ذكر بعض الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا: حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد قال: كان أبو هريرة يمرُّ ونحن نتوضأ من المَطْهَرة، فيقول: أسبغوا الوضوء، أسبغوا الوضوء، قال أبو القاسم: ويلٌ للعراقيبِ من النار. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه إلا أنه قال: ويل للأعقاب من النار. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن محمد بن زياد قال: كان أبو هريرة يمرّ بأناس يتوضأون يُسِيئون الطهور، فيقول: أسبغوا الوضوء، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ويلٌ للعَقِب من النار. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثني سليمان بن بلال قال، حدثني سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار يوم القيامة. حدثني إسحاق بن شاهين وإسماعيل بن موسى قالا حدثنا خالد بن عبد الله، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ويلٌ للأعقاب من النار وقال إسماعيل في حديثه: ويلٌ للعراقيب من النار » . حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم الدوسي قال: دخلت مع عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة، فدعا بوضوء، فقالت عائشة: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار. . حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عمر بن يونس الحنفي قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثنا يحيى بن أبي كثير قال، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال، حدثني أبو سالم مولى المَهْري هكذا قال عمر بن يونس قال: خرجت أنا وعبد الرحمن بن أبي بكر في جنازة سعد بن أبي وقاص قال: فمررت أنا وعبد الرحمن على حُجرة عائشة أخت عبد الرحمن، فدعا عبد الرحمن بوضوء، فسمعت عائشة تناديه: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ويل للأعقاب من النار » . حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم مولى دَوْس قال: سمعت عائشة تقول لأخيها عبد الرحمن: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ويل للأعقاب من النار » . حدثني يعقوب وسوار بن عبد الله، قالا حدثنا يحيى القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة، أن عائشة رأت عبد الرحمن يتوضأ فقالت: أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار. . حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا ابن عيية ويحيى بن سعيد القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي سلمة، قال، رأت عائشة عبد الرحمن يتوضأ، فقالت: أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويلٌ للعراقيب من النار. . حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال: أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا أبو الأسود: أنّ أبا عبد الله مولى شدّاد بن الهاد حدّثه: أنه دخل على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعندها عبد الرحمن، فتوضأ عبد الرحمن، ثم قام فأدبر، فنادته عائشة فقالت: يا عبد الرحمن! فأقبل عليها، فقالت له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويلٌ للأعقاب من النار. . حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال، حدثني أبو إسحاق، عن سعيد أو: شعيب بن أبي كرب قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ويل للعراقيب من النار » . حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا النضر قال، أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، سمعت ابن أبي كرب قال، سمعت جابر بن عبد الله قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « ويل للعَقِب أو: العراقيب من النار » . حدثني إسماعيل بن محمود الحجيري، قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، سمعت سعيدا يقول، سمعت جابرا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار. . حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا حدثنا عبد الرحمن، قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: سَمِع أذني من النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: سمع أذني من النبي صلى الله عليه وسلم: « ويلٌ للعراقيب من النار! أسبغوا الوضوء » . حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا الوليد بن القاسم، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يتوضأ، وبقي من عَقِبه شيء، فقال: ويلٌ للعراقيب من النار. . حدثني علي بن مسلم قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى قوما يتوضأون لم يُصب أعقابَهم الماءُ، فقال: ويل للعراقيب من النار. . حدثنا أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو قال، حدثنا خلف بن الوليد قال، حدثني أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتوضأون، فرأى أعقابهم تلوح، فقال: « ويلٌ للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء » . حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى الأعرج، عن عبد الله بن عمرو قال: أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتوضأون لم يتمُّوا الوضوء، فقال: أسبغوا الوضوء، ويلٌ للعراقيب أو: الأعقاب من النار! حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن رجل من أهل مكة، عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضأون، فلم يتمُّوا الوضوء، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار. . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضأون وأعقابُهم تلوح، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن منصور، عن هلال، عن أبي يحيى مولى عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فسبقنا ناس فتوضأوا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء، فقال « ويلٌ للعراقيب من النار! أسبغوا الوضوء » حدثني علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار! قال: فما بقي في المسجد شريفٌ ولا وضيع إلا نظرتُ إليه يقلِّب عُرْقوبيه ينظر إليهما. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسين، عن زائدة، عن ليث قال، حدثني عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة أو: أخي أبى أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر أقواما يتوضأون، وفي عَقِب أحدهم أو كعب أحدهم مثلُ موضع الدرهم أو: موضع الظفُر لم يمسَّه الماء، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار! فقال: فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئا لم يصبه الماء أعادَ وضوءه. . قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدّثكم به:- محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه، ثم قام فصلى. وما حدثك به:_ عبد الله بن الحجاج بن المنهال قال، حدثني أبي قال، حدثنا جرير بن حازم قال، سمعت الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سُبَاطة قوم فبال عليها قائما، ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه. وما حدثك به:- الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس قال: « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة قوم، فتوضأ ومسح على قدميه » وما أشبه ذلك من الأخبار الدالة على أن المسح ببعض الرجلين في الوضوء مجزئ؟ قيل له: أما حديث أوس بن أبى أوس فإنه لا دلالة فيه على صحة ذلك، إذ لم يكن في الخبر الذي روي عنه ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بعد حدَثٍ يوجب عليه الوضوء لصلاته، فمسح على نعليه، أو على قدميه. وجائز أن يكون مسحه على قدميه الذي ذكره أوس كان في وضوء توضأه من غير حدث كان منه وجب عليه من أجله تجديد وضوئه، لأن الرواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ لغير حدث، كذلك يفعل، يدل على ذلك ما:- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو مالك الجنبي، عن مسلم، عن حبة العرني قال: رأيت عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه شرب في الرحبة قائما، ثم توضأ ومسح على نعليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث، هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع. فقد أنبأ هذا الخبر عن صحة ما قلنا في معنى حديث أوس. فإن قال: فإن حديث أوس، وإن كان محتملا من المعنى ما قلت، فإنه محتمل أيضا ما قاله من قال أنه معنيٌّ به المسح على النعلين أو القدمين في وضوء توضأه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حدثٍ؟ قيل: أحسن حالات الخبر ما حُمِّل ما قلتَ، إن سلم له ما ادَّعى من احتماله ما ذكر من المسح على القدم أو النعل بعد الحدث، وإن كان ذلك غير محتمله عندنا، إذ كان غير جائز أن تكون فرائضُ الله وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم متنافيًة متعارضًة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمرُ بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء، بالنقل المستفيض القاطع عذرَ من انتهى إليه وبلَغه. وإذْ كان ذلك عنه صحيحا، فغير جائز أن يكون صحيحا عنه إباحةُ ترك غسل بعض ما قد أوجبَ فرضًا غَسْلَه في حال واحدة ووقت واحد، لأن ذلك إيجاب فرض وإبطاله في حال واحدة. وذلك عن أحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم منتفٍ. غير أنا إذا سلَّمنا لمن ادَّعى في حديث أوس ما ادعى من احتماله مسح النبيّ صلى الله عليه وسلم على قدمه في حال وضوء من حدَث، ثقًة منا بالفَلَج عليه، بأنه لا حجة له في ذلك قلنا: فإذا كان محتملا ما ادَّعيت، أفمحتمل هو ما قلناه إنّ ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم في حال وضوئه لا من حدث؟ فإن قال: « لا » ثبتت مكابرته لأنه لا بيان في خبر أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في وضوء من حدث. وإن قال: « بل هو محتمل ما قلتَ ومحتمل ما قلنا » . قيل له: فما البرهان على أن تأويلك الذي ادَّعيتَ فيه أولى به من تأويلنا؟ فلن يدّعي برهانا على صحة دعواه في ذلك، إلا عُورض بمثله في خلاف دعواه. وأما حديث حذيفة فإن الثِّقات الحفَّاظ من أصحاب الأعمش حدثوا به، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة: « أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة قوم فبال قائما، ثم توضأ ومسح على خفيه » . حدثنا بذلك أحمد بن عبدة الضبي قال، حدثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. ح، حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن حذيفة. ح، حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. ح، حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة. ح، حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثنا عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة. ح، حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. . وكل هؤلاء يحدّث ذلك عن الأعمش، بالإسناد الذي ذكرنا عن حذيفة: « أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه » ، وهم أصحاب الأعمش. ولم ينقل هذا الحديث عن الأعمش غير جرير بن حازم. ولو لم يخالفه في ذلك مخالف، لوجب التثبت فيه لشذوذه، فكيف والثِّقات من أصحاب الأعمش يخالفونه في روايته ما روى من ذلك!! ولو صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كان جائزا أن يكون مسح على نعليه وهما ملبوستان فوق الجوربين، وإذا جاز ذلك لم يكن لأحد صرفُ الخبر إلى أحد المعاني المحتمِلِها الخَبرُ إلا بحجة يجب التسليم لها. القول في تأويل قوله عز ذكره : إِلَى الْكَعْبَيْنِ قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في « الكعب » . فقال بعضهم بما:- حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا القاسم بن الفضل الحدّاني، قال، قال أبو جعفر: أين « الكعبين » ؟ فقال القوم: هاهنا. فقال: هذا رأس الساق! ولكن « الكعبين » هما عند المفصل حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال، قال مالك: « الكعب » الذي يجب الوضوء إليه، هو الكعب الملتصق بالساق المحاذِي العقب، وليس بالظاهر في ظاهر القدم. وقال آخرون بما:- حدثنا الربيع قال، قال الشافعي: لم أعلم مخالفًا في أن « الكعبين » اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء، هما الناتئان وهما مجمع مَفْصِل الساق والقدم قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن « الكعبين » هما العظمان اللذان في مفصل الساق والقدم، تسمِّيهما العرب « المِنْجَمين » . وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: هما عظما الساق في طرفها واختلف أهل العلم في وجوب غسلهما في الوضوء وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من الرجلين نحو اختلافهم في وجوب غسل المرفقين، وفي الحد الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من اليدين. وقد ذكرنا ذلك ودللنا على الصحيح من القول فيه بعلله فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « وإن كنتم جنبا » وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها « فاطَّهَّروا » ، يقول: فتطهّروا بالاغتسال منها قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها. ووحَّد « الجُنب » وهو خبر عن الجميع، لأنه اسم خرج مخرج الفعل كما قيل: « رجل عَدْل وقوم عدل » ، و « رجل زَوْرٌ وقوم زَوْرٌ » ، وما أشبه ذلك لفظ الواحد والجميع والاثنين والذكر والأنثى فيه واحد. يقال منه: « أجنَب الرجل » و « جَنُب » و « اجتَنَب » والفعل « الجنابة » ، و « الاجناب » . وقد سمع في جمعه « أجناب » ، وليس ذلك بالمستفيض الفاشي في كلام العرب، بل الفصيح من كلامهم ما جاء به القرآن . القول في تأويل قوله عز ذكره : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: إن كنتم جرحى أو مُجَدَّرين وأنتم جنب وقد بيَّنا أن ذلك كذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته . وأما قوله: « أو على سفر » فإنه يقول: وإن كنتم مسافرين وأنتم جنب « أو جاء أحد منكم من الغائط » يقول: أو جاء أحدكم وقد قضى حاجته فيه وهو مسافر. وإنما عنى بذكر مجيئه منه قضاء حاجته فيه . « أو لامستم النساء » يقول أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في « اللمس » وبينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى بما أغنى عن إعادته . فإن قال قائل: وما وجه تكرير قوله: « أو لامستم النساء » إن كان معنى « اللمس » الجماع، وقد مضى ذكر الواجب عليه بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ؟ قيل: وجه تكرير ذلك أن المعنى الذي ألزمه تعالى ذكره من فرضه بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا غيُر المعنى الذي ألزمه بقوله: « أو لامستم النساء » وذلك أنه بيَّن حكمه في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا إذا كان له السبيل إلى الماء الذي يطهّره، ففرض عليه الاغتسال به ثم بيَّن حكمه إذا أعوزه الماء فلم يجد إليه السبيلَ وهو مسافر غير مريض مقيم، فأعلمه أن التيمم بالصعيد له حينئذ الطهور. القول في تأويل قوله : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا » فإن لم تجدوا أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون، أو على سفر أصحَّاء، أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته، أو جامع أهلَه في سفره « ماء فتيمموا صعيدا طيبا » ، يقول: فتعمَّدوا واقصدوا وجه الأرض « طيبا » ، يعني: طاهرا نظيفا غير قذر ولا نجس، جائزا لكم حلالا « فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه » يقول: فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه وتعمدتموه بأيديكم، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم مما عَلِق بأيديكم « منه » ، يعني: من الصعيد الذي ضربتموه بأيديكم من تُرابه وغباره. وقد بينا فيما مضى كيفية « المسح بالوجوه والأيدي منه » واختلاف المختلفين في ذلك والقول في معنى « الصعيد » و « التيمم » ، ودللنا على الصحيح من القول في كل ذلك بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع . القول في تأويل قوله عز ذكره : مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج » ما يريد الله بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم، والغُسل من جنابتكم والتيمم صعيدا طيبا عند عدمكم الماء « ليجعل عليكم من حرج » ليلزمكم في دينكم من ضيق، ولا ليعنتكم فيه. وبما قلنا في معنى « الحرج » قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن خالد بن دينار، عن أبي العالية وعن أبي مكين، عن عكرمة في قوله: « من حرج » قالا من ضيق. حدثنا محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « من حرج » من ضيق. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 6 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ولكن يريد ليطهركم » ولكن الله يريد أن يطهِّركم بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث والغسلِ من الجنابة، والتيمم عند عدم الماء، فتنظفوا وتطهّروا بذلك أجسامكم من الذنوب . كما:- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد قال، حدثنا قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الوضوء يكفّر ما قبله، ثم تصير الصلاة نافلة. قال قلت: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غيرَ مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، ولا خمس . حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة صديّ بن عجلان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه . حدثنا أبو كريب، ومحمد بن المثنى ويحيى بن داود الواسطي، قالوا، حدثنا إبراهيم بن يزيد مردانبه القرشي قال، أخبرنا رقبة بن مصقلة العبدي، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أبي إمامة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه » حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور عن سالم بن أبي الجعد، عن كعب بن مرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو: ذراعيه إلا خرجت خطاياه منهما، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه » . حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا حاتم، عن محمد بن عجلان، عن أبى عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن عمرو بن عبسة: أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا غسل المؤمن كفّيه انتثرت الخطايا من كفَّيه، وإذا تمضمض واستنشق خرجت خطاياه من فيه ومنخريه، وإذا غسل وجهه خرجت من وجهه حتى تخرج من أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت من يديه، فإذا مسح رأسه وأذنيه خرجت من رأسه وأذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت حتى تخرج من أظفار قدميه، فإذا انتهى إلى ذلك من وضوئه كان ذلك حظّه منه، فإذ قام فصلى ركعتين مقبلا فيهما بوجهه وقلبه على ربه، كان من خطاياه كيوم ولدته أمّه » حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني مالك بن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال، « إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، أو نحو هذا. وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشت بها يداه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب » . حدثنا عمران بن بكار الكلاعي، قال، حدثنا علي بن عياش، قال، حدثنا أبو غسان، قال، حدثنا زيد بن أسلم، عن حمران مولى عثمان قال، أتيت عثمان بن عفان بوضوء وهو قاعد، فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ كوضوئي هذا. ثم قال: من توضأ وضوئي هذا كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وكانت خُطاه إلى المساجد نافلة. وقوله: « وليتم نعمته عليكم » فإنه يقول: ويريد ربكم مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة بالماء إن وجدتموه، وتيممكم إذا لم تجدوه أن يتم نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا، رخصة منه لكم في ذلك مع سائر نِعَمه التي أنعم بها عليكم أيها المؤمنون « لعلكم تشكرون » يقول: لكي تشكروا الله على نعمه التي أنعمها عليكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم . القول في تأويل قوله عز ذكره : وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 7 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: واذكروا نعمة الله عليكم أيها المؤمنون، بالعقود التي عقدتموها لله على أنفسكم، واذكروا نعمته عليكم في ذلك بأن هداكم من العقود لما فيه الرضا، ووفقكم لما فيه نجاتكم من الضلالة والرَّدَى في نِعم غيرها جَمّة. كما:- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « واذكروا نعمة الله عليكم » قال، النعم: آلاءُ الله. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وأما قوله: « وميثاقه الذي واثقكم به » فإنه يعني: واذكروا أيضا أيها المؤمنون، في نعم الله التي أنعم عليكم « ميثاقه الذي واثقكم به » ، وهو عهده الذي عاهدكم به. واختلف أهل التأويل في « الميثاق » الذي ذكر الله في هذه الآية، أيَّ مواثيقه عَنى؟ فقال بعضهم: عنى به ميثاقَ الله الذي واثقَ به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له فيما أحبّو وكرهوا، والعمل بكل ما أمرهم الله به ورسوله. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: « واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا » الآية، يعني: حيث بعث الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأنـزل عليه الكتاب، فقالوا: « آمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالكتاب، وأقررنا بما في التوراة » ، فذكّرهم الله ميثاقَه الذي أقروا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء به. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا » ، فإنه أخذ ميثاقنا فقلنا: سمعنا وأطعنا على الإيمان والإقرار به وبرسوله. وقال آخرون: بل عنى به جلّ ثناؤه: ميثاقه الذي أخذ على عباده حين أخرجهم من صُلب آدم صلى الله عليه وسلم، وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ بربكم؟ فقالوا: بلى شهدنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وميثاقه الذي واثقكم به » قال: الذي واثق به بني آدم في ظهر آدم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. ثال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك: قولُ ابن عباس، وهو أن معناه: « واذكروا » أيها المؤمنون « نعمة الله عليكم » التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم للإسلام « وميثاقه الذي واثقكم به » ، يعني: وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له في المنشَط والمكرَه، والعُسر واليُسر « إذ قلتم سمعنا » ما قلت لنا، وأخذت علينا من المواثيق وأطعناك فيما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأنعم عليكم أيضا بتوفيقكم لقبول ذلك منه بقولكم له: « سمعنا وأطعنا » ، يقول: ففُوا لله، أيها المؤمنون بميثاقه الذي واثقكم به، ونعمته التي أنعم عليكم في ذلك بإقراركم على أنفسكم بالسمع له والطاعة فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، يَفِ لكم بما ضمن لكم الوفاءَ به إذا أنتم وفيتم له بميثاقه، من إتمام نعمته عليكم، وبإدخالكم جنته وإنعامكم بالخلود في دار كرامته، وإنقاذكم من عقابه وأليم عذابه. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال: « عنى به الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم صلوات الله عليه » ، لأن الله جل ثناؤه ذكرَ بعقب تذكرة المؤمنين ميثاقَه الذي واثقهم به، ميثاقَه الذي واثق به أهل التوراة بعد ما أنـزل كتابه على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم فيها، فقال: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ، الآيات بعدها [ سورة المائدة: 12 ] مُنبِّهًا بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد على مواضع حظوظهم من الوفاء لله بما عاهدهم عليه ومعرِّفَهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه الذي واثقهم به في أمره ونهيه، وتعزير أنبيائه ورسله زاجرًا لهم عن نكث عهودهم، فيُحلّ بهم ما أحلَّ بالناكثين عهوده من أهل الكتاب قبلهم. فكان إذْ كان الذي ذكرهم فوعظهم به ونهاهم عن أن يركبوا من الفعل مثلَه، ميثاقَ قوم أخذ ميثاقهم بعد إرسال الرسول إليهم وإنـزال الكتاب عليهم واجبًا أن يكون الحال التي أخذ فيها الميثاق والموعوظين نظيرَ حال الذين وعظوا بهم. وإذا كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا صحة ما قلنا في ذلك وفسادُ خلافه. وأما قوله: « واتقوا الله إنّ الله عليم بذات الصدور » ، فإنه وعيد من الله جل اسمه للمؤمنين كانوا برسوله صلى الله عليه وسلم من أصحابه وتهدُّدًا لهم أن ينقضوا ميثاق الله الذي واثقهم به في رسوله وعهدهم الذي عاهدوه فيه بأن يضمروا له خِلاف ما أبدوا له بألسنتهم. . يقول لهم جل ثناؤه: واتقوا الله، أيها المؤمنون، فخافوه أن تبدِّلوا عهده وتنقضوا ميثاقه الذي واثقكم به، أو تخالفوا ما ضمنتم له بقولكم: « سمعنا وأطعنا » ، بأن تضمروا له غير الوفاء بذلك في أنفسكم، فإن الله مطلع على ضمائر صدوركم وعالم بما تخفيه نفوسكم لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيُحّل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به، كالذي حلَّ بمن قبلكم من اليهود من المسخ وصنوف النّقم، وتصيروا في معادِكم إلى سخط الله وأليم عقابه. القول في تأويل قوله عز ذكره : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيامُ لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم، ولا تقصِّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي، واعملوا فيه بأمري. وأما قوله: « ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا » فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة. وقد ذَكرنا الرواية عن أهل التأويل في معنى قوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [ سورة النساء: 135 ] وفي قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [ سورة المائدة: 2 ] واختلاف المختلفين في قراءة ذلك، والذي هو أولى بالصواب من القول فيه والقراءة بالأدلة الدالة على صحته، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقد قيل: إن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين همت اليهود بقتله. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى » ، نـزلت في يهود خيبر، أرادوا قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود يستعينهم في دية، فهمُّوا أن يقتلوه، فذلك قوله: « ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا » ... الآية. القول في تأويل قوله عز ذكره : اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 8 ) قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « اعدلوا » أيها المؤمنون، على كل أحد من الناس وليًّا لكم كان أو عدوًّا، فاحملوهم على ما أمرتكم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحد منهم عنه. وأما قوله: « هو أقرب للتقوى » فإنه يعني بقوله: « هو » العدلُ عليهم أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى، يعني: إلى أن تكونوا عند الله باستعمالكم إياه من أهل التقوى، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شيء من أمره، أو يأتوا شيئا من معاصيه. وإنما وصف جل ثناؤه « العَدْل » بما وصفه به من أنه « أقرب للتقوى » من الجور، لأن من كان عادلا كان لله بعدله مطيعًا، ومن كان لله مطيعا، كان لا شك من أهل التقوى، ومن كان جائرا كان لله عاصيا، ومن كان لله عاصيا، كان بعيدًا من تقواه. وإنما كنى بقوله: « هو أقرب » عن الفعل والعرب تكني عن الأفعال إذا كَنَتْ عنها بـ « هو » وبـ « ذلك » ، كما قال جل ثناؤه: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [ سورة البقرة: 271 ] و ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ [ سورة البقرة: 232 ] . ولو لم يكن في الكلام « هو » لكان « أقرب » نصبا، ولقيل: « اعدلوا أقربَ للتقوى » ، كما قيل: انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ [ سورة النساء: 171 ] . وأما قوله: « واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون » ، فإنه يعني: واحذروا أيها المؤمنون، أن تجوروا في عباده فتجاوزوا فيهم حكمه وقضاءَه الذين بيّن لكم، فيحلّ بكم عقوبته، وتستوجبوا منه أليم نكاله « إن الله خبير بما تعملون » ، يقول: إن الله ذو خبرة وعلم بما تعملون أيها المؤمنون فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، من عمل به أو خلافٍ له، مُحْصٍ ذلكم عليكم كلّه، حتى يجازيكم به جزاءَكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، فاتقوا أن تسيئوا. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ( 9 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات » ، وعد الله أيها الناس الذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به من عند ربهم، وعملوا بما واثقهم الله به، وأوفوا بالعقود التي عاقدَهم عليها بقولهم: « لنسمعن ولنطيعنَّ الله ورسوله » فسمعوا أمر الله ونهيه وأطاعوه، فعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه. ويعني بقوله: « لهم مغفرة » لهؤلاء الذين وفوا بالعقود والميثاق الذي واثقهم به ربهم « مغفرة » وهي ستر ذنوبهم السالفة منهم عليهم وتغطيتها بعفوه لهم عنها، وتركه عقوبتهم عليها وفضيحتهم بها « وأجر عظيم » يقول: ولهم مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم، جزاءً على أعمالهم التي عملوها ووفائهم بالعقود التي عاقدوا ربهم عليها « أجر عظيم » ، و « العظيم » من خيره غير محدود مبلغه، ولا يعرف منتهاه غيره تعالى ذكره. فإن قال قائل: إن الله جل ثناؤه أخبر في هذه الآية أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولم يخبر بما وعدهم، فأين الخبر عن الموعود؟ قيل: بلى إنه قد أخبَر عن الموعود، والموعود هو قوله: « لهم مغفرة وأجر عظيم » . فإن قال: فإن قوله: « لهم مغفرة وأجر عظيم » خبرٌ مبتدأ، ولو كان هو الموعود لقيل: « وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرًا عظيمًا » ، ولم يدخل في ذلك « لهم » ، وفي دخول ذلك فيه، دلالة على ابتداء الكلام، وانقضاء الخبر عن الوعد! قيل: إن ذلك وإن كان ظاهره ما ذكرتَ، فإنه مما اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام على ما بطن من معناه من ذكر بعضٍ قد ترك ذكره فيه، وذلك أن معنى الكلام: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يغفر لهم ويأجرهم أجرًا عظيما لأن من شأن العرب أن يُصْحِبوا « الوعد » « أن » ويعملوه فيها، فتركت « أن » إذ كان « الوعد » قولا. ومن شأن « القول » أن يكون ما بعده من جمل الأخبار مبتدأ، وذكر بعده جملة الخبر اجتزاءً بدلالة ظاهر الكلام على معناه، وصرفا للوعد الموافق للقول في معناه وإن كان للفظه مخالفا إلى معناه، فكأنه قيل: « قال الله: للذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجر عظيم » . وكان بعض نحويي البصرة يقول، إنما قيل: « وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم » ، في الوعد الذي وُعِدوا فكأن معنى الكلام على تأويل قائل هذا القول: وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات، لهم مغفرة وأجر عظيم، [ فيما وعدهم به ] . القول في تأويل قوله عز ذكره : وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 10 ) قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « والذين كفروا » والذين جحدوا وحدانية الله، ونقضوا ميثاقه وعقودَه التي عاقدوها إياه « وكذبوا بآياتنا » يقول: وكذبوا بأدلّة الله وحججه الدالة على وحدانيته التي جاءت بها الرسل وغيرها « أولئك أصحاب الجحيم » يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم أهل « الجحيم » ، يعني: أهل النار الذين يخلُدون فيها ولا يخرجون منها أبدًا. القول في تأويل قوله عز ذكره : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: « يا أيها الذين آمنوا » يا أيها الذين أقرُّوا بتوحيد الله ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربهم « اذكروا نعمة الله عليكم » ، اذكروا النعمة التي أنعم الله بها عليكم، فاشكروه عليها بالوفاء له بميثاقه الذي واثقكم به، والعقود التي عاقدتم نبيكم صلى الله عليه وسلم عليها. ثم وصف نعمته التي أمرهم جل ثناؤه بالشكر عليها مع سائر نعمه، فقال، هي كفُّه عنكم أيدي القوم الذين همُّوا بالبطش بكم، فصرفهم عنكم، وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم. ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذه النعمة التي ذكّر الله جل ثناؤه أصحابَ نبيه صلى الله عليه وسلم بها، وأمرهم بالشكر له عليها. فقال بعضهم: هو استنقاذ الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه مما كانت اليهود من بني النضير همُّوا به يوم أتوهم يستحملونهم دية العامريَّين اللذين قَتلهما عمرو بن أمية الضمري. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينَهم على دية العامريَّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمري. فلما جاءهم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا محمدًا أقرب منه الآن، فَمَن رجلٌ يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا. فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ، وانصرف عنهم، فأنـزل الله عز ذكره فيهم وفيما أرادَ هو وقومه: « يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذْ همَّ قومٌ أن يبسطوا إليكم أيديهم » ... الآية. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم » ، قال: اليهود دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطا لهم، وأصحابه من وراء جداره، فاستعانهم في مغَرِم ديةٍ غَرِمها، ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله، فخرج يمشي القَهقَرى ينظر إليهم، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تَتَامُّوا إليه. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « اذكروا نعمة الله عليكم إذ هَمَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم » يهودُ حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطا لهم، وأصحابه من وراء جدار لهم، فاستعانهم في مغرم، في الدية التي غرمها ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله، فخرج يمشي معترضا ينظرُ إليهم خِيفتَهم ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتامُّوا إليه. قال الله جل وعز: « فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ » . حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني أبو معشر، عن يزيد بن أبي زياد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير يستعينهم في عَقْلٍ أصابه ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال: أعينوني في عَقْلٍ أصابني. فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة! اجلس حتى نطعمَك ونعطَيك الذي تسألنا! فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه ينتظرونه، وجاء حُييّ بن أخطب وهو رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فقال حيي لأصحابه: لا ترونه أقربَ منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقْتُلوه، ولا ترون شرًّا أبدًا ! فجاءوا إلى رحًى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم، حتى جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم فأقامه من ثَمَّ، فأنـزل الله جل وعز: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ » ، فأخبر الله عزَّ ذكره نبيّه صلى الله عليه وسلم ما أرادوا به. حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: « يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم » الآية، قال، يهودُ، دخلَ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطا، فاستعانهم في مَغْرَمٍ غرمه، فائتمروا بينهم بقتله، فقام من عندهم فخرج معترِضًا ينظر إليهم خِيفتَهم، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتامُّوا إليه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الأنصاري أحدَ بني النجار وهو أحد النُّقباء ليلة العقبة فبعثه في ثلاثين راكبًا من المهاجرين والأنصار، فخرجوا، فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة، وهي من مياه بني عامر، فاقتتلوا، فقُتل المنذرُ وأصحابُه إلا ثلاثة نَفَرٍ كانوا في طلب ضَالة لهم، فلم يرعهم إلا والطيرُ تحُوم في السماء، يسقط من بين خراطيمها عَلَقُ الدم. فقال أحد النفر: قُتِل أصحابنا والرحمنِ! ثم تولّى يشتدُّ حتى لقي رجلا فاختلفا ضربتين، فلما خالطته الضربة، رفع رأسه إلى السماء ففتح عينيه ثم قال: الله أكبر، الجنةُ وربّ العالمين!! فكان يُدْعى « أعنقَ لِيَمُوت » ، ورجع صاحباه، فلقيا رجلين من بني سليم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما مُوَادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر، فقتلاهما. وقدِم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية، فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعليُّ وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، حتى دخلوا إلى كعب بن الأشرف ويهود النضير، فاستعانهم في عَقْلهما. قال، فاجتمعت اليهودُ لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واعتَلُّوا بصنيعة الطعام، فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم بالذي أجمعت عليه يهودُ من الغَدر، فخرج ثم دعا عليًّا، فقال، لا تبرح مَقامك، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنِّي فقل: « وجّه إلى المدينة فأدركوه » . قال: فجعلوا يمرُّون على عليّ، فيأمرهم بالذي أمرَه حتى أتى عليه آخرُهم، ثم تبعهم، فذلك قوله: وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ [ سورة المائدة: 13 ] . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك في قوله: « يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم » قال: نـزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه، حين أرادوا أن يغدِروا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: بل النعمة التي ذكرها الله في هذه الآية، فأمر المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم بالشُّكر له عليها: أنَّ اليهود كانت هَمَّت بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم في طعامٍ دعوه إليه، فأعلم الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم ما همُّوا به، فانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إليه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم » إلى قوله: « فكف أيديهم عنكم » وذلك أن قوما من اليهود صَنَعوا لرسول الله وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام، فأوحى الله إليه بشأنهم، فلم يأتِ الطعام، وأمرَ أصحابه فلم يأتوه. وقال آخرون: عنى الله جل ثناؤه بذلك: النعمةَ التي أنعمها على المؤمنين باطلاع نبيّه صلى الله عليه وسلم على ما همَّ به عدوّه وعدوُّهم من المشركين يوم بَطْن نَخْلٍ من اغترارهم إياهم، والإيقاع بهم، إذا هُم اشتغلوا عنهم بصلاتهم، فسجدوا فيها وتعريفِه نبيَّه صلى الله عليه وسلم الِحذَار من عدوّه في صَلاته بتعليمه إيَّاه صلاة الخوف. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم » ... الآية، ذكر لنا أنها نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببَطْنِ نخل في الغَزْوة السابعة، فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتِكوا به، فأطلعه الله على ذلك. ذكر لنا أن رجلا انتدب لقتله، فأتى نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وسيفُه موضوع، فقال: آخذه، يا نبي الله؟ قال: خذه! قال: أستلُّه؟ قال: نعم! فسلَّه، فقال، من يمنعك منِّي؟ قال: « الله يمنعُني منك » !. فهدّده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظوا له القول، فشامَ السَّيف وأمر نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه بالرحيل، فأنـزلت عليه صلاة الخوف عند ذلك. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، ذكره عن أبي سلمة، عن جابر: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نـزل منـزلا وتفرَّق الناس في العِضاه يستظِلُّون تحتها، فعلَّق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحَه بشجرةٍ، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه فسلَّه، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال، من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « الله » ، فشامَ الأعْرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبرَ الأعرابيّ، وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه قال معمر: وكان قتادة يذكر نحو هذا، وذكر أنَّ قومًا من العرب أرادُوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا هذا الأعرابي. وتأوّل: « اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم » ، الآية. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك، قولُ من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية، نعمتَه على المؤمنين به وبرسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيّهم محمدا صلى الله عليه وسلم مما كانت يهود بني النضير همت به من قتله وقتل من معه يومَ سار إليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الدية التي كان تحمَّلها عن قتيلي عمرو بن أمية. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك لأن الله جل ثناؤه عقًّب ذكر ذلك برمي اليهود بصنائعها وقبيح أفعالها، وخيانتها ربَّها وأنبياءها. ثم أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم، والصفح عن عظيم جهلهم، فكان معلوما بذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالعفو عنهم والصفح عَقِيب قوله: « إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم » وغيرُهم كان يبسط الأيدي إليهم. لأنه لو كان الذين همُّوا ببسط الأيدي إليهم غيرَهم لكان حريًّا أن يكون الأمر بالعفو والصفح عنهم، لا عمَّن لم يجر لهم بذلك ذكر ولكان الوصف بالخيانة في وصفهم في هذا الموضع، لا في وصف من لم يجر لخيانته ذكر، ففي ذلك ما ينبئ عن صحة ما قضينا له بالصحة من التأويلات في ذلك، دون ما خالفه. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ( 11 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: واحذرُوا الله، أيها المؤمنون أن تخالفوه فيما أمركم ونهاكم، وأن تنقضوا الميثاق الذي واثقكم به فتستوجبوا منه العقابَ الذي لا قبل لكم به « وعلى الله فليتوكل المؤمنون » يقول: وإلى الله فليُلْقِ أزمَّة أمورهم، ويستسلم لقضائه، ويثقْ بنصرته وعونه المقروّن بوحدانيّة الله ورسالة رسوله، العاملون بأمره ونهيه، فإن ذلك من كمال دينهم وتمامِ إيمانهم وأنّهم إذا فعلوا ذلك كلأهم ورعاهم وحفظهم ممن أرادهم بسوء، كما حفظكم ودافع عنكم، أيها المؤمنون اليهودَ الذين همُّوا بما همُّوا به من بسط أيديهم إليكم، كلاءَةً منه لكم، إذ كنتم من أهل الإيمان به وبرسوله دون غيره، فإن غيره لا يطيق دَفْع سوءٍ أراد بكم ربُّكم ولا اجتلابَ نفعٍ لكم لم يقضه لكم. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا قال أبو جعفر: وهذه الآية أنـزلتْ إعلامًا من الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أخلاقَ الذين همُّوا ببسط أيديهم إليهم من اليهود. كالذي:- حدثنا الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن في قوله: « ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل » قال: اليهود من أهل الكتاب. وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بينهم وبينه، من صفاتهم وصفات أوائلهم وأخلاقِهم وأخلاقِ أسلافهم قديما واحتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود، بإطلاعه إيَّاه على ما كان علمه عندَهم دون العرب من خفيّ أمورهم ومكنون علومهم وتوبيخا لليهود في تمادِيهم في الغيّ، وإصرارهم على الكفر، مع علمهم بخطأ ما هم عليه مقيمون. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تستعظموا أمرَ الذين همُّوا ببسط أيديهم إليكم من هؤلاء اليهود بما همُّوا به لكم، ولا أمرَ الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم، فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسْلافهم، لا يَعْدُون أن يكونوا على منهاج أوَّلهم وطريق سَلَفِهم. ثم ابتدأ الخبر عز ذكره عن بعضِ غَدَراتهم وخياناتهم وجراءَتهم على ربهم ونقضهم ميثاقَهم الذي واثقَهم عليه بَارِئُهم، مع نعمه التي خصَّهم بها، وكراماته التي طوّقهم شكرها، فقال، ولقد أخذ الله ميثاق سَلَف من همّ ببسط يده إليكم من يهود بني إسرائيل، يا معشر المؤمنين بالوفاء له بعهوده وطاعته فيما أمرهم ونهاهم، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: « ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل » قال: أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له، ولا يعبدُوا غيره. « وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا » يعني بذلك: وبعثنا منهم اثني عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه. و « النقيب » في كلام العرب، كالعَرِيف على القوم، غير أنه فوق « العريف » . يقال منه: « نَقَب فلان على بني فلان فهو ينقُبُ نَقْبًا فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا » ، قيل: « قد نَقُبَ فهو ينقُب نَقَابة » ومن « العريف » : « عَرُف عليهم يَعْرُف عِرَافَةً » . فأما « المناكب » فإنهم كالأعوان يكونون مع العُرفاء، واحدهم « مَنْكِب » . وكان بعض أهل العلم بالعربية يقول: هو الأمين الضامن على القوم. فأما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا بينهم في تأويله. فقال بعضهم: هو الشاهد على قومه. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا » ، من كل سِبْط رجل شاهد على قومه. وقال آخرون: « النقيب » ، الأمين. ذكر من قال ذلك: حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: « النقباء » الأمناء. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. وإنما كان الله عز ذكره أمر موسى نبيّه صلى الله عليه وسلم ببعثة النقباء الاثني عشر من قومه بني إسرائيل إلى أرض الجبابرة بالشأم، ليتحسَّسوا لموسى أخبارَهم إذْ أراد هلاكهم، وأن يورِّث أرضَهم وديارَهم موسى وقومَه، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه، وأخرجهم من أرض مصر، فبعث مُوسى الذين أمَره الله ببعثهم إليها من النقباء، كما: حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أمر الله بني إسرائيل بالسير إلى أرْيَحَا، وهى أرض بيت المقدس، فساروا حتى إذا كانوا قريبا منهم بعث موسى اثني عشر نقيبا من جميع أسباط بني إسرائيل. فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبابرة، فلقيهم رجل من الجبَّارين يقال له « عاج » ، فأخذ الاثني عشر، فجعلهم في حُجْزَته وعلى رأسه حَمْلَةُ حطب. فانطلق بهم إلى امرأته فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرَحَهم بين يديها، فقال، ألا أطْحَنُهم برجلي! فقالت امرأته: بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومَهم بما رأوا. ففعل ذلك. فلما خرج القومُ، قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبرَ القوم، ارتدُّوا عن نبيِّ الله عليه السلام، ولكن اكتموه وأخبروا نَبِيَّ الله، فيكونان هما يَرَيان رأيهما! فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه، ثم رجعوا فانطلق عشرة منهم فنكثوا العهدَ، فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من [ أمر ] « عاج » وكتم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون، فأخبروهما الخبرَ، فذلك حين يقول الله « ولقد أخذ الله ميثاقَ بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا » . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « اثني عشر نقيبا » من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم يُلقونهم إلقاءً ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة ويدخل في شطر الرمانة إذا نـزع حبُّها خمسة أنفس أو أربع. فرجع النقباء كلٌّ منهم يَنْهى سِبْطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكلاب بن يافنة، يأمران الأسباط بقتال الجبابرة وبجهادهم، فعصوا هذين وأطاعُوا الآخرين. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه إلا أنه قال: من بني إسرائيل رجالٌ وقال أيضا: يلقونهما. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة، وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنـزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدوّ، فإني ناصركم عليهم، وخُذ من قومك اثني عشر نقيبًا من كل سبط نقيبا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، وقل لهم: إن الله يقول لكم: إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ ... إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ وأخذ موسى منهم اثني عشر نقيبا اختارهم من الأسباط كفلاء على قومهم بما هم فيه، على الوفاء بعهده وميثاقه. وأخذ من كل سبط منهم خيرَهم وأوفاهم رجلا. يقول الله عز وجل: « ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا » فسار بهم موسى إلى الأرض المقدّسة بأمر الله، حتى إذا نـزل التيه بين مصر والشام وهي بلاد ليس فيها خَمَرٌ ولا ظلّ دعا موسى ربه حين آذاهم الحرّ، فظلَّل عليهم بالغمام، ودعا لهم بالرزق، فأنـزل الله عليهم المنَّ والسلوى. وأمر الله موسى فقال: أَرْسل رجالا يتحسسّون إلى أرض كنعان التي وهبت لبني إسرائيل من كل سبط رجلا. فأرسل موسى الرءوس كلهم الذين فيهم، [ فبعث الله جل وعزّ من برّية فاران بكلام الله، وهم روءس بني إسرائيل ] . وهذه أسماء الرَّهط الذين بعث الله جل ثناؤه من بني إسرائيل إلى أرض الشام، فيما يذكر أهل التوراة ليجوسوها لبني إسرائيل من سبط روبيل: « شامون بن زكوّن » ومن سبط شمعون: « شافاط بن حُرّي » ومن سبط يهوذا: « كالب بن يوفنّا ومن سبط أتين: » يجائل بن يوسف « ومن سبط يوسف: وهو سبط أفرائيم: » يوشع بن نون « ومن سبط بنيامين » فلط بن رفون « ومن سبط زبالون: » جدي بن سودي ومن سبط منشا بن يوسف: « جدي بن سوسا ومن سبط دان: » حملائل بن جمل « ومن سبط أشر: ساتور بن ملكيل » ومن سبط نفتالي: « نحى بن وفسي » ومن سبط جاد: « جولايل بن ميكي » . فهذه أسماء الذين بعثهم موسى يتحسّسون له الأرض ويومئذ سمى « هوشع بن نون » : « يوشع بن نون » فأرسلهم وقال لهم: ارتفعوا قِبَل الشمس، فارقوا الجبل، وانظروا ما في الأرض، وما الشعب الذي يسكنون، أقوياء هم أم ضعفاء، أقليل هم أم كثير؟ وانظروا أرضهم التي يسكنون: أسمينة هي [ أم هزيلة ] ؟ أذات شجر أم لا؟ اجتازوا، واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض. وكان ذلك في أول ما أشجن بكر ثمرة العنب. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا » فهم من بني إسرائيل، بعَثهم موسى لينظُروا له إلى المدينة. فانطلقوا فنظروا إلى المدينة، فجاءوا بحبّة من فاكهتهم وِقْرَ رجلٍ، فقالوا: اقدُروا قوة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم! فعند ذلك فُتِنوا فقالوا: لا نستطيع القتال، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [ سورة المائدة: 24 ] . حدثت عن الحسين بن الفرج المروزي قال: سمعت أبا مُعاذ الفضلَ بن خالد يقول في قوله: « وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا » أمر الله بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدّسة مع نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال لهم موسى: ادخلوها ! فأبوا وجَبُنوا، وبعثُوا اثني عشر نقيبًا لينظروا إليهم، فانطلقوا فنظروا، فجاءوا بحبة من فاكهتهم بوِقْرِ الرجل، فقالوا: اقدورا قوة قوم وبأسهم، هذه فاكهتهم!! فعند ذلك قالوا لموسى: ( اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ) . القول في تأويل قوله عز ذكره : وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال الله لبني إسرائيل: « إني معكم » ، يقول: إني ناصركم على عدوّكم وعدوِّي الذين أمرتكم بقتالهم، إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم. وفي الكلام محذوف، استغنى بما ظهر من الكلام عما حذف منه. وذلك أن معنى الكلام: وقال الله لَهُم إني معكم فترك ذكر « لهم » ، استغناء بقوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، إذ كان مُتقدّم الخبر عن قوم مسمَّين بأعيانهم، فكان معلومًا أن ما في سياق الكلام من الخبر عنهم، إذ لم يكن الكلام مصروفًا عنهم إلى غيرهم. ثم ابتدأ ربُّنا جل ثناؤه القسمَ فقال: قسمًا لئن أقمتم، معشر بني إسرائيل، الصلاة « وآتيتم الزكاة » ، أي: أعطيتموها من أمرتكم بإعطائها « وآمنتم برسلي » يقول: وصدّقتم بما آتاكم به رسلي من شرائع ديني. وكان الربيع بن أنس يقول: هذا خطاب من الله للنقباء الاثني عشر. حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: أنّ موسى صلى الله عليه وسلم قال للنقباء الاثني عشر: سيروا إليهم يعني: إلى الجبارين فحدثوني حديثهم، وما أمْرهم، ولا تخافوا إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنًا. قال أبو جعفر: وليس الذي قاله الربيع في ذلك ببعيد من الصواب، غيرَ أن من قضاءِ الله في جميع خلقه أنه ناصرٌ من أطاعه، ووليّ من اتّبع أمره وتجنّب معصيتَه وتحامَى ذنوبه. فإذ كان ذلك كذلك، وكان من طاعته إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، وسائر ما ندب القوم إليه كان معلوما أن تكفير السيئات بذلك وإدخال الجنات به. لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم. فكان ذلك بأن يكون ندبًا للقوم جميعا، وحضًّا لهم على ما حضَّهم عليه، أحق وأولى من أن يكون ندبًا لبعضٍ وحضًّا لخاصّ دون عامّ. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « وعزرتموهم » . فقال بعضهم: تأويل ذلك: ونصرتموهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « وعزرتموهم » قال: نصرتموهم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « وعزرتموهم » قال: نصرتموهم بالسيف. وقال آخرون: هو الطاعة والنصرة. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول في قوله: « وعزرتموهم » قال: « التعزيز » و « التوقير » ، الطاعة والنصرة. واختلف أهل العربية في تأويله. فذكر عن يونس [ الحرمري ] أنه كان يقول تأويل ذلك: أثنيتم عليهم. حدثت بذلك عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عنه . وكان أبو عبيدة يقول: معنى ذلك نصرتموهم وأعنتموهم ووقّرتموهم وعظمتوهم وأيَّدتموهم، وأنشد في ذلك: وَكَــمْ مِــنْ مَــاجِدٍ لَهُـمُ كَـرِيمٍ وَمِــنْ لَيْــثٍ يُعَـزَّرُ فـي النَّـدِيِّ وكان الفراء يقول: « العَزْر » الردُّ « عَزَرته » ، رددته: إذا رأيته يظلم فقلت: « اتق الله » أو نهيته، فذلك « العزر » . قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب، قول من قال: « معنى ذلك: نصرتموهم » . وذلك أن الله جل ثناؤه قال في « سورة الفتح » : إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [ سورة الفتح: 8، 9 ] فـ « التوقير » هو التعظيم. وإذْ كان ذلك كذلك كان القول في ذلك إنما هو بعضُ ما ذكرنا من الأقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه: التعظيم وكان النصر قد يكون باليد واللسان، فأما باليد فالذبُّ بها عنه بالسيف وغيِره، وأما باللسان فحُسْن الثناء، والذبّ عن العرض صحَّ أنه النصر، إذ كان النصر يحوي معنى كلِّ قائلٍ قال فيه قولا مما حكينا عنه. وأما قوله: « وأقرضتم الله قرضا حسنًا » فإنه يقول: وأنفقتم في سبيل الله، وذلك في جهاد عدوه وعدوكم « قرضا حسنًا » يقول: وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله، فأصبتم الحق في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك، ولم تتعدوا فيه حدودَ الله وما ندبكم إليه وحثَّكم عليه إلى غيره. فإن قال لنا قائل: وكيف قال: « وأقرضتم الله قرضا حسنا » ولم يقل: « إقراضا حسنًا » ، وقد علمت أن مصدر « أقرضت » « الإقراض » ؟ قيل: لو قيل ذلك كان صوابا، ولكن قوله: « قرضًا حسنًا » أخرج مصدرًا من معناه لا من لفظه. وذلك أن في قوله: « أقرض » معنى « قرض » ، كما في معنى « أعطى » « أخذ » . فكان معنى الكلام: وقَرَضْتم الله قرضًا حسنًا، ونظير ذلك: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا [ سورة نوح: 17 ] إذ كان في « أنبتكم » معنى: « فنبتم » ، وكما قال امرؤالقيس: وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إِذْلالِ إذ كان في « رضت » معنى « أذللت » ، فخرج « الإذلال » مصدرا من معناه لا من لفظه. القول في تأويل قوله عز ذكره : لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك بني إسرائيل، يقول لهم جل ثناؤه: لئن أقمتم الصلاة، أيها القوم الذين أعطوني ميثاقَهم بالوفاء بطاعتي واتباع أمري، وآتيتم الزكاة، وفعلتم سائرَ ما وعدتكم عليه جنّتي « لأكفرن عنكم سيئاتكم » ، يقول: لأغطين بعفوي عنكم- وصفحي عن عقوبتكم، على سالف أجرامكم التي أجرمتموها فيما بيني وبينكم - على ذنوبكم التي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم « ولأدخلنكم » مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة « جنات تجري من تحتها الأنهار » . فـ « الجنات » البساتين. وإنما قلت معنى قوله: « لأكفرّن » لأغطين، لأن « الكفر » معناه الجحود، والتغطية، والستر، كما قال لبيد: فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا يعني: « غطاها » ، فـ « التكفير » « التفعيل » من « الكَفْر » . واختلف أهل العربية في معنى « اللام » التي في قوله: « لأكفرن » . فقال بعض نحويي البصرة: « اللام » الأولى على معنى القسم يعني « اللام » التي في قوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ قال: والثانية معنى قسمٍ آخر. وقال بعض نحويي الكوفة: بل « اللام » الأولى وقعت موقع اليمين، فاكتفى بها عن اليمين يعني بـ « اللام الأولى » : لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ . قال، و « اللام » الثانية يعني قوله: « لأكفرنّ عنكم سيئاتكم » جواب لها، يعني « اللام » التي في قوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ واعتلّ لقيله ذلك بأن قوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ غير تام ولا مستغنٍ عن قوله: « لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ » . وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز أن يكون قوله: « لأكفرنّ عنكم سيئاتكم » قسما مبتدأ، بل الواجب أن يكون جوابًا لليمين إذْ كانت غير مستغنية عنه. وقوله: ( تجري من تحتها الأنهار ) يقول: تجري من تحت أشجار هذه البساتين التي أدخلكموها الأنهار. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ( 12 ) قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: فمن جحد منكم، يا معشر بني إسرائيل، شيئا مما أمرته به فتركه، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتناب معصيتي « فقد ضلَّ سواء السبيل » يقول: فقد أخطأ قصدَ الطريق الواضح، وزلَّ عن منهج السبيل القاصد. « والضلال » ، الركوب على غير هدى، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. وقوله « سواء » يعني به: وسط: و « السبيل » ، الطريق. وقد بيَّنا تأويل ذلك كله في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ قال أبو جفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تعجبن من هؤلاء اليهود الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك، ونكثوا العهدَ الذي بينك وبينهم، غدرًا منهم بك وبأصحابك، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سَلَفهم، ومن ذلك أنَّي أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى صلى الله عليه وسلم على طاعتي، وبعثت منهم اثني عشر نقيبًا وقد تُخُيِّرُوا من جميعهم ليتحسَّسُوا أخبار الجبابرة، ووعدتهم النصرَ عليهم، وأن أورثهم أرضَهم وديارهم وأموالهم، بعد ما أريتهم من العِبَر والآيات- بإهلاك فرعون وقومِه في البحر، وفلق البحر لهم، وسائر العبر- ما أريتهم، فنقضوا مِيثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم. فإذْ كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديَّ عندهم، فلا تستنكروا مثله من فعل أرَاذلهم. وفى الكلام محذوف اكتُفِي بدلالة الظاهر عليه، وذلك أن معنى الكلام: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ - فنقضوا الميثاق، فلعنتهم « فبما نقضْهم ميثاقهم لعناهم » فاكتفى بقوله: « فبما نقضهم ميثاقهم » من ذكر « فنقضوا » . ويعني بقوله جل ثناؤه: « فبما نقضهم ميثاقهم » ، فبنقضهم ميثاقهم، كما قال قتادة. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم » يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « فبما نقضهم ميثاقهم » قال: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه. وقد ذكرنا معنى « اللعن » في غير هذا الموضع. و « الهاء والميم » من قوله: « فبما نقضهم » عائدتان على ذكر بني إسرائيل قبل. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهلِ المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة: ( قَاسِيَةً ) بالألف على تقدير « فاعلة » من « قسوة القلب » ، من قول القائل: « قَسَا قلبه، فهو يقسُو وهو قاسٍ » ، وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسًا صلبًا كما قال الراجز: وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتِي فتأويل الكلام على هذه القراءة: فلعنَّا الذين نقضوا عهدي ولم يفُوا بميثاقي من بني إسرائيل، بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني « وجعلنا قلوبهم قاسية » ، غليظة يابسةً عن الإيمان بي، والتوفيق لطاعتي، منـزوعةً منها الرأفةُ والرحمة. وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً ) . ثم اختلف الذين قرأوا ذلك كذلك في تأويله. فقال بعضهم: معنى ذلك معنى « القسوة » ، لأن « فعيلة » في الذم أبلغ من « فاعلة » ، فاخترنا قراءتها « قسية » على « قاسية » لذلك. وقال آخرون منهم: بل معنى « قسِيَّة » غير معنى « القسوة » ، وإنما « القسية » في هذا الموضع: القلوبُ التي لم يخلص إيمانها بالله، ولكن يخالط إيمانها كُفْر، كالدراهم « القَسِيَّة » ، وهي التي يخالط فضّتها غشٌّ من نحاس أو رَصاص وغير ذلك، كما قال أبو زُبَيْد الطائي: لَهَـا صَـوَاهِلُ فِـي صُـمِّ السِّلامِ كَمَا صَـاحَ القَسِـيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيارِيفِ يصف بذلك وقع مَسَاحي الذين حفروا قبر عثمان على الصخور، وهي « السِّلام » . قال أبو جعفر: وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك، قراءة من قرأ: ( وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً ) على « فعيلة » ، لأنها أبلغ في ذم القوم من « قاسية » . وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوله: « فعيلة » من « القسوة » ، كما قيل: « نفس زكيّة » و « زاكية » ، و « امرأة شاهدة » و « شهيدة » ، لأن الله جل ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقَهم وكفرِهم به، ولم يصفهم بشيء من الإيمان، فتكون قلوبهم موصوفة بأنّ إيمانها يخالطه كفر، كالدراهم القَسِيَّة التي يخالط فضَّتها غشٌّ. القول في تأويل قوله عز ذكره : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودَنا من بني إسرائيل قَسِيَّة، منـزوعا منها الخير، مرفوعًا منها التوفيق، فلا يؤمنون ولا يهتدون، فهم لنـزعِ الله عز وجل التوفيقَ من قلوبهم والإيمانَ، يحرّفون كلام ربِّهم الذي أنـزله على نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة، فيبدّلونه، ويكتبون بأيديهم غير الذي أنـزله الله جل وعز على نبيهم، ثم يقولون لجهال الناس: « هذا هو كلام الله الذي أنـزله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، والتوراة التي أوحاها إليه » . وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود، ممن أدرك بعضُهم عصرَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عزّ ذكره أدخلهم في عِدَاد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرَك موسى منهم، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله، والفرية عليه، ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « يحرّفون الكلم عن مواضعه » يعني: حدود الله في التوراة، ويقولون: إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ يعني تعالى ذكره بقوله: « ونسوا حظًّا » وتركوا نصيبا، وهو كقوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [ سورة التوبة: 67 ] أي: تركوا أمر الله فتركهم الله. وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته. وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ونسوا حظًّا مما ذكروا به » يقول: تركوا نصيبًا. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله: « ونسوا حظًّا مما ذكروا به » قال: تركوا عُرَى دينهم، ووظائفَ الله جل ثناؤه التي لا تُقْبل الأعمال إلا بها. ................................................. ................................................ القول في تأويل قوله عز ذكره : وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ قال أبو جعفر: يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تزال يا محمد تَطَّلع من اليهود الذين أنبأتك نبأهم، من نقضهم ميثاقي، ونكثهم عهدي، مع أياديَّ عندهم، ونعمتي عليهم على مثل ذلك من الغدر والخيانة « إلا قليلا منهم » ، إلا قليلا منهم [ لم يخونوا ] . و « الخائنة » في هذا الموضع: الخيانة، وُضع وهو اسمٌ- موضع المصدر، كما قيل: « خاطئة » ، للخطيئة و « قائلة » للقيلولة. وقوله: « إلا قليلا منهم » ، استثناء من « الهاء والميم » اللتين في قوله: « على خائنة منهم » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « ولا تزال تطلع على خائنة منهم » قال: على خيانة وكذب وفجور. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعزّ: « ولا تزال تطلع على خائنة منهم » قال: هم يهودُ مِثْلُ الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل حائطهم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد وعكرمة قوله: « ولا تزال تطلع على خائنة منهم » من يهود مثلُ الذي همُّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم. وقال بعض القائلين: معنى ذلك: ولا تزال تطلع على خائن منهم، قال: والعرب تزيد « الهاء » في آخر المذكر كقولهم: « هو راوية للشعر » ، و « رجل علامة » ، وأنشد: حَـدَّثْتَ نَفْسَـكَ بِالوَفَـاءِ ولَـمْ تَكُـنْ لِلغَــدْرِ خَائِنَــةً مُغِــلَّ الإصْبَـعِ فقال: « خائنة » ، وهو يخاطب رجلا. قال أبو جعفر: والصواب من التأويل في ذلك، القولُ الذي رويناه عن أهل التأويل. لأنّ الله عنى بهذه الآية، القوم من يهود بني النضير الذين همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريّين، فأطلعه الله عز ذكره على ما قد همُّوا به. ثم قال جل ثناؤه بعد تعريفِه أخبار أوائلهم، وإعلامه منهج أسلافهم، وأنَّ آخرهم على منهاج أوّلهم في الغدر والخيانة، لئلا يكبُر فعلُهم ذلك على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال جل ثناؤه: ولا تزال تطَّلع من اليهود على خيانة وغدرٍ ونقضِ عهد ولم يرد أنّه لا يزال يطلع على رجل منهم خائنٍ. وذلك أن الخبر ابتُدِئ به عن جماعتهم فقيل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ، ثم قيل: « وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ » ، فإذ كان الابتداء عن الجماعة، فالختْمُ بالجماعة أولى. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 13 ) قال أبو جعفر: وهذ أمر من الله عز ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء القوم الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود. يقول الله جل وعز له: اعف، يا محمد، عن هؤلاء اليهود الذين همُّوا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جُرْمهم بترك التعرُّض لمكروههم، فإني أحب من أحسنَ العفو والصَّفح إلى من أساء إليه. وكان قتادة يقول: هذه منسوخة. ويقول: نسختها آية « براءة » : قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ الآية [ سورة التوبة: 29 ] . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « فاعف عنهم واصفح » ، قال: نسختها: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ . حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة: « فاعف عنهم واصفح إنّ الله يحب المحسنين » ، ولم يؤمر يومئذ بقتالهم، فأمره الله عز ذكره أن يعفو عنهم ويصفح. ثم نسخ ذلك في « براءة » فقال: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [ سورة التوبة: 29 ] ، وهم أهل الكتاب، فأمر الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتى يسلموا أو يقرُّوا بالجزية. حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة، عن قتادة، نحوه. قال أبو جعفر: والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانهُ، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر، هو ما كان نافيًا كلَّ معاني خلافهِ الذي كان قبله، فأمَّا ما كان غير نافٍ جميعَه، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جل وعز أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس في قوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ دلالةٌ على الأمر بنفي معاني الصَّفح والعفو عن اليهود. وإذ كان ذلك كذلك وكان جائزًا مع إقرارهم بالصَّغار وأدائهم الجزية بعد القتال، الأمرُ بالعفو عنهم في غَدْرة همُّوا بها، أو نكثةٍ عزموا عليها، ما لم يَنْصِبُوا حربًا دون أداء الجزية، ويمتنعوا من الأحكام اللازمَتِهم لم يكن واجبا أن يحكم لقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ الآية، بأنه ناسخ قوله: « فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين » . القول في تأويل قوله عز ذكره : وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: وأخذنا من النصارى الميثاقَ على طاعتي وأداء فرائضي، واتباع رسلي والتصديق بهم، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذتُه عليهم منهاج الأمة الضالة من اليهود، فبدلوا كذلك دينَهم، ونقضوه نقضَهم، وتركوا حظّهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي، وضيَّعوا أمري، كما:- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًّا مما ذكروا به » ، نسوا كتاب الله بين أظهرهم، وعهدَ الله الذي عهده إليهم، وأمرَ الله الذي أمرهم به. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قالت النصارى مثل ما قالت اليهود، ونسوا حظًّا مما ذكروا به. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فأغرينا بينهم » حرّشنا بينهم وألقينا، كما تغري الشيء بالشيء. يقول جل ثناؤه: لما ترك هؤلاء النصارى، الذين أخذتُ ميثاقهم بالوفاء بعهدي، حظَّهم مما عهدتُ إليهم من أمري ونهيي، أغريتُ بينهم العداوة والبغضاء. ثم اختلف أهل التأويل في صفة « إغراء الله عز ذكره بينهم العداوة، والبغضاء » . فقال بعضهم: كان إغراؤه بينهم بالأهواء التي حَدَثت بينهم. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي في قوله: « فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء » ، قال: هذه الأهواء المختلفة والتباغُض، فهو الإغراء. حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب قال: سمعت النخعي يقول: « فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء » ، قال: أغرى بعضهم ببعض بخصُومات بالجدال في الدين. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي والتّيمي، قوله: « فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء » ، قال: ما أرى « الإغراء » في هذه الآية إلا الأهواء المختلفة وقال معاوية بن قرة: الخصومات في الدين تُحْبِط الأعمال. وقال آخرون: بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة » الآية، إنّ القوم لما تركوا كتابَ الله، وعصَوْا رسله، وضَيّعوا فرائضه، وعطّلوا حدُوده، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، بأعْمالهم أعمالِ السوء، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمرَه، ما افترقوا ولا تباغَضُوا. قال أبو جعفر: وأولى التأولين في ذلك عندنا بالحق، تأويلُ من قال: « أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم » ، كما قال إبراهيم النخعي، لأن عداوة النصارى بينَهم، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح، وذلك أهواءٌ، لا وحيٌ من الله. واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بـ « الهاء والميم » اللتين في قوله: « فأغرينا بينهم » . فقال بعضهم: عني بذلك اليهود والنصارى. فمعنى الكلام على قولِهم وتأويلهم: فأغرينا بين اليهود والنصارى، لنسيانهم حظًّا مما ذكّروا به. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: وقال في النصارى أيضا: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ، فلما فعلوا ذلك، أغرى الله عز وجل بينَهم وبين اليهود العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم القيامة. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة » ، قال: هم اليهود والنصارى. قال ابن زيد: كما تُغْري بين اثنين من البهائم. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء » ، قال: اليهود والنصارى. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة قال: هم اليهود والنصارى، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. وقال آخرون: بل عنى الله بذلك النصارَى وحدَها. وقالوا: معنى ذلك: فأغرينا بين النصارى، عقوبةً لها بنسيانها حظًّا مما ذكرت به. قالوا: وعليها عادت « الهاء والميم » في « بينهم » ، دون اليهود. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: إن الله عز ذكره تقدَّم إلى بني إسرائيل: أن لا تشتروا بآيات الله ثمنًا قليلا وعلموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجرًا، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم، فأخذُوا الرّشوة في الحكم، وجاوزوا الحدود، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [ سورة المائدة: 64 ] ، وقال في النصارى: « فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ » . قال أبو جعفر: وأولى التأولين بالآية عندي ما قاله الربيع بن أنس، وهو أنّ المعنيّ بالإغراء بينهم، النصارى، في هذه الآية خاصة وأنّ « الهاء والميم » عائدتان على النصارى دون اليهود، لأن ذكر « الإغراء » في خبر الله عن النصارى، بعد تقضِّي خبره عن اليهود، وبعد ابتدائه خبَره عن النصارى، فلأنْ يكون ذلك معنيًّا به النصارى خاصًّة، أولى من أن يكون معنيًّا به الحزبان جميعًا، لما ذكرنا. فإن قال قائل: وما العداوة التي بين النصارى، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك؟ قيل: ذلك عداوة النسطوريةِ واليعقوبيةِ، الملكيةَ والملكيةِ النسطوريةَ واليعقوبيةَ. وليس الذي قاله من قال: « معنيٌّ بذلك: إغراء الله بين اليهود والنصارى » ببعيد، غير أن هذا أقرب عندي، وأشبهُ بتأويل الآية، لما ذكرنا. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( 14 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم: اعفُ عن هؤلاء الذين همُّوا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك واصفح، فإن الله عز وجل من وراء الانتقام منهم، وسينبئهم الله عند ورودهم عليه في معادهم، بما كانوا في الدنيا يصنعون، من نقضهم ميثاقه، ونكثهم عهده، وتبديلهم كتابه، وتحريفهم أمره ونهيه، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم. القول في تأويل قوله عز ذكره : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قال أبو جعفر: يقول عز ذكره لجماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يا أهل الكتاب » من اليهود والنصارى « قد جاءكم رسولنا » ، يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم، كما:- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا » ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: « يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب » ، يقول: يبين لكم محمّد رسولنا، كثيرًا مما كنتم تكتمونه الناسَ ولا تُبينونه لهم ممّا في كتابكم. وكان مما يخفونه من كتابهم فبيَّنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس: رَجْمُ الزَّانيين المحصنين. وقيل: إن هذه الآية نـزلت في تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك للناس، من إخفائهم ذلك من كتابهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال، من كفر بالرجم، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب. قوله: « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسوُلنا يبين لكم كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب » ، فكان الرجمُ مما أخفوا. . حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبَّويه، أخبرنا علي بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله. . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله: « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم » ، إلى قوله: صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، قال: إنّ نبيّ الله أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيتٍ، قال: أيُّكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صُوريا، فقال: أنت أعلمهم؟ قال، سل عما شئت، قال، « أنت أعلمهم؟ » قال: إنهم ليزعمون ذلك! قال: فناشده بالذي أنـزل التوراة على موسى، والذي رفع الطُّور، وناشده بالمواثيق التي أُخذت عليهم، حتى أخذه أفْكَل، فقال: إن نساءنا نساء حسان، فكثر فينا القتل، فاختصرنا أُخصورةً، فجلدنا مئة، وحلقنا الرءوس، وخالفنا بين الرءوس إلى الدواب أحسبه قال: الإبل قال: فحكم عليهم بالرجم، فأنـزل الله فيهم: « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيين لكم » ، الآية وهذه الآية: وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [ سورة البقرة: 76 ] . وقوله: « ويعفو عن كثير » يعني بقوله: « ويعفو » ، ويترك أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم الذي أنـزله الله إليكم، وهو التوراة، فلا تعملون به حتى يأمره الله بأخذكم به. . القول في تأويل قوله عز ذكره : قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ( 15 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب: « قد جاءكم » ، يا أهل التوراة والإنجيل « من الله نور » ، يعني بالنور، محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحقَّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبيِّن الحق. ومن إنارته الحق، تبيينُه لليهود كثيرًا مما كانوا يخفون من الكتاب. وقوله: « وكتاب مبين » ، يقول: جل ثناؤه: قد جاءكم من الله تعالى النور الذي أنار لكم به معالم الحقِّ، « وكتاب مبين » ، يعني كتابًا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم: من توحيد الله، وحلاله وحرامه، وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنـزله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يبين للناس جميع ما بهم الحاجةُ إليه من أمر دينهم، ويوضحه لهم، حتى يعرفوا حقَّه من باطله. القول في تأويل قوله عز ذكره : يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ قال أبو جعفر: يعني عز ذكره: يهدي بهذا الكتاب المبين الذي جاء من الله جل جلاله ويعني بقوله: « يهدي به الله » ، يرشد به الله ويسدِّد به، و « الهاء » في قوله: « به » عائدة على « الكتاب » « من اتبع رضوانه » ، يقول: من اتبع رِضَى الله. واختلف في معنى « الرضى » من الله جل وعز. فقال بعضهم: الرضى منه بالشيء « ، القبول له والمدح والثناء. قالوا: فهو قابل الإيمان، ومُزَكّ له، ومثنٍ على المؤمن بالإيمان، وواصفٌ الإيمانَ بأنه نور وهُدًى وفصْل. » وقال آخرون: معنى « الرضى » من الله جل وعز، معنى مفهوم، هو خلاف السخط، وهو صفة من صفاته على ما يعقل من معاني: « الرضى » الذي هو خلاف السخط، وليس ذلك بالمدح، لأن المدح والثناء قولٌ، وإنما يثنى ويمدح ما قد رُضِي. قالوا: فالرضا معنًى، و « الثناء » و « المدح » معنًى ليس به. ويعني بقوله: « سُبُل السلام » ، طرق السلام و « السلام » ، هو الله عزَّ ذكره. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « من اتبع رضوانه سبل السلام » ، سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: يهدي الله بهذا الكتاب المبين، من اتبع رضوان الله إلى سبل السلام وشرائع دينه « ويخرجهم » ، يقول: ويخرج من اتبع رضوانه و « الهاء والميم » في: « ويخرجهم » إلى من ذُكر « من الظلمات إلى النور » ، يعني: من ظلمات الكفر والشرك، إلى نور الإسلام وضيائه « بإذنه » ، يعني: بإذن الله جل وعز. و « إذنه في هذا الموضع: تحبيبه إياه الإيمان برفع طابَع الكفر عن قلبه، وخاتم الشرك عنه، وتوفيقه لإبصار سُبُل السّلام. » القول في تأويل قوله عز ذكره : وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 16 ) قال أبو جعفر: يعني عز ذكره بقوله: « ويهديهم » ، ويرشدهم ويسددهم « إلى صراط مستقيم » ، يقول: إلى طريق مستقيم، وهو دين الله القويم الذي لا اعوجاج فيه. القول في تأويل قوله عز ذكره : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قال أبو جعفر: هذا ذمٌّ من الله عز ذكره للنصارى والنصرانية، الذين ضلُّوا عن سبل السلام واحتجاجٌ منه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في فِرْيتهم عليه بادّعائهم له ولدًا. يقول جل ثناؤه: أقسم، لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم و « كفرهم » في ذلك، تغطيتهم الحقّ في تركهم نفي الولد عن الله جل وعز، وادِّعائهم أن المسيح هو الله، فرية وكذبًا عليه. وقد بينا معنى: « المسيح » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. . القول في تأويل قوله عز ذكره : قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للنصارى الذين افتروا عليّ، وضلُّوا عن سواء السبيل بقيلهم: إنّ الله هو المسيح ابن مريم: « من يملك من الله شيئًا » ، يقول: من الذي يطيق أن يدفع من أمر الله جل وعز شيئا، فيردّه إذا قضاه. من قول القائل: « ملكت على فلان أمره » ، إذا صار لا يقدر أن ينفذ أمرًا إلا به. وقوله: « إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا » ، يقول: من ذا الذي يقدر أن يرد من أمر الله شيئًا، إن شاء أن يهلك المسيح ابن مريم، بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريم، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا. يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الجهلة من النصارى: لو كان المسيح كما تزعمون أنّه هو الله، وليس كذلك لقدر أن يردَّ أمرَ الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أمه. وقد أهلك أمَّه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذْ نـزل ذلك. ففي ذلك لكم معتَبرٌ إن اعتبرتم، وحجة عليكم إن عقلتم: في أن المسيح، بَشَر كسائر بني آدم، وأن الله عز وجل هو الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يردُّ له أمر، بل هو الحيُّ الدائم القيُّوم الذي يحيي ويميت، وينشئ ويفني، وهو حي لا يموت. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ قال أبو جعفر: يعني تبارك وتعالى بذلك: والله له تصريف ما في السماوات والأرض وما بينهما يعني: وما بين السماء والأرض يهلك من يشاء من ذلك ويبقي ما يشاء منه، ويوجد ما أراد ويعدم ما أحبّ، لا يمنعه من شيء أراد من ذلك مانع، ولا يدفعه عنه دافع، يُنْفِذ فيهم حكمه، ويُمضي فيهم قضاءه لا المسيح الذي إن أراد إهلاكه ربُّه وإهلاكَ أمّه، لم يملك دفع ما أراد به ربُّه من ذلك. يقول جل وعز: كيف يكون إلهًا يُعبد من كان عاجزًا عن دفع ما أراد به غيره من السوء، وغير قادرٍ على صرف ما نـزل به من الهلاك؟ بل الإله المعبود، الذي له ملك كل شيء، وبيده تصريف كل من في السماءِ والأرض وما بينهما. فقال جل ثناؤه: « وما بينهما » ، وقد ذكر « السموات » بلفظ الجمع، ولم يقل: « وما بينهن » ، لأن المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء، كما قال الراعي: طَرَقَــا, فَتِلْـكَ هَمَـاهِمِي, أَقْرِيهِمَـا قُلُصًــا لَــوَاقِحَ كَالقِسِـيِّ وَحُـولا فقال: « طرقا » ، مخبًرا عن شيئين، ثم قال: « فتلك هَمَاهمي » ، فرجع إلى معنى الكلام. وقوله: « يخلق ما يشاء » ، يقول جل ثناؤه: وينشئ ما يشاء ويوجده، ويخرجُه من حال العدم إلى حال الوجود، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد القهَّار. وإنما يعني بذلك، أنّ له تدبير السموات والأرض وما بينهما وتصريفه، وإفناءه وإعدامه، وإيجادَ ما يشاء مما هو غير موجود ولا مُنْشأ. يقول: فليس ذلك لأحد سواي، فكيف زعمتم، أيها الكذبة، أنّ المسيح إله، وهو لا يطيق شيئا من ذلك، بل لا يقدر على دفع الضرَر عن نفسه ولا عن أمه، ولا اجتلابِ نفعٍ إليها إلا بإذني؟ القول في تأويل قوله عز ذكره : وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 17 ) قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: الله المعبودُ، هو القادر على كل شيء، والمالك كلَّ شيء، الذي لا يعجزُه شيء أراده، ولا يغلبه شيء طلبه، المقتدرُ على هلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعًا لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضُرّ نـزل به من الله، ولا منْعِ أمّه من الهلاك. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل وعز عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول. وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نعمانُ بن أضَاء وبحريّ بن عمرو، وشأس بن عدي، فكلموه، فكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تُخَوّفنا، يا محمد!! نحن والله أبناء الله وأحبَّاؤه!! كقول النصارى، فأنـزل الله جل وعز فيهم: « وقالت اليهودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه » ، إلى آخر الآية. وكان السدي يقول في ذلك بما: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه » ، أما « أبناء الله » ، فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدًا من ولدك، أدخلهم النار، فيكونون فيها أربعين يومًا حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أن أخرجوا كل مختون من ولدِ إسرائيل، فأخرجهم. فذلك قوله: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [ سورة آل عمران: 24 ] . وأما النصارى، فإن فريقًا منهم قال للمسيح: ابن الله. والعرب قد تخرج الخبرَ، إذا افتخرت، مخرجَ الخبر عن الجماعة، وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم، فتقول: « نحن الأجواد الكرام » ، وإنما الجواد فيهم واحدٌ منهم، وغير المتكلِّم الفاعلُ ذلك، كما قال جرير: نَدَسْــنَا أَبَـا مَنْدُوسَـةَ القَيْـنَ بِالقَنَـا وَمَــارَ دَمٌ مِـنْ جَـارِ بَيْبَـةَ نَـاقعُ فقال: « نَدَسْنَا » ، وإنما النادس رجل من قوم جريرٍ غيرُه، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم. فكذا أخبر الله عزّ ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك، على هذا الوجه إن شاء الله. وقوله: « وأحباؤه » ، وهو جمع « حبيب » . يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » لهؤلاء الكذبة المفترين على ربهم « فلم يعذبكم » ربكم، يقول: فلأي شيء يعذبكم ربكم بذنوبكم، إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحبّاؤه، فإن الحبيب لا يعذِّب حبيبه، وأنتم مقرُّون أنه معذبكم؟ وذلك أن اليهود قالت: إن الله معذبنا أربعين يومًا عَدَد الأيام التي عبدنا فيها العجل، ثم يخرجنا جميعًا منها، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: إن كنتم، كما تقولون، أبناءُ الله وأحباؤه، فلم يعذبكم بذنوبكم؟ يعلمهم عز ذكره أنَّهم أهل فرية وكذب على الله جل وعز. القول في تأويل قوله جل ثناؤه : بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، قل لهم: ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه « بل أنتم بشر ممن خلق » ، يقول: خلق من بني آدم، خلقكم الله مثل سائر بني آدم، إن أحسنتم جُوزيتم بإحسانكم، كما سائر بني آدم مجزيُّون بإحسانهم، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم، كما غيركم مجزيٌّ بها، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبَه، فيصفح عنه بفضله، ويسترها عليه برحمته، فلا يعاقبه بها. وقد بينا معنى « المغفرة » ، في موضع غير هذا بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. . « ويعذب من يشاء » يقول: ويعدل على من يشاء من خلقه فيعاقبه على ذنوبه، ويفضَحه بها على رءوس الأشهاد فلا يسترها عليه. وإنما هذا من الله عز وجل وعيد لهؤلاء اليهود والنصارى المتّكلين على منازل سَلَفهم الخيارِ عند الله، الذين فضلهم الله جل وعز بطاعتهم إياه، واجتباهم لمسارعتهم إلى رضاه، واصطبارهم على ما نابهم فيه. يقول لهم: لا تغتروا بمكان أولئك مني ومنازلهم عندي، فإنهم إنما نالوا ما نالوا منّي بالطاعة لي، وإيثار رضاي على محابِّهم لا بالأماني، فجدُّوا في طاعتي، وانتهوا إلى أمري، وانـزجروا عما نهيتُهم عنه، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي، وأعذّب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي لا لمن قرَّبتْ زُلْفَةُ آبائه مني، وهو لي عدوّ، ولأمري ونهيي مخالفٌ. وكان السدي يقول في ذلك بما:- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء » ، يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذِّبه. القول في تأويل قوله جل ثناؤه : وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ( 18 ) قال أبو جعفر يقول: لله تدبيرُ ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وتصريفُه، وبيده أمره، وله ملكه، يصرفه كيف يشاء، ويدبره كيف أحبّ، لا شريك له في شيء منه، ولا لأحدٍ معهُ فيه ملك. فاعلموا أيها القائلون: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، أنه إن عذبكم بذنوبكم، لم يكن لكم منه مانع، ولا لكم عنه دافع، لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيه لسبب ذلك، ولا لأحد في شيء دونه ملك، فيحول بينه وبينه إن أراد تعذيبه بذنوبه، وإليه مصير كل شيء ومرجعه. فاتَّقوا أيها المفترون، عقابَه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه، ولا تغتروا بالأمانيّ وفضائل الآباء والأسلاف. القول في تأويل قوله عز ذكره : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « يا أهل الكتاب » ، اليهودَ الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نـزلت هذه الآية. وذلك أنهم أو: بعضهم، فيما ذكر لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وبما جاءهم به من عند الله، قالوا: ما بعثَ الله من نبيّ بعد موسى، ولا أنـزل بعد التوراة كتابًا! حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله! لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مَبعثه، وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حُرَيملة ووهب بن يهودا ما قلنا هذا لكم، وما أنـزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعده! فأنـزل الله عز وجل في [ ذلك من ] قولهما « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشيرٌ ونذيرٌ والله على كل شيء قدير » . ويعني بقوله جل ثناؤه: « قد جاءكم رسولنا » ، قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا « يبين لكم » ، يقول: يعرفكم الحقَّ، ويوضح لكم أعلام الهدى، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى، كما:- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل » ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، جاء بالفرقان الذي فرَق الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله ونوره وهداه، وعصمةٌ لمن أخذ به. « على فترة من الرسل » ، يقول: على انقطاع من الرسل و « الفترة » في هذا الموضع الانقطاع يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى، على انقطاع من الرسل. و « الفترة » « الفعلة » من قول القائل: « فتر هذا الأمر يفتُر فُتورًا » ، وذلك إذا هدأ وسكن. وكذلك « الفترة » في هذا الموضع، معناها: السكون، يراد به سكون مجيء الرسل، وذلك انقطاعها. ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة، فاختلف في الرواية في ذلك عن قتادة. فروى معمر عنه ما:- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « على فترة من الرسل » قال: كان بين عيسى ومحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون سنة. وروى سعيد بن أبي عروبة عنه ما:- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمّدٍ صلى الله عليهما، ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة، أو ما شاء من ذلك، والله أعلم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن أصحابه قوله: « قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل » ، قال: كان بين عيسى ومحمد صلى لله عليهما خمسمائة سنة وأربعون سنة قال معمر، قال قتادة: خمسمائة سنة وستون سنة. وقال آخرون بما:- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: « على فترة من الرسل » ، قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما، أربعمائة سنة وبضعًا وثلاثين سنة. ويعني بقوله: « أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير » أن لا تقولوا، وكي لا تقولوا، كما قال جل ثناؤه: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ سورة النساء: 176 ] ، بمعنى: أن لا تضلوا، وكي لا تضلوا. فمعنى الكلام: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل، كي لا تقولوا ما جاءَنا من بشير ولا نذير. يعلمهم عز ذكره أنه قد قطَع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم، وأبلغ إليهم في الحجة. ويعني بـ « البشير » ، المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله، وعمل بما آتاه من عند الله، بعظيم ثوابه في آخرته وبـ « النذير » ، المنذر من عصاه وكذّب رسولَه صلى الله عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه، بما لا قبل له به من أليم عقابه في معاده، وشديد عذابه في قِيامته. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 19 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم: قد أعذرنا إليكم، واحتججنا عليكم برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليكم، وأرسلناه إليكم ليبيّن لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم، كيلا تقولوا: « لم يأتنا من عندك رسولٌ يبيِّن لنا ما نحن عليه من الضلالة » ، فقد جاءكم من عندي رسول يبشر من آمن بي وعمل بما أمرته وانتهى عما نهيته عنه، وينذر من عصاني وخالف أمري، وأنا القادر على كل شيء، أقدر على عقاب من عصاني، وثواب من أطاعني، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي وتصديقكم بشيري ونذيري، فإني أنا الذي لا يعجزه شيء أرادَه، ولا يفوته شيء طلبه. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال أبو جعفر: وهذا أيضا من الله تعريفٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قديمَ تمادي هؤلاء اليهود في الغيّ، وبعدِهم عن الحق، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة خلافهم لأنبيائهم، وبطء إنابتهم إلى الرشاد، مع كثرة نعم الله عندهم، وتتابع أياديه وآلائه عليهم مسلِّيًا بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عما يحلّ به من علاجهم، وينـزل به من مقاساتهم في ذات الله. يقول الله له صلى الله عليه وسلم: لا تأسَ على ما أصابك منهم، فإن الذهابَ عن الله، والبعد من الحق، وما فيه لهم الحظ في الدنيا والآخرة، من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم وتعزَّ بما لاقى منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم واذْكُر إذ قال موسى لهم: « يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم » ، يقول: اذكروا أيادِي الله عندكم، وآلاءه قبلكم، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة: « اذكروا نعمة الله عليكم » ، قال: أيادي الله عندكم وأيَّامه. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « اذكروا نعمة الله عليكم » يقول: عافية الله عز وجل. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا، لأن الله لم يخصص من النعم شيئًا، بل عمَّ ذلك بذكر النعم، فذلك على العافية وغيرها، إذ كانت « العافية » أحد معاني « النعم » . القول في تأويل قوله جل ثناؤه : إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنَّ موسى ذكَّر قومه من بني إسرائيل بأيَّام الله عندهم، وبآلائه قبلهم، مُحَرِّضهم بذلك على اتباع أمر الله في قتال الجبارين، فقال لهم: اذكروا نعمة الله عليكم أنْ فضّلكم، بأن جعل فيكم أنبياء يأتونكم بوحيه، ويخبرونكم بأنباء الغيب، ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم هذا. فقيل: إن الأنبياء الذين ذكَّرهم موسى أنهم جُعلوا فيهم: هم الذين اختارهم موسى إذ صار إلى الجبل، وهم السبعون الذين ذكرهم الله فقال: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا [ سورة الأعراف: 155 ] . « وجعلكم ملوكًا » سخر لكم من غيركم خدمًا يخدمونكم. وقيل: إنما قال ذلك لهم موسى، لأنه لم يكن في ذلك الزمان أحدٌ سواهم يخدُمه أحد من بني آدم. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياءَ وجعلكم ملوكًا » ، قال: كنا نحدَّثُ أنهم أول من سُخِّر لهم الخدَم من بني آدم ومَلَكوا. وقال آخرون: كل من ملك بيتًا وخادمًا وامرأةً، فهو « ملك » ، كائنًا من كان من الناس. ذكر من قال ذلك: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا أبو هانئ: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم! قال ألك مسكن تسكُنُه؟ قال: نعم! قال: فأنت من الأغنياء! فقال: إنّ لي خادمًا. قال: فأنت من الملوك. حدثنا الزبير بن بكار قال، حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: « وجعلكم ملوكًا » فلا أعلم إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له بيتٌ وخادم فهو ملك. حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا العلاء بن عبد الجبار، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن: أنه تلا هذه الآية: « وجعلكم ملوكًا » ، فقال: وهل المُلْك إلا مركبٌ وخادمٌ ودار؟ فقال قائلو هذه المقالة: إنما قال لهم موسى ذلك، لأنهم كانوا يملكون الدّور والخدم، ولهم نساءٌ وأزواج. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور قال: أراه عن الحكم: « وجعلكم ملوكًا » ، قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان للرجل منهم بيتٌ وامرأة وخادم، عُدَّ ملكًا. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان ح، وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان عن منصور، عن الحكم: « وجعلكم ملوكًا » قال: الدار والمرأة، والخادم قال سفيان: أو اثنتين من الثلاثة. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عباس في قوله: « وجعلكم ملوكًا » قال: البيت والخادم. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن الحكم أو غيره، عن ابن عباس في قوله: « وجعلكم ملوكًا » قال: الزوجة والخادم والبيت. حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « وجعلكم ملوكًا » قال: جعل لكم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا. حدثنا المثنى قال، حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس في قول الله: « وجعلكم ملوكًا » قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمَّى مَلِكًا. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « وجعلكم ملوكًا » قال: مُلْكُهم الخدم قال قتادة: كانوا أوَّل من مَلك الخدم. حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد: « وجعلكم ملوكًا » قال: جعل لكم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا. وقال آخرون: إنما عنى بقوله: « وجعلكم ملوكًا » أنهم يملكون أنفُسَهم وأهلِيهم وأموالهم. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وجعلكم ملوكًا » يملك الرجل منكم نفسَه وأهلَه ومالَه. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ( 20 ) قال أبو جعفر: اختلف فيمن عنوا بهذا الخطاب. فقال بعضهم: عني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وسعيد بن جبير: « وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين » ، قالا أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: عُنِي به قوم موسى صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، هم قوم موسى. حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: « وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين » ، قال: هم بين ظهرانيه يومئذٍ. ثم اختلفوا في الذي آتاهمُ الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين. فقال بعضهم: هو المنّ والسلوى والحجر والغمام. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: « وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين » قال: المنّ والسلوى والحجر والغمام. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين » ، يعني: أهل ذلك الزمان، المنَّ والسلوى والحجر والغمام. وقال آخرون: هو الدَّار والخادِم والزوجة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بشر بن السري، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس: « وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين » قال: الرجل يكون له الدار والخادم والزوجة. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: « وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين » ، المنّ والسلوى والحجر والغمام. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: « وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين » ، في سياق قوله: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ، ومعطوفٌ عليه. ولا دلالة في الكلام تدلّ على أن قوله: « وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين » مصروف عن خطاب الذين ابتدئَ بخطابهم في أوّل الآية. فإذ كان ذلك كذلك، فأنْ يكون خطابًا لهم، أولى من أن يقال: هو مصروف عنهم إلى غيرهم. فإن ظن ظان أن قوله: « وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين » ، لا يجوز أن يكون لهم خطابًا، إذ كانت أمة محمَّد قد أوتيت من كرامة الله جلّ وعزّ بنبيِّها عليه السلام محمّدٍ، ما لم يُؤتَ أحدٌ غيرهم، وهم من العالمين فقد ظنَّ غير الصواب. وذلك أن قَوله: « وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين » ، خطاب من موسى صلى الله عليه وسلم لقومه يومئذٍ، وعنى بذلك عالمي زمانه، لا عالمي كل زمان. ولم يكن أوتي في ذلك الزمان من نِعَم الله وكرامته، ما أوتي قومُه صلى الله عليه وسلم، أحد من العالمين. فخرج الكلام منه صلى الله عليه على ذلك، لا على جميع [ عالم ] كلِّ زمان. القول في تأويل قوله جل ثناؤه : يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول موسى صلى الله عليه وسلم لقومه من بني إسرائيل، وأمرِه إياهم عن أمر الله إياه بأمرهم بدخول الأرض المقدسة. ثم اختلف أهل التأويل في الأرض التي عناها بـ « الأرض المقدَّسة » . فقال بعضهم: عنى بذلك الطورَ وما حوله. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « الأرض المقدسة » الطور وما حوله. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس: « ادخلوا الأرض المقدسة » ، قال: الطور وما حوله. وقال آخرون: هو الشأم. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « الأرض المقدسة » قال: هي الشأم. وقال آخرون: هي أرض أريحا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم » قال: أريحا. حدثني يوسف بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هي أريحا. حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هي أريحا. وقيل: إن « الأرض المقدسة » دمشق وفلسطين وبعض الأرْدُنّ. وعنى بقوله: « المقدسة » المطهرة المباركة، كما:- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « الأرض المقدسة » ، قال: المباركة. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: هي الأرض المقدّسة، كما قال نبي الله موسى صلى الله عليه، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تُدرك حقيقةُ صحته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به. غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع جميع أهل التأويل والسِّير والعلماء بالأخبار على ذلك. ويعني بقوله: « التي كتب الله لكم » التي أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن ومنازل دون الجبابرة التي فيها. فإن قال قائل: فكيف قال: « التي كتب الله لكم » ، وقد علمت أنَّهم لم يدخلوها بقوله: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ؟ فكيف يكون مثبتا في اللوح المحفوظ أنها مساكن لهم، ومحرمًا عليهم سكناها؟ قيل: إنها كتبت لبني إسرائيل دارًا ومساكن، وقد سكنوها ونـزلوها وصارت لهم، كما قال الله جل وعز. وإنما قال لهم موسى: « ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم » ، يعني بها: كتبها الله لبني إسرائيل، وكان الذين أمرهم موسى بدخولها من بني إسرائيل ولم يعن صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ذكره كتبها للذين أمرهم بدخولها بأعيانهم. ولو قال قائل: قد كانت مكتوبة لبعضهم ولخاص منهم فأخرج الكلام على العموم، والمراد منه الخاص، إذ كان يُوشع وكالب قد دخلا وكانا ممن خوطب بهذا القول كان أيضًا وجهًا صحيحًا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، « التي كتب الله لكم » ، التي وهب الله لكم. وكان السدي يقول: معنى « كتب » في هذا الموضع، بمعنى: أمر. حدثنا بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم » ، التي أمركم الله بها. القول في تأويل قوله جل ثناؤه : وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ( 21 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قيل موسى عليه السلام لقومه من بني إسرائيل، إذ أمرهم عن أمر الله عزّ ذكره إيّاه بدخول الأرض المقدسة، أنه قال لهم: امضُوا، أيها القوم، لأمر الله الذي أمركم به من دخول الأرض المقدسة « ولا ترتدوا » يقول: لا ترجعوا القهقرى مرتدّين « على أدباركم » يعني: إلى ورائكم، ولكن امضوا قُدُمًا لأمر الله الذي أمركم به، من الدخول على القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم عليهم في أرضهم، وأنّ الله عز ذكره قد كتبها لكم مسكنًا وقرارًا. ويعني بقوله: « فتنقلبوا خاسرين » ، أي: تنصرفوا خائبين هُلَّكًا. وقد بينا معنى « الخسارة » في غير هذا الموضع، بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع. فإن قال قائل: وما كان وجه قيل موسى لقومه، إذْ أمرهم بدخول الأرض المقدسة: « لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين » ، أوَ يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضًا جعلت له؟ قيل: إن الله عز ذكره كان أمرهم بقتال من فيها من أهل الكفر به وفرض عليهم دخولها، فاستوجب القوم الخسارة بتركهم إذًا فرض الله عليهم من وجهين: أحدُهما: تضييع فرض الجهاد الذي كان الله عز ذكره فرضه عليهم والثاني: خلافهم أمر الله في تركهم دخول الأرض، وقولهم لنبيهم موسى صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ : « إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون » . وكان قتادة يقول في ذلك بما: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أمروا بها، كما أمروا بالصلاة والزكاة والحجِّ والعُمْرة. القول في تأويل قوله عز ذكره : قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن جواب قوم موسى عليه السلام، إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة: أنهم أبوا عليه إجابته إلى ما أمرهم به من ذلك، واعتلّوا عليه في ذلك بأن قالوا، إن في الأرض المقدسة التي تأمرنا بدخولها، قومًا جبارين لا طاقة لنا بحربهم، ولا قوة لنا بهم. وسموهم « جبّارين » ، لأنهم كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم، فيما ذكر لنا، قد قهروا سائر الأمم غيرهم. وأصل « الجبار » ، المصلح أمر نفسه وأمر غيره، ثم استعمل في كل من اجترَّ نفعا إلى نفسه بحق أو باطل طلبَ الإصلاح لها، حتى قيل للمتعدِّي إلى ما ليس له بغيًا على الناس، وقهرًا لهم، وعتوًّا على ربه « جبار » ، وإنما هو « فعّال » من قولهم: « جبر فلان هذا الكسر » ، إذا أصلحه ولأمه، ومنه قول الراجز: قَــدْ جَــبَرَ الــدِّينَ الإلـهُ فَجَـبَرْ وَعَـوَّرَ الرَّحـمنُ مَـنْ وَلَّـى العَـوَرْ يريد: قد أصلح الدين الإله فصلح. ومن أسماء الله تعالى ذكره « الجبار » ، لأنه المصلحُ أمرَ عباده، القاهرُ لهم بقدرته. ومما ذكرته من عظم خلقهم ما:- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قصة ذكرها من أمر مُوسى وبني إسرائيل، قال، ثم أمرهم بالسير إلى أريحا وهي أرض بيت المقدس فساروا، حتى إذا كانوا قريبًا منهم، بعث موسى اثنى عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبَّارين، فلقيهم رجل من الجبارين، يقال له: « عاج » ، فأخذ الاثنى عشر فجعلهم في حُجْزَته، وعلى رأسه حَمْلة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته فقال، انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خلِّ عنهم حتى يُخْبروا قومهم بما رأوا! ففعل ذلك. حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبَّارين. قال: فسار موسى بمن معه حتى نـزل قريبًا من المدينة وهي أريحاء فبعث إليهم اثنى عشر عينًا، من كل سبطٍ منهم عينًا، ليأتوه بخبر القوم. قال: فدخلوا المدينة، فرأوا أمرًا عظيمًا من هيئتهم وجثثهم وعظمهم، فدخلوا حائطًا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم، وتتبعهم. فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم. قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عايَنُوا من أمرهم. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: « إن فيها قومًا جبَّارين » ، ذكر لنا أنهم كانت لهم أجسام وخِلَقٌ ليست لغيرهم. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: إن موسى عليه السلام قال لقومه: « إني سأبعث رجالا يأتونني بخبرهم » وإنه أخذ من كل سبط رجلا فكانوا اثنى عشر نقيبًا، فقال: « سيروا إليهم وحدِّثوني حديثهم وما أمرهم، ولا تخافوا، إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسله، وعزرتموهم، وأقرضُتم الله قرضًا حسنًا » وإنّ القوم ساروا حتى هجموا عليهم، فرأوا أقوامًا لهم أجسام عجبٌ عظمًا وقوة، وإنه فيما ذكر أبصرهم أحد الجبَارين، وهم لا يألون أن يخفُوا أنفسهم حين رأوا العجب. فأخذ ذلك الجبّار منهم رجالا فأتى رئيسَهم، فألقاهم قدّامه، فعجبوا وضحكوا منهم. فقال قائل منهم: « فإنّ هؤلاء زعموا أنهم أرادوا غزوكم » !! وأنه لولا ما دفع الله عنهم لقُتلوا، وأنهم رجعوا إلى موسى عليه السلام فحدّثوه العجب. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدُوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم، يلقونهم إلقاءً، ولا يحمل عنقود عِنبهم إلا خمسة أنفُسٍ بينهم في خشبة، ويدخُل في شطر الرمانة إذا نـزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. حدثني محمد بن الوزير بن قيس، عن أبيه، عن جويبر، عن الضحاك: « إن فيها قومًا جبارين » قال: سِفْلة لا خَلاقَ لهم. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ( 22 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قولِ قوم موسى لموسى، جوابًا لقوله لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ، فقالوا: « إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها » ، يعنون: [ حتى يخرج ] من الأرض المقدسة الجبارون الذين فيها، جبنًا منهم، وجزعًا من قتالهم. وقالوا له: إن يخرج منها هؤلاء الجبارون دخلناها، وإلا فإنا لا نُطيق دخولها وهم فيها، لأنه لا طاقة لنا بهم ولا يَدَان. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن كالب بن يافنا، أسكت الشعْبَ عن موسى صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنا سنعلو الأرض ونرثُها، وإن لنا بهم قوّة! وأما الذين كانوا معه فقالوا: لا نستطيع أن نصل إلى ذلك الشعب، من أجل أنهم أجرأ منا! ثم إن أولئك الجواسيس أخبروا بني إسرائيل الخبر، وقالوا: إنّا مررنا في أرض وحسسناها، فإذا هي تأكل ساكنها، ورأينا رجالهَا جسامًا، ورأينا الجبابرة بني الجبابرة، وكنا في أعينهم مثل الجراد! فأرجفت الجماعة من بني إسرائيل، فرفعوا أصواتهم بالبكاء. فبكى الشعب تلك الليلة، ووسوسُوا على موسى وهارون، فقالوا لهما: يا ليتنا مِتنا في أرض مصر! وليتنا نموت في هذه البرية، ولم يدخلنا الله هذه الأرض لنقع في الحرب، فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا غنيمًة! ولو كنا قعودًا في أرض مصر، كان خيرًا لنا وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسًا وننصرف إلى مصر. القول في تأويل قوله جل ثناؤه : قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن الرجلين الصَّالحين من قوم موسى: « يوشع بن نون » و « كالب بن يافنا » ، أنهما وفَيا لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومِه بني إسرائيل الذين أمرَهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين بما رأيا وعاينا من شدّة بطش الجبابرة وعِظم خلقهم، ووصفهما الله عز وجل بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه، كما:- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان ح، وحدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي، عن سفيان ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان عن منصور، عن مجاهد: « قال: رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما » ، قال: كلاب بن يافنا، ويوشع بن نون. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد قال: « رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما » ، قال: يوشع بن نون، وكلاب بن يافنا، وهما من النقباء. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قصة ذكرها، قال: فرجع النقباء، كلُّهم ينهى سِبْطه عن قتالهم، إلا يوشع بن نون، وكلاب بن يافنة، يأمران الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم، فعصوهما، وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثل حديث ابن بشار، عن ابن مهدي إلا أنّ ابن حميد قال في حديثه: هما من الاثنى عشر نقيبًا. حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس في قصة ذكرها. قال: فرجعوا يعني النقباء الاثنى عشر إلى موسى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال لهم موسى: اكتموا شأنهم، ولا تخبروا به أحدًا من أهل العسكر، فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فَشِلوا ولم يدخلوا المدينة. قال: فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابنَ عمه، إلا هذين الرجلين يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنة فإنهما كتما ولم يخبرا به أحدًا، وهما اللذان قال الله عز وجل: « قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما » ، إلى قوله: وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ . حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما » ، وهما اللذان كتماهم: يوشع بن نون فتى موسى، وكالوب بن يوفنة ختَنُ موسى. حدثنا سفيان قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: « قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما » ، كالوب، ويوشع بن النون فتى موسى. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما » ، والرجلان اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل: يوشع بن النون، وكالوب بن يوفنة. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما » ذكر لنا أن الرجلين: يوشع بن نون وكالب. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن موسى قال للنقباء لمَّا رجعوا فحدثوه العجبَ: « لا تحدثوا أحدًا بما رأيتم، إن الله سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم » وإن القوم أفشوا الحديث في بني إسرائيل، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما، كان أحدهما، فيما سمعنا، يوشع بن نون وهو فتى موسى، والآخر كالب- فقالا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ إلى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: « قال رجلان من الذين يخافون » . قرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشام: ( قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ) بفتح « الياء » من « يخافون » ، على التأويل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفًا، أنهما يوشع بن نون وكالب، من قوم موسى، ممن يخاف الله، وأنعمَ عليهما بالتوفيق. وكان قتادة يقول: في بعض القراءة: ( قَالَ رَجُلانِ مِنَ الذِينَ يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ) . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة ح، وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما » ، في بعض الحروف: ( يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ) . وهذا أيضا مما يدل على صحة تأويل من تأوَّل ذلك على ما ذكرنا عنه أنه قال: يوشع، وكالب. وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك: ( قَالَ رَجُلانِ مِنَ الذِينَ يُخَافُونَ ) بضم الياء ( أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ) . حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا هشيم، عن القاسم بن أبي أيوب ولا نعلمه أنه سمع منه عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرؤها بضم الياء من: ( يُخافُونَ ) . وكأن سعيدًا ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا لبني إسرائيل: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ، كانا من رهط الجبابرة، وكانا أسلما واتَّبعا موسى، فهما من أولاد الجبابرة الذين يخافهم بنو إسرائيل، وإن كانوا لهم في الدين مخالفين. وقد حكي نحو هذا التأويل عن ابن عباس. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ، قال: هي مدينةُ الجبارين. لما نـزل بها موسى وقومه، بعث منهم اثني عشر رجلا وهم النقباء الذين ذكر بعثتهم ليأتوه بخبرهم. فساروا، فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى، بعثَنا إليكم لنأتيه بخبركم! فأعطوهم حبَّة من عِنب بوِقْر الرجل، فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدُروا قَدْر فاكهتهم! فلما أتوهم قالوا لموسى: « اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون » ! « قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا » ، وكانا من أهل المدينة أسلَما واتّبعا موسى وهارون، فقالا لموسى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . قال أبو جعفر: فعلى هذه القراءة وهذا التأويل، لم يكتم من الاثنى عشر نقيبًا أحدٌ، ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة، وشدة بطشهم، وعجيب أمورهم، بل أفشوا ذلك كله. وإنما القائل للقوم ولموسى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ ، رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل يخافونهم ويرهبون الدخولَ عليهم من الجبابرة، كان أسلما وتبعا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب عندنا، قراءةُ من قرأ: ( مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ) لإجماع قرأة الأمصار عليها وأنَّ ما استفاضت به القراءة عنهم، فحجة لا يجوز خلافها، وما انفرد به الواحد، فجائز فيه الخطأ والسهو. ثم في إجماع الحجةِ في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما يوشع وكلاب، ما أغنى عن الاستشهاد على صحة القراءة بفتح « الياء » في ذلك، وفسادِ غيره. وهو التأويل الصحيحُ عندنا، لما ذكرنا من إجماعها عليه. وأما قوله: « أنعم الله عليهما » ، فإنه يعني: أنعم الله عليهم بطاعة الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه، وانتهائهم إلى أمره، والانـزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل، الذي حدّث عنه أصحابهما الآخرون الذين كانوا معهما من النقباء. وقد قيل إن معنى ذلك: أنعم الله عليهما بالخوف. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا خلف بن تميم قال، حدثنا إسحاق بن القاسم، عن سهل بن علي قوله: « قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما » ، قال: أنعم الله عليهما بالخوف. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان الضحاك يقول، وجماعة غيره. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما » ، بالهدى فهداهما، فكانا على دين موسى، وكانا في مدينة الجبّارين. القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول الرجلين اللذين يخافان الله لبني إسرائيل، إذ جبُنوا وخافوا من الدخول على الجبارين، لمَّا سمعوا خبرهم، وأخبرهم النقباء الذين أفشَوْا ما عاينوا من أمرهم فيهم، وقالوا: إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ، فقالا لهم: ادخلوا عليهم، أيها القوم بابَ مدينتهم، فإن الله معكم، وهو ناصركم، وإنكم إذا دخلتم الباب غلبتموهم، كما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوَّل، قال: لما هم بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر، حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة، خرَّ موسى وهارون على وجوههما سجودًا قدِّام جماعة بني إسرائيل، وخرَّق يوشع بن نون وكالب بن يافنا ثيابهما، وكانا من جواسيس الأرض، وقالا لجماعة بني إسرائيل: « إن الأرض مررنا بها وحسِسْناها صالحًة، رضيها ربُّنا لنا فوهبها لنا، وإنها.. تفيض لبنًا وعسلا ولكن افعلوا واحدة: لا تعصُوا الله، ولا تخشوا الشعب الذين بها، فإنهم خُبْزُنا، ومُدَفَّعون في أيدينا، إن كبرياءهم ذهبت منهم، وإن الله معنا فلا تخشوهم. فأراد جماعة من بني إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة. » حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم بعثوا اثنى عشر رجلا من كل سبط رجلا عيونًا لهم، وليأتوهم بأخبار القوم. فأمَّا عشرة فجبَّنُوا قومهم وكرَّهوا إليهم الدخول عليهم. وأما الرجلان فأمرا قومهما أن يدخلوها، وأن يتبعوا أمر الله، ورغَّبا في ذلك، وأخبرا قومهما أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « عليهم الباب » ، قرية الجبَّارين. القول في تأويل قوله جل ثناؤه : وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 23 ) قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله جل وعزّ عن قول الرجلين اللذين يخافان الله، أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك، ويرغِّبانهم في المضيّ لأمر الله بالدخول على الجبارين في مدينتهم توكلوا أيها القوم، على الله في دخولكم عليهم، فيقولان لهم: ثقوا بالله، فإنه معكم إن أطعتموه فيما أمركم من جهاد عدوِّكم. وعنيا بقولهما: « إن كنتم مؤمنين » إن كنتم مصدِّقي نبيكم صلى الله عليه وسلم فيما أنبأكم عن ربَّكم من النصرة والظفر عليهم، وفي غير ذلك من إخباره عن ربه ومؤمنين بأن ربَّكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم في بلاد عدوِّه وعدوِّكم. القول في تأويل قوله عز ذكره : قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا ( 24 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملأ من قوم موسى لموسى، إذ رُغِّبوا في جهاد عدوِّهم، ووعِدوا نصر الله إيَّاهم إن هم ناهضوهم ودخلوا عليهم باب مدينتهم، أنهم قالوا له: « إنا لن ندخلها أبدًا » يعنون: إنا لن ندخل مدينتهم أبدًا. و « الهاء والألف » في قوله: « إنا لن ندخلها » ، من ذكر « المدينة » . ويعنون بقولهم: « أبدًا » ، أيام حياتنا « ما داموا فيها » ، يعنون: ما كان الجبارُون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم وأُمِروا بدخولها « فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا هاهنا قاعدون » ، لا نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربُّك فتقاتلانهم. وكان بعضهم يقول في ذلك: ليس معنى الكلام: اذهب أنت، وليذهب معك ربك فقاتلا ولكن معناه: اذهب أنت، يا موسى، وليعنك ربُّك. وذلك أن الله عز ذكره لا يجوز عليه الذهاب. وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له، لو كان الخبر عن قوم مؤمنين. فأمّا قومٌ أهلُ خلافٍ على الله عز ذكره ورسوله، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عز وجل وافتروا عليه، إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم. وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خلافَ ما قال قومُ موسى لموسى. حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع عن سفيان، عن مخارق، عن طارق: أن المقداد بن الأسود قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: « اذهب أنت ورَبك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون » ، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية، حين صَدّ المشركون الهَدْيَ وحيل بينهم وبين مناسكهم: « إني ذاهب بالهَدْيِ فناحِرُه عند البيت! فقال له المقداد بن الأسود: أمَا والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذْ قالوا لنبيهم: » اذهب أنت وربك فقاتِلا إنا هاهنا قاعدون « ولكن: اذهب أنت وربك فقاتِلا إنّا معكم مقاتلون! فلما سمعها أصحابُ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك. » وكان ابن عباس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون: إنما قالوا هذا القول لموسى عليه السلام، حين تبيَّن لهم أمر الجبارين وشدّةُ بطشهم. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: أمر الله جل وعزّ بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهِّم موسى عليه السلام، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال لهم موسى: « ادخلوها » ، فأبوا وجبُنوا، وبعثوا اثنى عشر نقيبًا لينظروا إليهم، فانطلقوا فنظروا فجاءوا بحبة فاكهة من فاكهتهم بوِقْر الرجل، فقالوا: اقدُرُوا قوّة قوم وبأسُهم هذه فاكهتهم! فعند ذلك قالوا لموسى: « اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون » . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، نحوه. القول في تأويل قوله جل ثناؤه : قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( 25 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل وعز عن قيل قوم موسى حين قال له قومه ما قالوا، من قولهم: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ أنه قال عندَ ذلك، وغضب من قيلهم له، داعيا: يا رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي يعني بذلك، لا أقدر على أحد أن أحمله على ما أحب وأريد من طاعتك واتّباع أمرك ونهيك، إلا على نفسي وعلى أخي. من قول القائل: « ما أملك من الأمر شيئا إلا كذا وكذا » ، بمعنى: لا أقدر على شيء غيره. ويعني بقوله: « فافرق بيننَا وبين القوم الفاسقين » ، افصل بيننا وبينهم بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم فتبعِدُهم منّا. من قول القائل: « فَرَقت بين هذين الشيئين » ، بمعنى: فصلت بينهما، من قول الراجز: يَــا رَبِّ فــافْرُقْ بَيْنَــهُ وَبَيْنِـي أَشَــدَّ مَــا فَــرَّقْتَ بَيْـنَ اثْنَيْـنَ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين » ، يقول: اقض بيني وبينهم. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين » ، يقول: اقض بيننا وبينهم. حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: غضب موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له القوم: « اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون » ، فدعا عليهم فقال: « رب إنّي لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين » ، وكانت عَجْلَةً من موسى عِجلها. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين » ، يقول: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم كلّ هذا يقول الرجل: « اقض بيننا » فقضاء الله جل ثناؤه بينه وبينهم: أن سماهم « فاسقين » . وعنى بقوله: « الفاسقين » الخارجين عن الإيمان بالله وبه إلى الكفر بالله وبه. وقد دللنا على أن معنى « الفسق » ، الخروج من شيء إلى شيء، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله جل ثناؤه : قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الناصب لِـ « الأربعين » . فقال بعضهم: الناصب له قوله: « محرّمة » ، وإنما حرم الله جل وعزّ على القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حَرْب الجبارين دخولَ مدينتهم أربعين سنة، ثم فتحها عليهم وأسكنهموها، وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم، بعد أن انقضت الأربعون سنة وخرجوا من التيه. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما قال لهم القوم ما قالوا، ودعا موسى عليهم، أوحى الله إلى موسى: « إنها محرمة عليهم أربعين سنًة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين » ، وهم يومئذ، فيما ذكر، ستمائة ألف مقاتل. فجعلهم « فاسقين » بما عصوا. فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستّة، أو دون ذلك، يسيرون كل يوم جادِّين لكي يخرجوا منها، حتى سئموا ونـزلوا، فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا وإنهم اشتكوا إلى موسى ما فُعِل بهم، فأنـزل عليهم المنّ والسلوى، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، وينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته. وسأل موسى ربه أن يسقيهم، فأتى بحجر الطور، وهو حجر أبيض، إذا ما نـزل القوم ضربه بعصاه، فيخرج منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سبط منهم عَيْنٌ، قد علم كل أناس مشربهم. حتى إذا خَلَت أربعون سنة، وكانت عذابًا بما اعتدوا وعصوا، أوحى إلى موسى: أنْ مُرْهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة، فإن الله قد كفاهم عدوَّهم، وقل لهم إذا أتوا المسجد: أن يأتوا الباب، ويسجدوا إذا دخلوا، ويقولوا: حِطَّةٌ وإنما قولهم: حِطَّةٌ ، أن يحطَّ عنهم خطاياهم فأبى عامة القوم وعصوا، وسجدوا على خدِّهم، وقالوا: « حنطة » ، فقال الله جل ثناؤه: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إِلَى بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [ سورة البقرة: 59 ] . وقال آخرون: بل الناصب لِـ « الأربعين » ، « يتيهون في الأرض » . قالوا: ومعنى الكلام: قال، فإنَّها محرمة عليهم أبدًا، يتيهون في الأرض أربعين سنة. قالوا: ولم يدخُل مدينة الجبَّارين أحد ممن قال: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ، وذلك أن الله عز ذكره حرَّمها عليهم. قالوا: وإنما دخلها من أولئك القوم يُوشع وكلاب، اللذان قالا لهم: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ، وأولادُ الذين حرَّم الله عليهم دخولها، فتيَّههم الله فلم يدخلها منهم أحدٌ. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله جل وعزّ: « إنها محرمة عليهم » ، قال: أبدًا. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله: « يتيهون في الأرض » ، قال: أربعين سنة. حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون النحوي قال، حدثني الزبير بن الخرّيت، عن عكرمة في قوله: « فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض » ، قال: التحريم، التيهاءُ. حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: غضب موسى على قومه فدعا عليهم فقال: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي الآية، فقال الله جل وعز: « فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض » . فلما ضُرِب عليهم التيه، ندم موسى. وأتاه قومه الذين كانوا [ معه ] يطيعونه، فقال له: ما صنعت بنا يا موسى! فمكثوا في التيه. فلما خرجوا من التيه، رُفع المنُّ والسلوى وأكلُوا من البقول. والتقى موسى وعاج، فنـزا موسى في السماء عشرة أذرع وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع فأصاب كعب عاج فقتله. ولم يبق [ أحد ] ممن أبى أن يدخل قرية الجبَارين مع موسى، إلا مات ولم يشهد الفتح. ثم إن الله جل وعز لما انقضت الأربعون سنة، بعث يوشع بن النون نبيًا، فأخبرهم أنه نبيّ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبّارين، فبايعوه وصدَّقوه، فهزم الجبارين واقتحمُوا عليهم يقتُلونهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عُنُق الرجل يضربونها لا يقطعونها. حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال الله جل وعز: لما دعا موسى « فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض » . قال: فدخلوا التيه، فكلُّ من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنًة مات في التيه. قال: فمات موسى في التيه، ومات هارون قبله. قال: فلبثوا في تيههم أربعين سنة، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينةَ الجبارين، فافتتح يوشع المدينة. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال الله جل وعزّ: « إنها محرّمة عليهم أربعين سنة » ، حرمت عليهم [ القُرَى ] ، فكانوا لا يهبطون قرية ولا يقدرون على ذلك، إنما يتبعون الأطواء أربعين سنة، وذكر لنا أن موسى صلى الله عليه وسلم مات في الأربعين سنة، وأنه لم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل قال: لما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من معصيتهم نبيّهم، وهّمهم بكالب ويوشع، إذْ أمرَاهم بدخول مدينة الجبارين، وقالا لهم ما قالا ظهرت عظمة الله بالغمام على باب قُبّة الزُّمَرِ على كل بني إسرائيل، فقال جل ثناؤه لموسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب؟ وإلى متى لا يصدّقون بالآيات كلِّها التي وضَعتُ بينهم؟ أضربهم بالموت فأهلكهم، وأجعل لك شعبًا أشد وأكبر منهم. فقال موسى: يسمع أهلُ المصر الذين أخرجتَ هذا الشعب بقوّتك من بينهم، ويقول ساكن هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب، فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد، لقالت الأمم الذين سمعوا باسمك: « إنما قتل هذا الشعب من أجل الذين لا يستطيع أن يدخلهم الأرض التي خلق لهم، فقتلهم في البّرية » ، ولكن لترتفع أياديك ويعظم جزاؤك، يا رَبِّ، كما كنت تكلَّمت وقلتَ لهم، فإنه طويلٌ صبرك، كثيرة نعمك، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق، وإنك تحفظ [ ذنب ] الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة. فاغفر، أيْ ربِّ، آثام هذا الشعب بكثرة نعمك، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الآن. فقال الله جل ثناؤه لموسى صلى الله عليه: قد غفرت لهم بكَلمتك، ولكن حيٌّ أنا، وقد ملأت الأرض محمدتي كلها، لا يرى القوم الذين قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي القفار، وابتلوني عشر مرات ولم يطيعوني، لا يرون الأرض التي حلفت لآبائهم، ولا يراها من أغضبني، فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع هواي، فإني مدخله الأرض التي دخلها، ويراها خَلَفه. وكان العماليق والكنْعانيون جلوسًا في الجبال، ثم غدوا فارتحلوا إلى القفار في طريق بحر سوف، وكلم الله عز وجل موسى وهارون، وقال لهما: إلى متى توسوس عليّ هذه الجماعة جماعة السوء؟ قد سمعتُ وسوسة بني إسرائيل. وقال، لأفعلن بكم كما قلت لكم، ولتلقينَّ جِيَفكم في هذه القفار، وكحسابكم، من بني عشرين سنة فما فوق ذلك، من أجل أنكم وسوستم عليّ، فلا تدخلوا الأرض التي رفعت [ يدي ] إليها، ولا ينـزل فيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ويوشع بن نون، وتكون أثقالكم كما كنتم الغنيمة، وأما بنُوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشر، فإنهم يدخلون الأرض، وإني بهم عارف، لهم الأرض التي أردت لهم، وتسقط جيفكم في هذه القفار، وتتيهون في هذه القفار على حساب الأيَّام التي حَسَستم الأرض أربعين يومًا، مكان كل يوم سنةً وتقتلون بخطاياكم أربعين سنة، وتعلمون أنكم وسوستم قُدَّامي. إنى أنا الله فاعل بهذه الجماعة جماعة بني إسرائيل الذين وعدوا قدامي بأن يتيهوا في القفار، فيها يموتون. فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم ليتحسسوا الأرض، ثم حرَّشوا الجماعة، فأفشوا فيهم خبرَ الشرّ، فماتوا كلهم بغتًة، وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتحسسون الأرض. فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كلَّه لبني إسرائيل، حزن الشعب حزنًا شديدًا، وغدوا فارتفعوا، إلى رأس الجبل، وقالوا: نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه، من أجل أنا قد أخطأنا. فقال لهم موسى: « لم تعتدون في كلام الله؟ من أجل ذلك لا يصلح لكم عمل، ولا تصعدوا من أجل أنَّ الله ليس معكم، فالآن تنكسرون من قدّام أعدائكم، من أجل العمالقة والكنعانيين أمامكم، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله، فلم يكن الله معكم » . فأخذوا يَرْقَوْنَ في الجبل، ولم يبرح التابوت الذي فيه مواثيق الله جل ذكره وموسى من المحلة يعني من الخيمة حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط، فحرقوهم وطردوهم وقتلوهم. فتيّههم الله عز ذكره في التيه أربعين سنًة بالمعصية، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك. قال: فلما شَبّ النواشئ من ذراريهم وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تُيِّهوا فيها، وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وكان - فيما يزعمون- على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، وكان لهما صهرًا، قدَّم يوشع بن نون إلى أريحا، في بني إسرائيل، فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يُقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم قبره أحد من الخلائق. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: إن « الأربعين » منصوبة بـ « التحريم » وإنّ قوله: « محرمة عليهم أربعين سنة » ، معنيٌّ به جميع قوم موسى، لا بعض دون بعض منهم. لأن الله عز ذكره عمَّ بذلك القوم، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. وقد وفَى الله جل ثناؤه بما وعدهم به من العقوبة، فتيَّههم أربعين سنة، وحرَّم على جميعهم، في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين، دخولَ الأرض المقدَّسة، فلم يدخلها منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا صالح ولا طالح، حتى انقضت السنون التي حرَّم الله عز وجَل عليهم فيها دخولها. ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخُولها مع نبي الله موسى والرجلين اللذين أنعمَ الله عليهما، وافتتح قرية الجبارين، إن شاء الله، نبيُّ الله موسى صلى الله عليه وسلم، وعلى مقدّمته يوشع، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأوَّلين أن عوج بن عناق قتلَه موسى صلى الله عليه وسلم. فلو كان قتلُه إياه قبل مصيره في التيه، وهو من أعظم الجبارين خلقًا، لم تكن بنو إسرائيل تجزَع من الجبارين الجزعَ الذي ظهر منها. ولكن ذلك كان، إن شاء الله، بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها، وأبت الدخول على الجبارين مدينَتهم. وبعدُ: فإن أهل العلم بأخبار الأوّلين مجمعون على أن بلعم بن باعور، كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى. ومحالٌ أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبًا، فأما ولا طالب، فلا وجه للحاجة إليها. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف قال: كان سرير عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجًا فأصاب كعبه، فسقط ميتًا، فكان جسرًا للناس يمرُّون عليه. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبته عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، فوثب فأصاب كعب عوج فقتله، فكانَ جسرًا لأهل النيل سنة. ومعنى: « يتيهون في الأرض » ، يحارون فيها ويضلُّون ومن ذلك قيل للرجل الضال عن سبيل الحق: « تائه » . وكان تيههم ذلك: أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كل يوم جادِّين في قدر ستة فراسخ للخروج منه، فيمسون في الموضع الذي ابتدأوا السير منه. حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة، يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم. القول في تأويل قوله جل ثناؤه : فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( 26 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فلا تأس » ، فلا تحزن. يقال منه: « أسِيَ فلان على كذا يأسىَ أسًى » ، و « قد أسيت من كذا » ، أي حزنت، ومنه قول امرئ القيس: وُقُوفًـا بِهَـا صَحْـبي عَـلَيَّ مَطِيَّهُـمْ يَقُولُــونَ: لا تَهْلِـكْ أَسًـى وتَجَـمَّل يعني: لا تهلك حزنًا. وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « فلا تأس » يقول: فلا تحزن. حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط، عن السدي: « فلا تأس على القوم الفاسقين » ، قال: لما ضُرب عليهم التّيه، ندم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما نَدِم أوحى الله إليه: « فلا تأس على القوم الفاسقين » ، لا تحزن على القوم الذين سمَّيتهم « فاسقين » ، فلم يحزن. القول في تأويل قوله عز وجل : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( 27 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتلُ على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطُوا أيديهم إليكم، وعلى أصحابك معك وعرِّفهم مكروهَ عاقبة الظلم والمكر، وسوء مغبَّة الخَتْر ونقض العهد، وما جزاء الناكثِ وثوابُ الوافي خبرَ ابني آدم، هابيل وقابيل، وما آل إليه أمر المطيع منهما ربَّه الوافي بعهده، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربَّه الخاتِر الناقضِ عهده. فلتعرف بذلك اليهود وخَامِة غِبّ غَدْرهم ونقضهم ميثاقَهم بينك وبينهم، وهمَّهم بما همُّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك، فإن لك ولهم في حسن ثوابي وعِظَم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتولَ الوافِيَ بعهده من ابني آدم، وعاقبتُ به القاتل الناكثَ عهده عزاءً جميلا. واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان، وسبب قَبُول الله عز وجل ما تقبل منه، ومَنِ اللذان قرَّبا؟ فقال بعضهم: كان ذلك عن أمر الله جل وعز إياهما بتقريبه، وكان سبب القبول أن المتقبَّل منه قرَّب خير ماله، وقرب الآخر شر ماله، وكان المقرِّبان ابني آدم لصلبه، أحدهما: هابيل، والآخرُ: قابيل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن هشام بن سَعْد، عن إسماعيل بن رافع قال: بلغني أن ابني آدم لمّا أُمِرَا بالقربان، كان أحدهما صاحب غَنَم، وكان أُنْتِجَ له حَمَلٌ في غنمه، فأحبه حتى كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له مالٌ أحبَّ إليه منه. فلما أُمِر بالقربان قرّبه لله فقبله الله منه، فما زال يَرْتَع في الجنة حتى فُدِي به ابن إبراهيم صلى الله عليهما. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو قال: إنّ ابني آدم اللذين قرّبا قربانًا فتقبّل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حَرْثٍ، والآخر صاحب غنم. وأنهما أُمرا أن يقرّبا قربانًا وإن صاحب الغَنَم قرب أكرم غنمه وأسمَنَها وأحسَنَها طيّبًة بها نفسه وإن صاحبَ الحرث قرّب شَرّ حرثه، [ الكوزن ] والزُّوان، غير طيبةٍ بها نفسه وإن الله تقبّل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قُربان صاحب الحرث. وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه. وقال: أيمُ الله، إنْ كان المقتول لأشدّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّجُ أن يبسطَ يده إلى أخيه. وقال آخرون: لم يكن ذلك من أمرِهما عن أمرِ الله إياهما به. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتصدَّق عليه، وإنما كان القربان يقرِّبه الرجل. فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا « لو قربنا قربانًا » ! وكان الرجل إذا قرب قربانًا فرضيه الله جل وعزّ، أرسل إليه نارًا فأكلته. وإن لم يكن رضيَه الله، خَبَتِ النار. فقرّبا قربانًا، وكان أحدهما راعيًا، وكان الآخر حرَّاثًا، وإنّ صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنَها، وقرب الآخر بعضَ زرعه. فجاءت النار فنـزلت يينهما، فأكلت الشاة وتركت الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه: أتَمْشي في الناس وقد علموا أنك قرَّبت قربانًا فتُقبِّل منك، ورُدَّ علي؟ فلا والله لا تنظر الناس إليّ وإليك وأنت خير مني!! فقال: لأقتلنَّك! فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « إذ قربا قربانًا » ، قال: ابنا آدم، هابيل وقابيل، لصلب آدم. فقرّب أحدهما شاةً، وقرب الآخر بَقْلا فقبل من صاحب الشاة، فقتله صاحبه. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله: « واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذْ قرّبا قربانًا » قال: هابيل وقابيل، فقرب هابيل عَنَاقًا من أحسن غَنَمه، وقرب قابيل زرعًا من زرعه. قال: فأكلت النار العَناقَ، ولم تأكل الزرع، فقال: لأقتلنك! قال: إنما يتقبل الله من المتقين. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدا في قوله: « واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا » قال: هو هابيل وقابيل لصُلْب آدم، قربا قربانًا، قرب أحدهما شاة من غنمه، وقرب الآخر بَقْلا فتُقُبِّل من صاحب الشاة، فقال لصاحبه: لأقتلنك! فقتله. فعقل الله إحدى رجليه بساقها إلى فخذها إلى يوم القيامة، وجعل وجهه إلى الشمس حيثما دارت، عليه حَظِيرة من ثلج في الشتاء، وعليه في الصيف حظيرة من نار، ومعه سبعةُ أملاكٍ، كلما ذهب مَلَك جاء الآخر. حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس: « واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر » ، قال: قرّب هذا كبشًا، وقرّب هذا صُبَرًا من طعام، فتقبل من أحدهما، قال: تُقُبل من صاحب الشاة، ولم يتقبل من الآخر. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر » ، كان رجلان من بني آدم، فتُقُبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية: « واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق » ، قال: كان أحدهما اسمه قابيل، والآخر هابيل، أحدهما صاحب غنم، والآخر صاحب زرع، فقرب هذا من أمثل غنمه حَمَلا وقرّب هذا من أرذَلِ زرعه، قال: فنـزلت النار فأكلت الحمل، فقال لأخيه: لأقتلنك! حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوَّل: أن آدم أمر ابنه قابيل أن يُنكِح أختَه تُؤْمَهُ هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته تُؤْمَه قابيل، فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى قابيل ذلك وكره، تكرمًا عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال: نحنَ وِلادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي! ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها عن أخيه وأرادها لنفسه. فالله أعلم أيّ ذلك كان فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحلُّ لك! فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه: يا بني فقرّب قربانًا، ويقرّب أخوك هابيل قربانًا، فأيُّكما قَبِل الله قربَانه فهو أحق بها. وكان قابيل على بَذْر الأرض، وكان هابيل على رِعاية الماشية، فقرب قابيل قمحًا وقرّب هابيل أبْكارًا من أبكار غنمه وبعضهم يقول: قرب بقرة فأرسل الله جل وعز نارًا بيضاء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يُقْبَل القُربان إذا قبله. حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: وكان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، فكان يزوّج غلام هذا البطن، جاريةَ هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن، غلامَ هذا البطن الآخر. حتى ولد له ابنان يقال لهما: قابيل، وهابيل. وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضَرْعٍ. وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل. وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال: هي أختي، ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوَّجها! فأمره أبوه أن يزوِّجها هابيل، فأبى. وإنهما قربا قربانًا إلى الله أيُّهما أحق بالجارية، كان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها، قال الله عز ذكره لآدم: يا آدمُ، هل تعلم أن لي بيتًا في الأرض؟ قال: اللهم لا! قال: فإن لي بيتًا بمكة فأتِه. فقال آدم للسماء: « احفظي ولدي بالأمانة » ، فأبت. وقال للأرض، فأبت. وقال للجبال فأبت. وقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجدُ أهلك كما يسرُّكَ. فلما انطلق آدم، قربا قربانًا، وكان قابيل يفخَر عليه فقال: أنا أحق بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصيُّ والدي! فلما قرَّبا، قرب هابيل جَذَعة سمينة، وقرّب قابيل حُزمة سنبل، فوجد فيها سنبلةً عظيمة، ففرَكَها فأكلها. فنـزلت النار فأكلت قربانَ هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي! فقال هابيل: إنما يتقبَّل الله من المتقين. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق » ، ذكر لنا أنهما هابيل وقابيل. فأما هابيل، فكان صاحب ماشية، فعمَد إلى خير ماشيته فتقرّب بها، فنـزلت عليه نار فأكلته وكان القربان إذا تُقُبل منهم، نـزلت عليه نار فأكلته. وإذا رُدَّ عليهم أكلته الطيرُ والسباع وأما قابيل، فكان صاحب زرع، فعمد إلى أردإ زرعه فتقرب به، فلم تنـزل عليه النار، فحسد أخاه عند ذلك فقال: لأقتلنك! قال: إنما يتقبل الله من المتقين. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق » ، قال: هما هابيل وقابيل، قال: كان أحدهما صاحب زرع، والآخر صاحب ماشية، فجاء أحدهما بخيرِ ماله، وجاء الآخر بشر ماله. فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما، وهو هابيل، وتركت قربان الآخر، فحسده فقال: لأقتلنك! حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: « إذ قرّبا قربانًا » ، قال: قرّب هذا زرعًا، وذَا عناقًا، فتركت النارُ الزرعَ وأكلتِ العَناق. وقال آخرون: اللذان قرّبا قربانًا، وقصَّ الله عز ذكره قصصهما في هذه الآية: رجلان من بني إسرائيل، لا من ولد آدم لصلبه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن قال: كان الرجلان اللذان في القرآن، اللذان قال الله: « واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق » ، من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القُربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، أن اللذين قرّبا القربان كانا ابني آدم لصلبه، لا من ذرّيته من بني إسرائيل. وذلك أن الله عز وجل يتعالى عن أن يخاطب عبادَه بما لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريبَ القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم، دون الملائكة والشياطين وسائرِ الخلق غيرهم. فإذْ كان معلومًا ذلك عندهم، فمعقول أنه لو لم يكن معنيًّا بـِ « ابني آدم » اللذين ذكرهما الله في كتابه، ابناهُ لصلبه، لم يفدْهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم. وإذْ كان غيرَ جائز أن يخاطبهم خطابًا لا يفيدهم به معنًى، فمعلوم أنه عَنى بـ « ابني آدم » ، [ ابني آدم لصلبه ] ، لا بَنِي بنيه الذين بَعُد منه نسبهم، مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل، على أنهما كانا ابني آدم لصلبه، وفي عهد آدم وزمانه، وكفى بذلك شاهدا. وقد ذكرنا كثيًرا ممن نُصَّ عنه القول بذلك، وسنذكر كثيرًا ممن لم يذكر إن شاء الله. حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا حسام بن المِصَكّ، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك، ثم أتي فقيل له: حيّاك الله وبيّاك! فقال: « بياك » ، أضحكك. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني قال، قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: لما قتل ابن آدم أخاه، بكى آدم فقال: تَغَــيَّرَتِ الْبِــلادُ وَمَــنْ عَلَيْهَــا فَلَـــوْنُ الأَرْضِ مُغْــــبَرٌّ قَبِيــحُ تَغَــيَّرَ كُــلُّ ذِي لَــوْنٍ وَطَعْــمٍ وَقَــلَّ بَشَاشَــةُ الْوَجْــهِ الْمَلِيــحِ فأجيب آدم عليه السلام: أَبَــا هَــابِيلَ قَــدْ قُتِـلا جَمِيعًـا وَصَــارَ الْحَــيُّ كَـالْمَيْتِ الـذَّبِيـحِ وَجَــاءَ بِشِــرَّةٍ قَــدْ كَـانَ مِنْهَـا عَــلَى خَـوْفٍ, فَجَـاءَ بِهَـا يَصِيـحُ قال أبو جعفر: وأما القول في تقريبهما ما قرَّبا، فإن الصواب فيه من القول أن يقال: إن الله عز ذكره أخبرَ عبادَه عنهما أنهما قد قربا، ولم يخبر أن تقريبهما ما قرّبا كان عن أمر الله إياهما به، ولا عن غير أمره. وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك وجائز أن يكون عن غير أمره. غير أنه أيّ ذلك كان، فلم يقرّبا ذلك إلا طلب قرْبةٍ إلى الله إن شاء الله. وأما تأويل قوله: « قال لأقتلنك » ، فإن معناه: قال الذي لم يُتَقَبَّل منه قربانه، للذي تُقُبّل منه قربانه: « لأقتلنك » ، فترك ذكر: « المتقبل قربانه » و « المردود عليه قربانه » ، استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته. وكذلك ترك ذكر « المتقبل قربانه » مع قوله، « قال إنما يتقبل الله من المتقين » . وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس. حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « قال لأقتلنك » ، فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « إنما يتقبل الله من المتقين » ، قال يقول: إنك لو اتقيت الله في قربانك تُقُبل منك، جئت بقربانٍ مغشوش بأشرِّ ما عندك، وجئت أنا بقربان طيِّب بخير ما عندي. قال: وكان قال: يتقبل الله منك ولا يتقبل مني! ويعني بقوله: « من المتقين » ، من الذين اتقوا الله وخافوه، بأداء ما كلفهم من فرائضه، واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته. وقد قال جماعة من أهل التأويل: « المتقون » في هذا الموضع، الذين اتقوا الشرك. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله: « إنما يتقبل الله من المتقين » ، الذين يتقون الشرك. وقد بينا معنى « القربان » فيما مضى وأنه « الفعلان » من قول القائل: « قرَّب » ، كما « الفُرْقان » « الفعلان » من « فرق » ، و « العُدْوان » من « عدا » . وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمَّتنا، كالصدقات والزكوات فينا، غير أن قرابينهم كان يُعْلم المتقبل منها وغير المتقبَّل فيما ذكر بأكل النار ما تُقُبل منها، وترك النار ما لم يُتقبّل منها. و « القربان » في أمّتنا، الأعمال الصالحة، من الصَّلاة، والصيام، والصدقة على أهل المسكنة، وأداءِ الزكاة المفروضة. ولا سبيل لها إلى العلم في عاجلٍ بالمتقبَّل منها والمردود. وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري، أنه حين حضرته الوفاة بَكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقد كنتَ وكنتَ! فقال: يبكيني أنّي أسمع الله يقول: « إنما يتقبل الله من المتقين » . حدثني بذلك محمد بن عمر المقدمي قال، حدثني سعيد بن عامر، عن همّام، عمن ذكره، عن عامر. وقد قال بعضهم: قربان المتقين، الصلاة. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عمران بن سليمان، عن عدي بن ثابت قال: كان قربان المتّقين، الصلاة. القول في تأويل قوله عز ذكره : لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ( 28 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن المقتول من ابني آدم أنه قال لأخيه لما قال له أخوه القاتل: لأقتلنك: والله « لئن بسطت إليَّ يدك » ، يقول: مددت إليَّ يدك « لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك » ، يقول: ما أنا بمادٍّ يدي إليك « لأقتلك » . وقد اختلف في السبب الذي من أجله قال المقتول ذلك لأخيه، ولم يمانعه ما فَعَل به. فقال بعضهم: قال ذلك، إعلامًا منه لأخيه القاتل أنه لا يستحل قتلَه ولا بسطَ يده إليه بما لم يأذن الله جل وعز له به. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: وايم الله، إن كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّج أن يبسُط إلى أخيه. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك » ، ما أنا بمنتصر، ولأمسكنَّ يدي عنك. وقال آخرون: لم يمنعه مما أراد من قتله، وقال ما قال له مما قصَّ الله في كتابه: [ إلا ] أن الله عزّ ذكره فرضَ عليهم أن لا يمتنع من أريد قتله ممن أراد ذلك منه. ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدًا يقول في قوله: « لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك » ، قال مجاهد: كان كُتب عليهم، إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد كان حرَّم عليهم قتل نفسٍ بغير نفس ظلمًا، وأن المقتول قال لأخيه: « ما أنا بباسط يدي إليك إن بسطت إليّ يدك » ، لأنه كان حرامًا عليه من قتل أخيه مثلُ الذي كان حرامًا على أخيه القاتل من قتله. فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله، فلا دلالة على أن القاتلَ حين أراد قتله وعزم عليه، كان المقتول عالمًا بما هو عليه عازمٌ منه ومحاولٌ من قتله، فترك دفعَه عن نفسه. بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غِيلةً، اغتاله وهو نائم، فشدَخ رأسه بصخرةٍ. فإذْ كان ذلك ممكنًا، ولم يكن في الآيةِ دلالة على أنه كان مأمورًا بترك منع أخيه من قتله، يكون جائزًا ادعاءُ ما ليس في الآية، إلا ببرهان يجب تسليمُه. وأما تأويل قوله: « إنّي أخاف الله رب العالمين » فإنه: إنّي أخاف الله في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك « رب العالمين » ، يعني: مالك الخلائق كلها أن يعاقبني على بسط يدي إليك. القول في تأويل قوله عز ذكره : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ( 29 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي، وإثمك في معصيتك الله، وغير ذلك من معاصيك. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون، قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في حديثه، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك » ، يقول: إثم قتلي، إلى إثمك الذي في عنقك « فتكون من أصحاب النار » . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك » ، يقول: بقتلك إياي، وإثمك قبل ذلك. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: « إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك » ، قال: بإثم قتلي وإثمك. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك » يقول: إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي، تبوء بهما جميعًا. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: « إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك » ، يقول: إني أريد أن تبوء بقتلك إياي « وإثمك » ، قال: بما كان منك قبل ذلك. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثني عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله: « إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك » ، قال: أما « إثمك » ، فهو الإثم الذي عمل قبل قتل النفس يعني أخاه وأما « إثمه » ، فقتلُه أخاه. وكأن قائلي هذه المقالة، وجَّهوا تأويل قوله: « إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك » ، إلى: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي فحذف « القتل » واكتفى بذكر « الإثم » ، إذ كان مفهومًا معناه عند المخاطبين به. وقال آخرون: معنى ذلك: إني أريد أن تبوء بخطيئتي، فتتحمل وزرها، وإثمِك في قتلك إيّاي. وهذا قول وجدتُه عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطًا، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبلُ. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك » ، يقول: إني أريد أن تكون عليك خطيئتي ودمي، فتبوء بهما جميعًا. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن تأويله: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله: « إني أريد أن تبوء بإثمي » وأما معنى: « وإثمك » ، فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصيته الله جل ثناؤه في أعمالٍ سِوَاه. وإنما قلنا ذلك هو الصواب، لإجماع أهل التأويل عليه. لأن الله عز ذكره قد أخبرنا أن كل عامل فجزاءُ عمله له أو عليه. وإذا كان ذلك حكمه في خلقه، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذًا بها القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثامِ معاصيه التي ارتكبها بنفسه، دون ما ركبَه قتيلُه. فإن قال قائل: أو ليس قتلُ المقتول من بني آدم كان معصيةً لله من القاتل؟ قيل: بلى، وأعظِمْ بها معصية! فإن قال: فإذا كان لله جل وعز معصيًة، فكيف جاز أن يُريد ذلك منه المقتول، ويقول: « إني أريد أن تبوء بإثمي » ، وقد ذكرتَ أن تأويل ذلك، إني أريد أن تبوء بإثم قتلي؟ [ قيل ] معناه: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني، لأني لا أقتلك، فإن أنت قتلتني، فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي. وهو إذا قتله، فهو لا محالة باءَ به في حكم الله، فإرادته ذلك غير موجبةٍ له الدخولَ في الخطأ. ويعني بقوله: « فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين » ، يقول: فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم، ووقود النار المخلدين فيها « وذلك جزاء الظالمين » ، يقول: والنار ثوابُ التاركين طريق الحق، الزائلين عن قصد السبيل، المتعدِّين ما جُعِل لهم إلى ما لم يجعل لهم. وهذا يدل على أن الله عز ذكره قد كان أمرَ ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض، ووعد وأوعد. ولولا ذلك ما قال المقتول للقاتل: « فتكون من أصحاب النار » بقتلك إياي، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين. فكان مجاهد يقول: عُلّقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج. حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال مجاهد ذلك قال: وقال عبد الله بن عمرو: وإنا لنجد ابنَ آدم القاتلَ يقاسِم أهل النار قسمًة صحيحًة العذابَ، عليه شطرُ عذابهم. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو ما روي عن عبد الله بن عمرو، خبٌر. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير وحدثنا سفيان قال، حدثنا جرير وأبو معاوية ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع جميعًا، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوَّلَ كفلٌ منها، ذلك بأنه أول من سَنَّ القتل. حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي ح، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن جميعا، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي قال: ما من مقتول يقتل ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفلٌ منه. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، أنه حُدِّث عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلا لابْنُ آدم الذي قتل أخاه، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم القيامة، إلا لحق به منه شيء، وذلك أنه أوَّل من سنَّ القتل. قال أبو جعفر: وهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مبينٌ عن أنّ القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذين ذكرهما الله في هذا الموضع أنهما ليسا بابني آدم لصلبه، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل وأن القول الذي حكي عنه أنّ أول من مات آدم، وأن القربان الذي كانت النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل خطأ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قَتَل أخاه: أنه أول من سَنَّ القتل. وقد كان، لا شك، القتلُ قبل إسرائيل، فكيف قبل ذريته! فخطأ من القول أن يقال: أول من سن القتل رجلٌ من بني إسرائيل. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال: « هو ابن آدم لصلبه » ، لأنه أولُ من سن القتل، فأوجب الله له من العقوبة ما رَوَينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله : فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 30 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « فطوّعت » فآتتهُ وساعدته عليه. وهو « فعَّلت » من « الطوع » ، من قول القائل: « طاعني هذا الأمر » ، إذا انقاد له. وقد اختلف أهل التأويل في تأويله. فقال بعضهم، معناه: فشجَّعت له نفسه قتل أخيه. ذكر من قال ذلك: حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ومحمد بن حميد قالا حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: « فطوعت له نفسه » ، قال: شجعت. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فطوعت له نفسه » قال: فشجعته. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فطوعت له نفسه قتل أخيه » ، قال: شجعته على قتل أخيه. وقال آخرون: معنى ذلك: زيَّنَت له. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « فطوعت له نفسه » ، قال: زينت له نفسه قتلَ أخيه فقَتله. ثم اختلفوا في صفة قتله إياه، كيف كانت، والسبب الذي من أجله قتله. فقال بعضهم: وجده نائمًا فشدَخ رأسه بصَخرة. ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبى مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن عبد الله وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فطوعت له نفسه قتل أخيه » فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال. وأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا له في جبل، وهو نائم، فرفع صخرة فشدَخ بها رأسه، فمات، فتركه بالعَرَاء. وقال بعضهم ما:- حدثني محمد بن عمر بن علي قال، سمعتَ أشعث السجستاني يقول: سمعت ابن جريج قال: ابنُ آدم الذي قتل صاحبَه لم يدر كيف يقتله، فتمثَّل إبليس له في هيئة طير، فأخذ طيرًا فقطع رأسه، ثم وضعه بين حجرين فشدَخ رأسه، فعلَّمه القتل. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قتله حيث يرعَى الغنم، فأتاه فجعل لا يدري كيف يقتله، فلَوَى برقبته وأخذ برأسه، فنـزل إبليس وأخذ دابَّةً أو طيرًا، فوضع رأسه على حجرٍ، ثم أخذ حجرًا آخر فرضخ به رأسه، وابنُ آدم القاتلُ ينظر. فأخذ أخاه فوضع رأسه على حجَر، وأخذ حجرًا آخر فرضخ به رأسه. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدًا يقول، فذكر نحوه. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما أكلت النار قربانَ ابن آدم الذي تُقُبِّل قربانه، قال الآخر لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانًا فتقُبِّل منك، ورُدَّ عليَّ؟ والله لا تنتظر الناس إلي وإليك وأنت خير مني! فقال: لأَقْتُلَنَّكَ ، فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ . فخوّفه بالنار، فلم ينته ولم ينـزجر « فطوعت له نفسه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين » . حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: أقبلت مع سعيد بن جبير أرمي الجَمْرة، وهو متقَنّع متوكئٌ على يدي، حتى إذا وازينا بمنـزل سَمُرَةَ الصوّاف، وقف يحدثني عن ابن عباس قال: نهى أن ينكح المرأة أخوها تُؤْمها، وينكحها غيره من إخوتها. وكان يولد في كل بطن رجلٌ وامرأة. فوُلدت امرأةٌ وسيمةٌ، وولدت امرأة دميمة قبيحة. فقال أخو الدّميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي. قال: لا أنا أحق بأختي. فقرّبا قربانًا، فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله. فلم يزل ذلك الكبش محبوسًا عند الله عز وجل حتى أخرجه في فداء إسحاق، فذبحه على هذا الصَّفا في ثَبِير، عند منـزل سمرة الصواف، وهو على يمينك حين ترمي الجمار قال ابن جريج، وقال آخرون بمثل هذه القصة. قال: فلم يزل بنو آدم على ذلك حتى مضى أربعة آباء، فنكح ابنةَ عمه، وذهب نكاح الأخوات. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه، ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفة قتله إياه. وجائزٌ أن يكون على نحو ما قد ذكر السديّ في خبره وجائزٌ أن يكون كان على ما ذكره مجاهد، والله أعلم أيُّ ذلك كان. غير أن القتل قد كان لا شك فيه. وأما قوله: « فأصْبَحَ من الخاسرين » ، فإن تأويله: فأصبح القاتل أخاه من ابني آدم، من حزب الخاسرين، وهم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم، بإيثارهم إياها عليها، فوُكسوا في بيعهم، وغبنوا فيه، وخابوا في صفقتهم. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ( 31 ) قال أبو جعفر: وهذا أيضًا أحدُ الأدلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو، عن الحسن، لأن الرجلين اللذين وصف الله صفتهما في هذه الآية، لو كانا من بني إسرائيل، لم يجهل القاتلُ دفنَ أخيه ومواراة سوأة أخيه، ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه، ولم يكن القاتلُ منهما أخاه عَلِم سنّة الله في عبادِهِ الموتى، ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول. فذكر أنه كان يحمله على عاتقه حينًا حتى أراحت جيفته، فأحب الله تعريفَه السنة في موتى خلقه، فقيَّض له الغرابين اللذين وصف صفتهما في كتابه. ذكر الأخبار عن أهل التأويل بالذي كان من فعل القاتل من ابني آدم بأخيه المقتول، بعد قتله إياه. حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي روق الهمداني، عن أبيه، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: مكث يحمل أخاه في جِرابٍ على رقبته سنًة، حتى بعث الله جل وعز الغُرَابين، فرآهما يبحثان، فقال: « أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب » ؟ فدفن أخاه. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه » ، بعث الله جل وعز غرابًا حيًّا، إلى غراب ميت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه: « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب » الآية. حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن عبد الله وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما مات الغلام تَركه بالعراء، ولا يعلم كيف يَدْفن. فبعث الله جل وعزّ غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حَثا عليه. فلما رآه قال: « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي » ، فهو قول الله: « فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه » . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يبحث » ، قال: بعث الله غرابًا حتى حفر لآخر إلى جنبه ميت وابن آدم القاتل ينظر إليه ثم بحث عليه حتى غيَّبه. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « غرابًا يبحث في الأرض » ، حتى حفر لآخر ميت إلى جنبه، فغيّبه، وابن آدم القاتل ينظر إليه، حيث يبحثُ عليه حتى غيبه، فقال: « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب » ، الآية. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قوله: « فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض » ، قال: بعث الله غرابًا إلى غراب، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فجعل يَحْثِي عليه التراب، فقال: « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين » . حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض » ، قال: جاء غراب إلى غراب ميّت، فحثَى عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه: « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب » ، الآية. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: لما قتله ندم، فضَّمه إليه حتى أروح، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يَرْمي به فتأكله. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه » ، أنه بعثه الله عز ذكره يبحثُ في الأرض، ذكر لنا أنهما غرابان اقتَتَلا فقتل أحدهما صاحبه، وذلك يعني ابن آدم ينظر، وجعل الحيّ يَحْثِي على الميت الترابَ، فعند ذلك قال ما قال: « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب » الآية، إلى قوله: « من النادمين » . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: أما قوله: « فبعث الله غرابًا » ، قال: قتل غرابٌ غرابًا، فجعل يحثُو عليه، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه: « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين » . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قوله: « فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه » ، قال: وارى الغراب الغراب. قال: كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به، يحمله ويضعه إلى الأرض، حتى رأى الغراب يدفن الغرابَ، فقال: « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين » . حدثني المثنى قال، حدثنا معلَّى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قول الله: « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب » ، قال: بعث الله عزّ وجل غرابًا، فجعل يَبْحَثُ على غراب ميت الترابَ. قال: فقال عند ذلك: « أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين » . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض » ، بعث الله غرابًا حيًّا إلى غراب ميّت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه: « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب » ، الآية. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل، قال: لما قتله سُقِط في يديه، ولم يَدْر كيف يواريه. وذلك أنه كان، فيما يزعمون، أوَّل قتيل من بني آدم وأوّل ميت [ قال ] : « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي » الآية [ إلى قوله: ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ، قال ] : ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه هابيل قال له جل ثناؤه: يا قابيل، أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبًا! فقال الله جل وعز له: إنّ صوت دم أخيك لينادِيني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرضِ التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض، فإنها لا تعود تعطيك حرثَها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض. قال قابيل: عظمت خطيئتي من أن تغفرها! قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض، وأتوارى من قُدَّامك، وأكون فزعًا تائهًا في الأرض، وكل من لقيني قتلني! فقال الله جل وعز: ليس ذلك كذلك، ولا يكون كل من قتل قتيلا يجزى بواحدٍ سبعة، ولكن من قتل قابيل يجزي سبعة، وجعل الله في قابيل آية لئلا يقتله كل من وجده، وخرج قابيل من قدام الله عز وجل من شرقي عدن الجنة. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا الأعمش، عن خيثمة قال: لما قتل ابن آدم أخاه نَشِفت الأرض دمه، فلُعِنت فلم تَنْشَف الأرض دمًا بعدُ. قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: فأثار الله للقاتل إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول « غرابًا يبحث في الأرض » ، يقول: يحفر في الأرض، فيثير ترابها « ليريه كيف يواري سوأة أخيه » ، يقول: ليريه كيف يواري جيفةَ أخيه. وقد يحتمل أن يكون عُنِيَ بـ « السوأة » ، الفرج، غير أن الأغلب من معناه ما ذكرت من الجيفة، بذلك جاء تأويل أهل التأويل. قال أبو جعفر: وفي ذلك محذوفٌ ترك ذكره، استغناء بدلالة ما ذكر منه، وهو: « فأراه بأن بحث في الأرض لغراب آخر ميتٍ فواراه فيها » ، فقال القاتل أخاه حينئذ: « يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب » ، الذي وارى الغرابَ الآخر الميتَ « فأواري سوأة أخي » ، فواراه حينئذ « فأصبح من النادمين » ، على ما فرط منه، من معصية الله عز ذكره في قتله أخاه. وكل ما ذكر الله عز وجلّ في هذه الآيات، مثلٌ ضربه الله عز ذكره لبني آدم، وحرَّض به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعمال العفوِ والصفح عن اليهود الذين كانوا هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم من بني النضير، إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيلي عمرو بن أمية الضمري، وعرَّفهم جل وعز رداءة سجيَّة أوائلهم، وسوء استقامتهم على منهج الحق، مع كثرة أياديه وآلائه عندهم. وضرب مثلهم في غَدْرهم، ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم، بابني آدم المقرِّبَين قرابينهما، اللذين ذكرهما الله في هذه الآيات. ثم ذلك مثلٌ لهم على التأسِّي بالفاضل منهما دون الطالح. وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، قلت لبكر بن عبد الله، أما بلغك أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله جل وعز ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا خيرَهما ودعوا شرَّهما » ؟ قال: بلى. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابني آدم ضُرِبا مثلا لهذه الأمة، فخذوا بالخير منهما. حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر. القول في تأويل قوله عز ذكره : مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « من أجل ذلك » ، من جرِّ ذلك وجَريرته وجنايته. يقول: من جرِّ القاتل أخاه من ابني آدم اللذين اقتصصنا قصتهما الجريرةَ التي جرَّها، وجنايتِه التي جناها « كتبنا على بني إسرائيل » . يقال منه: « أجَلْت هذا الأمر » ، أي: جررته إليه وكسبته، « آجله له أجْلا » ، كقولك: « أخَذْته أخذًا » ، ومن ذلك قول الشاعر: وَأَهْــلِ خِبَــاءٍ صَـالِحٍ ذَاتُ بَيْنِهـمْ قَـدِ احْـتَرَبُوا فِـي عَـاجِلٍ أَنَـا آجِلُه يعني بقوله: « أنا آجله » ، أنا الجارُّ ذلك عليه والجانِي. فمعنى الكلام: من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلمًا، حكمنا على بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفسًا ظلمًا، بغير نفس قتلت، فقتل بها قصاصًا « أو فساد في الأرض » ، يقول: أو قتل منهم نفسًا بغير فسادٍ كان منها في الأرض، فاستحقت بذلك قتلها. و « فسادها في الأرض » ، إنما يكون بالحرب لله ولرسوله، وإخافة السبيل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل » ، يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلمًا. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جل ثناؤه: « من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » . فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن شدَّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعًا. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال، حدثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، قال: من شدّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعًا، ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعًا. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: « من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا » ، يقول: من قتل نفسًا واحدًة حرَّمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعًا « ومن أحياها » ، يقول: من ترك قتل نفس واحدة حرمتها مَخَافتي، واستحياها أن يقتلها، فهو مثل استحياء الناس جميعًا يعني بذلك الأنبياء. وقال آخرون: « من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا » ، عند المقتول في الإثم « ومن أحياها » ، فاستنقذها من هلكةٍ « فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، عند المستنقذ. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، فيما ذكر عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني، عن عبد الله وعن ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: « من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتَلَ الناس جميعًا » ، عند المقتول، يقول: في الإثم « ومن أحياها » ، فاستنقذها من هلكة « فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، عند المستنقَذ. وقال آخرون: معنى ذلك: إن قاتل النفس المحرم قتلُها، يصلى النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعًا « ومن أحياها » ، من سلم من قتلها، فقد سلم من قتل الناس جميعًا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: « من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، قال: من كف عن قتلها فقد أحياها « ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا » ، قال: ومن أوبقها. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن مجاهد قال: من أوبق نفسًا فكما لو قتل الناس جميعًا، ومن أحياها وسلم من ظُلمها فلم يقتلها، فقد سلم من قتل الناس جميعًا. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد: « فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، لم يقتلها، وقد سلم منه الناس جميعًا، لم يقتل أحدًا. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الأوزاعي قال، أخبرنا عبدة بن أبي لبابة قال: سألت مجاهدًا أو: سمعته يُسْأل عن قوله: « من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا » ، قال: لو قتل الناس جميعًا، كان جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغَضِب الله عليه ولَعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً، عن الأعرج، عن مجاهد في قوله: « فكأنما قتل الناس جميعًا » ، قال: الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدًا، جعل الله جزاءه جهَنّم، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا. يقول: لو قتل الناس جميعًا لم يزد على مثل ذلك من العذاب قال ابن جريج، قال مجاهد: « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » قال: من لم يقتل أحدًا، فقد استراح الناسُ منه. حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد قال: أوبق نفسه. حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: في الإثم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: « من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا » ، وقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [ سورة النساء: 93 ] قال: يصير إلى جهنم بقتل المؤمن، كما أنه لو قتل الناس جميعًا لصار إلى جهنم. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا » قال: هو كما قال وقال: « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، فإحياؤها: لا يقتل نفسًا حرمها الله، فذلك الذي أحيا الناس جميعًا، يعني: أنه من حرم قتلها إلا بحقٍّ، حَيِي الناس منه جميعًا. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد: « ومن أحياها » ، قال: ومن حرَّمها فلم يقتلها. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن العلاء قال: سمعت مجاهدًا يقول: « من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، قال: من كف عن قتلها فقد أحياها. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: « فكأنما قتل الناس جميعًا » قال: هي كالتي في « النساء » : وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [ سورة النساء: 93 ] ، في جزائه. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « فكأنما قتل الناس جميعًا » كالتي في « سورة النساء » ، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا في جزائه « ومن أحياها » ، ولم يقتل أحدًا، فقد حيِيَ الناس منه. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد في قوله: « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، قال: التفت إلى جلسائه فقال: هو هذا وهذا. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، لأنه يجب عليه من القِصاص به والقوَد بقتله، مثلُ الذي يجب عليه من القَوَد والقصاص لو قتل الناس جميعًا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا » ، قال: يجب عليه من القتل مثلُ لو أنه قتل الناس جميعًا. قال: كان أبي يقول ذلك. وقال آخرون معنى قوله: « ومن أحياها » : من عفا عمن وجب له القِصَاص منه فلم يقتله. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، يقول: من أحياها، أعطاه الله جل وعزّ من الأجر مثلُ لو أنه أحيا الناس جميعًا « أحياها » فلم يقتلها وعفا عنها. قال: وذلك وليّ القتيل، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت. قال: كان أبي يقول ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن في قوله: « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، قال: من عفا. حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن: « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، قال: من قُتِل حميمٌ له فعفا عن دمه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن. « ومن أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعًا » ، قال: العفو بعد القدرة. وقال آخرون: معنى قوله: « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، ومن أنجاها من غَرَق أو حَرَقٍ. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » قال: من أنجاها من غَرَق أو حرَقٍ أو هَلَكةٍ. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، قال: من غرَق أو حَرَق أو هَدَمٍ. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل عن خصيف، عن مجاهد: « ومن أحياها » ، قال: أنجاها. وقال الضحاك بما:- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي عامر، عن الضحاك قال: « من قتل نفسًا بغير نفس » ، قال: من تورَّع أو لم يتورَّع. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، يقول: لو لم يقتله لكان قد أحيا الناس، فلم يستحلّ محرَّمًا. وقال قتادة والحسن في ذلك بما:- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن: « من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض » ، قال: عَظُم ذلك. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس » الآية، من قتلها على غير نفس ولا فسادٍ أفسدته « فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » عظُم والله أجرُها، وعظُم وزرها! فأحيها يا ابن آدم بما لك، وأحيها بعفوك إن استطعت، ولا قوة إلا بالله. وإنا لا نعلمُه يحل دم رجل مسلمٍ من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث: رجل كفرَ بعد إسلامه، فعليه القتل أو زنى بعد إحصانه، فعليه الرجم أو قتل متعمدًا، فعليه القَوَد. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال: تلا قتادة: « من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » قال: عظم والله أجرُها، وعظم والله وِزْرها! حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سلاّم بن مسكين قال، حدثني سليمان بن علي الربعي قال: قلت للحسن: « من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس » الآية، أهي لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إِي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل! وما جعل دماءَ بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا؟ حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد بن زيد قال: سمعت خالدًا أبا الفضل قال: سمعت الحسن تلا هذه الآية: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ إلى قوله: « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » ، ثم قال: عظَّم والله في الوزر كما تسمعون، ورغَّب والله في الأجر كما تسمعون! إذا ظننت يا ابن آدم، أنك لو قتلت الناس جميعًا، فإن لك من عملك ما تفوز به من النار‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍، كذَبَتْك والله نفسك، وكذَبَك الشيطان. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن عاصم، عن الحسن في قوله: « فكأنما قتل الناس جميعًا » قال: وِزْرًا « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » قال: أجرًا. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: تأويل ذلك: أنه من قتل نفسًا مؤمنة بغير نفس قَتَلتها فاستحقت القَوَد بها والقتل قِصاصًا أو بغير فساد في الأرض، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل ثناؤه، كما أوعده ذلك من فعله ربُّه بقوله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [ سورة النساء: 93 ] . وأما قوله: « ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا » فأولى التأويلات به، قول من قال: من حرّم قتل من حرّم الله عز ذكره قتله على نفسه، فلم يتقدّم على قتله، فقد حيي الناس منه بسلامتهم منه، وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاجّ إبراهيم في ربّه إذ قال له إبراهيم: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [ سورة البقرة: 258 ] . فكان معنى الكافر في قيله: أَنَا أُحْيِي ، أنا أترك من قَدَرت على قتله- وفي قوله: وَأُمِيتُ ، قتله من قتله. فكذلك معنى « الإحياء » في قوله: « ومن أحياها » ، من سلِمَ الناس من قتله إياهم، إلا فيما أذن الله في قتله منهم « فكأنما أحيا الناس جميعًا » . وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية، لأنه لا نفسَ يقومُ قتلُها في عاجل الضُّرّ مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقامَ إحياء جميع النفوس في عاجل النفع. فكان معلومًا بذلك أن معنى « الإحياء » : سلامة جميع النفوس منه، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة، فقد سلم منه جميع النفوس- وأن الواحدة منها التي يقوم قتلُها مقام جميعها إنما هو في الوِزْر، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها، وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررًا من فقد بعض. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( 32 ) قال أبو جعفر: وهذا قسم من الله جل ثناؤه أقسم به: أن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قصَّ الله قَصَصهم وذكر نبأهم في الآيات التي تقدَّمت، من قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ إلى هذا الموضع « بالبينات » ، يعني: بالآيات الواضحة والحجج البيِّنة على حقيقة ما أرسلوا به إليهم، وصحة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم، وأداء فرائضِ الله عليهم. يقول الله عز ذكره: « ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون » ، يعني: أن كثيرًا من بني إسرائيل. و « الهاء والميم » في قوله: « ثم إن كثيرًا منهم » ، من ذكر بني إسرائيل، وكذلك ذلك في قوله: « ولقد جاءتهم » . « بعد ذلك » ، يعني: بعد مجيء رسل الله بالبينات . « في الأرض لمسرفون » ، يعني: أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله، ومخالفون أمر الله ونهيه، ومحادُّو الله ورسله، باتباعهم أهواءَهم. وخلافهم على أنبيائهم، وذلك كان إسرافهم في الأرض. القول في تأويل قوله عز ذكره : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا قال أبو جعفر: وهذا بيان من الله عز ذكره عن حكم « الفساد في الأرض » ، الذي ذكره في قوله: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ أعلم عباده: ما الذي يستحق المفسدُ في الأرض من العقوبة والنكال، فقال تبارك وتعالى: لا جزاء له في الدنيا إلا القتلُ، والصلب، وقطعُ اليد والرِّجل من خلافٍ، أو النفي من الأرضِ، خزيًا لهم. وأما في الآخرة إن لم يتبْ في الدنيا، فعذاب عظيم. ثم اختلف أهل التأويل فيمن نـزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نـزلت في قوم مِن أهل الكتاب كانوا أهل مودَاعةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فعرَّف الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم الحكمَ فيهم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا » ، قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهدٌ وميثاق، فنقضوا العهدَ وأفسدوا في الأرض، فخيَّرَ الله رسوله: إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ. حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان قوم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاقٌ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فخيَّر الله جل وعز نبيَّه صلى الله عليه وسلم فيهم، فإن شاء قتل، وإن شاء صَلَب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه. وقال آخرون: نـزلت في قوم من المشركين. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله » إلى أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، نـزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدِروا عليه لم يكن عليه سبيل. وليست تُحْرِزُ هذه الآية الرجلَ المسلم من الحدِّ. إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقْدَر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدُّ الذي أصاب. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أشعث، عن الحسن: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله » ، قال: نـزلت في أهل الشرك. وقال آخرون: بل نـزلت في قوم من عُرَيْنه وعُكْل، ارتدُّوا عن الإسلام، وحارَبوا الله ورسوله. [ ذكر من قال ذلك ] : حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن رهطًا من عُكْلٍ وعُرَينة، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل ريفٍ، وإنا استوخمنا المدينة، فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وراعٍ، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا راعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتيَ بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمل أعينهم، وتركهم في الحرَّة حتى ماتوا فذُكر لنا أن هذه الآية نـزلت فيهم: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله » . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا روح قال، حدثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثل هذه القصة. حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبى يقول: أخبرنا أبو حمزة، عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان ناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبايعك على الإسلام! فبايعوه وهم كَذَبة، وليس الإسلامَ يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « هذه اللَّقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها. قال: فبينا هم كذلك، إذ جاء الصريخُ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قتلوا الراعي، وساقوا النَّعَم! فأمر نبي الله فنودي في الناس: أنْ » يا خيل الله اركبي « ! قال: فركبوا، لا ينتظر فارسٌ فارسًا. قال: فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنَهم، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله: » إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله « الآية. قال: فكان نفيُهم: أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنَهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبي الله منهم، وصلب وقَطَع، وَسَمل الأعين. قال: فما مثَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعدُ. قال: ونهَى عن المُثْلة، وقال: لا تمثِّلوا بشيء. قال: فكان أنس بن مالك يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. » قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم، ومنهم من عرينة، وناس من بَجيلة [ ذكر من قال ذلك ] : حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا الحسن بن حماد، عن عمرو بن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير قال: قَدِم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة، حفاةً مضرورين، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما صَحُّوا واشتدُّوا، قتلوا رِعاءَ اللقاح، ثم خرجوا باللِّقاح عامدين بها إلى أرض قومهم. قال جرير: فبعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرَفُوا على بلاد قومهم، فقدِمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلَهم من خلاف، وسملَ أعينهم، وجعلوا يقولون: « الماء » ! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « النار » ! حتى هلكوا « . قال: وكره الله عز وجلَ سَمْل الأعين، فأنـزل هذه الآية: » إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله « إلى آخر الآية. » حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزبير ح، وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، وسعيد بن عبد الرحمن وابن سمعان، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أغار ناس من عرينة على لِقَاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقوها وقتلوا غلامًا له فيها، فبعث في آثارهم، فأخِذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وَسَمل أعينهم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الزناد، عن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمر أو: عمرو، شك يونس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ونـزلت فيهم آية المحاربة. حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أنس قال: قدم ثمانية نفَرٍ من عُكْلٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، ثم اجتووا المدينة، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها. ففعلوا، فقتلوا رعاتها، واستاقوا الإبل. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم قَافَة، فأتي بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وتركهم فلم يحسِمْهُم حتى ماتوا. حدثنا علي قال، حدثنا الوليد قال، حدثني سعيد، عن قتادة، عن أنس قال: كانوا أربعة نفرٍ من عرينة، وثلاثةً من عكل. فلما أتي بهم، قطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمل أعينهم، ولم يحسمهم، وتركهم يتلقَّمون الحجارة بالحرَّة، فأنـزل الله جل وعز في ذلك: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله » ، الآية. حدثني علي قال، حدثنا الوليد، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نـزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة. قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام. حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا » ، قال: أنـزلت في سُودان عرينة. قال: أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم الماءُ الأصفر، فشكوا ذلك إليه، فأمرهم فخرجوا إلى إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقة، فقال: اشربوا من ألبانها وأبوالها! فشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى إذا صَحُّوا وبرءوا، قتلوا الرعاة واستاقوا الإبل. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنـزل الله هذه الآية على نبيِّه صلى الله عليه وسلم، معرِّفَه حكمه على من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيِّين ما فعل. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك، لأن القِصَص التي قصّها الله جل وعزّ قبلَ هذه الآية وبعدَها، من قَصَص بنى إسرائيل وأنبائهم، فأن يكون ذلك متوسِّطًا، من تعريف الحكم فيهم وفي نظرائهم، أولى وأحقّ. وقلنا: كان نـزول ذلك بعد الذي كان من فعلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيِّين ما فعل، لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وإذ كان ذلك أولى بالآية لما وصفنا، فتأويلها: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، أنه من قتل نفسًا بغير نفس، أو سعى بفسادٍ في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا ولقد جاءتهم رُسُلنا بالبينات ثُمَّ إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون- يقول: لساعون في الأرض بالفساد، وقاتلوا النفوس بغير نفس، وغير سعي في الأرض بالفسادِ حربًا لله ولرسوله فمن فعل ذلك منهم، يا محمد، فإنما جزاؤه: أن يقتَّلوا، أو يصلَّبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض. فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن تكون الآية نـزلت في الحال التي ذكرتَ: من حال نقض كافرٍ من بني إسرائيل عهدَه ومن قولك إن حكم هذه الآية حكم من الله في أهل الإسلام، دون أهل الحرب من المشركين؟ قيل: جازَ أن يكون ذلك كذلك، لأن حكم من حارب الله ورسوله وسَعى في الأرض فسادًا من أهل ذمَّتنا وملَّتنا واحد. والذين عنوا بالآية، كانوا أهل عهد وذِمَّة، وإن كان داخلا في حكمها كل ذمِّي وملِّي، وليس يَبْطُل بدخول من دخل في حكم الآية من الناس، أن يكون صحيحًا نـزولها فيمن نـزلت فيه. وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين. فقال بعضهم: ذلك حكم منسوخ، نسخَه نهيُه عن المثلة بهذه الآية أعني بقوله: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا » الآية. وقالوا: أنـزلت هذه الآية عِتابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بالعُرَنيين. وقال بعضهم: بل فِعْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، حكمٌ ثابت في نظرائهم أبدًا، لم ينسخ ولم يبدّل. وقوله: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله » الآية، حكمٌ من الله فيمن حارب وسَعى في الأرض فسادًا بالحِرَابة. قالوا: والعرنيون ارتدُّوا، وقتلوا، وسرقوا، وحاربوا الله ورسوله، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام أو الذمة. وقال آخرون: لم يسمُل النبي صلى الله عليه وسلم أعين العرنيِّين، ولكنه كان أراد أن يسمُل، فأنـزل الله جل وعز هذه الآية على نبيه، يعرِّفه الحكم فيهم، ونهاه عن سمل أعينهم. ذكر القائلين ما وصفنا: حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت اللَّيث بن سعد ما كان من سَمْل رسول الله صلىالله عليه وسلم أعيُنهم، وتركه حَسْمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنـزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبةً في ذلك، وعلَّمه عقوبة مثلهم: من القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدَهم غيرَهم. قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو، فأنكر أن تكون نـزلت معاتبة، وقال: بَلَى، كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نـزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم، فرفع عنهم السمل. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتي بهم يعني العرنيين فأراد أن يسمُل أعينهم، فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يقيم فيهم الحدود، كما أنـزلها الله عليه. واختلف أهل العلم في المستحق اسم « المحارب لله ورسوله » ، الذى يلزمه حكمُ هذه. فقال بعضهم: هو اللص الذي يقطَع الطريق. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وعطاء الخراساني في قوله: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا » الآية، قالا هذا، اللص الذي يقطع الطريق، فهو محارب. وقال آخرون: هو اللص المجاهر بلصوصيته، المكابرُ في المصر وغيره. وممن قال ذلك الأوزاعي. حدثنا بذلك العباس، عن أبيه عنه. وعنه، وعن مالك، والليث بن سعد، وابن لهيعة. حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: تكونُ محاربةٌ في المصر؟ قال: نعم، والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مصرٍ أو خلاء، فكان ذلك منه على غير نائرة كانت بينهم ولا ذَحْل ولا عداوة، قاطعًا للسبيل والطريق والديار، مخيفًا لهم بسلاحه، فقتل أحدًا منهم، قتله الإمام كقِتْلة المحارب، ليس لوليّ المقتول فيه عَفْوٌ ولا قَوَد. حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: وسألت عن ذلك الليث بن سعد وابن لهيعة، قلت تكون المحاربة في دُور المصر والمدائن والقُرى؟ فقالا نعم، إذا هم دخَلوا عليهم بالسيوف عَلانيةً، أو ليلا بالنيران. قلت: فقتلوا أو أخذُوا المال ولم يقتلوا؟ فقال: نعم هم المحاربون، فإن قَتَلوا قُتِلوا، وإن لم يَقْتُلوا وأخذوا المال، قُطِعوا من خلاف إذا هم خرجوا به من الدّار، ليس من حارب المسلمين في الخَلاء والسبيل، بأعظم محاربةً مِمَن حاربهم في حَرِيمهم ودورهم! حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: وتكون المحاربة في المصر، شَهَر على أهله بسلاحه ليلا أو نهارًا قال علي، قال الوليد: وأخبرني مالك: أن قتل الغِيلة عنده بمنـزلة المحاربة. قلت: وما قتل الغِيلَة؟ قال: هو الرجل يخدَع الرَّجل والصبيَّ، فيدخِلُه بيتًا أو يخلُو به، فيقتله، ويأخذ ماله. فالإمام وليّ قتل هذا، وليس لولي الدم والجرح قَوَد ولا قصاص. وهو قول الشافعي. حدثنا بذلك عنه الربيع. وقال آخرون: « المحارب » ، هو قاطع الطريق. فأما « المكابر في الأمصار » ، فليس بالمحارب الذي له حكم المحاربين. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن داود بن أبي هند، قال: تذاكرنا المحاربَ ونحن عند ابن هبيرة، في أناس من أهل البصرة، فاجتمع رأيهم: أن المحارب ما كان خارجًا من المصر. وقال مجاهد بما:- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا » قال: الزنا، والسرقة، وقتل الناس، وإهلاك الحرث والنسل. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: « ويسعون في الأرض فسادًا » قال: « الفساد » ، القتل، والزنا، والسرقة. وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: « المحارب لله ورسوله » ، من حارب في سابلة المسلمين وذِمَّتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حِرَابة. وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال بالصواب، لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربًا للمسلمين على الظلم منه لهم، أنه لهم محارب، ولا خلاف فيه. فالذي وصفنا صفته، لا شك فيه أنه لهم نَاصبٌ حربًا ظلمًا. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان نصبه الحربَ لهم في مصرهم وقُراهم، أو في سُبلهم وطرقهم: في أنه لله ولرسوله محارب، بحربه من نَهَاه الله ورسوله عن حربه. وأما قوله: « ويسعون في الأرض فسادًا » ، فإنه يعني: ويعملون في أرض الله بالمعاصي: من إخافة سُبُل عباده المؤمنين به، أو سُبُل ذمتهم، وقطعِ طرقهم، وأخذ أموالهم ظلمًا وعدوانًا، والتوثُّب على حرمهم فجورًا وفُسُوقًا. القول في تأويل قوله عز ذكره : أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما للذي حاربَ الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادًا، من أهل ملة الإسلام أو ذمتهم- إلا بعض هذه الخلال التي ذكرها جل ثناؤه. ثم اختلف أهل التأويل في هذه الخلال، أتلزم المحاربَ باستحقاقه اسم « المحاربة » ، أم يلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جُرْمه، مختلفًا باختلاف أجرامه؟ [ فقال بعضهم: تجب على المحارب العقوبة على قدر استحقاقه، ويلزمه ما لزمه من ذلك على قدر جُرْمه، مختلفًا باختلاف أجرامه ] . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله: « أو ينفوا من الأرض » ، قال: إذا حارب فقتَل، فعليه القتل إذا ظُهِر عليه قبْلَ توبته. وإذا حارب وأخذ المال وقتل، فعليه الصَّلب إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتل، فعليه قطعُ اليدِ والرجل من خلافٍ إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السبيل، فإنما عليه النّفي. حدثنا ابن وكيع وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن حماد، عن إبراهيم: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال: إذا خرج فأخاف السبيل وأخذ المال، قُطعت يده ورجله من خِلافٍ. وإذا أخاف السبيلَ، ولم يأخذ المال وقتل، صُلب. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم - فيما أرى - في الرجل يخرج محاربًا، قال: إن قطع الطريق وأخذ المال، قطعت يدُه ورجله. وإن أخذ المال وقَتل، قُتل، وإن أخذ المال وقَتَل ومثَّل، صُلب. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، قال: إذا قتل وأخذ المال وأخاف السبيل، صُلب. وإذا قتل لم يعدُ ذلك، قُتل. إذا أخذ المالَ لم يعدُ ذلك، قُطِع. وإذا كان يُفْسد نُفي. حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن الحسن: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله: « أو ينفوا من الأرض » قال: إذا أخافَ الطريق ولم يَقتُل ولم يأخذ المال، نُفي. حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن حصين قال: كان يقال: من حارب فأخاف السبيل وأخذ المال ولم يقتُل، قطِعت يده ورجله من خلاف. وإذا أخذ المال وقَتَل، صُلب. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه كان يقول في قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلى قوله: « أو ينفوا من الأرض » ، حدودٌ أربعة أنـزلها الله. فأما من أصاب الدم والمال جميعًا، صلب. وأما من أصاب الدم وكفّ عن المال، قُتل. ومن أصاب المال وكفَّ عن الدم، قُطع. ومن لم يصب شيئًا من هذا، نفي. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: نهى الله نبيَّه عليه السلام عن أن يسمل أعينَ العرنيين الذين أغاروا على لِقَاحه، وأمره أن يقيم فيهم الحدود كما أنـزلها الله عليه. فنظر إلى من أخذ المال ولم يقتل، فقطَع يدَه ورجلَه من خلاف، يدَه اليمنى ورجلَه اليسرى. ونظر إلى من قتل ولم يأخذ مالا فقَتَله. ونظر إلى من أخذ المال وقتل، فصلبه. وكذلك ينبغي لكل من أخاف طريقَ المسلمين وقَطَع، أن يصنع به إن أخِذ وقد أخَذ مالا قطعت يده بأخذِه المال، ورجلُه بإخافة الطريق. وإن قَتَل ولم يأخذ مالا قُتِل، وإن قتل وأخذ المال، صُلِب. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا فضيل بن مرزوق قال: سمعت السدي يسأل عطيّة العوفيّ، عن رجل محاربٍ، خرج فأخذ ولم يصبْ مالا ولم يهرق دمًا. قال: النفي بالسيف، وإن أخذ مالا فيده بالمال، ورجلُه بما أخاف المسلمين. وإن هو قتل ولم يأخذ مالا قتل. وإن هو قتل وأخذ المال، صُلب وأكبر ظني أنه قال: تقطع يده ورجله. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة في قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، قال: هذا، اللصُّ الذي يقطع الطريقَ، فهو محارب. فإن قتل وأخذ مالا صُلب. وإن قتل ولم يأخذ مالا قُتِل. وإن أخذ مالا ولم يقتل، قطعت يده ورجله. وإن أخِذ قبل أن يفعل شيئا، من ذلك، نفي. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير قال: من خرج في الإسلام محاربًا لله ورسوله فقتل وأصاب مالا فإنه يقتل ويُصْلَب. ومن قتل ولم يصب مالا فإنه يقتل كما قَتَل. ومن أصاب مالا ولم يقتل، فإنه يُقْطَع من خلاف. وإن أخاف سبيل المسلمين، نُفي من بلده إلى غيره، لقول الله جل وعز: « أو ينفَوا من الأرض » . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، قال: كان ناس يسعون في الأرض فسادًا، وقَتَلوا وقَطَعوا السبيل، فصُلِب أولئك. وكان آخرون حاربُوا واستحلُّوا المال ولم يعدُوا ذلك، فقطعت أيديهم وأرجلهم. وآخرون حارَبوا واعتزَلوا ولم يعدوا ذلك، فأولئك أخْرجوا من الأرض. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي هلال. قال، حدثنا قتادة، عن مورِّق العجلي في المحارب قال: إن كان خرج فقتَل وأخذ المال، صُلب. وإن كان قتل ولم يأخذ المالَ، قُتل. وإن كان أخذ المال ولم يقتل، قُطع. وإن كان خرج مُشَاقًا للمسلمين: نُفي. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطية العوفي، عن ابن عباس قال: إذا خرج المحاربُ وأخاف الطريق وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خلاف. فإن هو خرج فقَتَل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خِلافٍ ثم صُلب. وإن خرج فقَتَل ولم يأخذ المال، قُتِل. وإن أخاف السبيل ولم يقْتُل ولم يأخذ المال، نفي. حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير في هذه الآية: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا قالا إن أخاف المسلمين فقَطَع المال ولم يسفك، قُطِع. وإذا سفك دمًا: قتل وصُلب. وإن جمعهما فاقتطع مالا وسفك دمًا، قُطع ثُمّ قتل ثم صلب، كأن الصلب مُثْلَةٌ، وكأن القطع: « السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما » ، وكأن القتل: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ . وإن امتنع، فإن من الحقّ على الإمام وعلى المسلمين أن يطلُبوه حتى يأخذوه، فيقيموا عليه حكم كتاب الله: « أو ينفوا من الأرض » ، من أرض الإسلام إلى أرضِ الكفر. قال أبو جعفر: واعتلَّ قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله أوجبَ على القاتل القوَد، وعلى السارق القَطع. وقالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا يحل دَمُ امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خِلال: رجل قتل فقتل، ورجل زنى بعد إحصان فرُجم، ورجل كفر بعد إسلامه » . قالوا: فحظر النبيُ صلى الله عليه وسلم قتل رجل مسلم إلا بإحدى هذه الخلال الثلاث. فأما أن يقتل من أجل إخافته السبيل من غير أن يقتل أو يأخذ مالا فذلك تقدُّمٌ على الله ورسوله بالخلافِ عليهما في الحكم. قالوا: ومعنى قول من قال: « الإمام فيه بالخيار، إذا قَتَل وأخاف السبيل وأخذ المال » ، فهنالك خيار الإمام في قولهم بين القتل، أو القتل والصلب، أو قطع اليد والرجل من خلاف. وأما صلبه باسم المحاربة، من غير أن يفعل شيئًا من قتل أو أخذ مال، فذلك ما لم يقله عالم. وقال آخرون: الإمام فيه بالخيار: أن يفعل أيَّ هذه الأشياء التي ذكرَها الله في كتابه. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن عطاء وعن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في المحارب: أن الإمام مخير فيه، أيَّ ذلك شاءَ فعل. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عبيدة، عن إبراهيم: الإمام مخير في المحارب، أيَّ ذلك شاء فعل. إن شاء قتل، وإن شاء قطع، وإن شاء نفى، وإن شاء صلب. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن الحسن في قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، إلى قوله: « أو ينفوا من الأرض » ، قال: يأخذ الإمام بأيِّها أحب. حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن الحسن: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال: الإمام مخيَّرٌ فيها. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، مثله. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد قال، قال عطاء: يصنع الإمام في ذلك ما شاء. إن شاء قتل، أو قطع، أو نَفَى، لقول الله: « أن يقتَّلوا أو يصلبوا أو تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض » ، فذلك إلى الإمام الحاكم، يصنع فيه ما شاء. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، قال: من شَهَر السلاح في قُبّة الإسلام، وأخاف السبيل، ثم ظُفِر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجلَه. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة قال، أخبرنا أبو هلال قال، أخبرنا قتادة، عن سعيد بن المسيب: أنه قال في المحارب: ذلك إلى الإمام، إذا أخذه يصنع به ما شاء. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي هلال قال، حدثنا هارون، عن الحسن في المحارب قال: ذاك إلى الإمام، يصنع به ما شاء. حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن الحسن: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، قال: ذلك إلى الإمام. قال أبو جعفر: واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن قالوا: وجدنا العطوف التي بـ « أو » في القرآن بمعنى التخيير، في كل ما أوجب الله به فرضًا منها، وذلك كقوله في كفارة اليمين: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [ سورة المائدة: 89 ] ، وكقوله: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ سورة البقرة: 196 ] ، وكقوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [ سورة المائدة: 95 ] . قالوا: فإذا كانت العُطوفُ التي بـ « أو » في القرآن، في كل ما أوجب الله به فرضًا منها في سائر القرآن، بمعنى التخيير، فكذلك ذلك في آية المحاربين الإمام مخير فيما رأى الحكم به على المحارب إذا قَدَر عليه قبل التوبة. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا، تأويلُ من أوجب على المحارب من العقوبة على قدر استحقاقه، وجعل الحكم على المحاربين مختلِفًا باختلاف أفعالهم. فأوجب على مُخيف السبيل منهم إذا قُدِر عليه قبل التوبة، وقبل أخذ مالٍ أو قتل النفيَ من الأرض. و إذا قُدر عليه بعد أخذ المال وقتل النفس المحرم قتلُها الصلب، لما ذكرت من العلة قبل لقائلي هذه المقالة. فأما ما اعتلّ به القائلون: إنّ الإمام فيه بالخيار، من أن « أو » في العطف تأتي بمعنى التخيير في الفرض، فقولٌ لا معنى له، لأن « أو » في كلام العرب قد تأتي بضروب من المعاني، لولا كراهة إطالة الكتاب بذكرها لذكرتها، وقد بينت كثيرًا من معانيها فيما مضى، وسنأتي على باقيها فيما يستقبل في أماكنها إن شاء الله. فأما في هذا الموضع، فإن معناها التعقيب، وذلك نظير قول القائل: « إن جزاء المؤمنين عند الله يوم القيامة أن يدخلهم الجنة، أو يرفع منازلهم في علِّيين، أو يسكنهم مع الأنبياء والصديقين » ، فمعلوم أن قائل ذلك غير قاصد بقيله إلى أن جزاء كل مؤمن آمن بالله ورسوله، فهو في مرتبة واحدة من هذه المراتب، ومنـزلة واحدة من هذه المنازل بإيمانه، بل المعقول عنه أن معناه: أن جزاء المؤمن لن يخلُو عند الله عز ذكره من بعض هذه المنازل. فالمقتصد منـزلته دون منـزلة السابق بالخيرات، والسابق بالخيرات أعلى منه منـزلة، والظالم لنفسه دونهما، وكلٌّ في الجنة كما قال جل ثناؤه: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [ سورة فاطر: 33 ] . فكذلك معنى العطوف بـ « أو » في قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، الآية، إنما هو التعقيب. فتأويله: إن الذي يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادًا، لن يخلو من أن يستحق الجزاءَ بإحدى هذه الخلال الأربع التي ذكرها الله عز ذكره لا أن الإمام محكم فيه ومخيَّرٌ في أمره كائنةً ما كانت حالته، عظمت جريرته أو خفَّتْ، لأن ذلك لو كان كذلك، لكان للإمام قتل من شَهر السلاح مخيفًا السبيلَ وصلْبُه، وإن لم يأخذ مالا ولا قتل أحدًا، وكان له نفيُ من قَتَل وأخذَ المال وأخافَ السبيل. وذلك قولٌ إن قاله قائل، خلافُ ما صحّت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: « لا يحل دَمُ امرئ ٍمسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل قتل رجلا فقتل به، أو زنى بعد إحصان فرجم، أو ارتَدّ عن دينه » وخلاف قوله: « القطعُ في رُبْع دينارٍ فصاعدًا » ، وغيرُ المعروف من أحكامه. فإن قال قائل: فإن هذه الأحكام التي ذكرتَ، كانت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير المحارب، وللمحارب حكم غير ذلك منفرد به. قيل له: فما الحكم الذي انفرد به المحارب في سننه؟ فإن ادَّعى عنه صلى الله عليه وسلم حكمًا خلاف الذي ذكرنا، أكذبه جميعُ أهل العلم، لأن ذلك غير موجود بنقلِ واحدٍ ولا جماعة. وإن زعم أن ذلك الحكم هو ما في ظاهر الكتاب، قيل له: فإن أحسن حالاتك إن سُلِّم لك، أن ظاهر الآية قد يحتمل ما قلت وما قاله من خالفك فما برهانك على أنّ تأويلك أولى بتأويل الآية من تأويله؟ وبعد، فإذ كان الإمام مخيَّرًا في الحكم على المحارب، من أجل أنّ « أو » بمعنى التخيير في هذا الموضع عندك، أفله أن يصلبه حيًّا، ويتركه على الخشبة مصلوبًا حتى يموت من غير قتله. فإن قال: « ذلك له » ، خالف في ذلك الأمة. وإن زعم أنَّ ذلك ليس له، وإنما له قتله ثم صلبه، أو صلبه ثم قتله ترك علّته من أنّ الإمام إنما كان له الخيار في الحكم على المحارب من أجل أن « أو » تأتي بمعنى التخيير. وقيل له: فكيف كان له الخيار في القتل أو النفي أو القطع، ولم يكن له الخيار في الصلب وحده، حتى تجمع إليه عقوبة أخرى؟ وقيل له: هل بينك وبين من جعل الخيار حيث أبيت، وأبى ذلك حيث جعلته له فرقٌ من أصلٍ أو قياس؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم الآخر مثله. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح ما قلنا في ذلك، بما في إسناده نظر، وذلك ما « - » حدثنا به علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أنّ عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نـزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة. قال أنس: فارتدوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي، وساقوا الإبل، وأخافوا السبيل، وأصابُوا الفرجَ الحرام. قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب، فقال: من سَرَق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته، ورجلَه بإخافته. ومن قتل فاقتله. ومن قتل وأخاف السبيل واستحلَّ الفرج الحرام، فاصلبه. وأما قوله: « أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف » ، فإنه يعني به جل ثناؤه: أنه تقطع أيديهم مخالِفًا في قطعها قَطْع أرجلهم. وذلك أن تقطع أيْمُن أيديهم، وأشمُلُ أرجلهم. فذلك « الخلاف » بينهما في القطع. ولو كان مكان « من » في هذا الموضع « على » أو « الباء » ، فقيل: « أو تقطع أيديهم وأرجلهم على خلاف أو: بخلاف » ، لأدَّيا عما أدّت عنه « من » من المعنى. واختلف أهل التأويل في معنى « النفي » الذي ذكر الله في هذا الموضع. فقال بعضهم: هو أن يطلب حتى يقدر عليه، أو يهرب من دار الإسلام. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « أو ينفوا من الأرض » ، قال: يطلبهم الإمام بالخيل والرّجال حتى يأخذهم فيقيم فيهم الحكم، أو ينفوا من أرض المسلمين. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، نفيُه: أن يطلب. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « أو ينفوا من الأرض » ، يقول: أو يهربوا حتى يخرجوا من دار الإسلام إلى دار الحرب. حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن كتاب أنس بن مالك إلى عبد الملك بن مروان: أنه كتب إليه: « ونفيه، أن يطلبه الإمام حتى يأخذه، فإذا أخذه أقام عليه إحدى هذه المنازل التي ذكر الله جل وعز بما استحل » . حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال: فذكرت ذلك لليث بن سعد فقال: نفيُه، طلبُه من بلد إلى بلد حتى يؤخذ، أو يخرجه طلبُه من دار الإسلام إلى دار الشرك والحرب، إذا كان محاربًا مرتدًّا عن الإسلام قال الوليد: وسألت مالك بن أنس، فقال مثله. حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: قلت لمالك بن أنس والليث بن سعد: وكذلك يطلب المحاربُ المقيم على إسلامه، يضطرّه بطلبه من بلد إلى بلد حتى يصير إلى ثغر من ثغور المسلمين أو أقصى حَوْزِ المسلمين، فإن هم طلبوه دخل دار الشرك؟ قالا لا يُضْطَرّ مسلم إلى ذلك. حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: « أو ينفوا من الأرض » قال: أن يطلبوه حتى يعجزوا. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عاصم، عن الحسن: « أو ينفوا من الأرض » ، قال: ينفى حتى لا يُقْدَر عليه. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: « أو ينفوا من الأرض » ، قال: أخرجوا من الأرض. أينما أدركوا أخْرجوا حتى يلحقوا بأرض العدّو. حدثنا الحسن قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن الزهري في قوله: « أو ينفوا من الأرض » ، قال: نفيه: أن يُطلب فلا يُقْدر عليه، كلَّما سُمع به في أرض طُلِب. حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني سعيد، عن قتادة: « أو ينفوا من الأرض » ، قال: إذا لم يَقْتُل ولم يأخذ مالا طُلب حتى يُعْجِز. حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرني نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي وعن أبي معاوية، عن سعيد بن جبير: « أو ينفوا من الأرض » ، من أرض الإسلام إلى أرض الكفر. وقال آخرون: معنى « النفي » في هذا الموضع: أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدةٍ أخرى غيرها. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير: « أو ينفوا من الأرض » ، قال: من أخاف سبيل المسلمين، نُفي من بلده إلى غيره، لقول الله جل وعز: « أو ينفوا من الأرض » . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب وغيره، عن حيَّان بن سُرَيج: أنه كتب إلى عمر بن عبدْ العزيز في اللصوص، ووصف له لصوصيتهم، وحبَسهم في السجون، قال: قال الله في كتابه: « إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خِلاف » ، وترك: « أو ينفوا من الأرض » . فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: « أما بعد، فإنك كتبت إليّ تذكر قول الله جل وعزّ: » إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتّلوا أو يصِلَّبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ « ، وتركت قول الله: « أو ينفوا من الأرض » ، فنبيٌّ أنت، يا حيّان!! لا تحرّك الأشياء عن مواضِعها، أتجرَّدت للقتل والصَّلب كأنك عبدُ بني عقيل، من غير ما أُشبِّهك به؟ إذا أتاك كتابي هذا، فانفهم إلى شَغْبٍ » . حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني الليث، عن يزيدَ وغيره، بنحو هذا الحديث غير أن يونس قال في حديثه: « كأنك عبد بني أبي عقال، من غير أن أشبهك به » . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، أن الصَّلت، كاتب حيَّان بن سُرَيج، أخبرهم: أن حيّان كتب إلى عمر بن عبد العزيز: « أن ناسًا من القبط قامت عليهم البيَّنة بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادًا، وأن الله يقول: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا فقرأ حتى بلغ، » وأرجلهم من خلاف « ، وسكت عن النفي. وكتب إليه: » فإن رأى أمير المؤمنين أن يُمْضي قضاءَ الله فيهم، فليكتب بذلك « . فلما قرأ عمر بن عبد العزيز كتابه قال: لقد اجتزأ حيان! ثم كتب إليه: » إنه قد بلغني كتابك وفهمته، ولقد اجتزأتَ، كأنما كتبتَ بكتاب يزيد بن أبي مسلم، أو عِلْج صاحبِ العراق، من غير أن أشبهك بهما، فكتبت بأول الآية، ثم سكتَّ عن آخرها، وإن الله يقول: « أو ينفوا من الأرض » ، فإن كانت قامت عليهم البينة بما كتبتَ به، فاعقد في أعناقهم حديدًا، ثم غيّبهم إلى شَغْبٍ وبَدَا. « » قال أبو جعفر: « شَغْبٌ و » بَدَا « ، موضعان. » وقال آخرون: معنى « النفي من الأرض » ، في هذا الموضع: الحبس. ذكر من روى ذلك عنه: وهو قول أبى حنيفة وأصحابه. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معنى « النفي من الأرض » ، في هذا الموضع، هو نفيه من بلد إلى بلد غيره، وحبْسُه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى تظهر توبته من فسوقه، ونـزوعه عن معصيته ربَّه. وإنما قلتُ ذلك أولى الأقوال بالصحة، لأن أهل التأويل اختلفوا في معنى ذلك على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرت. وإذْ كان ذلك كذلك وكان معلومًا أن الله جل ثناؤه إنما جعل جزاء المحارب: القتلَ أو الصلبَ أو قطعَ اليد والرجل من خلافٍ، بعد القدرة عليه، لا في حال امتناعه كان معلومًا أنّ النفي أيضًا إنما هو جزاؤه بعد القُدرة عليه، لا قبلها. ولو كان هَرَبه من الطلب نفيًا له من الأرض، كان قطع يده ورجله من خلافٍ في حال امتناعه وحربه على وجه القتال، بمعنى إقامة الحدِّ عليه بعد القدرة عليه. وفي إجماع الجميع أن ذلك لا يقوم مقام نفيه الذي جعله الله عز وجل حدًّا له بعد القدرة عليه، [ بطل أن يكون نفيُه من الأرض، هربَهُ من الطلب ] . وإذْ كان كذلك، فمعلوم أنه لم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو النفي من بلدة إلى أخرى غيرها، أو السَّجْن. فإذْ كان كذلك، فلا شك أنه إذا نُفي من بلدةٍ إلى أخرى غيرها، فلم ينف من الأرض، بل إنما نفي من أرض دون أرض. وإذ كان ذلك كذلك وكان الله جل ثناؤه إنما أمر بنفيه من الأرض كان معلومًا أنه لا سبيل إلى نفيه من الأرض إلا بحبسه في بُقْعة منها عن سائرها، فيكون منفيًّا حينئذ عن جميعها، إلا مما لا سبيل إلى نفيه منه. وأما معنى « النفي » ، في كلام العرب، فهو الطرد، ومن ذلك قول أوس بن حجر: يُنْفَــوْنَ عَـنْ طْـرُقِ الكِـرَامِ كَمَـا تَنْفِــي المَطَـارِقُ مَـا بَـلِي القَـرَدُ ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كل شيء: « النُّفَاية » . وأما المصدر من « نفيت » ، فإنه « النفي » « والنَّفَاية » ، ويقال: « الدلو ينفي الماء » ، ويقال لما تطاير من الماء من الدلو: « النّفِيُّ » ، ومنه قول الراجز: كـــأَنَّ مَتْنَيِـــه مِــنَ النَّفِــيِّ مَــوَاقِعُ الطَّــيْرِ عَــلَى الصُّفِـيِّ ومنه قيل: « نَفىَ شَعَرُه » ، إذا سقط، يقال: « حَال لونُك، ونَفىَ شعرُك » . القول في تأويل قوله عز ذكره : ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 33 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « ذلك » ، هذا الجزاء الذي جازيت به الذين حاربوا الله ورسولَه، وسعوا في الأرض فسادًا في الدنيا، من قتلٍ أو صلبٍ أو قطع يد ورجل من خلاف « لهم » ، يعني: لهؤلاء المحاربين « خزي في الدنيا » ، يقول: هو لهم شرٌّ وعار وذلةٌ، ونكال وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة. يقال منه: « أخزيتُ فلانًا، فَخَزِي هو خِزْيًا » . وقوله: « ولهم في الآخرة عذاب عظيم » ، يقول عز ذكره: لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسولَه وسعوا في الأرض فسادًا، فلم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا في الآخرة، مع الخزي الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها « عذاب عظيم » ، يعني: عذاب جهنم. القول في تأويل قوله عز ذكره : إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 34 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: إلا الذين تابوا من شركهم ومناصَبتهم الحربَ لله ولرسوله والسَّعيِ في الأرض بالفساد، بالإسلام والدخولِ في إلإيمان، من قبل قُدرة المؤمنين عليهم، فإنه لا سبيل للمؤمنين عليهم بشيء من العقوبات التي جعلَها الله جزاء لِمَنْ حارَبه ورسوله وسَعى في الأرض فسادًا، من قتلٍ، أو صلب، أو قطع يد ورجل من خلاف، أو نفي من الأرض فلا تِباعَةَ قِبَله لأحدٍ فيما كان أصاب في حال كفره وحربه المؤمنين، في مالٍ ولا دم ولا حرمةٍ. قالوا: فأما المسلم إذا حارب المسلمين أو المعاهدين، وأتى بعض ما يجب عليه العقوبة، فلن تضع توبته عنه عقوبةَ ذنبه، بل توبته فيما بينه وبين الله، وعلى الإمام إقامةُ الحدّ الذي أوجبه الله عليه، وأخذُه بحقوق الناس. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ إلى قوله: « فاعلموا أنّ الله غفور رحيم » ، نـزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن يُقدر عليه، لم يكن عليه سبيل. وليس تُحْرِز هذه الآية الرجلَ المسلم من الحدِّ إن قتل، أو أفسد في الأرض، أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقْدر عليه. ذلك يقام عليه الحدّ الذي أصاب. حدثنا بشار قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم » ، قال: هذا لأهل الشرك، إذا فعلوا شيئًا في شركهم، فإن الله غفور رحيمٌ، إذا تابوا وأسْلموا. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا الزنا، والسرقة، وقتل النفس، وإهلاك الحرث والنسل « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » ، على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان قوم بينهم وبين الرَّسول صلى الله عليه وسلم ميثاقٌ، فنقضوا العهدَ وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فخيرَّ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم فيهم: فإن شاء قتل، وإن شاء صلب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. فمن تاب من قبل أن تقدروا عليه، قُبِلَ ذلك منه. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، الآية فذكر نحو قول الضحاك، إلا أنه قال: فإن جاء تائبًا فدخل في الإسلام، قُبل منه، ولم يؤاخذ بما سلَف. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » ، قال: هذا لأهل الشرك، إذا فعلوا شيئًا من هذا في شركهم، ثم تابوا وأسلموا، فإن الله غفور رحيم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن عطاء الخراساني وقتادة: أما قوله: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » ، فهذه لأهل الشرك. فمن أصاب من المشركين شيئًا من المسلمين وهو لهم حَرْب، فأخذ مالا وأصاب دمًا، ثم تاب قبل أن تقدروا عليه، أُهْدِر عنه ما مَضَى. وقال آخرون: بل هذه الآية معنيٌّ بالحكم بها، المحاربون اللهَ ورسوله: الحُرَّابُ من أهل الإسلام، من قطع منهم الطريق وهو مقيم على إسلامه، ثم استأمن فأُومن على جناياته التي جناها، وهو للمسلمين حرب ومَن فعل ذلك منهم مرتدًّا عن الإسلام، ثم لحق بدار الحرب، ثم استأمن فأومن. قالوا: فإذا أمَّنه الإمام على جناياته التي سلفت، لم يكن قِبَله لأحد تَبِعة في دمٍ ولا مالٍ أصابه قبل توبته، وقبلَ أمان الإمام إيَّاه. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني أبو أسامة، عن أشعث بن سوار، عن عامر الشعبي: أن حارثة بن بَدْرٍ خرج محاربًا، فأخاف السبيل، وسفَك الدمَ، وأخذ الأموال، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدرَ عليه، فقبل علي بن أبي طالب عليه السلام توبته، وجعل له أمانًا منشورًا على ما كان أصاب من دٍم أو مال. حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مجالد، عن الشعبي: أن حارثة بن بدرٍ حاربَ في عهد علي بن أبي طالب، فأتى الحسن بن علي رضوان الله عليهما، فطلبَ إليه أن يستأمن له من عليّ، فأبى. ثم أتى ابن جعفر، فأبى عليه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأمَّنه، وضمّه إليه. وقال له: استأمِنْ لِي أميرَ المؤمنين علي بن أبي طالب. قال: فلما صلى عليٌّ الغداة، أتاه سَعيد بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء الذين يحارِبون الله ورسوله؟ قال: أن يقتَّلوا، أو يصلبوا، أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض. قال: ثم قال: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » . قال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر! قال: فهذا حارثة بن بدر قد جاء تائبًا، فهو آمن؟ قال: نعم! قال: فجاء به فبايعه، وقبل ذلك منه، وكتب له أمانًا. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن مجالد، عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر قد أفسد في الأرض وحارب، ثم تاب. وكُلِّم له عليّ فلم يُؤْمنه. فأتى سعيدَ بن قيس فكلّمه، فانطلق سعيدُ بن قيس إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقولُ فيمن حارب الله ورسوله؟ فقرأ الآية كلها فقال: أرأيت من تابَ من قبل أن تقدِر عليه؟ قال: أقول كما قال الله. قال: فإنه حارثة بن بدر! قال: فأمَّنه علي، فقال حارثة: أَلا أَبْلِغَــا هَمْــدَانَ إِمَّــا لَقِيتَهــا عَـلَى النَّـأيِ لا يَسْـلَمْ عَـدُوٌّ يَعِيبُهَـا لَعَمْــرُ أَبِيهَــا إنَّ هَمَــدَانَ تَتَّقِـي الإلــهَ وَيَقْضِـي بِالْكِتَـابِ خَطِيبُهَـا حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » ، وتوبته من قبل أن يُقْدر عليه: أن يكتُب إلى الإمام يَستأمنه على ما قَتل وأفسدَ في الأرض: « فإن لم يؤمني على ذلك، ازددت فسادًا وقتلا وأخذًا للأموال أكثر مما فعلت ذلك قبل » . فعلى الإمام من الحقّ أن يؤمنه على ذلك. فإذا أمّنه الإمام جاء حتى يضع يده في يد الإمام، فليس لأحد من الناس أن يتّبِعه، ولا يأخذه بدَم سفكه، ولا مال أخذه. وكل مالٍ كان له فهو له، لكيلا يقتل المؤمنين أيضًا ويفسد. فإذا رجع إلى الله جل وعزّ فهو وليُّه، يأخذه بما صنع، وتوبته فيما بينه وبين الإمام والناس. فإذا أخذه الإمام، وقد تابَ فيما يزعُم إلى الله جل ثناؤه قبل أن يُؤمنه الإمام، فليقم عليه الحدّ. حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، أخبرني مكحول، أنه قال: إذا أعطاه الإمام أمانًا، فهو آمن، ولا يقام عليه حدُّ ما كان أصاب. وقال آخرون: معنى ذلك: كلُّ من جاء تائبًا من الحُرَّاب قبل القُدْرة عليه، استأمن الإمام فأمَّنه أو لم يستأمنه، بعدَ أن يجيء مستسلمًا تاركًا للحرب. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن أشعث، عن عامر قال: جاء رجل من مُرادٍ إلى أبي موسى، وهو على الكوفة في إمرة عثمان، بعد ما صلَّى المكتوبة فقال: يا أبا موسى، هذا مَقَام العائذِ بك، أنا فلان بن فلان المرادِيّ، كنت حاربتُ الله ورسوله، وسعيتَ في الأرض، وإني تبتُ من قبل أن تَقْدر عليّ! فقام أبو موسى فقال: هذا فلان ابن فلان، وإنه كان حاربَ الله ورسوله، وسعَى في الأرض فسادًا، وإنه تاب قبل أن يُقْدَر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير. فأقام الرجل ما شاءَ الله، ثم إنه خرج فأدركه الله جل وعزّ بذُنوبه فقَتَله. حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل السدي، عن الشعبي قال: جاء رجل إلى أبي موسى، فذكر نحوه. حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك: أرأيت هذا المحارب الذي قد أخاف السبيل، وأصابَ الدم والمال، فلحق بدار الحرْب، أو تمنَّع في بلاد الإسلام، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه؟ قال: تقبل توبته. قال قلت: فلا يُتَّبع بشيء من أحداثه؟ قال: لا إلا أن يوجد معه مالٌ بعينه فيردّ إلى صاحبه، أو يطلبه وليُّ من قَتل بدم في حَرْبه يثبت ببيّنَةٍ أو اعترافٍ فيقاد به. وأما الدماء التي أصابها ولم يطلبها أولياؤها، فلا يتَّبعه الإمام بشيء قال علي، قال الوليد: فذكرت ذلك لأبي عمرو، فقال: تقبل توبته إذا كان محاربًا للعامة والأئمة، قد آذاهم بحَرْبه، فشهر سلاحه، وأصاب الدماء والأموال، فكانت له مَنْعة أو فِئة يلجأ إليهم، أو لحق بدار الحرب فارتدَّ عن الإسلام، أو كان مقيمًا عليه، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقدرَ عليه، قُبلت توبته، ولم يتَّبَع بشيء منه. حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: سمعت ابن شهاب الزهريّ يقول ذلك. حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال: فذكرت قول أبي عمرو ومالك لليث بن سعد في هذه المسألة، فقال: إذا أعلن بالمحاربة العامة والأئمة، وأصابَ الدماء والأموال، فامتنع بمحاربته من الحكومة عليه، أو لحق بدار الحرب، ثم جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه، قبلت توبته، ولم يتَّبَع بشيء من أحْدَاثه في حربه من دم خاصةٍ ولا عامة، وإن طلبه وليه. حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، قال الليث وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدنيّ، وهو الأمير عندنا: أن عليًّا الأسديّ حاربَ وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبته الأئمة والعامة، فامتنع ولم يُقْدر عليه حتى جاء تائبًا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [ سورة الزمر: 53 ] . الآية، فوقف عليه فقال: يا عبد الله، أعد قراءَتها. فأعادها عليه، فغَمَد سيفه، ثم جاء تائبًا، حتى قَدِم المدينة من السَّحَر، فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في غِمار أصحابه. فلما أسفر عرفه الناس وقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم عليّ، جئت تائبًا من قبلِ أن تَقْدروا عليَّ! فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بنَ الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية، فقال: هذا عليٌّ، جاء تائبًا، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال، فترك من ذلك كله. قال: وخرج عليَّ تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في البحر، فلقُوا الروم، فقرَّبوا سفينته إلى سفينة من سفنهم، فاقتحم على الرُّوم في سفينتهم، فهُزِموا منه إلى سفينتهم الأخرى، فمالت بهم وبه، فغرقوا جميعًا. حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مطرف بن معقل قال، سمعت عطاء قال في رجل سرق سرقة فجاء بها تائبًا من غير أن يُؤخَذ، فهل عليه حدٌّ؟ قال: لا! ثم قال: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدِروا عليهم » ، الآية. حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخرٍ، عن محمد بن كعب القرظي وعن أبي معاوية عن سعيد بن جبير قالا إن جاء تائبًا لم يقتطع مالا ولم يسفك دمًا، تُرك. فذلك الذي قال الله: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » ، يعني بذلك أنه لم يسفك دمًا ولم يقتطع مالا. وقال آخرون: بل عنى بالاستثناء في ذلك، التائبَ من حربه اللهَ ورسولَه والسعيِ في الأرض فسادًا بعد لحاقه في حربه بدار الكفر. فأما إذا كانت حِرَابته وحربُه وهو مقيم في دار الإسلام، وداخلٌ في غمار الأمة، فليست توبته واضعة عنه شيئًا من حدود الله جل وعز، ولا من حقوق المسلمين والمعاهدين، بل يؤخذ بذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني إسماعيل، عن هشام بن عروة: أنه أخبره أنهم سألوا عروة عمن تلصّص في الإسلام فأصاب حدودًا ثم جاء تائبًا، فقال: لا تقبل توبته، لو قبل ذلك منهم اجترءوا عليه، وكان فسادًا كبيرًا. ولكن لو فرّ إلى العدوّ، ثم جاء تائبًا، لم أر عليه عقوبة. وقد روي عن عروة خلاف هذا القول، وهو ما:- حدثني به علي قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني من سمع هشام بن عروة، عن عروة قال، يقام عليه حدُّ ما فر منه، ولا يجوز لأحدٍ فيه أمان يعني، الذي يصيب حدًّا، ثم يفرُّ فيلحق الكفار، ثم يجيء تائبًا. وقال آخرون: إن كانت حِرَابته وحربه في دار الإسلام، وهو في غير مَنْعة من فئة يلجأ إليها، ثم جاء تائبًا قبل القدرة عليه، فإن توبته لا تضع عنه شيئا من العقوبة ولا من حقوق الناس. وإن كانت حِرَابته وحَرْبه في دار الإسلام، أو هو لاحقٌ بدار الكفر، غير أنه في كل ذلك كان يلجأ إلى فئة تمنعه ممن أراده من سلطان المسلمين، ثم جاء تائبًا قبل القدرة عليه، فإن توبته تضع عنه كل ما كان من أحْداثه في أيام حِرابته تلك، إلا أن يكون أصاب حدًّا أو أمَرَ الرُّفقة بما فيه عقوبة، أو غُرْم لمسلم أو معاهد، وهو غير ملتجئ إلى فئة تمنعه، فإنه يؤخذ بما أصاب من ذلك وهو كذلك، ولا يضع ذلك عنه توبتُه. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: إذا قطع الطريق لصٌّ أو جماعة من اللصوص، فأصابوا ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يكن لهم فئة يلجأون إليها ولا مَنْعة، ولا يأمنون إلا بالدخول في غِمَار أمتهم وسوادِ عامّتهم، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه، لم تُقبل توبته، وأقيم عليه حدهّ ما كان. حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال: ذكرت لأبي عمرو قول عُروة: « يقام عليه حدّ ما فرّ منه، ولا يجوز لأحد فيه أمان » ، فقال أبو عمرو: إن فرّ من حَدَثه في دار الإسلام، فأعطاه إمامٌ أمانًا، لم يجزْ أمانُه. وإن هو لحق بدار الحرب، ثم سأل إمامًا أمانًا على أحداثه، لم ينبغ للإمام أن يعطيه أمانًا. وإن أعطاه الإمام أمانًا وهو غير عالم بأحداثه، فهو آمن. وإن جاء أحدٌ يطلبه بدم أو مال رُدّ إلى مأمنه، فإن أبى أن يَرجع فهو آمن ولا يُتَعَرَّض له. قال: وإن أعطاه أمانًا على أحداثه وهو يعرفها، فالإمام ضامنٌ واجب عليه عَقْلُ ما كان أصاب من دم أو مال، وكان فيما عطّل من تلك الحدود والدماء آثمًا، وأمره إلى الله جل وعز. قال: وقال أبو عمرو: فإذا أصاب ذلك، وكانت له مَنْعة أو فئة يلجأ إليها، أو لحق بدار الحرب فارتدّ عن الإسلام، أو كان مقيمًا عليه، ثم جاء تائبًا من قبل أن يُقْدر عليه، قُبِلت توبته، ولم يُتَّبع بشيء من أحداثه التي أصابها في حربه، إلا أن يوجد معه شيءٌ قائم بعينه فيردّ إلى صاحبه. حدثني علي قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني ابن لهيعة، عن ربيعة قال: تقبل توبتُه، ولا يتَّبع بشيء من أحداثِه في حربه، إلا أن يطلبه أحد بدم كان أصابه في سِلْمه قبل حربه، فإنه يقاد به. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معمر الرقي قال، حدثنا الحجاج، عن الحكم بن عتيبة قال: قاتل الله الحجاج! إن كان ليفقَهُ! أمَّن رجلا من محاربته، فقال، انظروا هل أصاب شيئا قبل خروجه؟ وقال آخرون: تضع توبته عنه حدَّ الله الذي وجب عليه بمحاربته، ولا يسقط عنه حقوق بني آدم. وممن قال ذلك الشافعي. حدثنا بذلك عنه الربيع. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعة معه قبل القُدرة عليه، تضع عنه تَبِعات الدنيا التي كانت لزمته في أيام حربه وحِرَابته، من حدود الله، وغُرْم لازم، وقَوَدٍ وقصاص، إلا ما كان قائمًا في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه، فيردّ على أهله لإجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة الممتنعة المحاربة لله ولرسوله، الساعيةِ في الأرض فسادًا على وجه الردة عن الإسلام. فكذلك حكم كل ممتنع سَعَى في الأرض فسادًا، جماعةً كانوا أو واحدًا. فأمَّا المستخفي بسرقته، والمتلصِّصُ على وجه اغتفال من سرقه، والشاهرُ السلاحَ في خلاء على بعض السابلة، وهو عند الطلب غير قادر على الامتناع، فإن حكم الله عليه تاب أو لم يتب ماضٍ، وبحقوق من أخذ ماله، أو أصاب وليَّه بدم أو خَتْلٍ مأخوذ، وتوبته فيما بينه وبين الله جل وعز قياسًا على إجماع الجميع على أنه لو أصاب شيئًا من ذلك وهو للمسلمين سِلْمٌ، ثم صار لهم حربًا، أن حربه إياهم لن يضعَ عنه حقًا لله عز ذكره، ولا لآدمي، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاء أو باستخفاء، وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن أراده، ولا له فئة يلجأ إليها مانعةٌ منه. وفي قوله: « إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم » ، دليل واضح لمن وُفِّق لفهمه، أنّ الحكم الذي ذكره الله جل وعزّ في المحاربين، يجري في المسلمين والمعاهدين، دون المشركين الذين قد نصبُوا للمسلمين حربًا، وذلك أن ذلك لو كان حكمًا في أهل الحرب من المشركين، دون المسلمين ودون ذمتهم، لوجب أن لا يُسْقِطَ إسلامُهم عنهم إذا أسلموا أو تابوا بعد قدرتنا عليهم ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل، وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين. وفي إجماع المسلمين أنّ إسلام المشرك الحربيِّ يضع عنه، بعد قدرة المسلمين عليه، ما كان واضعَه عنه إسلامه قبل القدرة عليه ما يدلّ على أن الصحيح من القول في ذلك قول من قال: « عنى بآية المحاربين في هذا الموضع، حُرَّاب أهل الملة أو الذمة، دون من سواهم من مشرِكي أهل الحرب » . وأما قوله: « فاعلموا أن الله غفور رحيم » ، فإن معناه: فاعلموا أيها المؤمنون، أن الله غير مؤاخذٍ من تاب من أهل الحرب لله ولرسوله، الساعين في الأرض فسادًا، وغيرهم بذنوبه، ولكنه يعفو عنه فيسترها عليه، ولا يفضحه بها بالعقوبة في الدنيا والآخرة رحيم به في عفوه عنه، وتركه عقوبته عليها. القول في تأويل قوله عز ذكره : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله فيما أخبرهم ووعَد من الثواب وأوعدَ من العقاب « اتقوا الله » يقول: أجيبوا الله فيما أمركم ونهاكم بالطاعة له في ذلك، وحقِّقوا إيمانكم وتصديقكم ربَّكم ونبيَّكم بالصالح من أعمالكم « وابتغوا إليه الوسيلة » ، يقول: واطلبوا القربة إليه بالعمل بما يرضيه. و « الوسيلة » : هي « الفعيلة » من قول القائل: « توسلت إلى فلان بكذا » ، بمعنى: تقرَّبت إليه، ومنه قول عنترة: إنَّ الرِّجَــالَ لَهُــمْ إِلَيْــكِ وَسِـيلَةٌ إِنْ يَــأْخُذُوكِ, تكَحَّــلِي وتَخَـضَّبي يعني بـ « الوسيلة » ، القُرْبة، ومنه قول الآخر: إِذَا غَفَــلَ الوَاشُـونَ عُدْنَـا لِوَصْلِنَـا وَعَــادَ التَّصَـافِي بَيْنَنَـا وَالوَسَـائِلُ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن سفيان عن منصور، عن أبي وائل: « وابتغوا إليه الوسيلة » ، قال: القربة في الأعمال. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع ح، وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي عن طلحة، عن عطاء: « وابتغوا إليه الوسيلة » ، قال: القربة. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة » ، قال: فهي المسألة والقربة. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وابتغوا إليه الوسيلة » ، أي: تقربوا إليه بطاعته والعملِ بما يرضيه. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وابتغوا إليه الوسيلة » ، القربة إلى الله جل وعزّ. حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، خبرنا معمر، عن الحسن في قوله: « وابتغوا إليه الوسيلة » ، قال: القربة. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله: « وابتغوا إليه الوسيلة » ، قال: القربة. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وابتغوا إليه الوسيلة » ، قال: المحبّة، تحبّبوا إلى الله. وقرأ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [ سورة الإسراء: 57 ] . القول في تأويل قوله عز ذكره : وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 35 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للمؤمنين به وبرسوله: وجاهدوا، أيها المؤمنون، أعدائي وأعداءَكم في سبيلي، يعني في دينه وشَرِيعته التي شرعها لعباده، وهي الإسلام. يقول: أتْعِبُوا أنفسكم في قتالهم وحملهم على الدخول في الحنيفية المسلمة، « لعلكم تفلحون » ، يقول: كيما تنجحوا، فتدركوا البقاء الدَّائم والخلود في جناته. وقد دللنا على معنى « الفلاح » فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله عز ذكره : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 36 ) قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: إن الذين جحدوا ربوبية ربّهم وعبدوا غيرَه، من بني إسرائيل الذين عبدوا العجل، ومن غيرهم الذين عبدوا الأوثان والأصنام، وهلكوا على ذلك قبل التوبة لو أن لهم مِلك ما في الأرض كلِّها وضعفَه معه، ليفتدوا به من عقاب الله إياهم على تركهم أمرَه، وعبادتهم غيره يوم القيامة، فافتدوا بذلك كله، ما تقبَّل الله منهم ذلك فداءً وعِوضًا من عذابهم وعقابهم، بل هو معذّبهم في حَمِيم يوم القيامة عذابًا موجعًا لهم. وإنما هذا إعلامٌ من الله جل ثناؤه لليهود الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّهم وغيرهم من سائر المشركين به، سواءٌ عنده فيما لهم من العذاب الأليم والعقاب العظيم. وذلك أنهم كانوا يقولون: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ، اغترارًا بالله جل وعزّ وكذبًا عليه. فكذبهم تعالى ذكره بهذه الآية وبالتي بعدها، وحَسَم طمعهم، فقال لهم ولجميع الكفرة به وبرسوله: « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ، يقول لهم جل ثناؤه: فلا تطمعوا أيُّها الكفرة في قَبُول الفدية منكم، ولا في خروجكم من النار بوسَائل آبائكم عندي بعد دخولكموها، إن أنتم مُتّم على كفركم الذي أنتم عليه، ولكن توبوا إلى الله توبةً نَصُوحًا. » القول في تأويل قوله عز ذكره : يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ( 37 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « يريدون أن يخرجوا من النار » ، يريد هؤلاء الذين كفروا بربهّم يوم القيامة، أن يخرجوا من النار بعد دخولها، وما هم بخارجين منها « ولهم عذاب مقيم » ، يقول: لهم عذابٌ دائم ثابت لا يزول عنهم ولا ينتقل أبدًا، كما قال الشاعر: فَــإنَّ لَكُــمْ بِيَـوْمِ الشِّـعْبِ مِنِّـي عَذَابًـــا دَائِمًـــا لَكُــمُ مُقِيمَــا وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة: أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رحمه الله: أعمى البصر أعمى القلب، يزْعُم أن قومًا يخرجون من النار، وقد قال الله جل وعز: « وما هم بخارجين منها » ؟ فقال ابن عباس: ويحك، اقرأ ما فوقها! هذه للكفّار. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 38 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ومن سرقَ من رجل أو امرأة، فاقطعوا، أيها الناس، يَدَه ولذلك رفع « السارق والسارقة » ، لأنهما غير معيّنين. ولو أريد بذلك سارقٌ وسارقة بأعيانهما، لكان وجه الكلام النّصب. وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: ( والسارقون والسارقات ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن عون، عن إبراهيم قال: في قراءتنا قال: وربما قال: في قراءة عبد الله ( والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم: في قراءتنا: ( والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما ) . وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه، وصحة الرفع فيه، وأن « السارق والسارقة » مرفوعان بفعلهما على ما وصفت، للعلل التي وصفت. وقال تعالى ذكره: « فاقطعوا أيديهما » ، والمعنى: أيديهما اليمنى، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فاقطعوا أيديهما » اليمنى. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: في قراءة عبد الله: ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما ) . ثم اختلفوا في « السارق » الذي عناه الله عز ذكره. فقال بعضهم: عنى بذلك سارقَ ثلاثة دراهم فصاعدًا. وذلك قول جماعة من أهل المدينة، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله. واحتجّوا لقولهم ذلك، بأنّ:- رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قطَع في مِجَنّ قيمته ثلاثةُ دَرَاهم. وقال آخرون: بل عنى بذلك سارق رُبع دينار أو قيمته. وممن قال ذلك، الأوزاعيّ ومن قال بقوله. واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القطعُ في ربع دِينارٍ فصاعدًا. وقال آخرون: بل عنى بذلك سارقَ عشرة دراهم فصاعدًا. وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه. واحتجوا في ذلك بالخبر الذي روي عن عبد الله بن عمرو، وابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَطَع في مِجَنّ قيمته عَشْرة دراهم. وقال آخرون: بل عني بذلك سارقَ القليل والكثير. واحتجوا في ذلك بأن الآية على الظاهر، وأنْ ليس لأحد أنَ يخُصَّ منها شيئًا، إلا بحجة يجب التسليم لها. وقالوا: لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرٌ بأن ذلك في خاصّ من السُرَّاق. قالوا: والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربة مختلفة، ولم يروِ عنه أحد أنه أتي بسارق درهمٍ فَخلَّى عنه، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم. قالوا: وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما قيمته دانقٌ أن يَقْطع. قالوا: وقد قطع ابن الزبير في دِرْهم. وروي عن ابن عباس أنه قال: الآيةُ على العموم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبد المؤمن، عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله: « والسارق والسارقة » ، أخاصّ أم عام؟ فقال: بل عام. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال: « الآية معنيّ بها خاصٌّ من السراق، وهم سُرَّاق ربع دينار فصاعدًا أو قيمته » ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « القطعُ في ربع دينار فصاعدًا » . وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلّوا بها لأقوالهم، والبيانَ عن أولاها بالصواب، بشواهده، في كتابنا « كتاب السرقة » ، فكرهنا إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع. وقوله: « جزاء بما كسبا نكالا من الله » ، يقول: مكافأةً لهما على سرقتهما وعملهما في التلصصّ بمعصية الله « نكالا من الله » يقول: عقوبة من الله على لُصُوصيتهما. وكان قتادة يقول في ذلك ما:- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم » ، لا تَرْثُوا لهم أن تقِيموا فيهم الحدود، فإنه والله ما أمر الله بأمرٍ قَطُّ إلا وهو صلاحٌ، ولا نهى عن أمرٍ قَطُّ إلا وهو فساد. وكان عمر بن الخطاب يقول: « اشتدُّوا على السُّرَّاق، فاقطعوهم يدًا يدًا، ورجلا رجلا » . وقوله: « والله عزيز حكيم » يقول جل ثناؤه: « والله عزيزٌ » في انتقامه من هذا السارق والسارقةِ وغيرهما من أهل معاصيه « حكيم » ، في حكمه فيهم وقضائه عليهم. يقول: فلا تفرِّطوا أيها المؤمنون، في إقامة حكمي على السرَّاق وغيرهم من أهل الجرائم الذين أوجبت عليهم حدودًا في الدنيا عقوبةً لهم، فإني بحكمتي قضيت ذلك عليهم، وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 39 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « فمن تاب » ، من هؤلاء السراق، يقول: من رجع منهم عمَّا يكرهه الله من معصيته إيَّاه، إلى ما يرضاه من طاعته « من بعد ظلمه » ، و « ظلمه » ، هو اعتداؤه وعمله ما نهاه الله عنه من سرقة أموال الناس « وأصلح » ، يقول: وأصلح نفسه بحملها على مكروهها في طاعة الله، والتوبة إليه ممَّا كان عليه من معصيته. وكان مجاهد - فيما ذكر لنا- يقول: توبته في هذا الموضع، الحدُّ الذي يقام عليه. ...................................... حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح » ، فتاب عليه، يقول: الحدُّ. حدثنا أبو كريب قال: حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا ابن لهيعة، عن حُيَيّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال: سرقت امرأة حُليًّا، فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله، سرقتنا هذه المرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوا يدها اليمنى. فقالت المرأة: هل من توبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتِ اليومَ من خطيئتك كيوم ولدتك أمك! قال: فأنـزل الله جل وعز: « فمن تاب من بعد ظُلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه » . وقوله: « فإن الله يتوب عليه » ، يقول: فإن الله جل وعز يُرْجعه إلى ما يحبّ ويرضى، عما يكرَه ويسخط من معصيته. وقوله: « إن الله غفور رحيم » يقول: إن الله عز ذكره ساترٌ على من تاب وأناب عن معاصيه إلى طاعته ذنوبَه، بالعفو عن عقوبته عليها يوم القيامة، وتركه فضيحتَه بها على رءوس الأشهاد « رحيم » به وبعباده التائبين إليه من ذنوبهم. القول في تأويل قوله عز ذكره : أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 40 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم يعلم هؤلاء [ يعني القائلين ] : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ، الزاعمين أنهم أبناء الله وأحباؤه أن الله مدبِّر ما في السموات وما في الأرض، ومصرفه وخالقه، لا يمتنع شيء مما في واحدة منهما مما أرادَه، لأن كل ذلك ملكه، وإليه أمره، ولا نسب بينه وبين شيء مما فيهما ولا مما في واحدة منهما، فيحابيه بسبب قرابته منه، فينجيه من عذابه، وهو به كافر، ولأمره ونهيه مخالف أو يدخله النار وهو له مطيع لبعد قرابته منه، ولكنه يعذّب من يشاء من خلقه في الدنيا على معصيته بالقتل والخسف والمسخ وغير ذلك من صنوف عذابه، ويغفر لمن يشاء منهم في الدنيا بالتّوبة عليه من كفره ومعصيته، فينقذه من الهلكة، وينجيه من العقوبة « والله على كل شيء قدير » ، يقول: والله جل وعز على تعذيب من أرَاد تعذيبه من خلقه على معصيته، وغفرانِ ما أراد غفرانه منهم باستنقاذه من الهلكة بالتوبة عليه وغير ذلك من الأمور كلها قادرٌ، لأن الخلق خلقُه، والملك ملكه، والعباد عباده. وخرج قوله: « ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض » ، خطابًا له صلى الله عليه وسلم، والمعنيُّ به من ذكرتُ من فرق بني إسرائيل الذين كانوا بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حَوَاليها. وقد بيَّنا استعمال العرب نظيرَ ذلك في كلامها بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله عز ذكره : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية. فقال بعضهم: نـزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر، بقوله لبني قريظة حين حاصرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: « إنما هو الذَّبح، فلا تنـزلوا على حكم سعد » . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم » ، قال: نـزلت في رجل من الأنصار زعموا أنه أبو لبابة أشارت إليه بنو قريظة يوم الحصار، ما الأمر؟ وعلام ننـزل؟ فأشار إليهم أنه الذَّبح. وقال آخرون: بل نـزلت في رجل من اليهود سأل رجلا من المسلمين يسألُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حُكمه في قتِيلٍ قتله. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر: « لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر » ، قال: كان رجل من اليهود قتله رجل من أهل دينه، فقال القاتل لحلفائهم من المسلمين: سلوا ليِ محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن بُعِثَ بالدية اختصمنا إليه، وإن كان يأمرنا بالقتل لم نأته. حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن زكريا، عن عامر، نحوه. وقال آخرون: بل نـزلت في عبد الله بن صوريا، وذلك أنه ارتدّ بعد إسلامه. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال، حدثني الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدث، عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة حدّثهم: أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقد زنَى رجل منهم بعد إحصانه، بامرأة من يهود قد أحصنت، فقالوا، انطلقوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلى اللهعليه وسلم فاسألوه كيف الحكم فيهما، وولُّوه الحكم عليهما، فإن عمل فيهما بعملكم من التجبيه وهو الجلد بحبل من ليف مطليٍّ بقار، ثم تُسوَّد وجوههما، ثم يحملان على حمارين، وتحوَّل وجوههما من قبل دُبُر الحمار فاتبعوه، فإنما هو ملكٌ. وإن هو حكم فيهما بالرجم، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه. فأتوه فقالوا: يا محمد، هذا الرجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت، فاحكم فيهما، فقد وليناك الحكم فيهما. فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم إلى بيت المدراس، فقال: « يا معشر اليهود، أخرجوا إليّ أعلمكم! » فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا الأعور وقد روى بعض بني قريظة، أنهم أخرجوا إليه يومئذ مع ابن صوريا، أبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا! فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حصَّل أمرهم، إلى أن قالوا لابن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان غلامًا شابًّا من أحدثهم سنًّا، فألظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألةَ، يقول: يا ابن صوريا، أنشُدك الله واذكِّرك أياديه عند بني إسرائيل، هل تعلم أنّ الله حكم فيمن زنىَ بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللهم نعم! أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعلمون أنك نبيٌّ مرسلٌ، ولكنهم يحسدونك! فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما فرجما عند باب مسجده، في بني غنم بن مالك بن النجار. ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا، فأنـزل الله جل وعز: « يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة بن حميد عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيهوديٍّ محمَّم مجلود، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من علمائهم فقال: أهكذا تجِدُون حدَّ الزاني فيكم؟ قال: نعم! قال: فأنشدك بالذي أنـزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدّ الزنى فيكم؟ قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أحدِّثك، ولكن الرجم، ولكن كثرُ الزنا في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا: « تعالوا نجتمع فنضع شيئًا مكان الرجم، فيكون على الشريف والوضيع » ، فوضعنا التحميم والجلد مكان الرجم! فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أنا أوّل من أحيي أمرك إذ أماتوه! فأمر به فرجم، فأنـزل الله: « لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر » الآية. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري قال: كنت جالسًا عند سعيد بن المسيب، وعند سعيد رجل يوقِّره، فإذا هو رجل من مزينة كان أبوه شَهِد الحديبية، وكان من أصحاب أبي هريرة قال: قال أبو هريرة: كنت جالسًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ح، وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح كاتب الليث قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال: أخبرني رجل من مزينة ممن يَتَّبع العلمَ ويعيه، حدَّث عن سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من اليهود، وكانوا قد تشاوروا في صاحب لهم زنى بعد ما أحصن، فقال بعضهم لبعض: إن هذا النبي قد بعث، وقد علمتم أنْ قد فُرِض عليكم الرجْم في التوراة فكتمتموه، واصطلحتم بينكم على عقوبة دونه، فانطلقوا نسأل هذا النبي، فإن أفتانا بما فرض علينا في التوراة من الرجم، تركنا ذلك، فقد تركنا ذلك في التوراة، فهي أحق أن تُطَاع وتصدَّق! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم إنه زنى صاحبٌ لنا قد أحصن، فما ترى عليه من العقوبة؟ قال أبو هريرة: فلم يَرْجع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام وقمنا معه، فانطلق يؤمُّ مِدْراس اليهود، حتى أتاهم فوجدهم يتدارسون التوراة في بيت المدراس، فقال لهم: يا معشر اليهود، أنشُدكم بالله الذي أنـزل التوراة على موسى، ماذا تجدون في التوراة من العُقوبة على من زنى وقد أحصن؟ قالوا: إنا نجده يحمَّم ويُجْلَد! وسكت حَبْرهم في جانب البيت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صَمته، ألظَّ يَنْشُدُه، فقال حبرهم: اللهم إذْ نَشَدتنا فإنا نجد عليهم الرجم! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فماذا كان أوّلُ ما ترخَّصتم به أمرَ الله « ؟ قال: زنى ابن عم ملك فلم يرجمه، ثم زنى رجل آخر في أسرة من الناس، فأراد ذلك الملك رجمه، فقام دونه قومُه فقالوا: والله لا ترجمه حتى ترجُم فلانًا ابن عم الملك! فاصطلحوا بينهم عقوبة دون الرجم وتركوا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني أقضي بما في التوراة! فأنـزل الله في ذلك: » يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر « إلى قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ . » وقال آخرون: بل عُني بذلك المنافقون. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير في قوله: « يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم » ، قال: هم المنافقون. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « آمنا بأفواههم » قال يقول: هم المنافقون سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ، قال: هم أيضًا سماعون لليهود. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: عني بقوله: « لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم » ، قومٌ من المنافقين. وجائزٌ أن يكون كان ممن دخل في هذه الآية ابنُ صوريا وجائز أن يكون أبو لبابة وجائز أن يكون غيرُهما، غير أن أثبت شيء روي في ذلك، ما ذكرناه من الرواية قبلُ عن أبي هريرة والبراء بن عازب، لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان ذلك كذلك، كان الصحيحُ من القول فيه أن يقال: عُنِي به عبد الله بن صوريَا. وإذا صحّ ذلك، كان تأويل الآية: يا أيُّها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في جحود نبوّتك، والتكذيبِ بأنك لي نبي، من الذين قالوا: « صدَّقنا بك يا محمد أنك لله رسول مبعوث، وعلمنا بذلك يقينًا، بوجودنا صِفَتك في كتابنا » . وذلك أن في حديث أبي هريرة الذي رواه ابن إسحاق عن الزهري: أن ابن صُوريا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما والله يا أبا القاسم، إنهم ليعلمون أنك نبى مُرسَل، ولكنهم يحسدونك » . فذلك كان على هذا الخبر من ابن صوريا إيمانًا برسول الله صلى الله عليه وسلم بفيه، ولم يكن مصدِّقًا لذلك بقلبه. فقال الله جل وعزّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مُطْلِعَه على ضمير ابن صوريا وأنه لم يؤمن بقلبه، يقول: ولم يصدِّق قلبه بأنك لله رسول مرسل. القول في تأويل قوله عز وجلّ : وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها الرسولُ لا يحزنك تسرُّع من تسرَّع من هؤلاء المنافقين الذين يظهرون بألسنتهم تصديقَك، وهم معتقدون تكذيبك إلى الكفر بك، ولا تسرُّعُ اليهود إلى جحود نبوّتك. ثم وصف جل وعزّ صفتهم، ونعتهم له بنعوتهم الذَّميمة وأفعالهم الرديئة، وأخبره مُعزّيًا له على ما يناله من الحزن بتكذيبهم إياه، مع علمهم بصدقه، أنَّهم أهلُ استحلال الحرامِ والمآكل الرديئة والمطاعم الدنيئة من الرُّشَى والسُّحْت، وأنهم أهل إفكٍ وكذبٍ على الله، وتحريف لكتابه. ثم أعلمه أنه مُحِلٌّ بهم خزيَه في عاجل الدنيا، وعقابه في آجل الآخرة. فقال: هم « سماعون للكذب » ، يعني هؤلاء المنافقين من اليهود، يقول: هم يسمعون الكذب، و « سمعهم الكذب » ، سمعُهم قول أحبارهم: أنّ حكم الزاني المحصن في التوراة، التحميمُ والجلد « سماعون لقوم آخرين لم يأتوك » ، يقول: يسمعون لأهل الزاني الذين أرادوا الاحتكام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم القوم الآخرون الذين لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا مصرِّين على أن يأتوه، كما قال مجاهد:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، قال مجاهد: « سماعون لقوم آخرين لم يأتوك » ، مع من أتوك. واختلف أهل التأويل في « السماعين للكذب السماعين لقوم آخرين » . فقال بعضهم: « سماعون لقوم آخرين » ، يهود فَدَك. و « القوم الآخرون » الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهوُد المدينة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن جابر في قوله: « ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين » ، قال: يهود المدينة « لم يأتوك يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه » ، قال: يهود فدك، يقولون ليهود المدينة: إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ . وقال آخرون: المعنيّ بذلك قوم من اليهود، كان أهل المرأة التي بَغَتْ، بعثوا بهم يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم فيها. والباعثون بهم هم « القوم الآخرون » ، وهم أهل المرأة الفاجرة، لم يكونوا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « ومن الذين هادوا سمَّاعون للكذب سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون » ، فإنّ بني إسرائيل أنـزل الله عليهم: « إذا زنى منكم أحد فارجموه » ، فلم يزالوا بذلك حتى زنى رجل من خيارهم، فلما اجتمعت بنو إسرائيل يرجمونه، قام الخيار والأشراف فمنعوه. ثم زنى رجل من الضعفاء، فاجتمعوا ليرجموه، فاجتمعت الضعفاء فقالوا: لا ترجموه حتى تأتُوا بصاحبكم فترجمونهما جميعًا! فقالت بنو إسرائيل: إن هذا الأمر قد اشتد علينا، فتعالوا فلنصلحه! فتركوا الرجم، وجعلوا مكانه أربعين جَلْدة بحبل مقيَّر، ويحملونه على حمار ووجهه إلى ذنبه، ويسوِّدون وجهه، ويطوفون به. فكانوا يفعلون ذلك حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة، فزنت امرأة من أشراف اليهود يقال لها: « بسرة » ، فبعث أبوها ناسًا من أصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه عن الزنا وما نـزل إليه فيه، فإنا نخاف أن يفضحنا ويُخْبرنا بما صنعنا، فإن أعطاكم الجلد فخذُوه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه! فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه، فقال: الرجم! فأنـزل الله عز وجل: « ومن الذين هادوا سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه » ، حين حرَّفوا الرجم فجعلوه جلدًا. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: إن « السماعين للكذب » ، هم « السماعون لقوم آخرين » . وقد يجوز أن يكون أولئك كانوا من يهود المدينة، والمسموعُ لهم من يَهُود فدك ويجوز أن يكون كانوا من غيرهم. غير أنه أيّ ذلك كان، فهو من صفة قوٍم من يهود، سَمِعوا الكذب على الله في حكم المرأة التي كانت بغت فيهم وهي محصنة، وأن حكمها في التوراة التحميم والجلد، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكم اللازم لها، وسمعوا ما يقول فيها قوم المرأة الفاجرة قَبْل أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتكمين إليه فيها. وإنما سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك لهم، ليُعْلموا أهل المرأة الفاجرة ما يكون من جوابه لهم. فإن لم يكن من حكمه الرجم رَضُوا به حَكَمًا فيهم. وإن كان من حكمه الرّجم، حذِروه وتركوا الرضَى به وبحكمه. وبنحو الذي قلنا كان ابن زيد يقول. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين » ، قال: لقوم آخرين لم يأتوه من أهل الكتاب، هؤلاء سماعون لأولئك القوم الآخرين الذين لم يأتوه، يقولون لهم الكذب: « محمد كاذبٌ، وليس هذا في التوراة، فلا تؤمنوا به » . القول في تأويل قوله عزّ وجلّ : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحرف هؤلاء السمَّاعون للكذب، السماعون لقوم آخرين منهم لم يأتوك بعدُ من اليهود « الكلم » . وكان تحريفُهم ذلك، تغييرَهم حكم الله تعالى ذكره الذي أنـزله في التوراة في المحصَنات والمحصَنين من الزناة بالرجم إلى الجلد والتحميم. فقال تعالى ذكره: « يحرّفون الكلم » ، يعني: هؤلاء اليهود، والمعنيُّ حكم الكَلِم، فاكتفى بذكر الخبر من « تحريف الكلم » عن ذكر « الحكم » ، لمعرفة السامعين لمعناه. وكذلك قوله: « من بعد مواضعه » ، والمعنى: من بعد وضْع الله ذلك مواضعه، فاكتفى بالخبر من ذكر « مواضعه » ، عن ذكر « وضع ذلك » ، كما قال تعالى ذكره: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [ سورة البقرة: 177 ] ، والمعنى: ولكن البِرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر. وقد يحتمل أن يكون معناه: يحرفون الكلم عن مواضعه فتكون « بعد » وضعت موضع « عن » ، كما يقال: « جئتك عن فراغي من الشغل » ، يريد: بعد فراغي من الشُّغل. ويعني بقوله: « إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا » ، يقول هؤلاء الباغُون السمَّاعون للكذب: إن أفتاكم محمد بالجلد والتحميم في صاحبنا « فخذوه » ، يقول: فاقبلوه منه، وإن لم يفتكم بذلك وأفتاكم بالرجم، فاحذروا. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال، حدثني الزهري قال: سمعت رجلا من مزينة يحدِّث سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة حدثهم في قصة ذكرها وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ، قال: [ أي الذين بعثوا منهم مَنْ ] بعثوا وتخلفوا، وأمروهم بما أمرُوهم به من تحريف الكلم عن مواضعه، فقال: « يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه » ، للتجبيه « وإن لم تؤتوه فاحذروا » ، أي الرجم. حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « إن أوتيتم هذا » ، إن وافقكم هذا فخذوه. يهودُ تقولُه للمنافقين. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، « إن أوتيتم هذا فخذوه » ، إن وافقكم هذا فخذوه، وإن لم يوافقكم فاحذروه. يهود تقوله للمنافقين. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يحرفون الكلم من بعد مواضعه » ، حين حرفوا الرجم فجعلوه جلدًا « يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا » . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن جابر: « يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه » ، يهود فدك، يقولون ليهود المدينة: إن أوتيتم هذا الجلد فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا الرَّجم. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا » ، هم اليهودُ، زنت منهم امرأة، وكان الله قد حكم في التوراة في الزّنا بالرجم، فنَفِسوا أن يرجموها، وقالوا: انطلقوا إلى محمد، فعسى أن يكون عنده رُخْصة، فإن كانت عنده رخصة فاقبلوها! فأتَوْه، فقالوا: يا أبا القاسم، إنّ امرأة منّا زنت، فما تقول فيها؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: كيف حُكم الله في التوراة في الزاني؟ فقالوا: دعنا من التوراة، ولكن ما عندك في ذلك؟ فقال: ائتوني بأعلمكم بالتوراة التي أنـزلت على موسى! فقال لهم: بالذي نجاكم من آل فرعون، وبالذي فَلَق لكم البحر فأنجاكم وأغرق آل فرعون، إلا أخبرتموني ما حُكْم الله في التوراة في الزاني؟! قالوا: حكمه الرَّجْم! فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا » ، ذكر لنا أن هذا كان في قتيلٍ من بني قريظة، قتلته النضير. فكانت النضير إذا قتلت من بني قريظة لم يُقِيدوهم، إنما يعطونهم الدية لفضلهم عليهم. وكانت قريظة إذا قتلت من النضير قتيلا لم يرضوا إلا بالقَوَد لفضلهم عليهم في أنفسهم تعزُّزًا. فقدم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة على تَفِئَةِ قتيلهم هذا، فأرادوا أن يرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال لهم رجل من المنافقين: إن قتيلكم هذا قتيل عَمْدٍ، متى ما ترفعونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم أخشى عليكم القَوَد، فإن قبل منكم الدية فخذوه، وإلا فكونوا منه على حَذَرٍ! حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يحرفون الكلم من بعد مواضعه » ، يقول: يحرّف هؤلاء الذين لم يأتوك الكلم عن مواضعه، لا يضعونه على ما أنـزله الله. قال: وهؤلاء كلهم يهود، بعضهم من بعضٍ. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية وعبيدة بن حميد، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب: « يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا » ، يقولون: ائتوا محمدًا، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. القول في تأويل قوله جل وعز : وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا قال أبو جعفر: وهذا تسلية من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم من حزنه على مسارعة الذين قصَّ قصتهم من اليهود والمنافقين في هذه الآية. يقول له تعالى ذكره: لا يحزنك تسرُّعهم إلى جحود نبوَّتك، فإني قد حَتَمْتُ عليهم أنهم لا يتوبون من ضلالتهم، ولا يرجعون عن كفرهم، للسابق من غضبي عليهم. وغير نافعهم حزنك على ما ترى من تسرُّعهم إلى ما جعلته سببًا لهلاكهم واستحقاقِهم وعيدي. ومعنى « الفتنة » في هذا الموضع: الضلالة عن قصد السبيل. يقول تعالى ذكره: ومن يرد الله، يا محمد، مَرْجعه بضلالته عن سبيل الهدى، فلن تملك له من الله استنقاذًا مما أراد الله به من الحيرة والضلالة. فلا تشعر نفسك الحزنَ على ما فاتك من اهتدائه للحق، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدى: « ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا » . ............................................. القول في تأويل قوله جل وعز : أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 41 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزُنك الذين يسارعون في الكفر من اليهودِ الذين وصفت لك صفتهم. وإن مسارعتهم إلى ذلك، أنّ الله قد أراد فتنتهم، وطَبَع على قلوبهم، ولا يهتدون أبدًا « أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم » ، يقول: هؤلاء الذين لم يرد الله أن يطهِّر من دنس الكفر ووَسخ الشرك قُلوبَهم، بطهارة الإسلام ونظافة الإيمان، فيتوبوا، بل أراد بهم الخزي في الدنيا وذلك الذلّ والهوان وفي الآخرة عذابُ جهنم خالدين فيها أبدًا. وبنحو الذي قلنا في معنى « الخزي » ، روي القول عن عكرمة. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن علي بن الأقمر وغيره، عن عكرمة، « أولئك الذين لم يرد الله أن يطهِّر قلوبهم لهم في الدنيا خزي » ، قال: مدينة في الروم تُفْتح فَيُسْبَوْن. القول في تأويل قوله : سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء اليهود الذين وصفتُ لك، يا محمد، صفتَهم، سَمَّاعون لقِيل الباطل والكذب، ومن قيل بعضهم لبعض: « محمد كاذب، ليس بنبي » ، وقيل بعضهم: « إن حكم الزاني المحصن في التوراة الجلد والتحميم » ، وغير ذلك من الأباطيل والإفك ويقبلون الرُّشَى فيأكلونها على كذبهم على الله وفريتهم عليه، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، سمعت الحسن يقول في قوله: « سماعون للكذب أكَّالون للسحت » ، قال: تلك الحكام، سمعوا كِذْبَةً وأكلوا رِشْوَةً. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « سماعون للكذب أكالون للسحت » ، قال: كان هذا في حكّام اليهودِ بين أيديكم، كانوا يسمعون الكذب ويقبلون الرُّشَى. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « أكالون للسحت » ، قال: الرشوة في الحكم، وهم يهود. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي وإسحاق الأزرق وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: « أكالون للسحت » ، قال: « السُّحت » ، الرشوةُ. حدثنا سفيان بن وكيع وواصل بن عبد الأعلى قالا حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن سلمة بن كهيل، عن سالم بن أبي الجعد قال: قيل لعبد الله: ما السحت؟ قال: الرشوة. قالوا: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر. حدثنا سفيان قال، حدثنا غندر ووهب بن جرير، عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله قال: « السحت » ، الرشوة. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن حريث، عن عامر، عن مسروق قال: قلنا لعبد الله: ما كنا نرى « السحت » إلا الرشوة في الحكم! قال عبد الله: ذاك الكُفْر. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله قال: « السحت » ، الرُّشَى؟ قال: نعم. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمار الدُّهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سألت عبد الله عن « السحت » ، فقال: الرجل يطلب الحاجةَ للرجل فيقضيها، فيهدي إليه فيقبلُها. حدثنا سوّار قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا شعبة، عن منصور وسليمان الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق، عن عبد الله أنه قال: « السحت » ، الرشى. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: « السحت » ، قال: الرشوة في الدِّين. حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن خيثمة قال، قال عمر: [ ما كان ] من « السحت » ، الرشى ومهر الزانية. حدثني سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: « السحت » ، الرشوة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: « أكالون للسحت » ، قال: الرشى. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي عن طلحة، عن أبي هريرة قال: مهر البغي سُحْت، وعَسْبُ الفحل سحت، وكسْبُ الحجَّام سحت، وثمن الكلب سُحْت. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال: « السحت » ، الرشوة في الحكم. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن « السحت » ، قال: الرشى. فقلت: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أكالون للسحت » ، يقول: للرشى. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن مسروق، وعلقمة: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: هي السحت. قالا في الحكم؟ قال: ذاك الكفر! تم تلا هذه الآية: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [ سورة المائدة: 44 ] . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن المسعودي، عن بكير بن أبي بكير، عن مسلم بن صبيح قال: شفع مسروق لرجل في حاجة، فأهدى له جارية، فغضب غضبًا شديدًا وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما كلَّمت في حاجتك، ولا أكلم فيما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول: « من شفع شفاعة ليردّ بها حقًّا، أو يرفع بها ظلمًا، فأهدِيَ له فقبل، فهو سحت » ، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم! قال: الأخذُ على الحكم كفر. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « سماعون للكذب أكالون للسحت » ، وذلك أنهم أخذوا الرشوة في الحكم، وقضوا بالكذب. حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة، عن عمار، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق قال: سألت ابن مسعود عن « السحت » ، أهو الرشى في الحكم؟ فقال: لا من لم يحكم بما أنـزل الله فهو فاسق. ولكن « السحت » ، يستعينك الرجل على المظلمة فتعينه عليها، فيهدي لك الهدية فتقبلُها. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن هبيرة السَّبائي قال: من السحت ثلاثة: مهرُ البغي، والرشوة في الحكم، وما كان يُعطى الكُهان في الجاهلية. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن مطيع، عن حماد بن سلمة، عن عطاء الخراساني، عن ضمرة، عن علي بن أبي طالب: أنه قال في كسب الحجام، ومهر البغيّ، وثمن الكلب، والاستجْعَال في القضية، وحلوان الكاهن، وعسب الفحل، والرشوة في الحكم، وثمن الخمر، وثمن الميتة: من السحت. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أكالون للسحت » ، قال: الرشوة في الحكم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الموال، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كُلُّ لحم أنبَته السُّحت فالنار أولى به. قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الجبار بن عمر، عن الحكم بن عبد الله قال: قال لي أنس بن مالك: إذا انقلبت إلى أبيك فقل له: إياك والرشوة، فإنها سحت وكان أبوه على شُرَط المدينة. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن مسروق، عن عبد الله قال: الرشوة سُحت. قال مسروق: فقلنا لعبد الله: أفي الحكم؟ قال: لا ثم قرأ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [ سورة المائدة: 44 ] ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ سورة المائدة: 45 ] ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ سورة المائدة: 47 ] . وأصل « السحت » : كَلَبُ الجوع، يقال منه: « فلان مسحُوت المَعِدَة » ، إذا كان أكولا لا يُلْفَى أبدًا إلا جائعًا، وإنما قيل للرشوة: « السحت » ، تشبيهًا بذلك، كأن بالمسترشي من الشَّره إلى أخذ ما يُعطاه من ذلك، مثل الذي بالمسحوت المعدة من الشَّرَه إلى الطعام. يقالُ منه: « سحته وأسحته » ، لغتان محكيتان عن العرب، ومنه قول الفرزدق بن غالب: وَعَـضُّ زَمَـانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَع مِــنَ الْمَـالِ إلا مُسْـحَتًا أَوْ مُجَـلَّفُ يعني بِ « المسحت » ، الذي قد استأصله هلاكًا بأكله إياه وإفساده، ومنه قوله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ [ سورة طه: 61 ] . وتقول العرب للحالق: « اسحت الشعر » ، أي: استأصله. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 42 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرضْ عنهم » ، إن جاء هؤلاء القوم الآخرون الذين لم يأتوك بعد وهم قومُ المرأة البغيّة محتكمين إليك، فاحكم بينهم إن شئت بالحقِّ الذي جعله الله حُكمًا له فيمن فعل فِعْل المرأة البغيَّة منهم أو أعرض عنهم فدع الحكم بينهم إن شئت، والخيار إليك في ذلك. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « أو أعرض عنهم » ، يهودُ، زنى رجل منهم له نسبٌ حقير فرجموه، ثم زنى منهم شريف فحمَّمُوه، ثم طافوا به، ثم استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوافقهم. قال: فأفتاهم فيه بالرجم، فأنكروه، فأمرهم أن يدعوا أحبارهم ورهبانهم، فناشدهم بالله: أتجدونه في التوراة؟ فكتموه، إلا رجلا من أصغرهم أعْوَرَ، فقال: كذبوك يا رسول الله، إنه لفي التوراة! حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن ابن شهاب: أنّ الآية التي في « سورة المائدة » ، « فإن جاءوك فاحكم بينهم » ، كانت في شأن الرجم. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إنهم أتوه يعني اليهود في امرأة منهم زنت، يسألونه عن عقوبتها، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة؟ فقالوا: نؤمر برجم الزانية! فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت، وقد قال الله تبارك وتعالى: « وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين » . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله: « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » ، قال: كانوا يحدُّون في الزنا، إلى أن زنى شاب منهم ذو شرف، فقال بعضهم لبعض: لا يدعكم قومه ترجمونه، ولكن اجلدوه ومثِّلوا به! فجلدوه وحملوه على حمارِ إكافٍ، وجعلوا وجهه مستقبِلَ ذنب الحمار إلى أن زنى آخر وضيع ليس له شرف، فقالوا: ارجموه! ثم قالوا: فكيف لم ترجموا الذى قبله؟ ولكن مثل ما صنعتم به فاصنعوا بهذا! فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: سلوه، لعلكم تجدون عنده رخصة! فنـزلت: « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » إلى قوله: « إنّ الله يحب المقسطين » . وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية في قتيل قُتل في يهودَ منهم، قتله بعضهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن الآيات في « المائدة » ، قوله: « فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » ، إلى قوله: « المقسطين » ، إنما نـزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف، تؤدِّي الدية كاملة، وإن قريظة كانوا يؤدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقّ في ذلك، فجعل الدية في ذاك سواءً والله أعلم أيُّ ذلك كان. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير، وكان النضيرُ أشرفَ من قريظة، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير، قُتِل به. وإذا قتل رجلٌ من النضير رجلا من قريظة، أدَّى مئة وَسْقِ تمرٍ. فلما بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَتَل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا! فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فنـزلت « وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط » . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان في حكم حيي بن أخطب: للنّضِيريِّ ديتان، والقرظيّ دية لأنه كان من النضير. قال: وأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما في التوراة، قال: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ سورة المائدة: 45 ] ، إلى آخر الآية. قال: فلما رأت ذلك قريظة، لم يرضوا بحكم ابن أخطب، فقالوا: نتحاكم إلى محمد! فقال الله تبارك وتعالى: « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » ، فخيرّه وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ، الآية كلها. وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي، وحمَّموا وجهَ الشريف، وحملوه على البعير، وجَعلوا وجهه من قِبَل ذنب البعير. وإذا زنى الدنيء بالشريفة رجموه، وفعلوا بها هي ذلك. فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرجمها. قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: من أعلمكم بالتوراة؟ قالوا: فلان الأعور! فأرسل إليه فأتاه، فقال: أنت أعلمهم بالتوراة؟ قال: كذاك تزعم يهودُ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله وبالتوراة التي أنـزلها على موسى يوم طُور سَيْنَاء، ما تجد في التوراة في الزانيين؟ فقال: يا أبا القاسم، يرجمون الدنيئة، ويحملون الشريف على بعير، ويحمِّمون وجهه، ويجعلون وجهه من قبل ذنَبِ البعير، ويرجمون الدنيء إذا زنى بالشريفة، ويفعلون بها هي ذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: « أنشدك بالله وبالتوراة التي أنـزلها على موسى يوم طُور سَيْناء، ما تجد في التوراة؟ فجعل يروغ، والنبي صلى الله عليه وسلم يَنْشُده بالله وبالتوراة التي أنـزلها على موسى يوم طور سيناء، حتى قال: يا أبا القاسم،الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة » . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو ذاك، اذهبوا بهما فارجموهما. قال عبد الله: فكنت فيمن رجمهما فما زال يُجْنِئُ عليها، ويقيها الحجارة بنفسه حتّى مات. ثم اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية، هل هو ثابت اليوم؟ وهل للحكام من الخيار في الحكم والنظر بين أهل الذمّة والعهد إذا احتكموا إليهم، مثلُ الذي جعَل لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية، أم ذلك منسوخ؟ فقال بعضهم: ذلك ثابتٌ اليوم، لم ينسخه شيء، وللحكام من الخيار في كلّ دهر بهذه الآية، مثلُ ما جعَله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن عمرو بن أبي قيس، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي: إنْ رفع إليك أحد من المشركين في قَضَاءٍ، فإن شئت فاحكم بينهم بما أنـزل الله، وإن شئت أعرضت عنهم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي وإبراهيم قالا إذا أتاك المشركون فحكَّموك، فاحكم بينهم أو أعرض عنهم. وإن حكمت فاحكم بحكم المسلمين، ولا تعدُهُ إلى غيره. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي: « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » ، قال: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: إن شاء حكم، وإن شاء لم يحكم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن محمد بن سالم، عن الشعبي قال: إذا أتاك أهل الكتاب بينهم أمر، فاحكم بينهم بحكم المسلمين، أو خَلِّ عنهم وأهلَ دينهم يحكمون فيهم، إلا في سرقة أو قتل. حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال، قال لي عطاء، نحن مخيَّرون، إن شئنا حكمنا بين أهل الكتاب، وإن شئنا أعرضنا فلم نحكم بينهم. وإن حكمنا بينهم حكمنا بحكمنا بيننا، أو نتركهم وحكمهم بينهم قال ابن جريج: وقال مثل ذلك عمرو بن شعيب. وذلك قوله: « فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » . حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة وحدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة عن إبراهيم والشعبي في قوله: « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » ، قالا إذا جاءوا إلى حاكم المسلمين، فإن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. وإن حكم بينهم، حكم بينهم بما في كتاب الله. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فإن جاءوك فاحكم بينهم » ، يقول: إن جاءوك فاحكم بينهم بما أنـزل الله، أو أعرض عنهم. فجعل الله له في ذلك رُخْصة، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم. حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا إذا أتاك المشركون فحكَّموك فيما بينهم، فاحكم بينهم بحكم المسلمين ولا تعدُه إلى غيره، أو أعرض عنهم وخلِّهم وأهلَ دينهم. وقال آخرون: بل التخيير منسوخٌ، وعلى الحاكم إذا احتكم إليه أهل الذمة أن يحكُم بينهم بالحق، وليس له ترك النظر بينهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » ، نسخت بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ . [ سورة المائدة: 49 ] . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن السدي قال: سمعت عكرمة يقول: نسختها وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ . حدثنا ابن وكيع ومحمد بن بشار قالا حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن السدي قال: سمعت عكرمة يقول: نسختها: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد: لم ينسخ من « المائدة » إلا هاتان الآيتان: « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » ، نسختها: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [ سورة المائدة: 49 ] ، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [ سورة المائدة: 2 ] ، نسختها: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ سورة التوبة: 5 ] . حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد قال: نسختها: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ . حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن منهال قال، حدثنا همام، عن قتادة قوله: « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » ، يعني اليهود، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم، ورخَّص له أن يُعْرض عنهم إن شاء، ثم أنـزل الله تعالى ذكره الآية التي بعدها: وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ إلى قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [ سورة المائدة: 48 ] . فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنـزل الله بعد ما رخَّص له، إن شاء، أن يُعْرض عنهم. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزريّ: أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عديّ بن عديّ: « إذا جاءك أهل الكتاب فاحكم بينهم » . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن السدي، عن عكرمة قال: نسخت بقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ [ سورة المائدة: 48 ] . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري قوله: « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » ، قال: مضت السنة أن يُرَدُّوا قي حقوقهم ومواريثهم إلى أهلِ دينهم، إلا أن يأتوا راغبين في حدٍّ، يحكم بينهم فيه بكتاب الله. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما نـزلت: « فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » ، كان النبي صلى الله عليه وسلم: إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، ثم نسخها فقال: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ، وكان مجبورًا على أن يحكم بينهم. حدثنا محمد بن عمار قال، حدثنا سعيد بن سليمان قال، حدثنا عباد بن العوّام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد قال: آيتان نسختا من هذه السورة يعني « المائدة » ، آية القلائد، وقوله: « فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » ، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم مخيَّرًا، إن شاء حكم، وإن شاء أعرض عنهم، فردّهم إلى احتكامهم، أن يحكم بينهم بما في كتابنا. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: إن حكم هذه الآية ثابتٌ لم ينسخ، وأن للحكَّام من الخِيار في الحكم بين أهل العهد إذا ارتفعوا إليهم فاحتكموا، وتركِ الحكم بينهم والنظر، مثلُ الذي جعله الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك في هذه الآية. وإنما قلنا ذلك أولاهما بالصواب، لأن القائلين إن حكم هذه الآية منسوخ، زَعموا أنه نسخ بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ [ سورة المائدة: 49 ] وقد دللنا في كتابنا: « كتاب البيان عن أصول الأحكام » : أن النسخ لا يكون نسخًا، إلا ما كان نفيًا لحكمٍ غَيْرِه بكلِّ معانيه، حتى لا يجوز اجتماع الحكم بالأمرين جميعًا على صِحّته بوجه من الوجوه بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإذْ كان ذلك كذلك وكان غير مستحيل في الكلام أن يقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ ، ومعناه: وأن أحكم بينهم بما أنـزل الله إذا حكمت بينهم، باختيارك الحكم بينهم، إذا اخترت ذلك، ولم تختر الإعراض عنهم، إذ كان قد تقدَّم إعلام المقول له ذلك من قائِله: إنّ له الخيار في الحكم وترك الحكم كان معلومًا بذلك أن لا دلالة في قوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ ، أنه ناسخٌ قوله: « فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط » ، لما وصفنا من احتمال ذلك ما بَيَّنَّا، بل هو دليل على مثل الذي دلَّ عليه قوله: « وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط » . وإذْ لم يكن في ظاهر التنـزيل دليلٌ على نسخ إحدى الآيتين الأخرى، ولا نفي أحد الأمرين حكم الآخر ولم يكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبٌر يصحُّ بأن أحدهما ناسخ صاحبَه ولا من المسلمين على ذلك إجماعٌ صحَّ ما قلنا من أن كلا الأمرين يؤيِّد أحدهما صاحبه، ويوافق حكمُه حكمَه، ولا نسخ في أحدهما للآخر. وأما قوله: « وإن تُعْرِض عنهم فلن يضروك شيئًا » ، فإن معناه: وإن تعرض يا محمد، عن المحتكمين إليك من أهل الكتاب، فتدَع النظر بينهم فيما احتكموا فيه إليك، فلا تحكم فيه بينهم « فلن يضروك شيئًا » ، يقول: فلن يقدِرُوا لك على ضُرَّ في دين ولا دنيا، فدع النظر بينهم إذا اخترت ترك النظر بينهم. وأما قوله: « وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط » ، فإن معناه: وإن اخترت الحكم والنَظَر، يا محمد، بين أهل العهدِ إذا أتوك « فاحكم بينهم بالقسط » ، وهو العدل، وذلك هو الحكم بما جعله الله حكمًا في مثله على جميع خلقِه من أمة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم. وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي: « وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط » ، قالا إن حكم بينهم، حكم بما في كتاب الله. حدثنا سفيان قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوَّام بن حوشب، عن إبراهيم: « وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط » ، قال: أمر أن يحكم فيهم بالرجم. حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن العوّام، عن إبراهيم التيمي في قوله: « وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط » ، قال: بالرجم. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « بالقسط » بالعدل. حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي في قوله: « فاحكم بينهم بالقسط » ، قال: أمر أن يحكم بينهم بالرجم. وأما قوله: « إن الله يحب المقسطين » ، فمعناه: إن الله يحب العادلين في حكمهم بين الناس، القاضين بينهم بحكم الله الذي أنـزله في كتابه وأمْرِه أنبياءَه صلوات الله عليهم. يقال منه: « أقسط الحاكم في حكمه » ، إذا عدل وقضى بالحق، « يُقْسِط إقساطًا » وأما « قسط » ، فمعناه: الجور، ومنه قول الله تعالى ذكره: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [ سورة الجن: 15 ] ، يعني بذلك: الجائرين عن الحق. القول في تأويل قوله : وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ( 43 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وكيف يحكمك هؤلاء اليهود، يا محمد، بينهم، فيرضون بك حكمًا بينهم « وعندهم التوراة » التي أنـزلتها على موسى، التي يقرُّون بها أنها حق، وأنها كتابي الذي أنـزلته إلى نبيي، وأن ما فيه من حكم فمن حكمي، يعلمون ذلك لا يتناكرونه، ولا يتدافعونه، ويعلمون أن حكمي فيها على الزاني المحصن الرجم، وهم مع عملهم بذلك « يتولون » ، يقول: يتركون الحكم به، بعد العلم بحكمي فيه، جراءة عليّ وعصيانًا لي. وهذا، وإن كان من الله تعالى ذكره خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه تقريعٌ منه لليهود الذين نـزلت فيهم هذه الآية. يقول لهم تعالى ذكره: كيف تقرّون، أيها اليهود، بحكم نبيّي محمد صلى الله عليه وسلم، مع جحودكم نبوته وتكذيبكم إياه، وأنتم تتركون حكمي الذي تقرون به أنه حق عليكم واجبٌ، جاءكم به موسى من عند الله؟ يقول: فإذْ كنتم تتركون حكمي الذي جاءكم به موسى الذي تقرّون بنبوّته في كتابي، فأنتم بترك حكمي الذي يخبركم به نبيِّي محمد أنه حكمي- أحْرَى، مع جحودكم نبوَّته. ثم قال تعالى ذكره مخبرًا عن حال هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية عنده، وحال نظرائهم من الجائرين عن حكمه، الزائلين عن محجّة الحق « وما أولئك بالمؤمنين » ، يقول: ليس من فعل هذا الفعل- أي: من تولّى عن حكم الله، الذي حكم به في كتابه الذي أنـزله على نبيه، في خلقه بالذي صدَّق الله ورسوله فأقرّ بتوحيده ونبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك ليس من فِعل أهل الإيمان. وأصل « التولي عن الشيء » ، الانصرافُ عنه، كما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: « ثم يتولون من بعد ذلك » ، قال: « توليهم » ، ما تركوا من كتاب الله. حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله » ، يعني: حدود الله، فأخبر الله بحكمه في التوراة. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وعندهم التوراة فيها حكم الله » ، أي: بيان الله ما تشاجروا فيه من شأن قتيلهم « ثم يتولون من بعد ذلك » ، الآية. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، قال يعني الرب تعالى ذكره يعيِّرهم: « وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله » ، يقول: الرجم. القول في تأويل قوله عز ذكره : إِنَّا أَنْـزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنا أنـزلنا التوراة فيها بيانُ ما سألك هؤلاء اليهود عنه من حكم الزانيين المحصنين « ونور » ، يقول: فيها جلاء ما أظلم عليهم، وضياءُ ما التبس من الحكم « يحكم بها النبيون الذين أسلموا » ، يقول: يحكم بحكم التوراة في ذلك، أي: فيما احتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه من أمر الزانيين « النبيون الذين أسلموا » ، وهم الذين أذعنوا لحكم الله وأقرُّوا به. وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك نبيّنا محمدا صلى الله عليه وسلم، في حكمه على الزانيين المحصنين من اليهود بالرجم، وفي تسويته بين دم قتلى النّضير وقريظة في القِصاص والدِّية، ومَنْ قبل محمد من الأنبياء يحكم بما فيها من حكم الله، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا » ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنـزلت هذه الآية: نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، قال، حدثنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود وامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بُعِث بتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله وقلنا: « فُتْيَا نبي من أنبيائك » !! قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم كلمة، حتى أتى بيت مِدْراسهم، فقام على الباب فقال: أنشدُكم بالله الذي أنـزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ قالوا: يحمّم ويجبَّه ويجلد « والتجبيه » ، أن يحمل الزانيان على حمار، تُقَابل أقفيتهما، ويطاف بهما وسكت شابٌّ [ منهم ] ، فلما رآه سكت، ألظَّ به النِّشْدَةَ، فقال: اللهم إذ نشدتَنا، فإنا نجد في التوراة الرجْمَ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما أوّل ما ارْتَخَصْتم أمر الله؟ قال: زنى رجل ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخَّر عنه الرجم. ثم زنى رجل في أسْرة من الناس، فأراد رَجْمَه، فحال قومه دونه وقالوا: لا ترجمْ صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة! فأمر بهما فرجما قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نـزلت فيهم: « إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونورٌ يحكم بها النبيون الذين أسلموا » ، فكان النبيُّ منهم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: « يحكم بها النبيون الذين أسلموا » ، النبي صلى الله عليه وسلم ومَنْ قبله من الأنبياء، يحكمون بما فيها من الحق. حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله: « يحكم بها النبيون الذين أسلموا » ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم « للذين هادوا » ، يعني اليهود، فاحكم بينهم ولا تخشهم. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويحكم بالتوراة وأحكامها التي أنـزل الله فيها في كل زمان - على ما أمر بالحكم به فيها- مع النبيين الذين أسلموا « الربانيون والأحبار » . و « الربانيون » جمع « رَبَّانيّ » ، وهم العُلماء الحكماء البُصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم و « الأحبار » ، هم العلماء. وقد بينا معنى « الربانيين » فيما مضى بشواهده، وأقوالَ أهل التأويل فيه. وأما « الأحبار » ، فإنهم جمع « حَبْر » ، وهو العالم المحكم للشيء، ومنه قيل لكعْب: « كعب الأحبار » . وكان الفراء يقول: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد « الأحبار » ، « حِبْر » بكسر « الحاء » . وكان بعض أهل التأويل يقول: عُنِي بـ « الربانيين والأحبار » في هذا الموضع: ابنا صوريا اللذان أقرَّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم الله تعالى ذكره في التوراة على الزانيين المحصنين. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان رجلان من اليهود أخوان، يقال لهما ابنا صُوريا، وقد اتبعا النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يسلما، وأعطياه عهدًا أن لا يسألهما عن شيء في التوراة إلا أخبراه به. وكان أحدُهما رِبِّيًّا، والآخر حَبْرًا. وإنما اتَّبعا النبى صلى الله عليه وسلم يتعلمان منه. فدعاهما، فسألهما، فأخبراه الأمر كيف كان حين زَنَى الشريف وزنى المسكين، وكيف غيَّروه، فأنـزل الله: إِنَّا أَنْـزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم « والربانيون والأحبار » ، هما ابنا صوريا، للذين هادوا. ثم ذكر ابني صوريا فقال: « والربانيون والأحبار بما استُحْفِظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء » . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ التوراة يحكم بها مسلمو الأنبياء لليهود، والربانيون من خلقه والأحبار. وقد يجوز أن يكون عُني بذلك ابنا صوريا وغيرهما، غير أنه قد دخل في ظاهر التتزيل مسلمو الأنبياء وكل رَبَّاني وحبر. ولا دلالة في ظاهر التنـزيل على أنه معنيٌّ به خاص من الربانيين والأحبار، ولا قامت بذلك حجة يجب التسليم لها. فكل رباني وحبر داخلٌ في الآية بظاهر التنـزيل. وبمثل الذي قلنا في تأويل « الأحبار » ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك: « الربانيون » و « الأحبار » ، قُرّاؤهم وفقهاؤهم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الحسن: « الربانيون والأحبار » ، الفقهاء والعلماء. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « الربانيون » ، العلماء الفقهاء، وهم فوق « الأحبار » . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « الربانيون » ، فقهاء اليهود « والأحبار » ، علماؤهم. حدثنا القاسم قال، حدثنا سنيد بن داود قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: « والربانيون والأحبار » ، كلهم يحكم بما فيها من الحق. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد « الربانيون » ، الولاة، « والأحبار » ، العلماء. وأما قوله: « بما استحفظوا من كتاب الله » ، فإن معناه: يحكم النبيون الذين أسلموا بحكم التوراة، والربانيون والأحبار يعني العلماء بما استُودعوا علمه من كتاب الله الذي هو التوراة. و « الباء » في قوله: « بما استحفظوا » ، من صلة « الأحبار » . وأما قوله: « وكانوا عليه شهداء » ، فإنه يعني: أن الربانيين والأحبار بما استودعوا من كتاب الله، يحكمون بالتوراة مع النبيين الذين أسلموا للذين هادوا، وكانوا على حكم النبيين الذين أسلموا للذين هادوا شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله الذي أنـزله على نبيه موسى وقضائه عليهم، كما:- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « وكانوا عليه شهداء » ، يعني الربانيين والأحبار، هم الشهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم بما قال، أنه حق جاء من عند الله، فهو نبي الله محمد، أتته اليهود. فقضى بينهم بالحق. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعلماء اليهود وأحبارهم: لا تخشوا الناس في تنفيذ حكمي الذي حكمت به على عبادي، وإمضائه عليهم على ما أمرت، فإنهم لا يقدرون لكم على ضر ولا نفع إلا بإذني، ولا تكتموا الرجمَ الذي جعلته حُكمًا في التوراة على الزانيين المحصنين، ولكن اخشوني دون كل أحدٍ من خلقي، فإن النفع والضر بيدي، وخافوا عقابي في كتمانكم ما استُحفِظتم من كتابي. كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فلا تخشوا الناس واخشون » ، يقول: لا تخشوا الناس فتكتموا ما أنـزلت. وأما قوله: « ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا » يقول: ولا تأخذوا بترك الحكم بآيات كتابي الذي أنـزلته على موسى، أيها الأحبار، عوضًا خسِيسًا وذلك هو « الثمن القليل » . وإنما أراد تعالى ذكره، نهيَهم عن أكل السحت على تحريفهم كتاب الله، وتغييرهم حكمه عما حكم به في الزانيين المحصنين، وغير ذلك من الأحكام التي بدَّلوها طلبًا منهم للرشَى، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا » ، قال: لا تأكلوا السحت على كتابي وقال مرة أخرى، قال قال ابن زيد في قوله: « ولا تشتروا بآياتي ثمنًا » قال: لا تأخذوا به رشوة. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلا » ، ولا تأخذوا طَمَعًا قليلا على أن تكتموا ما أنـزلت. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ( 44 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كتم حُكم الله الذي أنـزله في كتابه وجعله حكمًا يين عباده، فأخفاه وحكم بغيره، كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم، وكتمانهم الرجم، وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقِصاص، وفي الأدنياء بالدية، وقد سوَّى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة « فأولئك هم الكافرون » ، يقول: هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنـزل الله في كتابه، ولكن بدَّلوا وغيروا حكمه، وكتموا الحقَّ الذي أنـزله في كتابه « هم الكافرون » ، يقول: هم الذين سَتَروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينُه، وغطَّوه عن الناس، وأظهروا لهم غيره، وقضوا به، لسحتٍ أخذوه منهم عليه. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل « الكفر » في هذا الموضع. فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك، من أنه عنى به اليهود الذين حَرَّفوا كتاب الله وبدَّلوا حكمه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ سورة المائدة: 45 ] ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ سورة المائدة: 47 ] ، في الكافرين كلها. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن القاسم قال، حدثنا أبو حيان، عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في « المائدة » ، « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، ليس في أهل الإسلام منها شيءٌ، هي في الكفار. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي حيان، عن الضحاك: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، و الظَّالِمُونَ و الْفَاسِقُونَ ، قال: نـزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عمران بن حدير قال، أتى أبا مجلز ناسٌ من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، أحق هو؟ قال: نعم! قالوا: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، أحق هو؟ قال: نعم! قالوا: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، أحق هو؟ قال: نعم! قال فقالوا: يا أبا مجلز، فيحكم هؤلاء بما أنـزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدْعون، فإن هم تركوا شيئًا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبًا! فقالوا: لا والله، ولكنك تَفْرَقُ! قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تحرَّجُون، ولكنها أنـزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك أو نحوًا من هذا. حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير قال: قعد إلى أبي مجلز نفرٌ من الإبَاضيَّة، قال فقالوا له: يقول الله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ! قال أبو مجلز: إنهم يعملون بما يعلمون يعني الأمراء ويعلمون أنه ذنب! قال: وإنما أنـزلت هذه الآية في اليهود! والنصارى قالوا: أما والله إنك لتعلم مثل ما نعلم، ولكنك تخشاهم! قال: أنتم أحق بذلك منّا! أمّا نحن فلا نعرف ما تعرفون! [ قالوا ] : ولكنكم تعرفونه، ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم! حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، عن حذيفة في قوله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لكم كل حُلْوة، ولهم كل مُرَّة!! ولتسلُكُنَّ طريقَهم قِدَى الشِّراك. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي حيان، عن الضحاك: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، و الظَّالِمُونَ و الْفَاسِقُونَ ، قال: نـزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار، عن عبد الرحمن. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة عن هؤلاء الآيات: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، قال فقيل: ذلك في بني إسرائيل؟ قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مُرَّة، ولكم كل حلوة! كلا والله، لتسلكن طريقَهم قِدَى الشراك. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن عكرمة قال: هؤلاء الآيات في أهل الكتاب. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، ذكر لنا أن هؤلاء الآيات أنـزلت في قتيل اليهود الذي كان منهم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، و الظَّالِمُونَ ، و الْفَاسِقُونَ ، لأهل الكتاب كلّهم، لما تركوا من كتاب الله. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهوديّ محمَّم مجلود، فدعاهم فقال: هكذا تجدون حدَّ من زنى؟ قالوا: نعم! فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك الله الذي أنـزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا ولولا أنك أنشَدتني بهذا لم أخبرك، نجد حدَّه في كتابنا الرجم، ولكنه كثُر في أشرافنا، فكُنا إذا أخذنا الشّريف تركناه، وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحدّ، فقلنا: تعالوا فلنجتمع جميعًا على التحميم والجلد مكانَ الرجْم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنّي أول من أحيَى أمرك إذْ أماتوه! فأمر به فرجم، فأنـزل الله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، يعني اليهود: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، يعني اليهود: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، للكفار كلها. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال: من حكم بكتابه الذي كتب بيده، وترك كتاب الله، وزعم أن كتابه هذا من عند الله، فقد كفر. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث القاسم، عن الحسن غير أن هنادًا قال في حديثه: فقلنا: تعالوا فلنجتمع في شيء نقيمه على الشريف والضعيف، فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم- وسائر الحديث نحو حديث القاسم. حدثنا الربيع قال، حدثنا ابن وهب قال، حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: كنا عند عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فذكر رجل عنده: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، فقال عبيد الله: أمَا والله إن كثيرًا من الناس يتأوَّلون هؤلاء الآيات على ما لم ينـزلنَ عليه، وما أُنـزلن إلا في حيين من يهود. ثم قال: هم قريظة والنضير، وذلك أنّ إحدى الطائفتين كانت قد غزت الأخرى وقهرتها قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزةُ من الذليلة، فديته خمسون وَسْقًا، وكل قتيل قتلته الذَّليلة من العزيزة، فدِيَته مئة وَسْق. فأعطوهم فَرَقًا وضيمًا. فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك، فذلَّت الطائفتان بمقدَم النبي صلى الله عليه وسلم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يظهر عليهما. فبيْنا هما على ذلك، أصابت الذليلة من العزيزة قتيلا فقالت العزيزة: أعطونا مائة وسق! فقالت الذليلة: وهل كان هذا قط في حَيَّين دينهما واحد، وبلدهما واحد، ديةُ بعضهم ضعفُ دية بعض! إنما أعطيناكم هذا فَرَقًا منكم وضيمًا، فاجعلوا بيننا وبينكم محمدًا صلى الله عليه وسلم. فتراضيا على أن يجعلوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بينهم. ثم إن العزيزة تذاكرت بينها، فخشيت أن لا يعطيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أصحابها ضعف ما تعطِي أصحابها منها، فدسُّوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إخوانهم من المنافقين، فقالوا لهم: اخبرُوا لنا رأيَ محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أعطانا ما نريد حكَّمناه، وإن لم يعطنا حذرناه ولم نحكمه! فذهب المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلم الله تعالى ذكره النبيَّ صلى الله عليه وسلم ما أرادوا من ذلك الأمر كله قال عبيد الله: فأنـزل الله تعالى ذكره فيهم: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ، هؤلاء الآيات كلهن، حتى بلغ: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فِيهِ إلى الْفَاسِقُونَ قرأ عبيد الله ذلك آيةً آيةً، وفسَّرها على ما أُنـزل، حتى فرَغ [ من ] تفسير ذلك لهم في الآيات. ثم قال: إنما عنى بذلك يهود، وفيهم أنـزلت هذه الصفة. وقال بعضهم: عنى بـ « الكافرين » ، أهل الإسلام، وب « الظالمين » اليهود، وب « الفاسقين » النصارى. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا، عن عامر قال: نـزلت « الكافرون » في المسلمين، و الظَّالِمُونَ في اليهود، و الْفَاسِقُونَ في النصارى. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي، قال: « الكافرون » ، في المسلمين، و الظَّالِمُونَ في اليهود، و الْفَاسِقُونَ ، في النصارى. حدثنا ابن وكيع وأبو السائب وواصل بن عبد الأعلى قالوا، حدثنا ابن فضيل، عن ابن شبرمة، عن الشعبي قال: آيةٌ فينا، وآيتان في أهل الكتاب: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، فينا، وفيهم: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، و الْفَاسِقُونَ في أهل الكتاب. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، مثل حديث زكريَّا عنه. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال: هذا في المسلمين وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، قال: النصارى. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي قال، في هؤلاء الآيات التي في « المائدة » : « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال: فينا أهلَ الإسلام وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، قال: في اليهود وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، قال: في النصارى. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي في قوله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال: نـزلت الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن زكريا، عن الشعبي، بنحوه. حدثنا هناد قال، حدثنا يعلى، عن زكريا، عن عامر، بنحوه. وقال آخرون: بل عنى بذلك: كفرٌ دون كفر، وظلمٍ دون ظلم، وفسقٌ دون فسق. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قوله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ، قال: كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن عطاء، مثله. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن أيوب بن أبي تميمة، عن عطاء بن أبي رباح، بنحوه. حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، بنحوه. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن سعيد المكي، عن طاوس: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال: ليس بكفرٍ ينقل عن الملّة. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن معمر بن راشد، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال: هي به كفر، وليس كفرًا بالله وملائكته وكتبه ورسله. حدثني الحسن قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قال رجل لابن عباس في هذه الآيات: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله » ، فمن فعل هذا فقد كفر؟ قال ابن عباس: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر، وبكذا وكذا. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال هي به كفر قال: ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكُتُبه ورسله. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن طاوس: « فأولئك هم الكافرون » ، قال: كفر لا ينقل عن الملة قال وقال عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآيات في أهل الكتاب، وهى مرادٌ بها جميعُ الناس، مسلموهم وكفارهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال: نـزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورَضي لهذه الأمّة بها. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال: نـزلت في بني إسرائيل، ورضى لكم بها. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في هذه الآية: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال: نـزلت في بني إسرائيل، ثم رضى بها لهؤلاء. حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال: نـزلت في اليهود، وهي علينا واجبةٌ. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن سلمة بن كهيل، عن علقمة ومسروق: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: من السحت. قال فقالا أفي الحكم؟ قال: ذاك الكُفْر! ثم تلا هذه الآية: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله » ، يقول: ومن لم يحكم بما أنـزلتُ، فتركه عمدًا وجار وهو يعلم، فهو من الكافرين. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن لم يحكم بما أنـزل الله جاحدًا به. فأما « الظلم » و « الفسق » ، فهو للمقرِّ به. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الكافرون » ، قال: من جحد ما أنـزل الله فقد كفر. ومن أقرّ به ولم يحكم، فهو ظالم فاسقٌ. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: نـزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نـزلت، وهم المعنيُّون بها. وهذه الآيات سياقُ الخبر عنهم، فكونُها خبرًا عنهم أولى. فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع منْ لم يحكم بما أنـزل الله، فكيف جعلته خاصًّا؟ قيل: إن الله تعالى عَمَّ بالخبر بذلك عن قومٍ كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكمَ، على سبيل ما تركوه، كافرون. وكذلك القولُ في كل من لم يحكم بما أنـزل الله جاحدًا به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله بعدَ علمه أنه أنـزله في كتابه، نظير جحوده نبوّة نبيّه بعد علمه أنه نبيٌّ. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكتبنا على هؤلاء اليهود الذين يحكمونك، يا محمد، وعندهم التوراة فيها حكم الله. ويعني بقوله: « وكتبنا » ، وفرضنا عليهم فيها أن يحكموا في النَّفس إذا قتلت نفسًا بغير حق « بالنفس » ، يعني: أن تقتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة، « والعين بالعين » ، يقول: وفرضنا عليهم فيها أن يفقأوا العين التي فقأ صاحبها مثلَها من نفس أخرَى بالعين المفقوءة ويجدع الأنف بالأنف وتقطع الأذن بالأذن وتقلع السنّ بالسنّ ويُقْتَصَّ من الجارِح غيره ظلمًا للمجروح. وهذا إخبار من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عن اليهود وتعزية منه له عن كفر من كفر منهم به بعد إقراره بنبوته، وإدباره عنه بعد إقباله وتعريفٌ منه له جراءتهم قديمًا وحديثًا على ربِّهم وعلى رسل ربِّهم، وتقدُّمهم على كتاب الله بالتحريف والتبديل. يقول تعالى ذكره له: وكيف يرضى هؤلاء اليهود، يا محمد، بحكمك، إذا جاءوا يحكمونك وعندهم التوراة التي يقرُّون بها أنها كتابي ووحيي إلى رسولي موسى صلى الله عليه وسلم، فيها حكمي بالرجم على الزناة المحصنين، وقضائي بينهم أن من قتَل نفسًا ظلمًا فهو بها قَوَدٌ، ومن فقأ عينًا بغير حق فعينه بها مفقوءة قِصَاصًا، ومن جدع أنفًا فأنفه به مجدوع، ومن قلع سنًّا فسنّه بها مقلوعة، ومن جرح غيره جرحًا فهو مقتصٌّ منه مثل الجرح الذي جرحه؟ ثم هم مع الحكم الذي عندهم في التوراة من أحكامي، يتولون عنه ويتركون العمل به، يقول: فهم بترك حكمك، وبسخط قضائك بينهم، أحرَى وأولَى. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لما رأت قريظة النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم، وكانوا يخفونه في كتابهم، نهضت قريظة فقالوا: يا محمد، اقضِ بيننا وبين إخواننا بني النضير وكان بينهم دمٌ قبلَ قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت النضير يتعزَّزون على بني قريظة، ودياتهم على أنصاف ديات النضير، وكانت الدِّية من وُسُوق التمر: أربعين ومئة وسق لبني النضير، وسبعين وسقًا لبني قريظة فقال: دمُ القرظيّ وفاءٌ من دم النضيريّ! فغضب بنو النضير وقالوا: لا نطيعك في الرَّجم، ولكن نأخذ بحدودنا التي كنَّا عليها! فنـزلت: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [ سورة المائدة: 50 ] ونـزل: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » ، الآية. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص » ، قال: فما بالهم يخالفون، يقتلون النفسين بالنفس، ويفقأون العينين بالعين؟ حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خلاد الكوفي قال، حدثنا الثوري، عن السدي، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتالٌ، فكان بينهم قتلى، وكان لأحد الحيين على الآخر طَوْلٌ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يجعَلُ الحرَّ بالحرِّ، والعبدَ بالعبد، والمرأة بالمرأة، فنـزلت: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ [ سورة البقرة: 178 ] قال سفيان: وبلغني عن ابن عباس أنه قال: نسختها: « النفس بالنفس » . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » فيها في التوراة- « والعين بالعين » حتى: « والجروح قصاص » ، قال مجاهد عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل القصاصُ في القتلى، ليس بينهم دية في نفسٍ ولا جُرْحٍ. قال: وذلك قول الله تعالى ذكره: « وكتبنا عليهم فيها » في التوراة، فخفف الله عن أمّة محمد صلى اللهعليه وسلم ، فجعل عليهم الدية في النَّفس والجِراح، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسن والجروح قصاص » ، قال: إن بني إسرائيل لم تُجعل لهم ديةٌ فيما كتب الله لموسى في التوراة من نفس قتلت، أو جرح، أو سنّ، أو عين، أو أنف. إنما هو القصاصُ، أو العفو. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وكتبنا عليهم فيها » ، أي في التوراة « أن النفس بالنفس » . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وكتبنا عليهم فيها » ، أي في التوراة، بأن النفس بالنفس. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » حتى بلغ « والجروح قصاص » ، بعضها ببعض. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « أن النفس بالنفس » ، قال يقول: تقتل النفس بالنفس، وتفقأ العين بالعين، ويقطع الأنف بالأنف، وتنـزع السنّ بالسن، وتقتصّ الجراح بالجراح. قال أبو جعفر: فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم، رجالهم ونساؤهم، إذا كان في النفس وما دون النفس ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم، إذا كان عمدًا في النفس وما دون النفس. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ به: « فمن تصدق به فهو كفارة له » . فقال بعضهم: عنى بذلك المجروحَ ووليَّ القتيل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، قال: يُهْدَم عنه يعني المجروح مثلُ ذلك من ذنوبه. حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود، عن عبد الله بن عمرو، بنحوه. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن الهيثم بن الأسود أبي العُرْيان قال: رأيت معاوية قاعدًا على السرير، وإلى جنبه رجلٌ أحمر كأنه مَوْلىً وهو عبد الله بن عمرو فقال في هذه الآية: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، قال: يُهْدَم عنه من ذنوبه مثل ما تصدّق به. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، قال: للمجروح. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة، عن عمارة بن أبي حفصة، عن أبي عقبة، عن جابر بن زيد: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، قا ل: للمجروح. حدثنا ابن المثنى قال، حدثني حَرِميّ بن عمارة قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني عمارة، عن رجل قال حرميّ: نسيت اسمه عن جابر بن زيد، بمثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، قال: للمجروح. حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن فضيل، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر قال: دفع رجلٌ من قريش رجلا من الأنصار فاندقَّتْ ثنيَّتُه، فرفعه الأنصاري إلى معاوية. فلما ألحَّ عليه الرجل قال معاوية: شأنَكَ وصاحبَك! قال: وأبو الدرداء عند معاوية، فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يُصَاب بشيء من جسده فيَهبُه، إلا رفعه الله به درجةً وحطّ عنه به خطيئة. فقال له الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته أذناي ووَعاه قلبي! فخلَّى سبيلَ القرشيّ، فقال معاوية: مروا له بمالٍ. حدثنا محمود بن خداش قال، حدثنا هشيم بن بشير قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي قال، قال ابن الصامت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جُرِح في جسده جراحةً فتصدَّق بها، كُفّر عنه ذنوبه بمثل ما تصدّق به. حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، قال: كفارة للمجروح. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا قال: سمعت عامرًا يقول: كفارة لمن تصدَّق به. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، يقول: لوليّ القتيل الذي عفا. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني شبيب بن سعيد، عن شعبة بن الحجاج، عن قيس بن مسلم، عن الهيثم أبي العريان قال: كنت بالشأم، وإذا برجل مع معاوية قاعدٍ على السرير كأنه مولًى، قال: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، قال: فمن تصدق به هدَم الله عنه مثلَه من ذنوبه فإذا هو عبد الله بن عمرو. وقال آخرون: عنى بذلك الجارحَ. وقالوا: معنى الآية: فمن تصدق بما وجب له من قَود أو قصاصٍ على من وجب ذلك له عليه، فعفا عنه، فعفوه ذلك عن الجاني كفّارة لذنب الجاني المجرم، كما القِصاص منه كفَّارة له. قالوا: فأما أجْر العافِي المتصدِّق، فعلى الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، قال: كفارة للجارح، وأجر الذي أُصِيب على الله. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس، عن أبي إسحاق، قال سمعت مجاهدًا يقول لأبي إسحاق: « فمن تصدّق به فهو كفارة له » ، يا أبا إسحاق، [ لمن ] ؟ قال أبو إسحاق: للمتصدق فقال مجاهد: للمذنب الجارح. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، قال مغيرة، قال مجاهد: للجارح. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، مثله. حدثنا هناد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، قالا للذي تُصُدِّق عليه، وأجرُ الذي أصيب على الله قال هناد في حديثه، قالا كفارة للذي تُصُدِّق به عليه. حدثنا هناد قال، حدثنا عبد بن حميد، عن منصور، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن زكريا، عن عامر قال: كفارة لمن تُصُدِّق به عليه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم قالا كفارة للجارح، وأجر الذي أصيب على الله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال: سمعت زيد بن أسلم يقول: إن عفا عنه، أو اقتص منه، أو قبل منه الدية، فهو كفّارة له. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: كفارة للجارح، وأجرٌ للعافي، لقوله: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [ سورة الشورى: 40 ] . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « فمن تصدّق به فهو كفارة له » ، قال: كفارة للمتصدَّقِ عليه. حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد قال، حدثنا حصين، عن ابن عباس: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، قال: هي كفارة للجارح. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، قال: فالكفارة للجارح، وأجر المتصدِّق على الله. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقول: « فمن تصدق به فهو كفارة له » ، يقول: للقاتل، وأجرٌ للعافي. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عمران بن ظبيان، عن عديّ بن ثابت قال، هُتِم رجل على عهد معاوية، فأعطي دية فلم يقبل، ثم أعطي ديتين فلم يقبل، ثم أعطي ثلاثًا فلم يقبل. فحدَّث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « فمن تصدّق بدمٍ فما دونه، كان كفّارة له من يوم تَصدَّق إلى يوم وُلد » . قال: فتصدَّق الرجل. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له » ، يقول: من جرح فتصدَّق بالذي جُرِح به على الجارح، فليس على الجارح سبيلٌ ولا قَوَدٌ ولا عَقْلٌ، ولا حَرَج عليه، من أجل أنه تصدق عليه الذي جُرِح، فكان كفارة له من ظلمه الذي ظَلَم. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: عني به: « فمن تصدّق به فهو كفارة له » ، المجروحَ فلأن تكون « الهاء » في قوله: « له » عائدةً على « مَنْ » ، أولى من أن تكون مِنْ ذِكْر من لم يجر له ذكر إلا بالمعنى دون التصريح، وأحرَى، إذ الصدقة هي المكفِّرة ذنبَ صاحبها دون المتصدَّق عليه في سائر الصدقات غير هذه، فالواجب أن يكون سبيلُ هذه سبيلَ غيرها من الصدَّقات. فإن ظنّ ظانّ أن القِصاصَ إذْ كان يكفّر ذنب صاحبه المقتصّ منه الذي أتاه في قتل من قتله ظلمًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ أخذ البيعة على أصحابه « أن لا تقتلوا ولا تزنُوا ولا تسرقوا » ثم قال: « فمن فَعَل من ذلك شيئًا فأقيم عليه حدُّه فهو كفارته » فالواجب أن يكونَ عفوُ العافي المجنيِّ عليه، أو ولي المقتول عنه نظيرَه، في أن ذلك له كفارة. فإن ذلك لو وجب أن يكون كذلك، لوجب أن يكون عفوُ المقذوفِ عن قاذفه بالزنا، وتركِه أخذه بالواجب له من الحدِّ، وقد قذفه قاذِفُه وهو عفيفٌ مسلم مُحْصَن، كفَّارةً للقاذف من ذنبه الذى ركبه، ومعصيته التي أتاها. وذلك ما لا نعلم قائلا من أهل العلم يقوله. فإذْ كان غير جائز أن يكون تركُ المقذوف الذي وصفنا أمره أخذَ قاذفه بالواجب له من الحدّ كفارةً للقاذف من ذنبه الذي ركبه، كان كذلك غير جائز أن يكون ترك المجروح أخذَ الجارح بحقِّه من القصاص، كفَّارةً للجارح من ذنبه الذي ركبه. فإن قال قائل: أو ليس للمجروح عندك أخْذُ جارحه بدية جرحه مكانَ القِصاص؟ قيل له: بلى! فإن قال: أفرأيت لو اختار الدّية ثم عفا عنها، أكانت له قِبَله في الآخرة تَبِعةٌ؟ قيل له: هذا كلام عندنا محالٌ. وذلك أنه لا يكون عندنا مختارًا لديةٍ إلا وهو لها آخذٌ. فأما العفو فإنما هو عفو عن الدم وقد دللنا على صحة ذلك في موضع غيرِ هذا، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع إلا أن يكون مرادًا بذلك هِبتُها لمن أخذت منه بعد الأخذ. مع أن عفوه عن الدية بعد اختياره إياها لو صَحَّ، لم يكن في صحة ذلك ما يوجب أن يكون المعفوُّ له عنها بريئًا من عقوبة ذنبه عند الله; لأن الله تعالى ذكره أوعد قاتلَ المؤمن بما أوعده به إن لم يتُبْ من ذنبه، والدية مأخوذة منه، أحبَّ أم سخط. والتوبة من التَائب إنما تكون توبةً إذا اختارها وأرادَها وآثرها على الإصرار. فإن ظنّ ظانّ أن ذلك وإن كان كذلك، فقد يجب أن يكون له كفارةً، كما كان القصاص له كفارة، فإنَّا إنما جعلنا القِصاص له كفارة مع ندمه وبَذْله نفسَه لأخذ الحق منها تنصُّلا من ذنبه، بخبر النبي صلى الله عليه وسلم. فأما الدية إذا اختارها المجروحُ ثم عفا عنها، فلم يُقْض عليه بحدّ ذنبه، فيكون ممن دخل في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: « فمن أقيم عليه الحد فهو كفارته » . ثم مما يؤكد صحة ما قلنا في ذلك، الأخبارُ التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: « فمن تصدّق بدمٍ » ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد ذكرناها قبل. وقد يجوز أن يكون القائلون إنه عنى بذلك الجارحَ، أرادوا المعنى الذي ذُكر عن عروة بن الزبير الذي:- حدثني به الحارث بن محمد قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: إذا أصاب رجل رجلا ولا يعلم المُصاب من أصابه، فاعترف له المصيب، فهو كفارة للمُصيب. قال: وكان مجاهد يقول عند هذا: أصاب عروة ابن الزبير عينَ إنسان عند الركن فيما يستلمون، فقال له: يا هذا، أنا عروة بن الزبير، فإن كان بعينك بأس فأنَا بها! وإذا كان الأمر من الجارح على نحو ما كان من عروة من خطأ فعلٍ على غير عمدٍ، ثم اعترف للذي أصابه بما أصابه، فعفا له المصاب بذلك عن حقِّه قبله، فلا تبعة له حينئذٍ قَبِل المُصيب في الدنيا ولا في الآخرة. لأن الذى كان وجب له قبله مالٌ لا قِصاص، وقد أبرأه منه: فإبراؤه منه، كفَّارة للمبرَّأ من حقه الذي كان له أخذه به، فلا طَلِبة له بسبب ذلك قِبَله في الدنيا ولا في الآخرة، ولا عقوبة تلزمه بها بما كان منه إلى من أصابه، لأنه لم يتعمد إصابته بما أصابه به، فيكون بفعله آثمًا يستحق به العقوبة من ربه، لأن الله عز وجل قد وضع الجُناح عن عباده فيما أخطأوا فيه ولم يتعمّدوه من أفعالهم، فقال في كتابه: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ . [ سورة الأحزاب: 5 ] و « التصدق » ، في هذا الموضع، بالدم، العفو عنه. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 45 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن لم يحكم بما أنـزل الله في التوارة من قَوَدِ النفس القاتلة قِصاصًا بالنفس المقتولة ظلمًا. ولم يفقأ عين الفاقئ بعين المفقوء ظلمًا، قِصاصًا ممن أمره الله به بذلك في كتابه، ولكن أقاد من بعضٍ ولم يُقِدْ من بعض، أو قتل في بعض اثنين بواحد، فإنّ من يفعل ذلك من « الظالمين » يعني: ممن جارَ عن حكم الله، ووضع فعله ما فعل من ذلك في غير موضعه الذي جعله الله له موضعًا. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ( 46 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وقفينا على آثارهم » ، أتبعنا. يقول: أتبعنا عيسى ابن مريم على آثار النبيين الذين أسلموا من قبلك، يا محمد، فبعثناه نبيًّا مصدّقا لكتابنا الذي أنـزلناه إلى موسى من قبله أنّه حق، وأن العمل بما لم ينسخه الإنجيل منه فرضٌ واجب « وآتيناه الإنجيل » ، يقول: وأنـزلنا إليه كتابنا الذي اسمه « الإنجيل » « فيه هدى ونور » يقول: في الإنجيل « هدًى » ، وهو بيان ما جهله الناس من حكم الله في زمانه « ونور » ، يقول: وضياء من عَمَى الجهالة « ومصدقًا لما بين يديه » ، يقول: أوحينا إليه ذلك وأنـزلناه إليه بتصديق ما كان قبله من كتب الله التي كان أنـزلها على كل أمة أُنـزل إلى نبيِّها كتاب للعمل بما أنـزل إلى نبيهم في ذلك الكتاب، من تحليل ما حلّل، وتحريم ما حرّم « وهدى وموعظة » ، يقول: أنـزلنا الإنحيل إلى عيسى مصدِّقا للكتب التي قبله، وبيانًا لحكم الله الذي ارتضاه لعباده المتَّقين في زمان عيسى، « وموعظة » ، لهم يقول: وزجرًا لهم عما يكرهه الله إلى ما يحبُّه من الأعمال، وتنبيهًا لهم عليه. و « المتقون » ، هم الذين خافوا الله وحَذِروا عقابه، فاتقوه بطاعته فيما أمرهم، وحذروه بترك ما نهاهم عن فعله. وقد مضى البيان عن ذلك بشواهده قبل، فأغنى ذلك عن إعادته. القول في تأويل قوله عزّ ذكره : وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 47 ) قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: « وليحكم أهل الإنجيل » . فقرأته قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: « وَلْيَحْكُمْ » بتسكين « اللام » ، على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل: أن يحكموا بما أنـزل الله فيه من أحكامه. وكأنّ من قرأ ذلك كذلك، أراد: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهْلَه أن يحكموا بما أنـزل الله فيه فيكون في الكلام محذوف، ترك استغناءً بما ذكر عما حُذِف. وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ ) بكسر « اللام » ، من « ليحكم » ، بمعنى: كي يحكم أهل الإنجيل. وكأنّ معنى من قرأ ذلك كذلك: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، كي يحكم أهله بما فيه من حكم الله. والذي نقول به في ذلك، أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيِّ ذلك قرأ قارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ. وذلك أن الله تعالى لم ينـزل كتابًا على نبيٍّ من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه، ولم ينـزله عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه، فللعمل بما فيه أنـزله، وأمر‌ًا بالعمل بما فيه أنـزله. فكذلك الإنجيل، إذ كان من كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه، فللعمل بما فيه أنـزله على عيسى، وأمرًا بالعمل به أهلَه أنـزله عليه. فسواءٌ قرئ على وجه الأمر بتسكين « اللام » ، أو قرئ على وجه الخبر بكسرها، لاتفاق معنييهما. وأما ما ذكر عن أبيّ بن كعب من قراءته ذلك ( وأن ليحكم ) على وجه الأمر، فذلك مما لم يَصِحّ به النقل عنه. ولو صحّ أيضا، لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورةً، إذ كان معناها صحيحًا، وكان المتقدّمون من أئمة القرأة قد قرءوا بها. وإذ كان الأمر في ذلك على ما بيَّنَّا، فتأويل الكلام، إذا قرئ بكسر « اللام » من « ليحكم » : وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدًى ونورٌ ومصدقًا لما بين يديه من التوراة وهدًى وموعظة للمتقين، وكيْ يحكم أهلُ الإنجيل بما أنـزلنا فيه، فبدّلوا حكمه وخالفوه، فضلُّوا بخلافهم إياه إذ لم يحكموا بما أنـزل الله فيه وخالفوه « فأولئك هم الفاسقون » ، يعني: الخارجين عن أمر الله فيه، المخالفين له فيما أمرهم ونهاهم في كتابه. فأما إذا قرئ بتسكين « اللام » ، فتأويله: وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل، فيه هدى ونورٌ ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهله أن يحكُموا بما أنـزلنا فيه، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه، ولكنهم خالفوا أمرنا، فالذين خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه، هم الفاسقون. وكان ابن زيد يقول: « الفاسقون » ، في هذا الموضع وفي غيره، هم الكاذبون. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وليحكم أهل الإنجيل بما أنـزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنـزل الله فأولئك هم الفاسقون » ، قال: ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضًا بذلك « فأولئك هم الفاسقون » ، قال: الكاذبون. بهذا قال. وقال ابن زيد: كل شيء في القرآن إلا قليلا « فاسق » فهو كاذب. وقرأ قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ [ سورة الحجرات: 6 ] قال: « الفاسق » ، ههنا، كاذب. وقد بينا معنى « الفسق » بشواهده فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره: أنـزلنا إليك، يا محمد، « الكتاب » ، وهو القرآن الذى أنـزله عليه ويعني بقوله: « بالحق » ، بالصدق ولا كذب فيه، ولا شك أنه من عند الله « مصدقًا لما بين يديه من الكتاب » ، يقول: أنـزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التى أنـزلها إلى أنبيائه « ومهيمنًا عليه » ، يقول: أنـزلنا الكتاب الذي أنـزلناه إليك، يا محمد، مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظا لها. وأصل « الهيمنة » ، الحفظ والارتقاب. يقال، إذا رَقَب الرجل الشيء وحفظه وشَهِده: « قد هيمن فلان عليه، فهو يُهَيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، إلا أنهم اختلفت عباراتهم عنه. فقال بعضهم: معناه: شهيدًا. ذكر من قال ذلك: 12103م - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « ومهيمنًا عليه » ، يقول: شهيدًا. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ومهيمنًا عليه » ، قال: شهيدًا عليه. حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب » ، يقول: الكتب التي خلت قبله « ومهيمنًا عليه » ، أمينًا وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: « ومهيمنًا عليه » ، مؤتمنًا على القرآن، وشاهدًا ومصدِّقًا وقال ابن جريج: وقال: آخرون القرآن أمين على الكتب فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمرٍ، إن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا. وقال بعضهم: معناه: أمينٌ عليه. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن وحدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع جميعًا، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: « ومهيمنًا عليه » ، قال: مؤتمنًا عليه. حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله: « ومهيمنًا عليه » ، قال: مؤتمنًا عليه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، بإسناده، عن ابن عباس، مثله. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله. حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « ومهيمنًا عليه » ، قال: والمهيمن الأمين: قال: القرآن أمين على كلِّ كتاب قبله. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب » ، وهو القرآن، شاهد على التوراة والإنجيل، مصدقًا لهما « ومهيمنًا عليه » ، يعني: أمينًا عليه، يحكم على ما كان قبله من الكتب. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: « ومهيمنًا عليه » ، قال: مؤتمنًا عليه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس: « ومهيمنًا عليه » ، قال: مؤتمنًا عليه. حدثني المثنى قال، حدثنا يحيى الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان وإسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير: « ومهيمنًا عليه » قال: مؤتمنًا على ما قبله من الكتب. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سألت الحسين عن قوله: « وأنـزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه » ، قال: مصدقًا لهذه الكتب، وأمينا عليها. وسئل عنها عكرمة وأنا أسمع فقال: مؤتمنًا عليه. وقال آخرون: معنى « المهيمن » ، المصدق. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ومهيمنًا عليه » ، قال: مصدِّقًا عليه. كل شيء أنـزله الله من توراة أو إنجيل أو زَبُورٍ، فالقرآن مصدِّق على ذلك. وكل شيء ذكر الله في القرآن، فهو مصدِّقٌ عليها وعلى ما حُدِّث عنها أنه حق. وقال آخرون: عنى بقوله: « مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه » ، نبي الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ومهيمنًا عليه » ، محمد صلى الله عليه وسلم، مؤتمنٌ على القرآن. حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ومهيمنًا عليه » ، قال: محمد صلى الله عليه وسلم، مؤتمنٌ على القرآن. قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوّله مجاهد: وأنـزلنا الكتاب مصدقًا الكتبَ قبله إليك، مهيمنا عليه فيكون قوله: « مصدقًا » حالا من « الكتاب » وبعضًا منه، ويكون « التصديق » من صفة « الكتاب » ، و « المهيمن » حالا من « الكاف » التي في « إليك » ، وهي كناية عن ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم، و « الهاء » في قوله: « عليه » ، عائدة على الكتاب. وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ. وذلك أنّ « المهيمن » عطفٌ على « المصدق » ، فلا يكون إلا من صفة ما كان « المصدِّق » صفةً له. ولو كان معنى الكلام ما روي عن مجاهد، لقيل: « وأنـزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب مهيمنًا عليه » لأنه لم يتقدم من صفة « الكاف » التي في « إليك » بعدَها شيءٌ يكون « مهيمنًا عليه » عطفًا عليه، وإنما عطف به على « المصدق » ، لأنه من صفة « الكتاب » الذي من صفته « المصدق » . فإن ظن ظان أن « المصدق » على قول مجاهد وتأويلهِ هذا من صفة « الكاف » التي في « إليك » ، فإن قوله: « لما بين يديه من الكتاب » ، يبطل أن يكون تأويل ذلك كذلك، وأن يكون « المصدق » من صفة « الكاف » التي في « إليك » . لأن « الهاء » في قوله: « بين يديه » ، كناية اسم غير المخاطب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم في قوله « إليك » . ولو كان « المصدق » من صفة « الكاف » ، لكان الكلام: وأنـزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديك من الكتاب، ومهيمنا عليه فيكون معنى الكلام حينئذٍ كذلك. القول في تأويل قوله عز ذكره : فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهلِ الملل بكتابه الذي أنـزله إليه، وهو القرآن الذي خصّه بشريعته. يقول تعالى ذكره: احكم، يا محمد، بين أهل الكتاب والمشركين بما أُنـزل إليك من كتابي وأحكامي في كل ما احتمكوا فيه إليك، من الحدود والجُرُوح والقَوَد والنفوس، فارجم الزاني المحصَن، واقتل النفسَ القاتلةَ بالنفس المقتولة ظلمًا، وافقأ العين بالعين، واجدع الأنف بالأنف، فإني أنـزلت إليك القرآن مصدِّقًا في ذلك ما بين يديه من الكتب، ومهيمنًا عليه رقيبًا، يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبلَه، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود الذين يقولون: إن أوتيتم الجلدَ في الزاني المحصن دون الرجم، وقتلَ الوضيع بالشريف إذا قتله، وتركَ قتل الشريف بالوضيع إذا قتله، فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا عن الذي جاءك من عند الله من الحق، وهو كتاب الله الذي أنـزله إليك. يقول له: اعمل بكتابي الذي أنـزلته إليك إذا احتكموا إليك فاخترتَ الحكم عليهم، ولا تتركنَّ العمل بذلك اتباعًا منك أهواءَهم، وإيثارًا لها على الحق الذي أنـزلته إليك في كتابي، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « فاحكم بينهم بما أنـزل الله » ، يقول: بحدود الله « ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق » . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن عامر، عن مسروق: أنه كان يحلف اليهوديَّ والنصراني بالله، ثم قرأ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ [ سورة المائدة: 49 ] ، وأنـزل الله: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [ سورة الأنعام: 151 ] . القول في تأويل قوله عز ذكره : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لكل قوم منكم جعلنا شرعةً. و « الشرعة » هي « الشريعة » بعينها، تجمع « الشرعة » « شِرَعًا » ، « والشريعة » « شرائع » . ولو جمعت « الشرعة » « شرائع » ، كان صوابًا، لأن معناها ومعنى « الشريعة » واحد، فيردّها عند الجمع إلى لفظ نظيرها. وكل ما شرعت فيه من شيء فهو « شريعة » . ومن ذلك قيل: لشريعة الماء « شريعة » ، لأنه يُشْرع منها إلى الماء. ومنه سميت شرائع الإسلام « شرائع » ، لشروع أهله فيه. ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء: « هم شَرَعٌ » ، سواءٌ. وأما « المنهاج » ، فإنّ أصله: الطريقُ البيِّن الواضح، يقال منه: « هو طريق نَهْجٌ، وَمنهْجٌ » ، بيِّنٌ، كما قال الراجز: مَــنْ يـكُ فِـي شَـكٍّ فَهـذَا فَلْـجُ مَـــاءٌ رَوَاءٌ وَطَـــرِيقٌ نَهْــجُ ثم يستعمل في كل شيء كان بينًا واضحًا سهلا. فمعنى الكلام: لكل قوم منكم جعلنا طريقًا إلى الحق يؤمُّه، وسبيلا واضحًا يعمل به. ثم اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: « لكل جعلنا منكم » . فقال بعضهم: عنى بذلك أهلَ الملل المختلفة، أي: أن الله جعل لكل مِلّةٍ شريعة ومنهاجًا. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا » يقول: سبيلا وسُنّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا » ، قال: الدينُ واحد، والشريعةُ مختلفة. حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي قال: الإيمان منذُ بَعث الله تعالى ذكره آدم صلى الله عليه وسلم: شهادةُ أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، لكلّ قوم ما جاءَهم من شرعة أو منهاج، فلا يكون المقرُّ تاركًا، ولكنه مُطِيع. وقال آخرون: بل عنى بذلك أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم. وقالوا: إنما معنى الكلام: قد جعلنا الكتاب الذي أنـزلناه إلى نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أيها الناس، لكُلِّكم أي لكل من دخل في الإسلام وأقرّ بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه لي نبيٌّ شرعةً ومنهاجا. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا » قال: سنة، « ومنهاجًا » ، السبيل « لكلكم » ، من دخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجًا. يقول: القرآن، هو له شرعة ومنهاج. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: لكل أهل ملة منكم، أيها الأمم جعلنا شِرعةً ومنهاجًا. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولو كان عنى بقوله: « لكل جعلنا منكم » ، أمة محمد، وهم أمّة واحدةٌ، لم يكن لقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ، وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة معنىً مفهوم. ولكن معنى ذلك، على ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة، وتقدم إليهم بالعمل بما فيها، ثم ذكر أنه قفَّي بعيسى ابن مريم على آثار الأنبياء قبله، وأنـزل عليه الإنجيل، وأمر من بَعثه إليه بالعمل بما فيه. ثم ذكر نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وأخبره أنه أنـزل إليه الكتابَ مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أنـزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعةً غيرَ شرائع الأنبياء والأمم قبلَه الذين قصَّ عليهم قصصَهم، وإن كان دينه ودينهم- في توحيد الله، والإقرار بما جاءهم به من عنده، والانتهاء إلى أمره ونهيه- واحدًا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكم واحد منهم ولأمته فيما أحلّ لهم وحرَّم عليهم. وبنحو الذي قلنا في « الشرعة » و « المنهاج » من التأويل، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا » قال: سنةً وسبيلا. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا » ، قال: سنة وسبيلا. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان وإسرائيل وأبيه، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثَّاب قال: سألت ابن عباس عن قوله: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا » ، قال: سنة وسبيلا. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: « شرعة ومنهاجًا » ، قال: سنة وسبيلا. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس، بمثله. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا » يعني: سبيلا وسنةً. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين قال: سمعت الحسن يقول: « الشرعة » ، السنة. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد قال: سنة وسبيلا. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « شرعة ومنهاجًا » ، قال: « الشرعة » ، السنة « ومنهاجًا » ، قال: السبيل. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا » ، يقول: سبيلا وسنة. حدثني المثنى قال، حدثنا الحوضي قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت رجلا من بني تميم، عن ابن عباس، بنحوه. حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « شرعة ومنهاجًا » ، يقول: سبيلا وسنة. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: السنَّة والسبيل. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا » ، يقول: سبيلا وسنة. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « شرعة ومنهاجًا » ، قال: سبيلا وسنةً. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربُّكم لجعل شرائعكم واحدة، ولم يجعل لكل أمة شريعةً ومنهاجًا غيرَ شرائع الأمم الأخر ومنهاجهم، فكنتم تكونون أمة واحدةً لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم، ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك، فخالف بين شرائعكم ليختبركم، فيعرف المطيع منكم من العاصي، والعاملَ بما أمره في الكتاب الذي أنـزله إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم من المخالف. و « الابتلاء » : هو الاختيار، وقد أبنتُ ذلك بشواهده فيما مضى قبلُ. وقوله: « في ما آتاكم » ، يعني: فيما أنـزل عليكم من الكتب، كما:- حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين، قال، ثني حجاح، عن ابن جريج: ( ولكن ليبلوكم في ما آتاكم ) قال عبد الله بن كثير: لا أعلمه إلا قال، ليبلوكم فيما آتاكم من الكتب. فإن قال قائل: وكيف قال: « ليبلوكم في ما آتاكم » ، ومن المخاطب بذلك؟ وقد ذكرت أنّ المعنيَّ بقوله: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا نبيُّنا مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممِهم، والذين قبل نبيّنا صلى الله عليه وسلم على حِدَةٍ؟ قيل: إن الخطاب وإن كان لنبينا صلى الله عليه وسلم: فإنه قد أريد به الخبر عن الأنبياء قبله وأممهم. ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانًا وضمَّت إليه غائبًا، فأرادت الخبر عنه، أن تغلِّب المخاطب، فيخرج الخبرُ عنهما على وجه الخطاب، فلذلك قال تعالى ذكره: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا . القول في تأويل قوله عز ذكره : فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 48 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبادروا أيها الناس، إلى الصالحات من الأعمال، والقُرَب إلى ربكم، بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنـزله إلى نبيكم، فإنه إنما أنـزله امتحانًا لكم وابتلاءً، ليتبين المحسن منكم من المسيء، فيجازي جميعكم على عمله جزاءَه عند مصيركم إليه، فإن إليه مصيركم جميعًا، فيخبر كلَّ فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرقَ الأخرى، فيفْصَل بينهم بفصل القضاء، وتُبِينُ المحقَّ مجازاته إياه بجناته، من المسيء بعقابه إياه بالنار، فيتبين حينئذ كل حزب عيانًا، المحقَّ منهم من المبطل. فإن قال قائل: أو لم ينبئنا ربُّنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون؟ قيل: إنه بيَّن ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج، دون الثواب والعقاب عيانًا، فمصدق بذلك ومكذِّب. وأما عند المرجع إليه، فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا يشكُّون معها في معرفة المحق والمبطل، ولا يقدرون على إدخال اللبس معها على أنفسهم. فكذلك خبرُه تعالى ذكره أنه ينبئنا عند المرجع إليه بما كنَّا فيه نختلف في الدنيا. وإنما معنى ذلك: إلى الله مرجعكم جميعًا، فتعرفون المحقَّ حينئذ من المبطل منكم، كما:- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن أبي سنان قال: سمعت الضحاك يقول: « فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا » ، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، البرُّ والفاجر. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ( 49 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وأن احكم بينهم بما أنـزل الله » ، وأنـزلنا إليك، يا محمد، الكتابَ مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، وأنِ احكم بينهم فـ « أن » في موضع نصب بـ « التنـزيل » . ويعني بقوله: « بما أنـزل الله » ، بحكم الله الذي أنـزله إليك في كتابه. وأما قوله: « ولا تتبع أهواءهم » ، فإنه نهيٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يتّبع أهواء اليهود الذين احتكموا إليه في قتيلهم وفاجِرَيْهم، وأمرٌ منه له بلزوم العمل بكتابه الذي أنـزله إليه. وقوله: « واحذرهم أن يفتِنُوك عن بعض ما أنـزل الله إليك » ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: واحذر، يا محمد، هؤلاء اليهود الذين جاءوك محتكمين إليك « أن يفتنوك » ، فيصدُّوك عن بعض ما أنـزل الله إليك من حكم كتابه، فيحملوك على ترك العمل به واتّباع أهوائهم. وقوله: « فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم » ، يقول تعالى ذكره: فإن تولى هؤلاء اليهود الذين اختصموا إليك عنك، فتركوا العمل بما حكمت به عليهم وقضيت فيهم « فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم » ، يقول: فاعلم أنهم لم يتولوا عن الرضى بحكمك وقد قضيت بالحقّ، إلا من أجل أن الله يريد أن يتعجّل عقوبتهم في عاجل الدنيا ببعض ما قد سلف من ذنوبهم « وإن كثيرًا من الناس لفاسقون » ، يقول: وإن كثيرًا من اليهود « لفاسقون » ، يقول: لتاركُو العمل بكتاب الله، ولخارجون عن طاعته إلى معصيته. وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الروايةُ عن أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صوريا وشأس بن قيس، بعضُهم لبعضٍ: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلّنا نفتنه عن دينه! فأتوه فقالوا: يا محمد، إنك قد عرفت أنَّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنَّا إن اتّبعناك اتّبعنا يهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قومِنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك! فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله فيهم: « وأنِ احكم بينهم بما أنـزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتِنُوك عن بعض ما أنـزل الله إليك » ، إلى قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنـزل الله إليك » ، قال: أن يقولوا: « في التوراة كذا » ، وقد بينَّا لك ما في التوراة. وقرأ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ سورة المائدة: 45 ] ، بعضُها ببعضٍ. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: دخل المجوسُ مع أهل الكتاب في هذه الآية: « وأن احكم بينهم بما أنـزل الله » . القول في تأويل قوله عز ذكره : أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 50 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيبغي هؤلاء اليهود الذين احتكموا إليك، فلم يرضوا بحكمك، إذ حكمت فيهم بالقسط « حكم الجاهلية » ، يعني: أحكام عبَدة الأوثان من أهل الشرك، وعندهم كتاب الله فيه بيان حقيقة الحكم الذي حكمت به فيهم، وأنه الحق الذي لا يجوزُ خلافه. ثم قال تعالى ذكره موبِّخا لهؤلاء الذين أبوا قَبُول حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ولهم من اليهود، ومستجهلا فعلَهم ذلك منهم: ومَنْ هذا الذي هو أحسن حكمًا، أيها اليهود، من الله تعالى ذكره عند من كان يوقن بوحدانية الله، ويقرُّ بربوبيته؟ يقول تعالى ذكره: أيّ حكم أحسن من حكم الله، إن كنتم موقنين أن لكم ربًّا، وكنتم أهل توحيدٍ وإقرار به؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال مجاهد. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « أفحكم الجاهلية يبغون » ، قال: يهود. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « أفحكم الجاهلية يبغون » ، يهود. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ، عن مجاهد: « أفحكم الجاهلية يبغون » ، قال: يهود. القول في تأويل قوله عز ذكره : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بهذه الآية، وإن كان مأمورًا بذلك جميع المؤمنين. فقال بعضهم: عنى بذلك عبادة بن الصامت، وعبد الله بن أبي ابن سلول، في براءة عُبَادة من حلف اليهود، وفي تمسك عبد الله بن أبي ابن سلول بحلف اليهود، بعد ما ظهرت عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأخبره الله أنه إذا تولاهم وتمسَّك بحلفهم: أنه منهم في براءته من الله ورسوله كَبرَاءتهم منهما. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من يهود كثيرٌ عدَدُهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من وَلاية يهود، وأتولَّى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: إنّي رجل أخاف الدَّوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله ابن أبيّ: يا أبا الحباب، ما بخلتَ به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه؟ قال: قد قبلتُ. فأنـزل الله: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضُهم أولياء بعض » إلى قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ . حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني عثمان بن عبد الرحمن، عن الزهري قال: لما انهزم أهلُ بدر، قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوٍم مثل يوم بدر! فقال مالك بن صيف: غرَّكم أن أصبتم رهطًا من قريش لا علم لهم بالقتال!! أما لو أمْرَرْنَا العزيمة أن نستجمع عليكم، لم يكن لكم يدٌ أن تقاتلونا‍‍! فقال عبادة: يا رسول الله، إن أوليائي من اليهود كانت شديدةً أنفسهم، كثيًرا سلاحهم، شديدةً شَوْكتُهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من وَلايتهم، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبيّ: لكني لا أبرأ من ولاء يهود، إنّي رجل لا بدَّ لي منهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:يا أبا حُباب، أرأيت الذي نَفِست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك دونه؟ قال: إذًا أقبلُ! فأنـزل الله تعالى ذكره: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعض أولياء بعض » إلى أن بلغ إلى قوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ . حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبَّث بأمرهم عبد الله بن أبيّ وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج، له من حلفهم مثلُ الذي لهم من عبد الله بن أبيّ فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أتبرَّأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكُفّار وَولايتهم! ففيه وفي عبد الله بن أبيّ نـزلت الآيات في « المائدة » : « يا أيها الذين آمنوا لا تتْخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعضٍ » ، الآية. وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من المؤمنين كانوا هَمُّوا حين نالهم بأحُدٍ من أعدائهم من المشركين ما نالهم أن يأخذوا من اليهود عِصَمًا، فنهاهم الله عن ذلك، وأعلمهم أنّ من فعل ذلك منهم فهو منهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم » ، قال: لما كانت وقعة أحُدٍ، اشتدّ على طائفة من الناس، وتخوَّفوا أن يُدَال عليهم الكفَّار، فقال رجل لصاحبه: أمَّا أنا فألحق بدهلك اليهوديّ، فآخذ منه أمانًا وأتهَوّد معه، فإني أخاف أن تُدال علينا اليهود‍‍. وقال الآخر: أمَّا أنا فألحق بفلانٍ النصراني ببعض أرض الشأم، فآخذ منه أمانًا وأتنصَّر معه،‍ فأنـزل الله تعالى ذكره ينهاهما: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارَى أولياءَ بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين » . وقال آخرون: بل عُني بذلك أبو لبابة بن عبد المنذر، في إعلامه بني قريظة إذ رَضُوا بحكم سعدٍ: أنه الذَّبح. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم » ، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لُبابة بن عبد المنذر، من الأوس وهو من بني عمرو بن عوف فبعثه إلى قريظة حين نَقَضت العهد، فلما أطاعوا له بالنـزول، أشار إلى حلقه: الذَّبْحَ الذَّبْحَ. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهَىَ المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرَهم، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نـزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود ويجوز أن تكون نـزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة ويجوز أن تكون نـزلت في شأن الرَّجلين اللذين ذكر السدي أن أحدَهما همَّ باللحاق بدهلك اليهودي، والآخر بنصرانيّ بالشأم ولم يصحّ بواحدٍ من هذه الأقوال الثلاثة خبرٌ تثبت بمثله حجة، فيسلّم لصحته القولُ بأنه كما قيل. فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب أن يحكم لظاهر التنـزيل بالعموم على ما عمَّ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه. غير أنه لا شك أن الآية نـزلت في منافق كان يوالي يهودًا أو نصارى خوفًا على نفسه من دوائر الدهر، لأن الآية التي بعد هذه تدلّ على ذلك، وذلك قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ الآية. وأما قوله: « بعضهم أولياء بعض » ، فإنه عنى بذلك: أن بعض اليهود أنصار بعضهم على المؤمنين، ويد واحدة على جميعهم وأن النصارى كذلك، بعضهم أنصار بعض على من خالف دينهم وملتهم معرِّفًا بذلك عباده المؤمنين: أنّ من كان لهم أو لبعضهم وليًّا، فإنما هو وليهُّم على من خالف ملتهم ودينهم من المؤمنين، كما اليهود والنصارى لهم حَرْب. فقال تعالى ذكره للمؤمنين: فكونوا أنتم أيضًا بعضكم أولياء بعض، ولليهوديّ والنصراني حربًا كما هم لكم حرب، وبعضهم لبعض أولياء، لأن من والاهم فقد أظهر لأهل الإيمان الحربَ، ومنهم البراءة، وأبان قطع وَلايتهم. القول في تأويل قوله عز ذكره : وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ومن يتولهم منكم فإنه منهم » ، ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنه منهم. يقول: فإن من تولاهم ونصرَهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولً أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ. وإذا رضيه ورضي دينَه، فقد عادى ما خالفه وسَخِطه، وصار حكُمه حُكمَه، ولذلك حَكَم مَنْ حكم من أهل العلم لنصارى بني تغلب في ذبائحهم ونكاح نسائهم وغير ذلك من أمورهم، بأحكام نصَارَى بني إسرائيل، لموالاتهم إياهم، ورضاهم بملتهم، ونصرتهم لهم عليها، وإن كانت أنسابهم لأنسابهم مخالفة، وأصل دينهم لأصل دينهم مفارقًا. وفي ذلك الدلالةُ الواضحة على صحة ما نقول، من أن كل من كان يدين بدينٍ فله حكم أهل ذلك الدين، كانت دينونته به قبل مجيء الإسلام أو بعده. إلا أن يكون مسلمًا من أهل ديننا انتقل إلى ملّة غيرِها، فإنه لا يُقَرُّ على ما دان به فانتقل إليه، ولكن يقتل لردَّته عن الإسلام ومفارقته دين الحق، إلا أن يرجع قبل القَتْل إلى الدين الحق وفسادِ ما خالفه من قول من زعم: أنه لا يحكم بحكم أهل الكتابين لمن دان بدينهم، إلا أن يكون إسرائيليًّا أو منتقلا إلى دينهم من غيرهم قبل نـزول الفرقان. فأما من دان بدينهم بعد نـزول الفُرْقان، ممن لم يكن منهم، ممن خالف نسبُه نسبهم وجنسه جنسهم، فإنه حكمه لحكمهم مخالفٌ. ذكر من قال بما قلنا من التأويل. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسي، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب، فقرأ: « ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم » . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم » ، أنها في الذبائح. من دخل في دين قوم فهو منهم. حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوّجوا من نسائهم، فإن الله بقول في كتابه: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم » ، ولو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام قال: كان الحسن لا يرى بذبائح نصارى العرب ولا نكاح نسائهم بأسًا، وكان يتلو هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهودَ والنصارَى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهَّم منكم فإنه منهم » . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هارون بن إبراهيم قال: سئل ابن سيرين عن رجل يبيع دارَه من نصارَى يتخذونها بِيعَةً، قال: فتلا هذه الآية: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ . القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 51 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله لا يوفِّق من وضع الولاية في غير موضعها، فوالى اليهود والنصارى مع عداوتهم الله ورسوله والمؤمنين على المؤمنين، وكان لهم ظهيًرا ونصيرًا، لأن من تولاهم فهو لله ولرسوله وللمؤمنين حَرْبٌ. وقد بينا معنى « الظلم » في غير هذا الموضع، وأنه وضع الشيء في غير موضعه، بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية. فقال بعضهم: عنى بها عبد الله بن أبي ابن سلول. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد: « فترى الذين في قلوبهم مرض » ، عبد الله بن أبي « يسارعون فيهم » ، في ولايتهم « يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة » ، إلى آخر الآية: فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ . حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت: « فترى الذين في قلوبهم مرض » ، يعني عبد الله بن أبي « يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة » ، لقوله: إني أخشى دائرةً تُصِيبني! وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ من المنافقين كانوا يُناصِحون اليهود ويغشون المؤمنين، ويقولون: « نخشى أن تكون الدائرة لليهود على المؤمنين » ! ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم » ، قال: المنافقون، في مصانعة يهود، ومناجاتهم، واسترضاعهم أولادَهم إياهم وقول الله تعالى ذكره: « نخشى أن تصيبنا دائرة » ، قال يقول: نخشى أن تكون الدَّائرة لليهود. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « فترى الذين في قلوبهم مرض » إلى قوله: نَادِمِينَ ، أُناسٌ من المنافقين كانوا يوادُّون اليهود ويناصحونهم دون المؤمنين. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فترى الذين في قلوبهم مرض » ، قال: شك « يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة » ، و « الدائرة » ، ظهور المشركين عليهم. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن ذلك من الله خبر عن ناس من المنافقين كانوا يوالون اليهودَ والنصارى ويغشُّون المؤمنين، ويقولون: نخشى أن تدور دوائر إما لليهود والنصارى، وإما لأهل الشرك من عبدة الأوثان، أو غيرهم على أهل الإسلام، أو تنـزل بهؤلاء المنافقين نازلةٌ، فيكون بنا إليهم حاجة. وقد يجوز أن يكون ذلك كان من قول عبد الله بن أبي، ويجوز أن يكون كان من قول غيره، غير أنه لا شك أنه من قول المنافقين. فتأويل الكلام إذًا: فترى، يا محمد، الذين في قلوبهم شكٌّ، ومرضُ إيمانٍ بنبوّتك وتصديق ما جئتهم به من عند ربك « يسارعون فيهم » ، يعني في اليهود والنصارى ويعني بمسارعتهم فيهم: مسارعتهم في مُوالاتهم ومصانعتهم « يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة » ، يقول هؤلاء المنافقون: إنما نسارع في موالاة هؤلاء اليهود والنصارى، خوفًا من دائرة تدور علينا من عدوّنا. ويعني بـ « الدائرة » ، الدولة، كما قال الراجز: تَــرُدُّ عَنْــكَ القَــدَرَ المَقْــدُورَا وَدَائِـــرَاتِ الدَّهْـــرِ أَنْ تَــدُورَا يعني: أن تدول للدهر دولة، فنحتاج إلى نصرتهم إيانا، فنحن نواليهم لذلك. فقال الله تعالى ذكره لهم: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ . القول في تأويل قوله : فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ( 52 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده » ، فلعل الله أن يأتي بالفتح. ثم اختلفوا في تأويل « الفتح » في هذا الموضع. فقال بعضهم: عُنى به ههنا، القضاء. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « فعسى الله أن يأتي بالفتح » ، قال: بالقضاء. وقال آخرون: عني به فتح مكة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « فعسى الله أن يأتي بالفتح » ، قال: فتح مكة. و « الفتح » في، كلام العرب، هو القضاء، كما قال قتادة، ومنه قول الله تعالى ذكره: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [ سورة الأعراف: 89 ] . وقد يجوز أن يكون ذلك القضاء الذي وعدَ الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: « فعسى الله أن يأتي بالفتح » فتح، مكة، لأن ذلك كان من عظيم قضاءِ الله، وفَصْل حُكمه بين أهل الإيمان والكفر، ومقرِّرًا عند أهل الكفر والنفاق، أن الله معلي كلمته وموهن كيد الكافرين. وأما قوله: « أو أمر من عنده » ، فإن السدي كان يقول في ذلك، ما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « أو أمر من عنده » قال: « الأمر » ، الجزية. وقد يحتمل أن يكون « الأمر » الذي وعد الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يأتي به هو الجزية، ويحتمل أن يكون غيرها. غير أنه أيّ ذلك كان، فهو مما فيه إدالة المؤمنين على أهل الكفر بالله وبرسوله، ومما يسوء المنافقين ولا يسرُّهم. وذلك أن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنّ ذلك الأمر إذا جاء، أصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين. وأما قوله: « فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين » ، فإنه يعني هؤلاء المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود والنصارى. يقول تعالى ذكره: لعل الله أن يأتي بأمرٍ من عنده يُديل به المؤمنين على الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الكفر، فيصبح هؤلاء المنافقون على ما أسرُّوا في أنفسهم من مخالّة اليهود والنصارى ومودّتهم، وبغْضَة المؤمنين ومُحَادّتهم، « نادمين » ، كما:- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين » ، من موادّتهم اليهود، ومن غِشِّهم للإسلام وأهله. القول في تأويل قوله : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ( 53 ) قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: « ويقول الذين آمنوا » . فقرأتها قرأة أهل المدينة: فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله ) بغير « واو » . وتأويل الكلام على هذه القراءة: فيصبح المنافقون، إذا أتى الله بالفتح أو أمرٍ من عنده، على ما أسروا في أنفسهم نادمين، يقول المؤمنون تعجُّبًا منهم ومن نفاقهم وكذبهم واجترائهم على الله في أيمانهم الكاذبة بالله: أهؤلاء الذين أقسمُوا لنا بالله إنهم لمعنا، وهم كاذبون في أيمانهم لنا؟ وهذا المعنى قصَد مجاهد في تأويله ذلك، الذي:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ ، حينئذ، « يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد إيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين » . وكذلك ذلك في مصاحف أهل المدينة بغير « واو » . وقرأ ذلك بعض البصريين: ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ) بالواو، ونصب « يقول » عطفًا به على فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ . وذكر قارئ ذلك أنه كان يقول: إنما أريد بذلك: فعسى الله أن يأتي بالفتح، وعسى أن يقولَ الذين آمنوا ومحالٌ غير ذلك، لأنه لا يجوز أن يقال: « وعسى الله أن يقول الذين آمنوا » ، وكان يقول: ذلك نحو قولهم: « أكلت خبزًا ولبنًا » ، كقول الشاعر: وَرَأَيْــتِ زَوْجَــكِ فِــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا فتأويل الكلام على هذه القراءة: فعسى الله أن يأتي بالفتح المؤمنين، أو أمر من عنده يُديلهم به على أهل الكفر من أعدائهم، فيصبح المنافقون على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين وعسى أن يقول الذين آمنوا حينئذ: أهؤلاء الذين أقسموا بالله كذبًا جهدَ أيمانهم إنهم لمعكم؟ وهي في مصاحف أهل العراق بالواو: ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ) وقرأ ذلك قرأة الكوفيين ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ) بالواو، ورفع « يقول » ، بالاستقبال والسلامة من الجوازم و النواصب. وتأويل من قرأ ذلك كذلك: فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم يندمون، ويقول الذين آمنوا فيبتدئ « يقول » فيرفعها. قال أبو جعفر: وقراءتنا التي نحن عليها « وَيَقُولُ » بإثبات « الواو » في « ويقول » ، لأنها كذلك هي في مصاحِفِنا مصاحف أهل المشرق، بالواو، وبرفع « يقول » على الابتداء. فتأويل الكلام إذْ كانت القراءة عندنا على ما وصفنا : فيصبحوا على ما أسرُّوا في أنفسهم نادمين، ويقولُ المؤمنون: أهؤلاء الذين حَلَفوا لنا بالله جهد أيمانهم كَذِبًا إنهم لمعنا؟ يقول لله تعالى ذكره، مخبرًا عن حالهم عنده بنفاقهم وخبث أعمالهم « حبطت أعمالهم » ، يقول: ذهبت أعمالهم التي عملوها في الدنيا باطلا لا ثواب لها ولا أجر، لأنهم عملوها على غير يقين منهم بأنها عليهم لله فرضٌ واجب، ولا على صِحّة إيمان بالله ورسوله، وإنما كانوا يعملونها ليدفعوا المؤمنين بها عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم، فأحبط الله أجرَها، إذ لم تكن له « فأصبحوا خاسرين » ، يقول: فأصبح هؤلاء المنافقون، عند مجيء أمر الله بإدالة المؤمنين على أهل الكفر، قد وُكِسوا في شرائهم الدنيا بالآخرة، وخابت صفقتهم، وهَلَكوا. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله: « يا أيها الذين آمنوا » ، أي: صدّقوا لله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيُّهم محمد صلى الله عليه وسلم « من يرتد منكم عن دينه » ، يقول: من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه اليوم، فيبدِّله ويغيره بدخوله في الكفر، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر، فلن يضر الله شيئا، وسيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، يقول: فسوف يجيء الله بدلا منهم، المؤمنين الذين لم يبدِّلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا، بقومٍ خير من الذين ارتدُّوا وابدَّلوا دينهم، يحبهم الله ويحبون الله. وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتدُّ بعد وفاةِ نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك وعدُه من وعدَ من المؤمنين ما وعدَه في هذه الآية، لمن سبق له في علمه أنه لا يبدّل ولا يغير دينه، ولا يرتدّ. فلما قَبَض الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ارتدّ أقوام من أهل الوبَرِ، وبعضُ أهل المَدَر، فأبدل الله المؤمنين بخيرٍ منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده، وأنفذ فيمن ارتدَّ منهم وعيدَه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الله بن عياش، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يومًا، وعمر أمير المدينة يومئذ، فقال: يا أبا حمزة، آية أسهرتني البارحة! قال محمدٌ: وما هي، أيها الأمير؟ قال: قول الله: « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه » حتى بلغ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ . فقال محمد: أيها الأمير، إنما عنى الله بالذين آمنوا، الولاةَ من قريش، من يرتدَّ عن الحق. ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين، وأبدل المؤمنين مكانَ من ارتدَّ منهم. فقال بعضهم: هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا حفص بن غياث، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن في قوله: « يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، قال: هذا والله أبو بكر وأصحابه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، مثله. حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن سهل، عن الحسن في قوله: « فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، قال: أبو بكر وأصحابه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن أبي موسى قال: قرأ الحسن: « فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، قال: هي والله لأبي بكر وأصحابه. حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا أحمد بن بشير، عن هشام، عن الحسن في قوله: « فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، قال: نـزلت في أبي بكر وأصحابه. حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: « فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم » ، قال: هو أبو بكر وأصحابه. لما ارتد من ارتدَّ من العرب عن الإسلام، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردَّهم إلى الإسلام. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، إلى قوله: وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ، أنـزل الله هذه الآية وقد علم أن سيرتدُّ مرتدُّون من الناس، فلما قبض الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ارتدّ عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد: أهل المدينة، وأهل مكة، وأهل البحرين من عبد القيس قالوا: نصلي ولا نـزكِّي، والله لا تُغصب أموالنا! فكُلِّم أبو بكر في ذلك فقيل له: إنهم لو قد فُقِّهوا لهذا أعطوها أو: أدَّوها فقال: لا والله، لا أفرق بين شيء جمع الله بينه، ولو منعوا عِقالا مما فرضَ الله ورسوله لقاتلناهم عليه! فبعث الله عصابة مع أبي بكر، فقاتل على ما قاتل عليه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، حتى سبَى وقتل وحرق بالنيران أناسًا ارتدّوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، فقاتلهم حتى أقرّوا بالماعون وهي الزكاة صَغرة أقمياء. فأتته وفود العرب، فخيَّرهم بين خُطَّة مخزية أو حرب مُجْلية. فاختاروا الخطة المخزية، وكانت أهون عليهم أن يقرُّوا: أن قتلاهم في النار، وأن قتلى المؤمنين في الجنة، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردّوه عليهم، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، قال ابن جريج: ارتدوا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتلهم أبو بكر. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هشام قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن أبي أيوب، عن علي في قوله: « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه » ، قال: عَلِم الله المؤمنين، ووقع معنى السوء على الحَشْو الذي فيهم من المنافقين ومن في علمه أن يرتدُّوا، قال: « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله » ، المرتدَّة في دورهم « بقوم يحبهم ويحبونه » ، بأبي بكر وأصحابه. وقال آخرون: يعني بذلك قومًا من أهل اليمن. وقال بعض من قال ذلك منهم: هم رهط أبي موسى الأشعري، عبد الله بن قيس. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن عياض الأشعري قال: لما نـزلت هذه الآية، « يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، قال: أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى بشيء كان معه، فقال: هم قومُ هذا! حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت عياضًا يحدّث عن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: « فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، قال: يعني قوم أبي موسى. حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن شعبة قال أبو السائب: قال أصحابنا: هو: « عن سماك بن حرب » ، وأنا لا أحفظ « سماكًا » عن عياض الأشعريّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قوم هذا يعني أبا موسى. حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن سماك، عن عياض الأشعري، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: هم قوم هذا في قوله: « فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » . حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا شعبة، عن سماك بن حرب قال: سمعت عياضًا الأشعري يقول: لما نـزلت: « فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم قومك يا أبا موسى! أو قال: هم قوم هذا يعني أبا موسى. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو سفيان الحميري، عن حصين، عن عياض أو: ابن عياض « فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، قال: هم أهل اليمن. حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا أبو المغيرة قال، حدثنا صفوان قال، حدثنا عبد الرحمن بن جبير، عن شريح بن عبيد قال: لما أنـزل الله: « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه » إلى آخر الآية، قال عمر: أنا وقومي هم، يا رسول الله؟ قال:لا بل هذا وقومه! يعني أبا موسى الأشعري. وقال آخرون منهم: بل هم أهل اليمن جميعًا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « يحبهم ويحبونه » ، قال: أناسٌ من أهل اليمن. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: هم قوم سَبَأ. حدثنا مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو داود قال، أخبرنا شعبة قال، أخبرني من سمع شهر بن حوشب قال: هم أهل اليمن. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الله بن عياش، عن أبي صخر، عن محمد بن كعب القرظي: أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يومًا، وهو أمير المدينة، يسأله عن ذلك: فقال محمد: « يأتي الله بقوم » ، وهم أهل اليمن! قال عمر: يا ليتني منهم! قال: آمين! وقال آخرون: هم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا من يرتدَّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، يزعم أنهم الأنصار. وتأويل الآية على قول من قال: عنى الله بقوله: « فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه » ، أبا بكر وأصحابه في قتالهم أهل الرِّدَّة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين آمنوا، من يرتدَّ منكم عن دينه فلن يضر الله شيئًا، وسيأتي الله من ارتد منكم عن دينه بقوم يحبهم ويحبونه، ينتقم بهم منهم على أيديهم. وبذلك جاء الخبر والرواية عن بعض من تأول ذلك كذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هشام قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله: « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم » ، قال يقول: فسوف يأتي الله المرتدَّةَ في دورهم « بقوم يحبهم ويحبونه » ، بأبي بكر وأصحابه. وأما على قول من قال: عنى الله بذلك أهل اليمن، فإن تأويله: يا أيها الذين آمنوا، من يرتد منكم عن دينه، فسوف يأتي الله المؤمنين الذين لم يرتدوا، بقوم يحبهم ويحبونه، أعوانًا لهم وأنصارًا. وبذلك جاءت الرواية عن بعض من كان يتأول ذلك كذلك. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه » الآية، وعيدٌ من الله أنه من ارتدّ منكم، أنه سيستبدل خيًرا منهم. وأما على قول من قال: عنى بذلك الأنصار، فإن تأويله في ذلك نظير تأويل من تأوَّله أنه عُنِي به أبو بكر وأصحابه. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما رُوي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهم أهل اليمن، قوم أبي موسى الأشعري. ولولا الخبر الذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي روي عنه، ما كان القول عندي في ذلك إلا قول من قال: « هم أبو بكر وأصحابه » . وذلك أنه لم يقاتل قومًا كانوا أظهروا الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتدوا على أعقابهم كفارًا، غير أبي بكر ومن كان معه ممن قاتل أهل الردة معه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنا تركنا القول في ذلك للخبر الذي رُوي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنْ كان صلى الله عليه وسلم مَعْدِن البيان عن تأويل ما أنـزل الله من وحيه وآيِ كتابه. فإن قال لنا قائل: فإن كان القومُ الذين ذكر الله أنه سيأتي بهم عند ارتداد من ارتد عن دينه، ممن كان قد أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل اليمن، فهل كان أهل اليمن أيام قتال أبي بكر رضي الله عنه أهل الردة أعوانَ أبي بكر على قتالهم، فتستجيز أن توجِّه تأويل الآية إلى ما وجِّهت إليه؟ أم لم يكونوا أعوانًا له عليهم، فكيف استجزت أن توجه تأويل الآية إلى ذلك، وقد علمت أنه لا خُلْفَ لوعد الله؟ قيل له: إن الله تعالى ذكره لم يعدِ المؤمنين أن يبدِّلهم بالمرتدِّين منهم يومئذ، خيرًا من المرتدين لقتال المرتدين، وإنما أخبر أنه سيأتيهم بخيرٍ منهم بدلا منهم، فقد فعل ذلك بهم قريبًا غير بعيد، فجاء بهم على عهد عمر، فكان موقعهم من الإسلام وأهله أحسن موقع، وكانوا أعوان أهل الإسلام وأنفعَ لهم ممن كان ارتدَّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من طَغَام الأعراب وجُفاة أهل البوادي الذين كانوا على أهل الإسلام كلا لا نفعًا؟ قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: « يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه » . فقرأته قرأة أهل المدينة: ( يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه ) ، بإظهار التضعيف، بدالين، مجزومة « الدال » الآخرة. وكذلك ذلك في مصاحفهم. وأما قرأة أهل العراق، فإنهم قرأوا ذلك: ( مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) بالإدغام، بدالٍ واحدة، وتحريكها إلى الفتح، بناء على التثنية، لأن المجزوم الذي يظهر تضعيفه في الواحد، إذا ثنيّ أدغم. ويقال للواحد: « اردُدْ يا فلان إلى فلان حقه » ، فإذا ثنى قيل: « ردّا إليه حقه » ، ولا يقال: « ارددا » ، وكذلك في الجمع: « ردّوا » ، ولا يقال: « ارددوا » ، فتبني العرب أحيانًا الواحد على الاثنين، وتظهر أحيانًا في الواحد التضعيفَ لسكون لام الفعل. وكلتا اللغتين فصيحةٌ مشهورة في العرب. قال أبو جعفر: والقراءة في ذلك عندنا على ما هو به في مصاحفنا ومصاحف أهل المشرق، بدال واحدة مشدّدة، بترك إظهار التضعيف، وبفتح « الدال » ، للعلة التي وصفت. القول في تأويل قوله : أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أذلة على المؤمنين » ، أرقَّاء عليهم، رحماءَ بهم. من قول القائل: « ذلَّ فلان لفلان » . إذا خضع له واستكان. ويعني بقوله: « أعزة على الكافرين » ، أشداء عليهم، غُلَظاء بهم. من قول القائل: « قد عزّني فلان » ، إذا أظهر العزة من نفسه له، وأبدى له الجفوة والغِلْظة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله: « أذلة على المؤمنين » ، أهل رقة على أهل دينهم « أعزة على الكافرين » ، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين » ، يعني بالأذلة: الرحماء. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله: « أذلة على المؤمنين » ، قال: رحماء بينهم « أعزة على الكافرين » ، قال: أشداء عليهم. حدثنا الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، قال سفيان: سمعت الأعمش يقول في قوله: « أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين » ، ضعفاء عن المؤمنين. القول في تأويل قوله : يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( 54 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « يجاهدون في سبيل الله » ، هؤلاء المؤمنين الذين وعد الله المؤمنين أن يأتيهم بهم إن ارتدّ منهم مرتدّ، بدلا منهم، يجاهدون في قتال أعداء الله على النحو الذي أمر الله بقتالهم، والوجه الذي أذن لهم به، ويجاهدون عدوَّهم. فذلك مجاهدتهم في سبيل الله « ولا يخافون لومة لائم » ، يقول: ولا يخافون في ذات الله أحدًا، ولا يصدُّهم عن العمل بما أمرهم الله به من قتال عدوهم، لومةُ لائم لهم في ذلك. وأما قوله: « ذلك فضل الله » ، فإنه يعني هذا النعتَ الذي نعتهم به تعالى ذكره من أنهم أذلة على المؤمني، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم فضلُ الله الذي تفضل به عليهم، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه مِنّةً عليه وتطوّلا « والله واسع » ، يقول: والله جواد بفضله على من جادَ به عليه، لا يخاف نَفاد خزائنه فتَتْلف في عطائه « عليم » ، بموضع جوده وعطائه، فلا يبذله إلا لمن استحقه، ولا يبذل لمن استحقه إلا على قدر المصلحة، لعلمه بموضع صلاحه له من موضع ضرّه. القول في تأويل قوله : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( 55 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا » ، ليس لكم، أيها المؤمنون، ناصر إلا الله ورسوله، والمؤمنون الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره. فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرأوا من وَلايتهم، ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء لا نُصرَاء، بل بعضهم أولياء بعض، ولا تتخذوا منهم وليًّا ولا نصيرًا. وقيل إن هذه الآية نـزلت في عبادة بن الصامت، في تبرُّئه من ولاية يهود بني قينقاع وحِلفهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني والدي إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد بني عوف بن الخزرج فخلعهم إلى رسول الله، وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حِلفهم، وقال: أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حِلف الكفار ووَلايتهم! ففيه نـزلت: « إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون » لقول عبادةَ: « أتولى الله ورسوله والذين آمنوا » ، وتبرئه من بني قينقاع ووَلايتهم إلى قوله: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر نحوه. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا » ، يعني: أنه من أسلم تولى الله ورسوله. وأما قوله: « والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون » ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيِّ به. فقال بعضهم: عُنِي به علي بن أبي طالب. وقال بعضهم: عني به جميع المؤمنين. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم أخبرهم بمن يتولاهم فقال: « إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون » ، هؤلاء جميع المؤمنين، ولكن علي بن أبي طالب مرَّ به سائل وهو راكع في المسجد، فأعطاه خاتَمَه. حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عبدة، عن عبد الملك، عن أبي جعفر قال: سألته عن هذه الآية: « إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون » ، قلت: من الذين آمنوا؟ قال: الذين آمنوا! قلنا: بلغنا أنها نـزلت في علي بن أبي طالب! قال: عليٌّ من الذين آمنوا. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن عبد الملك قال: سألت أبا جعفر عن قول الله: « إنما وليكم الله ورسوله » ، وذكر نحو حديث هنّاد، عن عبدة. حدثنا إسماعيل بن إسرائيل الرملي قال، حدثنا أيوب بن سويد قال، حدثنا عتبة بن أبي حكيم في هذه الآية: « إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا » ، قال: علي بن أبي طالب. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا غالب بن عبيد الله قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: « إنما وليكم الله ورسوله » ، الآية، قال: نـزلت في علي بن أبي طالب، تصدَّق وهو راكع. القول في تأويل قوله : وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ( 56 ) قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله تعالى ذكره عبادَه جميعًا الذين تبرأوا من حلف اليهود وخلعوهم رضًى بولاية الله ورسوله والمؤمنين، والذين تمسكوا بحلفهم وخافوا دوائر السوء تدور عليهم، فسارعوا إلى موالاتهم أنّ مَن وثق بالله وتولى الله ورسوله والمؤمنين، ومن كان على مثل حاله من أولياء الله من المؤمنين، لهم الغلبة والدوائر والدولة على من عاداهم وحادّهم، لأنهم حزب الله، وحزبُ الله هم الغالبون، دون حزب الشيطان، كما:- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخبرهم يعني الرب تعالى ذكره مَنِ الغالب، فقال: لا تخافوا الدولة ولا الدائرة، فقال: « ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون » ، و « الحزب » ، هم الأنصار. ويعني بقوله: « فإن حزب الله » ، فإن أنصار الله، ومنه قول الراجز: وَكَيْفَ أَضْوَى وَبِلالٌ حِزْبِي! يعني بقوله: « أضوى » ، أستضْعَفُ وأضام من الشيء « الضاوي » . ويعني بقوله: « وبلال حزبي » ، يعني: ناصري. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 57 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الذين آمنوا » ، أي: صدقوا الله ورسوله « لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هُزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » ، يعني اليهود والنصارى الذين جاءتهم الرسل والأنبياء، وأنـزلت عليهم الكتب من قبل بَعْث نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن قبل نـزول كتابنا « أولياء » ، يقول: لا تتخذوهم، أيها المؤمنون، أنصارًا أو إخوانًا أو حُلفاء، فإنهم لا يألونكم خَبَالا وإن أظهروا لكم مودّة وصداقة. وكان اتخاذ هؤلاء اليهود الذين أخبر الله عنهم المؤمنين أنهم اتخذوا دينهم هُزُوًا ولعبًا بالدين على ما وصفهم به ربنا تعالى ذكره، أن أحدهم كان يظهر للمؤمنين الإيمان وهو على كفره مقيم، ثم يراجع الكفر بعد يسير من المدة بإظهار ذلك بلسانه قولا بعد أن كان يُبدي بلسانه الإيمان قولا وهو للكفر مستبطن تلعبًا بالدين واستهزاءً به، كما أخبر تعالى ذكره عن فعل بعضهم ذلك بقوله: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ سورة البقرة: 14، 15 ] . وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبر عن ابن عباس. حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادُّونهما، فأنـزل الله فيهما: « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء » إلى قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ . فقد أبان هذا الخبر عن صحة ما قلنا، من أنّ اتخاذ من اتخذ دين الله هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب الذين ذكرهم الله في هذه الآية، إنما كان بالنفاق منهم، وإظهارهم للمؤمنين الإيمان، واستبطانهم الكفر، وقيلهم لشياطينهم من اليهود إذا خلوا بهم: « إنا معكم » ، فنهى الله عن موادَّتهم ومُخَالّتهم، والتمسك بحلفهم، والاعتداد بهم أولياء وأعلمهم أنهم لا يألونهم خبالا وفي دينهم طعنًا، وعليه إزراء. وأمّا « الكفار » الذين ذكرهم الله تعالى ذكره في قوله: « من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء » ، فإنهم المشركون من عبدة الأوثان. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من أهل الكتاب ومن عبدة الأوثان وسائر أهل الكفر، أولياءَ دون المؤمنين. وكان ابن مسعود فيما:- حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، عن ابن مسعود يقرأ: ( مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ) . ففي هذا بيان صحة التأويل الذي تأوَّلناه في ذلك. واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته جماعة من أهل الحجاز والبصرة والكوفة: ( وَالْكُفَّارِ أَوْلِيَاءَ ) بخفض « الكفار » ، بمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، ومن الكفارِ، أولياءَ. وكذلك ذلك في قراءة أبيّ بن كعب فيما بلغنا: ( من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الكفار أولياء ) . وقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: ( وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ ) بالنصب، بمعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا والكفارَ عطفًا بـ « الكفار » على « الذين اتخذوا » . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان متفقتا المعنى، صحيحتا المخرج، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرأة، فبأي ذلك قرأ القارئ فقد أصاب. لأن النهيَ عن اتخاذ ولي من الكفار، نهيٌ عن اتخاذ جميعهم أولياء. والنهي عن اتخاذ جميعهم أولياء، نهيٌ عن اتخاذ بعضهم وليًّا. وذلك أنه غير مشكل على أحدٍ من أهل الإسلام أنّ الله تعالى ذكره إذا حرّم اتخاذ وليّ من المشركين على المؤمنين، أنه لم يبح لهم اتخاذ جميعهم أولياء ولا إذا حرَّم اتخاذ جميعهم أولياء، أنه لم يخصص إباحة اتخاذ بعضهم وليًّا، فيجب من أجل إشكال ذلك عليهم، طلبُ الدليل على أولى القراءتين في ذلك بالصواب. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء قرأ القارئ بالخفض أو بالنصب، لما ذكرنا من العلة. وأما قوله: « واتقوا الله إن كنتم مؤمنين » ، فإنه يعني: وخافوا الله، أيها المؤمنون، في هؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار، أن تتخذوهم أولياء ونصراء، وارهبوا عقوبته في فعل ذلك إن فعلتموه بعد تقدُّمه إليكم بالنهي عنه، إن كنتم تؤمنون بالله وتصدِّقونه على وعيده على معصيته. القول في تأويل قوله : وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ( 58 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أذن مؤذنكم، أيها المؤمنون بالصلاة، سخر من دعوتكم إليها هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى والمشركين، ولعبوا من ذلك « ذلك بأنهم قوم لا يعقلون » ، يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، فعلهم الذي يفعلونه، وهو هزؤهم ولعبهم من الدعاء إلى الصلاة، إنما يفعلونه بجهلهم بربهم، وأنهم لا يعقلون ما لهم في إجابتهم إن أجابوا إلى الصلاة، وما عليهم في استهزائهم ولعبهم بالدعوة إليها، ولو عَقَلوا ما لمن فعل ذلك منهم عند الله من العقاب، ما فعلوه. وقد ذكر عن السدي في تأويله ما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا ولعبًا » ، كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: « أشهد أن محمدًا رسول الله » ، قال: « حُرِّق الكاذب » ! فدخلت خادمه ذات ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. القول في تأويل قوله : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ( 59 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لأهل الكتاب من اليهود والنصارى: يا أهل الكتاب، هل تكرهون منا أو تجدون علينا في شيء إذ تستهزئون بديننا، وإذ أنتم إذا نادينا إلى الصلاة اتخذتم نداءنا ذلك هزوًا ولعبًا « إلا أن آمنا بالله » ، يقول: إلا أن صدقنا وأقررنا بالله فوحدناه، وبما أنـزل إلينا من عند الله من الكتاب، وما أنـزل إلى أنبياء الله من الكتب من قبل كتابنا « وأن أكثركم فاسقون » ، يقول: وإلا أن أكثركم مخالفون أمر الله، خارجون عن طاعته، تكذبون عليه. والعرب تقول: « نقَمتُ عليك كذا أنقِم » وبه قرأه القرأة من أهل الحجاز والعراق وغيرهم و « نقِمت أنقِم » ، لغتان ولا نعلم قارئًا قرأ بهما بمعنى وجدت وكرهت، ومنه قول عبد الله بن قيس الرقيات: مَــا نَقَمُــوا مِـنْ بَنِـي أُمَيَّـةَ إِلا أَنَّهُـــمْ يَحْـــلُمُونَ إِنْ غَضِبُــوا وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت بسبب قوم من اليهود. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق، قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، وزيد، وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ قال: أومن بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به! فأنـزل الله فيهم: « قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل من قبل وأن أكثركم فاسقون » . عطفًا بها على « أن » التي في قوله: « إلا أن آمنا بالله » ، لأن معنى الكلام: هل تنقمون منا إلا إيمانَنا بالله وفسقكم. القول في تأويل قوله : قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار « هل أنبئكم » ، يا معشر أهل الكتاب، بشر من ثواب ما تنقِمون منا من إيماننا بالله وما أنـزل إلينا من كتاب الله، وما أنـزل من قبلنا من كتبه؟ [ و « مثوبة » ، تقديرها « مفعولة » ] ، غير أن عين الفعل لما سقطت نقلت حركتها إلى « الفاء » ، وهي « الثاء » من « مثوبة » ، فخرجت مخرج « مَقُولة » ، و « مَحُورة » ، و « مَضُوفة » ، كما قال الشاعر: وَكــنْتُ إذَا جَـارِي دَعَـا لِمَضُوفـةٍ أُشَـمِّر حَـتَّى يَنْصُـفَ السَّاقُ مِئْزَرِي وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله » ، يقول: ثوابًا عند الله. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله » قال: « المثوبة » ، الثواب، « مثوبة الخير » ، و « مثوبة الشر » ، وقرأ: خَيْرٌ ثَوَابًا [ سورة الكهف: 44 ] . وأما « مَنْ » في قوله: « من لعنه الله » ، فإنه في موضع خفض، ردًّا على قوله: « بشرّ من ذلك » . فكأن تأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك: قل هل أنبئكم بشرّ من ذلك مثوبة عند الله، بمن لعنه الله. ولو قيل: هو في موضع رفع، لكان صوابًا، على الاستئناف، بمعنى: ذلك من لعنه الله أو: وهو من لعنه الله. ولو قيل: هو في موضع نصب، لم يكن فاسدًا، بمعنى: قل هل أنبئكم من لعنه الله فيجعل « أنبئكم » عاملا في « من » ، واقعًا عليه. وأما معنى قوله: « من لعنه الله » ، فإنه يعني: من أبعده الله وأسْحَقه من رحمته « وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير » ، يقول: وغضب عليه، وجعل منهم المُسوخَ القردة والخنازير، غضبًا منه عليهم وسخطًا، فعجَّل لهم الخزي والنكال في الدنيا. وأما سبب مَسْخ الله من مَسخ منهم قردة، فقد ذكرنا بعضه فيما مضى من كتابنا هذا، وسنذكر بقيته إن شاء الله في مكان غير هذا. وأما سبب مسخ الله من مَسخ منهم خنازير، فإنه كان فيما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، عن عُمرَ بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري، قال: حدِّثت أن المسخ في بني إسرائيل من الخنازير، كان أن امرأة من بني إسرائيل كانت في قرية من قرى بني إسرائيل، وكان فيها مَلِك بني إسرائيل، وكانوا قد استجمعوا على الهلكة، إلا أنّ تلك المرأة كانت على بقية من الإسلام متمسكة به، فجعلت تدعو إلى الله، حتى إذا اجتمع إليها ناس فتابعوها على أمرها قالت لهم: إنه لا بد لكم من أن تجاهدوا عن دين الله، وأن تنادوا قومكم بذلك، فاخرجوا فإني خارجة. فخرجت، وخرج إليها ذلك الملك في الناس، فقتل أصحابها جميعًا، وانفلتت من بينهم. قال: ودعت إلى الله حتى تجمَّع الناس إليها، حتى إذا رضيت منهم، أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت معهم، وأصيبوا جميعًا وانفلتت من بينهم. ثم دعت إلى الله حتى إذا اجتمع إليها رجال واستجابوا لها، أمرتهم بالخروج، فخرجوا وخرجت، فأصيبوا جميعًا، وانفلتت من بينهم، فرجعت وقد أيست، وهي تقول: سبحان الله، لو كان لهذا الدين وليٌّ وناصرٌ، لقد أظهره بَعْدُ! قال: فباتت محزونة، وأصبح أهل القرية يسعون في نواحيها خنازيرَ، قد مسخهم الله في ليلتهم تلك، فقالت حين أصبحت ورأت ما رأت: اليوم أعلم أن الله قد أعزَّ دينه وأمر دينه! قال: فما كان مسخ الخنازير في بني إسرائيل إلا على يديْ تلك المرأة. حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وجعل منهم القردة والخنازير » ، قال: مسخت من يهود. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وللمسخ سبب فيما ذكر غير الذي ذكرناه، سنذكره في موضعه إن شاء الله. القول في تأويل قوله : وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ( 60 ) قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته قرأة الحجاز والشأم والبصرة وبعض الكوفيين: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بمعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، بمعنى: « عابد » ، فجعل « عبد » ، فعلا ماضيًا من صلة المضمر، ونصب « الطاغوتَ » ، بوقوع « عبَدَ » عليه. وقرأ ذلك جماعة من الكوفيين: ( وَعَبُدَ الطَّاغُوتَ ) بفتح « العين » من « عبد » وضم بائها، وخفض « الطاغوت » بإضافة « عَبُد » إليه. وعنوا بذلك: وخدَمَ الطاغوت. حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثني حمزة، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب أنه قرأ: ( وَعُبَدَ الطَّاغُوتِ ) يقول: خدم قال عبد الرحمن: وكان حمزة كذلك يقرأها. حدثني ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن الأعمش: أنه كان يقرأها كذلك. وكان الفَرَّاء يقول: إن تكن فيه لغة مثل « حَذِرٍ » و « حَذُر » ، و « عجِلٍ » ، و « وعَجُلٍ » ، فهو وجه، والله أعلم وإلا فإن أراد قول الشاعر: أَبَنِــــي لُبَيْنَــــى إنَّ أُمَّكُـــمُ أَمَــــةٌ وَإنَّ أَبَــــاكُمُ عَبُـــدُ فإن هذا من ضرورة الشعر، وهذا يجوز في الشعر لضرورة القوافي، وأما في القراءة فلا. وقرأ ذلك آخرون: ( وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ ) ذكر ذلك عن الأعمش. وكأنَّ من قرأ ذلك كذلك، أراد جمع الجمع من « العبد » ، كأنه جمع « العبد » « عبيدًا » ، ثم جمع « العبيد » « عُبُدًا » ، مثل: « ثِمَار وُثُمر » . وذكر عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرأه: ( وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ ) . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن قال: كان أبو جعفر النحويّ يقرأها: ( وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ ) ، كما يقول: « ضُرِب عبدُ الله » . قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا معنى لها، لأن الله تعالى ذكره، إنما ابتدأ الخبر بذمّ أقوام، فكان فيما ذمَّهم به عبادُتهم الطاغوت. وأما الخبر عن أن الطاغوت قد عُبد، فليس من نوع الخبر الذي ابتدأ به الآية، ولا من جنس ما ختمها به، فيكون له وجه يوجَّه إليه في الصحة. وذكر أن بُريدة الأسلمي كان يقرأه: ( وعابد الطاغوت ) . حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شيخ بصري: أن بريدة كان يقرأه كذلك. ولو قرئ ذلك: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بالكسر، كان له مخرج في العربية صحيح، وإن لم أستجز اليوم القراءة بها، إذ كانت قراءة الحجة من القرأة بخلافها. ووجه جوازها في العربية، أن يكون مرادًا بها « وعَبَدَة الطاغوت » ، ثم حذفت « الهاء » للإضافة، كما قال الراجز: قَامَ وُلاهَا فَسَقَوْهُ صَرْخَدَا يريد: قام وُلاتها، فحذف « التاء » من « ولاتها » للإضافة. قال أبو جعفر: وأما قراءة القرأة، فبأحد الوجهين اللذين بدأت بذكرهما، وهو: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بنصب « الطاغوت » وإعمال « عبد » فيه، وتوجيه « عبد » إلى أنه فعل ماض من « العبادة » . والآخر: ( وعبد الطاغوت ) ، على مثال « فَعُلٍ » ، وخفض « الطاغوت » بإضافة « عَبُدٍ » إليه. فإذ كانت قراءة القرأة بأحد هذين الوجهين دون غيرهما من الأوجه التي هي أصح مخرجًا في العربية منهما، فأولاهما بالصواب من القراءة، قراءة من قرأ ذلك ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بمعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت، لأنه ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود: ( وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، بمعنى: والذين عبدوا الطاغوت ففي ذلك دليل واضحٌ على صحة المعنى الذي ذكرنا من أنه مراد به: ومَن عبد الطاغوت، وأن النصب بـ « الطاغوت » أولى، على ما وصفت في القراءة، لإعمال « عبد » فيه، إذ كان الوجه الآخر غير مستفيض في العرب ولا معروف في كلامها. على أن أهل العربية يستنكرون إعمال شيء في « مَنْ » و « الذي » المضمرين مع « مِنْ » و « في » إذا كفت « مِنْ » أو « في » منهما ويستقبحونه، حتى كان بعضهم يُحيل ذلك ولا يجيزه. وكان الذي يحيل ذلك يقرأه: ( وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ) ، فهو على قوله خطأ ولحن غير جائز. وكان آخرون منهم يستجيزونه على قبح. فالواجب على قولهم أن تكون القراءة بذلك قبيحة. وهم مع استقباحهم ذلك في الكلام، قد اختاروا القراءة بها، وإعمال و « جعل » في « مَنْ » ، وهي محذوفة مع « مِن » . ولو كنا نستجيز مخالفة الجماعة في شيء مما جاءت به مجمعة عليه، لاخترنا القراءة بغير هاتين القراءتين، غير أن ما جاء به المسلمون مستفيضًا فيهم لا يتناكرونه، فلا نستجيز الخروجَ منه إلى غيره. فلذلك لم نستجز القراءة بخلاف إحدى القراءتين اللتين ذكرنا أنهم لم يعدُوهما. وإذ كانت القراءة عندنا ما ذكرنا، فتأويل الآية: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله، من لعنه الله وغضب عليه، وجعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت. وقد بينا معنى « الطاغوت » فيما مضى بشواهده من الروايات وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. وأما قوله: « أولئك شر مكانًا وأضلُّ عن سواء السبيل » ، فإنه يعني بقوله: « أولئك » ، هؤلاء الذين ذكرهم تعالى ذكره، وهم الذين وصفَ صفتهم فقال: « من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت » ، وكل ذلك من صفة اليهود من بني إسرائيل. يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم « شر مكانًا » ، في عاجل الدنيا والآخرة عند الله ممن نَقَمتم عليهم، يا معشر اليهود، إيمانَهم بالله، وبما أنـزل إليهم من عند الله من الكتاب، وبما أنـزل إلى من قبلهم من الأنبياء « وأضل عن سواء السبيل » ، يقول تعالى ذكره: وأنتم مع ذلك، أيها اليهود، أشد أخذًا على غير الطريق القويم، وأجورُ عن سبيل الرشد والقصد منهم. قال أبو جعفر: وهذا من لَحْنِ الكلام. وذلك أن الله تعالى ذكره إنما قصد بهذا الخبر إخبارَ اليهود الذين وصف صفتهم في الآيات قبل هذه، بقبيح فعالهم وذميم أخلاقهم، واستيجابهم سخطه بكثرة ذنوبهم ومعاصيهم، حتى مسخ بعضهم قردة وبعضهم خنازير، خطابًا منه لهم بذلك، تعريضًا بالجميل من الخطاب، ولَحَن لهم بما عَرَفوا معناه من الكلام بأحسن اللحن، وعلَّم نبيه صلى الله عليه وسلم من الأدب أحسنه فقال له: قل لهم، يا محمد، أهؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم، شرٌّ، أم من لعنه الله؟ وهو يعني المقولَ ذلك لهم. القول في تأويل قوله : وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ( 61 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا جاءكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون من اليهود قالوا لكم: « آمنا » : أي صدّقنا بما جاء به نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم واتبعناه على دينه، وهم مقيمون على كفرهم وضلالتهم، قد دخلوا عليكم بكفرهم الذي يعتقدونه بقلوبهم ويُضمرونه في صدورهم، وهم يبدون كذبًا التصديق لكم بألسنتهم « وقد خرجوا به » ، يقول: وقد خرجوا بالكفر من عندكم كما دخلوا به عليكم، لم يرجعوا بمجيئهم إليكم عن كفرهم وضلالتهم، يظنون أن ذلك من فعلهم يخفى على الله، جهلا منهم بالله « والله أعلم بما كانوا يكتمون » ، يقول: والله أعلم بما كانوا- عند قولهم لكم بألسنتهم: « آمنا بالله وبمحمد وصدّقنا بما جاء به » - يكتمون منهم، بما يضمرونه من الكفر، بأنفسهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وإذا جاءوكم قالوا آمنا » الآية، أناسٌ من اليهود، كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم فيخبرونه أنهم مؤمنون راضون بالذي جاء به، وهم متمسكون بضلالتهم والكفر. وكانوا يدخلون بذلك ويخرجون به من عند نبي الله صلى الله عليه وسلم. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » ، قال: هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يهود. يقول: دخلوا كفارًا، وخرجوا كفارًا. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » ، وإنهم دخلوا وهم يتكلمون بالحق، وتُسرُّ قلوبهم الكفر، فقال: « دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » . حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، [ سورة آل عمران: 72 ] . فإذا رجعوا إلى كفارهم من أهل الكتاب وشياطينهم، رجعوا بكفرهم. وهؤلاء أهل الكتاب من يهود. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير: « وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به » ، أي: إنه من عندهم. القول في تأويل قوله : وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 62 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « وترى » يا محمد « كثيرًا » ، من هؤلاء اليهود الذين قصصت عليك نبأهم من بني إسرائيل « يسارعون في الإثم والعدوان » ، يقول: يعجلون بمواقعة الإثم. وقيل: إن « الإثم » في هذا الموضع، معنيّ به الكفر. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: « وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان » ، قال: « الإثم » ، الكفر. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وترى كثيًرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان » ، وكان هذا في حُكّام اليهود بين أيديكم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يسارعون في الإثم والعدوان » ، قال: هؤلاء اليهود « لبئس ما كانوا يعملون » لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ ، إلى قوله: لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ، قال: « يَصْنَعُونَ » و « يعملون » واحد. قال: لهؤلاء حين لم ينهوا، كما قال لهؤلاء حين عملوا. قال: وذلك الإدهان. قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن السدي، وإن كان قولا غير مدفوع جوازُ صحته، فإن الذي هو أولى بتأويل الكلام: أن يكون القوم موصوفين بأنهم يسارعون في جميع معاصي الله، لا يتحاشون من شيء منها، لا من كفر ولا من غيره. لأن الله تعالى ذكره عمَّ في وصفهم بما وصفهم به من أنهم يسارعون في الإثم والعدوان، من غير أن يخصّ بذلك إثمًا دون إثم. وأما « العدوان » ، فإنه مجاوزة الحدّ الذي حدَّه الله لهم في كل ما حدَّه لهم. وتأويل ذلك: أن هؤلاء اليهود الذين وصفهم في هذه الآيات بما وصفهم به تعالى ذكره، يسارع كثير منهم في معاصي الله وخلاف أمره، ويتعدَّون حدودَه التي حدَّ لهم فيما أحلّ لهم وحرّم عليهم، في أكلهم « السحت » وذلك الرشوة التي يأخذونها من الناس على الحكم بخلاف حكم الله فيهم. يقول الله تعالى ذكره: « لبئس ما كانوا يعملون » ، يقول: أقسم لَبئس العمل ما كان هؤلاء اليهود يعملون، في مسارعتهم في الإثم والعدوان، وأكلهم السحت. القول في تأويل قوله : لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( 63 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هلا ينهى هؤلاء الذين يسارعون في الإثم والعدوان وأكل الرشى في الحكم، من اليهود من بني إسرائيل، ربانيوهم وهم أئمتهم المؤمنون، وساستهم العلماء بسياستهم وأحبارهم، وهم علماؤهم وقوادهم « عن قولهم الإثم » يعني: عن قول الكذب والزور، وذلك أنهم كانوا يحكمون فيهم بغير حكم الله، ويكتبون كتبًا بأيديهم ثم يقولون: « هذا من حكم الله، وهذا من كتبه » . يقول الله: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [ سورة البقرة: 79 ] . وأما قوله: « وأكلهم السحت » ، فإنه يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به. وقد بينا معنى « الربانيين » و « الأحبار » ومعنى « السحت » ، بشواهد ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. « لبئس ما كانوا يصنعون » ، وهذا قسم من الله أقسم به، يقول تعالى ذكره: أقسم: لبئس الصنيع كان يصنع هؤلاء الربانيون والأحبار، في تركهم نهيَ الذين يسارعون منهم في الإثم والعدوان وأكل السحت، عما كانوا يفعلون من ذلك. وكان العلماء يقولون: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا للعلماء من هذه الآية، ولا أخوفَ عليهم منها. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الله بن داود قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: « لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم » قال: ما في القرآن آية، أخوف عندي منها: أَنَّا لا ننهى. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا قيس، عن العلاء بن المسيب، عن خالد بن دينار، عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخًا من هذه الآية: ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون ) قال: كذا قرأ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: « لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت » [ قال: « الربانيون والأحبار » ، فقهاؤهم وقراؤهم وعلماؤهم. قال: ثم يقول الضحاك: وما أخوفني من هذه الآية! ] . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون » ، يعني: الربانيين، أنهم: لبئس ما كانوا يصنعون. القول في تأويل قوله : وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ليس من صفته، توبيخًا لهم بذلك، وتعريفًا منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به، وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم واحتجاجًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه له نبيٌّ مبعوث ورسول مرسل: أنْ كانت هذه الأنباء التي أنبأهم بها كانت من خفيِّ علومهم ومكنونها التي لا يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم دون غيرهم من اليهود، فضلا عن الأمة الأمية من العرب الذين لم يقرأوا كتابًا، ولاوَعَوْا من علوم أهل الكتاب علمًا، فأطلع الله على ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، ليقرر عندهم صدقه، ويقطع بذلك حجتهم. يقول تعالى ذكره: « وقالت اليهود » ، من بني إسرائيل « يد الله مغلولة » ، يعنون: أن خير الله مُمْسَك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى ذكره في تأديب نبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [ سورة الإسراء: 29 ] . وإنما وصف تعالى ذكره « اليد » بذلك، والمعنى العَطاء، لأن عطاء الناس وبذلَ معروفهم الغالبَ بأيديهم. فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في مدح رجل: يَــدَاكَ يَــدَا مَجْـدٍ, فَكَـفٌ مُفِيـدَةٌ وَكَـفٌّ إذَا مَـا ضُـنَّ بِـالزَّادِ تُنْفِـقُ فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى « اليد » . ومثل ذلك من كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يُحْصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في كلامهم فقال: « وقالت اليهود يد الله مغلولة » ، يعني بذلك: أنهم قالوا: إن الله يبخل علينا، ويمنعنا فضله فلا يُفْضِل، كالمغلولة يده الذي لا يقدر أن يبسطَها بعطاء ولا بذلِ معروف، تعالى الله عما قالوا، أعداءَ الله! فقال الله مكذِّبَهم ومخبرَهم بسخَطه عليهم: « غلت أيديهم » ، يقول: أمسكت أيديهم عن الخيرات، وقُبِضت عن الانبساط بالعطيات « ولعنوا بما قالوا » ، وأبعدوا من رحمة الله وفضله بالذي قالوا من الكفر، وافتروا على الله ووصفوه به من الكذب والإفك « بل يداه مبسوطتان » ، يقول: بل يداه مبسوطتان بالبذل والإعطاء وأرزاق عباده وأقوات خلقه، غيُر مغلولتين ولا مقبوضتين « ينفق كيف يشاء » ، يقول: يعطي هذا، ويمنع هذا فيقتِّر عليه. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا » ، قال: ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقةٌ، ولكنهم يقولون: إنه بخيل أمسك ما عنده، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيًرا. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « يد الله مغلولة » ، قالوا: لقد تَجَهَّدنا الله يا بني إسرائيل، حتى جعل الله يده إلى نحره! وكذبوا! حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « يد الله مغلولة » ، قال: اليهود تقوله: لقد تجهَّدنا الله يا بني إسرائيل ويا أهل الكتاب، حتى إن يده إلى نحره « بل يداه مبسوطتان، ينفق كيف يشاء » . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا » إلى وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ، أما قوله: « يد الله مغلولة » ، قالوا: الله بخيل غير جواد! قال الله: « بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء » . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء » ، قالوا: إن الله وضع يده على صدره، فلا يبسطها حتى يردّ علينا ملكنا. وأما قوله: « ينفق كيف يشاء » ، يقول: يرزق كيف يشاء. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة: « وقالت اليهود يد الله مغلولة » الآية، نـزلت في فنْحاص اليهوديّ. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم قوله: « يد الله مغلولة » ، يقولون: إنه بخيل ليس بجواد! قال الله: « غلت أيديهم » ، أمسكت أيديهم عن النفقة والخير. ثم قال يعني نفسه: « بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء » . وقال: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [ سورة الإسراء: 29 ] ، يقول: لا تمسك يدك عن النفقة. قال أبو جعفر: واختلف أهل الجدل في تأويل قوله: « بل يداه مبسوطتان » . فقال بعضهم: عنى بذلك: نِعمتاه. وقال: ذلك بمعنى: « يد الله على خلقه » ، وذلك نعمه عليهم. وقال: إن العرب تقول: « لك عندي يد » ، يعنون بذلك: نعمةٌ. وقال آخرون منهم: عنى بذلك القوة. وقالوا: ذلك نظير قول الله تعالى ذكره: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي [ سورة ص: 45 ] . وقال آخرون منهم: بل « يده » ، ملكه. وقال: معنى قوله: « وقالت اليهود يد الله مغلولة » ، ملكه وخزائنه. قالوا: وذلك كقول العرب للمملوك: « هو ملك يمينه » ، و « فلان بيده عُقدة نكاح فلانة » ، أي يملك ذلك، وكقول الله تعالى ذكره: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ، [ سورة المجادلة: 12 ] . وقال آخرون منهم: بل « يد الله » صفة من صفاته، هي يد، غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم. قالوا: وذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ عن خصوصه آدم بما خصّه به من خلقه إياه بيده. قالوا: ولو كان [ معنى « اليد » ، النعمة، أو القوة، أو الملك، ما كان لخصوصِه ] آدم بذلك وجه مفهوم، إذ كان جميع خلقه مخلوقين بقدرته، ومشيئتُه في خلقه تعمةٌ، وهو لجميعهم مالك. قالوا: وإذ كان تعالى ذكره قد خص آدم بذكره خلقَه إياه بيده دون غيره من عباده، كان معلومًا أنه إنما خصه بذلك لمعنى به فارق غيره من سائر الخلق. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، بطل قول من قال: معنى « اليد » من الله، القوة والنعمة أو الملك، في هذا الموضع. قالوا: وأحرى أن ذلك لو كان كما قال الزاعمون أن: « يد الله » في قوله: « وقالت اليهود يد الله مغلولة » ، هي نعمته، لقيل: « بل يده مبسوطة » ، ولم يقل: « بل يداه » ، لأن نعمة الله لا تحصى كثرة. وبذلك جاء التنـزيل، يقول الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [ سورة إبراهيم: 34\ وسورة النحل: 18 ] قالوا: ولو كانت نعمتين، كانتا محصاتين. قالوا: فإن ظن ظانٌّ أن النعمتين بمعنى النعم الكثيرة، فذلك منه خطأ، وذلك أنّ العرب قد تخرج الجميع بلفظ الواحد لأداء الواحد عن جميع جنسه، وذلك كقول الله تعالى ذكره: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [ سورة العصر: 1، 2 ] وكقوله ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ) ، [ سورة الحجر: 26 ] وقوله: وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [ سورة الفرقان: 55 ] ، قال: فلم يُرَدْ بـ « الإنسان » و « الكافر » في هذه الأماكن إنسان بعينه، ولا كافر مشار إليه حاضر، بل عني به جميع الإنس وجميع الكفار، ولكن الواحد أدَّى عن جنسه، كما تقول العرب: « ما أكثر الدرهم في أيدي الناس » ، وكذلك قوله: وَكَانَ الْكَافِرُ معناه: وكان الذين كفروا. قالوا: فأما إذا ثنَّى الاسم، فلا يؤدي عن الجنس، ولا يؤدّي إلا عن اثنين بأعيانهما دون الجميع ودون غيرهما. قالوا: وخطأ في كلام العرب أن يقال: « ما أكثر الدرهمين في أيدي الناس » ، بمعنى: ما أكثر الدراهم في أيديهم. قالوا: وذلك أن الدرهم إذا ثنِّي لا يؤدي في كلامها إلا عن اثنين بأعيانهما. قالوا: وغيرُ محال: « ما أكثر الدرهم في أيدي الناس » ، و « ما أكثر الدراهم في أيديهم » ، لأن الواحد يؤدي عن الجميع. قالوا: ففي قول الله تعالى: « بل يداه مبسوطتان » ، مع إعلامه عبادَه أن نعمه لا تحصى، مع ما وصفنا من أنه غير معقول في كلام العرب أن اثنين يؤدّيان عن الجميع ما ينبئ عن خطأ قول من قال: معنى « اليد » ، في هذا الموضع، النعمة وصحةِ قول من قال: إن « يد الله » ، هي له صفة. قالوا: وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به العلماء وأهل التأويل. القول في تأويل قوله : وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هذا الذي أطلعناك عليه من خفيِّ أمور هؤلاء اليهود، مما لا يعلمه إلا علماؤهم وأحبارهم، احتجاجًا عليهم لصحة نبوتك، وقطعًا لعذر قائلٍ منهم أن يقول: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ : « ليزيدن كثيرًا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا » . يعني بـ « الطغيان » : الغلو في إنكار ما قد علموا صحته من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتمادي في ذلك « وكفرًا » ، يقول: ويزيدهم مع غلوِّهم في إنكار ذلك، جحودَهم عظمة الله ووصفهم إياه بغير صفته، بأن ينسبوه إلى البخل، ويقولوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ . وإنما أعلم تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنهم أهل عتوّ وتمرُّدٍ على ربهم، وأنهم لا يذعنون لحقّ وإن علموا صحته، ولكنهم يعاندونه، يسلِّي بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الموجِدة بهم في ذهابهم عن الله، وتكذيبهم إياه. وقد بينت معنى « الطغيان » فيما مضى بشواهده، بما أغنى عن إعادته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « وليزيدن كثيرًا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا » ، حملهم حسدُ محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم. القول في تأويل قوله : وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة » ، بين اليهود و النصارى، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة » ، اليهود والنصارى. فإن قال قائل: وكيف قيل: « وألقينا بينهم العداوة والبغضاء » ، جعلت « الهاء والميم » في قوله: « بينهم » ، كناية عن اليهود والنصارى، ولم يجر لليهود والنصارى ذكر؟ قيل: قد جرى لهم ذكر، وذلك قوله: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، [ سورة المائدة: 51 ] ، جرى الخبر في بعض الآي عن الفريقين، وفي بعضٍ عن أحدهما، إلى أن انتهى إلى قوله: « وألقينا بينهم العداوة والبغضاء » ، ثم قصد بقوله: « ألقينا بينهم » ، الخبرَ عن الفريقين. القول في تأويل قوله : كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كلما جمع أمرهم على شيء فاستقام واستوى، فأرادوا مناهضة من ناوأهم، شتته الله عليهم وأفسده، لسوء فعالهم وخُبْثِ نياتهم، كالذي:- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [ سورة الإسراء: 4- 6 ] ، قال: كان الفساد الأول، فبعث الله عليهم عدوًّا فاستباحوا الديار، واستنكحوا النساء، واستعبدوا الولدان، وخرَّبوا المسجد. فغَبَرُوا زمانًا، ثم بعث الله فيهم نبيًّا وعاد أمرهم إلى أحسن ما كان. ثم كان الفساد الثاني بقتلهم الأنبياء، حتى قتلوا يحيى بن زكريا، فبعث الله عليهم بُخْت نصَّر، فقتل من قتل منهم، وسبى من سبى، وخرب المسجد. فكان بخت نصر الفسادَ الثاني قال: و « الفساد » ، المعصية ثم قال، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ إلى قوله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [ سورة الإسراء: 7، 8 ] فبعث الله لهم عُزَيْرًا، وقد كان علم التوراة وحفظها في صدره وكتبها لهم. فقام بها ذلك القرن، ولبثوا فنسوا. ومات عزير، وكانت أحداثٌ، ونسوا العهد وبَخَّلوا ربهم، وقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ، وقالوا في عزير: « إن الله اتخذه ولدًا » ، وكانوا يعيبون ذلك على النصارى في قولهم في المسيح، فخالفوا ما نَهَوْا عنه، وعملوا بما كانوا يكفِّرون عليه، فسبق من الله كلمة عند ذلك أنهم لن يظهروا على عدوٍّ آخرَ الدهر، فقال: « كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين » ، فبعث الله عليهم المجوس الثالثةَ أربابًا، فلم يزالوا كذلك والمجوس على رقابهم، وهم يقولون: « يا ليتنا أدركنا هذا النبي الذي نجده مكتوبًا عندنا، عسى الله أن يفكَّنا به من المجوس والعذاب الهون » ! فبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم واسمه « محمد » ، واسمه في الإنجيل « أحمد » فلما جاءهم وعرفوا، كفروا به، قال: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ سورة البقرة: 89 ] ، وقال: فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ، بسورة البقرة: 90 ] . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله » ، هم اليهود. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا » ، أولئك أعداء الله اليهود، كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، فلن تلقَى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذلّ أهله. لقد جاء الإسلام حين جاء، وهم تحت أيدي المجوس أبغضِ خلقه إليه. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله » ، قال: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرَّقه الله، وأطفأ حَدَّهم ونارهم، وقذف في قلوبهم الرعب. وقال مجاهد بما:- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: « كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله » ، قال: حربُ محمد صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله : وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( 64 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويعمل هؤلاء اليهود والنصارى بمعصية الله، فيكفرون بآياته ويكذبون رسله، ويخالفون أمره ونهيه، وذلك سعيُهم فيها بالفساد « والله لا يحب المفسدين » ، يقول: والله لا يحب من كان عامِلا بمعاصيه في أرضه. القول في تأويل قوله : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 65 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « ولو أن أهل الكتاب » ، وهم اليهود والنصارى « آمنوا » بالله وبرسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فصدَّقوه واتبعوه وما أنـزل عليه « واتقوا » ما نهاهم الله عنه فاجتنبوه « لكفرنا عنهم سيئاتهم » ، يقول: محوْنا عنهم ذنوبَهم فغطينا عليها، ولم نفضحهم بها « ولأدخلناهم جنات النعيم » ، يقول: ولأدخلناهم بساتِين ينعَمون فيها في الآخرة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا » ، يقول: آمنوا بما أنـزل الله، واتقوا ما حرم الله، « لكفرنا عنهم سيئاتهم » . القول في تأويل قوله : وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ولو أنهم أقامُوا التوراة والإنجيلَ » ، ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل « وما أنـزل إليهم من ربهم » ، يقول: وعملوا بما أنـزل إليهم من ربهم من الفرقانِ الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: وكيف يقيمون التوراة والإنجيل وما أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، مع اختلاف هذه الكتب، ونسخِ بعضها بعضًا؟ قيل: إنها وإن كانت كذلك في بعض أحكامها وشرائعها، فهي متَّفِقة في الأمر بالإيمان برُسُل الله، والتصديق بما جاءت به من عند الله. فمعنى إقامتهم التوراةَ والإنجيل وما أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم: تصديقُهُم بما فيها، والعملُ بما هي متفقة فيه، وكل واحد منها في الحين الذي فرض العمل به. وأما معنى قوله: « لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم » ، فإنه يعني: لأنـزل الله عليهم من السماء قَطْرَها، فأنبتت لهم به الأرض حبها ونباتها، فأخرج ثمارَها. وأما قوله: « ومن تحت أرجلهم » ، فإنه يعني تعالى ذكره: لأكلوا من برَكة ما تحت أقدامِهم من الأرض، وذلك ما تخرجه الأرض من حَبِّها ونباتها وثمارِها، وسائرِ ما يؤكل مما تخرجه الأرض. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم » ، يعني: لأرسل السماءَ عليهم مدرارًا « ومن تحت أرجلهم » ، تخرج الأرض برَكتها. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم » ، يقول: إذًا لأعطتهم السماء برَكتها والأَرْضُ نَباتها. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم » ، يقول: لو عملوا بما أنـزل إليهم مما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، لأنـزلنا عليهم المطرَ، فلأنبت الثَّمر. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليهم من ربهم » ، أمّا « إقامتهم التوراة » ، فالعمل بها وأما « ما أنـزل إليهم من ربهم » ، فمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنـزل عليه. يقول: « لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم » ، أما « من فوقهم » ، فأرسلت عليهم مطرًا، وأما « من تحت أرجلهم » ، يقول: لأنبتُّ لهم من الأرض من رزقي ما يُغْنيهم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: « لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم » ، قال: بركات السماء والأرض قال ابن جريج: « لأكلوا من فوقهم » ، المطر « ومن تحت أرجلهم » ، من نبات الأرض. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « من فوقهم ومن تحت أرجلهم » ، يقول: لأكلوا من الرزق الذي ينـزل من السماء « ومن تحت أرجلهم » ، يقول: من الأرض. وكان بعضهم يقول إنما أريد بقوله: « لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم » ، التَّوْسِعَة، كما يقول القائل: « هو في خير من قَرْنه إلى قدمه » . وتأويل أهل التأويل بخلاف ما ذكرنا من هذا القول، وكفى بذلك شهيدًا على فساده. القول في تأويل قوله : مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ( 66 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « منهم أمة » ، منهم جماعة « مقتصدة » ، يقول: مقتصدة في القول في عيسى ابن مريم، قائلةٌ فيه الحقَّ أنه رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، لا غاليةٌ قائلةٌ: إنه ابن الله، تعالى الله عما قالوا من ذلك، ولا مقصرة قائلةٌ: هو لغير رِشْدَة « وكثير منهم » ، يعني: من بني إسرائيل من أهل الكتابِ اليهودِ والنصارى « ساء ما يعملون » ، يقول: كثير منهم سيئ عملهم، وذلك أنهم يكفرون بالله، فتكذب النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتزعُم أن المسيحَ ابن الله وتكذِّب اليهود بعيسى وبمحمد صلى الله عليهما. فقال الله تعالى فيهم ذامًّا لهم: « ساء ما يعملون » ، في ذلك من فعلهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « منهم أمة مقتصدة » ، وهم مسلمة أهل الكتاب « وكثير منهم ساءَ ما يعملون » . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثنا عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: تفرَّقت بنو إسرائيل فِرَقًا، فقالت فرقة: « عيسى هو ابن الله » ، وقالت فرقة: « هو الله » ، وقالت فرقة: « هو عبد الله وروحه » ، وهي المقتصدة، وهي مسلمةُ أهل الكتاب. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال الله: « منهم أمة مقتصدة » ، يقول: على كتابه وأمره. ثم ذمّ أكثر القوم فقال: « وكثير منهم ساء ما يعملون » . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « منهم أمة مقتصدة » ، يقول: مؤمنة. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون » قال: المقتصدة، أهلُ طاعة الله. قال: وهؤلاء أهل الكتاب. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله: « منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون » ، قال: فهذه الأمة المقتصدة، الذين لا هم جَفَوا في الدين ولا هم غلوا. قال: و « الغلو » ، الرغبة [ عنه ] ، و « الفسق » ، التقصير عنه. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 67 ) قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قصَّ تعالى ذكره قَصَصهم في هذه السورة، وذكر فيها معايبهم وخُبْثَ أديانهم، واجتراءَهم على ربهم، وتوثُّبهم على أنبيائهم، وتبديلَهم كتابه، وتحريفَهم إياه، ورداءةَ مطاعِمهم ومآكلهم وسائرِ المشركين غيرِهم، ما أنـزل عليه فيهم من معايبهم، والإزراء عليهم، والتقصير بهم، والتهجين لهم، وما أمرهم به ونهاهم عنه، وأن لا يُشْعر نفسَه حذرًا منهم أن يُصيبوه في نفسه بمكروهٍ ما قام فيهم بأمر الله، ولا جَزعًا من كثرة عددهم وقلّة عدد من معه، وأن لا يتّقى أحدًا في ذات الله، فإن الله تعالى ذكره كافيه كلَّ أحد من خلقه، ودافعٌ عنه مكروهَ كل من يبغي مكروهه. وأعلمه تعالى ذكره أنه إن قصَّر عن إبلاغ شيء مما أنـزل إليه إليهم، فهو في تركه تبليغ ذلك وإن قلّ ما لم يبلّغ منه فهو في عظيم ما ركب بذلك من الذَّنب بمنـزلته لو لم يبلِّغ من تنـزيله شيئًا. وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « يا أيها الرسول بلِّغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته » ، يعني: إن كتمت آية مما أنـزل عليك من ربك، لم تبلِّغ رسالاتي. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: « يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك » ، الآية، أخبر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس، ويعصمه منهم، وأمره بالبلاغ. ذكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قيل له: لو احتجبت! فقال: والله لأبديَنَّ عَقِبي للناس ما صاحبتهم. حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن رجل، عن مجاهد قال: لما نـزلت: « بلغ ما أنـزل إليك من ربك » ، قال: إنما أنا واحد، كيف أصنع؟ تجَمَّع عليّ الناس! فنـزلت: « وإن لم تفعل فما بلغت رسالته » ، الآية. حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ثعلبة، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت: « يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس » ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحرسوني، إنّ ربّي قد عَصَمني. حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن الجُريريّ، عن عبد الله بن شقيق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقِبه ناسٌ من أصحابه، فلما نـزلت: « والله يعصمك من الناس » ، خرج فقال: يا أيها الناس، الحقوا بملاحِقِكم، فإنّ الله قد عصمني من الناس. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عاصم بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحارسه أصحابه، فأنـزل الله تعالى ذكره: « يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته » ، إلى آخرها. حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحارث بن عبيدة أبو قدامة الإيادي قال، حدثنا سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس، حتى نـزلت هذه الآية: « والله يعصمك من الناس » ، قالت: فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة فقال:أيها الناس، انصرفوا، فقد عصمني الله. حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن القرظيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يُحْرَس، حتى أنـزل الله: « والله يعصمك من الناس » . واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نـزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نـزلت بسبب أعرابيّ كان همَّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكفاه الله إياه. ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نـزل منـزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة، فيَقِيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال من يمنعك مني؟ قال: الله! فرُعِدت يد الأعرابيّ وسقط السيف منه، قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دُماغه، فأنـزل الله: « والله يعصمك من الناس » . وقال آخرون: بل نـزلت لأنه كان يخاف قريشًا، فأومن من ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشًا، فلما نـزلت: « والله يعصمك من الناس » ، استلقى ثم قال:من شاء فليخذلني مرتين أو ثلاثًا. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي خالد، عن عامر، عن مسروق قال، قالت عائشة: من حدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من الوحي فقد كذب! ثم قرأت: « يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك » ، الآية. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن المغيرة، عن الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم، فقد كذبَ وأعظم الفرية على الله! قال الله تعالى ذكره: « يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك » الآية. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال: أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن مسروق قال، قالت عائشة: من زعم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفرية! والله يقول: « يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك » ، الآية. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن محمد بن الجهم، عن مسروق بن الأجدع قال: دخلت على عائشة يومًا فسمعتها تقول: لقد أعظمَ الفرية من قال إنّ محمدًا كتم شيئًا من الوحي! والله يقول: « يا أيها الرسول بلغ ما أنـزل إليك من ربك » . ويعني بقوله: « والله يعصمك من الناس » ، يمنعك من أن ينالوك بسوء. وأصله من « عِصَام القربة » ، وهو ما تُوكىَ به من سير وخيط، ومنه قول الشاعر: وَقُلْــتُ: عَلَيْكُــمْ مَالِكًـا, إنَّ مَالِكًـا سَـيَعْصِمُكُمُ, إنْ كَانَ فِي النَّاسِ عَاصِمُ يعني: يمنعكم. وأما قوله: « إن الله لا يهدي القوم الكافرين » ، فإنه يعني: إن الله لا يوفِّق للرُّشْد من حاد عن سبيل الحق، وجار عن قصد السبيل، وجحد ما جئته به من عند الله، ولم ينته إلى أمر الله وطاعته فيما فرض عليه وأوجبه. القول في تأويل قوله : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ اليهود والنصارى الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَره. يقول تعالى ذكره له: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء اليهود والنصارى « يا أهل الكتاب » ، التوراة والإنجيل « لستم على شيء » ، مما تدَّعون أنكم عليه مما جاءكم به موسى صلى الله عليه وسلم، معشرَ اليهود، ولا مما جاءكم به عيسى، معشرَ النصارى « حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم » ، مما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم من الفرقان، فتعملوا بذلك كله، وتؤمنوا بما فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، وتقرُّوا بأن كل ذلك من عند الله، فلا تكذِّبوا بشيء منه، ولا تفرِّقوا بين رسل الله فتؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض، فإن الكفر بواحد من ذلك كفر بجميعه، لأنّ كتب الله يصدِّق بعضها بعضًا، فمن كذَّب ببعضها فقد كذَّب بجميعها. وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر. حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رافعُ بن حارثة وسَلام بن مِشْكم، ومالك بن الصيف، ورافع بن حريملة، فقالوا: يا محمد، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه، وتؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها من الله حق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخِذَ عليكم من الميثاق، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبيِّنوه للناس، وأنا بريء من أحداثكم! قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا، فإنا على الحق والهدى، ولا نؤمن بك، ولا نتبعك! فأنـزل الله تعالى ذكره: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) إلى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنـزل إليكم من ربكم » ، قال: فقد صرنا من أهل الكتاب « التوراة » ، لليهود، و « الإنجيل » ، للنصارى، « وما أنـزل إليكم من ربكم » ، وما أنـزل إلينا من ربنا أي: « لستم على شيء حتى تقيموا » ، حتى تعملوا بما فيه. القول في تأويل قوله : وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 68 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وليزيدن كثيًرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا » ، وأقسم: ليزيدن كثيرًا من هؤلاء اليهود والنصارى الذين قص قصصهم في هذه الآيات، الكتابُ الذي أنـزلته إليك، يا محمد « طغيانًا » ، يقول: تجاوزًا وغلوًّا في التكذيب لك، على ما كانوا عليه لك من ذلك قبل نـزول الفرقان « وكفرًا » يقول: وجحودًا لنبوتك. وقد أتينا على البيان عن معنى « الطغيان » ، فيما مضى قبل. وأما قوله: « فلا تأس على القوم الكافرين » ، يعني بقوله: « فلا تأس » ، فلا تحزن. يقال: « أسِيَ فلان على كذا » ، إذا حزن « يأسَى أسىً » ،، ومنه قول الراجز: وَانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ مِنْ فَرْطِ الأَسَى يقول تعالى ذكره لنبيه: لا تحزن، يا محمد، على تكذيب هؤلاء الكفار من اليهود والنصارى من بني إسرائيل لك، فإن مثلَ ذلك منهم عادة وخلق في أنبيائهم، فكيف فيك؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « وليزيدن كثيًرا منهم ما أنـزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا » ، قال: الفرقان يقول: فلا تحزن. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « فلا تأس على القوم الكافرين » ، قال: لا تحزن. القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 69 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدّقوا الله ورسوله، وهم أهل الإسلام « والذين هادوا » ، وهم اليهود « والصابئون » ، وقد بينا أمرهم « والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر » ، فصدّق بالبعث بعد الممات « وعمل » ، من العمل « صالحًا » لمعاده « فلا خوف عليهم » ، فيما قَدِموا عليه من أهوال القيامة « ولا هم يحزنون » ، على ما خلَّفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، بعد معاينتهم ما أكرمهم الله به من جزيل ثوابه. وقد بينا وجه الإعراب فيه فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله : لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ( 70 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أقسم: لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل على الإخلاص في توحيدنا، والعمل بما أمرناهم به، والانتهاء عما نهيناهم عنه وأرسلنا إليهم بذلك رسلا ووعدناهم على ألسن رسلنا إليهم على العمل بطاعتنا الجزيلَ من الثواب، وأوعدناهم على العمل بمعصيتنا الشديدَ من العقاب كلما جاءهم رسول لنا بما لا تشتهيه نفوسهم ولا يوافق محبَّتهم، كذّبوا منهم فريقًا، ويقتلون منهم فريقًا، نقضًا لميثاقنا الذي أخذناه عليهم، وجرأة علينا وعلى خلاف أمرنا. القول في تأويل قوله : وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ( 71 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى: وظن هؤلاء الإسرائيليون الذين وصف تعالى ذكره صفتهم: أنه أخذ ميثاقهم: وأنه أرسل إليهم رسلا وأنهم كانوا كلما جاءهم رسولٌ بما لا تهوى أنفسهم كذّبوا فريقًا وقتلوا فريقًا أن لا يكون من الله لهم ابتلاء واختبارٌ بالشدائد من العقوبات بما كانوا يفعلون « فعموا وصموا » ، يقول: فعموا عن الحق والوفاء بالميثاق الذي أخذته عليهم، من إخلاص عبادتي، والانتهاء إلى أمري ونهيي، والعمل بطاعتي، بحسبانهم ذلك وظنهم « وصموا » عنه ثم تبت عليهم. يقول: ثم هديتهم بلطف مني لهم حتى أنابوا ورجعوا عما كانوا عليه من معاصيَّ وخلاف أمري والعمل بما أكرهه منهم، إلى العمل بما أحبه، والانتهاء إلى طاعتي وأمري ونهيي « ثم عموا وصموا كثير منهم » ، يقول: ثم عموا أيضًا عن الحق والوفاء بميثاقي الذي أخذته عليهم: من العمل بطاعتي، والانتهاء إلى أمري، واجتناب معاصيَّ « وصموا كثير منهم » ، يقول: عمى كثير من هؤلاء الذين كنت أخذت ميثاقهم من بني إسرائيل، باتباع رسلي والعمل بما أنـزلت إليهم من كتبي عن الحق وصموا، بعد توبتي عليهم، واستنقاذي إياهم من الهلكة « والله بصير بما يعملون » ، يقول « بصير » ، فيرى أعمالهم خيرَها وشرَّها، فيجازيهم يوم القيامة بجميعها، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « وحسبوا ألا تكون فتنة » ، الآية، يقول: حسب القوم أن لا يكون بلاءٌ « فعموا وصموا » ، كلما عرض بلاء ابتلوا به، هلكوا فيه. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا » ، يقول: حسبوا أن لا يبتلوا، فعموا عن الحق وصمُّوا. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مبارك، عن الحسن: « وحسبوا ألا تكون فتنة » ، قال: بلاء. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: « وحسبوا ألا تكون فتنة » ، قال: الشرك. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا » ، قال: اليهود. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: « فعموا وصموا » ، قال: يهود قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: هذه الآية لبني إسرائيل. قال: و « الفتنة » ، البلاء والتَّمحيص. القول في تأويل قوله : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ( 72 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن بعض ما فَتَن به الإسرائيلين الذين أخبر عنهم أنهم حسبوا أن لا تكون فتنة. يقول تعالى ذكره: فكان مما ابتليتهم واختبرتهم به، فنقضوا فيه ميثاقي، وغيَّروا عهدي الذي كنت أخذته عليهم بأن لا يعبدوا سواي، ولا يتخذوا ربًّا غيري، وأن يوحِّدوني، وينتهوا إلى طاعتي عبدي عيسى ابن مريم، فإني خلقته، وأجريت على يده نحوَ الذي أجريت على يد كثير من رسلي، فقالوا كفرًا منهم: « هو الله » . وهذا قول اليعقوبيّة من النصارى عليهم غضب الله. يقول الله تعالى ذكره: فلما اختبرتهم وابتليتهم بما ابتليتهم به، أشركوا بي، وقالوا لخلق من خلقي، وعبدٍ مثلهم من عبيدي، وبشر نحوهم معروفٍ نسبه وأصله، مولود من البشر، يدعوهم إلى توحيدي، ويأمرهم بعبادتي وطاعتي، ويقرّ لهم بأني ربه وربهم، وينهاهم عن أن يشركوا بي شيئًا: « هو إلههم » ، جهلا منهم بالله وكفرًا به، ولا ينبغي لله أن يكون والدًا ولا مولودًا. ويعني بقوله: « وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم » ، يقول: اجعلوا العبادة والتذلل للذي له يَذِلّ كل شيء، وله يخضع كل موجود « ربي وربكم » ، يقول: مالكي ومالككم، وسيدي وسيدكم، الذي خلقني وإياكم « إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة » ، أن يسكنها في الآخرة « ومأواه النار » ، يقول: ومرجعه ومكانه- الذي يأوي إليه ويصير في معاده، من جعل لله شريكًا في عبادته- نارُ جهنم « وما للظالمين » ، يقول: وليس لمن فعل غير ما أباح الله له، وعبد غير الذي له عبادة الخلق « من أنصار » ، ينصرونه يوم القيامة من الله، فينقذونه منه إذا أورده جهنم. القول في تأويل قوله : لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 73 ) قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله تعالى ذكره عن فريق آخر من الإسرائيليين الذين وصف صفتهم في الآيات قبل: أنه لما ابتلاهم بعد حِسْبَانهم أنهم لا يُبتلون ولا يفتنون، قالوا كفرًا بربهم وشركًا: « الله ثالث ثلاثة » . وهذا قولٌ كان عليه جماهير النصارى قبل افتراق اليعقوبية والملكية والنَّسطورية. كانوا فيما بلغنا يقولون: « الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أبًا والدًا غير مولود، وابنًا مولودًا غير والد، وزوجًا متتبَّعة بينهما » . يقول الله تعالى ذكره، مكذّبًا لهم فيما قالوا من ذلك: « وما من إله إلا إله واحد » ، يقول: ما لكم معبود، أيها الناس، إلا معبود واحد، وهو الذي ليس بوالد لشيء ولا مولود، بل هو خالق كل والد ومولود « وإن لم ينتهوا عما يقولون » ، يقول: إن لم ينتهوا قائلو هذه المقالة عما يقولون من قولهم: « الله ثالث ثلاثة » « ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم » ، يقول: ليمسن الذين يقولون هذه المقالة، والذين يقولون المقالة الأخرى: هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، لأن الفريقين كلاهما كفرة مشركون، فلذلك رجع في الوعيد بالعذاب إلى العموم، ولم يقل: « ليمسنَّهم عذابٌ أليم » ، لأن ذلك لو قيل كذلك، صار الوعيد من الله تعالى ذكره خاصًّا لقائل القول الثاني، وهم القائلون: « الله ثالث ثلاثة » ، ولم يدخل فيهم القائلون: « المسيح هو الله » . فعمّ بالوعيد تعالى ذكره كلَّ كافر، ليعلم المخاطبون بهذه الآيات أنّ وعيد الله قد شمل كلا الفريقين من بني إسرائيل، ومن كان من الكفار على مثل الذي هم عليه. فإن قال قائل: وإن كان الأمر على ما وصفت، فعلى مَنْ عادت « الهاء والميم » اللتان في قوله: « منهم » ؟ قيل: على بني إسرائيل. فتأويل الكلام، إذْ كان الأمر على ما وصفنا: وإن لم ينته هؤلاء الإسرائيليون عما يقولون في الله من عظيم القول، ليمسنَّ الذين يقولون منهم: « إن المسيح هو الله » ، والذين يقولون: « إن الله ثالث ثلاثة » ، وكل كافر سلك سبيلهم عذابٌ أليم، بكفرهم بالله. وقد قال جماعة من أهل التأويل بنحو قولنا، في أنه عنى بهذه الآيات النصارى. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لقد كفر الذين قالوا: إنّ الله ثالث ثلاثة » ، قال: قالت النصارى: « هو والمسيح وأمه » ، فذلك قول الله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ سورة المائدة: 116 ] . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: « لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة » ، نحوه. القول في تأويل قوله : أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 74 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أفلا يرجع هذان الفريقان الكافران القائل أحدهما: « إن الله هو المسيح ابن مريم » ، والآخر القائل: « إن الله ثالث ثلاثة » عما قالا من ذلك، ويتوبان مما قالا ونطقا به من كفرهما، ويسألان ربهما المغفرة مما قالا « والله غفور » ، لذنوب التائبين من خلقه، المنيبين إلى طاعته بعد معصيتهم « رحيم » بهم، في قبوله توبتَهم ومراجعتهم إلى ما يحبّ مما يكره، فيصفح بذلك من فعلهم عما سلَف من أجرامهم قبل ذلك. القول في تأويل قوله : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ قال أبو جعفر: وهذا [ خَبَرٌ ] من الله تعالى ذكره، احتجاجًا لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم على فِرَق النصارى في قولهم في المسيح. يقول مكذِّبًا لليعقوبية في قِيلهم: « هو الله » والآخرين في قيلهم: « هو ابن الله » : ليس القول كما قال هؤلاء الكفرة في المسيح، ولكنه ابن مريم ولدته ولادةَ الأمهات أبناءَهن، وذلك من صفة البشر لا من صفة خالق البشر، وإنما هو لله رسولٌ كسائر رسله الذين كانوا قبلَه فمضوا وخَلَوْا، أجرى على يده ما شاء أن يجريه عليها من الآيات والعِبر، حجةً له على صدقه، وعلى أنه لله رسول إلى من أرسله إليه من خلقه، كما أجرى على أيدي من قبله من الرسل من الآيات والعِبر، حجةً لهم على حقيقةِ صدقهم في أنهم لله رسلٌ « وأمه صِدّيقة » ، يقول تعالى ذكره وأمّ المسيح صِدِّيقةٌ. و « الصِدِّيقة » « الفِعِّيلة » ، من « الصدق » ، وكذلك قولهم: « فلان صِدِّيق » ، « فِعِّيل » من « الصدق » ، ومنه قوله تعالى ذكره: وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ . [ سورة النساء: 69 ] . وقد قيل إن « أبا بكر الصدّيق » رضي الله عنه إنما قيل له: « الصّدّيق » لصدقه. وقد قيل: إنما سمي « صديقًا » ، لتصديقه النبي صلى الله عليه وسلم في مسيره في ليلة واحدةٍ إلى بيت المقدس من مكة، وعودِه إليها. وقوله: « كانا يأكلان الطعام » ، خبٌر من الله تعالى ذكره عن المسيح وأمّه: أنهما كانا أهل حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتقوم به أبدانهما من المطاعم والمشارب كسائر البشر من بني آدم، فإنّ من كان كذلك، فغيرُ كائنٍ إلهًا، لأن المحتاج إلى الغذاء قِوَامه بغيره. وفي قوامه بغيره وحاجته إلى ما يقيمه، دليلٌ واضحٌ على عجزه. والعاجز لا يكون إلا مربوبًا لا ربًّا. القول في تأويل قوله : انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ( 75 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر يا محمد، كيف نبين لهؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى « الآيات » ، وهي الأدلَّةُ، والأعلام والحُجج على بُطُول ما يقولون في أنبياء الله، وفي فريتهم على الله، وادِّعائهم له ولدًا، وشهادتهم لبعض خلقه بأنه لهم ربٌّ وإله، ثم لا يرتدعون عن كذبهم وباطل قِيلهم، ولا ينـزجرون عن فريتهم على ربِّهم وعظيم جهلهم، مع ورود الحجج القاطعة عذرَهم عليهم. يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: « ثم انظر » ، يا محمد « أنَّى يؤفكون » ، يقول: ثم انظر، مع تبييننا لهم آياتنا على بُطول قولهم، أيَّ وجه يُصرَفون عن بياننا الذي نبيِّنه لهم؟ وكيف عن الهدى الذي نهديهم إليه من الحق يضلُّون؟ والعرب تقول لكل مصروف عن شيء: « هو مأفوك عنه » . يقال: « قد أفَكت فلانًا عن كذا » ، أي: صرفته عنه، « فأنا آفِكه أفْكًا، وهو مأفوك » . و « قد أُفِكت الأرض » ، إذا صرف عنها المطر. القول في تأويل قوله : قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 76 ) قال أبو جعفر: وهذا أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على النصارى القائلين في المسيح ما وصف من قِيلهم فيه قبلُ. يقول تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء الكفرة من النصارى، الزاعمين أن المسيح ربهم، والقائلين إن الله ثالث ثلاثة أتعبدون سوى الله الذي يملك ضركم ونفعكم، وهو الذي خلقكم ورزقكم، وهو يحييكم ويميتكم شيئًا لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا؟ يخبرهم تعالى ذكره أن المسيح الذي زعم من زعم من النصارى أنه إله، والذي زعم من زعم منهم أنه لله ابنٌ، لا يملك لهم ضرًّا يدفعه عنهم إن أحلَّه الله بهم، ولا نفعًا يجلبه إليهم إن لم يقضه الله لهم. يقول تعالى ذكره: فكيف يكون ربًّا وإلهًا من كانت هذه صفته؟ بل الربُّ المعبودُ: الذي بيده كل شيء، والقادر على كل شيء. فإياه فاعبدوا وأخلصوا له العبادة، دون غيره من العجزة الذين لا ينفعونكم ولا يضرون. وأما قوله: « والله هو السميع العليم » فإنه يعني تعالى ذكره بذلك: « والله هو السميع » ، لاستغفارهم لو استغفروه من قِيلهم ما أخبر عنهم أنهم يقولونه في المسيح، ولغير ذلك من منطقهم ومنطق خلقه « العليم » ، بتوبتهم لو تابوا منه، وبغير ذلك من أمورهم. القول في تأويل قوله : قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ( 77 ) قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى ذكره: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح « يا أهل الكتاب » ، يعني بـ « الكتاب » ، الإنجيل « لا تغلوا في دينكم » ، يقول: لا تفرِطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحقَّ إلى الباطل، فتقولوا فيه: « هو الله » ، أو: « هو ابنه » ، ولكن قولوا: « هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه » « ولا تتبعوا أهواءَ قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا » ، يقول: ولا تتبعوا أيضًا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه، فتقولون فيه كما قالوا: « هو لغير رَشْدة » ، وتبهتوا أمَّه كما بَهَتُوها بالفرية وهي صدِّيقة « وأضلوا كثيرًا » ، يقول تعالى ذكره: وأضل هؤلاء اليهود كثيرًا من الناس، فحادوا بهم عن طريق الحق، وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح « وضلوا عن سواء السبيل » ، يقول: وضلَّ هؤلاء اليهود عن قصد الطريق، وركبوا غير محجَّة الحق. وإنما يعني تعالى ذكره بذلك، كفرَهم بالله، وتكذيبَهم رسله: عيسى ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وذهابَهم عن الإيمان وبعدَهم منه. وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم الله به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « وضلوا عن سواء السبيل » ، قال: يهود. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا » ، فهم أولئك الذين ضلُّوا وأضلوا أتباعهم « وضلوا عن سواء السبيل » ، عن عَدْل السبيل. القول في تأويل قوله : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ( 78 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل لهؤلاء النصارى الذين وصفَ تعالى ذكره صفتهم: لا تغلوا فتقولوا في المسيح غير الحق، ولا تقولوا فيه ما قالت اليهود الذين قد لعنهم الله على لسان أنبيائه ورسله، داود وعيسى ابن مريم. وكان لعن الله إياهم على ألسنتهم، كالذي:- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم » قال: لعنوا بكل لسان: لعنوا على عهد موسى في التوراة، ولعنوا على عهد داود في الزبور، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على عهد محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم » ، يقول: لعنوا في الإنجيل على لسان عيسى ابن مريم، ولعنوا في الزبور على لسان داود. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم » ، قال: خالطوهم بعد النهي في تجاراتهم، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، فهم ملعونون على لسان داود وعيسى ابن مريم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن حصين، عن مجاهد: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم » ، قال: لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، ولُعنوا على لسان عيسى فصاروا خنازيرَ. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس، قوله: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل » ، بكل لسان لُعِنوا: على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإنجيل، ولعنوا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن قال ابن جريج: وقال آخرون: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود » ، على عهده، فلعنوا بدعوته. قال: مرَّ داود على نفر منهم وهم في بيت فقال: من في البيت؟ قالوا: خنازير. قال: « اللهم اجعلهم خنازير! » فكانوا خنازير. قال: ثم أصابتهم لعنته، ودعا عليهم عيسى فقال: « اللهم العن من افترى عليّ وعلى أمي، واجعلهم قردة خاسئين » ! حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل » الآية، لعنهم الله على لسان داود في زمانه، فجعلهم قردة خاسئين وفي الإنجيل على لسان عيسى، فجعلهم خنازير. حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا أبو محصن حصين بن نمير، عن حصين يعني: ابن عبد الرحمن، عن أبي مالك قال: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود » ، قال: مسخوا على لسان داود قردة، وعلى لسان عيسى خنازير. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك، مثله. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن العلاء بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن سالم الأفطس، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا، فإذا كان من الغدِ لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشَرِيبَه. فلما رأى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم « ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون » ، قال: والذي نفسي بيده، لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخُذُنَّ على يدي المسيء، ولتُؤَطِّرُنَّه على الحقّ أطْرًا، أو ليضربنَّ الله قلوب بعضكم على بعض، وليلعنَّنكم كما لعنهم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سَلمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما فشا المنكر في بني إسرائيل، جعل الرجل يلقَى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله! ثم لا يمنعه ذلك أن يؤاكله ويشاربه. فلما رأى الله ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض، ثم أنـزل فيهم كتابًا: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهَوْن عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون » . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُتَّكئًا، فجلس وقال: كلا والذى نفسي بيده، حتى تأطِرُوا الظالم على الحق أطْرًا . حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا المؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، أظنه عن مسروق، عن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما ظهر منهم المنكر، جعل الرجل يرى أخاه وجارَه وصاحبَه على المنكر، فينهاه، ثم لا يمنعه ذلك من أن يكون أكيله وشَرِيبَه ونديمه، فضرب الله قلوبَ بعضهم على بعض، ولعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم « ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون » ، إلى فَاسِقُونَ ، قال عبد الله: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا، فاستوى جالسًا، فغضب وقال: لا والله، حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطِرُوه على الحق أطرًا. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل لما وقع فيهم النقصُ، كان الرجل يرى أخاه على الرَّيْبِ فينهاه عنه، فإذا كان الغدُ، لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وشريبه وخليطه، فضرب الله قلوبَ بعضهم ببعض، ونـزل فيهم القرآن فقال: « لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم » حتى بلغ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس، وقال: لا حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق أطرًا. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال: أملاه عليَّ قال، حدثنا محمد بن أبي الوضاح، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، على علي بن بذيمة قال: سمعت أبا عبيدة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه غير أنهما قالا في حديثهما: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فاستوى جالسًا، ثم قال: كلا والذي نفسي بيده حتى تأخذوا على يَدَيِ الظالم فتأطروه على الحق أطرًا « . » حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم » ، قال فقال: لعنوا في الإنجيل وفي الزبور وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ رَحَى الإيمان قد دارت، فدُوروا مع القرآن حيث دار [ *فإنه... قد فرغ الله مما افترض فيه ] . [ وإن ابن مرح ] كان أمة من بني إسرائيل، كانوا أهل عدل، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأخذه قومهم فنشروهم بالمناشير، وصلبوهم على الخشب، وبقيت منهم بقية، فلم يرضوا حتى داخلوا الملوك وجالسوهم، ثم لم يرضوا حتى واكلوهم، فضرب الله تلك القلوب بعضها ببعض فجعلها واحدة. فذلك قول الله تعالى: « لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود » إلى: « ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون » ، ماذا كانت معصيتهم؟ قال: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ . فتأويل الكلام إذًا: لَعَن الله الذين كفروا من اليهود بالله على لسان داود وعيسى ابن مريم، ولُعن والله آباؤهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، بما عصوا الله فخالفوا أمره « وكانوا يعتدون » ، يقول: وكانوا يتجاوزون حدودَه. القول في تأويل قوله : كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 79 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كان هؤلاء اليهود الذين لعنهم الله « لا يتناهون » ، يقول: لا ينتهون عن منكر فعلوه، ولا ينهى بعضهم بعضًا. ويعني بـ « المنكر » ، المعاصي التي كانوا يعصون الله بها. فتأويل الكلام: كانوا لا ينتهون عن منكر أتوه « لبئس ما كانوا يفعلون » . وهذا قسم من الله تعالى ذكره يقول: أقسم: لبئس الفعل كانوا يفعلون، في تركهم الانتهاء عن معاصي الله تعالى ذكره، وركوب محارمه، وقتل أنبياء الله ورسله، كما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه » ، لا تتناهى أنفسهم بعد أن وقعوا في الكفر. القول في تأويل قوله : تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ( 80 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « ترى » ، يا محمد، كثيرًا من بني إسرائيل « يتولون الذين كفروا » ، يقول: يتولون المشركين من عَبَدة الأوثان، ويعادون أولياء الله ورسله « لبئس ما قدمت لهم أنفسهم » ، يقول تعالى ذكره: أُقسم: لبئس الشيء الذي قدمت لهم أنفسهم أمامهم إلى معادهم في الآخرة « أنْ سخط الله عليهم » ، يقول: قدّمت لهم أنفسهم سخط الله عليهم بما فعلوا. و « أن » في قوله: « أنْ سخط الله عليهم » ، في موضع رفع، ترجمةً عن « ما » ، الذي في قوله: « لبئس ما » . « وفي العذاب هم خالدون » ، يقول: وفي عذاب الله يوم القيامة « هم خالدون » ، دائم مُقامهم ومُكثهم فيه. القول في تأويل قوله : وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 81 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو كان هؤلاء الذين يتولون الذين كفروا من بني إسرائيل « يؤمنون بالله والنبي » ، يقول: يصدِّقون الله ويقرُّون به ويوحِّدونه، ويصدقون نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأنه لله نبي مبعوث، ورسول مرسل « وما أنـزل إليه » ، يقول: ويقرُّون بما أنـزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله من آي الفرقان « ما اتخذوهم أولياء » ، يقول: ما اتخذوهم أصحابًا وأنصارًا من دون المؤمنين « ولكن كثيرًا منهم فاسقون » ، يقول: ولكن كثيرًا منهم أهل خروج عن طاعة الله إلى معصيته، وأهلُ استحلال لما حرَّم الله عليهم من القول والفعل. وكان مجاهد يقول في ذلك بما:- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: « ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنـزل إليه ما اتخذوهم أولياء » ، قال: المنافقون. القول في تأويل قوله : لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ( 82 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدّ صلى الله عليه وسلم: لتجدن، يا محمد، أشدَّ الناس عداوةً للذين صدَّقوك واتبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام « اليهودَ والذين أشركوا » ، يعني: عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا » ، يقول: ولتجدن أقربَ الناس مودةًّ ومحبة. و « المودة » « المفعلة » ، من قول الرجل: « ودِدْت كذا أودُّه وُدًّا، ووِدًّا، ووَدًّا ومودة » ، إذا أحببته. « للذين آمنوا » ، يقول: للذين صدّقوا الله ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم « الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون » ، عن قبول الحق واتباعه والإذعان به. وقيل: إن هذه الآية والتي بعدها نـزلت في نفرٍ قدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنها نـزلت في النجاشيّ ملك الحبشة وأصحابٍ له أسلموا معه. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف، عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشيّ وفدًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا. قال: فأنـزل الله تعالى فيهم: « لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا » ، إلى آخر الآية. قال: فرجعوا إلى النجاشيّ فأخبروه، فأسلم النجاشي، فلم يزل مسلمًا حتى مات. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ أخاكم النجاشيَّ قد مات، فصلُّوا عليه! فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والنجاشي ثَمَّ. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: « ولتجدن أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى » ، قال: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « ولتجدن أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى » ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفرَ بن أبي طالب، وابن مسعود وعثمان بن مظعون، في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة. فلما بلغ ذلك المشركين، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، ذُكر أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ، فقالوا، إنه خرج فينا رجل سفَّه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبيُّ! وإنه بعث إليك رهطًا ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: إن جاءوني نظرت فيما يقولون! فقدم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمُّوا بابَ النجاشي، فقالوا: استأذن لأولياء الله! فقال، ائذن لهم، فمرحبًا بأولياء الله! فلما دخلوا عليه سلَّموا، فقال له الرهط من المشركين: ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك؟ لم يحيوك بتحيَّتك التي تحيَّا بها! فقال لهم: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ فقالوا: إنا حيَّيناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة! قال لهم: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قال يقول: « هو عبد الله، وكلمةٌ من الله ألقاها إلى مريم، وروح منه » ، ويقول في مريم: « إنها العذراء البتول » . قال: فأخذ عودًا من الأرض فقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود! فكره المشركون قوله، وتغيَّرت وجوههم. قال لهم: هل تعرفون شيئًا مما أنـزل عليكم؟ قالوا: نعم! قال: اقرءوا! فقرءوا، وهنالك منهم قسيسون ورهبانٌ وسائرُ النصارى، فعرفت كلَّ ما قرأوا وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال الله تعالى ذكره: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول » الآية. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى » ، الآية. قال: بعث النجاشيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا من الحبشة، سبعة قسيسين وخمسة رهبانًا، ينظرون إليه ويسألونه. فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنـزل الله بَكَوْا وآمنوا، فأنـزل الله عليه فيهم: « وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، فآمنوا ثم رجعوا إلى النجاشيّ، فهاجر النجاشي معهم فمات في الطريق، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له. » حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء في قوله: « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى » الآية، هم ناس من الحبشة آمنوا، إذ جاءتهم مهاجِرَةُ المؤمنين. وقال آخرون: بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان، فلما بعث الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم آمنوا به. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا » ، فقرأ حتى بلغ: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعةٍ من الحق مما جاء به عيسى، يؤمنون به وينتهون إليه. فلما بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، صدَّقوا به وآمنوا به، وعرفوا الذي جاء به أنه الحق، فأثنى عليهم ما تسمعون. قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندي: أنّ الله تعالى وصف صفة قوم قالوا: « إنا نصارى » ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقربَ الناس وِدادًا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمِّ لنا أسماءهم. وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحابُ النجاشي ويجوز أن يكون أريد به قومٌ كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه. وأما قوله تعالى: « ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهبانًا » ، فإنه يقول: قَرُبت مودَّة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين، من أجل أنّ منهم قسيسين ورهبانًا. و « القسيسون » جمع « قسيس » . وقد يجمع « القسيس » ، « قسوسًا » ، لأن « القَسّ » و « القسيس » ، بمعنى واحد. وكان ابن زيد يقول في « القسيس » بما:- حدثنا يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « القسيس » ، عبَّادُهم. وأما الرهبان، فإنه يكون واحدًا وجمعًا. فأما إذا كان جمعًا، فإن واحدهم يكون « راهبًا » ، ويكون « الراهب » ، حينئذ « فاعلا » من قول القائل: « رَهب الله فلان » ، بمعنى خافه، « يرهبه رَهَبًا ورَهْبَا » ، ثم يجمع « الراهب » ، « رهبان » مثل « راكب » و « ركبان » ، و « فارس » و « فرسان » . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعًا قول الشاعر: رُهْبَــانُ مَــدْيَنَ لَـوْ رَأَوْكِ تَـنزلُوا والْعُصْـمُ مِـنْ شَـعَفِ الْعَقُـولِ الفَادِرِ وقد يكون « الرهبان » واحدًا. وإذا كان واحدًا كان جمعه « رهابين » مثل « قربان » و « قرابين » ، و « جُرْدان » . و « جرادين » . ويجوز جمعه أيضًا « رهابنة » إذا كان كذلك. ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر: لَـوْ عَـايَنَتْ رُهْبَـانَ دَيْـرٍ فـي الْقُلَلْ لانْحَــدَرَ الرُّهْبَــانُ يَمْشِـي وَنـزل واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا » . فقال بعضهم: عُني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم، واتَّبعوه على شريعته. ذكر من قال ذلك: 12321م - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن حصين، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا » ، قال: كانوا نَوَاتِيَّ في البحر يعني: ملاحين قال: فمر بهم عيسى ابن مريم، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه: قال: فذلك قوله: « قسيسين ورهبانًا » . وقال آخرون: بل عني بذلك، القوم الذين كان النجاشي بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم قال، حدثنا عنبسة، عمن حدثه، عن أبي صالح في قوله: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا » ، قال: ستة وستون، أو سبعة وستون، أو ثمان وستون، من الحبشة، كلهم صاحب صَوْمعة، عليهم ثيابُ الصوف. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا » ، قال: بعث النجاشيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم، فجعلوا يبكون، فقال: هم هؤلاء! حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا » ، قال: هم رُسُل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلا اختارهم الخيِّرَ فالخيِّرَ، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليهم: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ سورة يس: 1، 2 ] ، فبكوا وعرفوا الحق، فأنـزل الله فيهم: « ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون » ، وأنـزل فيهم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله: يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [ سورة القصص: 54 ] . قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهلَ اجتهاد في العبادة، وترهُّب في الديارات والصوامع، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحق إذا عرفوه، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبيّنوه، لأنهم أهل دين واجتهاد فيه، ونصيحة لأنفسهم في ذات الله، وليسوا كاليهود الذين قد دَرِبُوا بقتل الأنبياء والرسل، ومعاندة الله في أمره ونهيه، وتحريفِ تنـزيله الذي أنـزله في كتبه. القول في تأويل قوله : وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( 83 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا: إِنَّا نَصَارَى الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا ما أنـزل إليك من الكتاب يُتْلى « ترى أعينهم تفيض من الدمع » . و « فيض العين من الدمع » ، امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها، كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه، ومنه قول الأعشى: ففَـاضَتْ دُمُـوعِي, فَظَـلَّ الشُّـئُونُ: إمَّــا وَكِيفًــا, وَإِمَّــا انْحِــدَارَا وقوله: « مما عرفوا من الحق » ، يقول: فيض دموعهم، لمعرفتهم بأنّ الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنـزله إلى رسول الله حقٌّ، كما:- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ قال: بعث النجاشي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فبكوا. وكان منهم سبعة رهبانٍ وخمسة قسيسين أو: خمسة رهبان، وسبعة قسيسين فأنـزل الله فيهم: « وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع » ، إلى آخر الآية. حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عمر بن علي بن مقدّم قال، سمعت هشام بن عروة يحدث، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: نـزلت في النجاشي وأصحابه: « وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع » . حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله: « ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق » ، قال: ذلك في النجاشي. حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كانوا يُرَوْن أن هذه الآية أنـزلت في النجاشي: « وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع » . حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، قال ابن إسحاق: سألت الزهري عن الآيات: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الآية، وقوله: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [ سورة الفرقان: 63 ] . قال: ما زلت أسمع علماءنا يقولون: نـزلت في النجاشي وأصحابه. وأما قوله: « يقولون » ، فإنه لو كان بلفظ اسم، كان نصبًا على الحال، لأن معنى الكلام: وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قائلين: « ربنا آمنا » . ويعني بقوله تعالى ذكره: « يقولون ربنا آمنا » ، أنهم يقولون: يا ربنا، صدَّقنا لما سمعنا ما أنـزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك، وأقررنا به أنه من عندك، وأنه الحق لا شك فيه. وأما قوله: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، فإنه روي عن ابن عباس وغيره في تأويله، ما:- حدثنا به هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن نمير جميعًا، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « اكتبنا مع » الشاهدين « ، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. » حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، مع أمّة محمد صلى الله عليه وسلم. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، يعنون بـ « الشاهدين » ، محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّته. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، قال: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، إنهم شهدوا أنه قد بلَّغ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت. حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا يحيى بن زكريا قال، حدثني إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز غير أنه قال: وشهدوا للرسل أنهم قد بلَّغوا. قال أبو جعفر: فكأنّ متأوِّل هذا التأويل، قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ سورة البقرة: 143 ] . فذهب ابن عباس إلى أن « الشاهدين » ، هم « الشهداء » في قوله: لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا كان التأويل ذلك، كان معنى الكلام: « يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين » ، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك. ولو قال قائل: معنى ذلك: « فاكتبنا مع الشاهدين » ، الذين يشهدون أن ما أنـزلته إلى رسولك من الكتب حق كان صوابًا. لأن ذلك خاتمة قوله: « وإذا سمعوا ما أنـزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين » ، وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما سمعوا من كتاب الله، فتكون مسألتهم أيضا اللهَ أن يجعلهم ممن صحَّت عنده شهادتهم بذلك، ويُلْحقهم في الثوابِ والجزاء منازلَهُم. ومعنى « الكتاب » في هذا الموضع: الجَعْل. يقول: فاجعلنا مع الشاهدين، وأثبتنا معهم في عِدَادهم. القول في تأويل قوله : وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ( 84 ) قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء القوم الذين وصَف صفتهم في هذه الآيات، أنهم إذا سمعوا ما أنـزل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من كتابه، آمنوا به وصدّقوا كتاب الله، وقالوا: « ما لنا لا نؤمن بالله » ، يقول: لا نقرّ بوحدانية الله « وما جاءَنا من الحق » ، يقول: وما جاءنا من عند الله من كتابه وآي تنـزيله، ونحن نطمَعُ بإيماننا بذلك أن يدخلنا ربُّنا مع القوم الصالحين. يعني بـ « القوم الصالحين » ، المؤمنين بالله، المطيعين له، الذين استحقُّوا من الله الجنة بطاعتهم إياه. وإنما معنى ذلك: ونحن نطمعُ أن يدخلَنا ربُّنا مع أهل طاعته مداخلَهم من جنته يوم القيامة، ويلحق منازلَنا بمنازلهم، ودرجاتنا بدرجاتهم في جنَّاته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين » ، قال: « القومُ الصالحون » ، رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه. القول في تأويل قوله : فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ( 85 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فجزاهم الله بقولهم: « رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ » « جنات تجري من تحتها الأنهار » ، يعني: بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار « خالدين فيها » ، يقول: دائمًا فيها مكثهم، لا يخرجون منها ولا يحوَّلون عنها « وذلك جزاء المحسنين » ، يقول: وهذا الذي جَزَيتُ هؤلاء القائلين بما وصفتُ عنهم من قيلهم على ما قالوا، من الجنات التي هم فيها خالدون، جزاءُ كل محسنٍ في قِيله وفِعله. و « إحسان المحسن » في ذلك، أن يوحِّد الله توحيدًا خالصًا محضًا لا شرك فيه، ويقرّ بأنبياء الله وما جاءت به من عند الله من الكتب، ويؤدِّي فرائضَه، ويجتنب معاصيه. فذلك كمال إحسان المحسنين الذين قال الله تعالى ذكره: « جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها » . القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 86 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما الذين جَحَدوا توحيدَ الله، وأنكروا نبوّةَ محمد صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بآيات كتابه، فإن أولئك « أصحاب الجحيم » . يقول: هم سكّانها واللابثون فيها. و « الجحيم » : ما اشتدّ حرُّه من النار، وهو « الجَاحِم » « والجحيم » . القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( 87 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيُّهم صلى الله عليه وسلم أنه حق من عند الله « لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم » ، يعني بـ « الطيبات » ، اللذيذات التي تشتهيها النفوس، وتميل إليها القلوب، فتمنعوها إيّاها، كالذي فعله القسِّيسون والرُّهبان، فحرَّموا على أنفسِهم النساءَ والمطاعمَ الطيَّبة، والمشاربَ اللذيذة، وحَبس في الصَّوامع بعضُهم أنفسَهم، وساحَ في الأرض بعضهم. يقول تعالى ذكره: فلا تفعلوا أيُّها المؤمنون، كما فعل أولئك، ولا تعتدُوا حدَّ الله الذي حدَّ لكم فيما أحلَّ لكم وفيما حرم عليكم، فتجاوزوا حدَّه الذي حدَّه، فتخالفوا بذلك طاعته، فإن الله لا يحبُّ من اعتدى حدَّه الذي حدّه لخلقه، فيما أحل لهم وحرَّم عليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال، حدثنا عبثر أبو زبيد قال، حدثنا حصين، عن أبي مالك في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّبات ما أحل الله لكم » الآية، قال: عثمان بن مظعون وأناسٌ من المسلمين، حرَّموا عليهم النساءَ، وامتنعوا من الطَّعام الطيّب، وأراد بعضهم أن يقطع ذَكَره، فنـزلت هذه الآية. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني خالد الحذاء، عن عكرمة قال: كان أناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم همُّوا بالخصاء وتَرْك اللحم والنساء، فنـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيّباتِ ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين » . حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة: أن رجالا أرادوا كذا وكذا، وأرادوا كذا وكذا، وأن يختَصُوا، فنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلَّ الله لكم » إلى قوله: الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيِّبات ما أحل الله لكم » ، قال: كانوا حَرَّموا الطيِّب واللحمَ، فأنـزل الله تعالى هذا فيهم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا خالد، عن عكرمة: أن أناسًا قالوا: « لا نتزوَّج، ولا نأكل، ولا نفعل كذا وكذا » ! فأنـزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيِّبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين » . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: أراد أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفُضُوا الدنيا، ويتركوا النساء، ويترهَّبوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فغَلَّظ فيهم المقالة، ثم قال: إنما هَلَك من كان قبلكم بالتشديد، شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فأولئك بقايَاهم في الدِّيار والصوامع! اعبدُوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وحجُّوا، واعتمروا، واستقيموا يَسْتَقِم لكم. قال: ونـزلت فيهم: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم » ، الآية. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: « لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم » ، قال: نـزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أرادوا أن يتخلَّوا من الدُّنيا، ويتركوا النساء ويتزهدوا، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا آمرُكم أن تكونُوا قسِّيسين ورهبانًا « . » حدثنا بشر بن مُعاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة في قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » ، الآية، ذكر لنا أنّ رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رَفَضوا النساء واللحم، وأرادوا أن يتّخذوا الصوامع. فلما بلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس في ديني تركُ النساء واللحم، ولا اتِّخاذُ الصوامع وخُبِّرنا أن ثلاثة نفرٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اتَّفقوا، فقال أحدهم: أمَّا أنا فأقوم الليل لا أنام! وقال أحدهم: أمَّا أنا فأصوم النهار فلا أفطر! وقال الآخر: أما أنا فلا آتي النساء! فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ألم أُنَبَّأْ أنكم اتّفقتم على كذا؟ قالوا: بلى! يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير! قال: لكني أقومُ وأنامَ، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس منِّي وكان في بعض القراءة: ( من رغب عن سنتك فليس من أمتك وقد ضل عن سواء السبيل ) . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأناسٍ من أصحابه: إن مَنْ قبلكم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فهؤلاء إخوانهم في الدُّورِ والصوامع! اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وحُجُّوا واعتمروا، واستقيموا يستقم لكم. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين » ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس، ثم قام ولم يزدهم على التَّخويف. فقال أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عشرة، منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون: ما خِفْنا إن لم نُحْدِث عملا! فإنّ النصارى قد حرَّموا على أنفسهم، فنحن نحرِّم! فحرَّم بعضهم أكل اللَّحم والوَدَك، وأن يأكل بالنهار، وحرَّم بعضهم النوم، وحرَّم بعضهم النساء. فكان عثمان بن مظعون ممَّن حرم النساءَ، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه. فأتت امرأتُه عائشةَ، وكان يقال لها: « الحولاء » ، فقالت لها عائشة ومن عندها من نساءِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما بالُك، يا حولاءُ متغيِّرةَ اللون لا تمتشِطين ولا تطيَّبين؟ فقالت: وكيف أتطيَّب وأمتشط، وما وقع عليّ زوجي، ولا رفع عني ثوبًا، منذ كذا وكذا! فجعلن يَضحكن من كلامها. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنّ يضحكن، فقال: ما يضحككن؟ قالت: يا رسول الله، الحولاءُ، سألتها عن أمرها فقالت: « ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا » ! فأرسل إليه فدعاه فقال: ما بالك يا عثمان؟ قال: إني تركته لله لكي أتخلَّى للعبادة! وقَصَّ عليه أمره. وكان عثمان قد أراد أن يَجُبَّ نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقسمتُ عليك إلا رجعت فواقعتَ أهلك! فقال: يا رسول الله إني صائم! قال: أفطر! فأفطر، وأتى أهله. فرجعت الحولاءُ إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيَّبت. فضحكت عائشة، فقالت: ما بالك يا حولاء؟ فقالت: إنه أتاها أمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالُ أقوامٍ حرَّموا النساء، والطعامَ، والنومَ؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني! فنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا » ، يقول لعثمان: لا تَجُبَّ نفسك. فإن هذا هو الاعتداء وأمرهم أن يكفِّروا أيْمانهم، فقال: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » ، قال: هم رهطٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: نقطَعُ مذاكيرَنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان! فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأرسل، إليهم، فذكر ذلك لهم فقالوا: نعم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكنيّ أصوم وأفطر، وأصلِّي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مِني. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » ، وذلك أن رجالا من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، منهم عثمان بن مظعون، حرَّموا النساء واللحمَ على أنفسهم، وأخذوا الشِّفَار ليقطعوا مذاكيرهم، لكي تنقطع الشهوة ويتفرَّغوا لعبادة ربهم. فأخبر بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما أردتم؟ فقالوا: أردنا أن تنقطع الشهوة عنا، ونتفرغ لعبادة ربنا، ونلهو عن النساء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أومر بذلك، ولكني أمرت في ديني أن أتزوَّج النساء! فقالوا، نطيعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنـزل الله تعالى ذكره: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين » ، إلى قوله: الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ . حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أراد رجالٌ، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو، أن يتبتَّلوا، ويخصُوا أنفسهم، ويلبسوا المُسُوح، فنـزلت هذه الآية إلى قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ قال ابن جريج، عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالمًا مولى أبي حذيفة في أصحابٍ، تبتَّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزَلوا النساءَ، ولبسوا المسوحَ، وحرَّموا طيبات الطعام واللِّباس إلا ما أكل ولبس أهل السِّيَاحة من بني إسرائيل، وهمُّوا بالإخصَاء، وأجمعُوا لقيام الليلِ وصيام النهار، فنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين » ، يقول: لا تَسِيروا بغير سُنّة المسلمين، يريد: ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من صيام النهار وقيامِ الليل، وما همُّوا به من الإخصاء. فلما نـزلت فيهم، بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ لأنفسكم حقًّا، وإنَّ لأعيُنِكم حقًّا! صوموا وأفطروا، وصلّوا وناموا، فليس منا من ترك سُنَّتنا! فقالوا: اللهم أسلمنا واتَّبعنا ما أنـزلت! حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » ، قال، قال أبي: ضَافَ عبدَ الله بن رواحة ضيفٌ، فانقلبَ ابن رواحة ولم يتعشَّ، فقال لأهله: ما عَشَّيْتِه؟ فقالت: كان الطعام قليلا فانتظرت أن تأتي! قال: فحبستِ ضيفي من أجلي! فطعامُك عليَّ حرام إن ذُقْته! فقالت هي: وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذقه! وقال الضيف: هو عليَّ حرام إن ذقتُه إن لم تذُوقوه! فلما رأى ذلك قال ابن رواحة: قرِّبي طعامَكِ، كلوا بسم الله! وغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أحسنتَ! فنـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحلَّ الله لكم » ، وقرأ حتى بلغ: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، إذا قلت: « والله لا أذوقه » ، فذلك العقد. حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سَعْد قال، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس: أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنيّ إذا أصبتُ من اللحم انتشرتُ، وأخذتني شهوتي، فحرَّمت اللحم؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدُوا إن الله لا يحبُّ المعتدين » . حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة قال: هَمَّ أناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك النساء والخِصَاء، فأنـزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم » الآية. واختلفوا في معنى « الاعتداء » الذي قال تعالى ذكره: « ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبُّ المعتدين » . فقال بعضهم: « الاعتداء » الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: هو ما كان عثمان بن مظعون همَّ به من جَبِّ نفسه، فنهى عن ذلك، وقيل له: « هذا هو الاعتداء » . وممن قال ذلك السدي. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عنه. وقال آخرون: بل ذلك هو ما كان الجماعةُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَمُّوا به من تحريمِ النساء والطعام واللباس والنوم، فنهوا أن يفعلوا ذلك، وأن يستَنَّوا بغير سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم. وممن قال ذلك عكرمة. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عنه. وقال بعضهم: بل ذلك نهيٌ من الله تعالى ذكره أن يتجاوَزَ الحلالَ إلى الحرام. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن عاصم، عن الحسن: « يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا » ، قال: لا تعتدوا إلى ما حُرِّم عليكم. وقد بينا أن معنى « الاعتداء » ، تجاوز المرءِ ماله إلى ما ليس له في كل شيء، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. قال أبو جعفر: وإذ كان ذلك كذلك وكان الله تعالى ذكره قد عمَّ بقوله: « لا تعتدوا » ، النهيَ عن العدوان كُلّه كان الواجبُ أن يكون محكومًا لما عمَّه بالعُموم حتى يخصَّه ما يجب التسليم له. وليس لأحدٍ أن يتعدَّى حدَّ الله تعالى في شي من الأشياء مما أحلَّ أو حرَّم، فمن تعدَّاه فهو داخل في جملة من قال تعالى ذكره: « إن الله لا يحب المعتدين » . وغير مستحيل أن تكون الآية نـزلت في أمر عثمان بن مظعون والرهطِ الذين همُّوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلّ الله لهم على أنفسهم، ويكون مرادًا بحكمها كلُّ من كان في مثل مَعْناهم ممَّن حرّم على نفسه ما أحلَّ الله له، أو أحلَّ ما حرّم الله عليه، أو تجاوز حدًّا حدَّه الله له. وذلك أن الذين همُّوا بما همُّوا به من تحريم بعض ما أحلَّ لهم على أنفسهم، إنما عوتبوا على ما همُّوا به من تجاوزهم ما سَنَّ لهم وحدَّ، إلى غيره. القول في تأويل قوله : وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 88 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، لهؤلاء المؤمنين الذين نهَاهم أن يحرِّموا طيبات ما أحلّ الله لهم: كُلوا، أيها المؤمنون، من رزق الله الذي رَزقكم وأحله لكم، حلالا طيِّبًا، كما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: « وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبًا » يعني: ما أحل الله لهم من الطعام. وأما قوله: « واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون » ، فإنه يقول: وخافوا، أيها المؤمنون، أن تعتدوا في حدوده، فتُحلُّوا ما حُرِّم عليكم، وتُحرِّموا ما أحِلَّ لكم، واحذروه في ذلك أن تخالفوه، فينـزل بكم سَخَطُه، أو تستوجبوا به عقوبته « الذي أنتم به مؤمنون » ، يقول: الذي أنتم بوحدانيّته مقرُّون، وبربُوبيته مصدِّقون. القول في تأويل قوله : لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، للذين كانوا حرَّموا على أنفسهم الطيّبات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا حرَّموا ذلك بأيمانٍ حَلَفوا بها، فنهاهم عن تحريمها وقال لهم: لا يُؤَاخذكم ربُّكم باللغو في أيمانكم، كما:- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، لما نـزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ، في القوم الذين كانوا حرَّموا النساء واللحمَ على أنفسهم، قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلَفنا عليها؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم » ، الآية. فهذا يدلُّ على ما قلنا، من أن القوم كانوا حرَّموا ما حرَّموا على أنفسهم بأيمان حَلَفُوا بها، فنـزلت هذه الآية بسبَبهم. واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز وبعض البصريين: ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ ) بتشديد « القاف » ، بمعنى: وكّدتم الأيمانَ ورَدَّدتموها. وقرأه قَرَأةُ الكوفيين: ( بِمَا عَقَدْتُمُ الأيْمَانَ ) بتخفيف « القاف » ، بمعنى: أوجبتموها على أنفسكم، وعَزَمتْ عليها قلوبكم. قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ بتخفيف « القاف » . وذلك أن العرب لا تكاد تستعمل « فعَّلت » في الكلام، إلا فيما يكون فيه تردُّدٌ مرة بعد مرةٍ، مثل قولهم: « شدَّدت على فلان في كذا » ، إذا كُرِّر عليه الشدّة مرة بعد أخرى. فإذا أرادوا الخبر عن فعلِ مرّة واحدةٍ قيل: « شَدَدت عليه » ، بالتخفيف. وقد أجمع الجميع لا خِلافَ بينهم: أن اليمين التي تجب بالحِنْث فيها الكفارة، تلزم بالحنث في حلف مرة واحدة، وإن لم يكرّرها الحالف مرات. وكان معلومًا بذلك أنّ الله مؤاخذٌ الحالفَ العاقدَ قلبَه على حلفه، وإن لم يكرِّره ولم يردِّدْه. وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن لتشديد « القاف » من « عقّدتم » ، وجه مفهومٌ. فتأويل الكلام إذًا: لا يؤاخذكم الله، أيها المؤمنون، من أيمانكم بما لغوتم فيه، ولكن يؤاخذكم بما أوجبتموه على أنفسكم منها، وعَقَدَت عليه قلوبكم. وقد بينا اليمين التي هي « لغو » والتي اللهُ مؤاخذٌ العبدَ بها، والتي فيها الحِنْث، والتي لا حنث فيها فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادة ذلك في هذا الموضع. وأما قوله: « بما عقدتم الأيمان » ، فإن هنادًا: حدثنا قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان » ، قال: بما تعمدتم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: « ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان » ، يقول: ما تعمَّدت فيه المأثَم، فعليك فيه الكفارة. القول في تأويل قوله : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « الهاء » التي في قوله: « فكفارته » ، على ما هي عائدة، ومن ذكر ما؟ فقال بعضهم: هي عائدة على « ما » التي في قوله: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن في هذه الآية لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: هو أن تحلف على الشيء وأنت يخيَّل إليك أنه كما حلفت وليس كذلك، فلا يؤاخذكم الله، فلا كفارة. ولكن المؤاخذة والكفارة، فيما حلفتَ عليه على علمٍ. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مغيرة، عن الشعبي قال: اللغو ليس فيه كفارة وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، قال: ما عُقِدت فيه يمينه، فعليه الكفارة. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك قال: الأيمان ثلاثٌ: يمين تكفّر، ويمين لا تُكَفَّر، ويمين لا يؤاخذ بها صاحُبها. فأما اليمين التي تكفَّر، فالرجل يحلِف على الأمر لا يفعله، ثم يفعله، فعليه الكفارة. وأما اليمين التي لا تكفّر: فالرجل يحلف على الأمر يتعمّد فيه الكذِبَ، فليس فيه كفارة. وأما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على الأمر يَرَى أنه كما حلَف عليه، فلا يكون كذلك، فليس عليه فيه كفارة. وهو « اللغو » . حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قال: قالت عائشة: لغوُ اليمين، ما لم يعقد عليه الحالِفُ قلبه. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم قال: ليس في لغو اليمين كفّارة. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أن عروة حدّثه: أن عائشة قالت: أيمانُ الكفارة، كلّ يمين حلف فيها الرجل على جدٍّ من الأمور في غضب أو غيره: « ليفعلن، ليتركنّ » ، فذلك عقد الأيمان التي فَرض الله فيها الكفارة، وقال تعالى ذكره: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية بن صالح، عن يحيى بن سعيد، وعن علي بن أبي طلحة قالا ليس في لغو اليمين كفارة. حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، يقول: ما تعمدتَ فيه المأثم، فعليك فيه الكفارة. قال، وقال قتادة: أمّا اللغو، فلا كفارة فيه. حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: لا كفارة في لغو اليمين. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو العنقزيّ، عن أسباط، عن السدي: ليس في لغو اليمين كفارة. قال أبو جعفر: فمعنى الكلام على هذا التأويل: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، فكفارة ما عقدتم منها إطعامُ عَشَرة مساكين. وقال آخرون: « الهاء » في قوله: « فكفارته » ، عائدة على « اللغو » ، وهي كناية عنه. قالوا: وإنما معنى الكلام: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم إذا كفَّرتموه، ولكن يؤاخذكم إذا عقدتم الأيمان فأقمتم على المضيّ عليه بترك الحِنْث والكفارة فيه. والإقامةُ على المضيّ عليه، غير جائزةٍ لكم. فكفارةُ اللغو منها إذا حنثتم فيه، إطعامُ عشرة مساكين. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، فهو الرجل يحلف على أمرِ ضِرارٍ أن يفعلَه فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفّرَ عن يمينه ويأتي هو خير وقال مرة أخرى: قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ إلى قوله: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، قال: واللغو من الأيمان، هي التي تُكفّر، لا يؤاخذ الله بها. ولكن من أقام على تحريم ما أحلّ الله له، ولم يتحوَّل عنه، ولم يكفِّر عن يمينه، فتلك التي يُؤْخَذ بها. حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: هو الذي يحلف على المعصية فلا يفي، فيكفِّر. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: هو الرجل يحلف على المعصية فلا يؤاخذه الله تعالى ذكره، يكفّر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، الرجل يحلف على المعصية ثم يقيم عليها، فكفارته إطعام عشرة مساكين. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير، قال في لغو اليمين: هي اليمين في المعصية، فقال: أولا تقرأ فتفهم؟ قال: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ . قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء، ولكن يؤاخذه بالتَّمَام عليها، قال وقال: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ [ سورة البقرة: 224 ] . حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: وكيف يصنع؟ قال: يكفر يمينه ويترك المعصية. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: « اللغو » ، يمين لا يؤاخذ بها صاحبها، وفيها كفارة. حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، قال: اليمين المكفَّرة. قال أبو جعفر: والذي هو أولى عندي بالصواب في ذلك، أن تكون « الهاء » في قوله: « فكفارته » عائدة على « ما » التي في قوله: بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ ، لما قدَّمنا فيما مضى قبل أنّ من لزمته في يمينه كفّارة وأُوخذ بها، غيرُ جائز أن يقال لمن قد أوخذ: « لا يؤاخذه الله باللغو » . وفي قوله تعالى: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، دليلٌ واضح أنه لا يكون مؤاخذًا بوجه من الوجوه، مَنْ أخبرنا تعالى ذكره أنه غيرُ مؤاخذه. فإن ظنّ ظان أنه إنما عنى تعالى ذكره بقوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، بالعقوبة عليها في الآخرة إذا حنثْتُم وكفَّرتم إلا أنه لا يؤاخذهم بها في الدنيا بتكفير فإن إخبار الله تعالى ذكره وأمرَه ونهيَه في كتابه، على الظاهر العامّ عندنا بما قد دللنا على صحّة القول به في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته دون الباطن العامِّ الذي لا دلالة على خصوصه في عقل ولا خبر. ولا دلالة من عقل ولا خبرٍ أنه عنى تعالى ذكره بقوله: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ، بعضَ معاني المؤاخذة دون جميعها. وإذ كان ذلك كذلك، وكان من لزمته كفّارة في يمينٍ حنث فيها مؤاخذًا بها بعقوبة في ماله عاجلة، كان معلومًا أنه غيرُ الذي أخبرنا تعالى ذكره أنه لا يؤاخذه بها. وإذْ كان الصحيح من التأويل في ذلك ما قلنا بالذي عليه دللنا، فمعنى الكلام إذًا: لا يؤاخذكم الله أيها الناس، بلغوٍ من القول والأيمان، إذا لم تتعمدوا بها معصية الله تعالى ذكره ولا خلافَ أمره، ولم تقصدوا بها إثمًا، ولكن يؤاخذكم بما تعمَّدتم به الإثم، وأوجبتموه على أنفسكم، وعزمتْ عليه قلوبكم، ويكفر ذلك عنكم، فيغطِّي على سيِّئ ما كان منكم من كذبٍ وزُور قولٍ، ويمحوه عنكم فلا يتبعكم به ربكم « إطعامُ عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم » . القول في تأويل قوله : مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، من أعدله، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن جريج قال سمعت عطاء يقول في هذه الآية: « من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم » ، قال عطاء: « أوسطه » ، أعدله. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » . فقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يُطْعِم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهلُ بلد المكفّر، أهاليهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، أخبرنا شريك، عن عبد الله بن حنش، عن الأسود قال: سألته عن: « أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: الخبز، والتمر، والزيت، والسمن، وأفضلُه اللحم. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد عن ذلك فقال: الخبز والتمر زاد هناد في حديثه، والزيت. قال: وأحسبه، الخلّ. حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو الأحوص، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن ابن عمر في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: من أوسط ما يطعم أهلَه: الخبزَ والتمرَ، والخبز والسمن، والخبزَ والزيت. ومن أفضل ما تُطْعمهم: الخبزَ واللحم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن ابن سيرين، عن ابن عمر: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، الخبزَ واللحم، والخبز والسمن، والخبز والجبن، والخبز والخلَّ. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن حنش، قال: سألت الأسود بن يزيد عن « أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: الخبز والتمر. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الله بن حنش قال: سألت الأسود بن يزيد، فذكر مثله. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سعيد بن عبد الرحمن، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: الخبز والسمن. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سعيد بن عبد الرحمن، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن ذلك، فذكر مثله. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أزهر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، الخبز والسمن. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين قال: كانوا يقولون: أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسُّه الخبز والتمر. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن الربيع، عن الحسن قال: خبز ولحم، أو خبز وسمن، أو خبز ولبن. حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عمر بن هارون، عن أبي مصلح، عن الضحاك في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: الخبز واللحم والمرَقَة. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن يحيى بن حَيّان الطائي قال: كنت عند شُريح، فأتاه رجل فقال: إني حلفت على يمين فأثِمْتُ؟ قال شريح: ما حملك على ذلك؟ قال: قُدِّر عليّ، فما أوسط ما أطعم أهلي؟ قال له شريح: الخبز والزيت، والخل طيّبٌ. قال: فأعاد عليه، فقال له شريح ذلك ثلاث مرارٍ، لا يزيده شريح على ذلك. فقال له: أرأيت إن أطعمت الخبزَ واللحم؟ قال: ذاك أرفعُ طعام أهلِك وطعامِ الناس. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال، في كفارة اليمين: يغدِّيهم ويعشيهم خبزًا وزيتًا، أو خبزًا وسمنًا. أو خلا وزيتًا. حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة، عن زبرقان، عن أبي رزين: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، خبز وزيت وخلّ. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام بن محمد قال: أكلة واحدة، خبز ولحم. قال: وهو « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، وإنكم لتأكلون الخَبِيص والفاكهة. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة عن هشام، عن الحسن قال في كفارة اليمين: يجزيك أن تطعم عَشَرة مساكين أكلة واحدة، خبزًا ولحمًا. فإن لم تجد، فخبزًا وسمنًا ولبنًا. فإن لم تجد، فخبزًا وخلا وزيتًا حتى يشبعوا. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن زبرقان قال: سألت أبا رزين عن كفارة اليمين ما يطعم؟ قال: خبزًا وخلا وزيتًا: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، وذلك قدر قوتهم يومًا واحدًا. ثم اختلف قائلو ذلك في مبلغه. فقال بعضهم: مبلغ ذلك، نصفُ صاع من حنطة، أو صاعٌ من سائر الحبوب غيرها. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن أبيه، عن إبراهيم، عن عمر قال: إني أحلف على اليمين، ثم يبدو لي، فإذا رأيتَني قد فعلت ذلك، فأطعم عشرة مساكين، لكل مسكين مُدَّين من حنطة . حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ويعلى، عن الأعمش، عن شقيق، عن يسار بن نمير قال قال عمر: إنيّ أحلف أن لا أعطى أقوامًا، ثم يبدو لي أن أعطيَهم. فإذا رأيتَني فعلتُ ذلك، فأطعم عني عشَرة مساكين، بين كل مسكينين صاعًا من برٍّ، أو صاعًا من تمر. حدثنا هناد ومحمد بن العلاء قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن ابن أبي ليلى، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي قال: كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من حنطة. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، نصف صاع برّ كلّ مسكين. حدثنا هناد قال، حدثنا حفص، عن عبد الكريم الجزري قال: قلت لسعيد بن جبير: أجمعُهم؟ قال: لا أعطهم مدّين مدَّين من حنطة، مدًّا لطعامه، ومدًَّا لإدامه. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن عبد الكريم الجزري، قال: قلت لسعيد، فذكر نحوه. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو زبيد، عن حصين قال: سألت الشعبي عن كفارة اليمين فقال: مَكُّوكين، مكوكًا لطعامه، ومكوكًا لإدامه. حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا هشام، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لكل مسكين مُدَّين. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: لكل مسكين مدّين من برّ في كفارة اليمين. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: مدَّان من طعام لكل مسكين. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا سعيد بن يزيد أبو مسلمة قال: سألت جابر بن زيد عن إطعام المسكين في كفارة اليمين، فقال: أكلة. قلت: فإن الحسن يقول: مكُّوك برّ ومكوك تمر، فما ترى في مكُّوك بر؟ فقال: إن مكوك برّ!! قال يعقوب قال، ابن علية: وقال أبو مسلمة بيده، كأنه يراه حسنًا، وقلب أبو بشر يده. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن: أنه كان يقول في كفارة اليمين: فيما وجب فيه الطعام، مكُّوك تمر ومكوك برّ لكل مسكين. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن قال، قال: إن جمعهم أشبعهم إشباعةً واحدة. وإن أعطاهم، أعطاهم مكُّوكًا مكوكًا. حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس قال: كان الحسن يقول: وحسبه، فإن أعطاهم في أيديهم، فمكوك بر ومكوك تمر. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك في كفارة اليمين: نصف صاع لكل مسكين. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن أبيه، عن الحكم، في قوله: « إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: طعام نصف صاع لكل مسكين. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: « أوسط ما تطعمون أهليكم » ، نصف صاع. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، قال: الطعام، لكل مسكين نصف صاع من تمر أو برٍّ. وقال آخرون: بل مبلغ ذلك من كل شيء من الحبوب، مُدٌّ واحد. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن زيد بن ثابت أنه قال في كفارة اليمين: مدٌّ من حنطة لكل مسكين. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال في كفارة اليمين: مدٌّ من حنطة لكل مسكين، رُبْعُه إدامُه. حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، نحوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، لكل مسكين مُدٌّ. حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع قال، حدثنا العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: مدٌّ من حنطة لكل مسكين. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يكفّر اليمين بعشرة أمداد، بالمُدّ الأصغر. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن القاسم وسالم في كفارة اليمين، ما يطعم؟ قالا مدٌّ لكل مسكين. حدثنا هناد، قال، حدثنا أبو الأحوص، عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار قال: كان الناس إذا كفَّر أحدهم، كفَّر بعشرة أمداد بالمدّ الأصغر. حدثنا هناد، قال، حدثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، قال: عشرة أمداد لعشرة مساكين. حدثنا بشر، قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: « إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: كان يقال: البرُّ والتمر، لكل مسكين مد من تمر، ومدّ من برّ. حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن مالك بن مغول، عن عطاء، قال: مد لكل مسكين. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: من أوسط ما تعُولونهم. قال: وكان المسلمون رأوا أوسط ذلك: مدًّا بمدِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنطة. قال ابن زيد: هو الوسط مما يقوت به أهله، ليس بأدناه ولا بأرفعه. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: مدٌّ. وقال آخرون: بل ذلك غَداء وعشاء. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال، في كفارة اليمين: يغدِّيهم ويعشيهم. حدثنا هناد، قال، حدثنا عمر بن هارون، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي في كفارة اليمين قال: غداء وعشاء. حدثنا هناد، قال، حدثنا وكيع وحدثنا أبن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن يونس، عن الحسن قال: يغديهم ويعشيهم. وقال آخرون: إنما عنى بقوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، من أوسط ما يطعم المكفِّر أهله. قال: إن كان ممن يشبع أهله، أشبع المساكين العشرة. وإن كان ممن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك، أطعم المساكين على قدر ما يفعلُ من ذلك بأهله في عسره ويُسره. ذكر من قال ذلك: حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبع المساكين، وإلا فعلى ما تطعم أهلك بقَدَره. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: « فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، وهو أن تطعم كل مسكين من نحو ما تطعم أهلَك من الشبع، أو نصفَ صاع من برّ. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس، قال: مِن عسرهم ويُسرهم. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: من عسرهم ويُسرهم. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن سليمان بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: قوتهم. حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن سليمان العبسي، عن سعيد بن جبير في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: قوتهم. حدثنا أبو حميد قال، حدثنا حكام بن سلم قال، حدثنا عنبسة، عن سليمان بن عبيد العبسي، عن سعيد بن جبير في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: كانوا يفضلون الحرَّ على العبد، والكبير على الصغير، فنـزلت: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » . حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال، كانوا يطعمون الكبير ما لا يطعمون الصغير، ويطعمون الحرّ ما لا يطعمون العبد، فقال، « من أوسط ما تطعمون أهليكم » . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: إن كنت تشبع أهلك فأشبعهم. وإن كنت لا تشبعهم، فعلى قدر ذلك. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيبان النحوي، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، قال: من عسرهم ويسرهم. حدثنا يونس قال، حدثنا سفيان، عن سليمان، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: كان الرجل يقوت بعض أهله قوتًا دونًا وبعضهم قوتًا فيه سعة، فقال الله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، الخبز والزيت. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » عندنا، قول من قال: « من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلَّة والكثرة » . وذلك أن أحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات كلِّها بذلك وردت. وذلك كحكمه صلى الله عليه وسلم في كفارة الحلق من الأذى بفَرَق من طعام بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع وكحكمه في كفارة الوطء في شهر رمضان بخمسة عشر صاعًا بين ستين مسكينًا، لكل مسكين ربُعْ صاع. ولا يُعْرف له صلى الله عليه وسلم شيء من الكفارات، أمر بإطعام خبز وإدام، ولا بغداء وعشاء. فإذْ كان ذلك كذلك، وكانت كفارة اليمين إحدى الكفارات التي تلزم من لزمته، كان سبيلُها سبيلَ ما تولَّى الحكم فيه صلى الله عليه وسلم: من أن الواجب على مكفِّرها من الطعام، مقدّرًا للمساكين العشرة محدودًا بكيل، دون جمعهم على غداء أو عشاء مخبوز مأدوم، إذ كانت سنته صلى الله عليه وسلم في سائر الكفارات كذلك. فإذ كان صحيحًا ما قلنا بما به استشهدنا، فبيِّنٌ أن تأويل الكلام: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أعدل إطعامكم أهليكم وأن « ما » التي في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، بمعنى المصدر، لا بمعنى الأسماء. وإذا كان ذلك كذلك، فأعدل أقوات الموسِّع على أهله مُدَّان، وذلك نصف صاع في رُبعه إدامه، وذلك أعلى ما حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم في كفارة في إطعام مساكين. وأعدلُ أقوات المقتِّر على أهله، مُدٌّ، وذلك ربع صاع، وهو أدنى ما حكم به في كفارة في إطعام مساكين. وأما الذين رأوا إطعام المساكين في كفارة اليمين، الخبزَ واللحمَ وما ذكرنا عنهم قبل، والذين رأوا أن يغدّوا أو يعشوا، والذين رأوا أن يغدوا ويعشوا، فإنهم ذهبوا إلى تأويل قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، من أوسط الطعام الذي تطعمونه أهليكم، فجعلوا « ما » التي في قوله: « من أوسط ما تطعمون أهليكم » ، اسمًا لا مصدرًا، فأوجبوا على المكفِّر إطعامَ المساكين من أعدل ما يُطعم أهله من الأغذية. وذلك مذهبٌ لولا ما ذكرنا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكفارات غيرها، التي يجب إلحاق أشكالها بها، وأن كفارة اليمين لها نظيرة وشبيهة يجب إلحاقها بها. القول في تأويل قوله : أَوْ كِسْوَتُهُمْ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فكفارة ما عقدتم من الأيمان: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم. يقول: إما أن تطعموهم أو تكسوهم. والخيار في ذلك إلى المكفِّر. واختلف أهل التأويل في « الكسوة » التي عنى الله تعالى ذكره بقوله: « أو كسوتهم » . فقال بعضهم: عنى بذلك: كسوة ثوب واحد. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في كسوة المساكين في كفارة اليمين: أدناه ثوبٌ. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أدناه ثوب، وأعلاه ما شئتَ. حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن الربيع، عن الحسن قال في كفارة اليمين في قوله: « أو كسوتهم » ، ثوبٌ لكل مسكين. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه: « أو كسوتهم » ، قال: ثوبٌ. حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير جميعًا، عن منصور، عن مجاهد في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب ثوب قال منصور: القميص، أو الرِّداء، أو الإزار. حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: كسوة الشتاء والصيف، ثوبٌ ثوبٌ. حدثنا هناد قال، حدثنا عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب ثوب لكل مسكين. حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: إذا كساهم ثوبًا ثوبًا أجزأ عنه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سنان، عن حماد قال: ثوب أو ثوبان، وثوب لا بدّ منه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: ثوب ثوب لكل إنسان. وقد كانت العباءة تقضى يومئذ من الكسوة. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: « أو كسوتهم » ، قال: « الكسوة » ، عباءة لكل مسكين، أو شِمْلة. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قال: ثوب، أو قميصٌ، أو رداء، أو إزار. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن اختار صاحبُ اليمين الكسوة، كسا عشرة أناسيَّ، كل إنسان عباءة. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن جريج قال، سمعت عطاء يقول في قوله: « أو كسوتهم » ، الكسوة: ثوبٌ ثوبٌ. وقال بعضهم: عنى بذلك: الكسوةَ ثوبين ثوبين. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية جميعًا، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: عباءة وعمامة. حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال: عمامة يلفُّ بها رأسه، وعباءة يلتحف بها. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، عن أشعث، عن الحسن وابن سيرين قالا ثوبين ثوبين. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن قال: ثوبين. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن، مثله. حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن يونس بن عبيد، عن الحسن قال: ثوبان ثوبان لكل مسكين. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، عن أبى موسى: أنه حلف على يمين، فكسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين. حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن سيرين: أن أبا موسى كسا ثوبين من مُعَقَّدة البحرين. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن محمد بن عبد الأعلى: أن أبا موسى الأشعري حلف على يمين، فرأى أن يكفِّر ففعل، وكسا عشرة ثوبين ثوبين. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن هشام، عن محمد: أن أبا موسى حلف على يمين فكفَّر، فكسا عشرة مساكين ثوبين ثوبين. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال: عباءة وعمامة لكل مسكين. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب: ( أو كَأُسْوَتِهِمْ ) ، فقال سعيد: لا إنما هي: « أو كسوتهم » ، قال قلت: يا أبا محمد، ما كسوتهم؟ قال: لكل مسكين عباءة وعمامة: عباءة يلتحف بها، وعمامة يشدّ بها رأسه. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: الكسوة، لكل مسكين رداء وإزار، كنحو ما يجد من الميسرة والفاقة. وقال آخرون: بل عنى بذلك كسوتهم « ثوب جامع » ، كالملحفة والكساء، والشيء الذي يصلح للّبس والنوم. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم قال: الكسوة ثوبٌ جامع. حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب جامع. قال وقال مغيرة: و « الثوب الجامع » : الملحفة أو الكساء أو نحوه، ولا نرى الدِّرع والقميصَ والخِمار ونحوه « جامعًا » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ثوب جامع. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ثوب جامع. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب جامع لكل مسكين. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان وشعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله: « أو كسوتهم » ، قال: ثوب جامع. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، مثله. وقال آخرون: عنى بذلك: كسوة إزار ورداء وقميص. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن بردة، عن رافع، عن ابن عمر قال في الكسوة: في الكفارة إزار ورداء وقميص. وقال آخرون: كل ما كسا فيجزئ، والآية على عمومها. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن ليث، عن مجاهد قال: يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان. حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أشعث، عن الحسن قال: يجزئ عمامة في كفارة اليمين. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أويس الصيرفي، عن أبي الهيثم، قال قال سلمان: نعم الثوبُ التُّبَّان. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني، عن الحكم قال: عمامة يلف بها رأسه. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة وأشبهها بتأويل القرآن، قولُ من قال: عنى بقوله: « أو كسوتهم » ، ما وقع عليه اسم كسوة، مما يكون ثوبًا فصاعدًا لأن ما دون الثوب، لا خلافَ بين جميع الحجة أنه ليس مما دخل في حكم الآية، فكان ما دون قدر ذلك، خارجًا من أن يكون الله تعالى عناه، بالنقل المستفيض. والثوبُ وما فوقه داخل في حكم الآية، إذ لم يأت من الله تعالى وحي، ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم خبر، ولم يكن من الأمة إجماع بأنه غير داخل في حكمها. وغير جائز إخراج ما كان ظاهرُ الآية محتملَه من حكم الآية، إلا بحجة يجب التسليم لها. ولا حجة بذلك. القول في تأويل قوله : أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو فكّ عبد من أسر العبودة وذلها. وأصل « التحرير » ، الفك من الأسر، ومنه قول الفرزدق بن غالب: أَبنِـي غُــدَانَةَ, إِنَّنِي حَــرَّرْتُكُمْ فَــوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّــةَ بْنِ جِعَـالِ يعني بقوله: « حرّرتكم » ، فككت رقابكم من ذلّ الهجاء ولزوم العار. وقيل: « تحرير رقبة » ، والمحرَّر ذو الرقبة، لأن العربَ كان من شأنها إذا أسرت أسيرًا أن تجمع يديه إلى عنقه بقِدٍ أو حبل أو غير ذلك، وإذا أطلقته من الأسر أطلقت يديه وحلَّتهما مما كانتا به مشدودتين إلى الرقبة. فجرى الكلام عند إطلاقهم الأسير، بالخبر عن فك يديه عن رقبته، وهم يريدون الخبرَ عن إطلاقه من أسره، كما يقال: « قبضَ فلان يده عن فلان » ، إذا أمسك يده عن نواله « وبسط فيه لسانه » ، إذا قال فيه سوءًا فيضافُ الفعل إلى الجارحة التي يكون بها ذلك الفعل دون فاعله، لاستعمال الناس ذلك بينهم، وعلمهم بمعنى ذلك. فكذلك ذلك في قول الله تعالى ذكره: « أو تحرير رقبة » ، أضيف « التحرير » إلى « الرقبة » ، وإن لم يكن هناك غُلٌّ في رقبته ولا شدُّ يَدٍ إليها، وكان المراد بالتحرير نفسَ العبد، بما وصفنا، من جَرّاء استعمال الناس ذلك بينهم لمعرفتهم بمعناه. فإن قال قائل: أفكلّ الرقاب معنيٌّ بذلك أو بعضه؟ قيل: بل معنيّ بذلك كل رقبة كانت سليمة من الإقعاد، والعمَى والخرس، وقطع اليدين أو شللهما والجنون المطبق، ونظائر ذلك. فإن من كان به ذلك أو شيء منه من الرقاب، فلا خلاف بين الجميع من الحجة أنه لا يجزئ في كفارة اليمين. فكان معلومًا بذلك أن الله تعالى ذكره لم يعنه بالتحرير في هذه الآية. فأما الصغير والكبير والمسلم والكافر، فإنهم معنيون به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد... قال، حدثنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول: من كانت عليه رقبة واجبة، فاشترى نَسَمة، قال: إذا أنقذها من عمل أجزأته، ولا يجوز عتق من لا يعمل. فأما الذي يعمل، كالأعور ونحوه. وأما الذي لا يعمل فلا يجزئ، الأعمى والمقعد. حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: كان يكره عتق المخَبَّل في شيء من الكفارات. حدثنا هناد قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان لا يرى عتقَ المغلوب على عقله يجزئ في شيء من الكفارات. وقال بعضهم: لا يجزئ في الكفارة من الرقاب إلا صحيح، ويجزئ الصغير فيها. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لا يجزئ في الرقبة إلا صحيح. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: يجزئ المولودُ في الإسلام من رقبة. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: ما كان في القرآن من رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، فلا يجزئ إلا ما صام وصلى. وما كان ليس بمؤمنة، فالصبي يجزئ. وقال بعضهم: لا يقال للمولود « رقبة » ، إلا بعد مدة تأتي عليه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن شعيب بن شابور، عن النعمان بن المنذر، عن سليمان قال: إذا ولد الصبي فهو نسمة، وإذا انقلبَ ظهرًا لبطن فهو رقبة، وإذا صلى فهو مؤمنة. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إن الله تعالى عمَّ بذكر « الرقبة » كل رقبة، فأيَّ رقبة حرّرها المكفر يمينَه في كفارته، فقد أدّى ما كُلِّف، إلا ما ذكرنا أن الحجة مجمعة على أن الله تعالى ذكره، لم يعنه بالتحرير، فذلك خارج من حكم الآية، وما عدا ذلك فجائز تحريرُه في الكفارة بظاهر التنـزيل. والمكفِّر مخيَّر في تكفير يمينه التي حنث فيها بإحدى هذه الحالات الثلاث التي سماها الله في كتابه، وذلك: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة بإجماع من الجميع، لا خلاف بينهم في ذلك. فإن ظنّ ظان أنّ ما قلنا من أن ذلك إجماع من الجميع، ليس كما قلنا، لما:- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، حدثنا أبو الضحى، عن مسروق، قال: جاء معقل بن مقرن إلى عبد الله فقال: إني آليتُ من النساء والفراش! فقرأ عبد الله هذه الآية: لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [ سورة المائدة: 87 ] . قال فقال معقل: إنما سألتك أنْ أتيتُ على هذه الآية الليلة؟ فقال عبد الله: ائت النساء ونَمْ، وأعتق رقبة، فإنك موسر. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني جرير بن حازم: أن سليمان الأعمش حدثه، عن إبراهيم بن يزيد النخعي، عن همام بن الحارث: أن نعمان بن مقرِّن سأل عبد الله بن مسعود فقال: إني حلفت أن لا أنام على فراشي سنة؟ فقال ابن مسعود: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ، كفّر عن يمينك، ونم على فراشك! قال: بم أكفِّر عن يميني؟ قال: أعتق رقبة، فإنك موسر. ونحو هذا من الأخبار التي رويت عن ابن مسعود وابن عمر وغيرهما، فإنّ ذلك منهم كان على وجه الاستحباب لمن أمروه بالتكفير بما أمروه به بالتكفير من الرقاب، لا على أنه كان لا يجزئ عندهم التكفير للموسر إلا بالرقبة، لأنه لم ينقل أحدٌ عن أحد منهم أنه قال: لا يجزئ الموسرَ التكفيرُ إلا بالرقبة. والجميعُ من علماء الأمصار، قديمهم وحديثهم، مجمعون على أن التكفير بغير الرقاب جائزٌ للموسر. ففي ذلك مكتفًى عن الاستشهاد على صحة ما قلنا في ذلك بغيره. القول في تأويل قوله : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « فمن لم يجد » ، لكفارة يمينه التي لزمه تكفيرُها من الطعام والكسوة والرقاب ما يكفِّرها به على ما فرضنا عليه وأوجبناه في كتابنا وعلى لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم « فصيام ثلاثة أيام » ، يقول: فعليه صيام ثلاثة أيام. ثم اختلف أهل العلم في معنى قوله: « فمن لم يجد » ، ومتى يستحقُّ الحانث في يمينه الذي قد لزمته الكفارة، اسم « غير واجد » ، حتى يكون ممن له الصيام في ذلك. فقال بعضهم: إذا لم يكن للحانث في وقت تكفيره عن يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومَه وليلته، فإنّ له أن يكفر بالصيام. فإن كان عنده في ذلك الوقت قوته وقوت عياله يومه وليلته، ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين أو ما يكسوهم، لزمه التكفيرُ بالإطعام أو الكسوة، ولم يجزه الصيام حينئذ. وممن قال ذلك الشافعي: حدثنا بذلك عنه الربيع. وهذا القولَ قصدَ إن شاء الله مَنْ أوجب الطعام على من كان عنده درهمان ، مَنْ أوجبه على من عنده ثلاثة دراهم. وبنحو ذلك:- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، قال: إذا لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم قال: يعني في الكفارة. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني معتمر بن سليمان قال: قلت لعمر بن راشد: الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفر، قال: كان قتادة يقول: يصوم ثلاثة أيام. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا يونس بن عبيد، عن الحسن قال، إذا كان عنده درهمان. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر، عن حماد، عن عبد الكريم أبي أمية، عن سعيد بن جبير قال: ثلاثة دراهم. وقال آخرون: جائزٌ لمن لم يكن عنده مائتا درهم أن يصوم، وهو ممن لا يجد. وقال آخرون: جائزٌ لمن لم يكن عنده فضل عن رأس ماله يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام، أن يصوم، إلا أن يكون له كفاية، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه، ومن الفضل عن ذلك ما يكفرّ به عن يمينه. وهذا قولٌ كان يقوله بعض متأخري المتفقهة. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أنّ من لم يكن عنده في حال حنثه في يمينه إلا قدر قوته وقوت عياله يومه وليلته، لا فضل له عن ذلك، يصوم ثلاثة أيام، وهو ممن دخل في جملة من لا يجد ما يطعم أو يكسو أو يعتق. وإن كان عنده في ذلك الوقت من الفضل عن قوته وقوت عياله يوَمه وليلته، ما يطعم أو يكسو عشرة مساكين، أو يعتق رقبة، فلا يجزيه حينئذ الصوم، لأن إحدى الحالات الثلاث حينئذ من إطعام أو كسوة أو عتق، حق قد أوجبه الله تعالى ذكره في ماله وجوبَ الدين. وقد قامت الحجة بأن المفلس إذا فرّق ماله بين غرمائه: أنه لا يترك ذلك اليوم إلا ما لا بدَّ له من قوته وقوت عياله يوَمه وليلته. فكذلك حكم المعدم بالدين الذي أوجبه الله تعالى ذكره في ماله بسبب الكفارة التي لزمت ماله. واختلف أهل العلم في صفة الصوم الذي أوجبه الله في كفارة اليمين. فقال بعضهم: صفته أن يكون مواصلا بين الأيام الثلاثة غير مفرِّقها. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن العلاء قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل صوم في القرآن فهو متتابع، إلا قضاء رمضان، فإنه عدة من أيام أخر. حدثنا أبو كريب وهناد قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس قال: كان أبيّ ابن كعب يقرأ: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرأ: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن قزعة، عن سويد، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، قال: في قراءة عبد الله: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . حدثنا هناد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن عون، عن إبراهيم قال: في قراءتنا: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم، مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا وكيع، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: في قراءة عبد الله: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن أبي إسحاق في قراءة عبد الله: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأون: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، سمعت سفيان، يقول: إذا فرّق صيام ثلاثة أيام لم يجزِه. قال: وسمعته يقول في رجل صامَ في كفارة يمين ثم أفطر، قال، يستقبل الصومَ. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: « فصيام ثلاثة أيام » ، قال: إذا لم يجد طعامًا، وكان في بعض القراءة: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وبه كان يأخذ قتادة. حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: هو بالخيار في هؤلاء الثلاثة، الأوّلَ فالأوّل، فإن لم يجد من ذلك شيئًا فصِيَام ثلاثة أيام متتابعات. وقال آخرون: جائز لمن صامهنّ أن يصومهن كيف شاء، مجتمعات ومفترقات. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال، قال مالك: كل ما ذكر الله في القرآن من الصيام، فأن يُصَام تِبَاعًا أعجبُ. فإن فرقها رجوتُ أن تجزئ عنه. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أوجب على من لزمته كفّارة يمين، إذا لم يجد إلى تكفيرها بالإطعام أو الكسوة أو العتق سبيلا أن يكفرّها بصيام ثلاثة أيام، ولم يشرطْ في ذلك متتابعة. فكيفما صامهنَّ المكفِّر مفرَّقة ومتتابعة، أجزأه. لأن الله تعالى ذكره إنما أوجب عليه صيام ثلاثة أيام، فكيفما أتَى بصومهنّ أجزأ. فأما ما روى عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما: ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) ، فذلك خلاف ما في مصاحفنا. وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله. غيرَ أني أختار للصائم في كفَّارة اليمين أن يُتَابع بين الأيام الثلاثة، ولا يفرِّق. لأنه لا خلاف بين الجميع أنه إذا فعل ذلك فقد أجزأ ذلك عنه من كفارته، وهم في غير ذلك مختلفون. ففعل ما لا يُخْتَلف في جوازه، أحبُّ إليَّ، وإن كان الآخر جائزًا. القول في تأويل قوله : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 89 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، هذا الذي ذكرت لكم أنه كفارة أيمانكم، من إطعام العشرة المساكين، أو كسوتهم، أو تحرير الرقبة، وصيام الثلاثة الأيام إذا لم تجدوا من ذلك شيئًا هو كفارة أيمانكم التي عقدتموها إذا حلفتم واحفظوا، أيها الذين آمنوا أيمانكم أن تحنثوا فيها، ثم تُضِيعُوا الكفارة فيها بما وصفته لكم « كذلك يبين الله لكم آياته » ، كما بين لكم كفارة أيمانكم، كذلك يبين الله لكم جميع آياته يعني أعلام دينه فيوضِّحها لكم لئلا يقول المضيع المفرِّط فيما ألزمه الله: « لم أعلم حكم الله في ذلك! » « لعلكم تشكرون » ، يقول: لتشكروا الله على هدايته إياكم وتوفيقه لكم. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 90 ) قال أبو جعفر: وهذا بيانٌ من الله تعالى ذكره للذين حرَّموا على أنفسهم النساءَ والنومَ واللحمَ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم، تشبُّهَا منهم بالقسيسين والرهبان، فأنـزل الله فيهم على نبيِّه صلى الله عليه وسلم كتابَه يَنْهاهم عن ذلك فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ، [ سورة المائدة: 87 ] . فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحلّ الله لهم من الطيبات. ثم قال: ولا تعتدوا أيضًا في حدودي، فتحلُّوا ما حرَّمت عليكم، فإن ذلك لكم غير جائز، كما غيرُ جائزٍ لكم تحريم ما حلّلت، وإنيّ لا أحبُّ المعتدين. ثم أخبرهم عن الذي حرّم عليهم مما إذا استحلوه وتقدَّموا عليه، كانوا من المعتدين في حدوده فقال لهم: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن الخمر التي تشربونها، والميسِرَ الذي تَتَياسرونه، والأنصاب التي تذبحُون عندها، والأزلام التي تستقسمون بها « رجْس » ، يقول: إثم ونَتْنٌ سَخِطه الله وكرهه لكم « من عمل الشيطان » ، يقول: شربكم الخمر، وقماركم على الجُزُر، وذبحكم للأنصاب، واستقسامكم بالأزلام، من تزيين الشيطانِ لكم، ودعائه إياكم إليه، وتحسينه لكم، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربُّكم، ولا مما يرضاه لكم، بل هو مما يسخطه لكم « فاجتنبوه » ، يقول: فاتركوه وارفضوه ولا تعملوه « لعلكم تفلحون » ، يقول: لكي تنجَحُوا فتدركوا الفلاحَ عند ربكم بترككم ذلك. وقد بينا معنى « الخمر » ، و « الميسر » ، و « الأزلام » فيما مضى، فكرهنا إعادته. وأما « الأنصاب » ، فإنها جمع « نُصُب » ، وقد بينا معنى « النُّصُب » بشواهده فيما مضى. وروي عن ابن عباس في معنى « الرجس » في هذا الموضع، ما:- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « رجس من عمل الشيطان » ، يقول: سَخَطٌ. وقال ابن زيد في ذلك، ما:- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « رجس من عمل الشيطان » ، قال: « الرجس » ، الشرُّ. القول في تأويل قوله : إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ( 91 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما يُريد لكم الشيطانُ شربَ الخمر والمياسرةَ بالقِدَاح، ويحسِّن ذلك لكم، إرادةً منه أن يوقع بينكم العَداوَة والبغضاءَ في شربكم الخمر ومياسرتكم بالقداح، ليعادي بعضكم بعضًا، ويبغِّض بعضَكم إلى بعض، فيشتِّت أمركم بعد تأليف الله بينكم بالإيمان، وجمعه بينكم بأخوّة الإسلام « ويصدّكم عن ذكر الله » ، يقول: ويصرفكم بغلبة هذه الخمر بسكرها إياكم عليكم، وباشتغالكم بهذا الميسر، عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم « وعن الصلاة » ، التي فرضها عليكم ربكم « فهل أنتم منتهون » ، يقول: فهل أنتم منتهون عن شرب هذه، والمياسرة بهذا، وعاملون بما أمركم به ربُّكم من أداء ما فرَض عليكم من الصلاة لأوقاتها، ولزوم ذكره الذي به نُجْح طلباتكم في عاجل دنياكم وآخرتكم؟. واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نـزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نـزلت بسبب كان من عمر بن الخطاب، وهو أنه ذكر مكروهَ عاقبة شربها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأل الله تحريمَها. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السريّ، قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهمّ بيِّنْ لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنـزلت الآية التي في « البقرة » : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، [ سورة البقرة: 219 ] . قال: فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! فنـزلت الآية التي في « النساء » : لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [ سورة النساء: 43 ] . قال: وكان مُنَادِي النبي صلى الله عليه وسلم يُنادي إذا حضرت الصلاة: لا يقربنّ الصلاة السكران! قال: فدُعِي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا! قال: فنـزلت الآية التي في « المائدة » : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله: « فهل أنتم منتهون » . فلما انتهى إلى قوله: « فهل أنتم منتهون » قال عمر: انتهينا انتهينا !! حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا أبى، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فإنها تَذْهب بالعقل والمال! ثم ذكر نحو حديث وكيع. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال، قال عمر بن الخطاب: اللهم بيِّن لنا، فذكر نحوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله. حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير، قال، حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب، مثله. حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني أبو معشر المدني، عن محمد بن قيس، قال: لما قدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أتاه الناس وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسِر، فسألوه عن ذلك، فأنـزل الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [ سورة البقرة: 219 ] ، فقالوا: هذا شيء قد جاء فيه رخْصة، نأكل الميسر ونشرَب الخمر، ونستغفر من ذلك!. حتى أتى رجلٌ صلاةَ المغرب، فجعل يقرأ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [ سورة الكافرون ] . فجعل لا يجوز ذلك، ولا يدري ما يقرأ، فأنـزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [ سورة النساء: 43 ] . فكان الناس يشربون الخمرَ، حتى يجيء وقت الصلاة فيدعون شربها، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون. فلم يزالوا كذلك حتى أنـزل الله تعالى ذكره: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ إلى قوله: « فهل أنتم منتهون » ، فقالوا: انتهينا يا رب ! وقال آخرون: نـزلت هذه الآية بسبب سعد بن أبي وقاص. وذلك أنه كان لاحَى رجلا على شراب لهما، فضربه صاحبه بلَحْيَىْ جمل، ففَزَر أنفه، فنـزلت فيهما. ذكر الرواية بذلك: حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد، عن أبيه سعد أنه قال: صنع رجلٌ من الأنصار طعامًا، فَدَعانا. قال: فشربنا الخمرَ حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضلُ منكم! قال: فأخذ رجل من الأنصار لَحْيَى جملٍ فضرب به أنف سعد ففَزَره، فكان سعد أفزَرَ الأنف. قال: فنـزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى آخر الآية. حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، قال حدثنا شعبة، عن سماك، عن مصعب بن سعد قال، قال سعد: شربتُ مع قوم من الأنصار، فضربت رجلا منهم أظنّ بفكّ جمل فكسرته، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فلم ألبث أن نـزل تحريم الخمر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ، إلى آخر الآية. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن مصعب بن سعد، عن أبيه قال: شربت الخمر مع قوم من الأنصار، فذكر نحوه. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، أن ابن شهاب أخبره، أن سالم بن عبد الله حدَّثه: أن أول ما حُرِّمت الخمر، أن سعد بن أبي وقاص وأصحابًا له شربوا فاقتتلوا، فكسروا أنف سعدٍ، فأنـزل الله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ، الآية. وقال آخرون: نـزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم عن جبر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نـزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شرِبوا. حتى إذا ثملوا، عبث بعضهم على بعض. فلما أن صَحوْا جعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل بي هذا أخي فلان! وكانوا إخوة، ليس في قلوبهم ضغائن والله لو كان بي رءوفًا رحيمًا ما فعل بي هذا! حتى وقعت في قلوبهم ضغائن، فأنـزل الله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله: « فهل أنتم منتهون » ! فقال ناس من المتكلِّفين: رجْسٌ في بطن فلانُ قتل يوم بدر، وقتل فلان يوم أحُدٍ! فأنـزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [ سورة المائدة: 93 ] ، . الآية. حدثنا محمد بن خلف قال، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي، عن أبي تميلة، عن سلام مولى حفص بن أبي القاسم، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: بينما نحن قعود على شرابٍ لنا، [ ونحن على رَمْلة، ونحن ثلاثة أو أربعة، وعندنا باطِيةٌ لنا ] ، ونحن نشرب الخمر حِلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه، وقد نـزل تحريم الخمر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ، إلى آخر الآيتين، « فهل أنتم منتهون » ، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله: « فهل أنتم منتهون » ؟ قال: وبعض القوم شربته في يده، قد شرب بعضًا وبقي بعضٌ في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجّام. ثم صبوا ما في باطيهتهم، فقالوا: انتهينا ربّنا! انتهينا ربَّنا! وقال آخرون: إنما كانت العداوة والبغضاء، كانت تكون بين الذين نـزلت فيهم هذه الآية بسبب الميسر، لا بسبب السُّكر الذي يحدث لهم من شرب الخمر. فلذلك نهاهم الله عن الميسر. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال بشر: وقد سمعته من يزيد وحدثنيه قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الرجل في الجاهلية يقامِر على أهله وماله، فيقعد حَرِيبًا سليبًا ينظر إلى ماله في يَدَي غيره، فكانت تُورِث بينهم عداوة وبغضاءَ، فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه. والله أعلم بالذي يصلح خلقه. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال، إنّ الله تعالى قد سمَّى هذه الأشياء التي سمّاها في هذه الآية « رجسًا » ، وأمر باجتنابها. وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نـزلت هذه الآية، وجائز أن يكون نـزولها كان بسبب دُعاء عمر رضى الله عنه في أمر الخمر وجائز أن يكون ذلك كان بسبب ما نالَ سعدًا من الأنصاري عند انتِشائهما من الشراب وجائز أن يكون كان من أجل ما كان يلحق أحدَهم عند ذهاب ماله بالقمار من عداوة من يَسَرَه وبغضِه، وليس عندنا بأيِّ ذلك كان، خيرٌ قاطع للعذر. غير أنه أيّ ذلك كان، فقد لزم حكم الآية جميعَ أهل التكليف، وغيرُ ضائرهم الجهل بالسبب الذي له نـزلت هذه الآية. فالخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان، فرضٌ على جميع من بلغته الآية من التكليفُ اجتنابُ جميع ذلك، كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . القول في تأويل قوله : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ( 92 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ « وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول » ، في اجتنابكم ذلك، واتباعكم أمره فيما أمركم به من الانـزجار عما زجَركم عنه من هذه المعانِي التي بيَّنها لكم في هذه الآية وغيرها، وخالِفوا الشيطان في أمره إيّاكم بمعصية الله في ذلك وفي غيره، فإنه إنما يبغي لكم العداوةَ والبغضاءَ بينكم بالخمر والميسر « واحذروا » ، يقول: واتقوا الله وراقبوه أن يراكم عند ما نهاكم عنه من هذه الأمور التي حرّمها عليكم في هذه الآية وغيرها، أو يفقِدَكم عند ما أمركم به، فتُوبقوا أنفسكم وتهلكوها « فإن توليتم » ، يقول: فإن أنتم لم تعملوا بما أمرناكم به، وتنتهوا عما نهيناكم عنه، ورجعتم مدبرين عما أنتم عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله، واتباع ما جاءكم به نبيكم « فاعلموا أنما على رسولنا البلاغُ المبين » ، يقول: فاعلموا أنه ليس على من أرسلناه إليكم بالنِّذَارة غير إبلاغكم الرسالة التي أرسل بها إليكم، مبينةً لكم بيانًا يُوضِّح لكم سبيل الحقّ، والطريقَ الذي أمرتم أن تسلكوه. وأما العقاب على التولية والانتقام بالمعصية، فعلى المُرْسَل إليه دون الرسل. وهذا من الله تعالى وعيد لمن تولَّى عن أمره ونهيه. يقول لهم تعالى ذكره: فإن توليتم عن أمري ونهيي، فتوقّعوا عقابي، واحذَرُوا سَخَطي. القول في تأويل قوله : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 93 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للقوم الذين قالوا إذْ أنـزل الله تحريم الخمر بقوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ : كيفَ بمن هلك من إخواننا وهم يشربونها؟ وبنا وقد كنّا نشربها؟ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم حرج فيما شربوا من ذلك، في الحال التي لم يكن الله تعالى حرَّمه عليهم إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، يقول: إذا ما اتقى الله الأحياءُ منهم فخافوه، وراقبوه في اجتنابهم ما حرَّم عليهم منه، وصدَّقوا الله ورسوله فيما أمراهم ونهياهم، فأطاعوهما في ذلك كله « وعملوا الصالحات » ، يقول: واكتسبوا من الأعمال ما يرضاه الله في ذلك مما كلفهم بذلك ربُّهم « ثم اتقوا وآمنوا » ، يقول: ثم خافوا الله وراقبوه باجتنابهم محارِمه بعد ذلك التكليف أيضًا، فثبتوا على اتقاء الله في ذلك والإيمان به، ولم يغيِّروا ولم يبدِّلوا « ثم اتقوا وأحسنوا » ، يقول: ثم خافوا الله، فدعاهم خوفُهم الله إلى الإحسان، وذلك « الإحسان » ، هو العمل بما لم يفرضه عليهم من الأعمال، ولكنه نوافلُ تقرَّبوا بها إلى رّبهم طلبَ رِضاه، وهربًا من عقابه « وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » ، يقول: والله يحب المتقرِّبين إليه بنوافل الأعمال التي يرضاها. فالاتقاء الأوّل: هو الاتقاء بتلقِّي أمر الله بالقَبُول والتصديق، والدينونة به والعمَل والاتقاء الثاني: الاتقاء بالثبات على التصديق، وترك التبديل والتغيير والاتقاء الثالث: هو الاتقاء بالإحسان، والتقرُّب بنوافل الأعمال. فإن قال قائل: ما الدليل على أنّ « الاتقاء » الثالث، هو الاتقاء بالنوافل، دون أن يكون ذلك بالفرائضِ؟ قيل: إنه تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الجناح عن شاربي الخمر التي شربوها قبل تحريمه إيّاها، إذا هم اتقوا الله في شربها بعد تحريمِها، وصدّقوا الله ورسوله في تحريمها، وعملوا الصالحات من الفرائض. ولا وجه لتكرير ذلك وقد مضى ذكرُه في آيةٍ واحدة. وبنحو الذي قلنا من أن هذه الآية نـزلت فيما ذكرنا أنها نـزلت فيه، جاءت الأخبار عن الصَّحابة والتابعين. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نـزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله، فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنـزلت: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح » ، الآية. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل بإسناده، نحوه. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد قال، أخبرنا عباد بن راشد، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: بينَا أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسهيل بن بيضاء، وأبي دجانة، حتى مالت رءوسهم من خَليط بُسْرٍ وتمر. فسمعنا مناديًا ينادي: ألا إنّ الخمر قد حُرِّمت! قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج، حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القِلال، وتوضأ بعضنا، واغتسل بعضنا، فأصبْنَا من طِيب أمِّ سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ . فقال رجل: يا رسول الله، فما منـزلةُ من مات منا وهو يشربها؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » الآية، فقال رجل لقتادة: سمعتَه من أنس بن مالك؟ قال: نعم! قال رجل لأنس بن مالك: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! وحدّثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب! حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: لما حرمت الخمر قالوا: كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ فنـزلت: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، الآية. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، قال البراء: مات ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر، فلما نـزل تحريمها، قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنـزلت هذه الآية: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات » ، الآية. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: نـزلت: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، فيمن قُتِل ببدر وأحُدٍ مع محمد صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا علي ابن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لما نـزلت: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لي: أنت منهم. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا جامع بن حماد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، إلى قوله: « وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » ، لما أنـزل الله تعالى ذكره تحريم الخمر في « سورة المائدة » ، بعد « سورة الأحزاب » ، قال في ذلك رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصيب فلانٌ يوم بدر، وفلانٌ يوم أحد، وهم يشربونها! فنحن نشهد أنهم من أهل الجنة! فأنـزل الله تعالى ذكره: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين » ، يقول: شربها القومُ على تقوى من الله وإحسانٍ، وهي لهم يومئذ حلال، ثم حرِّمت بعدهم، فلا جناح عليهم في ذلك. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، قالوا: يا رسول الله، ما نقول لإخواننا الذين مضوا؟ كانوا يشربون الخمر، ويأكلون الميسر! فأنـزل الله: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، يعني قبل التحريم، إذا كانوا محسنين متقين وقال مرة أخرى: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » من الحرام قبل أن يحرَّم عليهم « إذا ما اتقوا وأحسنوا » ، بعد ما حُرِّم، وهو قوله: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ، [ سورة البقرة: 275 ] . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، يعني بذلك رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تحرَّم الخمر، فلم يكن عليهم فيها جناح قبلَ أن تحرَّم. فلما حرِّمت قالوا: كيف تكون علينا حرامًا، وقد مات إخواننا وهم يشربونها؟ فأنـزل الله تعالى ذكره: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات » ، يقول: ليس عليهم حرج فيما كانوا يشربون قبل أن أحرِّمها، إذا كانوا محسنين متقين « والله يحب المحسنين » . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا » ، لمن كان يشرب الخمرَ ممن قتل مع محمد صلى الله عليه وسلم ببدرٍ وأحُدٍ. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله: « ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح » ، الآية، هذا في شأن الخمر حين حرِّمت، سألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله « ليبلونّكم الله بشيء من الصيد » ، يقول: ليختبرنكم الله « بشيء من الصيد » ، يعني: ببعض الصيد. وإنما أخبرهم تعالى ذكره أنه يبلوهم بشيء، لأنه لم يبلُهم بصيد البحر، وإنما ابتلاهم بصيد البرّ، فالابتلاء ببعض لا بجميع. وقوله: « تناله أيديكم » ، فإنه يعني: إما باليد، كالبيض والفراخ وإما بإصابة النَّبْل والرماح، وذلك كالحمر والبقر والظباء، فيمتحنكم به في حال إحرامكم بعمرتكم أو بحجّكم. وبنحو ذلك قالت جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم » ، قال: « أيديكم » ، صغارُ الصَّيد، أخذ الفراخ والبيض و « الرماح » قال: كبارُ الصيد. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن داود، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: « تناله أيديكم ورماحكم » ، قال: النَّبْل « رماحكم » ، تنال كبير الصيد، « وأيديكم » ، تنال صغير الصيد، أخذ الفرخ والبيض. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد في قوله: « ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم » ، قال: ما لا يستطيع أن يفرَّ من الصيد. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد. وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: « أيديكم ورماحكم » ، قال: هو الضعيف من الصيد وصغيره، يبتلي الله تعالى ذكره به عباده في إحرامهم، حتى لو شاءوا نالوه بأيديهم. فنهاهم الله أن يقرَبوه. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن حميد الأعرج، وليث، عن مجاهد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم » ، قال: الفراخ والبيض، وما لا يستطيع أن يفّر. القول في تأويل قوله : لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 94 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ليختبرنكم الله، أيها المؤمنون، ببعض الصيد في حال إحرامكم، كي يعلم أهلَ طاعة الله والإيمان به، والمنتهين إلى حدوده وأمره ونهيه، ومن الذي يخاف الله فيتقي ما نهاه عنه، ويجتنبه خوف عقابه « بالغيب » ، بمعنى: في الدنيا، بحيث لا يراه. . وقد بينا أن « الغيب » ، إنما هو مصدر قول القائل: « غاب عنّى هذا الأمر فهو يغيب غَيْبًا وغَيْبَةً » ، وأنّ ما لم يُعَاين، فإن العرب تسميه « غَيْبًا » . فتأويل الكلام إذًا: ليعلم أولياء الله من يخافُ الله فيتقي محارمَه التي حرمها عليه من الصيد وغيره، بحيث لا يراه ولا يُعاينه. وأما قوله: « فمن اعتدى بعد ذلك » ، فإنه يعني: فمن تجاوز حدَّ الله الذي حدّه له، بعد ابتلائه بتحريم الصيد عليه وهو حرام، فاستحلَّ ما حرَّم الله عليه منه بأخذِه وقتله « فله عذابٌ، من الله » « أليم » ، يعني: مؤلم موجع. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله « لا تقتلوا الصيد » ، الذي بينت لكم, وهو صيد البر دون صيد البحر « وأنتم حرم » ، يقول: وأنتم محرمون بحج أو عمرة. و « الحرم » ، جمع « حَرَام » , والذكر والأنثى فيه بلفظ واحد. تقول: « هذا رجل حرام » و « هذه امرأة حرَام » . فإذا قيل: « محرم » , قيل للمرأة: « محرمة » . و « الإحرام » ، هو الدخول فيه, يقال: « أحرَم القوم » ، إذا دخلوا في الشهر الحرام, أو في الحَرَم. فتأويل الكلام: لا تقتلوا الصيدَ وأنتم محرمون بحجّ أو عمرة. وقوله: « وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا » ، فإن هذا إعلام من الله تعالى ذكره عبادَه حكمَ القاتل من المحرمين الصيدَ الذي نهاه عن قتله متعمدًا. ثم اختلف أهل التأويل في صفة « العَمْد » الذي أوجب الله على صاحبه به الكفارةَ والجزاء في قتله الصيد. فقال بعضهم: هو العمد لقتل الصيد، مع نسيان قاتله إحرامَه في حال قتله. وقال: إن قتله وهو ذاكر إحرامه متعمدًا قتله، فلا حكم عليه، وأمره إلى الله. قالوا: وهذا أجلُّ أمرًا من أن يحكم عليه، أو يكونَ له كفارة. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم » ، من قتله منكم ناسيًا لإحرامه، متعمدًا لقتله, فذلك الذي يحكم عليه. فإن قتله ذاكرًا لحُرْمه، متعمدًا لقتله, لم يحكم عليه. حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد، في الذي يقتل الصيد متعمدًا وهو يعلم أنه محرم، ويتعمد قتله، قال: لا يحكم عليه, ولا حج له. وقوله: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، قال: هو العمد المكفر, وفيه الكفارة والخطأ، أن يصيبَه وهو ناس لإحرامه, متعمدًا لقتله أو يصيبه وهو يريد غيره. فذلك يحكم عليه مرة. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدًا » ، غير ناس لحُرْمه ولا مريدٍ غيرَه, فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمدُ المكفَّر. حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، قال: متعمدًا لقتله, ناسيًا لإحرامه. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا الفضيل بن عياض, عن ليث, عن مجاهد قال: العمد هو الخطأ المكفَّر. حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا يونس بن محمد قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا ليث قال، قال مجاهد: قول الله: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم » ، قال: فالعمد الذي ذكر الله تعالى ذكره: أن يصيب الصيدَ وهو يريد غيره فيصيبه, فهذا العمد المكفَّر، فأما الذي يصيبه غيرَ ناس ولا مريد لغيره, فهذا لا يحكم عليه. هذا أجلُّ من أن يحكم عليه. حدثنا ابن وكيع, ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر, عن شعبة, عن الهيثم, عن الحكم, عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، قال: يقتله متعمدًا لقتله, ناسيًا لإحرامه. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا شعبة, عن الهيثم, عن الحكم, عن مجاهد, مثله. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، قال ابن جريج « ومن قتله منكم متعمدًا » ، غير ناس لحُرْمه ولا مريدٍ غيرَه, فقد حلَّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا لحرمه، أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمد المكفَّر. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف, عن عمرو, عن الحسن: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، للصيد ، ناسيًا لإحرامه فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ ، متعمدًا للصيد يذكرُ إحرامه. حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن أبي عدي قال، حدثنا إسماعيل بن مسلم قال: كان الحسن يفتي فيمن قتل الصيد متعمدًا ذاكرًا لإحرامه: لم يحكم عليه قال إسماعيل: وقال حماد، عن إبراهيم, مثل ذلك. حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عفان بن مسلم قال، حدثنا حماد بن سلمة قال: أمرني جعفر بن أبي وحشية أن أسأل عمرو بن دينار عن هذه الآية: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم » ، الآية, فسألته, فقال: كان عطاء يقول: هو بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل, إن شاء أهدى، وإن شاء أطعم، وإن شاء صام. فأخبرت به جعفرًا وقلت: ما سمعت فيه؟ فتلكأ ساعة، ثم جعل يضحك ولا يخبرني, ثم قال: كان سعيد بن جبير يقول: يحكم عليه من النعم هديًا بالغ الكعبة, وإنما جُعل الطعام والصيام [ كفارة ] ، فهذا لا يبلغُ ثمن الهدي، والصيام فيه من ثلاثة أيام إلى عشرة. حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع بن يزيد قال ، أخبرني ابن جريج قال ، قال مجاهد: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، غير ناس لحُرْمه، ولا مريدٍ غيره، فقد حلّ، وليست له رخصة. ومن قتله ناسيًا، أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمد المكفَّر. حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: أما الذي يتعمد فيه للصيد وهو ناس لحرمه، أو جاهل أنّ قتله غيرُ محرَّم, فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله، وهو يعرف أنه مُحْرِم، وأنه حرام, فذلك يوكَل إلى نقمة الله, وذلك الذي جعل الله عليه النقمة. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « ومن قتله منكم متعمدًا » ، قال: متعمدًا لقتله, ناسيًا لإحرامه. وقال آخرون: بل ذلك هو العمد من المحرِم لقتل الصيد، ذاكرًا لحُرْمه. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء قال: يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان. حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا ابن جريج وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم عن ، ابن جريج قال ، قال طاوس: والله ما قال الله إلا « ومن قتله منكم متعمدًا » . حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني بعض أصحابنا، عن الزهري أنه قال: نـزل القرآن بالعَمْد, وجرت السنة في الخطأ يعني: في المحرم يصيب الصيدَ. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم » ، قال: إن قتله متعمدًا أو ناسيًا، حكم عليه. وإن عاد متعمدًا عُجِّلت له العقوبة, إلا أن يعفو الله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن الأعمش, عن عمرو بن مرة, عن سعيد بن جبير قال : إنما جعلت الكفارة في العمد, ولكن غُلِّظ عليهم في الخطأ كي يتقوا. حدثنا عمرو بن على قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش, عن عمرو بن مرة, عن سعيد بن جبير, نحوه. حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، خبرنا ابن جريج قال: كان طاوس يقول: والله ما قال الله إلا « ومن قتله منكم متعمدًا » . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره حرّم قتل صيد البر على كل محرِم في حال إحرامه ما دام حرامًا بقوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد » ثم بيَّن حكم من قتل ما قتل من ذلك في حال إحرامه متعمدًا لقتله, ولم يخصص به المتعمِّد قتلَه في حال نسيانه إحرامَه, ولا المخطئَ في قتله في حال ذكره إحرامَه, بل عمَّ في التنـزيل بإيجاب الجزاء، كلَّ قاتل صيد في حال إحرامه متعمدًا. وغير جائز إحالة ظاهر التنـزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصّ كتاب، ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من الأمة. ولا دلالةَ من بعض هذه الوجوه. فإذْ كان ذلك كذلك, فسواءٌ كان قاتل الصيد من المحرمين عامدًا قتلَه ذاكرًا لإحرامه, أو عامدًا قتله ناسيًا لإحرامه, أو قاصدًا غيره فقتله ذاكرًا لإحرامه في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى ذكره، وهو: مثلُ ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من المسلمين، أو كفارة طعامُ مساكين، أو عدل ذلك صيامًا. وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما، دون القول الذي قاله مجاهد. وأما ما يلزم بالخطأ قاتله, فقد بيّنا القول فيه في كتابنا: ( كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع ) ، بما أغنى عن ذكره في هذا الموضع. وليس هذا الموضع موضع ذكره, لأن قصدنا في هذا الكتاب الإبانة عن تأويل التنـزيل, وليس في التنـزيل للخطإ ذكر، فنذكر أحكامه. وأما قوله: « فجزاء مثلُ ما قتل من النعم » ، فإنه يقول: وعليه كِفاءٌ وبَدل، يعني بذلك: جزاء الصيد المقتول. يقول تعالى ذكره: فعلى قاتل الصيد جزاء الصيد المقتول، مثل ما قتل من النعم. وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: ( فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم ) . وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة المدينة وبعض البصريين: ( فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم ) ، بإضافة « الجزاء » إلى « المثل » وخفض « المثل » . وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( فجزاء مثل ما قتل ) بتنوين « الجزاء » ورفع « المثل » ، بتأويل: فعليه جزاءٌ مثلُ ما قتل. قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ: ( فجزاء مثل ما قتل ) بتنوين « الجزاء » ورفع « المثل » , لأن الجزاء هو المثل, فلا وجه لإضافة الشيء إلى نفسه. وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بالإضافة, رأوا أن الواجبَ على قاتل الصيد أن يَجْزِي مثله من الصيد بمثلٍ من النعم. وليس ذلك كالذي ذهبوا إليه, بل الواجب على قاتله أن يجزي المقتولَ نظيره من النعم. وإذ كان ذلك كذلك, فالمثل هو الجزاء الذي أوجبه الله تعالى ذكره على قاتل الصيد, ولن يضاف الشيء إلى نفسه. ولذلك لم يقرأ ذلك قارئ علمناه، بالتنوين ونصب « المثل » . ولو كان « المثل » غير « الجزاء » لجاز في المثل النصب إذا نوِّن « الجزاء » , كما نصب « اليتيم » إذ كان غير « الإطعام » في قوله: أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [ سورة البلد: 14، 15 ] وكما نصب « الأموات » « والأحياء » ، ونون « الكِفَات » في قوله: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [ سورة المرسلات: 25، 26 ] ، إذ كان « الكفات » غير « الأحياء » « والأموات » . وكذلك الجزاء لو كان غير « المثل » ، لاتسعت القراءة في « المثل » بالنصب إذا نون « الجزاء » . ولكن ذلك ضاق، فلم يقرأه أحد بتنوين « الجزاء » ونصب « المثل » , إذ كان « المثل » هو « الجزاء » , وكان معنى الكلام: ومن قتله منكم متعمدًا فعليه جزاءٌ هو مثلُ ما قتل من النعم. ثم اختلف أهل العلم في صفة « الجزاء » , وكيف يجزي قاتلُ الصيد من المحرمين ما قتل بمثله من النعم. . فقال بعضهم: ينظر إلى أشبه الأشياء به شبهًا من النعم, فيجزيه به، ويهديه إلى الكعبة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم » ، قال: أما « جزاء مثل ما قتل من النعم » فإن قتل نعامة أو حمارًا فعليه بَدَنة. وإن قتل بقرة أو أيِّلا أو أرْوَى فعليه بقرة. أو قتل غزالا أو أرنبًا فعليه شاة. وإن قتل ضبًّا أو حرباءَ أو يَرْبوعًا, فعليه سَخْلة قد أكلت العُشب وشربت اللبن. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة, عن ابن مجاهد قال، سئل عطاء: أيغَرم في صغير الصيد كما يغرم في كبيره؟ قال: أليس يقول الله تعالى ذكره : « فجزاء مثل ما قتل من النعم » ؟ حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال مجاهد: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم » ، قال: عليه من النعم مثله. حدثنا هناد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس في قوله: « فجزاء مثل ما قتل من النعم » ، قال: إذا أصاب المحرم الصيدَ ، وجب عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءه ذبَحه فتصدق به, فإن لم يجد جزاءه قوَّم الجزاء دراهم، ثم قوم الدراهمَ حِنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يومًا. قال: وإنما أريد بالطعام الصوم, فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً. حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، قال: إذا أصاب المحرم الصيد ، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد، نظر كم ثمنه قال ابن حميد: نظر كم قيمته فقوّم عليه ثمنه طعامًا, فصام مكان كل نصف صاع يومًا أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، قال: إنما أريد بالطعام الصيام, فإذا وجد الطعام وَجد جزاءه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن سفيان بن حسين, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم » فإن لم يجد هديًا, قُوِّم الهدي عليه طعامًا، وصام عن كل صاع يومين. حدثنا هناد قال، حدثنا عبد بن حميد, عن منصور, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس في هذه الآية: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة » ، قال: إذا أصاب الرجل الصيد حكم عليه, فإن لم يكن عنده قوم عليه ثمنه طعامًا، ثم صام لكل نصف صاع يومًا. حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بن جابر قال: ابتدرت وصاحبٌ لي ظبيًا في العقبة, فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له, فأقبل علي رجل إلى جنبه, فنظرا في ذلك قال فقال: اذبح كبشًا. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين, عن الشعبي قال : أخبرني قبيصة بن جابر، نحوا مما حدَّث به عبد الملك. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن المسعودي, عن عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بن جابر قال : قتل صاحب لي ظبيًا وهو محرم, فأمره عمر أن يذبح شاة فيتصدق بلحمها ويُسْقي إهابها. حدثني هناد قال: حدثنا ابن أبي زائدة, عن داود بن أبي هند, عن بكر بن عبد الله المزني قال : قتل رجلٌ من الأعراب وهو محرم ظبيًا, فسأل عمر, فقال له عمر: اهدِ شاة. حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص, عن حصين وحدثنا أبو هشام الرفاعي قال : حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا حصين عن الشعبي قال ، قال قبيصة بن جابر: أصبت ظبيًا وأنا محرم, فأتيت عمر فسألته عن ذلك, فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف. فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ أمرَه أهون من ذلك! قال: فضربني بالدِّرّة حتى سابقته عدوًا! قال: ثم قال: قتلتَ الصيد وأنتَ محرم، ثم تَغْمِص الفُتيا! قال: فجاء عبد الرحمن, فحكما شاة. حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم » ، قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام. فإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه، فعليه بدنة من الإبل. حدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: أرأيت إن قتلتُ صيدًا فإذا هو أعور، أو أعرج، أو منقوص، أغرم مثله؟ قال: نعم, إن شئت. قلت: أوْفَي أحبُّ إليك؟ قال: نعم. وقال عطاء: وإن قتلت ولدَ الظبي، ففيه ولد شاة. وإن قتلت ولد بقرة وحشية، ففيه ولد بقرة إنسية مثله, فكلّ ذلك على ذلك. حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: « فجزاء مثل ما قتل من النعم » ما كان من صيد البر مما ليس له قرن الحمار أوالنعامة فعليه مثله من الإبل. وما كان ذا قرن من صيد البر من وعِلٍ أو أيِّل، فجزاؤه من البقر. وما كان من ظبي فمن الغنم مثله. وما كان من أرنب، ففيها ثَنِيَّة. وما كان من يربوع وشبهه، ففيه حَمَلٌ صغير. وما كان من جرادة أو نحوها، ففيه قبضة من طعام. وما كان من طير البر، ففيه أن يقوَّم ويتصدق بثمنه, وإن شاء صام لكل نصف صاع يومًا. وإن أصاب فرخ طير برِّية أو بيضها، فالقيمة فيها طعامٌ أو صوم على الذي يكون في الطير. غير أنه قد ذكر في بيض النعام إذا إصابها المحرم، أن يحمل الفحل على عدة من أصاب من البيض على بِكارة الإبل، فما لَقِح منها أهداه إلى البيت, وما فسد منها فلا شيء فيه. حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع قال ، أخبرني ابن جريج قال ، قال مجاهد: من قتله يعني الصيد ناسيًا, أو أراد غيره فأخطأ به, فذلك العمد المكفَّر, فعليه مثله هديًا بالغ الكعبة. فإن لم يجد، ابتاع بثمنه طعامًا. فإن لم يجد، صام عن كل مُدٍّ يومًا. وقال عطاء: فإن أصاب إنسان نعامة, كان له إن كان ذا يسار مُوَسَّعًا إن شاء يهدي جزورًا أو عَدْلَها طعامًا أو عدلها صيامًا, أيّتهن شاء، من أجل قوله: فجزاء، أو كذا أو كذا قال: فكل شيء في القران: « أو » « أو » , فليختر منه صاحبه ما شاء. حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا نافع قال ، أخبرني ابن جريج قال ، أخبرني الحسن بن مسلم قال : من أصاب من الصيد ما يبلغ أن يكون شاة فصاعدًا, فذلك الذي قال الله تعالى ذكره: « فجزاء مثل ما قتل من النعم » . وأما كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ، فذلك الذي لا يبلغ أن يكون فيه هدي, العصفورَ يقتل، فلا يكون فيه. قال: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا , عدل النعامة, أو عدل العصفور, أو عدل ذلك كله. وقال آخرون: بل يقوَّم الصيد المقتول قيمتَه من الدراهم, ثم يشتري القاتل بقيمته نِدًّا من النعم, ثم يهديه إلى الكعبة. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبدة, عن إبراهيم قال : ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن حماد قال : سمعت إبراهيم يقول: في كل شيء من الصيد ثمنه. قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية, ما قال عمر وابن عباس، ومن قال بقولهما: أن المقتول من الصيد يُجْزَي بمثله من النعم, كما قال الله تعالى ذكره: « فجزاء مثل ما قتل من النعم » . وغير جائز أن يكون مثل الذي قتل من الصيد دراهم، وقد قال الله تعالى: « من النعم » ، لأن الدراهم ليست من النعم في شيء. فإن قال قائل: فإن الدراهمَ وإن لم تكن مثلا للمقتول من الصيد, فإنه يشتري بها المثل من النعم, فيهديه القاتل, فيكون بفعله ذلك كذلك جازيًا بما قتل من الصيد مثلا من النعم! قيل له: أفرأيت إن كان المقتول من الصيد صغيرًا [ أو معيبا، ولا يصاب بقيمته من النعم إلا ] كبيرًا أو سليمًا أو كان المقتول من الصيد كبيرًا أو سليمًا بقيمته من النعم إلا صغيرًا أو معيبًا أيجوز له أن يشتريَ بقيمته خلافه وخلافَ صفته فيهديه, أم لا يجوز ذلك له, وهو لا يجوز إلا خلافه؟ فإن زعم أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمته إلا مثله, ترك قوله في ذلك. لأنّ أهل هذه المقالة يزعمون أنه لا يجوز له أن يشتري بقيمة ذلك فيهديه، إلا ما يجوز في الضحايا. وإذا أجاز شراءَ مثل المقتول من الصيد بقيمته وإهداءها وقد يكون المقتول صغيرًا معيبًا، أجاز في الهدي ما لا يجوز في الأضاحي. وإن زعم أنه لا يجوز أن يشتري بقيمته فيهديه إلا ما يجوز في الضحايا أوضح بذلك من قوله الخلافَ لظاهر التنـزيل. وذلك أنّ الله تعالى ذكره، أوجب على قاتل الصيد من المحرِمين عمدًا، المثلَ من النعم إذا وجده. وقد زعم قائل هذه المقالة أنه لا يجب عليه المثل من النعم، وهو إلى ذلك واجدٌ سبيلا. ويقال لقائل ذلك: أرأيت إن قال قائل آخر: « ما على قاتل ما لا تبلغُ من الصيد قيمته ما يصاب به من النَّعم ما يجوز في الأضاحي من إطعام ولا صيام. لأن الله تعالى إنما خيَّر قاتل الصيد من المحرمين في أحد الثلاثة الأشياء التي سماها في كتابه, فإذا لم يكن له إلى واحد من ذلك سبيل، سقط عنه فرض الآخرَيْن. لأن الخيار إنما كان له، وله إلى الثلاثة سبيل. فإذا لم يكن له إلى بعض ذلك سبيل، بطل فرض الجزاء عنه, لأنه ليس ممن عُني بالآية نظيرَ الذي قلت أنت: » إنه إذا لم يكن المقتول من الصيد يبلغ قيمته ما يصاب من النعم مما يجوز في الضحايا, فقد سقط فرض الجزاء بالمثل من النعم عنه, وإنما عليه الجزاء بالإطعام أو الصيام « ، هل بينك وبينه فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله. » القول في تأويل قوله : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحكم بذلك الجزاء الذي هو مثل المقتول من الصيد من النعم عدلان منكم يعني: فقيهان عالمان من أهل الدين والفضل « هديًا » ، يقول: يقضي بالجزاء ذوا عدل، أي يُهْدَي فيبلغ الكعبة. و « الهاء » في قوله: « ويحكم به » ، عائدة على « الجزاء » . . قال أبو جعفر: ووجه حكم العدلين إذا أرادا أن يحكما بمثل المقتول من الصيد من النعم على القاتل: أن ينظرا إلى المقتول ويستوصفاه, فإن ذكر أنه أصاب ظبيًا صغيرًا، حكما عليه من ولد الضأن بنظير ذلك الذي قتله في السن والجسم, فإن كان الذي أصاب من ذلك كبيرًا، حكما عليه من الضأن بكبير. وإن كان الذي أصاب حمار وَحْش، حكما عليه ببقرة. إن كان الذي أصاب كبيرًا من البقر, وإن كان صغيرًا فصغيرًا. وإن كان المقتول ذكرًا فمثله من ذكور البقر. وإن كان أنثى فمثله من البقر أنثى. ثم كذلك ذلك، ينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من الصيد شبهًا من النعم، فيحكمان عليه به، كما قال تعالى ذكره . وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، على اختلافٍ في ذلك بينهم. ذكر من قال ذلك بنحو الذي قلنا فيه: حدثنا هنّاد بن السريّ قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : أخبرنا داود بن أبي هند, عن بكر بن عبد الله المزني قال : كان رجلان من الأعراب محرِمين, فأحاش أحدهما ظبيًا، فقتله الآخر. فأتيا عمر، وعنده عبد الرحمن بن عوف, فقال له عمر: وما ترى؟ قال: شاة، قال: وأنا أرى ذلك, اذهبا فأهديا شاة. فلما مضَيا قال أحدهما لصاحبه: ما درَى أمير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه!! فسمعها عمر, فردّهما فقال: هل تقرأان سورة المائدة؟ فقالا لا! فقرأها عليهما: « يحكم به ذوا عدل منكم » ، ثم قال: استعنت بصاحبي هذا. حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بن جابر قال : ابتدرت أنا وصاحب لي ظبيًا في العقبة, فأصبته، فأتيت عمر بن الخطاب, فذكرت ذلك له. فأقبل على رجل إلى جنبه, فنظرا في ذلك. قال فقال: اذبح كبشًا قال يعقوب في حديثه، فقال لي: اذبح شاة فانصرفت فأتيت صاحبي فقلت: إن أميرَ المؤمنين لم يدرِ ما يقول! فقال صاحبي: انحر ناقتك. فسمعها عمر بن الخطاب, فأقبل عليَّ ضربًا بالدِّرة وقال: تقتل الصيد وأنت محرم، وتَغْمِصُ الفُتْيا! إن الله تعالى يقول في كتابه: « يحكم به ذوا عدل منكم » ، هذا ابن عوف، وأنا عمر! حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين, عن الشعبي قال ، أخبرني قبيصة بن جابر, بنحو ما حدث به عبد الملك. حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع, عن المسعودي, عن عبد الملك بن عمير, عن قبيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجًا فكنا إذا صلينا الغداة, اقتدرنا رواحلنا نتماشى نتحدث، قال: فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبيٌ أو بَرَح، فرماه رجل منا بحجر, فما أخطأ خُشَّاءه، فركب رَدْعَه ميتًا. قال: فعظَّمنا عليه. فلما قدمنا مكة, خرجت معه حتى أتينا عمر, فقص عليه القصة. قال : وإذا إلى جنبه رجلٌ كان وجهه قُلْبُ فضة يعني عبد الرحمن بن عوف فالتفت إلى صاحبه فكلمه. قال: ثم أقبل علي الرجل قال : أعمدًا قتلته أم خطأ؟ قال الرجل: لقد تعمَّدت رميه, وما أردت قتله. فقال عمر: ما أراك إلا قد أشركتَ بين العمد والخطأ, أعمد إلى شاة فاذبحها, وتصدق بلحمها, وَاسْقِِ إهابَها. قال: فقمنا من عنده, فقلت: أيها الرجل، عظِّم شعائر الله! فما درى أمير المؤمنين ما يُفتيك حتى سأل صاحبه! اعمد إلى ناقتك فانحرها، ففعلَّ ذاك! قال قبيصة: ولا أذكر الآية من « سورة المائدة » : « يحكم به ذوا عدل منكم » قال: فبلغ عمر مقالتي, فلم يفجأنا إلا ومعه الدِّرّة! قال : فعلا صاحبي ضربًا بالدّرة، وجعل يقول: أقتلت في الحرم وسفَّهت الحُكم! قال: ثم أقبل عليّ فقلت: يا أمير المؤمنين, لا أحِلَّ لك اليوم شيئًا يحرُم عليك مني! قال: يا قبيصة بن جابر, إنّي أراك شابَّ السن، فسيحَ الصدر بيِّن اللسان, وإن الشاب يكون فيه تسعةُ أخلاق حسنة وخلق سييء, فيفسد الخلق السييء الأخلاقَ الحسنة, فإياك وعثرات الشباب! حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة, عن مخارق, عن طارق قال : أوطأ أربدُ ضَبًّا فقتله- وهو محرم. فأتى عمر ليحكم عليه, فقال له عمر: احكم معي! فحكما فيه جَدْيًا قد جَمَع الماء والشجر. ثم قال عمر: « يحكم به ذوا عدل منكم » . حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا أصاب صيدًا, فأتى ابن عمر فسأله عن ذلك، وعنده عبد الله بن صفوان, فقال ابن عمر لابن صفوان: إما إن أقول فتصدقني, وإما أن تقول فأصدقك. فقال ابن صفوان: بل أنت فقل. فقال ابن عمر, ووافقه على ذلك عبد الله بن صفوان. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا هشام, عن ابن سيرين, عن شريح, أنه قال: لو وجدت حكمًا عدلا لحكمت في الثعلب جَدْيًا, وجديٌ أحبُّ إليّ من الثعلب. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن بكير قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي مجلز: أن رجلا سأل ابن عمر عن رجل أصاب صيدًا وهو محرم, وعنده ابن صفوان, فقال له ابن عمر: إما أن تقول فأصدقك, أو أقول فتصدقني. قال: قل وأصدقك. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا شعبة, عن منصور, عن أبي وائل قال ، أخبرني ابن جرير البجلي قال : أصبت ظبيًا وأنا محرم, فذكرت ذلك لعمر, فقال: ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. فأتيت عبد الرحمن وسعدًا, فحكما عليّ تيسًا أعْفَر قال أبو جعفر: « الأعفر » : الأبيض. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن منصور بإسناده عن عمر, مثله. حدثنا عبد الحميد قال ، أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن أشعث بن سوار, عن ابن سيرين قال : كان رجل على ناقة وهو محرم, فأبصر ظبيًا يأوي إلى أكمة, فقال: لأنظرنّ أنا أسبق إلى هذه الأكمة أم هذا الظبي؟ فوقعت عَنـز من الظباء تحت قوائم ناقته فقتلتها، فأتى عمر فذكر ذلك له, فحكم عليه هو وابن عوف عنـزا عفراء قال: وهي البيضاء. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب, عن محمد: أن رجلا أوطأ ظبيًا وهو محرم، فأتى عمر فذكر ذلك له، وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف, فأقبل على عبد الرحمن فكلمه, ثم أقبل على الرجل فقال: أهد عنـزا عفراء . حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم: أنه كان يقول: ما أصاب المحرم من شيء لم يمض فيه حكومة, استقبل به, فيحكم فيه ذوا عدل. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثني وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة, عن يعلي, عن عمرو بن حبشي قال: سمعت رجلا سأل عبد الله بن عمر، عن رجل أصاب ولدَ أرنب، فقال: فيه ولد ماعز، فيما أرى أنا. ثم قال لي: أكذاك؟ فقلت: أنت أعلم مني. فقال: قال الله تعالى ذكره: « يحكم به ذوا عدل منكم » . حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي وسهل بن يوسف, عن حميد, عن بكر: أن رجلين أبصرا طبيًا وهما محرمان, فتراهنا, وخطرُ كل واحد منهما لمن سبق إليه. فسبق إليه أحدهما, فرماه بعصاه فقتله. فلما قدما مكة, أتيا عمر يختصمان إليه، وعنده عبد الرحمن بن عوف، فذكرا ذلك له, فقال عمر: هذا قِمارٌ, ولا أجيزه! ثم نظر إلى عبد الرحمن, فقال: ما ترى! قال: شاة. فقال عمر: وأنا أرى ذلك. فلما قَفَّى الرجلان من عند عمر، قال أحدهما لصاحبه: ما درى عُمر ما يقول حتى سأل الرجل! فردّهما عمر فقال: إن الله تعالى ذكره لم يرضَ بعمر وحده، فقال: « يحكم به ذوا عدل منكم » ، وأنا عمر, وهذا عبد الرحمن بن عوف. وقال آخرون: بل ينظر العَدْلان إلى الصيد المقتول، فيقوّمانه قيمته دراهمَ, ثم يأمران القاتل أن يشتري بذلك من النعم هَدْيًا. فالحاكمان يحكمان، في قول هؤلاء، بالقيمة. وإنما يحتاج إليهما لتقويم الصيد قيمتَه في الموضع الذي أصابه فيه. وقد ذكرنا عن إبراهيم النخعي فيما مضى قبل أنه كان يقول: « ما أصاب المحرم من شيء، حكم فيه قيمته » ، وهو قول جماعة من متفقِّهة الكوفيين. وأما قوله: « هديًا » فإنه مُصَدَّر على الحال من « الهاء » التي في قوله: « يحكم به » . وقوله: « بالغ الكعبة » من نعت « الهدي » وصفته. وإنما جاز أن ينعت به، وهو مضاف إلى معرفة، لأنه في معنى النكرة. وذلك أن معنى قوله: « بالغ الكعبة » ، يبلغُ الكعبة. فهو وإن كان مضافًا فمعناه التنوين, لأنه بمعنى الاستقبال, وهو نظير قوله: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [ سورة الأحقاف :24 ] ، فوصف بقوله: مُمْطِرُنَا عَارِضًا , لأن في « ممطرنا » معنى التنوين, لأن تأويله الاستقبال, فمعناه: هذا عارض يمطرنا. فكذلك ذلك في قوله: « هديًا بالغ الكعبة » . القول في تأويل قوله : أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو عليه كفارة طعام مساكين و « الكفارة » معطوفة على « الجزاء » في قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ . واختلف القرأة في قراءة ذلك: فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: ( أو كفارة طعام مساكين ) بالإضافة. وأما قرأة أهل العراق, فإنّ عامتهم قرءوا ذلك بتنوين « الكفارة » ورفع « الطعام » : أو كفارة طعام مساكين قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب, قراءة من قرأ بتنوين « الكفارة » ورفع « الطعام » , للعلة التي ذكرناها في قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ . . واختلف أهل التأويل في معنى قوله: « أو كفارة طعام مساكين » . فقال بعضهم: معنى ذلك أنّ القاتل وهو محرم صيدًا عمدًا, لا يخلو من وجوب بعض هذه الأشياء الثلاثة التي ذكر الله تعالى ذكره: من مثل المقتول هديًا بالغَ الكعبة, أو طعامُ مسكين كفارة لما فعل, أو عدلُ ذلك صيامًا إلا أنه مخيَّر في أيِّ ذلك شاء فعل, وأنه بأيِّها كان كفَّر فقد أدّى الواجب عليه. وإنما ذلك إعلامٌ من الله تعالى عبادَه أن قاتل ذلك كما وصف لن يخرُجَ حكمه من إحدى الخلال الثلاثة. قالوا: فحكمه إن كان على المثل قادرًا أن يحكم عليه بمثل المقتول من النعم, لا يجزيه غيرُ ذلك ما دام للمثل واجدًا. قالوا: فإن لم يكن له واجدًا, أو لم يكن للمقتول مثلٌ من النعم, فكفارته حينئذ إطعام مساكين. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ قال: إذا قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد, فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه, فعليه بقرة. فإن لم يجدها, أطعم عشرين مسكينًا. فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه, فعليه بَدَنَة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام مدٌّ مُدٌّ شِبَعَهم. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فالكفارة: من قتل ما دون الأرنب، إطعام. حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير, عن منصور, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس قال : إذا أصاب المحرم الصيد، حكم عليه جزاؤه من النعم. فإن وجد جزاءَه، ذبحه فتصدق به. وإن لم يجد جزاءه، قُوِّم الجزاء دراهم, ثم قوِّمت الدراهم حنطة, ثم صام مكان كل صاع يومًا. قال: إنما أريد بالطعام الصوم, فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن زهير, عن جابر, عن عطاء ومجاهد وعامر: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، قال: إنما الطعام لمن لم يجد الهَدْي. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم أنه كان يقول: إذا أصاب المحرم شيئًا من الصيد، عليه جزاؤه من النعم. فإن لم يجد قُوِّم الجزاء دراهم, ثم قومت الدراهم طعامًا, ثم صامَ لكل نصف صاع يومًا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن حماد قال : إذا أصاب المحرم الصيد فحكم عليه, فإن فضل منه ما لا يتم نصف صاع، صام له يومًا. ولا يكون الصوم إلا على من لم يجد ثمن هديٍ، فيحكم عليه الطعام. فإن لم يكن عنده طعام يتصدق به, حكم عليه الصوم, فصام مكان كل نصف صاع يومًا « كفارة طعام مساكين » ، قال: فيما لا يبلغ ثمن هدي أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا, أو ما يتصدق به, مما لا يبلغ ثمن هدي, حكم عليه الصيام مكان كل نصف صاع يومًا. حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قال مجاهد: « ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم » ، قال: عليه من النعم مثلُه هديًا بالغَ الكعبة. ومن لم يجد، ابتاع بقيمته طعامًا, فيطعم كل مسكين مُدَّين. فإن لم يجد، صام عن كل مدَّين يومًا. حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ، إلى قوله: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ، قال: إذا قتل صيدًا، فعليه جزاؤه مثل ما قتل من النعم. فإن لم يجد، حكم عليه، ثم [ قُوِّم ] الفداءُ، كم هو درهمًا, ثمّ قدر ثمن ذلك بالطعام على المسكين، فصام عن كل مسكين يومًا, ولا يحل طعام المسكين, لأن من وجد طعام المسكين فهو يجد الفداء. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج قال : قال لي الحسن بن مسلم: من أصاب الصيد فيما جزاؤه شاة، فذلك الذي قال الله تعالى ذكره: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ . وما كان من كفارة بإطعام مساكين، مثل العصفورة يقتل ولا يبلغ أن يكون فيه هدي أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، قال عدل النعامة أو العصفور، أو عدل ذلك كله. فذكرت ذلك لعطاء فقال: كل شيء في القرآن « أو » « أو » , فلصاحبه أن يختار ما شاء. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يزيد بن هارون قال ، أخبرنا سفيان بن حسين, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس, في قوله: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، فإن لم يجد جزاءً, قوِّم عليه الجزاءُ طعامًا، ثم صاع لكل صاع يومين. وقال آخرون: معنى ذلك: أن للقاتل صيدًا عمدًا وهو محرم, الخيارُ بين إحدى الكفارات الثلاث، وهي: الجزاء بمثله من النعم، والطعام، والصوم. قالوا: وإنما تأويل قوله: « فجزاء مثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا » ، فعليه أن يجزي بمثله من النعم, أو يكفر بإطعام مساكين، أو بعدل الطعام من الصيام. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء, في قول الله تعالى ذكره: « فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم له ذوا عدل منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا » ، قال: إن أصابَ إنسان محرم نعامة, فإن له وإن كان ذا يسار أن يهدي ما شاء، جزورًا، أو عدلها طعامًا، أو عدلها صيامًا. قال: كل شيء في القرآن « أو » « أو » , فليختر منه صاحبه ما شاء. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حجاج, عن عطاء, في قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قال: « ما كان في القرآن: أو كذا أو كذا » , فصاحبه فيه بالخيار, أيَّ ذلك شاء فعل. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أسباط وعبد الأعلى, عن داود, عن عكرمة قال : ما كان في القرآن « أو » « أو » , فهو فيه بالخيار. وما كان: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ، فالذي يليه ثم الذي يليه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حفص, عن عمرو, عن الحسن, مثله. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا ليث, عن عطاء ومجاهد, أنهما قالا في قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قالا ما كان في القران: « أو كذا أو كذا » , فصاحبه فيه بالخيار، أيَّ ذلك شاء فعل. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك: ما كان في القرآن: « أو كذا أو كذا » , فصاحبه فيه بالخيار, أيَّ ذلك شاء فعل. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو حُرّة, عن الحسن قال وأخبرنا عبيدة, عن إبراهيم قالا كل شيء في القرآن « أو » « أو » , فهو بالخيار, أيّ ذلك شاء فعل. حدثنا هناد قال ، حدثنا حفص, عن ليث, عن مجاهد, عن ابن عباس قال : كل شيء في القرآن « أو » « أو » فصاحبه مخيَّر فيه, وكل شيء: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فالأول, ثم الذي يليه. واختلف القائلون بتخيير قاتل الصيد من المحرمين بين الأشياء الثلاثة، في صفة اللازم له من التكفير بالإطعام والصوم، إذا اختار الكفارة بأحدهما دونَ الهدي. فقال بعضهم: إذا اختار التكفير بذلك, فإنّ الواجب عليه أن يقوِّم المثلَ من النعم طعامًا, ثم يصوم مكان كلّ مُدّ يومًا ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال ، أخبرنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: ما أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاة، أقيمت الشاة طعامًا, ثم جعل مكان كل مدّ يومًا يصومه. وقال آخرون: بل الواجب عليه إذا أراد التكفير بالإطعام أو الصوم, أن يقوِّم الصيد المقتولَ طعامًا, ثم الصدقة بالطعام إن اختار الصدقة. وإن اختار الصوم صام. ثم اختلفوا أيضا في الصوم. فقال بعضهم: يصوم لكل مدّ يومًا. وقال آخرون: يصوم مكان كل نصف صاع يومًا. وقال آخرون: يصوم مكان كل صاع يومًا. * ذكر من قال: المقوَّم لإطعام هو الصيد المقتول. حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا شعبة, عن قتادة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ ، الآية، قال : كان قتادة يقول: يحكمان في النعم, فإن كان ليس عنده ما يبلغ ذلك، نظروا ثمنه فقوَّموه طعامًا, ثم صام مكان كل صاع يومين. وقال آخرون: لا معنى للتكفير بالإطعام, لأن من وجد سبيلا إلى التكفير بالإطعام, فهو واجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا. ومن وجد إلى الجزاء بالمثل من النعم سبيلا لم يجزه التكفير بغيره. قالوا: وإنما ذكر الله تعالى ذكره الكفارة بالإطعام في هذا الموضع، ليدلّ على صفة التكفير بالصوم لا أنه جعل التكفير بالإطعام إحدى الكفارات التي يكفر بها قتل الصيد. وقد ذكرنا تأويل ذلك فيما مضى قبل. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله: فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، أن يكون مرادا به: فعلى قاتله متعمدًا مثلُ الذي قتل من النعم لا القيمة، إن اختار أن يجزيه بالمثل من النعم. وذلك أن القيمة إنما هي من الدنانير أو الدراهم. والدراهم أو الدنانير ليست للصيد بمثل, والله تعالى ذكره إنما أوجب الجزاء مثلا من النعم. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في قوله: « أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيامًا » أن يكون تخييرًا, وأن يكون للقاتل الخيار في تكفيره بقتله الصيد وهو محرم بأيِّ هذه الكفارات الثلاث شاء. لأن الله تعالى ذكره، جعل ما أوجبَ في قتل الصيد من الجزاء والكفارة عقوبة لفعله, وتكفيرًا لذنبه، في إتلافه ما أتلف من الصيد الذي كان حرامًا عليه إتلافه في حال إحرامه, وقد كان حلالا له قبل حال إحرامه, كما جعل الفدية من صيام أو صدقة أو نسك في حلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه, وقد كان له حلالا قبل حال إحرامه, [ عقوبة لفعله، وتكفيرًا لذنبه ] وحلق الشعر الذي حلقه المحرم في حال إحرامه وقد كان له حلقه قبل حال إحرامه، ثم منع من حلقه في حال إحرامه نظير الصيد. ثم جعل عليه إن حلقه جزاءً من حلقه إياه. فأجمع الجميع على أنه في حلقه إياه إذا حلقه من أذاته، مخيَّر في تكفيره, فعله ذلك بأيِّ الكفارات الثلاث شاء. لا فرق بين ذلك فمثله إن شاء الله قاتل الصيد من المحرمين، . ومن أبى ما قلنا فيه, قيل له: حكم الله تعالى ذكره على قاتل الصيد بالمثل من النعم, أو كفارة طعام مساكين، أو عدله صيامًا كما حكم على الحالق بفدية من صيام أو صدقة أو نسك, فزعمتَ أن أحدهما مخيَّر في تكفير ما جعل منه, عِوَضٌ بأيّ الثلاث شاء, وأنكرت أن يكونَ ذلك للآخر, فهل بينك وبين من عكس عليك الأمر في ذلك فجعل الخيارَ فيه حيث أبيت، وأبى حيث جعلته له فرقٌ من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما قولا إلا إذا ألزم في الآخر مثله. ثم اختلفوا في صفة التقويم إذا أراد التكفير بالإطعام. فقال بعضهم: يقوَّم الصيد قيمته بالموضع الذي أصابه فيه. وهو قول إبراهيم النخعي, وحماد, وأبي حنيفة, وأبي يوسف, ومحمد. وقد ذكرت الرواية عن إبراهيم وحماد فيما مضى بما يدل على ذلك، وهو نص قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال آخرون: بل يقوَّم ذلك بسعر الأرض التي يكفِّر فيها. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا إسرائيل, عن جابر, عن عامر قال في محرم أصاب صيدًا بخراسان، قال : يكفر بمكة أو بمنًى. وقال: يقوّم الطعام بسعر الأرض التي يكفّر بها. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو يمان, عن إسرائيل, عن جابر, عن الشعبي, في رجل أصاب صيدًا بخراسان، قال : يحكم عليه بمكة. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا, أن قاتل الصيد إذا جزأه بمثله من النَّعم, فإنما يجزيه بنظيره في خلق وقدره في جسمه، من أقرب الأشياء به شبهًا من الأنعام. فإن جزاه بالإطعام، قوّمه قيمته بموضعه الذي أصابه فيه, لأنه هنالك وجب عليه التكفير بالإطعام. ثم إن شاء أطعم بالموضع الذي أصابه فيه ، وإن شاء بمكة، وإن شاء بغير ذلك من المواضع حيث شاء، لأن الله تعالى ذكره؛ إنما شَرَط بلوغ الكعبة بالهدي في قتل الصيد دون غيره من جزائه, فللجازي بغير الهدى أن يجزيه بالإطعام والصوم حيث شاء من الأرض. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل العلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن أبي عروبة, عن أبي معشر, عن إبراهيم قال: ما كان من دم فبمكة. وما كان من صدقة أو صوم، حيث شاء. وقد خالف ذلك مخالفون, فقالوا: لا يجزئ الهدى والإطعام إلا بمكة. فأما الصوم، فإن لم يكن كفَّر، به يصوم حيث شاء من الأرض. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن حماد بن سلمة, عن قيس بن سعد, عن عطاء قال : الدم والطعام بمكة, والصيامُ حيث شاء. حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن مالك بن مغول, عن عطاء قال : كفارة الحج بمكة. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج قال : قلت لعطاء: أين يُتصدق بالطعام إن بدا له؟ قال: بمكة ، من أجل أنه بمنـزله الهدي، قال : « فجزاء مثل ما قتل من النعم أو هديًا بالغ الكعبة » ، من أجل أنه أصابه في حَرَم يريد البيت فجزاؤه عند البيت. فأما الهدي, فإنّ من جَزَى به ما قتل من الصيد، فلن يجزئه من كفارة ما قتل من ذلك إلا أن يبلغه الكعبة كما قال تعالى ذكره وينحره أو يذبحه ويتصدق به على مساكين الحرم وعنَى بالكعبة في هذا الموضع، الحرم كله. ولمن قدَّم بهديه الواجبَ من جزاء الصيد، أن ينحره في كل وقت شاء، قبل يوم النحر وبعده, ويطعمه. وكذلك إن كفر بالطعام، فله أن يكفر به متى أحب وحيث أحب. وإن كفّر بالصوم فكذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل, خلا ما ذكرنا من اختلافهم في التكفير بالإطعام على ما قد بينا فيما مضى. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، هل لصيامه وقت؟ قال: لا إذ شاء وحيث شاء, وتعجيله أحبُّ إليّ. حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: رجل أصابَ صيدًا في الحج أو العمرة, فأرسل بجزائه إلى الحرم في المحرَّم أو غيره من الشهور, أيجزئ عنه؟ قال: نعم. ثم قرأ: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ قال هناد: قال يحيى: وبه نأخذ. حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج وابن أبي سليم, عن عطاء قال : إذا قدمتَ مكة بجزاء صيدٍ فانحره, فإن الله تعالى ذكره يقول: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، إلا أن يقدَم في العشر, فيؤخِّرُه إلى يوم النحر. حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، حدثنا ابن جريج, عن عطاء قال : يتصدّق الذي يصيب الصيدَ بمكة. فإن الله تعالى ذكره يقول: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ . القول في تأويل قوله تعالى : أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أو على قاتل الصيد محرِمًا، عدلُ الصّيد المقتول من الصيام. وذلك أن يقوّم الصيد حيًّا غير مقتول قيمته من الطعام بالموضع الذي قتله فيه المحرم, ثم يصوم مكان كل مدٍّ يومًا. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم عَدَل المدَّ من الطعام بصوم يوم في كفَّارة المُوَاقع في شهر رمَضَان. فإن قال قائل: فهلا جعلت مكان كلّ صاع في جزاءِ الصيد، صومَ يوم، قياسًا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم في نظيره, وذلك حكمه على كَعْب بن عُجْرة إذ أمره أن يطعم إنْ كفَّر بالإطعام فَرْقًا من طعام، وذلك ثلاثة آصُعٍ بين ستّة مساكين إنْ كفر بالصيام أن يصوم ثلاثة أيام, فجعل الأيام الثلاثة في الصوم عَدْلا من إطعام ثلاثة آصع, فإن ذلك بالكفارة في جزاءِ الصيد، أشبهُ من الكفارة في قتلِ الصيد بكفَّارة المُواقع امرأتَه في شهر رمضان؟. قيل: إن « القياس » ، إنما هو رَدُّ الفروع المختلف فيها، إلى نظائرها من الأصول المجمع عليها. ولا خلافَ بين الجميع من الحجّة أنه لا يجزئ مكفِّرًا كفَّر في قتل الصيد بالصوم, أن يعدِلَ صوم يوم بصاعِ طعام. فإذْ كان ذلك كذلك, وكان غير جائز خلافها فيما حدَّثت به من الدين مجمعةً عليه، صحَّ بذلك أن حكم معادلة الصوم الطعامَ في قتل الصيد، مخالف حكم معادلته إيَّاه في كفارة الحلق, إذْ كان غير جائز ردّ أصْلٍ على أصْلٍ قياسًا. وإنما يجوز أن يقاس الفرعُ على الأصل. وسواء قال قائل: « هلا رددتَ حكم الصوم في كفارة قتلِ الصيد، على حكمه في حَلْق الأذى فيما يُعْدل به من الطعام » ؟ وآخر قال: « هلا رددت حكم الصوم في الحلق، على حكمه في كفارة قتل الصيد فيما يُعدلُ به من الطعام, فتُوجب عليه مكان كل مدٍّ أو مكان كل نصف صاع صومَ يوم » ؟ وقد بينا فيما مضى قبل أن « العَدْل » في كلام العرب بالفتح, هو قدر الشيء من غير جنسه وأن « العِدْل » هو قدره من جنسه. وقد كان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: « العدل » مصدر من قول القائل: « عَدَلت بهذا عَدْلا حسنًا » . قال: « والعَدْل » أيضًا بالفتح، المثل. ولكنهم فرَّقوا بين « العدل » في هذا وبين « عِدْل المتاع » , بأن كسروا « العين » من « عِدْل المتاع » , وفتحوها من قول الله تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [ سورة البقرة:123 ] ، وقول الله عز وجل: « أو عدل ذلك صيامًا » ، كما قالوا: « امرأة رَزان » وحجر رَزين . وقال بعضهم: « العدل » هو القسط في الحق, و « العِدْل » بالكسر، المثل. وقد بينا ذلك بشواهد فيما مضى. . وأما نصب « الصيام » فأنه على التفسير، كما يقال: « عندي ملء زقٍّ سمنًا » , و « قدر رطلٍ عسلا » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: ما « عدل ذلك صيامًا » ؟ قال: عَدْل الطعامِ من الصيام. قال: لكل مدٍّ يومًا، يأخذ زعَم بصيام رمضان وبالظِّهار. وزعم إن ذلك رأى يراه، ولم يسمعه من أحد, ولم تمض به سنة. قال: ثم عاودته بعد ذلك بحين, قلت: ما « عدل ذلك صيامًا » ؟ قال: إن أصاب ما عَدْله شاةٌ, قوِّمت طعامًا، ثم صام مكان كل مدٍّ يومًا. قال: ولم أسأله: هذا رأي أو سنة مسنونة ؟ حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير في قوله عز وجل: « أو عدل ذلك صيامًا » ، قال: بصوم ثلاثةَ أيام إلى عشرة أيام. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن حماد: « أو عدل ذلك صيامًا » ، من الجزاء، إذا لم يجد ما يشتري به هديًا، أو ما يتصدق به مما لا يبلُغ ثمنَ هدي, حكم عليه الصيامُ مكان كل نصفِ صاعٍ يومًا. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أو عدل ذلك صيامًا » ، قال: إذ قتل المحرم شيئًا من الصيد، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجدها، فإطعام ستة مساكين. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وإن قتل أيِّلا أو نحوه، فعليه بقرة. فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا, فإن لم يجد، صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامةً أو حمارَ وحش أو نحوه, فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد، أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد، صام ثلاثين يومًا. والطعام: مدٌّ مدٌّ، شِبَعَهم. حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة, عن سعيد, [ سألته ] المحرِم يصيب الصيد فيكون عليه الفدية، شاة, أو البقرة أو البدنة. فلا يجد، فما عدل ذلك من الصيام أو الصدقة؟ قال: ثمن ذلك، فإن لم يجد ثمنه، قوّم ثمنه طعامًا يتصدق به لكل مسكين مُدّ, ثم يصومُ بكُلّ مدٍّ يومًا. القول في تأويل قوله : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أوجبت على قاتل الصيد محرمًا ما أوجبت من الجزاء والكفارة الذي ذكرت في هذه الآية، كي يذوق وبال أمره وعذابه. يعني: « بأمره » ، ذنبه وفعله الذي فعله من قتله ما نهاه الله عز وجل عن قتله في حال إحرامه. يقول: فألزمته الكفارة التي ألزمته إياها, لأذيقه عقوبة ذنبه. بإلزامه الغرامة, والعمل ببدنه مما يتعبه ويشق عليه. . وأصل « الوبال » ، الشدّة في المكروه، ومنه قول الله عز وجل: فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا [ سورة المزمل:16 ] . وقد بيّن تعالى ذكره بقوله: « ليذوق وبالَ أمره » ، أنَّ الكفاراتِ اللازمةَ الأموالَ والأبْدَانَ ، عقوباتٌ منه لخلقه, وإن كانت تمحيصًا لهم, وكفارةً لذُنُوبهم التي كفَّروها بها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « وبال أمره » , فعقوبة أمرِه. القول في تأويل قوله : عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ قال أبو جعفر: يقول جل من قائل لعباده المؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: عفا الله ، أيها المؤمنون، عمَّا سلف منكم في جاهليتكم، من إصابتكم الصيد وأنتم حُرُم، و قتلِكموه, فلا يؤاخذكم بما كان منكم في ذلك قبل تحريمه إياه عليكم, ولا يلزمكم له كفارةً في مال ولا نفس. ولكن من عاد منكم لقتله وهو محرم، بعد تحريمه بالمعنى الذي كان يَقْتُله في حال كفره، وقبل تحريمه عليه، من استحلاله قتلَه, فينتقم الله منه. وقد يحتمل أن يكون معناه: من عاد لقتله بعد تحريمه في الإسلام، فينتقم الله منه في الآخرة. فأما في الدنيا، فإن عليه من الجزاء والكفَّارة فيها ما بيَّنت. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء: ما « عفا الله عما سلف » ؟ قال: عما كان في الجاهلية. قال قلت: ما « ومن عاد فينتقم الله منه » ؟ قال: من عاد في الإسلام, فينتقم الله منه. وعليه مع ذلك الكفارة. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، قلت لعطاء, فذكر نحوه وزاد فيه, وقال: وإن عاد فقتل، عليه الكفارة. قلت: هل في العَوْد من حدٍّ يعلم؟ قال: لا قلت: فترى حقًّا على الإمام أن يعاقبه؟ قال: هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله, ولكن يفتدي. حدثنا سفيان قال ، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد, عن ابن جريج، عن عطاء: « ومن عاد فينتقم الله منه » ، قال: في الإسلام, وعليه مع ذلك الكفارة. قلت: عليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا. حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء: « عفا الله عما سلف » ، عمَّا كان في الجاهلية « ومن عاد » ، قال: في الإسلام « فينتقم الله منه » ، وعليه الكفارة. قال قلت لعطاء: فعليه من الإمام عقوبة؟ قال: لا. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء قال : يحكم عليه في الخطإ والعمد والنسيان، وكلَّما أصاب، قال الله عز وجل: « عفا الله عما سلف » ، قال: ما كان في الجاهلية « ومن عاد فينتقم الله منه » ، مع الكفارة قال سفيان، قال ابن جريج: فقلت: أيعاقبه السلطان؟ قال: لا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد, عن ابن جريج قال ، قلت لعطاء: « عفا الله عما سلف » ، قال: عما كان في الجاهلية. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم, عن أبي بشر, عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: يحكم عليه كلَّما عاد. حدثنا هناد قال ، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد قال : كلَّما أصاب المحرم الصيد ناسيًا حُكِم عليه. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض, عن منصور, عن إبراهيم قال : كلَّما أصاب الصيدَ المحرمُ حُكِم عليه. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا سفيان بن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن عطاء قال : من قتل الصيد ثم عاد ، حكم عليه. حدثنا عمرو قال ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن داود بن أبي هند, عن سعيد بن جبير قال : يحكم عليه ، أفيُخْلَع! أفيُتْرك!. حدثنا عمرو قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا داود بن أبي هند, عن سعيد بن جبير: الذي يصيب الصيد وهو محرم فيحكم عليه ثم يعود؟ قال: يحكم عليه. حدثنا عمرو قال ، حدثنا كثير بن هشام قال ، حدثنا الفرات بن سلمان, عن عبد الكريم, عن عطاء قال : يحكم عليه كلَّما عاد. وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف منكم في ذلك في الجاهلية, ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه ، بإلزامه الكفّارة. ذكر من قال ذلك: حدثني ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو, عن زهير, عن سعيد بن جبير وعطاء في قوله الله تعالى ذكره : « ومن عاد فينتقم الله منه » ، قالا « ينتقم الله » , يعني بالجزاء « عفا الله عما سلف » ، في الجاهلية. وقال آخرون في ذلك: عفا الله عما سلف من قتل من قتلَ منكم الصيدَ حرامًا في أول مرة. ومن عاد ثانية لقتله بعد أولى حرامًا, فاللهُ وليُّ الانتقام منه ، دون كفارة تلزمه لقتله إياه. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: من قتل شيئًا من الصيد خطأ وهو محرم, حكم عليه فيه مرة واحدة. فإن عاد يقال له: « ينتقم الله منك » , كما قال الله عز وجل. حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا فضيل بن عياض, عن هشام, عن عكرمة, عن ابن عباس قال . إذا أصاب المحرم الصيدَ حُكم عليه. فإن عاد ، لم يحكم عليه, وكان ذلك إلى الله عز وجل, إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه. ثم قرأ هذه الآية: « ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام » . حدثنا هناد قال ، حدثنا يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا داود, عن عامر قال : جاء رجل إلى شريح فقال: إني أصبت صيدًا وأنا محرم! فقال: هل أصبت قبل ذلك شيئًا؟ قال: لا. قال: لو قلت « نعم » ، وكلتك إلى الله يكون هو ينتقم منك, إنه عزيز ذو انتقام! قال داود: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: بل يحكم عليه, أفَيخْلَع! حدثني أبو السائب وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن إبراهيم قال : إذا أصابَ الرجلُ الصيدَ وهو محرم, قيل له أصبت صيدًا قبل هذا؟ فإن قال: « نعم » , قيل له: اذهب, فينتقم الله منك! وإن قال « لا » , حكم عليه. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن سليمان, عن إبراهيم ، في الذي يقتل الصيد ثم يعود ، قال : كانوا يقولون: من عاد لا يحكم عليه, أمرُه إلى الله عز وجل. حدثنا عمرو قال ، حدثنا ابن عيينة, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي: أن رجلا أتى شريحًا فقال: أصبت صيدًا؟ ، قال: أصبت قبله صيدًا؟ قال: لا. قال : أما إنك لو قلت « نعم » , لم أحكم عليك. حدثنا عمرو قال ، حدثنا ابن أبي عدي قال ، حدثنا داود, عن الشعبي, عن شريح, مثله. حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم, عن الأشعث, عن محمد, عن شريح ، في الذي يصيب الصيد قال : يحكم عليه, فإن عاد انتقمَ الله منه. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكّام بن سلم, عن عنبسة, عن سالم, عن سعيد بن جبير: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، قال: يحكم عليه في العمد مرة واحدة, فإن عاد لم يحكم عليه ، وقيل له: « اذهب ينتقم الله منك » , ويحكم عليه في الخطأ أبدًا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن سفيان, عن خصيف, عن سعيد بن جبير قال : رُخّص في قتل الصيد مرة, فمن عاد لم يدعه الله تعالى ذكره حتى ينتقم منه. حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن خصيف, عن سعيد بن جبير, مثله. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي ، جميعًا عن هشام, عن عكرمة, عن ابن عباس ، فيمن أصاب صيدًا فحكم عليه, ثم أعاد ، قال : لا يحكم, ينتقم الله منه. حدثنا عمرو قال ، حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: إنما قال الله عز وجل: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ، يقول: متعمدًا لقتله ، ناسيًا لإحرامه, فذلك الذي يحكم عليه, فإن عاد لا يحكم عليه, وقيل له: « ينتقم الله منك » . حدثنا عمرو قال ، حدثنا كثير بن هشام قال ، حدثنا الفرات بن سلمان, عن عبد الكريم, عن مجاهد: إن عاد لم يحكم عليه, وقيل له: « ينتقم الله منك » . حدثنا عمرو قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا الأشعث, عن الحسن ، في الذي يصيب الصيد فيحكم عليه ثم يعود ، قال : لا يحكم عليه. وقال آخرون: معنى ذلك: عفا الله عما سلف من قتلكم الصيد قبل تحريم الله تعالى ذكره ذلك عليكم. ومن عاد لقتله بعد تحريم الله إياه عليه ، عالمًا بتحريمه ذلك عليه, عامدًا لقتله, ذاكرًا لإحرامه, فإن الله هو المنتقم منه, ولا كفارة لذنبه ذلك, ولا جزاء يلزمه له في الدنيا. ذكر من قال ذلك: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: « ومن عاد فينتقم الله منه » ، قال: من عاد بعد نهي الله - بعد أن يعرف أنه محرَّم ، وأنه ذاكرٌ لِحُرْمه - لم ينبغ لأحد أن يحكم عليه, ووكلوه إلى نقمة الله عز وجل. فأما الذي يتعمد قتلَ الصيد وهو ناس لحرمه, أو جاهل أنّ قتله محرَّم, فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدًا بعد نهي الله ، وهو يعرف أنه محرَّم ، وأنه حَرام، فذلك يوكل إلى نقمة الله, فذلك الذي جعل الله عليه النقمة. وهذا شبيه بقول مجاهد الذي ذكرناه قبل. وقال آخرون: عُنِي بذلك شخصٌ بعينه. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا معتمر بن سليمان قال ، حدثنا زيد أبو المعلى: أن رجلا أصاب صيدًا وهو محرم, فتجُوِّز له عنه. ثم عاد, فأرسل الله عليه نارًا فأحرقته, فذلك قوله: « ومن عاد فينتقم الله منه » ، قال: في الإسلام. قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا, قولُ من قال: معناه: « ومن عاد في الإسلام لقتله بعد نهي الله تعالى ذكره عنه, فينتقم الله منه, وعليه مع ذلك الكفارة » , لأن الله عز وجل إذْ أخبر أنه ينتقم منه، لم يخبرنا وقد أوجب عليه في قتله الصيد عمدًا ما أوجب من الجزاء أو الكفارة بقوله: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أنه قد أزال عنه الكفارة في المرة الثانية والثالثة, بل أعلم عبادَه ما أوجبَ من الحكم على قاتل الصيد من المحرمين عمدًا, ثم أخبر أنه منتقم ممن عاد, ولم يقل: « ولا كفارة عليه في الدنيا » . فإن ظن ظانّ أن الكفارة مزيلةٌ العقابَ، ولو كانت الكفارةُ لازمةً له في الدنيا ، لبطلَ العقاب في الآخرة, فقد ظنّ خطأ. وذلك أن الله عز وجلّ أن يخالف بين عقوبات معاصيه بما شاء وأحب ، فيزيد في عقوبته على بعض معاصيه مما ينقصُ من بعض, وينقص من بعض مما يزيد في بعض, كالذي فعل من ذلك في مخالفته بين عقوبته الزانيَ البكرَ والزانيَ الثيِّبَ المحصن, وبين سارق ربع دينار وبين سارق أقلَّ من ذلك . فكذلك خالف بين عقوبته قاتلَ الصيد من المحرمين عمدًا ابتداءً ، وبين عقوبته عَوْدًا بعد بدء. فأوجب على الباديء المثلَ من النعم, أو الكفارة بالإطعام, أو العدل من الصيام, وجعل ذلك عقوبة جُرْمه بقوله: لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ، وجعل على العائد بعد البدء, وزاده من عقوبته ما أخبر عبادَه أنه فاعل به من الانتقام ، تغليظًا منه عز وجل للعود بعد البدء. ولو كانت عقوباته على الأشياء متفقة, لوجب أن لا يكون حدٌّ في شيء ، مخالفًا حدًّا في غيره, ولا عقابٌ في الآخرة ، أغلظ من عقابٍ. وذلك خلاف ما جاء به محكم الفرقان. وقد زعم بعض الزاعمين أن معنى ذلك: ومن عاد في الإسلام بعد نَهْي الله عن قتله لقتله بالمعنى الذي كان القوم يقتلونه في جاهليتهم, فعفا لهم عنه عند تحريم قتله عليهم, وذلك قتله على استحلال قتله . قال: فأما إذا قتله على غير ذلك الوجه وذلك أن يقتله على وجه الفسوق لا على وجه الاستحلال فعليه الجزاء والكفارة كلَّما عاد. وهذا قول لا نعلم قائلا قاله من أهل التأويل. وكفي خطأ بقوله ، خروجه عن أقوال أهل العلم ، لو لم يكن على خطئه دلالة سواه, فكيف وظاهر التنـزيل ينبئ عن فساده؟ وذلك أن الله عز وجل عمّ بقوله: « ومن عاد فينتقم الله منه » ، كلَّ عائد لقتل الصيد بالمعنى الذي تقدم النهي منه به في أوّل الآية, ولم يخصّ به عائدًا منهم دون عائد. فمن ادَّعى في التنـزيل ما ليس في ظاهره ، كُلِّف البرهانَ على دعواه من الوجه الذي يجب التسليمُ له. وأما من زعم أن معنى ذلك: ومن عاد في قتله متعمدًا بعد بدء لقتل تقدم منه في حال إحرامه ، فينتقم الله منه, كان معنى قوله: « عفا الله عما سلف » ، إنما هو: عفا الله عما سلف من ذنبه بقتله الصيد بدءًا فإنّ في قول الله تعالى ذكره : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ، دليلا واضحًا على أن القول في ذلك غير ما قال ، لأن العفو عن الجرم: تركُ المؤاخذة به. ومن أذيق وبال جرمه ، فقد عوقب به. وغير جائز أن يقال لمن عوقب: « قد عفي عنه » . وخبر الله عز وجل أصدق من أن يقع فيه تناقض. فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون قاتل الصيد من المحرمين في أوّل مرّة ، قد أذيق وبال أمره بما ألزم من الجزاء والكفارة, وعفي له من العقوبة بأكثر من ذلك مما كان لله عز وجل أن يعاقبه به؟ قيل له: فإن كان ذلك جائزًا أن يكون تأويلَ الآية عندك وإن كان مخالفًا لقول أهل التأويل فما تُنكر أن يكون الانتقام الذي أوعده الله تعالى ذكره على العود بعد البدء, هو تلك الزيادة التي عفاها عنه في أول مرة ، مما كان له فعله به مع الذي أذاقه من وبال أمره, فيذيقه في عوده بعد البدء وبالَ أمره الذي أذاقه المرة الأولى ويترك عفوَه عما عفا عنه في البدء, فيؤاخذه به؟ فلن يقول في ذلك شيئا إلا ألزم في الآخر مثله. القول في تأويل قوله : وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ( 95 ) قال أبو جعفر: يقول عز وجل: والله منيعٌ في سلطانه, لا يقهره قاهرٌ, ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه, ولا من عقوبة من أراد عقوبته ، مانع. لأن الخلق خلقه, والأمر أمره, له العزة المَنَعة. وأما قوله: « ذو انتقام » ، فإنه يعني به: معاقبتَه لمن عصاه على معصيته إياه. القول في تأويل قوله : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « أحل لكم » ، أيها المؤمنون ، « صيد البحر » وهو ما صيد طريًّا ، كما:- حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عمر بن أبي سلمة, عن أبيه, عن أبي هريرة قال : قال عمر بن الخطاب في قوله: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: صيده ، ما صيد منه. حدثني ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن سماك قال : حُدِّثت, عن ابن عباس قال : خطب أبو بكر الناس فقال: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: فصيده ما أخذ. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: صيده ، ما صيد منه. حدثنا سليمان بن عمر بن خالد البرقي قال ، حدثنا محمد بن سلمة الحرّاني, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: صيده ، الطريّ. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الهذيل بن بلال قال ، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير, عن ابن عباس في قوله: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: صيدُه ، ما صِيد. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: الطريّ. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا الحسن بن علي بن الحنفيّ أو: الحسين, شك أبو جعفر عن الحكم بن أبان, عن عكرمة ، قال : كان ابن عباس يقول: صيد البحر ، ما اصطاده. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: الطريّ. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن الحجاج, عن العلاء بن بدر, عن أبي سلمة قال : « صيد البحر » ، ما صيد. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: الطريّ. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير ، مثله. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير: « أحل لكم صيد البحر » ، قال: السمك الطريّ. حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « أحل لكم صيد البحر » ، أما « صيد البحر » ، فهو السمك الطريّ, هي الحيتان. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب قال : صيده ، ما اصطدته طريًّا- قال معمر ، وقال قتادة: صيده ، ما اصطدته. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : « أحل لكم صيد البحر » ، قال: حيتانه. حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمر بن أبي سلمة قال ، سئل سعيد عن صيد البحر فقال ، قال مكحول ، قال زيد بن ثابت: صيده ، ما اصطدت. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، قال: يصطاد المحرِم والمحلُّ من البحر, ويأكلُ من صيده. حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة قال : قال أبو بكر: طعام البحر كلُّ ما فيه وقال جابر بن عبد الله: ما حَسر عنه فكُلْ. وقال: كلّ ما فيه يعني: جميع ما صيدَ . حدثنا سعيد بن الربيع قال ، حدثنا سفيان, عن عمرو, سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، قال: هو كل ما فيه. وعنى ب « البحر » ، في هذا الموضع ، الأنهار كلها. والعرب تسمى الأنهار « بحارًا » , كما قال تعالى ذكره: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ . قال أبو جعفر : فتأويل الكلام: أحل لكم ، أيها المؤمنون ، طريّ سمك الأنهار الذي صدتموه في حال حِلِّكم وحَرَمكم, وما لم تصيدوه من طعامه الذي قتله ثم رَمى به إلى ساحله. واختلف أهل التأويل في معنى قوله: « وطعامه » . فقال بعضهم: عني بذلك: ما قذف به إلى ساحله ميتًا, نحو الذي قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن سماك قال ، حدثت عن ابن عباس قال : خطب أبو بكر الناس فقال: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » , وطعامه ، ما قَذَف. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عمر بن أبي سلمة, عن أبيه, عن أبي هريرة قال : كنت بالبحرين, فسألونى عما قذف البحر. قال : فأفتيتهم أن يأكلوا. فلما قدمتُ على عمر بن الخطاب رضي الله عنه, ذكرت ذلك له, فقال لي: بم أفتيتهم؟ قال ، قلت: أفيتهم أن يأكلوا؟ قال : لو أفتيتهم بغير ذلك لعلوتك بالدِّرَّة! قال: ثم قال: إن الله تعالى قال في كتابه: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، فصيده ، ما صيد منه وطعامه ، ما قَذَف. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا حصين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: طعامه ما قَذَف. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز, عن ابن عباس في قوله: « أحل لكم صيد البحر وطعامه » ، قال: طعامه ما قذف. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز, عن ابن عباس, مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين بن علي, عن زائدة, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: « طعامه » ، كل ما ألقاه البحر. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا الحسن بن علي أو: الحسين بن على الحنفي, شك أبو جعفر عن الحكم بن أبان, عن عكرمة, عن ابن عباس قال : « طعامه » ، ما لفظ من ميتته. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الهذيل بن بلال قال ، حدثنا عبد الله بن عبيد بن عمير, عن ابن عباس: « أحل لكم صيد البحر وطعامه » ، قال: « طعامه » ، ما وجد على الساحل ميتًا. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن سليمان التيمي, عن أبي مجلز, عن ابن عباس قال : « طعامه » ، ما قذف به. حدثنا سعيد بن الربيع قال ، حدثنا سفيان, عن عمرو, سمع عكرمة يقول: قال أبو بكر رضي الله عنه: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، هو كل ما فيه. حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا الضحاك بن مخلد, عن ابن جريج قال ، أخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرمة مولى ابن عباس قال : قال أبو بكر: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، ميتته قال عمرو: وسمعت أبا الشعثاء يقول: ما كنت أحسب طعامه إلا مالحه. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثني الضحاك بن مخلد, عن ابن جريج قال ، أخبرني أبو بكر بن حفص بن عمر بن سعد, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، ميتته. حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع, عن عثمان, عن عكرمة: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، ما قذف. حدثنا ابن عبد الأعلى قال ، حدثنا معمر بن سليمان قال ، سمعت عبيد الله, عن نافع قال : جاء عبد الرحمن إلى عبد الله فقال: البحر قد ألقى حيتانًا كثيرة؟ قال: فنهاه عن أكلها, ثم قال: يا نافع، هات المصحف! فأتيته به, فقرأ هذه الآية: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال، قلت: « طعامه » ، هو الذي ألقاه. قال: فالحقْهُ, فمُرْهُ بأكله. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب, عن نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر, فقال: إن البحر قذف حيتانًا كثيرة ميتة، أفنأكلها؟ قال: لا تأكلوها! فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ « سورة المائدة » , فأتى على هذه الآية: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ » ، قال: اذهب, فقل له فليأكله, فإنه طعامه. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية قال ، أخبرنا أيوب, عن نافع, عن ابن عمر, بنحوه. حدثني المثنى قال ، حدثنا الضحاك بن مخلد, عن ابن جريج قال ، أخبرني عمرو بن دينار, عن عكرمة مولى ابن عباس قال ، قال أبو بكر رضي الله عنه: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: ميتته قال عمرو: سمعت أبا الشعثاء يقول: ما كنت أحسب « طعامه » إلا مالحه. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا الضحاك بن مخلد, عن ابن جريج قال ، أخبرنا نافع: أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر عن حيتان كثيرة ألقاها البحر, أميتة هي؟ قال: نعم! فنهاه عنها، ثم دخل البيت فدعا بالمصحف فقرأ تلك الآية: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، كل شيء أخرج منه، فكله، فليس به بأس. وكل شيء فيه يأكل، ميت أو بساحليه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان, عن معمر قال قتادة: « طعامه » ، ما قذف منه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو خالد, عن ليث, عن شهر, عن أبي أيوب قال : ما لفظ البحر فهو طعامه, وإن كان ميتًا. حدثنا هناد قال ، حدثنا أبو الأحوص, عن ليث, عن شهر، قال : سئل أبو أيوب عن قول الله تعالى ذكره : « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا » ، قال: هو ما لفظ البحر. وقال آخرون: عنى بقوله: « وطعامه » ، المليح من السمك فيكون تأويل الكلام على ذلك من تأويلهم: أحل لكم سمك البحر ومَليحه في كل حال، في حال إحلالكم وإحرامكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا سليمان بن عُمَر بن خالد الرقيّ قال ، حدثنا محمد بن سلمة, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس: « وطعامه » ، قال: « طعامه » ، المالح منه. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، يعني: بطعامه، مالحه, وما قذف البحر منه، مالحه. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، وهو المالح. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن مجمّع التيمي, عن عكرمة في قوله: « مَتَاعًا لَكُمْ » قال: المليح. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن سالم الأفطس وأبي حصين, عن سعيد بن جبير قال : المليح. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: المليح، وما لَفَظ. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سالم, عن سعيد بن جبير في قوله: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول: « أطعموني » ! فإن قال: « غريضًا » , ألقوا شبكتهم فصادوا له. وإن قال: « أطعموني من طعامكم » , أطعموه من سمكهم المالح. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء, عن سعيد: « أحل لكم صيد البحر وطعامه » ، قال: المنبوذ, السمك المالح. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير: « وطعامه » ، قال: المالح. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: « وطعامه » ، قال: هو مليحُه . ثم قال: ما قَذَف. حدثنا ابن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وطعامه » ، قال: مملوح السمك. حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرني الثوري, عن منصور قال : كان إبراهيم يقول: « طعامه » ، السمك المليح. ثم قال بعد: ما قذفَ به. حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا الثوري, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير قال : « طعامه » ، المليح. حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا إسرائيل, عن عبد الكريم, عن مجاهد قال : « طعامه » ، السمك المليح. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في هذه الآية: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: الصِّير قال شعبة، فقلت لأبي بشر: ما الصِّير؟ قال: المالح. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا هشام بن الوليد قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن جعفر بن أبي وحشية, عن سعيد بن جبير قوله: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: الصِّير. قال قلت: ما الصير؟ قال: المالح. حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: أما « طعامه » ، فهو المالح. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، ما تزوّدت مملوحًا في سفرك. حدثنا عمرو بن عبد الحميد وسعيد بن الربيع الرازي قالا حدثنا سفيان، عن عمرو قال ، قال جابر بن زيد: كنا نُحَدَّث أن « طعامه » مليحه, ونكره الطافي منه. وقال آخرون: « طعامه » ، ما فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة قال : طعام البحر، ما فيه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن حريث, عن عكرمة: « وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: ما جاء به البحر بموجه، هكذا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن حسن بن صالح, عن ليث, عن مجاهد قال : « طعامه » ، كل ما صيد منه. قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا, قولُ من قال: « طعامه » ، ما قذفه البحر، أو حَسَر عنه فوُجد ميتًا على ساحله. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر قبله صيدَ الذي يصاد, فقال: « أحل لكم صيد البحر » ، فالذي يجب أن يعطف عليه في المفهوم ما لم يُصَدْ منه, فقال: أحل لكم ما صدتموه من البحر، وما لم تصيدوه منه. وأما « المليح » , فإنه ما كان منه مُلِّح بعد الاصطياد, فقد دخل في جملة قوله: « أحل لكم صيد البحر » ، فلا وجه لتكريره, إذ لا فائدة فيه. وقد أعلم عبادَه تعالى ذكره: إحلالَه ما صيد من البحر بقوله: « أحل لكم صيد البحر » . فلا فائدة أن يقال لهم بعد ذلك: « ومليحه الذي صيد حلال لكم » , لأن ما صيد منه فقد بُيِّن تحليله، طريًّا كان أو مليحًا، بقوله: « أحل لكم صيد البحر » والله يتعالى عن أن يخاطب عباده بما لا يفيدهم به فائدة. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا خبر, وإن كان بعض نقلته يقف به على ناقلِه عنه من الصحابة, وذلك ما:- حدثنا هناد بن السريّ قال ، حدثنا عبدة بن سليمان, عن محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو سلمة, عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ » ، قال: « طعامه » ، ما لفظه ميتًا فهو طعامه « . » وقد وقف هذا الحديث بعضهم على أبي هريرة. حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة, عن محمد بن عمرو, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة في قوله: « أحل لكم صيد البحر وطعامه » ، قال: « طعامه » ، ما لفظه ميتًا. القول في تأويل قوله : مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « متاعًا لكم » ، منفعةً لمن كان منكم مقيمًا أو حاضرًا في بلده، يستمتع بأكله وينتفع به « وللسيارة » ، يقول: ومنفعةً أيضًا ومتعة للسائرين من أرض إلى أرض, ومسافرين يتزوّدونه في سفرهم مليحًا. و « السيارة » ، جمع « سيّار » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرني أبو إسحاق, عن عكرمة أنه قال في قوله: « متاعًا لكم وللسيارة » ، قال: لمن كان بحضرة البحر « وللسيارة » ، السَّفْر. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن سعيد بن أبي عروبة, عن قتادة في قوله: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، ما قذف البحر, وما يتزوّدون في أسفارهم من هذا المالح يتأوّلها على هذا. حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع عن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، مملوح السمك، ما يتزودون في أسفارهم. حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقيّ قال ، حدثنا مسكين بن بكير قال ، حدثنا عبد السلام بن حبيب النجاري, عن الحسن في قوله: « وللسيارة » ، قال: هم المحرمون. حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، أما « طعامه » ، فهو المالح منه, بلاغٌ يأكل منه السيار في الأسفار. حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، قال: « طعامه » ، مالحه، وما قذف البحر منه، يتزوَّده المسافر وقال مرة أخرى: مالحه، وما قذف البحر. فمالحه يتزوده المسافر. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، يعني المالح يتزوّده. وكان مجاهد يقول في ذلك بما:- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وطعامه متاعا لكم » ، قال: أهل القرَى « وللسيارة » ، أهل الأمصَار. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « متاعًا لكم » ، قال: لأهل القرى « وللسيارة » ، قال: أهل الأمصار، والحيتانُ للناس كلهم. وهذا الذي قاله مجاهد: من أن « السيارة » هم أهل الأمصار، لا وجه له مفهوم, إلا أن يكون أراد بقوله: « هم أهل الأمصار » ، هم المسافرون من أهل الأمصار, فيجب أن يدخل في ذلك كل سيارة، من أهل الأمصار كانوا أو من أهل القرى. فأما « السيارة » ، فلا نعقله: المقيمون في أمصارهم. القول في تأويل قوله : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وحرم الله عليكم، أيها المؤمنون، صيد البر « ما دمتم حرمًا » , يقول: ما كنتم محرمين، لم تحِلوا من إحرامكم. ثم اختلف أهل العلم في المعنى الذي عَنى الله تعالى ذكره بقوله: « وحُرِّم عليكم صيدُ البر » . فقال بعضهم: عنى بذلك: أنه حرَّم علينا كل معاني صيد البر: من اصطياد، وأكل، وقتل، وبيع، وشراء، وإمساك، وتملُّك. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث بن نوفل, عن أبيه قال : حج عثمان بن عفان, فحج عليّ معه، قال: فأتي عثمان بلحم صيد صاده حَلال, فأكل منه، ولم يأكل عليّ, فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا! فقال عليّ: « وحُرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » . حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هرون بن المغيرة, عن عمرو بن أبي قيس, عن سماك, عن صبيح بن عبد الله العبسي قال : بعث عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض، فنـزل قديدًا, فمرّ به رجل من أهل الشام معه باز وصقر, فاستعاره منه, فاصطاد به من اليعاقيب، فجعلهن في حظيرة. فلما مرّ به عثمان طبخهن, ثم قدمهن إليه, فقال عثمان: كلوا! فقال بعضهم: حتى يجيء علي بن أبي طالب، رحمة الله عليه. فلما جاء فرأى ما بين أيديهم، قال علي: إنا لن نأكل منه! فقال عثمان: مالك لا تأكل؟ فقال: هو صيد, ولا يحل أكله وأنا محرم! فقال عثمان: بيِّن لنا! فقال عليّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، فقال عثمان: أو نحن قتلناه؟ فقرأ عليه: « أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » . حدثنا تميم بن المنتصر وعبد الحميد بن بيان القناد قالا أخبرنا إسحاق الأزرق, عن شريك, عن سماك بن حرب, عن صبيح بن عبيد الله العبسي قال : استعمل عثمان بن عفان أبا سفيان بن الحرث على العَرُوض ثم ذكر نحوه, وزاد فيه، قال: فمكث عثمان ما شاء الله أن يمكث, ثم أتى فقيل له بمكة: هل لك في ابن أبي طالب، أهدي له صفيف حمار فهو يأكل منه! فأرسل إليه عثمان، وسأله عن أكل الصفيف, فقال: أما أنتَ فتأكل, وأما نحن فتنهانا؟ فقال: إنه صيد عام أوّلَ وأنا حلال, فليس عليّ بأكله بأس, وصيد ذلك يعني اليعاقيب وأنا محرم, وذبحن وأنا حرَام. حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا يونس, عن الحسن: أن عمر بن الخطاب لم يكن يرى بأسًا بلحم الصيد للمحرم, وكرهه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب: أن عليًا كره لحم الصيد للمحرم على كل حال. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث: أنه شهد عثمان وعليًّا أُتيا بلحم, فأكل عثمان ولم يأكل عليّ, فقال عثمان: أنحن صِدْنا أو صيد لنا؟ فقرأ عليّ هذه الآية: « أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة وحرِّم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » . حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا عمر بن أبي سلمة, عن أبيه قال : حج عثمان بن عفان, فحج معه علي, فأتي بلحم صَيدٍ صاده حلالٌ, فأكل منه وهو محرم, ولم يأكل منه عليّ, فقال عثمان: إنه صيدَ قبل أن نحرم! فقال له علي: ونحن قد نـزلنا وأهالينا لنا حلال، أفيحللن لنا اليوم؟ حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون, عن عمرو, عن عبد الكريم, عن مجاهد, عن عبد الله بن الحارث بن نوفل: أن عليًّا أتى بِشِقّ عَجُز حمار وهو محرم, فقال: إنّي محرم. حدثنا ابن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا سعيد, عن يعلى بن حكيم, عن عكرمة, عن ابن عباس: أنه كان يكرهه على كل حال، ما كان محرمًا. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا ابن جريج قال ، أخبرنا نافع: أن ابن عمر كان يكره كل شيء من الصيد وهو حرام, أخذ له أو لم يؤخذ له, وَشِيقةً وغيرها. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان, عن عبد الله قال ، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان لا يأكل الصيدَ وهو محرم، وإن صاده الحلالُ. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني الحسن بن مسلم بن يناق: أنّ طاوسًا كان ينهى الحرامَ عن أكل الصيد، وشيقة وغيرها، صيد له أو لم يُصد له. حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا خالد بن الحارث قال ، حدثنا الأشعث قال ، قال الحسن: إذا صاد الصيد ثم أحرمَ لم يأكل من لحمه حتى يحلّ. فإن أكل منه وهو محرم، لم ير الحسن عليه شيئًا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام وهارون عن عنبسة, عن سالم قال : سألت سعيد بن جبير, عن الصيد يصيده الحلال, أيأكل منه المحرم؟ فقال: سأذكر لك من ذلك, إن الله تعالى ذكره قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، فنهي عن قتله, ثم قال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، ثم قال تعالى ذكره: « أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعًا لكم وللسيارة » ، قال: يأتي الرجل أهلَ البحر فيقول: « أطعموني » ، فإن قال: « غريضًا » , ألقوا شبكتهم فصادوا له, وإن قال: « أطعموني من طعامكم » ، أطعموه من سمكهم المالح. ثم قال: « وحُرِّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرمًا » ، وهو عليك حرام, صدته أو صاده حلال. وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى ذكره بقوله: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » ، ما استحدَث المحرم صيدَه في حال إحرامه أو ذبحه, أو استُحْدِث له ذلك في تلك الحال. فأما ما ذبحه حلال وللحلال، فلا بأس بأكله للمحرم. وكذلك ما كان في ملكه قبل حال إحرامه، فغير محرم عليه إمساكه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا سعيد قال ، حدثنا قتادة: أن سعيد بن المسيب حدّثه, عن أبي هريرة: أنه سئل عن صيد صاده حلال، أيأكله المحرم؟ قال: فأفتاه هو بأكله, ثم لقي عمر بن الخطاب رحمه الله فأخبره بما كان من أمره, فقال: لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك رأسك . حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال ، حدثنا أبو عوانة, عن عمر بن أبي سلمة, عن أبيه قال : نـزل عثمان بن عفان رحمه الله العَرْجَ وهو محرم، فأهدى صاحبُ العرج له قَطًا، قال: فقال لأصحابه: كلوا فإنه إنما اصطيد على اسمي، قال: فأكلوا ولم يأكل. حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب: أن أبا هريرة كان بالرَّبَذة, فسألوه عن لحم صيدٍ صاده حلال، ثم ذكر نحو حديث ابن بزيع عن بشر. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة, عن عمر, نحوه. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن أبي إسحاق, عن أبي الشعثاء قال : سألت ابن عمر عن لحم صيد يُهديه الحلال إلى الحرام, فقال: أكله عمر, وكان لا يرى به بأسًا. قال قلت: تأكله؟ قال: عمر خير مني. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا يحيى بن سعيد, عن شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق، عن أبي الشعثاء قال : سألت ابن عمر عن صيد صاده حلال يأكل منه حرام، قال: كان عمر يأكله. قال قلت: فأنت؟ قال: كان عمر خيرًا مني. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي, عن هشام, عن يحيى, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة قال : استفتاني رجلٌ من أهل الشام في لحم صيد أصابه وهو محرم, فأمرته أن يأكله. فأتيت عمر بن الخطاب فقلت له: إن رجلا من أهل الشام استفتاني في لحم صيد أصابه وهو محرم، قال: فما أفتيته؟ قال: قلت: أفتيته أن يأكله. قال: فوالذي نفسي بيده، لو أفتيته بغير ذلك لعلوتك بالدرة! وقال عمر: إنما نُهيت أن تصطاده. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا مصعب بن المقدام قال ، حدثنا خارجة عن زيد بن أسلم, عن عطاء, عن كعب قال : أقبلت في أناس محرمين, فأصبنا لحمَ حمار وحش, فسألني الناس عن أكله, فأفتيتهم بأكله، وهم محرمون. فقدمنا على عمر, فأخبروه أنّي أفتيتهم بأكل حمار الوحش وهم محرمون, فقال عمر: قد أمَّرته عليكم حتى ترجعوا. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا يحيى بن سعيد, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة قال : مررت بالرَّبَذة, فسألني أهلها عن المحرم يأكل ما صاده الحلال؟ فأفتيتهم أن يأكلوه. فلقيت عمر بن الخطاب, فذكرت ذلك له. قال : بم أفتيتهم؟ قال: أفتيتهم أن يأكلوا. قال: لو أفتيتهم بغير ذلك لخالفتك. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح, عن يونس, عن أبي الشعثاء الكندي قال : قلت لابن عمر: كيف ترى في قوم حرام لقوا قومًا حلالا ومعهم لحم صيد, فإما باعوهم، وإما أطعموهم؟ فقال: حلال. حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال ، حدثنا محمد بن سعيد قال ، حدثنا هشام يعني ابن عروة قال ، حدثنا عروة, عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أن عبد الرحمن حدثه: أنه اعتمر مع عثمان بن عفان في ركبٍ فيهم عمرو بن العاص، حتى نـزلوا بالرَّوحاء, فقُرِّب إليهم طير وهم محرمون, فقال لهم عثمان: كلوا، فإني غير آكله! فقال عمرو بن العاص: أتأمرنا بما لست آكلا؟ فقال عثمان: إني لولا أظنّ أنه اصطيد من أجلي، لأكلت! فأكل القوم. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن هشام بن عروة, عن أبيه: أن الزبير كان يتزوّد لحوم الوحش وهو محرم. حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا إسحاق, عن شريك, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس قال : ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال, وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون, عن عمرو, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس قال : ما صيد من شيء وأنت حرام فهو عليك حرام, وما صيد من شيء وأنت حلال فهو لك حلال. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » ، فجعل الصيد حرامًا على المحرم صيده وأكله ما دام حرامًا. وإن كان الصيدُ صِيدَ قبل أن يحرم الرجل، فهو حلالٌ. وإن صاده حرامٌ لحلال، فلا يحلّ له أكله. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، سألت أبا بشر عن المحرم يأكل مما صاده الحلال؟ قال : كان سعيد بن جبير ومجاهد يقولان: ما صيد قبل أن يُحرِم أكل منه, وما صيد بعد ما أحرم لم يأكل منه. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا ابن جريج قال : كان عطاء يقولُ إذا سئل في العَلانِية: أيأكل الحرامُ الوَشيقةَ والشيء اليابس؟ يقول بيني وبينه: لا أستطيع أن أبيِّن لك في مجلس, إن ذبح قبل أن نُحرم فكل, وإلا فلا تبع لحمه ولا تبتع. وقال آخرون: إنما عنى الله تعالى بقوله: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » ، وحرم عليكم اصطياده. قالوا: فأما شراؤه من مالك يملكه وذبحه وأكله، بعد أن يكون مِلكه إياه على غير وجه الاصطياد له، وبيعه وشراؤه جائز. قالوا: والنهي من الله تعالى ذكره، عن صيده في حال الإحرام دون سائر المعاني. ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال ، حدثنا ابن أبي مريم قال ، حدثنا يحيى بن أيوب قال ، أخبرني يحيى, أن أبا سلمة اشترى قَطًا وهو بالعَرْجِ وهو محرم، ومعه محمد بن المنكدر, فأكلها. فعاب عليه ذلك الناس. قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره، عمَّ تحريم كل معاني صيد البرّ على المحرم في حال إحرامه، من غير أن يخص من ذلك شيئًا دون شيء, فكل معاني الصيد حرام على المحرم ما دام حرامًا، بيعه وشراؤه واصطياده وقتله، وغير ذلك من معانيه, إلا أن يجده مذبوحًا قد ذبحه حلال لحلال, فيحلّ له حينئذ أكله, للثابت عن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي:- حدثناه يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا يحيى بن سعيد, عن ابن جريج وحدثني عبد الله بن أبي زياد قال ، حدثنا مكي بن إبراهيم قال ، حدثنا عبد الملك بن جريج قال ، أخبرني محمد بن المنكدر, عن معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان, عن أبيه عبد الرحمن بن عثمان قال : كنا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم, فأهدي لنا طائرٌ, فمنا من أكل، ومنا من تَورَّع فلم يأكل. فلما استيقظ طلحة وفَّق من أكل، وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن الصعب بن جَثَّامة أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رِجْلَ حمارِ وحش يقطر دمًا, فردّه فقال: إنا حُرُم وفيما روي عن عائشة: أن وَشِيقة ظبي أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم, فردّها وما أشبه ذلك من الأخبار؟ قيل: إنه ليس في واحد من هذه الأخبار التي جاءت بهذا المعنى، بيانُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ من ذلك ما ردّ وقد ذبحه الذابح إذ ذبحه, وهو حلال لحلال, ثم أهداه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حرام، فرده وقال: « إنه لا يحل لنا لأنا حرم » ، وإنما ذكر فيه أنه أُهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم صيد فردّه. وقد يجوز أن يكون ردُّه ذلك من أجل أنّ ذابحه ذبحه أو صائده صاده من أجله صلى الله عليه وسلم وهو محرم. وقد بيَّن خبر جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: « لحم صيد [ البر ] للمحرم حلال إلا ما صاد أو صيد له » ، معنى ذلك كله. فإذ كان كلا الخبرين صحيحًا مخرجهما, فواجبٌ التصديقُ بهما، وتوجيه كلّ واحد منهما إلى الصحيح من وجه, وأن يقال: « ردُّه ما ردّ من ذلك من أجل أنه كان صِيد من أجله وإذنه في كل ما أذن في أكله منه، من أجل أنه لم يكن صِيد لمحرم ولا صاده محرم, فيصح معنى الخبرين كليهما. » واختلفوا في صفة الصيد الذي عنى الله تعالى بالتحريم في قوله: « وحرم عليك صيد البر ما دمتم حرمًا » . فقال بعضهم: « صيد البر » ، كل ما كان يعيش في البرّ والبحر، وإنما « صيد البحر » ، ما كان يعيش في الماء دون البرّ ويأوي إليه ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي , عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز: « وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا » ، قال: ما كان يعيش في البر والبحر فلا تصده، وما كان حياته في الماء فذاك. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الحجاج, عن عطاء قال : ما كان يعيش في البر فأصابه المحرم فعليه جزاؤه, نحو السلحفاة والسرطان والضفادع. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا هارون بن المغيرة, عن عمرو بن أبي قيس, عن الحجاج, عن عطاء قال : كل شيء عاش في البر والبحر فأصابه المحرم، فعليه الكفارة. حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا يزيد بن أبي زياد, عن عبد الملك بن سعيد بن جبير قال : خرجنا حجاجًا معنا رجلٌ من أهل السَّواد معه شُصُوص طير ماءٍ, فقال له أبي حين أحرمنا: اعزل هذا عنا. وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، سمعت يزيد بن أبي زياد قال ، حدثنا حجاج, عن عطاء: أنه كَرِه للمحرم أن يذبح الدجاج الزِّنجي, لأن له أصلا في البر. وقال بعضهم: صيد البر ما كان كونه في البرّ أكثر من كونه في البحر. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو عاصم قال، ابن جريج أخبرناه، قال : سألت عطاء عن ابن الماء, أصيد برّ أم بحر؟ وعن أشباهه؟ فقال: حيث يكون أكثر، فهو صيده. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني وكيع, عن سفيان, عن رجل, عن عطاء بن أبي رباح قال، أكثر ما يكون حيث يُفْرِخ, فهو منه. القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 96 ) قال أبو جعفر: وهذا تقدُّمٌ من الله تعالى ذكره إلى خلقه بالحذر من عقابه على معاصيه. يقول تعالى ذكره: واخشوا الله، أيها الناس, واحذروه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه وفيما نهاكم عنه في هذه الآيات التي أنـزلها على نبيكم صلى الله عليه وسلم، من النهي عن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام, وعن إصابة صيد البر وقتله في حال إحرامكم وفي غيرها, فإنّ لله مصيرَكم ومرجعَكم، فيعاقبكم بمعصيتكم إياه, ومجازيكم فيثيبكم على طاعتكم له. القول في تأويل قوله : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: صيَّر الله الكعبة البيت الحرام قوامًا للناس الذين لا قِوَام لهم من رئيس يحجز قوِّيهم عن ضعيفهم، ومسيئهم عن محسنهم، وظالمهم عن مظلومهم « والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض, إذ لم يكن لهم قيامٌ غيره, وجعلها معالم لدينهم، ومصالح أمورهم. و « الكعبة » ، سميت فيما قيل « كعبة » لتربيعها. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: إنما سميت « الكعبة » ، لأنها مربعة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا هاشم بن القاسم, عن أبي سعيد المؤدب, عن النضر بن عربي, عن عكرمة قال : إنما سميت « الكعبة » ، لتربيعها. وقيل « قيامًا للناس » بالياء, وهو من ذوات الواو, لكسرة القاف، وهي « فاء » الفعل, فجعلت « العين » منه بالكسرة « ياء » , كما قيل في مصدر: « قمت » « قيامًا » و « صمت » « صيامًا » , فحوّلت « العين » من الفعل: وهي « واو » « ياء » لكسرة فائه. وإنما هو في الأصل: « قمت قوامًا » , و « صمت صِوَامًا » ، وكذلك قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، فحوّلت، واوها ياء, إذ هي « قوام » . وقد جاء ذلك من كلامهم مقولا على أصله الذي هو أصله قال الراجز: قَِوامُ دُنْيَا وَقَوَامُ دِين فجاء به بالواو على أصله. وجعل تعالى ذكره الكعبة والشهرَ الحرام والهديَ والقلائد قوامًا لمن كان يحرِّم ذلك من العرب ويعظّمه، بمنـزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تُبَّاعه. وأما « الكعبة » ، فالحرم كله. وسمّاها الله تعالى « حرامًا » ، لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يُخْتلى خَلاها، أو يُعْضد شجرها، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل. وقوله: « والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، يقول تعالى ذكره: وجعل الشهر الحرام والهدي والقلائد أيضًا قيامًا للناس, كما جعل الكعبة البيت الحرام لهم قيامًا. و « الناس » الذين جعل ذلك لهم قيامًا، مختلفٌ فيهم. فقال بعضهم: جعل الله ذلك في الجاهلية قيامًا للناس كلهم. وقال بعضهم: بل عنى به العربَ خاصة. وبمثل الذي قلنا في تأويل « القوام » ، قال أهل التأويل. * ذكر من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، القوام، على نحو ما قلنا. حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا من سمع خُصَيفًا يحدث، عن مجاهد في: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، قال: قوامًا للناس. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن خصيف, عن سعيد بن جبير: « قيامًا للناس » ، قال: صلاحًا لدينهم. حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا داود, عن ابن جريج, عن مجاهد في: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، قال: حين لا يرْجون جنة ولا يخافون نارًا, فشدّد الله ذلك بالإسلام. حدثني هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة, عن إسرائيل, عن أبي الهيثم, عن سعيد بن جبير قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، قال: شدةً لدينهم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن أبي الهيثم, عن سعيد بن جيير, مثله. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس » ، قال: قيامها، أن يأمن من توجَّه إليها. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، يعني قيامًا لدينهم, ومعالم لحجهم. حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، جعل الله هذه الأربعةَ قيامًا للناس, هو قوام أمرهم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال وإن أختلفت من قائليها ألفاظُها، فإن معانيها آيلةٌ إلى ما قلنا في ذلك، من أن « القوام » للشيء، هو الذي به صلاحه, كما الملك الأعظم، قوامُ رعيته ومن في سلطانه، لأنه مدبِّر أمرهم، وحاجز ظالمهم عن مظلومهم، والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم. وكذلك كانت الكعبة والشهرُ الحرام والهدي والقلائد، قوامَ أمر العرب الذي كان به صلاحهم في الجاهلية, وهي في الإسلام لأهله معالمُ حجهم ومناسكهم، ومتوجَّههم لصلاتهم، وقبلتهم التي باستقبالها يتمُّ فرضُهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قالت جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا جامع بن حماد قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية، فكان الرجل لو جَرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتناول ولم يُقرب. وكان الرجل لو لقي قاتلَ أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقرَبه. وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادةً من شعر فأحمته ومنعته من الناس. وكان إذا نفر تقلَّد قلادة من الإذْخِر أو من لِحَاء السمُر, فمنعته من الناس حتى يأتي أهله، حواجزُ أبقاها الله بين الناس في الجاهلية. حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: « جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد » ، قال: كان الناس كلهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضَهم عن بعض. قال: ولم يكن في العرب ملوكٌ تدفع بعضهم عن بعض, فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قيامًا، يُدْفع بعضُهم عن بعض به, والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم، والقلائد. قال: ويلقَى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له. وهذا كله قد نُسِخ. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « والقلائد » ، كان ناس يتقلَّدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحجّ, فيعرفون بذلك. وقد أتينا على البيان عن ذكر: « الشهر الحرام » و « الهدي » و « القلائد » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله : ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 97 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، تصييرَه الكعبةَ البيتَ الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد. يقول تعالى ذكره: صيرت لكم، أيها الناس، ذلك قيامًا، كي تعلموا أن من أحدث لكم لمصالح دنياكم ما أحدث، مما به قوامكم, علمًا منه بمنافعكم ومضاركم، أنه كذلك يعلم جميع ما في السموات وما في الأرض مما فيه صلاحُ عاجلكم وآجلكم, ولتعلموا أنه بكل شيء « عليم » , لا يخفى عليه شيء من أموركم وأعمالكم, وهو محصيها عليكم، حتى يجازي المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء منكم بإساءته. القول في تأويل قوله : اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 98 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: اعلموا، أيها الناس، أن ربكم الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض, ولا يخف عليه شيء من سرائر أعمالكم وعلانيتها, وهو يُحْصيها عليكم لمجازيكم بها, شديد عقابُه من عصاه وتمرَّد عليه، على معصيته إياه وهو غفور لذنوب من أطاعه وأنابَ إليه، فساترٌ عليه، وتاركٌ فضيحته بها رحيم به أن يعاقبه على ما سلف من ذنوبه بعد إنابته وتوبته منها. القول في تأويل قوله : مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ( 99 ) قال أبو جعفر: وهذا من الله تعالى ذكره تهديد لعباده ووعيد. يقول تعالى ذكره: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم، أيها الناس، بإنذاركم عقابَنا بين يدي عذاب شديد، وإعذارنا إليكم بما فيه قطع حججكم إلا أن يؤدي إليكم رسالتنا, ثم إلينا الثواب على الطاعة، وعلينا العقاب على المعصية « والله يعلم ما تبدون وما تكتمون » ، يقول: وغير خفي علينا المطيعُ منكم، القابلُ رسالتنا، العاملُ بما أمرته بالعمل به من المعاصي الآبي رسالتنا، التارك العمل بما أمرته بالعمل به، لأنا نعلم ما عمله العامل منكم فأظهره بجوارحه ونطق به بلسانه « وما تكتمون » ، يعني: ما تخفونه في أنفسكم من إيمان وكفر، أو يقين وشك ونفاق. يقول تعالى ذكره: فمن كان كذلك، لا يخفى عليه شيء من ضمائر الصدور، وظواهر أعمال النفوس, مما في السموات وما في الأرض، وبيده الثواب والعقاب فحقيق أن يُتَّقى، وأن يُطاع فلا يعصى. القول في تأويل قوله : قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قل يا محمد: لا يعتدل الرديء والجيد, والصالح والطالح, والمطيع والعاصي ولو أعجبك كثرة الخبيث « ، يقول: لا يعتدل العاصي والمطيع لله عند الله، ولو كثر أهل المعاصى فعجبت من كثرتهم, لأن أهل طاعة الله هم المفلحون الفائزون بثواب الله يوم القيامة وإن قلُّوا، دون أهل معصيته وإن أهل معاصيه هم الأخسرون الخائبون وإن كثروا. » يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فلا تعجبنَّ من كثرة من يعصى الله فيُمْهِله ولا يعاجله بالعقوبة، فإن العقبَى الصالحة لأهل طاعة الله عنده دونهم، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي، « لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة » الخبيث « ، قال: الخبيث، هم المشركون و » الطيب « ، هم المؤمنون. » وهذا الكلام وإن كان مخرجه مخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فالمراد به بعض أتباعه, يدل على ذلك قوله: « فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون » القول في تأويل قوله : فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 100 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتقوا الله بطاعته فيما أمركم ونهاكم, واحذروا أن يستحوذ عليكم الشيطان بإعجابكم كثرة الخبيث, فتصيروا منهم « يا أولي الألباب » ، يعني بذلك أهلَ العقول والحِجَى, الذين عقلوا عن الله آياته, وعرفوا مواقع حججه. « لعلكم تفلحون » ، يقول: اتقوا الله لتفلحوا، أي: كي تنجحوا في طلبكم ما عنده. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية أنـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب مسائل كان يسألها إياه أقوام, امتحانًا له أحيانًا, واستهزاءً أحيانًا. فيقول له بعضهم: « من أبي » ؟ ويقول له بعضهم إذا ضلت ناقته: « أين ناقتي » ؟ فقال لهم تعالى ذكره: لا تسألوا عن أشياءَ من ذلك كمسألة عبد الله بن حُذافة إياه من أبوه « إن تبد لكم تسؤكم » ، يقول: إن أبدينا لكم حقيقة ما تسألون عنه، ساءكم إبداؤها وإظهارها. وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. * ذكر الرواية بذلك: حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا حفص بن بُغَيل قال ، حدثنا زهير بن معاوية قال ، حدثنا أبو الجويرية قال : قال ابن عباس لأعرابيّ من بني سليم: هل تدري فيما أنـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ؟ حتى فرغ من الآية, فقال: كان قوم يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استهزاء, فيقول الرجل: « من أبي » ؟ والرجل تضل ناقته فيقول: « أين ناقتي » ؟ فأنـزل الله فيهم هذه الآية. حدثني محمد بن المثنى قال ، حدثنا أبو عامر وأبو داود قالا حدثنا هشام, عن قتادة, عن أنس قال : سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى أحْفَوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم, فقال: « لا تسألوني عن شيء إلا بيَّنْتُ لكم! قال أنس: فجعلت أنظر يمينًا وشمالا فأرى كل إنسان لافًّا ثوبَه يبكي، فأنشأ رجل كان إذا لاحَى يُدعى إلى غير أبيه، فقال: يا رسول الله, من أبي؟ فقال: » أبوك حذافة « ! قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا وأعوذ بالله من سوء الفتن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: » لم أرَ الشرّ والخيرَ كاليوم قط! إنه صُوِّرت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط ! وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: « لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » . حدثني محمد بن معمر البحراني قال ، حدثنا روح بن عبادة قال ، حدثنا شعبة قال ، أخبرني موسى بن أنس قال ، سمعت أنسًا يقول، قال رجل: يا رسول الله، من أبي؟ قال: « أبوك فلان » ! قال: فنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » . حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، قال: فحدَّثنا أن أنس بن مالك حدَّثهم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفَوْه بالمسألة, فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال: « لا تسألوني اليومَ عن شيء إلا بينته لكم! فأشفقَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يديه أمر قد حضر, فجعلتُ لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كُلا لافًّا رأسه في ثوبه يبكي. فأنشأ رجلٌ كان يُلاحَى فيدعى إلى غير أبيه, فقال: يا نبي الله، من أبي؟ قال: » أبوك حذافة « ! قال: ثم قام عمر أو قال: فأنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا عائذًا بالله أو قال: أعوذ بالله من سوء الفتن! قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أر في الخير والشر كاليوم قط, صُوِّرت لي الجنة والنارُ حتى رأيتهما دون الحائط. » حدثنا أحمد بن هشام وسفيان بن وكيع قالا حدثنا معاذ بن معاذ قال ، حدثنا ابن عون، قال : سألت عكرمة مولى ابن عباس عن قوله: « ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، قال: ذاك يوم قام فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به! قال: فقام رجل, فكره المسلمون مَقامه يومئذ, فقال: يا رسول الله ، من أبي؟ قال: أبوك حذافة، قال: فنـزلت هذه الآية. حدثنا الحسين بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه قال: نـزلت: « لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، في رجل قال: يا رسول الله ، من أبي؟ قال: أبوك فلان. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني سفيان, عن معمر, عن قتادة قال : سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أكثروا عليه, فقام مغضبًا خطيبًا فقال: سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي إلا حدثتكم! فقام رجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة. واشتدّ غضبه وقال: سلوني! فلما رأى الناس ذلك كثر بكاؤهم, فجثا عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربًّا قال معمر، قال الزهري، قال أنس مثل ذلك: فجثا عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أما والذي نفسي بيده, لقد صُوِّرت لي الجنةُ والنارُ آنفًا في عرض هذا الحائط, فلم أر كاليوم في الخير والشر قال الزهري، فقالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ولدًا أعقّ منك قط! أتأمن أن تكون أمك قارفت ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس!! فقال: والله لو ألحقني بعبدٍ أسود للحقتُه. » حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام، فقام خطيبًا فقال: سلوني، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا نبأتكم به! فقام إليه رجل من قريش، من بني سهم، يقال له « عبد الله بن حذافة » ، وكان يُطْعن فيه، قال : فقال: يا رسول الله ، من أبي؟ قال: أبوك فلان! فدعاه لأبيه. فقام إليه عمر فقبَّل رجله وقال: يا رسولَ الله, رضينا بالله ربًّا, وبك نبيًّا, وبالإسلام دينًا, وبالقرآن إمامًا, فاعف عنا عفا الله عنك! فلم يزل به حتى رَضِيَ, فيومئذ قال: « الولد للفراش وللعاهر الحجر » . حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس, عن أبي حصين, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارٌّ وجهه! حتى جلس على المنبر, فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام آخر فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة ! فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربًّا, وبالإسلام دينًا, وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا, وبالقرآن إمامًا, إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشِرْك, والله يعلمُ من آباؤنا! قال: فسكن غضبه, ونـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » . وقال آخرون: نـزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل مسألة سائل سأله عن شيء في أمر الحجّ. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا منصور بن وردان الأسدي قال، حدثنا علي بن عبد الأعلى قال ، لما نـزلت هذه الآية: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا سورة آل عمران :97 ] ، قالوا: يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت. ثم قالوا: أفي كل عام؟ فسكت. ثم قال: لا ولو قلت: « نعم » لوجبت « ! فأنـزل الله هذه الآية: » يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم « . » حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان, عن إبراهيم بن مسلم الهجري, عن ابن عياض, عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، « إن الله كتب عليكم الحج! فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه, حتى عاد مرتين أو ثلاثًا، فقال: من السائل؟ فقال: فلان! فقال: والذي نفسي بيده، لو قلت » نعم « لوجبت, ولو وجبت عليكم ما أطقتموه, ولو تركتموه لكفرتم! فأنـزل الله هذه الآية: » يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم « ، حتى ختم الآية. » حدثني محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال ، سمعت أبي قال ، أخبرنا الحسين بن واقد, عن محمد بن زياد قال ، سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس, كتب الله عليكم الحج. فقام مِحْصن الأسدي فقال: أفي كل عام، يا رسول الله؟ فقال: « أمَا إنّي لو قلت » نعم « لوجبت, ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عنى ما سكتُّ عنكم, فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم! فأنـزل الله تعالى: » يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم « ، إلى آخر الآية. » حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا الحسين بن واقد, عن محمد بن زياد قال : سمعت أبا هريرة يقول: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله, إلا أنه قام: فقام عُكَّاشة بن محصن الأسدي. حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال ، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر قال ، حدثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى, عن صفوان بن عمرو قال ، حدثني سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: كتب عليكم الحج! « فقام رجل من الأعراب فقال: أفي كل عام؟ قال: فغَلِقَ كلامُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسكتَ واستغضب، فمكث طويلا ثم تكلم فقال: من السائل؟ فقال الأعرابي: أنا ذا! فقال: ويحك! ماذا يُؤْمِنك أن قول » نعم « , ولو قلت » نعم « لوجبت, ولو وجبت لكفرتم! ألا إنه إنما أهلك الذين قبلكم أئمة الحَرَج، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض، وحرَّمت عليكم منها موضع خُفٍّ، لوقعتم فيه! قال: فأنـزل الله تعالى عند ذلك: » يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء « ، إلى آخر الآية. » حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، وذلك أن رسول الله أذّن في الناس فقال: « يا قوم, كتب عليكم الحجّ! » فقام رجل من بني أسد فقال: يا رسول الله, أفي كل عام؟ فأغْضِبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا, فقال: والذي نفس محمد بيده، لو قلت « نعم » لوجبت, ولو وجبت ما استطعتم, وإذًا لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم, فإذا أمرتكم بشيء فافعلوا, وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه! فأنـزل الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة, فأصبحوا بها كافرين. فنهى الله تعالى عن ذلك وقال: لا تسألوا عن أشياء إن نـزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك, ولكن انتظروا، فإذا نـزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تِبيانه. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح قال ، حدثنا علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينـزل القرآن تبد لكم » ، قال: لما أنـزلت آية الحج, نادى النبيّ صلى الله عليه وسلم في الناس فقال: يا أيها الناس، إن الله قد كتب عليكم الحج فحُجُّوا. فقالوا: يا رسول الله, أعامًا واحدًا أم كل عام؟، فقال: لا بل عامًا واحدًا, ولو قلت « كل عام » ، لوجبت, ولو وجبت لكفرتم. ثم قال الله تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم « ، قال: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء، فوعظهم فانتهوا. » حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » ، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج, فقيل: أواجب هو يا رسول الله كل عام؟ قال: لا لو قلتها لوجبت, ولو وجبت ما أطقتم, ولو لم تطيقوا لكفرتم. ثم قال: سلوني، فلا يسألني رجل في مجلسي هذا عن شيء إلا أخبرته, وإن سألني عن أبيه! فقام إليه رجل فقال: من أبي؟ قال: أبوك حذافة بن قيس. فقام عمر فقال: يا رسول، رضينا بالله ربًّا, وبالإسلام دينًا, وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا, ونعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. وقال آخرون: بل نـزلت هذه الآية من أجل أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوَصيلة والحامي. ذكر من قال ذلك: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال ، حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن مجاهد, عن ابن عباس « لا تسألوا عن أشياء » ، قال: هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك: « ما جعل الله من كذا ولا كذا؟ قال: وأما عكرمة فإنه قال: إنهم كانوا يسألونه عن الآيات، فنهوا عن ذلك. ثم فال: » قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين « . قال: فقلت قد حدثني مجاهد بخلاف هذا عن ابن عباس, فما لك تقول هذا؟ فقال: هَيْهَ. » حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يزيد بن هارون, عن ابن عون, عن عكرمة قال : هو الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبي وقال سعيد بن جبير: هم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال: نـزلت هذه الآية من أجل إكثار السائلين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائلَ, كمسألة ابن حذافة إياه مَن أبوه, ومسألة سائله إذ قال: « الله فرض عليكم الحج » ، أفي كل عام؟ وما أشبه ذلك من المسائل, لتظاهر الأخبار بذلك عن الصحابة والتابعين وعامة أهل التأويل. وأما القول الذي رواه مجاهد عن ابن عباس, فقولٌ غير بعيد من الصواب, ولكنْ الأخبارُ المتظاهرة عن الصحابة والتابعين بخلافه, وكرهنا القولَ به من أجل ذلك. على أنه غير مستنكر أن تكون المسئلة عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام كانت فيما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنه من المسائل التي كره الله لهم السؤال عنها, كما كره الله لهم المسألة عن الحج: « أكل عام هو، أم عامًا واحدًا » ؟ وكما كره لعبد الله بن حذافة مسألته عن أبيه, فنـزلت الآية بالنهي عن المسائل كلِّها, فأخبرَ كل مخبر منهم ببعض ما نـزلت الآية من أجله، وأجل غيره. وهذا القول أولى الأقوال في ذلك عندي بالصحة, لأن مخارج الأخبار بجميع المعاني التي ذُكرت صحاحٌ, فتوجيهها إلى الصواب من وجوهها أولى. القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 101 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للذين نهاهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما نهاهم عن مسألتهم إياه عنه, من فرائض لم يفرضها الله عليهم, وتحليل أمور لهم يحلّلها لهم, وتحريم أشياء لم يحرِّمها عليهم قبلَ نـزول القرآن بذلك: أيها المؤمنون السائلون عما سألوا عنه رسولي مما لم أنـزل به كتابًا ولا وحيًا, لا تسألوا عنه, فإنكم إن أظهر ذلك لكم تبيانٌ بوحي وتنـزيل ساءكم، لأن التنـزيل بذلك إذا جاءكم إنما يجيئكم بما فيه امتحانكم واختباركم, إما بإيجاب عمل عليكم, ولزوم فرض لكم, وفي ذلك عليكم مشقة ولزوم مؤونة وكلفة وإما بتحريم ما لو لم يأتكم بتحريمه وحي، كنتم من التقدم عليه في فُسْحة وسَعة وإما بتحليل ما تعتقدون تحريمه, وفي ذلك لكم مساءة لنقلكم عما كنتم ترونه حقًّا إلى ما كنتم ترونه باطلا ولكنكم إن سألتم عنها بعد نـزول القرآن بها، وبعد ابتدائكم ببيان أمرها في كتابي إلى رسولي إليكم، ليسَّر عليكم ما أنـزلته إليه من بيان كتابي، وتأويل تنـزيلي ووحيي وذلك نظير الخبر الذي روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي:- حدثنا به هناد بن السري قال ، حدثنا أبو معاوية, عن داود بن أبي هند, عن مكحول, عن أبي ثعلبة الخشني قال : إن الله تعالى ذكره فرَض فرائض فلا تضيِّعوها, ونهى عن أشياء فلا تَنْتَهِكوها, وحدّ حدودًا فلا تعتدوها, وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. حدثنا هناد قال ، حدثنا ابن أبي زائدة قال ، أخبرنا ابن جريج, عن عطاء قال : كان عبيد بن عمير يقول: إن الله تعالى أحلّ وحرَّم, فما أحلّ فاستحلُّوه، وما حرَّم فاجتنبوه, وترك من ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله عفاه. ثم يتلو: « يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم » . حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا الضحاك قال ، أخبرنا ابن جريج قال ، أخبرني عطاء, عن عبيد بن عمير أنه كان يقول: إنّ الله حرّم وأحلَّ, ثم ذكر نحوه. وأما قوله: « عفا الله عنها » فإنه يعني به: عفا الله لكم عن مسألتكم عن الأشياء التي سألتم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كره الله لكم مسألتكم إياه عنها, أن يؤاخذكم بها, أو يعاقبكم عليها, إن عرف منها توبتكم وإنابتكم « والله غفورٌ » ، يقول: والله ساتر ذنوب من تاب منها, فتارك أن يفضحه في الآخرة « حليم » [ ذو أناة عن ] أن يعاقبه بها، لتغمده التائبَ منها برحمته، وعفوه, عن عقوبته عليها. وبنحو الذي قلنا في ذلك، روي الخبر عن ابن عباس الذي ذكرناه آنفًا. وذلك ما:- حدثني به محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « لا تسألوا عن أشياء » ، يقول: لا تسألوا عن أشياء إن نـزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك, ولكن انتظروا، فإذا نـزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه. القول في تأويل قوله : قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ( 102 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قد سأل الآيات قومٌ من قبلكم، فلما آتاهموها الله أصبحوا بها جاحدين، منكرين أن تكون دلالة على حقيقة ما احتُجَّ بها عليهم, وبرهانًا على صحة ما جُعلت برهانًا على تصحيحه كقوم صالح الذين سألوا الآيةَ، فلما جاءتهم الناقة آيةً عقروها وكالذين سألوا عيسى مائدة تنـزل عليهم من السماء، فلما أعطوها كفروا بها، وما أشبه ذلك. فحذَّر الله تعالى المؤمنين بنبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلكوا سبيل من قبلهم من الأمم التي هلكت بكفرهم بآيات الله لما جاءتهم عند مسألتهموها, فقال لهم: لا تسألوا الآيات, ولا تبحثوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم, فقد سأل الآيات من قبلكم قومٌ، فلما أوتوها أصبحوا بها كافرين، كالذي:- حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال؛ حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ، نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة, فأصبحوا بها كافرين, فنهى الله عن ذلك. حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « قد سألها قوم من قبلكم » ، قد سأل الآيات قوم من قبلكم, وذلك حين قيل له: غيِّر لنا الصَّفا ذهبًا. القول في تأويل قوله : مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بحر الله بحيرة, ولا سيَّب سائبة, ولا وصل وصيلة, ولا حَمَى حاميًا ولكنكم الذين فعلتم ذلك، أيها الكفرة, فحرَّمتموه افتراء على ربكم، كالذي:- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال ، حدثني أبي وشعيب بن الليث, عن الليث, عن ابن الهاد وحدثني يونس قال ، حدثنا عبد الله بن يوسف قال ، حدثني الليث قال ، حدثني ابن الهاد ، عن ابن شهاب, عن سعيد بن المسيب, عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرُّ قُصْبَه في النار, وكان أول من سيَّب السُّيَّب » . حدثنا هناد بن السري قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحاق قال ، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث, عن أبي صالح, عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون: يا أكثم, رأيتُ عمرو بن لُحيّ بن قَمَعَة بن خِنْدف يجرّ قُصْبه في النار, فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به، ولا به منك! فقال أكثم: عسَى أن يضرّني شبهه، يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا إنك مؤمن وهو كافر, إنه أوّل من غيَّر دين إسماعيل، وبحر البحيرة, وسيَّب السائبة, وحمى الحامي » . حدثنا هناد قال ، حدثنا يونس قال ، حدثني هشام بن سعد, عن زيد بن أسلم, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد عرفت أوّلَ من بَحَر البحائر، رجلٌ من مُدْلج كانت له ناقتان, فجدَع آذانهما، وحرّم ألبانهما وظهورَهما، وقال: هاتان لله! ثم احتاج إليهما، فشرب ألبانهما، وركب ظهورهما. قال: فلقد رأيته في النار يؤذِي أهل النار ريح قُصْبه. حدثنا هناد قال، حدثنا عَبْدة, عن محمد بن عمرو, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عُرِضت عليَّ النار، فرأيت فيها عمرو بن فلان بن فلان بن خندف يجرّ قصْبه في النار, وهو أوّل من غيَّر دين إبراهيم، وسيب السائبة, وأشبه من رأيت به أكثم بن الجون! فقال أكثم: يا رسول الله, أيضرني شبهه؟ قال: « لا لأنك مُسلم, وإنه كافر » . حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال : رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ يجرّ قُصْبه في النار, وهو أوّل من سيّب السوائب. حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أوّل من سيب السوائب، وأوّل من غيَّر عهد إبراهيم! قالوا: من هو، يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب, لقد رأيته يجرّ قُصْبه في النار, يؤذي ريحه أهل النار. وإني لأعرف أوّل من بحر البحائر! قالوا: من هو، يا رسول الله؟ قال: رجل من بني مدلج، كانت له ناقتان, فجدع آذانهما، وحرّم ألبانهما, ثم شرب ألبانهما بعدَ ذلك, فلقد رأيته في النار هو، وهما يعضّانه بأفواههما, ويخبطانه بأخفافهما. و « البحيرة » الفعيلة من قول القائل: « بَحَرْت أُذن هذه الناقة » ، إذا شقها, « أبحرُها بحرًا » , والناقة « مبحورة » , ثم تصرف « المفعولة » إلى « فعيلة » , فيقال: « هي بحيرة » . وأما « البَحِرُ » من الإبل فهو الذي قد أصابه داءٌ من كثرة شرب الماء, يقال منه: « بَحِر البعيرُ يبحر بَحَرًا » ، ومنه قول الشاعر: لأعْلِطَــنَّهُ وَسْمًــا لا يُفَارَقُـهُ كَمَــا يُحَزُّ بِحَمْـيِ المِيسَمِ البَحِـرُ وبنحو الذي قلنا في معنى « البحيرة » , جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا عبد الحميد بن بيان قال ، أخبرنا محمد بن يزيد, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص, عن أبيه قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إبلك ألست تنتجها مسلَّمةً آذانُها, فتأخذ الموسى فتجْدَعها، تقول: « هذه بحيرة » , وتشق آذانها، تقولون: « هذه صَرْم » ؟ قال: نعم! قال : فإن ساعدَ الله أشدّ, وموسَى الله أحدَ! كلّ مالك لك حلالٌ، لا يحرَّم عليك منه شيء. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق قال ، سمعت أبا الأحوص, عن أبيه قال أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل تُنتَجُ إبل قومك صحاحًا آذانُها، فتعمد إلى الموسَى فتقطع آذانها فتقول: « هذه بُحْرٌ » , وتشقها أو تشق جلودها فتقول: « هذه صُرُمٌ » , فتحرّمها عليك وعلى أهلك؟ قال: نعم! قال: فإن ما آتاك الله لك حِلّ, وساعد الله أشدّ, وموسى الله أحدّ وربما قال: ساعدُ الله أشد من ساعدك, وموسى الله أحدّ من موساك. وأما « السائبة » : فإنها المسيَّبة المخلاة. وكانت الجاهلية يفعل ذلك أحدهم ببعض مواشيه, فيحرِّم الانتفاع به على نفسه, كما كان بعض أهل الإسلام يعتق عبدَه سائبةً ، فلا ينتفع به ولا بولائه. وأخرجت « المسيَّبة » بلفظ « السائبة » , كما قيل: « عيشة راضية » , بمعنى: مرضية. وأما « الوصيلة » , فإن الأنثى من نَعَمهم في الجاهلية كانت إذا أتأمت بطنًا بذكر وأنثى, قيل: « قد وصلت الأنثى أخاها » , بدفعها عنه الذبح, فسمَّوها « وَصيلة » . وأما « الحامي » ، فإنه الفحل من النعم يُحْمَى ظهره من الركوب والانتفاع، بسبب تتابُعِ أولادٍ تحدُث من فِحْلته. وقد اختلف أهل التأويل في صفات المسميات بهذه الأسماء، وما السبب الذي من أجله كانت تفعل ذلك. * ذكر الرواية بما قيل في ذلك: حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة بن الفضل, عن ابن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ: أن أبا صالح السمان حدّثه: أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعيّ: يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجرّ قُصْبه في النار, فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به، ولا به منك! فقال أكثم: أيضرّني شبهه يا نبيّ الله؟ قال: لا إنك مؤمن وهو كافر، وإنه كان أوّل من غيَّر دين إسماعيل، ونصب الأوثان, وسيَّب السائبَ فيهم. وذلك أن الناقة إذا تابعت بين عشرإناث ليس فيها ذكر، سُيِّبت فلم يركب ظهرها، ولم يجزَّ وبرها، ولم يشرَب لبنها إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى شُقّ أذنها، ثم خلّى سبيلها مع أمها في الإبل, فلم يركب ظهرها، ولم يجزّ وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها، فهي « البحيرة » ابنة « السائبة » . و « الوصيلة » ، أن الشاة إذا نَتَجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر، جعلت « وصيلة » ، قالوا: « وصلت » , فكان ما وَلدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم، إلا أن يموت منها شيء فيشتركون في أكله، ذكورُهم وإناثهم . و « الحامي » أنّ الفحل إذا نُتِج له عشر إناث متتابعات ليس بينهن ذكرٌ، حمي ظهره ولم يركب, ولم يجزّ وبره, ويخلَّى في إبله يضرب فيها, لا ينتفع به بغير ذلك. يقول الله تعالى ذكره: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » إلى قوله: « ولا يهتدون » . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق في هذه الآية: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » قال أبو جعفر: سقط عليّ فيما أظنّ كلام منه قال: فأتيت علقمة فسألتُه, فقال: ما تريد إلى شيء كانت يَصنعه أهل الجاهلية. حدثني يحيى بن إبراهيم المسعوديّ قال ، حدثنا أبي, عن أبيه, عن جده, عن الأعمش, عن مسلم قال : أتيت علقمة, فسألته عن قول الله تعالى: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامٍ » ، فقال: وما تصنع بهذا؟ إنما هذا شيء من فعل الجاهلية! قال: فأتيت مسروقًا فسألته, فقال: « البحيرة » ، كانت الناقة إذا ولدت بطنًا خمسًا أو سبعًا, شقوا أذنها، وقالوا: « هذه بحيرة » قال: « ولا سائبة » ، قال: كان الرجل يأخذ بعضَ ماله فيقول: « هذه سائبة » قال: « ولا وصيلة » ، قال: كانوا إذا ولدت الناقة الذكر أكله الذكور دون الإناث, وإذا ولدت ذكرًا وأنثى في بطن قالوا: « وصلت أخاها » , فلا يأكلونهما. قال: فإذا مات الذكر أكله الذكور دون الإناث قال: « ولا حام » ، قال : كان البعير إذا وَلد وولد ولده، قالوا: « قد قضى هذا الذي عليه » , فلم ينتفعوا بظهره. قالوا: « هذا حمًى » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن الأعمش, عن مسلم بن صبيح قال : سألت علقمة عن قوله: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة » ، قال: ما تصنع بهذا؟ هذا شيء كان يفعله أهل الجاهلية. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان، ويحيى بن آدم, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص: « ما جعل الله من بحيرة » ، قال: البحيرة: التي قد ولت خمسة أبطن ثم تركت. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير بن عبد الحميد, عن مغيرة, عن الشعبي: « ما جعل الله من بحيرة » . قال: البحيرة، المخضرمة « ولا سائبة » ، والسائبة: ما سُيِّب للعِدَى و « الوصيلة » ، إذا ولدت بعد أربعة أبطن فيما يرى جرير ثم ولدت الخامس ذكرًا وأنثى، وصلتْ أخاها و « الحام » ، الذي قد ضرب أولادُ أولاده في الإبل. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبي، بنحوه إلا أنه قال: و « الوصيلة » التي ولدت بعد أربعة أبطن ذكرًا وأنثى، قالوا: « وصلت أخاها » ، وسائر الحديث مثل حديث ابن حميد. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق الأزرق, عن زكريا, عن الشعبي: أنه سئل عن « البحيرة » , فقال: هي التي تجدع آذانها. وسئل عن « السائبة » , فقال: كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم فيتركونها عند آلهتهم، فتذهب فتختلطُ بغنم الناس، فلا يشرب ألبانها إلا الرجال, فإذا مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعًا. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « ما جعل الله من بحيرة » وما معها: « البحيرة » ، من الإبل يحرّم أهل الجاهلية وَبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال, فما ولدت من ذكر وأنثى فهو على هيئتها, وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها. فإذا ضَرَب الجمل من ولد البحيرة، فهو « الحامي » . و « الحامي » ، اسمٌ. و « السائبة » من الغنم على نحو ذلك، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد، كان على هيئتها. فإذا ولدت في السابع ذكرًا أو أنثى أو ذكرين, ذبحوه، فأكله رجالهم دون نسائهم. وإن توأمت أنثى وذكرًا فهي « وصيلة » ، لترك ذبح الذكر بالأنثى. وإن كانتا أنثيين تركتا. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة » ، فالبحيرة، الناقة, كان الرجل إذا ولدت خمسة أبطن, فيعمد إلى الخامسة, ما لم تكن سَقْبًا، فيبتك آذانها, ولا يجزّ لها وبرًا, ولا يذوق لها لبنًا, فتلك « البحيرة » « ولا سائبة » ، كان الرجل يسيِّب من ماله ما شاء « ولا وصيلة » ، فهي الشاة إذا ولدت سبعًا, عمد إلى السابع, فإن كان ذكرًا ذبح, وإن كانت أنثى تركت, وإن كان في بطنها اثنان ذكر وأنثى فولدتهما، قالوا: « وصلت أخاها » , فيتركان جميعًا لا يذبحان. فتلك « الوصيلة » وقوله: « ولا حام » ، كان الرجل يكون له الفحل، فإذا لقح عشرًا قيل: « حام, فاتركوه » . حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة » ، ليسيِّبوها لأصنامهم « ولا وصيلة » ، يقول: الشاة « ولا حام » يقول: الفحلُ من الإبل. حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » ، تشديدٌ شدّده الشيطانُ على أهل الجاهلية في أموالهم, وتغليظ عليهم, فكانت « البحيرة » من الإبل، إذا نتج الرجلُ خمسًا من إبله، نظر البطن الخامس, فإن كانت سقبًا ذبح فأكله الرجال دون النساء, وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرُهم وأنثاهم, وإن كانت حائلا وهي الأنثى تركت، فبتكت أذنها, فلم يجزّ لها وَبرٌ، ولم يشرب لها لبن، ولم يركب لها ظهرٌ، ولم يذكر لله عليها اسم. وكانت « السائبة » ، يسيبون ما بدا لهم من أموالهم, فلا تُمنع من حوض أن تشرع فيه، ولا من حمًى أن ترتع فيه وكانت « الوصيلة » من الشاء، من البطن السابع, إذا كان جديًا ذبح فأكله الرجال دون النساء. وإن كان ميتة اشترك فيه ذكرهم وأنثاهم. وإن جاءت بذكر وأنثى قيل: « وصلت أخاها فمنعته الذبح » و « الحام » ، كان الفحل إذا ركب من بني بنيه عشرة، أو ولد ولده, قيل: « حام حمى ظهره » , فلم يزَمَّ ولم يخطم ولم يركب. حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » ، فالبحيرة من الإبل، كانت الناقة إذا نتجت خمسة أبطن, إن كان الخامس سقبًا ذبحوه فأهدوه إلى آلهتهم، وكانت أمه من عُرْض الإبل. وإن كانت رُبَعة استحيوها, وشقوا أذن أمِّها, وجزّوا وبرها, وخلوها في البطحاء, فلم تجُزْ لهم في دية, ولم يحلبوا لها لبنًا, ولم يجزّوا لها وبرًا, ولم يحملوا على ظهرها, وهي من الأنعام التي حرمت ظهورها وأما « السائبة » ، فهو الرجل يسيِّب من ماله ما شاء على وجه الشكر إن كثر ماله أو برأ من وَجع, أو ركب ناقة فأنجح, فإنه يسمي « السائبة » يرسلها فلا يعرض لها أحدٌ من العرب إلا أصابته عقوبة في الدنيا وأما « الوصيلة » , فمن الغنم, هي الشاة إذا ولدت ثلاثة أبطن أو خمسة, فكان آخر ذلك جديًا، ذبحوه وأهدوه لبيت الآلهة, وإن كانت عناقًا استحيوها, وإن كانت جديًا وعناقًا استحيوا الجدي من أجل العَناق, فإنها وصيلة وصلت أخاها وأما « الحام » ، فالفحل يضرب في الإبل عشرَ سنين ويقال: إذا ضرب ولد ولده قيل: « قد حمى ظهره » , فيتركونه لا يمسُّ ولا ينحرُ أبدًا, ولا يمنع من كلأ يريده, وهو من الأنعام التي حُرِّمت ظهورها. حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن الزهري, عن ابن المسيب في قوله: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » ، قال: « البحيرة » من الإبل، التي يمنح درّها للطواغيت و « السائبة » من الإبل، كانوا يسيِّبونها لطواغيتهم و « الوصيلة » ، من الإبل، كانت الناقة تبتكر بأنثى, ثم تثنى بأنثى, فيسمونها « الوصيلة » , يقولون: « وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر » , فكانوا يجدعونها لطواغيتهم أو: يذبحونها, الشك من أبي جعفر و « الحام » ، الفحل من الإبل, كان يضربُ. الضرابَ المعدودة. فإذا بلغ ذلك قالوا: « هذا حام, قد حمى ظهره » ، فترك, فسموه « الحام » قال معمر قال قتادة، إذا ضرب عشرة. حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة قال : « البحيرة » من الإبل، كانت الناقة إذا نُتِجت خمسة أبطن, فإن كان الخامس ذكرًا، كان للرجال دون النساء, وإن كانت أنثى، بتكوا آذانها ثم أرسلوها, فلم ينحروا لها ولدًا، ولم يشربوا لها لبنًا, ولم يركبوا لها ظهرًا وأما « السائبة » , فإنهم كانوا يسيِّبون بعض إبلهم, فلا تُمنع حوضًا أن تشرع فيه, ولا مرعًى أن ترتع فيه « والوصيلة » ، الشاة كانت إذا ولدت سبعة أبطن, فإن كان السابع ذكرًا، ذبح وأكله الرجال دون النساء, وإن كانت أنثى تركت. حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال ، حدثنا عبيد بن سلمان, عن الضحاك: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » ، أما « البحيرة » فكانت الناقة إذا نَتَجُوها خمسة أبطن نحروا الخامس إن كان سقبًا, وإن كان رُبَعة شقُّوا أُذنها واستحيوها, وهي « بحيرة » ، وأما السَّقب فلا يأكل نساؤهم منه, وهو خالص لرجالهم, فإن ماتت الناقة أو نَتَجوها ميْتًا، فرجالهم ونساؤهم فيه سواءٌ، يأكلون منه وأما « السائبة » ، فكان يسيِّب الرجل من ماله من الأنعام, فيُهْمَل في الحمى، فلا ينتفع بظهره ولا بولده ولا بلبنه ولا بشعره ولا بصوفه وأما « الوصيلة » , فكانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن ذبحُوا السابع إذا كان جديًا, وإن كان عناقًا استحيوه, وإن كان جديًا وعناقًا استحيوهما كليهما, وقالوا: « إن الجدي وصلته أخته, فحرَّمته علينا » وأما « الحامي » ، فالفحل إذا ركبوا أولاد ولده قالوا: « قد حمى هذا ظهره, وأحرزه أولاد ولده » ، فلا يركبونه, ولا يمنعونه من حِمى شجر, ولا حوض مَا شرع فيه, وإن لم يكن الحوض لصاحبه. وكانت من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء من شأنهم: لا إن ركبوا, ولا إن حملوا, ولا إن حلبوا, ولا إن نتجوا, ولا إن باعوا. ففي ذلك أنـزل الله تعالى ذكره: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة » ، إلى قوله: « وأكثرهم لا يعقلون » . حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد, في قوله: « ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام » ، قال: هذا شيء كان يعمل به أهل الجاهلية, وقد ذهب. قال: « البحيرة » ، كان الرجل يجدع أذني ناقته، ثم يعتقها كما يعتق جاريته وغلامه, لا تحلب ولا تركب و « السائبة » ، يسيبها بغير تجديع و « الحام » إذا نتج له سبع إناث متواليات, قد حمي ظهره, ولا يركب, ولا يعمل عليه و « الوصيلة » ، من الغنم: إذا ولدت سبع إناث متواليات، حمت لحمها أن يؤكل. حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا عبد الله بن يوسف قال ، حدثنا الليث بن سعد قال ، حدثني ابن الهاد, عن ابن شهاب قال ، قال سعيد بن المسيب: « السائبة » التي كانت تسيَّب فلا يحمل عليها شيء و « البحيرة » ، التي يمنح دَرُّها للطواغيت فلا يحلبها أحد و « الوصيلة » ، الناقة البكر تبتكر أوّل نتاج الإبل بأنثى, ثم تثني بعد بأنثى, وكانوا يسمُّونها للطواغيت, يدعونها « الوصيلة » , أنْ وصلت أخواتها إحداهما بالأخرى « والحامي » ، فحل الإبل، يضرب العَشْر من الإبل. فإذا نقضَ ضِرابه يدعونه للطواغيت, وأعفوه من الحمل فلم يحملوا عليه شيئًا, وسموه « الحامي » . قال أبو جعفر: وهذه أمور كانت في الجاهلية فأبطلها الإسلام, فلا نعرف قومًا يعملون بها اليوم. فإذا كان ذلك كذلك وكانَ ما كانت الجاهلية تعمل به لا يوصل إلى علمه إذ لم يكن له في الإسلام اليوم أثر, ولا في الشرك، نعرفه إلا بخبر, وكانت الأخبار عما كانوا يفعلون من ذلك مختلفة الاختلافَ الذي ذكرنا، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: أما معاني هذه الأسماء, فما بيّنا في ابتداء القول في تأويل هذه الآية، وأما كيفية عمل القوم في ذلك, فما لا علم لنا به. وقد وردت الأخبار بوصف عملهم ذلك على ما قد حكينا, وغير ضائرٍ الجهلُ بذلك إذا كان المرادُ من علمه المحتاجُ إليه, موصلا إلى حقيقته, وهو أن القوم كانوا يحرِّمون من أنعامهم على أنفسهم ما لم يحرمه الله، اتباعًا منهم خطوات الشيطان, فوبَّخهم الله تعالى ذكره بذلك, وأخبرهم أن كل ذلك حلال. فالحرام من كل شيء عندنا ما حرَّم الله تعالى ذكره ورسوله صلى الله عليه وسلم, بنصٍّ أو دليل، والحلال منه ما حلله الله ورسوله كذلك. القول في تأويل قوله : وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ( 103 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيّ ب « الذين كفروا » في هذا الموضع، والمراد بقوله: « وأكثرهم لا يعقلون » . فقال بعضهم: المعنيّ ب « الذين كفروا » اليهود, وب « الذين لا يعقلون » ، أهل الأوثان. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة, عن سفيان, عن دواد بن أبي هند, عن محمد بن أبي موسى: « ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب » ، قال: أهل الكتاب « وأكثرهم لا يعقلون » ، قال: أهل الأوثان. وقال آخرون: بل هم أهل ملّة واحدة, ولكن « المفترين » ، المتبوعون و « الذين لا يعقلون » ، الأتباع. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا خارجة, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي في قوله: « ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون » ، هم الأتباع وأما « الذين افتروا » , فعقلوا أنهم افتروا. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن المعنيين بقوله: « ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب » ، الذين بحروا البحائر, وسيَّبوا السوائب, ووصلوا الوصائل, وحموا الحوامي، مثل عمرو بن لحي وأشكاله ممن سنّ لأهل الشرك السنن الرديئة، وغيَّر دين الله دين الحق، وأضافوا إلى الله تعالى ذكره: أنه هو الذي حرّم ما حرّموا، وأحلَّ ما أحلوا, افتراءً على الله الكذب وهم يعلمون, واختلاقًا عليه الإفك وهم يفهمون، فكذبهم الله تعالى ذكره في قيلهم ذلك, وإضافتهم إليه ما أضافوا من تحليل ما أحلوا وتحريم ما حرموا, فقال تعالى ذكره: ما جعلت من بحيرة ولا سائبة, ولكن الكفار هم الذين يفعلون ذلك، ويفترون على الله الكذب. وأن يقال، إن المعنيين بقوله: « وأكثرهم لا يعقلون » ، هم أتباع من سنّ لهم هذه السنن من جهلة المشركين, فهم لا شك أنهم أكثر من الذين لهم سنوا ذلك لهم، فوصفهم الله تعالى بأنهم لا يعقلون, لأنهم لم يكونوا يعقلون أن الذين سنوا لهم تلك السنن وأخبروهم أنها من عند الله، كذبةٌ في إخبارهم، أفَكَةٌ, بل ظنوا أنهم فيما يقولون محقُّون، وفي إخبارهم صادقون. وإنما معنى الكلام: وأكثرهم لا يعقلون أن ذلك التحريم الذي حرَّمه هؤلاء المشركون وأضافوه إلى الله تعالى ذكره كذب وباطل. وهذا القول الذي قلنا في ذلك، نظير قول الشعبي الذي ذكرنا قبلُ. ولا معنى لقول من قال: « عني بالذي كفروا أهل الكتاب » , وذلك أن النكير في ابتداء الآية من الله تعالى ذكره على مشركي العرب, فالختم بهم أولى من غيرهم, إذ لم يكن عرض في الكلام ما يُصرف من أجله عنهم إلى غيرهم. وبنحو ذلك كان يقول قتادة: حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وأكثرهم لا يعقلون » ، يقول: تحريمُ الشيطان الذي حرّم عليهم, إنما كان من الشيطان، ولا يعقلون. القول في تأويل قوله : وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ( 104 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء الذين يبحرون البحائر ويسيِّبون السوائب؟ الذين لا يعقلون أنهم بإضافتهم تحريم ذلك إلى الله تعالى ذكره يفترون على الله الكذب: تعالوا إلى تنـزيل الله وآي كتابه وإلى رسوله, ليتبين لكم كذبُ قيلكم فيم تضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريمكم ما تحرِّمون من هذه الأشياء أجابوا من دعاهم إلى ذلك بأن يقولوا: حسبنا ما وجدنا عليه من قبلنا آباءَنا يعملون به, ويقولون: « نحن لهم تبع وهم لنا أئمة وقادة, وقد اكتفينا بما أخذنا عنهم، ورضينا بما كانوا عليه من تحريم وتحليل » . قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أوَ لو كان آباء هؤلاء القائلين هذه المقالة لا يعلمون شيئًا؟ يقول: لم يكونوا يعلمون أنّ ما يضيفونه إلى الله تعالى ذكره من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، كذبٌ وفريةٌ على الله, لا حقيقة لذلك ولا صحة، لأنهم كانوا أتباع المفترين الذين ابتدءوا تحريم ذلك، افتراءً على الله بقيلهم ما كانوا يقولون من إضافتهم إلى الله تعالى ذكره ما يضيفون ولا كانوا فيما هم به عاملون من ذلك على استقامة وصواب, بل كانوا على ضلالة وخطأ. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم فأصلحوها, واعملوا في خلاصها من عقاب الله تعالى ذكره, وانظروا لها فيما يقرِّبها من ربها, فإنه « لا يضركم من ضَلّ » ، يقول: لا يضركم من كفر وسلك غير سبيل الحق، إذا أنتم اهتديتم وآمنتم بربكم، وأطعتموه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه, فحرمتم حرامه وحللتم حلاله. ونصب قوله: « أنفسكم » بالإغراء, والعرب تغري من الصفات ب « عليك » و « عندك » ، و « دونك » ، و « إليك » . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معناه: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم » ، إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يُقبل منكم . ذكر من قال ذلك: حدثنا سوار بن عبد الله قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا أبو الأشهب, عن الحسن: أن هذه الآية قرئت على ابن مسعود: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم » ، فقال ابن مسعود: « ليس هذا بزمانها, قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدّت عليكم فعليكم أنفسكم » . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة, عن أبي الأشهب, عن الحسن قال : ذكر عند ابن مسعود « يا أيها الذين آمنوا » ، ثم ذكر نحوه. حدثنا يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن الحسن قال : قال رجل لابن مسعود: ألم يقل الله: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَلّ إذا اهتديتم » ؟ قال: ليس هذا بزمانها, قولوها ما قُبلت منكم، فإذا رُدَّت عليكم فعليكم أنفسكم. حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا شبابة بن سوار قال ، حدثنا الربيع بن صبيح, عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه, فإن الله تعالى ذكره يقول: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ؟ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ألا فليبلِّغ الشاهد الغائبَ » ، فكنَّا نحن الشهودَ وأنتم الغَيَب, ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم. حدثنا أحمد بن المقدام قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال ، حدثنا قتادة, عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة, فإذا قومٌ من المسلمين جلوس, فقرأ أحدهم هذه الآية: « عليكم أنفسكم » ، فقال أكثرهم: لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عمرو بن عاصم قال ، حدثنا المعتمر, عن أبيه, عن قتادة, عن أبي مازن, بنحوه. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عوف, عن سوّار بن شبيب قال ، كنت عند ابن عمر, إذ أتاه رجل جليدٌ في العين, شديد اللسان, فقال: يا أبا عبد الرحمن، نحن ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه, وكلهم مجتهد لا يألو, وكلهم بغيضٌ إليه أن يأتي دناءةً, وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك! فقال رجل من القوم: وأيَّ دناءة تريد، أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك! قال: فقال الرجل: إني لستُ إيّاك أسأل, أنا أسأل الشيخ! فأعاد على عبد الله الحديث, فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى لا أبا لك، إني سآمرك أن تذهب أن تقتلهم! عظهم وانههم, فإن عصوك فعليك بنفسك, فإن الله تعالى يقول: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون » . حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، قال: إن هذا ليس بزمانها, إنها اليوم مقبولة, ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانٌ تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال: فلا يقبل منكم فحينئذ: عليكم أنفسكم, لا يضركم من ضلّ « . » حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة, عن رجل قال: كنت في خلافة عثمان بالمدينة، في حلقة فيهم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم, فإذا فيهم شيخ يُسْنِدون إليه, فقرأ رجل: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، فقال الشيخ: إنما تأويلها آخرَ الزمان. حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال ، حدثنا أبو مازن، رجل من صالحي الأزد من بني الحُدَّان، قال : انطلقت في حياة عثمان إلى المدينة, فقعدت إلى حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقرأ رجل من القوم هذه الآية « لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، قال فقالَ رجلٌ من أسنِّ القوم: دَعْ هذه الآية, فإنما تأويلها في آخر الزمان. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا ابن فضالة, عن معاوية بن صالح, عن جبير بن نفير قال : كنت في حلقة فيها أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنّي لأصغر القوم, فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ؟ فأقبلوا عليَّ بلسان واحد وقالوا: أتنتزِع بآية من القرآن لا تعرفها، ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت. ثم أقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم قالوا: « إنك غلام حدَثُ السن, وإنك نـزعت بآية لا تدري ما هي, وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شحًّا مطاعًا, وهوًى متبعًا وإعجابَ كل ذي رأي برأيه, فعليك بنفسك، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. » حدثنا هناد قال ، حدثنا ليث بن هارون قال ، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن عبد الله بن مسعود في قوله: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم تعملون » ، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا, فكان بين رجلين ما يكون بين الناس, حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه, فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرُهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك, فإن الله تعالى يقول: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ! قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مَهْ، لَمَّا يجئ تأويل هذه بعد! إن القرآن أنـزل حيث أنـزل، ومنه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن ينـزلن, ومنه ما وقع تأويلهن على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم, ومنه آيٌ وَقع تأويلهن بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بيسير, ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم, ومنه آي يقع تأويلهنّ عند الساعة على ما ذكر من الساعة, ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تُلبَسوا شيعًا، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض, فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وأُلبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض, فامرؤ ونفسه, فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية, عن ابن مسعود: أنه كان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس, حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه, ثم ذكر نحوه. حدثني أحمد بن المقدام قال ، حدثنا حرمي......... قال : سمعت الحسن يقول: تأوّل بعضُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، فقال بعض أصحابه: دعوا هذه الآية، فليست لكم. حدثني إسماعيل بن إسرائيل اللآل الرّملي قال ، حدثنا أيوب بن سويد قال ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم, عن عمرو بن جارية اللخمي, عن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم » ، فقال: لقد سألت عنها خبيرًا, سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبا ثعلبة، ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر, فإذا رأيت دنيا مؤثَرة، وشحًّا مطاعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه, فعليك نفسك! إنّ من بعدكم أيام الصبر, للمتمسك يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عاملا! قالوا: يا رسول الله, كأجر خمسين عاملا منهم؟ قال: لا كأجر خمسين عاملا منكم. حدثنا علي بن سهل قال ، أخبرنا الوليد بن مسلم, عن ابن المبارك وغيره, عن عتبة بن أبي حكيم, [ عن عمرو بن جارية اللخمي ] ، عن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني: كيف نَصنع بهذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ؟ فقال أبو ثعلبة: سألت عنها خبيرًا, سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر, حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه, فعليك بِخُوَيصة نفسك, وذَرْ عوامَّهم، فإن وراءكم أيامًا أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم. وقال آخرون: معنى ذلك أنّ العبد إذا عمل بطاعة الله لم يضره من ضَلَّ بعده وهلك. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلَ » ، يقول: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته من الحلال والحرام, فلا يضره من ضل بعدُ، إذا عمل بما أمرته به. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، يقول: أطيعوا أمري, واحفظوا وصيَّتي. حدثنا هناد قال ، حدثنا ليث بن هارون قال ، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي جعفر الرازي, عن صفوان بن الجون قال : دخل عليه شابّ من أصحاب الأهواء, فذكر شيئًا من أمره, فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة الله التي خصَّ بها أولياءه؟ « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل » ، الآية. حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال ، حدثنا أبو المطرف المخزومي قال ، حدثنا جويبر, عن الضحاك, عن ابن عباس قال : « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، ما لم يكن سيف أو سوط. حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا ضمرة بن ربيعة قال ، تلا الحسن هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، فقال الحسن: الحمد لله بها، والحمد لله عليها, ما كان مؤمن فيما مضى، ولا مؤمن فيما بقي، إلا وإلى جانبه منافق يكرَه عمله. وقال آخرون: بل معنى ذلك: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم » ، فاعملوا بطاعة الله « لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، فأمرتم بالمعروف، ونهيتم عن المنكر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام بن سلم, عن عنبسة, عن سعد البقال, عن سعيد بن المسيب: « لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، قال: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر, لا يضرك من ضل إذا اهتديت. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن أبي العميس, عن أبي البختري, عن حذيفة: « عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، قال: إذا أمرتم ونهيتم. حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن ابن أبي خالد, عن قيس بن أبي حازم قال ، قال أبو بكر: تقرءون هذه الآية: « لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، وإن الناس إذا رأوا الظالم قال ابن وكيع فلم يأخذوا على يديه, أوشك أن يعمّهم الله بعقابه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير وابن فضيل, عن بيان, عن قيس قال ، قال أبو بكر: إنكم تقرءون هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، وإن القوم إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه, يعمُّهم الله بعقابه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن إسماعيل, عن قيس, عن أبي بكر, عن النبي صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه. حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، يقول: مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قال أبو بكر بن أبي قحافة: يا أيها الناس لا تغترُّوا بقول الله: « عليكم أنفسكم » ، فيقول أحدكم: عليَّ نفسي، والله لتأمرن بالمعروف وتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليَستعملن عليكم شراركم، فليسومنّكم سوء العذاب, ثم ليدعون الله خياركم، فلا يستجيب لهم. حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا بيان, عن قيس بن أبي حازم قال ، قال أبو بكر وهو على المنبر: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية على غير موضعها: « لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه, عَمَّهم الله بعقابه. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثني عيسى بن المسيب البجلي قال ، حدثنا قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقرأ هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى الناسُ المنكر فلم يغيِّروه، والظالم فلم يأخذوا على يديه, فيوشك أن يعمهم الله منه بعقاب. حدثنا الربيع قال ، حدثنا أسد بن موسى قال ، حدثنا سعيد بن سالم قال ، حدثنا منصور بن دينار, عن عبد الملك بن ميسرة, عن قيس بن أبي حازم قال : صَعد أبو بكر المنبرَ منبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس، إنكم لتتلون آية من كتاب الله وتعدُّونها رُخصة، والله ما أنـزل الله في كتابه أشدَّ منها: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر, أو ليعمنكم الله منه بعقاب. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا إسحاق بن إدريس قال ، حدثنا سعيد بن زيد قال ، حدثنا مجالد بن سعيد, عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر يقول وهو يخطب الناس: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية ولا تدرون ما هي؟ : « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا منكرًا فلم يغيِّروه، عمّهم الله بعقاب. وقال آخرون: بل معنى هذه الآية: لا يضركم من حاد عن قصد السبيل وكفر بالله من أهل الكتاب. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في قوله: « لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » ، قال: يعني من ضلّ من أهل الكتاب. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في هذه الآية: « لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، قال: أنـزلت في أهل الكتاب. وقال آخرون: عنى بذلك كل من ضل عن دين الله الحق. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضَل إذا اهتديتم » ، قال: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفَّهت آباءك وضللتهم, وفعلت وفعلت, وجعلت آباءك كذا وكذا! كان ينبغي لك أن تنصرهم، وتفعل! فقال الله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم » . قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال وأصحّ التأويلات عندنا بتأويل هذه الآية، ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيها, وهو: « يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم » ، الزموا العملَ بطاعة الله وبما أمركم به, وانتهوا عما نهاكم الله عنه « لا يضركم من ضل إذا اهتديتم » ، يقول: فإنه لا يضركم ضلال من ضل إذا أنتم لزمتم العمل بطاعة الله, وأدَّيتم فيمن ضل من الناس ما ألزمكم الله به فيه، من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يركبه أو يحاول ركوبه, والأخذ على يديه إذا رام ظلمًا لمسلم أو معاهد ومنعه منه فأبى النـزوع عن ذلك, ولا ضير عليكم في تماديه في غيِّه وضلاله، إذا أنتم اهتديتم وأديتم حق الله تعالى ذكره فيه. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات في ذلك بالصواب, لأن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى. ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف. وهذا مع ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان للناس تركُ ذلك, لم يكن للأمر به معنًى، إلا في الحال التي رخَّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم تركَ ذلك, وهي حال العجز عن القيام به بالجوارح الظاهرة، فيكون مرخصًا له تركه، إذا قام حينئذ بأداء فرض الله عليه في ذلك بقلبه. وإذا كان ما وصفنا من التأويل بالآية أولى, فبيِّنٌ أنه قد دخل في معنى قوله: « إذا اهتديتم » ، ما قاله حذيفة وسعيد بن المسيب من أن ذلك: « إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر » , ومعنى ما رواه أبو ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله : إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 105 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من عباده: اعملوا، أيها المؤمنون، بما أمرتكم به, وانتهوا عما نهيتكم عنه, ومروا أهل الزَّيغ والضلال وما حاد عن سبيلي بالمعروف, وانهوهم عن المنكر. فإن قبلوا، فلهم ولكم, وإن تمادَوْا في غيهم وضلالهم، فإن إليّ مرجع جميعكم ومصيركم في الآخرة ومصيرهم, وأنا العالم بما يعمل جميعكم من خير وشر, فأخبر هناك كلَّ فريق منكم بما كان يعمله في الدنيا، ثم أجازيه على عمله الذي قَدِم به عليّ جزاءه حسب استحقاقه, فإنه لا يخفى عليَّ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: « يا أيها الذين آمنوا شهادةُ بينكم » ، يقول: ليشهد بينكم « إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية » ، يقول: وقت الوصية « اثنان ذوا عدل منكم » ، يقول: ذوا رشد وعقل وحِجًى من المسلمين، كما:- حدثنا محمد بن بشار وعبيد الله بن يوسف الجبيري قالا حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب في قوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ سورة الطلاق: 2 ] ، قال: ذَوَي عقل. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « ذوا عدل منكم » . فقال بعضهم: عنى به: من أهل ملتكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب قال : شاهدان « ذوا عدل منكم » ، من المسلمين. حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم » ، من المسلمين. حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم » ، قال: اثنان من أهل دينكم. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن أشعث, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : سألته, عن قول الله تعالى ذكره: « اثنان ذوا عدل منكم » ، قال: من الملة. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, بمثله إلا أنه قال فيه: من أهل الملة. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن هشام, عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة عن هذه الآية: « اثنان ذوا عدل منكم » ، قال: من أهل الملة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي, عن ابن عون, عن ابن سيرين, عن عبيدة, مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين, عن زائدة, عن هشام, عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة, فذكر مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي, عن حماد, عن ابن أبي نجيح وقال، حدثنا مالك بن إسماعيل, عن حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح عن مجاهد, مثله. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « ذوا عدل منكم » ، قال: ذوا عدل من أهل الإسلام. حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: « ذوا عدل منكم » ، قال: من المسلمين. حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال : كان سعيد بن المسيب يقول: « اثنان ذوا عدل منكم » ، أي: من أهل الإسلام. وقال آخرون: عنى بذلك: ذوا عدل من حَيِّ الموصِي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما. واختلفوا في صفة « الاثنين » اللذين ذكرهما الله في هذه الآية، ما هي, وما هما؟ فقال بعضهم: هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي. وقال آخرون: هما وصيان. وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان. قولَه: « شهادة بينكم » ، ليشهد شاهدان ذوا عدل منكم على وصيتكم. وتأويل الذين قالوا: « هما وصيان لا شاهدان » قولَه: « شهادة بينكم » ، بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريضُ, من قولك: « شهدت وصية فلان » , بمعنى حضرته. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله: « اثنان ذوا عدل منكم » ، تأويلُ من تأوّله بمعنى أنهما من أهل الملة، دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية, لأن الله تعالى ذكره، عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم » فغير جائز أن يصرف ما عمَّه الله تعالى ذكره إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها. وإذ كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون العائدُ من ذكره على العموم, كما كان ذكرهم ابتداءً على العموم. وأولى المعنيين بقوله: « شهادة بينكم » اليمين, لا « الشهادة » التي يقوم بها مَنْ عنده شهادة لغيره، لمن هي عنده، على مَن هي عليه عند الحكام. لأنا لا نعلم لله تعالى ذكره حكمًا يجب فيه على الشاهد اليمين, فيكون جائزًا صرفُ « الشهادة » في هذا الموضع، إلى « الشهادة » التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة. وفي حكم الآية في هذه، اليمينَ على ذوي العدل وعلى من قام مقامهم، باليمين بقوله « تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله » أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا في ذلك، من أن « الشهادة » فيه: الأيمان، دون الشهادة التي يقضَى بها للمشهود له على المشهود عليه وفسادِ ما خالفه. فإن قال قائل: فهل وجدتَ في حكم الله تعالى ذكره يمينًا تجب على المدَّعي، فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة؟ فإن قلتَ: « لا » , تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت, لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله: « فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما » ، هما المدعيين. وإن قلت: « بلى » , قيل لك: وفي أيّ حكم لله تعالى ذكره وجدتَ ذلك؟ قيل: وجدنا ذلك في أكثر المعاني. وذلك في حكم الرجل يدَّعي قِبَل رجل مالا فيقرّ به المدّعَى عليه قِبَله ذلك، ويدّعي قضاءه. فيكون القول قول ربّ الدين والرجل يعرّف في يد الرجل السلعةَ, فيزعم المعرّف في يده أنه اشتراها من المدّعِي، أو أنّ المدعي وهبها له, وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه. وعلى هذا الوجه أوجبَ الله تعالى ذكره في هذا الموضع اليمين على المدعيين اللذين عثرا على الخائنين فيما خانا فيه. قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في الرافع قولَه: « شهادة بينكم » , وقولَه: « اثنان ذوا عدل منكم » . فقال بعض نحويي البصرة: معنى قوله: « شهادة بينكم » ، شهادة اثنين ذوي عدل, ثم ألقيت « الشهادة » ، وأقيم « الاثنان » مقامها, فارتفعا بما كانت « الشهادة » به مرتفعة لو جعلت في الكلام. قال: وذلك في حذف ما حذف منه، وإقامة ما أقيم مقام المحذوف نظيرُ قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ سورة يوسف: 82 ] ، وإنما يريد: واسأل أهل القرية, وانتصبت « القرية » بانتصاب « الأهل » ، وقامت مقامه, ثم عطف قوله: « أو آخران » على « الاثنين » . وقال بعض نحويي الكوفة: رفع « الاثنين » ب « الشهادة » ، أي: ليشهدكم اثنان من المسلمين, أو آخران من غيركم. وقال آخر منهم: رفعت « الشهادة » ، ب « إذا حضر » . وقال: إنما رفعت بذلك، لأنه قال: « إذا حضر » فجعلها « شهادة » محذوفة مستأنفة, ليست بالشهادة التي قد رفعت لكل الخلق, لأنه قال تعالى ذكره: « أو آخران من غيركم » , وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال, وليست مما يثبت. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: « الشهادة » مرفوعة بقوله: « إذا حضر » ، لأن قوله: « إذا حضر » ، بمعنى: عند حضور أحدكم الموت, و « الاثنان » مرفوع بالمعنى المتوهَّم, وهو: أن يشهد اثنان فاكتفي من قيل: « أن يشهد » ، بما قد جرى من ذكر « الشهادة » في قوله: « شهادة بينكم » . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأن « الشهادة » مصدر في هذا الموضع, و « الاثنان » اسم, والاسم لا يكون مصدرًا. غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال. فالأمر وإن كان كذلك, فصرْفُ كل ذلك إلى أصح وُجوهه ما وجدنا إليه سبيلا أولى بنا من صرفه إلى أضعفها. القول في تأويل قوله : أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت، عدلان من المسلمين, أو آخران من غير المسلمين. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « أو آخران من غيركم » . فقال بعضهم: معناه: أو آخران من غير أهل ملتكم، نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا حميد بن مسعدة وبشر بن معاذ قالا حدثنا يزيد بن زريع, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب: « أو آخران من غيركم » ، من أهل الكتاب. حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة قال ، سمعت قتادة يحدث, عن سعيد بن المسيب: « أو آخران من غيركم » ، من أهل الكتاب. حدثني أبو حفص الجبيري، عبيد الله بن يوسف قال ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال ، حدثنا شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد, مثله. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم وسليمان التيمي, عن سعيد بن المسيب, أنهما قالا في قوله: « أو آخران من غيركم » ، قالا من غير أهل ملتكم. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة قال ، حدثني من سمع سعيد بن جبير يقول, مثل ذلك. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا التيمي, عن أبي مجلز قال : من غير أهل ملتكم. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم, مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم قال : إن كان قُرْبَه أحدٌ من المسلمين أشهدهم, وإلا أشهد رجلين من المشركين. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو قتيبة قال ، حدثنا هشيم, عن المغيرة, عن إبراهيم وسعيد بن جبير في قوله: « أو آخران من غيركم » ، قالا من غير أهل ملتكم. حدثنا عمرو قال ، حدثنا يحيى بن سعيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد: « أو آخران من غيركم » ، قال: من أهل الكتاب. حدثنا عمرو قال ، حدثنا محمد بن سواء قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله. حدثنا هناد قال ، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي عن شعبة, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب, مثله. حدثنا عمران بن موسى قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم » ، من المسلمين, فإن لم تجدوا من المسلمين, فمن غير المسلمين. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود, عن عامر, عن شريح في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم » ، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته, فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا, فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما, أجيزت شهادة المسلمين, وأبطلت شهادة الآخرَيْن. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح: أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية, ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفَر. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو معاوية ووكيع قالا حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصرانيّ إلا في سفر, ولا تجوز في سفر إلا في وصية. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن الأعمش, عن إبراهيم, عن شريح, نحوه. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي قال ، حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم قال : كتب هشام بن هُبَيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين, فكتب: « لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية, ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرًا » . حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن أشهب, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : سألته عن قول الله تعالى ذكره: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير الملة. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة, بمثله. حدثني يعقوب قال ، حدثنا ابن علية, عن هشام, عن ابن سيرين قال : سألت عبيدة, عن ذلك فقال: من غير أهل الملة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : من غير أهل الصلاة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : من غير أهل دينكم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين, عن زائدة, عن هشام, عن ابن سيرين, عن عبيدة قال : من غير أهل الملة. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا أبو حرّة, عن محمد بن سيرين, عن عبيدة: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير أهل ملتكم. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان قال، حدثنا هشام بن محمد قال ، سألت سعيد بن جبير عن [ قول الله: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير أهل ملتكم ] . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل, عن حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا حماد بن زيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال : من غير أهل ملتكم. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « أو آخران من غيركم » ، من غير أهل الإسلام. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال ، قال أبو إسحاق: « أو آخران من غيركم » ، قال: من اليهود والنصارى قال قال شريح: لا تجوز شهادة اليهوديّ والنصراني إلا في وصية, ولا تجوز في وصية إلا في سفر. حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا, عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقوقَا هذه. قال: فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته, فأشهده رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة, فأتيا الأشعريّ فأخبراه, وقدِما بتركته ووصيته, فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فأحلفهما وأمضى شهادتهما. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا شعبة, عن مغيرة الأزرق, عن الشعبي: أن أبا موسى قضى بها بدَقوقَا. حدثنا عمرو قال ، حدثنا عثمان بن الهيثم قال ، حدثنا عوف, عن محمد: أنه كان يقول في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم » ، شاهدان من المسلمين وغير المسلمين. حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: « أو آحران من غيركم » ، من غير أهل الإسلام. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو حفص, عن ليث, عن مجاهد قال : من غير أهل الإسلام. حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني عبد الله بن عياش قال : قال زيد بن أسلم في هذه الآية: « شهادة بينكم » الآية كلها، قال: كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام, وذلك في أوّل الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار, إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة, وكان الناس يتوارثون بالوصية, ثم نُسِخت الوصية وفرضت الفرائض, وعمل المسلمون بها. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أو آخران من غير حَيِّكم وعشيرتكم. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم قال ، حدثنا عوف, عن الحسن في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم » ، قال: شاهدان من قومكم ومن غير قومكم. حدثنا عمرو قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر, عن الزهري قال : مضت السُّنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر, إنما هي في المسلمين. حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال : كان الحسن يقول: « اثنان ذوا عدل منكم » ، أي: من عشيرته « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير عشيرته. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة, عن ثابت بن زيد, عن عاصم, عن عكرمة: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير أهل حيِّكم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن مهدي, عن ثابت بن زيد, عن عاصم, عن عكرمة: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير حيكم. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا أبو داود قال ، حدثنا ثابت بن زيد, عن عاصم الأحول, عن عكرمة في قول الله تعالى ذكره: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير أهل حيه يعني: من المسلمين. حدثني الحارث بن محمد قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك, عن الحسن: « أو آخران من غيركم » ، قال: من غير عشيرتك, ومن غير قومك، كلهم من المسلمين. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين, عن عبيدة قوله: « أو آخران من غيركم » ، قال: مسلمين من غير حيكم. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني الليث قال ، حدثني عقيل قال: سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى ذكره: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت » ، إلى قوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ، قلت: أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله، من غير أهل المرء الموصي، أهما من المسلمين، أم هما من أهل الكتاب؟ وأرأيت الآخرين اللذين يقومان مقامهما, أتراهما من [ غير ] أهل المرء الموصي، أم هما من غير المسلمين؟ قال ابن شهاب: لم نسمع في هذه الآية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أئمة العامة، سنة أذكرها, وقد كنا نتذاكرها أناسًا من علمائنا أحيانًا, فلا يذكرون فيها سُنة معلومة، ولا قضاءً من إمام عادل, ولكنه يختلف فيها رأيهم. وكان أعجبهم فيها رأيًا إلينا، الذين كانوا يقولون: هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين, يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه، ويغيب عنه بعضهم, ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى، فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضرُوا من وصية. فإن سلّموا جازت وصيته، وإن ارتابوا أن يكونوا بدَّلوا قولَ الميت، وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء، حَلَف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة، وهي صلاة المسلمين, فيقسمان بالله: « إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين » . فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما، ما لم يعثر على أنهما [ استحقا إثمًا في شيء من ذلك, فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا في شيء من ذلك ] ، قام آخران مقامهما من أهل الميراث، من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأوَّلان المستحلفان أول مرة, فيقسمان بالله لشهادتنا [ أحق من شهادتكما ] ، على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ، الآية. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب، تأويل من تأوّله: أو آخران من غير أهل الإسلام. وذلك أن الله تعالى عرَّف عباده المؤمنين عند الوصية، شهادة اثنين من عدول المؤمنين، أو اثنين من غير المؤمنين. ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم، أو رجلين من غير عشيرتكم, وإنما يقال: صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين. فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام, فغير جائز صرف معنى كلام الله تعالى ذكره إلا إلى أحسن وجوهه. وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى: « ذوا عدل منكم » ، إنما هو من أهل دينكم وملتكم، بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه. وإذ صح ذلك بما دللنا عليه, فمعلوم أن معنى قوله: « أو آخران من غيركم » ، إنما هو: أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم. وإذ كان ذلك كذلك, فسواء كان الآخران اللذان من غير أهل ديننا، يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدَيْ وثَن، أو على أي دين كانا. لأنّ الله تعالى ذكره لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دونَ ملة، بعد أن يكونا من [ غير ] أهل الإسلام. القول في تأويل قوله : إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموتُ وقتَ الوصية, أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم، أيها المؤمنون، أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم, إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض. وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر: « الضارب في الأرض » . « فأصابتكم مصيبة الموت » ، يقول: فنـزل بكم الموت. ووجَّه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير، وقالوا: معناه: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، اثنان ذوا عدل منكم إن وجدا, فإن لم يوجدا فآخران من غيركم وإنما فعل ذلك من فعله, لأنه وجَّه معنى « الشهادة » في قوله: « شهادة بينكم » ، إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيامَ صاحبها عند الحاكم, أو يُبطلها. * ذكر بعض من تأول ذلك كذلك: حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: « ذوا عدل منكم » ، من المسلمين. فإن لم تجدوا من المسلمين، فمن غير المسلمين. حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن سعيد بن المسيب في قوله: « اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم » ، قال: اثنان من أهل دينكم « أو آخران من غيركم » ، من أهل الكتاب، إذا كان ببلادٍ لا يجد غيرهم. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود, عن عامر, عن شريح في هذه الآية: « شهادة بينكم » إلى قوله: « أو آخران من غيركم » ، قال: إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته, فأشهد يهوديًّا أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا, فشهادتهم جائزة. حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم » ، قال: هذا في الحضر « أو آخران من غيركم » ، في السفر « إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت » ، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين, فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس, فيوصي إليهما. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » الآية ، قال : إذا حضر الرجلَ الوفاةُ في سفر, فيشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد رجلين من المسلمين، فرجلين من أهل الكتاب. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » إلى قوله: « ذوا عدل منكم » ، فهذا لمن مات وعنده المسلمون, فأمره الله أن يشهد على وصيته عَدْلين من المسلمين. ثم قال: « أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت » ، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين, فأمره الله تعالى ذكره بشهادة رجلين من غير المسلمين. ووجَّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير, وقالوا: إنما عنى بالشهادة في هذا الموضع، الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما، وائتمانَ الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدِّياه إلى ورثته بعد وفاته، إن ارتيب بهما. قالوا: وقد يتَّمِن الرجلُ على ماله من رآه موضعًا للأمانة من مؤمن وكافر في السفر والحضر. وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى, وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد. القول في تأويل قوله : تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت, إن شهد اثنان ذوا عدل منكم, أو كان أوصى إليهما أو آخران من غيركم إن كنتم في سفر فحضرتكم المنيّة، فأوصيتم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم. فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال، فأصابتكم مصيبة الموت, فأدَّيا إلى ورثتكم ما اتَّمنتموهما وادَّعوا عليهما خيانة خاناها مما اتُّمنا عليه, فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما يقول: تستوقفونهما بعد الصلاة. وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف, وهو: « فأصابتكم مصيبة الموت، وقد أسندتم وصيتكم إليهما، ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال » , فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة « فيقسمان بالله إن ارتبتم » ، يقول: فيحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما اُّتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها أو تبديلها و « الارتياب » ، هو الاتهام « لا نشتري به ثمنًا » ، يقول: يحلفان بالله لا نشتري بأيماننا بالله ثمنًا, يقول: لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه، وعلى مال نذهب به، أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وَليُّهم وميِّتهم. و « الهاء » في قوله: « به » ، من ذكر « الله » , والمعنيُّ به الحلف والقسم، ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به, فعُرِف معنى الكلام, اكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف. « ولو كان ذا قربى » ، يقول: يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضًا فنكذب فيها لأحد, ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا. وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت » ، فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين, فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد الصلاة بالله: لم نشتر بشهادتنا ثمنًا قليلا. وقوله: « تحبسونهما من بعد الصلاة » ، من صلاة الآخرين. ومعنى الكلام: أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة، إن ارتبتم بهما, فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى. واختلفوا في « الصلاة » التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، فقال: « تحبسونهما من بعد الصلاة » . فقال بعضهم: هي صلاة العصر. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا, فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته, فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال: فقدما الكوفة, فأتيا الأشعري فأخبراه, وقدما بتركته ووصيته, فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فأحلفهما بعد العصر: بالله ما خانا ولا كذبا ولا بَدّلا ولا كتما، ولا غيَّرا, وإنها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما. حدثنا ابن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: « أو آخران من غيركم » ، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب, فإنهما يحلفان بعد العصر. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم, بمثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » إلى « فأصابتكم مصيبة الموت » ، فهذا رجل مات بغُرْبة من الأرض، وترك تركته، وأوصى بوصيته، وشهد على وصيته رجلان. فإن ارتيب في شهادتهما، استحلفا بعد العصر. وكان يقال: عندها تصير الأيمان. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني هشيم قال ، أخبرنا مغيرة, عن إبراهيم وسعيد بن جبير: أنهما قالا في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » ، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر, فليشهد رجلين من المسلمين. فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب. فإذا قدما بتركته, فإن صدّقهما الورثة قُبِل قولهما, وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر: بالله ما كذبنا ولا كتمنا ولا خُنَّا ولا غيَّرنا. حدثنا عمرو بن علي قال ، حدثنا يحيى بن القطان قال ، حدثنا زكريا قال ، حدثنا عامر: أن رجلا توفي بدَقُوقا, فلم يجد من يشهده على وصيته إلا رجلين نصرانيين من أهلها. فأحلفهما أبو موسى دُبُر صلاة العصر في مسجد الكوفة: بالله ما كتما ولا غيرا, وأن هذه الوصية. فأجازها. وقال آخرون: بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » إلى قوله: « ذوا عدل منكم » ، قال: هذا في الوصية عند الموت، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما لَهُ وعليه، قال : هذا في الحضر « أو آخران من غيركم » في السفر « إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت » ، هذا، الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين, فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس, فيوصي إليهما، ويدفع إليهما ميراثه. فيقبلان به. فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مالَ صاحبهم، تركوا الرجلين. وإن ارتابوا، رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله: « تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم » . قال عبد الله بن عباس: كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتُهِى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره, ففتح الصحيفة، فأنكر أهل الميت، وخوَّنوهما. فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر, فقلت له: « إنهما لا يباليان صلاة العصر, ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما, فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما, ويحلفان بالله: لا نشتري ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنّا إذًا لمن الآثمين, أنّ صاحبهم لبهذا أوصى, وأنّ هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما, ولم تجز لكما شهادة، وعاقبتكما! فإذا قال لهما ذلك, فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها. » قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا, قولُ من قال: « تحبسونهما من بعد صلاة العصر » . لأن الله تعالى عرَّف « الصلاة » في هذا الموضع بإدخال « الألف واللام » فيها, ولا تدخلهما العرب إلا في معروف, إما في جنس, أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين. فإذا كان كذلك, وكانت « الصلاة » في هذا الموضع مجمعًا على أنه لم يُعْنَ بها جميع الصلوات, لم يجز أن يكون مرادًا بها صلاة المستحلَف من اليهود والنصارى, لأن لهم صلوات ليست واحدة, فيكون معلومًا أنها المعنيَّة بذلك. فإذْ كان ذلك كذلك, صح أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين. وإذ كان ذلك كذلك, وكان النبي صلى الله عليه وسلم صحيحًا عنه أنه إذْ لاعَنَ بين العَجْلانيين، لاعَن بينهما بعد العصر دون غيره من الصلوات كان معلومًا أنّ التي عنيت بقوله: « تحبسونهما من بعد الصلاة » ، هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيَّرها لاستحلاف من أراد تغليظَ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت, وذلك لقربه من غروب الشمس. وكان ابن زيد يقول في قوله: « لا نشتري به ثمنًا » ، ما:- حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « لا نشتري به ثمنًا » ، قال: نأخذ به رشوة. القول في تأويل قوله : وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ ( 106 ) قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( ولا نكتم شهادة الله ) ، بإضافة « الشهادة » إلى « الله » ، وخفض اسم الله تعالى يعني: لا نكتم شهادة لله عندنا. وذكر عن الشعبي أنه كان يقرؤه كالذي:- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو أسامة, عن ابن عون, عن عامر: أنه كان يقرأ: ( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) بقطع « الألف » ، وخفض اسم الله هكذا حدثنا به ابن وكيع. وكأن الشعبي وجَّهَ معنى الكلام إلى: أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنًا، ولا نكتم شهادةً عندنا. ثم ابتدأ يمينًا باستفهام: بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنًا أو كتما شهادته عندهما، لمن الآثمين. وقد روي عن الشعبي في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية, وذلك ما:- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا عباد بن عباد, عن ابن عون, عن الشعبي: أنه قرأ: ( ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ) قال أحمد: قال أبو عبيد: تنوّن « شهادة » ويخفض « الله » على الاتصال. قال: وقد رواها بعضهم بقطع « الألف » على الاستفهام. قال أبو جعفر: وحفظي أنا لقراءة الشعبي بترك الاستفهام. وقرأها بعضهم: ( ولا نكتم شهادة الله ) ، بتنوين « الشهادة » ، ونصب اسم « الله » بمعنى: ولا نكتم الله شهادةً عندنا. قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب, قراءة من قرأ: ( ولا نكتم شهادة الله ) ، بإضافة « الشهادة » إلى اسم « الله » ، وخفض اسم « الله » لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا تتناكر صحَّتَها الأمة. وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك: ولا نكتم شهادة الله، وإن كان بعيدًا. حدثني بذلك يونس قال ، أخبرنا ابن زيد، عنه. القول في تأويل قوله : فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فإن عُثِر » ، فإن اطُّلع منهما أو ظهر. وأصل « العثر » ، الوقوع على الشيء والسقوط عليه, ومن ذلك قولهم: « عثرت إصبع فلان بكذا » ، إذا صدمته وأصابته ووقعت عليه، ومنه قول الأعشي ميمون بن قيس: بِــذَاتِ لَـوْثٍ عَفَرْنَـاةٍ إذَا عَـثَرَتْ فَـالتَّعْسُ أَدْنَـى لَهَـا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا يعني بقوله: « عثرت » ، أصاب منسِمُ خُفِّها حجرًا أو غيرَه. ثم يستعمل ذلك في كل واقع على شيء كان عنه خفيًّا, كقولهم: ( عَثَرتْ على الغَزْل بأَخَرة* فلم تَدَعْ بنَجْدٍ قَرَدَةَ ) , بمعنى: وقعت. وأما قوله: « على أنهما استحقا إثمًا » ، فإنه يقول تعالى ذكره: فإن اطلع من الوصيين اللذين ذكر الله أمرهما في هذه الآية بعد حلفهما بالله: لا نشتري بأيماننا ثمنًا ولو كان ذا قربى, ولا نكتم شهادة الله « على أنهما استحقا إثمًا » , يقول: على أنهما استوجبا بأيمانهما التي حلفا بها إثمًا, وذلك أن يطلع على أنهما كانا كاذبين في أيمانهما بالله ما خُنّا ولا بدَّلنا ولا غيَّرنا. فإن وجدا قد خانا من مال الميت شيئًا, أو غيرا وصيته, أو بدّلا فأثما بذلك من حلفهما بربهما « فآخران يقومان مقامهما » ، يقول، يقوم حينئذ مقامهما من ورثة الميت، الأوليان الموصَى إليهما. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ، قال: إذا كان الرجل بأرض الشرك، فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب, فإنهما يحلفان بعد العصر. فإذا اطُّلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئًا, حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا, ثم استحقوا. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن مغيرة, عن إبراهيم, بمثله. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ، من غير المسلمين « تحبسونهما من بعد الصلاة » , فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله: ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما, قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله: « إن شهادة الكافرين باطلة, وإنا لم نعتد » . فذلك قوله: « فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا » ، يقول: إن اطلع على أنّ الكافرَيْن كذبا « فآخران يقومان مقامهما » ، يقول: من الأولياء, فحلفا بالله: « إن شهادة الكافرين باطلة, وإنا لم نعتد » ، فتردّ شهادة الكافرين, وتجوز شهادة الأولياء. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا » ، أي: اطلع منهما على خيانة أنهما كذبا أو كتما. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي له حَكَم اللهُ تعالى ذكره على الشاهدين بالأيمان فنقلها إلى الآخرين، بعد أن عثر عليهما أنهما استحقا إثمًا. فقال بعضهم: إنما ألزمهما اليمين، إذا ارتيب في شهادتهما على الميت في وصيته أنه أوصى بغير الذي يجوز في حكم الإسلام. وذلك أن يشهد أنه أوصى بماله كله, أو أوصى أن يفضل بعض ولده ببعض ماله. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إلى قوله: ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، من أهل الإسلام أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ، من غير أهل الإسلام إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ إلى: « فيقسمان بالله » ، يقول: فيحلفان بالله بعد الصلاة, فإن حلفا على شيء يخالف ما أنـزل الله تعالى ذكره من الفريضة, يعني اللذين ليسا من أهل الإسلام « فآخران يقومان مقامهما » ، من أولياء الميت, فيحلفان بالله: « ما كان صاحبنا ليوصي بهذا » , أو: « إنهما لكاذبان, ولشهادتنا أحق من شهادتهما » . حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السديّ قال : « يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما, يحلفان بالله: لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين » ، إن صاحبكم لبهذا أوصى, وإنّ هذه لتركته: فإذا شهدا, وأجاز الإمام شهادتهما على ما شهدا، قال لأولياء الرجل: اذهبوا فاضربوا في الأرض واسألوا عنهما, فإن أنتم وجدتم عليهما خيانة، أو أحدًا يطعُن عليهما، رددنا شهادتهما. فينطلق الأولياء فيسألون, فإن وجدوا أحدًا يطعُن عليهما، أو هما غير مرضيين عندهم, أو اطُّلع على أنهما خانا شيئًا من المال وجدُوه عندهما, أقبل الأولياء فشهدوا عند الإمام، وحلفوا بالله: « لشهادتنا إنهما لخائنان متهمان في دينهما مطعون عليها، أحق من شهادتهما بما شهدا, وما اعتدينا » . فذلك قوله: « فإن عُثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان » . وقال آخرون: بل إنما ألزم الشاهدان اليمين, لأنهما ادَّعيا أنه أوصى لهما ببعض المال. وإنما ينقل إلى الآخرين من أجل ذلك، إذا ارتابوا بدعواهما. ذكر من قال ذلك: حدثنا عمران بن موسى القزاز قال ، حدثنا عبد الوارث بن سعد قال ، حدثنا إسحاق بن سويد, عن يحيى بن يعمر في قوله: « تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله » ، قال: زعما أنه أوصى لهما بكذا وكذا « فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا » . أي بدعواهما لأنفسهما « فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان » ، أنّ صاحبنا لم يوص إليكما بشيء مما تقولان. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا, أنّ الشاهدين ألزما اليمينَ في ذلك باتهام ورثة الميت إياهما فيما دفع إليهما الميت من ماله, ودعواهم قبلهما خيانةَ مالٍ معلوم المبلغ, ونقلت بعد إلى الورثة عند ظهور الريبة التي كانت من الورثة فيهما, وصحة التهمة عليهما بشهادة شاهد عليهما أو على أحدهما, فيحلف الوارث حينئذ مع شهادة الشاهد عليهما، أو على أحدهما، إنما صحح دعواه إذا حُقِّق حقه أو: الإقرار يكون من الشهود ببعض ما ادَّعى عليهما الوارث أو بجميعه, ثم دعواهما في الذي أقرّا به من مال الميت ما لا يقبل فيه دعواهما إلا ببينة, ثم لا يكون لهما على دعواهما تلك بيِّنة, فينقل حينئذ اليمين إلى أولياء الميت. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحة, لأنا لا نعلم من أحكام الإسلام حكمًا يجب فيه اليمين على الشهود، ارتيب بشهادتهما أو لم يُرْتَبْ بها, فيكون الحكم في هذه الشهادة نظيرًا لذلك ولا - إذا لم نجد ذلك كذلك- صحّ بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بإجماع من الأمة. لأن استحلاف الشهود في هذا الموضع من حكم الله تعالى ذكره, فيكون أصلا مسلمًا. والقول إذا خرج من أن يكون أصلا أو نظيرًا لأصل فيما تنازعت فيه الأمة, كان واضحًا فسادُه. وإذا فسد هذا القول بما ذكرنا, فالقول بأن الشاهدين استحلفا من أجل أنهما ادّعيا على الميت وصية لهما بمال من ماله، أفسد من أجل أن أهل العلم لا خلاف بينهم في أنّ من حكم الله تعالى ذكره أن مدّعيًا لو ادّعى في مال ميت وصية، أنّ القول قولُ ورثة المدعي في ماله الوصية مع أيمانهم, دون قول مدعي ذلك مع يمينه, وذلك إذا لم يكن للمدعي بينة. وقد جعل الله تعالى اليمين في هذه الآية على الشهود إذا ارتيب بهما, وإنما نُقِل الأيمانُ عنهم إلى أولياء الميت, إذا عثر على أن الشهود استحقوا إثمًا في أيمانهم. فمعلوم بذلك فساد قول من قال: « ألزم اليمينَ الشهودُ، لدعواهم لأنفسهم وصية أوصى بها لهم الميت من ماله » . على أن ما قلنا في ذلك عن أهل التأويل هو التأويل الذي وردت به الأخبارُ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى به حين نـزلت هذه الآية، بين الذين نـزلت فيهم وبسببهم. ذكر من قال ذلك: حدثني ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم, عن يحيى بن أبي زائدة, عن محمد بن أبي القاسم, عن عبد الملك بن سعيد بن جبير, عن أبيه, عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بدَّاء, فمات السَّهمي بأرض ليس فيها مسلم. فلما قدِما بتركته, فقدوا جامًا من فضة مخوَّصًا بالذهب, فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم وُجِد الجام بمكة, فقالوا: اشتريناه من تميم الداريّ وعديّ بن بدّاء! فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا: « لشهادتنا أحق من شهادتهما » , وأنّ الجام لصاحبهم. قال: وفيهم أنـزلت: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » . حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني قال ، حدثنا محمد بن سلمة الحراني قال ، حدثنا محمد بن إسحاق, عن أبي النضر, عن باذان مولى أم هانئ ابنة أبي طالب, عن ابن عباس, عن تميم الدرايّ في هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت » ، قال: برئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بدّاء وكانا نصرانيّين يختلفان إلى الشأم قبل الإسلام. فأتيا الشأم لتجارتهما, وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بريل بن أبي مريم بتجارة, ومعه جامُ فضّة يريد به الملك, وهو عُظم تجارته, فمرض, فأوصى إليهما، وأمرهما أن يُبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجامَ فبعناه بألف درهم، فقسمناه أنا وعديّ بن بدّاء, [ فلما قدمنا إلى أهله، دفعنا إليهم ما كان معنا, وفقدوا الجام، فسألوا عنه ] ، فقلنا: ما ترك غيرَ هذا, وما دفع إلينا غيره: قال تميم: فلما أسلمتُ بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، تأثَّمت من ذلك, فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر, وأدّيت إليهم خمسمئة درهم, وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها! فوثبوا إليه، فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسألهم البينة، فلم يجدوا. فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه, فحلف, فأنـزل الله تعالى ذكره: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » إلى قوله: « أن ترد أيمان بعد أيمانهم » ، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا, فنـزعتُ الخمسمئة من عدي بن بدَّاء. حدثنا القاسم، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن قتادة وابن سيرين وغيره قال، وثنا الحجاجُ, عن ابن جريج, عن عكرمة دخل حديث بعضهم في بعض: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم » الآية، قال : كان عدي وتميم الداري، وهما من لَخْم ، نصرانيَّان، يتَّجران إلى مكة في الجاهلية. فلما هاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حوَّلا متجرهما إلى المدينة, فقدم ابن أبي مارية، مولى عمرو بن العاص المدينة, وهو يريد الشأم تاجرًا، فخرجوا جميعًا, حتى إذا كانوا ببعض الطريق، مرض ابن أبي مارية, فكتب وصيَّته بيده تم دسَّها في متاعه, ثم أوصى إليهما. فلما مات فتحا متاعه, فأخذا ما أرادا، ثم قدما على أهله فدفعا ما أرادا, ففتح أهله متاعه, فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به, وفقدوا شيئًا، فسألوهما عنه, فقالوا: هذا الذي قبضنا له ودفع إلينا. قال لهما أهله: فباع شيئًا أو ابتاعه؟ قالا لا! قالوا: فهل استهلك من متاعه شيئًا؟ قالا لا! قالوا: فهل تَجَر تجارة؟ قالا لا! قالوا: فإنا قد فقدنا بعضَه! فاتُّهما, فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنـزلت هذه الآية: « يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت » إلى قوله: « إنا إذا لمن الآثمين » . قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستحلفوهما في دُبُر صلاة العصر: بالله الذي لا إله إلا هو, ما قبضنا له غيرَ هذا، ولا كتمنا « . قال: فمكثنا ما شاء الله أن يمكثَا, ثم ظُهِرَ معهما على إناء من فضةٍ منقوش مموَّه بذهب, فقال، أهله: هذا من متاعه؟ قالا نعم, ولكنا اشترينا منه، ونسينا أن نذكره حين حلفنا, فكرهنا أن نكذِّب أنفسنا! فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فنـزلت الآية الأخرى: » فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان « ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أهل الميت أن يحلفا على ما كتما وغيَّبا ويستحقَّانه. ثم إنّ تميمًا الداري أسلم وبايع النبي صلى الله عليه وسلم, وكان يقول: صدق الله ورسوله: أنا أخذت الإناء! » حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد, في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، الآية كلها. قال : هذا شيء [ كان ] حين لم يكن الإسلام إلا بالمدينة, وكانت الأرض كلها كفرًا, فقال الله تعالى ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، من المسلمين أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ، من غير أهل الإسلام إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ، قال: كان الرجل يخرج مسافرًا، والعرب أهلُ كفر, فعسى أن يموت في سفره، فيُسند وصيته إلى رجلين منهم فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ ، في أمرهما. إذا قال الورثة: كان مع صاحبنا كذا وكذا, فيقسمان بالله: ما كان معه إلا هذا الذي قلنا « فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا » ، أنما حلفا على باطل وكذب « فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان » بالميت « فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين » ، ذكرنا أنه كان مع صاحبنا كذا وكذا، قال هؤلاء: لم يكن معه! قال: ثم عثر على بعض المتاع عندهما, فلما عثر على ذلك رُدّت القسامة على وارثه, فأقسما, ثم ضمن هذان. قال الله تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ، فتبطل أيمانهم « واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين » ، الكاذبين، الذين يحلفون على الكذب. وقال ابن زيد: قدم تميمٌ الداريّ وصاحب له, وكانا يومئذ مشركين، ولم يكونا أسلما, فأخبرا أنهما أوصى إليهما رجلٌ, وجاءا بتركته. فقال أولياء الميت: كان مع صاحبنا كذا وكذا, وكان معه إبريق فضة! وقال الآخران: لم يكن معه إلا الذي جئنا به! فحلفا خَلْف الصلاة، ثم عثر عليهما بعدُ والإبريق معهما. فلما عثر عليهما، رُدَّت القسامة على أولياء الميت بالذي قالوا مع صاحبهم, ثم ضمنهما الذي حلف عليه الأوليان. حدثنا الربيع قال ، حدثنا الشافعي قال ، أخبرنا أبو سعيد معاذ بن موسى الجعفري, عن بكير بن معروف, عن مقاتل بن حيان قال بكير، قال مقاتل: أخذت هذا التفسير عن مجاهد والحسن والضحاك في قول الله: اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، أن رجلين نصرانيين من أهل دارِين, أحدهما تميمي، والآخر يماني, صاحَبهما مولًى لقريش في تجارة, فركبوا البحر، ومع القرشي مال معلومٌ قد علمه أولياؤه، من بين آنية وبزّ ورِقَة. فمرض القرشي, فجعل وصيته إلى الداريّين, فمات، وقبض الداريّان المال والوصية, فدفعاه إلى أولياء الميت, وجاءا ببعض ماله، وأنكر القوم قلّة المال, فقالوا للداريَّين: إن صاحبنا قد خرج معه بمال أكثر مما أتيتمونا به, فهل باع شيئًا أو اشترى شيئًا، فوُضِع فيه، وهل طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا لا! قالوا: فإنكما خنتمانا! فقبضوا المال، ورفعوا أمرهما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم, فأنـزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إلى آخر الآية. فلما نـزل: أن يُحْبسا من بعد الصلاة, أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقاما بعد الصلاة, فحلفا بالله رب السموات: « ما ترك مولاكم من المال إلا ما أتيناكم به, وإنا لا نشتري بأيماننا ثمنًا قليلا من الدنيا، ولو كان ذا قربى, ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين » . فلما حلفا خلَّى سبيلهما. ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناءً من آنية الميت, فأُخذ الداريَّان، فقالا اشتريناه منه في حياته! وكذبا, فكلِّفا البينة، فلم يقدرا عليها. فرفعوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فأنـزل الله تعالى ذكره: « فإن عثر » ، يقول: فإن اطُّلع « على أنهما استحقا إثمًا » , يعني الداريين، إن كتما حقًّا « فآخران » ، من أولياء الميت « يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان » , فيقسمان بالله: « إنّ مال صاحبنا كان كذا وكذا, وإن الذي يُطلب قبل الداريين لحقّ, وما اعتدينا إنا إذًا لمن الظالمين » ، هذا قول الشاهدين أولياء الميت « ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها » , يعني: الداريَّين والناس، أن يعودوا لمثل ذلك. قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من هذه الأخبار التي روينا، دليلٌ واضح على صحة ما قلنا، من أنّ حكم الله تعالى ذكره باليمين على الشاهدين في هذا الموضع, إنما هو من أجل دعوى وَرَثته على المسنَد إليهما الوصية، خيانةً فيما دفع الميت من ماله إليهما, أو غير ذلك مما لا يبرأ فيه المدعي ذلك قِبَله إلا بيمين وأن نقل اليمين إلى ورثة الميت بما أوجبه الله تعالى ذكره، بعد أن عثر على الشاهدين [ أنهما استحقا إثمًا ] ، في أيمانهما, ثم ظُهِر على كذبهما فيها, إن القوم ادَّعوا فيما صَحَّ أنه كان للميت دعوًى من انتقال ملك عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك, مما يكون اليمينُ فيها على ورثة الميت دون المدَّعَى, وتكون البينة فيها على المدعي وفسادِ ما خالف في هذه الآية ما قلنا من التأويل. وفيها أيضًا، البيانُ الواضح على أن معنى « الشهادة » التي ذكرها الله تعالى في أول هذه القصة إنما هي اليمين, كما قال الله تعالى في مواضع أُخر: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين , [ سورة النور:6 ] . فالشهادة في هذا الموضع، معناها القَسم، من قول القائل: « أشهد بالله إني لمن الصادقين » , وكذلك معنى قوله: « شهادة بينكم » إنما هو: قسَم بينكم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ ، أن يقسم اثنان ذوا عدل منكم، إن كانا اتُّمنا على مال فارتيب بهما, أو اتُّمِنَ آخران من غير المؤمنين فاتُّهما. وذلك أن الله تعالى ذكره، لما ذكر نقل اليمين من اللذين ظُهر على خيانتهما إلى الآخرين، قال : « فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما » . ومعلومٌ أنّ أولياء الميت المدعين قِبل اللذين ظُهر على خيانتهما, غير جائز أن يكونا شهداء، بمعنى الشهادة التي يؤخذ بها في الحكم حق مدعًى عليه لمدّع. لأنه لا يعلم لله تعالى ذكره حكم قضى فيه لأحد بدعواه ويمينه على مدعًى عليه بغير بينة ولا إقرار من المدعَى عليه ولا برهان. فإذ كان معلومًا أن قوله: « لشهادتنا أحق من شهادتهما » ، إنما معناه: قسمُنا أحق من قَسَمهما وكان قسم اللذين عُثر على أنهما أثِمَا، هو الشهادة التي ذكر الله ذكره تعالى في قوله: « أحق من شهادتهما » صحَّ أن معنى قوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ، بمعنى: « الشهادة » في قوله: « لشهادتنا أحق من شهادتهما » ، وأنها بمعنى القسم. قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: « من الذين استحق عليهم الأوليان » . فقرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشأم: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ ، بضم « التاء » . وروي عن علي، وأبيّ بن كعب، والحسن البصري أنهم قرءوا ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ، بفتح « التاء » . واختلفت أيضًا في قراءة قوله: « الأوليان » . فقرأته عامة قراء أهل المدينة والشأم والبصرة: ( الأَوْلَيَان ) . وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: ( الأَوَّلِينَ ) . وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: ( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوَّلانِ ) . قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في قوله: « من الذين استحق عليهم » ، قراءة من قرأ بضم « التاء » , لإجماع الحجة من القرأة عليه, مع مشايعة عامة أهل التأويل على صحة تأويله, وذلك إجماع عامتهم على أن تأويله: فآخران من أهل الميت، الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم فيهم, يقومان مقام المستحقَّيْ الإثم فيهما، بخيانتهما ما خانَا من مال الميت. وقد ذكرنا قائلي ذلك، أو أكثر قائليه، فيما مضى قبل, ونحن ذاكُرو باقيهم إن شاء الله ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ، أن يموت المؤمن فيحضر موته مسلمان أو كافران، لا يحضُره غير اثنين منهم. فإن رضي ورَثته ما عاجل عليه من تركته فذاك, وحلف الشاهدان إن اتُّهما: إنهما لصادقان « فإن عثر » وُجد.........، حلف الاثنان الأوليان من الورثة, فاستحقّا وأبطَلا أيمانَ الشَّاهدين. وأحسب أن الذين قرءوا ذلك بفتح « التاء » , أرادوا أن يوجهوا تأويلَه إلى: « فآخران يقومان مقامهما » ، مقام المؤتمنين اللذين عُثِر على خيانتهما في القَسم، و « الاستحقاق به عليهما » ، دعواهما قِبَلهما من « الذين استحقَّ » على المؤتمنين على المالِ على خيانتهما القيامَ مقامهما في القَسَم والاستحقاق، الأوليان بالميت. وكذلك كانت قراءة من رُوِيت هذه القراءة عنه, فقرأ ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ بفتح « التاء » و « الأوليان » ، على معنى: الأوليان بالميت وماله. وذلك مذهبٌ صحيحٌ ، وقراءةٌ غير مدفوعة صحَّتها, غير أنا نختار الأخرى، لإجماع الحجة من القرأة عليها، مع موافقتها التأويل الذي ذكرْنا عن الصحابة والتابعين. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن وكريب، عن علي: أنه كان يقرأ: ( مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَان ) حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا مالك بن إسماعيل, عن حماد بن زيد, عن واصل مولى أبي عُيينة, عن يحيى بن عقيل, عن يحيى بن يعمر, عن أبيّ بن كعب: أنه كان يقرأ: ( مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَان ) . قال أبو جعفر: وأما أولى القراءات بالصَّواب في قوله: « الأوليان » عندي, فقراءة من قرأ: ( الأَوْلَيَانِ ) لصحة معناها. وذلك لأن معنى: « فآخران يقومان مقامهما من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان » :فآخران يقومان مقامهما من الذي استُحقّ ] فيهم الإثم, ثم حذف « الإثم » ، وأقيم مقامه « الأوليان » , لأنهما هما اللذان ظَلَما وأثِما فيهما، بما كان من خيانة اللذين استحقا الإثم، وعُثر عليهما بالخيانة منهما فيما كان اُّتمنهما عليه الميت, كما قد بينا فيما مضى من فعل العرب مِثل ذلك، من حذفهم الفعل اجتراء بالاسم, وحذفهم الاسم اجتزاء بالفعل. ومن ذلك ما قد ذكرنا في تأويل هذه القصة، وهو قوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ، ومعناه: أن يشهد اثنان, وكما قال: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا ، فقال: « به » , فعاد بالهاء على اسم الله، وإنما المعنى: لا نشتري بقسمنا بالله, فاجتزئ بالعود على اسم الله بالذكر, والمراد به: « لا نشتري بالقسم بالله » ، استغناء بفهم السامع بمعناه عن ذكر اسم القسم. وكذلك اجتزئ، بذكر « الأوليين » من ذكر « الإثم » الذي استحقه الخائنان لخيانتهما إيَّاهما, إذ كان قد جرى ذكر ذلك بما أغنى السامع عند سماعه إياه عن إعادته, وذلك قوله: « فإن عثر على أنَّهما استحقا إثمًا » . وأما الذين قرءوا ذلك ( الأَوَّلِينَ ) ، فإنهم قصدوا في معناه إلى الترجمة به عن « الذين » , فأخرجوا ذلك على وجه الجمع, إذْ كان « الذين » جميعًا، وخفضًا, إذ كان « الذين » مخفوضًا، وذلك وجه من التأويل, غير أنه إنما يقال للشيء « أوّل » ، إذا كان له آخر هو له أوّل. وليس للذين استحق عليهم الإثم، آخرهم له أوّل. بل كانت أيمان اللذين عثر على أنهما استحقَّا إثمًا قبل أيمانهم, فهم إلى أن يكونوا إذ كانت أيمانهم آخرًا أولى أن يكونوا « آخرين » ، من أن يكونوا « أوّلين » ، وأيمانهم آخرة لأولى قبلها. وأما القراءة التي حكيت عن الحسن؛ فقراءةٌ عن قراءَة الحجة من القرأة شاذة, وكفى بشذوذها عن قراءتهم دليلا على بُعدها من الصواب. واختلف أهل العربية في الرافع لقوله: « الأوليان » ، إذا قرئ كذلك. فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع ذلك، بدلا من: « آخران » في قوله: « فآخران يقومان مقامهما » . وقال: إنما جاز أن يبدل « الأوليان » ، وهو معرفة، من « آخران » وهو نكرة, لأنه حين قال: « يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم » ، كان كأنه قد حدَّهما حتى صارا كالمعرِفة في المعنى, فقال: « الأوليان » , فأجرى المعرفة عليهما بدلا. قال: ومثل هذا مما يجري على المعنى كثير، واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الراجز: عَـــلَيَّ يَــوْمَ يَمْلِــكُ الأُمُــورَا صَــوْمُ شُــهُورٍ وَجَــبَتْ نُـذُورَا وَبَادِنًا مُقَلَّدًا مَنْحُورَا قال: فجعله: عليَّ واجب, لأنه في المعنى قد أوجب. وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك ويقول: لا يجوز أن يكون « الأوليان » بدلا من: « آخران » ، من أجل أنه قد نَسَق « فيقسمان » على « يقومان » في قوله « فآخران يقومان » ، فلم يتمّ الخبر بعد « مِنْ » . قال: ولا يجوز الإبدال قبل إتمام الخبر. وقال: غير جائز: « مررت برجل قام زيدٍ وقَعَد » ، و « زيد » بدل من « رجل » . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: « الأوليان » مرفوعان بما لم يسمَّ فاعله, وهو قوله: ( اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمْ ) وأنهما وُضِعا موضع الخبر عنهما, فعمل فيهما ما كان عاملا في الخبر عنهما. وذلك أن معنى الكلام: « فآخران يقومان مَقامهما من الذين استُحِقَّ عليهم الإثم بالخيانة » , فوضع « الأوليان » موضع « الإثم » كما قال تعالى ذكره في موضع آخر: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [ سورة التوبة: 19 ] ، ومعناه: أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارةَ المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وكما قال: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ , [ سورة البقرة: 93 ] ، وكما قال بعض الهذليين. يُمَشِّــي بَيْنَنَــا حَــانُوتُ خَــمْرٍ مِـنَ الخُـرْسِ الصَّرَاصِـرَةِ الْقِطَـاطِ وهو يعني: صاحب حانوت خمر, فأقام « الحانوت » مقامه، لأنه معلوم أن « الحانوت » ، لا يمشي! ولكن لما كان معلومًا عنده أنَّه لا يخفى على سامعه ما قصد إليه من معناه، حذف « الصاحب » , واجتزأ بذكر « الحانوت » منه. فكذلك قوله: « من الذين استُحِقّ عليهم الأوليان » ، إنما هو من الذين استُحِقّ فيهم خيانتهما, فحذفت « الخيانة » وأقيم « المختانان » ، مقامها. فعمل فيهما ما كان يعمل في المحذوف ولو ظهر. وأما قوله: « عليهم » في هذا الموضع, فإن معناها: فيهم, كما قال تعالى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ، [ سورة البقرة: 102 ] ، يعني: في ملك سليمان, وكما قال: وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [ سورة طه: 71 ] . ف « في » توضع موضع « على » , و « على » في موضع « في » ، كل واحدة منهما تعاقب صاحبتها في الكلام, ومنه قول الشاعر: مَتَــى مَــا تُنِْكرُوهــا تَعْرِفُوهَـا عَــلَى أَقْطَارِهَــا عَلَــقٌ نَفِيــثُ وقد تأوّلت جماعة من أهل التأويل قول الله تعالى ذكره: « فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحقّ عليهم الأوليان » ، أنهما رجلان آخرَان من المسلمين, أو رجلان أعدل من المقسمين الأوَّلَين ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود بن أبي هند, عن عامر, عن شريح في هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ، قال: إذا كان الرجل بأرض غُرْبة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته, فأشهد يهوديًّا، أو نصرانيًّا، أو مجوسيًّا, فشهادتهم جائزة. فإن جاء رجلان مسلمان فشهدَا بخلاف شهادتهم, أجيزت شهادة المسلمين، وأبطلت شهادة الآخرين. حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فإن عثر » ، أي: اطلع منهما على خيانة، على أنهما كذبا أو كَتما, فشهد رجلان هما أعدل منهما بخلافِ ما قالا أجيزت شهادة الآخرين، وأبطلت شهادة الأوَّلين. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن عبد الملك, عن عطاء قال : كان ابن عباس يقرأ: ( مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ ) قال، كيف يكون « الأوليان » , أرأيت لو كان الأوليان صغيرين؟ حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا عبدة, عن عبد الملك, عن عطاء, عن ابن عباس قال : كان يقرأ: ( مِنَ الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عَلَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ ) قال، وقال: أرأيت لو كان الأوليان صغيرين, كيف يقومان مقامهما؟ قال أبو جعفر: فذهب ابن عباس، فيما أرى، إلى نحو القول الذي حكيتُ عن شريح وقتادة, من أنّ ذلك رجلان آخران من المسلمين، يقومان مقام النَّصرانيين, أو عَدْلان من المسلمين هما أعدل وأجوزُ شهادة من الشاهدين الأولين أو المقسمين. وفي إجماع جميع أهل العلم على أنْ لا حكم لله تعالى ذكره يجب فيه على شاهدٍ يمينٌ فيما قام به من الشهادة, دليلٌ واضح على أنّ غير هذا التأويل الذي قاله الحسن ومن قال بقوله في قول الله تعالى ذكره: « فآخران يقومان مقامهما » أولى به. وأما قوله « الأوليان » ، فإن معناه عندنا: الأوْلى بالميت من المقسمين الأولين فالأولى. وقد يحتمل أن يكون معناه: الأولى باليمين منهما فالأولى ثم حذف « منهما » ، والعرب تفعل ذلك فتقول: « فلان أفضل » , وهي تريد: « أفضل منك » , وذلك إذا وضع « أفعل » موضع الخبر. وإن وقع موقع الاسم وأدخلت فيه « الألف واللام » , فعلوا ذلك أيضًا، إذا كان جوابًا لكلام قد مضى, فقالوا: « هذا الأفضل, وهذا الأشرف » ، يريدون: هو الأشرف منك. * * * وقال ابن زيد: معنى ذلك: الأوليان بالميت. حدثني يونس, عن ابن وهب, عنه. القول في تأويل قوله : فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ( 107 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيقسم الآخران اللذان يقومان مقام اللَّذين عثر على أنهما استحقا إثمًا بخيانتهما مالَ الميت، الأوْليان باليمين والميِّت من الخائنين: « لشهادتنا أحقُّ من شهادتهما » ، يقول: لأيماننا أحقُّ من أيمان المقسمَين المستحقَّين الإثم، وأيمانِهما الكاذبة في أنَّهما قد خانا في كذا وكذا من مال ميّتنا, وكذا في أيمانِهما التي حلفا بها « وما اعتدينا » ، يقول: وما تجاوزنا الحقَّ في أيماننا. وقد بينا أن معنى « الاعتداء » ، المجاوزة في الشيء حدَّه. « إنا إذًا لمن الظالمين » يقول: « إنّا إن كنا اعتدينا في أيماننا, فحلفنا مبطلين فيها كاذبين » لمن الظالمين « ، يقول: لَمِنْ عِدَادِ مَنْ يأخذ ما ليس له أخذه, ويقتطع بأيمانه الفاجرة أموال الناس. » القول في تأويل قوله : ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك » ، هذا الذي قلت لكم في أمر الأوصياء إذا ارتبتم في أمرهم، واتهمتموهم بخيانة لمالِ من أوصى إليهم، من حبسهم بعد الصلاة, واستحلافكم إيَّاهم على ما ادَّعى قِبَلهم أولياء الميت « أدنى » لهم « أن يأتوا بالشهادة على وجهها » ، يقول: هذا الفعل، إذا فعلتم بهم، أقربُ لهم أن يصدُقوا في أيمانهم, ولا يكتموا, ويقرُّوا بالحق ولا يخونوا « أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم » ، يقول: أو يخاف هؤلاء الأوصياء إن عثر عليهم أنهم استحقُّوا إثمًا في أيمانهم بالله, أن تردَّ أيمانهم على أولياء الميت، بعد أيمانهم التي عُثِر عليها أنها كذب, فيستحقُّوا بها ما ادّعوا قِبَلهم من حقوقهم, فيصدقوا حينئذٍ في أيمانهم وشهادتهم، مخافةَ الفضيحة على أنفسهم، وحذرًا أن يستحقّ عليهم ما خانُوا فيه أولياء الميِّت وورثته. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وقد تقدّمت الروايةُ بذلك عن بعضهم, نحن ذاكرو الرواية في ذلك عن بعضِ من بَقي منهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا ، يقول: إن اطُّلع على أنّ الكافرين كذبَا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا ، يقول: من الأولياء, فحلفا بالله أنّ شهادة الكافرين باطلة، وأنا لم نعتد, فتردّ شهادة الكافرين، وتجوز شهادة الأولياء. يقول تعالى ذكره: ذلك أدنى أن يأتي الكافرون بالشهادة على وجهها, أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم. وليس على شُهود المسلمين أقسْام, وإنما الأقسام إذا كانوا كافرين. حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة » الآية, يقول: ذلك أحرَى أن يصدقوا في شهادتهم, وأن يخافوا العَقِب. حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: « أو يخافوا أن تردَّ أيمان بعد أيمانهم » ، قال: فتبطل أيمانهم, وتؤخذ أيمانُ هؤلاء. وقال آخرون: [ معنى ذلك تحبسونهما من بعد الصلاة. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها, على أنهما استحقا إثمًا, فآخران يقومان مقامهما ] . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قال : يوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما, فيحلفان بالله: « لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذًا لمن الآثمين, أنّ صاحبكم لبهذا أوصى, وأنّ هذه لتركته » . فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا: « إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما، فضحتكما في قومكما، ولم أجز لكما شهادة، وعاقبتكما » . فإن قال لهما ذلك, فإنّ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها. القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( 108 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وخافوا الله، أيها الناس, وراقبوه في أيمانكم أن تحلفوا بها كاذبةً، وأن تُذْهبوا بها مال من يَحْرم عليكم ماله, وأن تخونوا من اتَّمنكم « واسمعوا » ، يقول: اسمعوا ما يقال لكم وما توعظون به, فاعملوا به، وانتهوا إليه « والله لا يهدي القوم الفاسقين » ، يقول: والله لا يوفِّق من فَسَق عن أمر ربّه، فخالفه وأطاع الشيطانَ وعصى ربَّه. وكان ابن زيد يقول: « الفاسق » ، في هذا الموضع، هو الكاذب. حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: « والله لا يهدي القومَ الفاسقين » ، الكاذبين، يحلفون على الكذب. وليس الذي قال ابن زيد من ذلك عندي بمدفُوعٍ, إلا أن الله تعالى ذكره عَمَّ الخبر بأنه لا يهدي جميع الفسَّاق, ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض بخبر ولا عقلٍ, فذلك على معاني « الفسق » كلها، حتى يخصِّص شيئًا منها ما يجب التسليمُ له، فيُسلِّم له. ثم اختلف أهل العلم في حكم هاتين الآيتين, هل هو منسوخ, أو هو مُحكَم ثابت؟ فقال بعضهم: هو منسوخ ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال ، ثنا ابن إدريس, عن رجل قد سماه, عن حماد, عن إبراهيم قال : هي منسوخة. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: هي منسوخة يعني هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ، الآية. وقال جماعة: هي محكمة وليست بمنسوخة. وقد ذكرنا قولَ أكثرهم فيما مضَى. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن حكم الآية غيرُ منسوخ وذلك أن من حكم الله تعالى ذكره الذي عليه أهل الإسلام, من لدن بعث الله تعالى ذكره نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا, أنّ من ادُّعِي عليه دَعْوى ممَّا يملكه بنو آدم، أنّ المدَّعَى عليه لا يبرئه مما ادُّعي عليه إلا اليمين، إذا لم يكن للمدَّعِي بيّنة تصحح دَعواه وأنه إن اعترف في يَدِ المدَّعى [ عليه ] سلعةً له, فادَّعَى أنها له دون الذي في يده, فقال الذي هي في يده: « بل هي لي، اشتريتها من هذا المدَّعِي » , أنّ القول قول من زَعَم الذي هي في يده أنه اشتراها منه، دون من هي في يده مع يمينه، إذا لم يكن للذي هي في يده بيّنة تحقق به دعواه الشراءَ منه. فإذ كان ذلك حكم الله الذي لا خلافَ فيه بين أهل العلم, وكانت الآيتان اللتان ذكر الله تعالى ذكره فيهما أمرَ وصية الموصِي إلى عدلين من المسلمين، أو إلى آخرين من غيرهم, إنما ألزَم النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ذكر عنه، الوصيَّين اليمينَ حين ادَّعَى عليهما الورثة ما ادَّعوا، ثم لم يلزم المدَّعَى عليهما شيئًا إذ حلفا, حتى اعترفت الورثة في أيديهما ما اعترفُوا من الجام أو الإبريق أو غير ذلك من أموالهم، فزعما أنهما اشترياه من ميتهم, فحينئذ ألزم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ورثَة الميِّت اليمين, لأن الوصيين تحوَّلا مُدَّعِيين بدعواهما ما وجدَا في أيديهما من مال الميِّت أنه لهما، اشتريَا ذلك منه، فصارَا مُقِرَّين بالمال للميِّت، مدَّعيين منه الشراء, فاحتاجا حينئذ إلى بيِّنةٍ تصحِّح دعواهما، وصارتْ وورثة الميتِ ربِّ السلعة، أولى باليمين منهما. فذلك قوله تعالى ذكره: فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ، الآية. فإذ كان تأويل ذلك كذلك، فلا وجه لدعوَى مدَّعٍ أن هذه الآية منسوخة, لأنه غير جائز أن يُقْضَى على حُكم من أحكام الله تعالى ذكره أنه منسوخ، إلا بخبَرٍ يقطع العذرَ: أمّا من عند الله، أو من عند رسوله صلى الله عليه وسلم, أو بورود النَّقل المستفيض بذلك. فأمَّا ولا خبر بذلك, ولا يدفع صحته عقل, فغير جائز أن يقضى عليه بأنه منسوخ. القول في تأويل قوله : يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 109 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتقوا الله، أيها الناس. واسمعوا وَعْظه إياكم وتذكيرَه لكم, واحذروا يَوْم يَجْمع الله الرسل ثم حذف وَاحْذَرُوا ، واكتفى بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ، عن إظهاره, كما قال الراجز: عَلَفْتُهَـــا تِبْنًــا وَمَــاءً بَــارِدًا حَــتَّى شَــتَتْ هَمَّالَــةً عَيْنَاهَــا يريد: « وسقيتها ماء باردًا » , فاستغنى بقوله « علفتها تبنًا » من إظهار « سقيتها » , إذ كان السامع إذا سَمِعه عرف معناه. فكذلك في قوله: « يوم يجمع الله الرسل » ، حذف وَاحْذَرُوا لعلم السامع معناه, اكتفاءً بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا ، إذ كان ذلك تحذيرًا من أمر الله تعالى ذكره، خلقَه عقابَه على معاصيه. وأما قوله: « ماذا أُجبتم » ، فإنه يعني به: ما الذي أجابتكم به أممكم، حين دعوتموهم إلى توحيدي، والإقرار بي، والعمل بطاعتي، والانتهاء عن معصيتي؟ « قالوا لا علم لنا » . فاختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى قولهم: « لا علم لنا » ، لم يكن ذلك من الرسل إنكارًا أن يكونوا كانوا عالمين بما عملت أممهم, ولكنهم ذَهِلوا عن الجواب من هَوْلِ ذلك اليوم, ثم أجابوا بعد أن ثَابَتْ إليهم عقولهم بالشَّهادة على أممهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل. قال ، حدثنا أسباط, عن السديّ: « يوم يجمع الله الرسل فيقول مَاذا أجبتم قالوا لا علم لنا » ، قال: فذلك أنهم نـزلوا منـزلا ذَهِلت فيه العقول, فلما سئلوا قالوا: « لا علم لنا » ، ثم نـزلوا منـزلا آخر, فشهدوا على قومهم. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام, عن عنبسة......... قال : سمعت الحسن يقول في قوله: « يوم يجمع الله الرسل » ، الآية، قال : من هول ذلك اليوم. حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري, عن الأعمش, عن مجاهد في قوله: « يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم » ، فيفزعون, فيقول: ماذا أجبتم؟ فيقولون: لا علم لنا ! وقال آخرون: معنى ذلك: لا علم لنا إلا ما علّمتنا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله: « يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم » ، فيقولون: لا علم لنا إلا ما علمتنا « إنك أنتَ علام الغيوب » . وقال آخرون: معنى ذلك: قالوا لا علم لنا، إلا علمٌ أنت أعلَمُ به منَّا. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا » ، إلا علم أنت أعلم به منا. وقال آخرون: معنى ذلك: « ماذا أجبتم » ، ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟ ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم » ، ماذا عملوا بعدكم؟ وماذا أحدثوا بعدكم؟ « قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب » . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال: « معناه: لا علم لنا، إلا علم أنت أعلم به منّا » , لأنه تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم قالوا: « لا علم لنا إنَّك أنتَ علام الغيوب » ، أي: إنك لا يخفى عليك ما عندنا من علم ذلك ولا غيره من خفيِّ العلوم وجليِّها. فإنما نَفى القومُ أن يكون لهم بما سُئلوا عنه من ذلك علم لا يعلمه هو تعالى ذكره لا أنَّهم نَفَوا أن يكونوا علموا ما شاهدُوا. كيف يجوز أن يكون ذلك كذلك، وهو تعالى ذكره يخبر عنهم أنَّهم يُخْبرون بما أجابتهم به الأمم، وأنهم يسْتشهدون على تبليغهم الرسالة شهداء, فقال تعالى ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ سورة البقرة:143 ] . وأما الذي قاله ابن جريج، من أن معناه: « ماذا عملت الأمم بعدكم؟ وماذا أحدثوا؟ » فتأويل لا معنَى له. لأن الأنبياء لم يكن عندها من العلم بما يَحدُث بعدها إلا ما أعلمها الله من ذلك, وإذا سئلت عَمَّا عملت الأمم بعدها والأمر كذلك، فإنما يقال لها: ماذا عَرَّفناك أنه كائن منهم بعدك؟ وظاهرُ خَبر الله تعالى ذكره عن مسألته إيّاهم، يدلّ على غير ذلك. القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعباده: احذروا يومَ يجمع الله الرسلَ فيقول لهم: ماذا أجابتكم أممكم في الدنيا « إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس » . ف « إذْ » من صلة أُجِبْتُمْ , كأنّ معناها: ماذا أجابت عيسى الأمم التي أرسل إليها عيسى. فإن قال قائل: وكيف سئلت الرسل عن إجابة الأمم إيَّاها في عهد عيسى, ولم يكن في عهد عيسى من الرُّسل إلا أقلُّ ذلك؟ قيل: جائزٌ أن يكون الله تعالى ذكره عنى بقوله: فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ ، الرسلَ الذين كانوا أرسلوا في عهد عيسى، فخرَج الخبر مخرج الجميع, والمراد منهم من كان في عهد عيسى, كما قال تعالى ذكره: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [ سورة آل عمران : 173 ] ، والمراد واحدٌ من الناس, وإن كان مخرج الكلام على جميع الناس. قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: « إذ قال الله » ، حين قال « يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس » ، يقول: يا عيسى اذكر أياديّ عندك وعند والدتك, إذ قوّيتك برُوح القُدس و أعنتُك به. وقد اختلف أهل العربية في « أيدتك » ، ما هو من الفعل. فقال بعضهم: هو « فعّلتك » , [ « من الأيد » ] ، كما قولك: « قوّيتك » « فعّلت » من « القوّة » . وقال آخرون: بل هو « فاعلتك » من « الأيد » . وروي عن مجاهد أنه قرأ: ( إذْ آيَدْتُك ) ، بمعنى « أفعلتك » ، من القوّة والأيد. . وقوله: « بروح القدس » ، يعني: بجبريل. يقول: إذ أعنتك بجبريل. وقد بينت معنى ذلك، وما معنى « القدس » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله : تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 110 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قِيله، لعيسى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، في حال تكليمك الناسَ في المهدِ وكهلا. وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره: أنه أيده بروح القدس صغيرًا في المهد، وكهلا كبيرًا فردّ « الكهل » على قوله « في المهد » ، لأن معنى ذلك: صغيرًا, كما قال الله تعالى ذكره: دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ، [ سورة يونس: 12 ] . وقوله: « وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل » ، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك « إذ علمتك الكتاب » ، وهو الخطّ « والحكمة » ، وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنـزلته إليك، وهو الإنجيل « وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير » ، يقول: كصورة الطير...... « بإذني » ، يعني بقوله « تخلق » تعمل وتصلح - « من الطين كهيئة الطير بإذني » ، يقول: بعوني على ذلك، وعلمٍ منّي به « فتنفخ فيها » ، يقول: فتنفخ في الهيئة, قتكون الهيئة والصورة طيرًا بإذني « وتبرئ الأكمه » ، يقول: وتشفي « الأكمهَ » ، وهو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا، المطموس البصر « والأبرص بإذني » . وقد بينت معاني هذه الحروف فيما مضى من كتابنا هذا مفسرًا بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وقوله « وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات » ، يقول: واذكر أيضًا نعمتي عليك بكفِّي عنك بني إسرائيل إذ كففتهم عنك، وقد هموا بقتلك « إذ جئتهم بالبينات » ، يقول: إذ جئتهم بالأدِلة والأعلام المعجزة على نبوّتك، وحقيقة ما أرسلتك به إليهم. « فقال الذين كفروا منهم » ، يقول تعالى ذكره: فقال الذين جحدُوا نبوَّتك وكذبوك من بني إسرائيل « إن هذا إلا سحر مبين » . واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة: إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ يعني: يبين عمَّا أتى به لمن رأه ونظر إليه، أنه سحر لا حقيقةَ له. وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: ( إن هذا إلا ساحر مبين ) ، بمعنى: « ما هذا » , يعني به عيسى, « إلا ساحر مبين » , يقول: يبين بأفعاله وما يأتي به من هذه الأمور العجيبة عن نفسه، أنه ساحرٌ لا نبيٌّ صادق. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنَّهما قراءتان معروفتان صحيحتَا المعنى، متفقتان غير مختلفتين. وذلك أن كل من كان موصوفًا بفعل « السحر » ، فهو موصوف بأنه « ساحر » . ومن كان موصوفًا بأنه « ساحر » ، فأنه موصوف بفعل « السحر » . فالفعل دالٌ على فاعله، والصفة تدلُّ على موصوفها, والموصوف يدل على صفته، والفاعلُ يدلُّ على فعله. فبأي ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته. القول في تأويل قوله : وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ( 111 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر أيضًا، يا عيسى، إذ ألقيت « إلى الحواريين » ، وهم وزراء عيسى على دينه. وقد بينا معنى ذلك، ولم قيل لهم « الحواريون » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. وقد اختلفت ألفاظ أهل التأويل في تأويل قوله: « وإذ أوحيت » ، وإن كانت متفقة المعاني. فقال بعضهم، بما:- حدثني به محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذ أوحيت إلى الحواريين » ، يقول: قدفت في قلوبهم. وقال آخرون: معنى ذلك: ألهمتهم. قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وإذْ ألقيتُ إلى الحواريين أنْ صدّقوا بي وبرسولي عيسى، فقالوا: « آمنا » ، أي: صدقنا بما أمرتنا أن نؤمنَ يا ربنا « واشهد » علينا « بأننا مسلمون » ، يقول: واشهد علينا بأننا خاضِعُون لك بالذّلة، سامعون مطيعُون لأمرك. القول في تأويل قوله : إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنـَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 112 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر، يا عيسى، أيضًا نعمتي عليك, إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي, إذ قالوا لعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء - ف « إذ » ، الثانية من صلة أَوْحَيْتُ . واختلفت القرأة في قراءة قوله: « يستطيع ربك » فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين: ( هَلْ تَسْتَطِيعُ ) بالتاء ( رَبَّكَ ) بالنصب, بمعنى: هل تستطيع أن تسأل ربك؟ أو: هل تستطيع أن تدعوَ ربَّك؟ أو: هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا: لم يكن الحواريون شاكِّين أن الله تعالى ذكره قادرٌ أن ينـزل عليهم ذلك, وإنما قالوا لعيسى: هل تستطيع أنت ذلك؟ حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن نافع, عن ابن عمر, عن ابن أبي مليكة قال : قالت عائشة: كان الحواريون لا يشكّون أن الله قادر أن ينـزل عليهم مائدة, ولكن قالوا: يا عيسى هل تَسْتطيع ربَّك؟ حدثني أحمد بن يوسف التَّغْلِبيّ قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا ابن مهدي, عن جابر بن يزيد بن رفاعة, عن حسّان بن مخارق, عن سعيد بن جبير: أنه قرأها كذلك: ( هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ) ، وقال: تستطيع أن تسأل ربَّك. وقال: ألا ترى أنهم مؤمنون؟ وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والعراق: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ ) بالياء ( رَبُّكَ ) ، بمعنى: أن ينـزل علينا ربُّك, كما يقول الرجل لصاحبه: « أتستطيع أن تنهض معنا في كذا » ؟ وهو يعلم أنه يستطيع, ولكنه إنما يريد: أتنهض معنا فيه؟ وقد يجوز أن يكون مرادُ قارئه كذلك: هل يستجيب لك ربك ويُطِيعك أنْ تنـزل علينا؟ قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصواب، قراءة من قرأ ذلك: ( هَلْ يَسْتَطِيعُ ) بالياء ( رَبُّكَ ) برفع « الربّ » , بمعنى: هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه؟ وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب، لما بيّنّا قبلُ من أن قوله: « إذ قال الحواريون » ، من صلة: « إذ أوحيت » , وأنَّ معنى الكلام: وإذ أوحيت إلى الحواريون أن آمنوا بي وبرسولي ، إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربَّك؟ فبيِّنٌ إذ كان ذلك كذلك, أن الله تعالى ذكره قد كرِه منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه, وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قِيلهم ذلك, والإقرارِ لله بالقدرة على كل شيء, وتصديقِ رسوله فيما أخبرهم عن ربِّهم من الأخبار. وقد قال عيسى لهم، عند قيلهم ذلك له، استعظامًا منه لما قالوا: « اتقوا الله إن كنتم مؤمنين » . ففي استتابة الله إيّاهم, ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم عند قيلهم ما قالوا من ذلك, واستعظام نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم كلمتهم الدلالةُ الكافيةُ من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع « الرب » ، إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى، لو كانوا قالوا له: « هل تستطيع أن تسأل ربَّك أن ينـزل علينا مائدة من السماء » ؟ أن يُستكبر هذا الاستكبار. فإن ظنّ ظانّ أنّ قولهم ذلك له إنما استُعظِمَ منهم, لأنّ ذلك منهم كان مسألة آيةٍ, [ فقد ظنّ خطأ ] . فإن الآيةَ، إنّما يسألها الأنبياء مَنْ كان بها مكذّبًا ليتقرَّر عنده حقيقةُ ثبوتها وصحَّة أمرها, كما كانت مسألة قريش نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل لهم الصَّفَا ذهبًا، ويفجر فجَاج مكة أنهارًا، مَنْ سأله من مشركي قومه وكما كانت مسألة صالح الناقةَ من مكذّبي قومه ومسألة شُعَيْب أن يسقط كِسْفًا من السماءِ، من كفّار من أرسل إليه. فإنْ وكان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينـزل عليهم مائدة من السماء, على هذا الوجه كانت مسألتهم, فقد أحلّهم الذين قرءوا ذلك ب « التاء » ونصب « الرب » محلا أعظم من المحلِّ الذي ظنوا أنَّهم يحيدون بهم عنه أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسلٌ, وأن الله تعالى ذكره على ما سألوا من ذلك قادر. فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك, وإنما كانت مسألتهم إيَّاه ذلك على نحو ما يسأل أحدُهم نبيَّه, إذا كان فقيرًا، أن يسأل له ربه أن يُغْنيه وإن عرضتْ له حاجة، أن يسأل له ربه أن يقضيَها, فليسَ ذلك من مسألةَ الآية في شيء، بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه, فسأل نبيَّه مسألةَ ربه أن يقضيها له. وخبر الله تعالى ذكره عن القوم، ينبئ بخلاف ذلك. وذلك أنهم قالوا لعيسى, إذ قال لهم: « اتقوا الله إن كنتم مؤمنين » نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا . فقد أنبأ هذا من قِيلهم، أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدَقهم, ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوّته. فلا بيان أبين من هذا الكلام، في أن القوم كانوا قد خالط قلوبَهم مرضٌ وشك فى دينهم وتصديق رسولهم, وأنهم سَألوا ما سألوا من ذلك اختبارًا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ليث, عن عقيل, عن ابن عباس: أنه كان يحدِّث عن عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا, ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجرَ العامل على من عمل له! ففعلوا، ثم قالوا: يا معلِّم الخير, قلت لنا: « إن أجر العامل على من عمل له » ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا، ففعلنا, ولم نكن نعمل لأحدٍ ثلاثين يومًا إلا أطعمنا حين نفرُغ طعامًا، فهل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى: « اتقوا الله إن كنتم مؤمنين » قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ، إلى قوله: لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ . قال: فأقبلت الملائكة تطير بمائدةٍ من السماء عليها سبعةُ أحواتٍ وسبعة أرغفة, حتى وضعتها بين أيديهم, فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم. حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ » ، قالوا: هل يطيعك ربُّك، إن سألته؟ فأنـزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطَّعام إلا اللحم، فأكلوا منها. وأما « المائدة » فإنها « الفاعلة » من: « ماد فلان القوم يَميدهم مَيْدًا » ، إذا أطعمهم ومارهم، ومنه قول رؤبة: نُهْــدِي رُؤُوسَ المــتْرَفينَ الأنْـدَادْ إلَــى أَمِــيرِ المُــؤْمِنِينَ المُمْتَـادْ يعني بقوله: « الممتاد » ، المستعْطَى. ف « المائدة » المطعِمة، سميت « الخوان » بذلك, لأنها تطعم الآكل ممّا عليها. و « المائد » ، المُدَار به في البحر, يقال: « مادَ يَمِيدُ مَيْدًا » . وأما قوله: « قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين » ، فإنه يعني: قال عيسى للحواريّين القائلين له: « هل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء » راقبوا الله، أيها القوم, وخافوه أن يَنـزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا, فإن الله لا يعجزه شيء أراده, وفي شكّكم في قدرة الله على إنـزال مائدة من السماء، كفرٌ به, فاتقوا الله أن يُنـزل بكم نقمته « إن كنتم مؤمنين » ، يقول: إن كنتم مصدقيَّ على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم: « هل يستطيع ربك أن ينـزل علينا مائدة من السماء » ؟ القول في تأويل قوله : قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ( 113 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الحواريون مجيبي عيسى على قوله لهم: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، في قولكم لي هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ : إنا إنما قلنا ذلك، وسألناك أن تسأل لنا ربنا لنأكل من المائدة, فنعلم يقينًا قدرته على كل شيء « وتطمئن قلوبنا » ، يقول: وتسكن قلوبنا، وتستقرّ على وحدانيته وقدرته على كل ما شاء وأراد, « ونعلم أن قد صدقتنا » , ونعلم أنك لم تكذبنا في خبرك أنك لله رسول مرسل ونبيّ مبعوث « ونكون عليها » ، يقول: ونكون على المائدة « من الشاهدين » ، يقول: ممن يشهد أن الله أنـزلها حجةً لنفسه علينا في توحيده وقدرته على ما شاء، ولك على صدقكَ في نبوّتك. القول في تأويل قوله : قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ( 114 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم، أنه أجاب القوم إلى ما سألوا من مسألة ربه مائدةً تنـزل عليهم من السماء. ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا » . فقال بعضهم: معناه: نتخذ اليومَ الذي نـزلت فيه عيدًا نُعَظِّمه نحن ومن بعدَنا. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا » ، يقول: نتخذ اليوم الذي نـزلت فيه عيدًا نعظِّمه نحن ومن بعدنا. حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله « تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا » ، قال: أرادوا أن تكون لعَقِبهم من بعدهم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « أنـزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا » ، قال: الذين هم أحياء منهم يومئذ « وآخرنا » ، من بعدهم منهم. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، قال سفيان: « تكون لنا عيدًا » ، قالوا: نصلي فيه. نـزلت مرتين. وقال آخرون: معناه: نأكل منها جميعًا. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ليث, عن عقيل, عن ابن عباس أنه قال: أكل منها يعني: من المائدة حين وضعت بين أيديهم، آخر الناس، كما أكل منها أولهم. وقال آخرون: معنى قوله « عيدًا » ، عائدة من الله تعالى ذكره علينا، وحجة وبرهانًا. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب، قولُ من قال: « معناه: تكون لنا عيدًا, نعبد ربنا في اليوم الذي تنـزل فيه، ونصلي له فيه, كما يعبد الناس في أعيادهم » ، لأن المعروف من كلام الناس المستعمل بينهم في « العيد » ، ما ذكرنا، دون القول الذي قاله من قال: « معناه: عائدة من الله علينا » . وتوجيه معاني كلام الله إلى المعروف من كلام من خوطب به، أولى من توجيهه إلى المجهول منه، ما وجد إليه السبيل. وأما قوله: « لأولنا وآخرنا » ، فإن الأولى من تأويله بالصواب، قولُ من قال: « تأويله: للأحياء منا اليوم، ومن يجيء بعدنا منا » ، للعلة التي ذكرناها في قوله: « تكون لنا عيدًا » ، لأن ذلك هو الأغلب من معناه. وأما قوله: « وآية منك » ، فإن معناه: وعلامةً وحجة منك يا رب، على عبادك في وحدانيتك, وفي صدقي على أنّي رسولٌ إليهم بما أرسلتني به « وارزقنا وأنت خير الرازقين » ، وأعطنا من عطائك, فإنك يا رب خير من يعطي، وأجود من تفضَّل, لأنه لا يدخل عطاءه منٌّ ولا نكَد. وقد اختلف أهل التأويل في « المائدة » , هل أنـزلت عليهم، أم لا؟ وما كانت؟ فقال بعضهم: نـزلت، وكانت حوتًا وطعامًا, فأكل القوم منها, ولكنها رفعت بعد ما نـزلت بأحداثٍ منهم أحدثوها فيما بينهم وبين الله تعالى ذكره. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : نـزلت المائدة، خبزًا وسمكًا. حدثني الحسين بن علي الصدائي قال ، حدثنا أبي, عن الفضيل, عن عطية قال : « المائدة » ، سمكة فيها طعم كلِّ طعام. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله, عن فضيل, عن مسروق, عن عطية قال : « المائدة » ، سمك فيه من طعم كل طعام. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبد الرحمن قال : نـزلت المائدة خبزًا وسمكًا. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال : نـزلت على عيسى ابن مريم والحواريين، خِوانٌ عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نـزلوا إذا شاؤوا. حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا المنذر بن النعمان, أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: « أنـزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا » ، قال: نـزل عليهم قرصة من شعير وأحوات قال الحسن، قال أبو بكر: فحدَّثت به عبد الصمد بن معقل فقال: سمعت وهبًا، وقيل له: وما كان ذلك يُغْني عنهم؟ فقال: لا شيء، ولكن الله حَثَا بين أضعافهن البركة, فكان قوم يأكلون ثم يخرجون, ويجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون, حتى أكلوا جميعهم وأفضَلُوا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد قال : هو الطعام ينـزل عليهم حيث نـزلوا. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « مائدة من السماء » ، قال: مائدة عليها طعام، أُتوا بها؛ حين عرض عليهم العذاب إن كفروا. ألوان من طعام ينـزل عليهم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن أبي معشر, عن إسحاق بن عبد الله: أن المائدة نـزلت على عيسى ابن مريم, عليها سبعة أرغفة وسبعة أحْوات, يأكلون منها ما شاؤوا. قال: فسرق بعضهم منها وقال: « لعلها لا تنـزل غدًا! » ، فرفعت. حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الأعلى قال ، حدثنا داود, عن سماك بن حرب, عن رجل من بني عجل قال: صليت إلى جنب عَمار بن ياسر, فلما فرغ قال : هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال فقلت: لا! قال: إنهم سألوا عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد. قال : فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخبئوا، أو تخونوا، أو ترفعوا, فإن فعلتم فإنّي أعذبكم عذابًا لا أعذّبه أحدا من العالمين! قال: فما تمّ يومهم حتى خبئوا ورَفعوا وخانوا, فعذبوا عذابًا لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم معشر العرب، كنتم تتْبعون أذنابَ الإبل والشاء, فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم، تعرفون حسبه ونسبه, وأخبركم على لسان نبيكم أنكم ستظهارون على العرَب, ونهاكم أن تكنـزوا الذهبَ والفضة. وايمْ الله. لا يذهبُ الليلُ والنهارُ حتى تكنـزوهما، ويعذِّبكم عذابًا أليمًا. حدثنا الحسن بن قزعة البصري قال ، حدثنا سفيان بن حبيب قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن خلاس بن عمرو, عن عمار بن ياسر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نـزلت المائدة خبزًا ولحمًا, وأُمروا أن لا يخونوا ولا يدَّخروا ولا يرفعوا لغدٍ, فخانوا وادّخروا ورفعوا, فمسخوا قردة وخنازير. حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال ، حدثنا يوسف بن خالد قال ، حدثنا نافع بن مالك, عن عكرمة, عن ابن عباس في المائدة قال : كانت طعامًا ينـزل عليهم من السماء حيثما نـزلوا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا ابن أبي عدي, عن سعيد, عن قتادة, عن خلاس بن عمرو, عن عمار قال : نـزلت المائدة وعليها ثمرٌ من ثمر الجنة, فأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا، قال: فخان القوم وخبئوا وادَّخروا, فحوّلهم الله قردة وخنازير. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذُكر لنا أنها كانت مائدة ينـزل عليها الثمرُ من ثمار الجنة, وأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا لغد, بلاء ابتلاهم الله به, وكانوا إذا فعلوا شيئًا من ذلك، أنبأهم به عيسى, فخان القوم فيه فخبئوا وادّخروا لغدٍ. وقال آخرون: كان عليها من كلّ طعام إلا اللحم. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا جرير, عن عطاء, عن ميسرة قال : كانت إذا وضعت المائدة لبني إسرائيل, اختلفت عليها الأيدي بكل طعام. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عطاء, عن ميسرة وزاذان قالا كانت الأيدي تختلف عليها بكل طعام. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان الثوري, عن عطاء بن السائب, عن زاذان وميسرة، في: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَـزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ، قالا رأوا الأيدي تختلف عليها بكل شيء إلا اللحم. وقال آخرون: لم ينـزل الله على بني إسرائيل مائدة. ثم اختلف قائلو هذه المقالة. فقال بعضهم: إنما هذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لخلقه، نهاهم به عن مسألة نبيّ الله الآيات. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « أنـزل علينا مائدة من السماء » ، قال: مثل ضُرب, لم ينـزل عليهم شيء. وقال آخرون: إنّ القوم لما قيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، استعفَوْا منها فلم تنـزل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قال : كان الحسن يقول: لما قيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ ، إلى آخر الآية، قالوا: لا حاجة لنا فيها‍ فلم تنـزل. حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة, عن منصور بن زاذان, عن الحسن: أنه قال في المائدة: لم تنـزل. حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا, فأبوا أن تَنـزل عليهم. قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنـزل المائدة على الذين سألوا عيسى مسألتَه ذلك ربَّه. وإنما قلنا ذلك، للخبر الذي روينا بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل التأويل من بعدهم، غير من انفرد بما ذكرنا عنه. وبعدُ, فإن الله تعالى ذكره لا يخلف وعدَه، ولا يقع في خبره الْخُلف, وقد قال تعالى ذكره مخبرًا في كتابه عن إجابة نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم حين سأله ما سأله من ذلك: إِنِّي مُنَـزِّلُهَا عَلَيْكُمْ , وغير جائز أن يقول تعالى ذكره: إِنِّي مُنَـزِّلُهَا عَلَيْكُمْ , ثم لا ينـزلها، لأن ذلك منه تعالى ذكره خبر, ولا يكون منه خلاف ما يخبر. ولو جاز أن يقول: إِنِّي مُنَـزِّلُهَا عَلَيْكُمْ , ثم لا ينـزلها عليهم, جاز أن يقول: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، ثم يكفر منهم بعد ذلك، فلا يعذّبه, فلا يكون لوعده ولا لوعيده حقيقة ولا صحة. وغير جائز أن يوصف ربنا تعالى ذكره بذلك. وأما الصواب من القول فيما كان على المائدة, فأن يقال: كان عليها مأكول. وجائز أن يكون كان سمكًا وخبزًا, وجائزٌ أن يكون كانَ ثمرًا من ثمر الجنة، وغيرُ نافع العلم به، ولا ضارّ الجهل به، إذا أقرَّ تالي الآية بظاهر ما احتمله التنـزيل. القول في تأويل قوله : قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ( 115 ) قال أبو جعفر: وهذا جواب من الله تعالى ذكره القومَ فيما سألوا نبيّهم عيسى مسألةَ ربهم، من إنـزاله مائدة عليهم. فقال تعالى ذكره: إني منـزلها عليكم، أيها الحواريون، فمطعمكموها « فمن يكفر بعد منكم » ، يقول: فمن يجحد بعد إنـزالها عليكم، وإطعاميكموها - منكم رسالتي إليه، وينكر نبوة نبيِّي عيسى صلى الله عليه وسلم، ويخالفْ طاعتي فيما أمرته ونهيته « فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدا من العالمين » ، من عالمي زمانه. ففعل القوم, فجحدوا وكفروا بعد ما أنـزلت عليهم، فيما ذكر لنا, فعذبوا، فيما بلغنا، بأن مُسِخوا قردة وخنازير، كالذي:- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إني منـزلها عليكم » الآية, ذكر لنا أنهم حوِّلوا خنازير. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب ومحمد بن أبي عدي, ومحمد بن جعفر, عن عوف, عن أبي المغيرة القوّاس, عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشدّ الناس عذابًا ثلاثة: المنافقون, ومن كفر من أصحاب المائدة, وآل فرعون. حدثنا الحسن بن عرفة قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن عوف قال : سمعت أبا المغيرة القوّاس يقول: قال عبد الله بن عمرو: إنّ أشد الناس عذابًا يوم القيامة: من كفر من أصحاب المائدة, والمنافقون, وآل فرعون. حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « فمن يكفر بعد منكم » ، بعد ما جاءته المائدة « فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين » ، يقول: أعذبه بعذاب لا أعذبه أحدًا من العالمين غير أهل المائدة. القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ , « إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمِّيَ إلهين من دون الله » . وقيل: إن الله قال هذا القولَ لعيسى حين رفعه إليه في الدنيا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » ، قال: لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه، قالت النصارى ما قالت, وزعموا أنّ عيسى أمرَهم بذلك, فسأله عن قوله فقال: « سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب » إلى قوله: وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ . وقال آخرون: بل هذا خبر من الله تعالى ذكره عن أنه يقول لعيسى ذلك في القيامة. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » ، قال: والناس يسمعون, فراجعه بما قد رأيت, وأقرَّ له بالعبودية على نفسه, فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول: أنه إنما كان يقول باطلا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير, عن عطاء, عن ميسرة قال : قال الله: يا عيسى، أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله؟ فأُرْعِدت مفاصله, وخشي أن يكون قد قال, فقال: سبحانك، إن كنت قلته فقد علمته الآية. حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » ، متى يكون ذلك؟ قال: يوم القيامة, ألا ترى أنه يقول: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ؟ فعلى هذا التأويل الذي تأوَّله ابن جريج، يجب أن يكون « وإذ » بمعنى: و « إذا » , كما قال في موضع آخر: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا ، [ سورة سبأ: 51 ] ، بمعنى: يفزعون، وكما قال أبو النجم: ثُــمَّ جَــزَاهُ اللـهُ عَنَّـا إذْ جَـزَى جَنَّــاتِ عَـدْنٍ فِـي العَلالِـيِّ العُـلا والمعنى: إذا جزى، وكما قال الأسود: فَـــالآنَ , إذْ هَــازَلْتُهُنَّ , فإنَّمَــا يَقُلْـنَ: ألا لَـمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا !!ٌٌ بمعنى: إذا هازلتهن. وكأنّ من قال في ذلك بقول ابن جريج هذا, وجَّه تأويل الآية إلى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ في الدنيا وأعذبه أيضًا في الآخرة: « إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » . قال أبو جعفر: وأولى القولين عندنا بالصواب في ذلك, قولُ من قال بقول السدي، وهو أن الله تعالى ذكره قال ذلك لعيسى حين رفعه إليه, وأن الخبرَ خبرٌ عما مضى، لعلَّتين: إحداهما: أن « إذْ » إنما تصاحب في الأغلب من كلام العرب المستعمل بينها الماضيَ من الفعل, وإن كانت قد تدخلها أحيانًا في موضع الخبر عما يحدث، إذا عرف السامعون معناها. وذلك غير فاشٍ، ولا فصيح في كلامهم, وتوجيه معاني كلام الله تعالى إلى الأشهر الأعرف ما وجد إليه السبيل، أولى من توجيهها إلى الأجهل الأنكر. والأخرى: أن عيسى لم يشك هو ولا أحد من الأنبياء، أن الله لا يغفر لمشرك مات على شركه, فيجوز أن يُتَوهم على عيسى أن يقول في الآخرة مجيبًا لربه تعالى ذكره: إن تعذّب من اتخذني وأمي إلهين من دونك فإنهم عبادك, وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم. فإن قال قائل: وما كان وجه سؤال الله عيسى: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله « ، وهو العالم بأن عيسى لم يقل ذلك؟ » قيل: يحتمل ذلك وجهين من التأويل: أحدهما: تحذير عيسى عن قيل ذلك ونهيُه, كما يقول القائل لآخر: « أفعلت كذا وكذا » ؟ مما يعلم المقولُ له ذلك أن القائل يستعظم فعل ما قال له: « أفعلته » ، على وجه النهي عن فعله، والتهديد له فيه. والآخر: إعلامه أنّ قومه الذين فارقهم قد خالفوا عهده، وبدّلوا دينهم بعده. فيكون بذلك جامعًا إعلامَه حالَهم بعده، وتحذيرًا له قيله. قال أبو جعفر: وأما تأويل الكلام، فإنه: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين « ، أي: معبودين تعبدونهما من دون الله. قال عيسى: تنـزيهًا لك يا رب وتعظيمًا أن أفعل ذلك أو أتكلم به ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق » ، يقول: ليس لي أن أقول ذلك، لأني عبد مخلوق، وأمي أمَةٌ لك, وكيف يكون للعبد والأمة ادّعاء ربوبية؟ « إن كنت قلته فقد علمته » , يقول: إنك لا يخفى عليك شيء, وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمُرهم به. القول في تأويل قوله : تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ( 116 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن نبيه عيسى صلى الله عليه وسلم: أنه يبرأ إليه مما قالت فيه وفي أمه الكفرةُ من النصارى، أن يكون دعاهم إليه أو أمرهم به, فقال: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ . ثم قال: « تعلم ما في نفسي » ، يقول: إنك، يا رب، لا يخفى عليك ما أضمرته نفسي مما لم أنطق به ولم أظهره بجوارحي, فكيف بما قد نطقتُ به وأظهرته بجوارحي؟ يقول: لو كنت قد قلت للناس: « اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » ، كنت قد علمته, لأنك تعلم ضمائر النفوس مما لم تنطق به، فكيف بما قد نطقت به؟ « ولا أعلم ما في نفسك » ، يقول: ولا أعلم أنا ما أخفيته عني فلم تطلعني عليه, لأني إنما أعلم من الأشياء ما أعلمتنيه « إنك أنت عَلام الغيوب » ، يقول: إنك أنت العالم بخفيّات الأمور التي لا يطلع عليها سواك، ولا يعلمها غيرك. القول في تأويل قوله : مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( 117 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول عيسى, يقول: ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم, وهو أن قلت لهم: « اعبدوا الله ربي وربكم » « وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم » ، يقول: وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم « فلما توفيتني » ، يقول: فلما قبضتني إليك « كنت أنت الرقيب عليهم » ، يقول: كنت أنت الحفيظ عليهم دوني, لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه وأنا بين أظهرهم. وفي هذا تبيانُ أن الله تعالى ذكره إنما عرّفه أفعالَ القوم ومقالتهم بعد ما قبضه إليه وتوفاه بقوله: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ . « وأنت على كل شيء شهيد » يقول: وأنت تشهد على كل شيء, لأنه لا يخفى عليك شيء, وأما أنا، فإنما شهدت بعض الأشياء, وذلك ما عاينت وأنا مقيم بين أظهر القوم, فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت ورأيتُ وشهدت. وبنحو الذي قلنا في قوله: « كنت أنت الرقيب عليهم » ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدى: « كنت أنت الرقيب عليهم » ، أما « الرقيب » ، فهو الحفيظ. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « كنت أنت الرقيب عليهم » ، قال: الحفيظ. وكانت جماعة من أهل العلم تقول: كان جواب عيسى الذي أجاب به ربَّه من الله تعالى، توقيفًا منه له فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ، قال: الله وقَّفَه. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبو داود الحفري قال ، قرئ على سفيان, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه طاوس قال : احتج عيسى، والله وقّفه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، الآية. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير, عن عطاء, عن ميسرة قال : قال الله تعالى ذكره: « يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله » ؟ قال: فأُرعدت مفاصله, وخشى أن يكون قد قالها, فقال: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ . القول في تأويل قوله : إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 118 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنْ تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، بإماتتك إياهم عليها « فإنهم عبادك » ، مستسلمون لك, لا يمتنعون مما أردت بهم، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا أمرًا تنالهم به « وإن تغفر لهم » ، بهدايتك إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم « فإنك أنت العزيز » ، في انتقامه ممن أراد الانتقام منه، لا يقدر أحدٌ يدفعه عنه « الحكيم » ، في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة، وتوفيقه من وفَّق منهم لسبيل النجاة من العقاب، كالذي:- حثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: « إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم » ، فتخرجهم من النصرانية، وتهديهم إلى الإسلام « فإنك أنت العزيز الحكيم » . وهذا قول عيسى في الدنيا. حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم » ، قال: والله ما كانوا طعَّانين ولا لعَّانين. القول في تأويل قوله : قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: « هذا يوم ينفع الصادقين » . فقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والمدينة: ( هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ ) ، بنصب « يوم » . وقرأه بعض أهل الحجاز وبعض أهل المدينة، وعامة قرأة أهل العراق: هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ ، برفع « يوم » . فمن رفعه رفعه ب « هذا » , وجعل « يوم » اسمًا, وإن كانت إضافته غير محضة, لأنه قد صار كالمنعوت. وكان بعض أهل العربية يزعم أن العرب يعملون في إعراب الأوقات مثل « اليوم » و « الليلة » ، عملهم فيما بعدها. إن كان ما بعدها رفعًا رفعوها, كقولهم: « هذا يومُ يركب الأمير » , و « ليلةُ يصدر الحاج » , و « يومُ أخوك منطلق » . وإن كان ما بعدها نصبًا نصبوها, وذلك كقولهم: « هذا يومَ خرج الجيش، وسار الناس » , و « ليلةَ قتل زيد » ، ونحو ذلك, وإن كان معناها في الحالين « إذ » و « إذا » . وكأن من قرأ هذا هكذا رفعًا، وجَّه الكلام إلى أنه من قيل الله يوم القيامة. وكذلك كان السدي يقول في ذلك. حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط, عن السدي قال الله: « هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم » ، هذا فصل من كلام عيسى, وهذا يوم القيامة. يعني السدي بقوله: « هذا فصل من كلام عيسى » : أن قوله: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إلى قوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، من خبر الله عز وجل عن عيسى أنه قاله في الدنيا بعد أن رفعه إليه, وأن ما بعد ذلك من كلام الله لعباده يوم القيامة. وأما النصب في ذلك, فإنه يتوجه من وجهين: أحدهما: أن إضافة « يوم » ما لم تكن إلى اسم، تجعله نصبًا, لأن الإضافة غير محضة, وإنما تكون الإضافة محضة، إذا أضيف إلى اسم صحيح. ونظير « اليوم » في ذلك: « الحين » و « الزمان » ، وما أشبههما من الأزمنة, كما قال النابغة: عَـلَى حِيْنَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا وَقُلْـتُ ألَمَّـا تَصْـحُ وَالشَّـيْبُ وَازِعُ والوجه الآخر: أن يكون مرادًا بالكلام: هذا الأمر وهذا الشأن, يومَ ينفع الصادقين فيكون « اليوم » حينئذ منصوبًا على الوقت والصفة, بمعنى: هذا الأمر في يوم ينفع الصادقين صدقهم. قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: ( هَذَا يَوْمَ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ ) ، بنصب « اليوم » ، على أنه منصوب على الوقت والصفة. لأن معنى الكلام: إنّ الله جل وتعالى ذكره أجاب عيسى حين قال: سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ، إلى قوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، فقال له عز وجل: هذا القولُ النافعُ أو هذا الصدق النافع يوم ينفع الصادقين صدقهم. ف « اليوم » وقت القول والصدق النافع. فإن قال قائل: فما موضع « هذا » ؟ قيل: رفع. فإن قال: فأين رَافعه؟ قيل: مضمر. وكأنه قال: قال الله عز وجل: هذا, هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم, كما قال الشاعر: أَمَـا تَـرَى السَّـحَابَ كَـيْفَ يَجْرِي ? هــذا, وَلا خَــيْلُكَ يَـا ابْـن بِشْـرِ يريد: هذا هذا, ولا خيلك. قال أبو جعفر: فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا لما بينا: قال الله لعيسى: هذا القول النافع في يوم ينفع الصادقين في الدنيا صدقهم ذلك، في الآخرة عند الله لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ، يقول: للصادقين في الدنيا، جنات تجري من تحتها الأنهار في الآخرة، ثوابًا لهم من الله عز وجل على ما كان من صدقهم الذي صدقوا الله فيما وعدوه, فوفوا به لله, فوفى الله عز وجل لهم ما وعدهم من ثوابه خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ، يقول: باقين في الجنات التي أعطاهموها « أبدًا » ، دائمًا، لهم فيها نعيم لا ينتقل عنهم ولا يزول. وقد بينا فيما مضى أن معنى « الخلود » ، الدوام والبقاء. القول في تأويل قوله : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 119 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: رَضي الله عن هؤلاء الصادقين الذين صدقوا في الوفاء له بما وعدوه، من العمل بطاعته واجتناب معاصيه « ورضوا عنه » ، يقول: ورضوا هم عن الله تعالى ذكره في وفائه لهم بما وعدهم على طاعتهم إياه فيما أمرهم ونهاهم، من جزيل ثوابه « ذلك الفوز العظيم » ، يقول: هذا الذي أعطاهم الله من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار, خالدين فيها, مرضيًّا عنهم وراضين عن ربهم, هو الظفر العظيم بالطَّلِبة، وإدراك الحاجة التي كانوا يطلبونها في الدنيا, ولها كانوا يعملون فيها, فنالوا ما طلبوا، وأدركوا ما أمَّلوا. القول في تأويل قوله : لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 120 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيها النصارى، « لله ملك السموات والأرض » ، يقول: له سلطان السموات والأرض « وما فيهن » ، دون عيسى الذين تزعمون أنه إلهكم، ودون أمه, ودون جميع من في السموات ومن في الأرض، فإن السموات والأرض خلق من خلقه وما فيهن، وعيسى وأمُّه من بعض ذلك بالحلول والانتقال, يدلان بكونهما في المكان الذي هما فيه بالحلول فيه والانتقال، أنهما عبدان مملوكان لمن له ملك السموات والأرض وما فيهن. ينبِّههم وجميعَ خلقه على موضع حجته عليهم، ليدَّبروه ويعتبروه فيعقلوا عنه « وهو على كل شيء قدير » ، يقول تعالى ذكره: والله الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن, قادرٌ على إفنائهن وعلى إهلاكهن، وإهلاك عيسى وأمه ومن في الأرض جميعًا كما ابتدأ خلقهم, لا يعجزه ذلك ولا شيء أراده، لأن قدرته القدرةُ التي لا تشبهها قدرة، وسلطانه السلطان الذي لا يشبهه سلطان ولا مملكة. ( آخر تفسير سورة المائدة ) الرئيسة المصحف الإلكتروني www.e-quran.com. جميع الحقوق محفوظة. --------------------- تفسير يورة الانفال. فهرس تفسير الطبري للسور 8 - تفسير الطبري سورة الأنفال التالي السابق تفسير سورة الأنفال ( القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأنفال ) ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ( رَبِّ يَسِّر ) القول في تأويل قوله : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى « الأنفال » التي ذكرها الله في هذا الموضع. فقال بعضهم: هي الغنائم, وقالوا: معنى الكلام: يسألك أصحابك، يا محمد، عن الغنائم التي غنمتها أنت وأصحابك يوم بدر، لمن هي؟ فقل: هي لله ولرسوله. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو, عن حماد بن زيد, عن عكرمة، « يسألونك عن الأنفال » ، قال: « الأنفال » ، الغنائم. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: « الأنفال » ، الغنائم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن مجاهد قال: « الأنفال » ، المغنم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: الغنائم. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « الأنفال » ، قال: يعني الغنائم. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: « الأنفال » ، الغنائم. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « يسألونك عن الأنفال » ، « الأنفال » ، الغنائم. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: « الأنفال » ، الغنائم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « الأنفال » ، الغنائم. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن المبارك, عن ابن جريج, عن عطاء: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: الغنائم. وقال آخرون: هي أنفال السرايا. ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا علي بن صالح بن حي قال، بلغني في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: السرايا. وقال آخرون: « الأنفال » ، ما شذَّ من المشركين إلى المسلمين، من عَبْد أو دابة، وما أشبه ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, عن عبد الملك, عن عطاء في قوله: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » ، قال: هو ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، دابَّة أو عبدٌ أو متاعٌ, ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن عبد الملك, عن عطاء: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: هي ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، من عبد أو أمة أو متاع أوثَقَل, فهو للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيه ما شاء. . . . . قال، حدثنا عبد الأعلى, عن معمر, عن الزهري: أن ابن عباس سئل عن: « الأنفال » ، فقال: السَّلَب والفرس. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ويقال « الأنفال » ، ما أخذ مما سقط من المتاع بعد ما تُقَسَّم الغنائم, فهي نفلٌ لله ولرسوله. حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني عثمان بن أبي سليمان, عن محمد بن شهاب: أن رجلا قال لابن عباس: ما « الأنفال » ؟ قال: الفرَس والدِّرع والرمحُ. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، قال ابن جريج, قال عطاء: « الأنفال » ، الفرس الشاذّ والدرع والثوب. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري, عن ابن عباس قال: كان ينفِّل الرجل سَلَب الرجل وفرسه. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك بن أنس, عن ابن شهاب, عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلا سأل ابن عباس عن « الأنفال » , فقال ابن عباس: الفرس من النَّفَل, والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته, فقال ابن عباس ذلك أيضًا. ثم قال الرجل: « الأنفال » ، التي قال الله في كتابه، ما هي؟ قال القاسم: فلم يزل يسأله حتى كاد يُحْرجه, فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا، مَثَلُ صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري, عن القاسم بن محمد قال، قال ابن عباس: كان عمر رضي الله عنه إذا سئل عن شيء قال: « لا آمرك ولا أنهاك » . ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه عليه السلام إلا زاجرًا آمرًا، محللا محرمًا قال القاسم: فسلِّط على ابن عباس رجل يسأله عن: « الأنفال » , فقال ابن عباس: كان الرجل ينفّل فرس الرجل وسلاحه. فأعاد عليه الرجل, فقال له مثل ذلك, ثم أعاد عليه حتى أغضبه, فقال ابن عباس: أتدرون ما مَثَل هذا، مثل صبيغ الذي ضربه عمر حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه؟ فقال الرجل: أمّا أنت فقد انتقم الله لعمر منك. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن المبارك, عن عبد الملك, عن عطاء: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال، من دابة أو [ عبد ] , فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون: « النفل » ، الخمس الذي جعله الله لأهل الخُمُس. ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: هو الخمس. قال المهاجرون: لِمَ يُرْفع عنا هذا الخمس، لم يُخْرج منا؟ فقال الله: هو لله والرسول. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام, عن الحجاج, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس, فنـزلت: « يسألونك عن الأنفال » . قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى: « الأنفال » ، قولُ من قال: هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم، إما من سَهْمه على حقوقهم من القسمة, وإما مما وصل إليه بالنفل, أو ببعض أسبابه, ترغيبًا له، وتحريضًا لمن معه من جيشه على ما فيه صلاحهم وصلاح المسلمين, أو صلاح أحد الفريقين. وقد يدخل في ذلك ما قال ابن عباس من أنه الفرس والدرع ونحو ذلك, ويدخل فيه ما قاله عطاء من أن ذلك ما عاد من المشركين إلى المسلمين من عبد أو فرس، لأن ذلك أمره إلى الإمام، إذا لم يكن ما وصلوا إليه بغلبة وقهر, يفعل ما فيه صلاح أهل الإسلام, وقد يدخل فيه ما غلب عليه الجيش بقَهر. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب, لأن « النفل » في كلام العرب، إنما هو الزيادة على الشيء, يقال منه: « نفَّلتك كذا » , و « أنفلتك » ، إذا زدتك. و « الأنفال » ، جمع « نَفَل » ، ومنه قول لبيد بن ربيعة: إِنَّ تَقْــوَى رَبِّنــا خَــيْرُ نَفَــلْ وَبِــإِذْنِ اللــهِ رَيْثِــي وَعَجَــلْ فإذ كان معناه ما ذكرنا, فكل من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة إن كان ذلك لبلاء أبلاه، أو لغناء كان منه عن المسلمين بتنفيل الوالي ذلك إيّاه, فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل, فهو منفل ما زيد من ذلك، لأن الزيادة نَفَلٌ، [ والنَّفَل ] ، وإن كان مستوجِبَهُ في بعض الأحوال لحق, ليس هو من الغنيمة التي تقع فيها القسمة. وكذلك كل ما رُضِخ لمن لا سهم له في الغنيمة، فهو « نفل » , لأنه وإن كان مغلوبًا عليه، فليس مما وقعت عليه القسمة. فالفصل إذ كان الأمر على ما وصفنا بين « الغنيمة » و « النفل » , أن « الغنيمة » هي ما أفاء الله على المسلمين من أموال المشركين بغلبة وقهر، نفَّل منه منفِّل أو لم ينفل، و « النفل » : هو ما أعطيه الرجل على البلاء والغَنَاء عن الجيش على غير قسمة. وإذْ كان ذلك معنى « النفل » , فتأويل الكلام: يسألك أصحابك، يا محمد، عن الفضل من المال الذي تقع فيه القسمة من غنيمة كفار قريش الذين قتلوا ببدر، لمن هو؟ قل لهم يا محمد: هو لله ولرسوله دونكم, يجعله حيث شاء. واختلف في السبب الذي من أجله نـزلت هذه الآية. فقال بعضهم: نـزلت في غنائم بدر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نفَّل أقوامًا على بلاء, فأبلى أقوام، وتخلف آخرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فاختلفوا فيها بعد انقضاء الحرب, فأنـزل الله هذه الآية على رسوله, يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فماضٍ جائزٌ. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، سمعت داود بن أبي هند يحدث, عن عكرمة, عن ابن عباس, أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: « من أتى مكان كذا وكذا, فله كذا وكذا, أو فعل كذا وكذا, فله كذا وكذا » ، فتسارع إليه الشبان, وبقي الشيوخ عند الرايات، فلما فتح الله عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم , فقال لهم الأشياخ: لا تذهبوا به دوننا! فأنـزل الله عليه الآية فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ . حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من صنع كذا وكذا, فله كذا وكذا » ، قال: فتسارع في ذلك شبان الرجال, وبقيت الشيوخ تحت الرايات. فلما كان الغنائم, جاءوا يطلبون الذي جعُل لهم, فقالت الشيوخ: لا تستأثروا علينا, فإنا كنا رِدْءًا لكم, وكنا تحت الرايات, ولو انكشفتم انكشفتم إلينا! فتنازعوا, فأنـزل الله: « يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » . حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله, عن داود, عن عكرمة, عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من فعل كذا فله كذا وكذا من النفل » . قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخةُ الراياتِ, فلم يبرحوا. فلما فُتح عليهم, قالت المشيخة: كنا ردءًا لكم, فلو انهزمتم انحزتم إلينا, لا تذهبوا بالمغنم دوننا! فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!‍‍‍ فأنـزل الله: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » . قال: فكان ذلك خيرًا لهم, وكذلك أيضًا أطيعوني فإني أعلم. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن عكرمة في هذه الآية: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » ، قال: لما كان يوم بدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من صنع كذا فله من النفل كذا » ‍‍‍! فخرج شبان من الرجال، فجعلوا يصنعونه, فلما كان عند القسمة, قال الشيوخ: نحن أصحاب الرايات, وقد كنا رِدْءًا لكم! فأنـزل الله في ذلك: « قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين » . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب الزهري قال، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن سليمان بن موسى, عن مكحول مولى هذيل, عن أبي سلام, عن أبي أمامة الباهلي, عن عبادة بن الصامت قال، أنـزل الله حين اختلف القوم في الغنائم يوم بدر: « يسألونك عن الأنفال » إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، عن بَوَاء. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد قال، حدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا, عن سليمان بن موسى الأشدق, عن مكحول, عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن « الأنفال » , فقال: فينا معشرَ أصحاب بدر نـزلت، حين اختلفنا في النَّفَل, وساءت فيه أخلاقنا, فنـزعه الله من أيدينا, فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بَوَاء يقول: على السواء فكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وصلاحُ ذاتِ البين . وقال آخرون: بل إنما أنـزلت هذه الآية، لأن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله من المغنم شيئًا قبل قسمتها, فلم يعطه إياه, إذ كان شِرْكًا بين الجيش, فجعل الله جميعَ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك: حدثني إسماعيل بن موسى السدي قال، حدثنا أبو الأحوص, عن عاصم, عن مصعب بن سعد, عن سعد قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر بسيف فقلت: يا رسول الله، هذا السيف قد شَفَى الله به من المشركين! فسألته إياه, فقال: ليس هذا لي ولا لك! قال: فلما وليت, قلت: أخاف أن يعطيه من لم يُبْلِ بلائي! فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفي, قال فقلت: أخاف أن يكون نـزل في شيء! قال: إن السيف قد صارَ لي! قال: فأعطانيه, ونـزلت: « يسألونك عن الأنفال » . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عاصم, عن مصعب بن سعد, عن سعد بن مالك قال: لما كان يوم بدر جئت بسيف. قال: فقلت: يا رسول الله, إن الله قد شفي صَدري من المشركين أو نحو هذا فهبْ لي هذا السيف! فقال لي: هذا ليس لي ولا لك! فرجعت فقلت: عسى أن يعطي هذا من لم يُبْلِ بلائي! فجاءني الرسول, فقلت: حدث فِيَّ حدثٌ ! فلما انتهيت قال: يا سعد إنك، سألتني السيف وليس لي, وإنه قد صار لي، فهو لك! ونـزلت: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن سماك بن حرب, عن مصعب بن سعد, عن أبيه قال: أصبت سيفًا يوم بدر فأعجبني, فقلت: يا رسول الله، هبه لي! فأنـزل الله: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » . حدثنا ابن المثنى وابن وكيع قال ابن المثنى: حدثني أبو معاوية وقال ابن وكيع: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الشيباني, عن محمد بن عبيد الله, عن سعد بن أبي وقاص قال: فلما كان يوم بدر، قتل أخي عُمَيْر، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه, وكان يسمى « ذا الكتيفة » , فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب فاطرحه في القبض! فطرحته ورجعتُ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي، وأخذ سَلَبي! قال: فما جاوزت إلا قريبًا، حتى نـزلت عليه « سورة الأنفال » , فقال: اذهب فخذ سيفك! ولفظ الحديث لابن المثنى. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير, وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة جميعًا, عن محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي بكر, عن قيس بن ساعدة قال: سمعت أبا أسَيْد مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائد يوم بدر, وكان السيف يدعى « المرْزُبان » ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردُّوا ما في أيديهم من النفل, أقبلت به فألقيته في النفل, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئًا يُسْأله, فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي, فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأعطاه إياه. - 15661- حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا أحمد بن أبي بكر, عن يحيى بن عمران, عن جده عثمان بن الأرقم وعن عمه, عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: ردُّوا ما كان من الأنفال! فوضع أبو أسيد الساعديّ سيف ابن عائذ « المرزبان » , فعرفه الأرقم فقال: هبه لي، يا رسول الله! قال: فأعطاه إياه. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن سماك بن حرب, عن مصعب بن سعد, عن أبيه قال: أصبت سيفا قال: فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، نفلنيه! فقال: ضعه! ثم قام فقال: يا رسول الله، نفلنيه! قال: ضعه! قال: ثم قام فقال: يا رسول، الله نفلنيه! أجعل كمن لا غَنَاء له؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ضعه من حيث أخذته! فنـزلت هذه الآية: يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول . حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن سماك, عن مصعب بن سعد, عن سعد قال: أخذت سيفًا من المغنم فقلت: يا رسول الله، هب لي هذا! فنـزلت: « يسألونك عن الأنفال » . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: قال سعد: كنت أخذت سيفَ سعيد بن العاص بن أمية, فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقلت: أعطني هذا السيف يا رسول الله! فسكت, فنـزلت: « يسألونك عن الأنفال » ، إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، قال: فأعطانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون: بل نـزلت: لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر، فأعلمهم الله أنّ ذلك لله ولرسوله دونهم، ليس لهم فيه شيء. وقالوا: معنى « عن » في هذا الموضع « من » ، وإنما معنى الكلام: يسألونك من الأنفال. وقالوا: قد كان ابن مسعود يقرؤه: « يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ » على هذا التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأونها: « يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: هي في قراءة ابن مسعود « يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ » . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » ، قال: « الأنفال » ، المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة، ليس لأحد منها شيء, ما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به, فمن حبس منه إبرة أو سِلْكًا فهو غُلول. فسألوا رسول الله صلى الله عليهوسلمس أن يعطيهم منها, قال الله: يسألونك عن الأنفال، قل: الأنفال لي جعلتها لرسولي، ليس لكم فيها شيء « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين » , ثم أنـزل الله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [ سورة الأنفال: 41 ] . ثم قسم ذلك الخُمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن سمي في الآية. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: نـزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرًا. قال: واختلفوا، فكانوا أثلاثًا. قال: فنـزلت: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » ، وملَّكه الله رَسوله, يقسمه كما أراه الله. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام, عن الحجاج, عن عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده: أن الناس سألوا النبي صلى اللهعليه وسلم الغنائم يوم بدر, فنـزلت: « يسألونك عن الأنفال » . . . . . قال: حدثنا عباد بن العوّام, عن جويبر, عن الضحاك: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: يسألونك أن تنفِّلهم. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا أيوب, عن عكرمة في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: يسألونك الأنفال. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى أخبرَ في هذه الآية عن قوم سألوا رَسول الله صلى الله عليه وسلم الأنفال أن يُعطيهموها, فأخبرهم الله أنها لله، وأنه جعلها لرسوله. وإذا كان ذلك معناه، جاز أن يكون نـزولها كان من أجل اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وجائز أن يكون كان من أجل مسألة من سأله السيف الذي ذكرنا عن سعد أنه سأله إياه وجائز أن يكون من أجل مسألة من سأله قسم ذلك بين الجيش. واختلفوا فيها: أمنسوخة هي أم غير منسوخة؟ فقال بعضهم: هي منسوخة. وقالوا: نسخها قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ الآية [ سورة الأنفال: 41 ] ، . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة قالا كانت الأنفال لله وللرسول، فنسختها: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: أصاب سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفًا, فاختصم فيه وناسٌ معه, فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم , فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم منهم, فقال الله: « يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول » ، الآية, فكانت الغنائم يومئذ للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة, فنسخها الله بالخُمس. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني سليم مولى أم محمد, عن مجاهد في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، قال: نسختها: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ . حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة أو: عكرمة وعامر قالا نسخت الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ . وقال آخرون: هي محكمة، وليست منسوخة. وإنما معنى ذلك: « قل الأنفال لله » , وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة وللرسول، يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيه. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « يسألونك عن الأنفال » ، فقرأ حتى بلغ: « إن كنتم مؤمنين » ، فسلَّموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاءا، ويضعانها حيث أرادا, فقالوا: نعم! ثم جاء بعد الأربعين: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ الآية [ سورة الأنفال: 41 ] ، ولكم أربعة أخماس. وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: « وهذا الخمس مردود على فقرائكم » ، يصنع الله ورسوله في ذلك الخمس ما أحبَّا, ويضعانه حيث أحبَّا, ثم أخبرنا الله بالذي يجب من ذلك. ثم قرأ الآية: وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [ سورة الحشر: 7 ] . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه صلى الله عليه وسلم، يُنفِّل من شاء, فنفّل القاتل السَّلَب, وجعل للجيش في البَدْأة الربع، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس. ونفَّل قومًا بعد سُهْمَانهم بعيرًا بعيرًا في بعض المغازي. فجعل الله تعالى ذكره حكم الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ينفِّل على ما يرى مما فيه صلاحُ المسلمين, وعلى من بعده من الأئمة أن يستَنّوا بسُنته في ذلك. وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ، لاحتمالها ما ذكرتُ من المعنى الذي وصفت. وغير جائز أن يحكم بحكم قد نـزل به القرآن أنه منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها, فقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أن لا منسوخ إلا ما أبطل حكمه حادثُ حكمٍ بخلافه، ينفيه من كل معانيه, أو يأتي خبرٌ يوجب الحجةَ أن أحدهما ناسخٌ الآخرَ. وقد ذكر عن سعيد بن المسيب: أنه كان ينكر أن يكون التنفيل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأويلا منه لقول الله تعالى: « قل الأنفال لله والرسول » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان, عن محمد بن عمرو قال: أرسل سعيد بن المسيب غلامه إلى قوم سألوه عن شيء, فقال: إنكم أرسلتم إلي تسألوني عن الأنفال, فلا نَفَل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد بينا أن للأئمة أن يتأسَّوْا برسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم بفعله, فينفِّلوا على نحو ما كان ينفل, إذا كان التنفيل صلاحًا للمسلمين. القول في تأويل قوله : فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ( 1 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فخافوا الله أيها القوم, واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه, وأصلحوا الحال بينكم. واختلف أهل التأويل في الذي عنى بقوله: « وأصلحوا ذات بينكم » . فقال بعضهم: هو أمر من الله الذين غنموا الغنيمة يوم بدر، وشهدوا الوقعة مع رسول الله صلىالله عليه وسلم إذ اختلفوا في الغنيمة: أن يردَّ ما أصابوا منها بعضُهم على بعض. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » ، قال: كان نبي الله ينفِّل الرجل من المؤمنين سَلَب الرجل من الكفار إذا قتله, ثم أنـزل الله: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » ، أمرهم أن يردَّ بعضهم على بعض. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفّل الرجل على قدر جِدّه وغَنَائه على ما رأى, حتى إذا كان يوم بدر، وملأ الناسُ أيديهم غنائم, قال أهل الضعف من الناس: ذهب أهل القوة بالغنائم! فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم , فنـزلت: « قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ » ، ليردَّ أهل القوة على أهل الضعف. وقال آخرون: هذا تحريج من الله على القوم, ونهيٌ لهم عن الاختلاف فيما اختلفوا فيه من أمر الغنيمة وغيره. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا خالد بن يزيد وحدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قالا حدثنا أبو إسرائيل, عن فضيل, عن مجاهد, في قول الله: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » ، قال: حَرَّج عليهم. حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا عباد بن العوام, عن سفيان بن حسين, عن مجاهد, عن ابن عباس: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » ، قال هذا تحريجٌ من الله على المؤمنين، أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم قال عباد, قال سفيان: هذا حين اختلفوا في الغنائم يوم بدر. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم » ، أي لا تَسْتَبُّوا. واختلف أهل العربية في وجه تأنيث « البين » . فقال بعض نحويي البصرة: أضاف « ذات » إلى « البين » وجعله « ذاتًا » , لأن بعضَ الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث, وبعضًا يذكر نحو « الدار » و « الحائط » ، أنث « الدار » وذكر « الحائط » . وقال بعضهم: إنما أراد بقوله: « ذات بينكم » ، الحال التي للبين، فقال: وكذلك « ذات العشاء » ، يريد الساعة التي فيها العشاء، قال: ولم يضعوا مذكرًا لمؤنث، ولا مؤنثًا لمذكر، إلا لمعنى. قال أبو جعفر: هذا القول أولى القولين بالصواب، للعلة التي ذكرتها له. وأما قوله: « وأطيعوا الله ورسوله » ، فإن معناه: وانتهوا أيها القوم الطالبون الأنفال، إلى أمر الله وأمر رسوله فيما أفاء الله عليكم, فقد بين لكم وجوهه وسبله « إن كنتم مؤمنين » ، يقول: إن كنتم مصدقين رسول الله فيما آتاكم به من عند ربكم، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين » ، فسلموا لله ولرسوله، يحكمان فيها بما شاءا, ويضعانها حيث أرادا. القول في تأويل قوله : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( 2 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله، ويترك اتباعَ ما أنـزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه، والانقياد لحكمه, ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وَجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وفَرَقًا من عقابه, وإذا قرئت عليه آيات كتابه صدّق بها، وأيقن أنها من عند الله, فازداد بتصديقه بذلك، إلى تصديقه بما كان قد بلغه منه قبل ذلك، تصديقًا. وذلك هو زيادة ما تلى عليهم من آيات الله إيَّاهم إيمانًا « وعلى ربهم يتوكلون » ، يقول: وبالله يوقنون، في أن قضاءه فيهم ماضٍ، فلا يرجون غيره، ولا يرهبون سواه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: المنافقون، لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه, ولا يؤمنون بشيء من آيات الله, ولا يتوكلون على الله, ولا يصلّون إذا غابوا, ولا يؤدُّون زكاة أموالهم. فأخبر الله سبحانه أنهم ليسوا بمؤمنين, ثم وصف المؤمنين فقال: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، فأدوا فرائضه « وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا » ، يقول: تصديقًا « وعلى ربهم يتوكلون » ، يقول: لا يرجون غيره. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير, عن مجاهد: « الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: فَرِقت. . . . . قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن السدي: « الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: إذا ذكر الله عند الشيء وجِلَ قلبه. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، يقول: إذا ذكر الله وَجِل قلبه. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « وجلت قلوبهم » ، قال: فرقت. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وجلت قلوبهم » ، فرقت. . . . . قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سفيان قال: سمعت السدي يقول في قوله: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو قال: يهمّ بمعصية أحسبه قال: فينـزع عنه. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري, عن عبد الله بن عثمان بن خثيم, عن شهر بن حوشب, عن أبي الدرداء في قوله: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: الوجل في القلب كإحراق السَّعَفة, أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى! قال: إذا وجدت ذلك في القلب فادع الله, فإن الدعاء يذهب بذلك. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » ، قال: فرقًا من الله تبارك وتعالى, ووَجلا من الله, وخوفًا من الله تبارك وتعالى. وأما قوله: « زادتهم إيمانًا » ، فقد ذكرت قول ابن عباس فيه. وقال غيره فيه, ما:- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: « وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا » ، قال: خشية. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون » ، قال: هذا نعت أهل الإيمان, فأثبت نَعْتهم, ووصفهم فأثبت صِفَتهم. القول في تأويل قوله : الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( 3 ) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين يؤدون الصلاة المفروضة بحدودها, وينفقون مما رزقهم الله من الأموال فيما أمرهم الله أن ينفقوها فيه، من زكاة وجهاد وحج وعمرة ونفقةٍ على من تجب عليهم نفقته, فيؤدُّون حقوقهم « أولئك » ، يقول: هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال « هم المؤمنون » ، لا الذين يقولون بألسنتهم: « قد آمنا » وقلوبهم منطوية على خلافه نفاقًا, لا يقيمون صلاة ولا يؤدُّون زكاة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي, عن ابن عباس: « الذين يقيمون الصلاة » ، يقول: الصلوات الخمس « ومما رزقناهم ينفقون » ، يقول: زكاة أموالهم « أولئك هم المؤمنون حقًّا » ، يقول: برئوا من الكفر. ثم وصف الله النفاق وأهله فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ : إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [ سورة النساء: 150- 151 ] فجعل الله المؤمن مؤمنًا حقًّا, وجعل الكافر كافرًا حقًّا, وهو قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [ سورة التغابن: 2 ] . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « أولئك هم المؤمنون حقًّا » ، قال: استحقُّوا الإيمان بحق, فأحقه الله لهم. القول في تأويل قوله : لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 4 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: « لهم درجات » ، لهؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم « درجات » , وهي مراتب رفيعة. ثم اختلف أهل التأويل في هذه « الدرجات » التي ذكر الله أنها لهم عنده، ما هي؟ فقال بعضهم: هي أعمال رفيعة، وفضائل قدّموها في أيام حياتهم. ذكر من قال ذلك: حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي يحيى القتات, عن مجاهد: « لهم درجات عند ربهم » ، قال: أعمال رفيعة. وقال آخرون: بل ذلك مراتب في الجنة. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن هشام عن جبلة, عن عطية, عن ابن محيريز: « لهم درجات عند ربهم » ، قال: الدرجات سبعون درجة, كل درجة حُضْر الفرس الجواد المضمَّر سبعين سنة. وقوله: « ومغفرة » ، يقول: وعفو عن ذنوبهم، وتغطية عليها « ورزق كريم » ، قيل: الجنة وهو عندي: ما أعد الله في الجنة لهم من مزيد المآكل والمشارب وهنيء العيش. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق, عن هشام, عن عمرو, عن سعيد, عن قتادة: « ومغفرة » ، قال: لذنوبهم « ورزق كريم » ، قال: الجنة. القول في تأويل قوله : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ( 5 ) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ( 6 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الجالب لهذه « الكاف » التي في قوله: « كما أخرجك » ، وما الذي شُبِّه بإخراج الله نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته بالحق. فقال بعضهم: شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين, اتقاؤهم ربهم, وإصلاحهم ذات بينهم, وطاعتهم الله ورسوله. وقالوا: معنى ذلك: يقول الله: وأصلحوا ذات بينكم, فإن ذلك خير لكم, كما أخرج الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من بيته بالحقّ، فكان خيرًا له. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن عكرمة: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ « ، الآية، أي: إن هذا خيرٌ لكم, كما كان إخراجك من بيتك بالحق خيرًا لك » وقال آخرون: معنى ذلك: كما أخرجك ربك، يا محمد، من بيتك بالحق على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم يكرهون القتال, فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « كما أخرجك ربك من بيتك بالحق » ، قال: كذلك يجادلونك في الحق. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة, قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « كما أخرجك ربك من بيتك بالحق » ، كذلك يجادلونك في الحقِّ, القتالِ. . . . . قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « كما أخرجك ربك من بيتك بالحق » ، قال: كذلك أخرجك ربك. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: أنـزل الله في خروجه يعني خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، ومجادلتهم إياه فقال: « كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون » ، لطلب المشركين, « يجادلونك في الحق بعد ما تبين » . واختلف أهل العربية في ذلك. فقال بعض نحويي الكوفيين: ذلك أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يمضي لأمره في الغنائم, على كره من أصحابه, كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العِير وهم كارهون. وقال آخرون منهم: معنى ذلك: يسألونك عن الأنفال مجادلةً، كما جادلوك يوم بدر فقالوا: « أخرجتنا للعِير, ولم تعلمنا قتالا فنستعدَّ له » . وقال بعض نحويي البصرة، يجوز أن يكون هذا « الكاف » في ( كما أخرجك ) ، على قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ، ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ) . وقال: « الكاف » بمعنى « على » . وقال آخرون منهم هي بمعنى القسم. قال: ومعنى الكلام: والذي أخرجك ربّك. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال في ذلك بقول مجاهد, وقال: معناه: كما أخرجك ربك بالحقّ على كره من فريق من المؤمنين, كذلك يجادلونك في الحق بعد ما تبين لأن كلا الأمرين قد كان, أعني خروج بعض من خرج من المدينة كارهًا, وجدالهم في لقاء العدو وعند دنوِّ القوم بعضهم من بعض, فتشبيه بعض ذلك ببعض، مع قرب أحدهما من الآخر، أولى من تشبيهه بما بَعُد عنه. وقال مجاهد في « الحق » الذي ذكر أنهم يجادلون فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما تبينوه: هو القتال. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( يجادلونك في الحق ) ، قال: القتال. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. وأما قوله: ( من بيتك ) ، فإن بعضهم قال: معناه: من المدينة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي بزة: ( كما أخرجك ربك من بيتك ) ، المدينة، إلى بدر. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني محمد بن عباد بن جعفر في قوله: ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ) ، قال: من المدينة إلى بدر. وأما قوله: ( وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون ) ، فإن كراهتهم كانت، كما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري, وعاصم بن عمر بن قتادة, وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا, عن عبد الله بن عباس, قالوا: لما سمع رَسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشأم, ندب إليهم المسلمين, وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم, فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس, فخفّ بعضهم وثقُل بعضهم, وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون ) ، لطلب المشركين. ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: ( يجادلونك في الحق بعد ما تبين ) . فقال بعضهم: عُني بذلك: أهلُ الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا معه حين توجَّه إلى بدر للقاء المشركين. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال، لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء القوم, وقال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر, أمرَ الناس, فتعبَّوْا للقتال, وأمرهم بالشوكة, وكره ذلك أهل الإيمان, فأنـزل الله: ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) . حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر القومَ يعني أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيرَهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , حين عرف القوم أن قريشًا قد سارت إليهم, وأنهم إنما خرجوا يريدون العيرَ طمعًا في الغنيمة, فقال: ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ) ، إلى قوله: ( لكارهون ) ، أي كراهيةً للقاء القوم, وإنكارًا لمسير قريش حين ذُكِروا لهم. وقال آخرون: عُني بذلك المشركون. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) ، قال: هؤلاء المشركون، جادلوه في الحق « كأنما يساقون إلى الموت » ، حين يدعون إلى الإسلام ( وهم ينظرون ) ، قال: وليس هذا من صفة الآخرين, هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثني عبد العزيز بن محمد, عن ابن أخي الزهري, عن عمه قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر: ( كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) ، خروجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العِير. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس وابن إسحاق, من أن ذلك خبرٌ من الله عن فريق من المؤمنين أنهم كرهوا لقاء العدو, وكان جدالهم نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم أن قالوا: « لم يُعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم, وإنما خرجنا للعير » . ومما يدلّ على صحته قولُه وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، ففي ذلك الدليلُ الواضح لمن فهم عن الله، أن القوم قد كانوا للشوكة كارهين، وأن جدالهم كان في القتال، كما قال مجاهد, كراهيةً منهم له وأنْ لا معنى لما قال ابن زيد, لأن الذي قبل قوله: ( يجادلونك في الحق ) ، خبرٌ عن أهل الإيمان, والذي يتلوه خبرٌ عنهم, فأن يكون خبرًا عنهم، أولى منه بأن يكون خبرًا عمن لم يجرِ له ذكرٌ. وأما قوله: ( بعد ما تبين ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معناه: بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: بعد ما تبين أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به. وقال آخرون: معناه: يجادلونك في القتال بعدما أمرت به. ذكر من قال ذلك: رواه الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس. وأما قوله: ( كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) ، فإن معناه: كأن هؤلاء الذين يجادلونك في لقاء العدوّ، من كراهتهم للقائهم إذا دعوا إلى لقائهم للقتال، « يساقون إلى الموت » . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: ( كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) ، أي كراهةً للقاء القوم, وإنكارًا لمسير قريش حين ذكروا لهم. القول في تأويل قوله : وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكروا، أيها القوم ( إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ) ، يعني إحدى الفرقتين, فرقة أبي سفيان بن حرب والعير, وفرقة المشركين الذين نَفَروا من مكة لمنع عيرهم. وقوله: ( أنها لكم ) ، يقول: إن ما معهم غنيمة لكم ( وتودون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، يقول: وتحبون أن تكون تلك الطائفة التي ليست لها شوكة يقول: ليس لها حدٌّ، ولا فيها قتال أن تكون لكم. يقول: تودُّون أن تكون لكم العيرُ التي ليس فيها قتال لكم، دون جماعة قريش الذين جاءوا لمنع عيرهم، الذين في لقائهم القتالُ والحربُ. وأصل « الشوكة » من « الشوك » . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا علي بن نصر, وعبد الوارث بن عبد الصمد قالا حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة, عن عروة: أن أبا سفيان أقبل ومن معه من رُكبان قريش مقبلين من الشأم, فسلكوا طريق الساحل. فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم، ندب أصحابه, وحدّثهم بما معهم من الأموال، وبقلة عددهم. فخرجوا لا يريدون إلا أبا سفيان والركب معه، لا يرونها إلا غنيمة لهم, لا يظنون أن يكون كبيرُ قتالٍ إذا رأوهم. وهي التي أنـزل الله فيها ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد بن إسحاق, عن محمد بن مسلم الزهري, وعاصم بن عمر بن قتادة, وعبد الله بن أبي بكر, ويزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا, عن عبد الله بن عباس, كُلٌّ قد حدثني بعض هذا الحديث، فاجتمع حديثهم فيما سُقت من حديث بدر, قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشأم، ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم, فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس, فخف بعضهم وثقل بعض, وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربًا. وكان أبو سفيان يستيقن حين دنا من الحجاز ويتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان، تخوفًا على أموال الناس, حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان: « أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعِيرك » ! فحذر عند ذلك, واستأجر ضمضم بن عمرو الغِفاري, فبعثه إلى مكة, وأمره أن يأتي قريشًا يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديًا يقال له « ذَفِرَان » , فخرج منه, حتى إذا كان ببعضه، نـزل، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عِيرهم, فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ, وأخبرهم عن قريش. فقام أبو بكر رضوان الله عليه، فقال فأحسن. ثم قام عمر رضي الله عنه، فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض إلى حيث أمرك الله، فنحن معك, والله، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ( اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ، [ سورة المائدة: 24 ] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون! فوالذي بعثك بالحق، لئن سرت بنا إلى بَرْك الغِمَاد يعني: مدينة الحبشة لجالدنا معك مَن دونه حتى تبلغه! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا, ثم دعا له بخيرٍ, ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا عليّ أيها الناس! وإنما يريد الأنصار, وذلك أنهم كانوا عَدَدَ الناس, وذلك أنهم حين بايعوه على العقبة قالوا: « يا رسول الله، إنا برآء من ذِمامك حتى تصل إلى ديارنا, فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا, نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا » ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نُصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه, وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوٍّ من بلادهم قال: فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال له سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل! قال: فقد آمنا بك وصدَّقناك, وشهدنا أن ما جئت به هو الحق, وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت, فوالذي بعثك بالحق إن استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخضته لخُضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد, وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا, إنا لصُبُرٌ عند الحرب, صُدُقٌ عند اللقاء, لعلّ الله أن يريك منا ما تَقرُّ به عينك, فسر بنا على بركة الله! فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشطه ذلك, ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا, فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين, والله لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم غدًا « . » حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أن أبا سفيان أقبل في عير من الشأم فيها تجارة قريش, وهي اللَّطيمة, فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قد أقبلت، فاستنفر الناس, فخرجوا معه ثلثمائة وبضعة عشر رجلا. فبعث عينًا له من جُهَينة, حليفًا للأنصار، يدعى « ابن أريقط » , فأتاه بخبر القوم. وبلغ أبا سفيان خروج محمد صلى الله عليه وسلم , فبعث إلى أهل مكة يستعينهم, فبعث رجلا من بني غِفار يدعى ضمضم بن عمرو, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشعر بخروج قريش, فأخبره الله بخروجهم, فتخوف من الأنصار أن يخذلوه ويقولوا: « إنا عاهدنا أن نمنعك إن أرادك أحد ببلدنا » ! فأقبل على أصحابه فاستشارهم في طلب العِير, فقال له أبو بكر رحمة الله عليه: إنّي قد سلكت هذا الطريق, فأنا أعلم به, وقد فارقهم الرجل بمكان كذا وكذا, فسكت النبي صلى الله عليه وسلم , ثم عاد فشاورهم, فجعلوا يشيرون عليه بالعير. فلما أكثر المشورة, تكلم سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله, أراك تشاور أصحابك فيشيرون عليك، وتعود فتشاورهم, فكأنك لا ترضى ما يشيرون عليك، وكأنك تتخوف أن تتخلف عنك الأنصار! أنت رسول الله, وعليك أنـزل الكتاب, وقد أمرك الله بالقتال، ووعدك النصر, والله لا يخلف الميعاد, امض لما أمرت به، فوالذي بعثك بالحق لا يتخلف عنك رجل من الأنصار! ثم قام المقداد بن الأسود الكندي فقال: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: ( اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) ، [ سورة المائدة: 24 ] ، ولكنا نقول: أقدم فقاتل، إنا معك مقاتلون! ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: إن ربي وعدني القوم، وقد خرجوا، فسيروا إليهم! فساروا. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، قال: الطائفتان إحداهما أبو سفيان بن حرب إذ أقبل بالعير من الشأم, والطائفة الأخرى أبو جهل معه نفر من قريش. فكره المسلمون الشوكة والقتال, وأحبوا أن يلقوا العير, وأراد الله ما أراد. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ) ، قال: أقبلت عير أهل مكة يريد: من الشأم فبلغ أهل المدينة ذلك, فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون العير. فبلغ ذلك أهل مكة, فسارعوا السير إليها، لا يغلب عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين, فكانوا أن يلقوا العير أحبَّ إليهم، وأيسر شوكة، وأحضر مغنمًا. فلما سبقت العير وفاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم , سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يريد القوم, فكره القوم مسيرهم لشوكةٍ في القوم. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، قال: أرادوا العير. قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في شهر ربيع الأول, فأغار كُرْز بن جابر الفهري يريد سَرْح المدينة حتى بلغ الصفراء, فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فركب في أثره, فسبقه كرز بن جابر. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم , فأقام سنَتَه. ثم إن أبا سفيان أقبل من الشأم في عير لقريش, حتى إذا كان قريبًا من بدر, نـزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فأوحى إليه: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، فنفر النبي صلى الله عليه وسلم بجميع المسلمين, وهم يومئذ ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلا منهم سبعون ومئتان من الأنصار, وسائرهم من المهاجرين. وبلغ أبا سفيان الخبر وهو بالبطم, فبعث إلى جميع قريش وهم بمكة, فنفرت قريش وغضبت. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، قال: كان جبريل عليه السلام قد نـزل فأخبره بمسير قريش وهي تريد عيرها, ووعده إما العيرَ, وإما قريشًا وذلك كان ببدر, وأخذوا السُّقاة وسألوهم, فأخبروهم, فذلك قوله: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، هم أهل مكة. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، إلى آخر الآية، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر وهم يريدون يعترضون عِيرًا لقريش. قال: وخرج الشيطان في صورة سُرَاقة بن جعشم, حتى أتى أهل مكة فاستغواهم، وقال: إنّ محمدًا وأصحابه قد عرضوا لعيركم! وقال: لا غالبَ لكم اليوم من الناس من مثلكم, وإنّي جار لكم أن تكونوا على ما يكره الله! فخرجوا ونادوا أن لا يتخلف منا أحد إلا هدمنا داره واستبحناه! وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالروحاء عينًا للقوم, فأخبره بهم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد وعدكم العير أو القوم! فكانت العير أحبّ إلى القوم من القوم, كان القتال في الشوكة, والعير ليس فيها قتال, وذلك قول الله عز وجل: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، قال: « الشوكة » ، القتال, و « غير الشوكة » ، العير. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال، حدثنا عبد الله بن وهب, عن ابن لهيعة, عن ابن أبي حبيب, عن أبي عمران, عن أبي أيوب قال: أنـزل الله جل وعز: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) ، فلما وعدنا إحدى الطائفتين أنها لنا، طابت أنفسنا: و « الطائفتان » ، عِير أبي سفيان, أو قريش. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب, عن أسلم أبي عمران الأنصاري, أحسبه قال: قال أبو أيوب: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، قالوا: « الشوكة » القوم و « غير الشوكة » العير، فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين، إما العير وإما القوم, طابت أنفسنا. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يعقوب بن محمد قال، حدثني غير واحد في قوله: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، إن « الشوكة » ، قريش. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، هي عير أبي سفيان, ودّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العير كانت لهم، وأن القتال صُرِف عنهم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، أي الغنيمة دون الحرب. وأما قوله: ( أنها لكم ) ، ففتحت على تكرير « يعد » , وذلك أن قوله: ( يعدكم الله ) ، قد عمل في « إحدى الطائفتين » . فتأويل الكلام: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ) ، يعدكم أن إحدى الطائفتين لكم, كما قال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً . [ سورة الزخرف : 66 ] . قال: ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) ، فأنث « ذات » ، لأنه مراد بها الطائفة. ومعنى الكلام: وتودون أن الطائفة التي هي غير ذات الشوكة تكون لكم, دون الطائفة ذات الشوكة. القول في تأويل قوله : وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ( 7 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يحق الإسلام ويعليه « بكلماته » , يقول: بأمره إياكم، أيها المؤمنون، بقتال الكفار, وأنتم تريدون الغنيمة، والمال وقوله: ( ويقطع دابر الكافرين ) ، يقول: يريد أن يَجُبَّ أصل الجاحدين توحيدَ الله. وقد بينا فيما مضى معنى « دابر » , وأنه المتأخر, وأن معنى: « قطعه » ، الإتيان على الجميع منهم. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قول الله: ( ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ) ، أن يقتل هؤلاء الذين أراد أن يقطع دابرهم, هذا خيرٌ لكم من العير. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ) ، أي: الوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم بدر. القول في تأويل قوله : لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( 8 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين، كيما يحق الحق, كيما يُعبد الله وحده دون الآلهة والأصنام, ويعزّ الإسلام, وذلك هو « تحقيق الحق » ( ويبطل الباطل ) ، يقول ويبطل عبادة الآلهة والأوثان والكفر، ولو كره ذلك الذين أجرموا فاكتسبوا المآثم والأوزار من الكفار. حدثنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) ، هم المشركون. وقيل: إن « الحق » في هذا الموضع، الله عز وجل. القول في تأويل قوله : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ( 9 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ، حين تستغيثون ربكم ف « إذْ » من صلة « يبطل » . ومعنى قوله: ( تستغيثون ربكم ) ، تستجيرون به من عدوكم, وتدعونه للنصر عليهم « فاستجاب لكم » فأجاب دعاءكم، بأني ممدكم بألف من الملائكة يُرْدِف بعضهم بعضًا، ويتلو بعضهم بعضًا. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . * ذكر الأخبار بذلك: حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك, عن عكرمة بن عمار قال، حدثني سماك الحنفي قال، سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر، ونظرَ رَسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وعِدّتهم, ونظر إلى أصحابه نَيِّفا على ثلاثمئة, فاستقبل القبلة, فجعل يدعو يقول: « اللهم أنجز لي ما وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض! » ، فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه, وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فوضع رداءه عليه, ثم التزمه من ورائه, ثم قال: كفاك يا نبي الله، بأبي وأمي، مناشدتَك ربك, فإنه سينجز لك ما وعدك! فأنـزل الله: ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: لما اصطفَّ القوم, قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره! ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال: يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا! حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم ربنا أنـزلت علي الكتاب, وأمرتني بالقتال, ووعدتني بالنصر, ولا تخلف الميعاد! فأتاه جبريلُ عليه السلام, فأنـزل الله: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْـزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ، [ سورة آل عمران: 124- 125 ] . حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن أبي إسحاق, عن زيد بن يُثَيْع قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول: اللهم انصر هذه العصابة, فإنك إن لم تفعل لن تعبد في الأرض! قال: فقال أبو بكر: بعضَ مناشدتك مُنْجِزَك ما وعدك. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويستغيثه ويستنصره, فأنـزل الله عليه الملائكة. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( إذ تستغيثون ربكم ) ، قال: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( إذ تستغيثون ربكم ) ، أي: بدعائكم، حين نظروا إلى كثرة عدوهم وقلة عددهم « فاستجاب لكم » ، بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائكم معه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن أبي حصين, عن أبي صالح قال: لما كان يوم بدر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد النِّشدة يدعو، فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، بعض نِشْدَتك, فوالله ليفيَنَّ الله لك بما وعدك! وأما قوله: ( أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) ، فقد بينا معناه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) ، يقول: المزيد, كما تقول: « ائت الرجل فزده كذا وكذا » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أحمد بن بشير, عن هارون بن عنترة [ عن أبيه ] ، عن أبيه, عن ابن عباس: ( مردفين ) ، قال: متتابعين. . . . . قال، حدثني أبي, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, [ عن أبيه ] ، عن ابن عباس, مثله. حدثني سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا محمد بن الصلت قال، حدثنا أبو كدينة, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس: ( ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) ، قال: وراء كل ملك ملك. حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن أبي كدينة يحيى بن المهلب, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس: ( مردفين ) ، قال: متتابعين. . . . . قال، حدثنا هانئ بن سعيد, عن حجاج بن أرطأة, عن قابوس قال: سمعت أبا ظبيان يقول: ( مردفين ) ، قال: الملائكة، بعضهم على إثر بعض. . . . . قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: ( مردفين ) ، قال: بعضهم على إثر بعض. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( مردفين ) ، قال: ممدِّين قال ابن جريج, عن عبد الله بن كثير قال: ( مردفين ) ، « الإرداف » ، الإمداد بهم. حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( بألف من الملائكة مردفين ) ، أي متتابعين. حدثنا [ محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور ] قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( بألف من الملائكة مردفين ) ، يتبع بعضهم بعضًا. حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( مردفين ) ، قال: « المردفين » ، بعضهم على إثر بعض, يتبع بعضهم بعضًا. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( بألف من الملائكة مردفين ) ، يقول: متتابعين، يوم بدر. واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: « مُرْدَفِينَ » ، بنصب الدال. وقرأه بعض المكيين وعامة قرأة الكوفيين والبصريين: ( مُرْدِفِينَ ) . وكان أبو عمرو يقرؤه كذلك, ويقول فيما ذكر عنه: هو من « أردف بعضهم بعضًا » . وأنكر هذا القول من قول أبي عمرو بعض أهل العلم بكلام العرب وقال: إنما « الإرداف » ، أن يحمل الرجل صاحبه خلفه. قال: ولم يسمع هذا في نعت الملائكة يوم بدر. واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى ذلك إذا قرئ بفتح الدال أو بكسرها. فقال بعض البصريين والكوفيين: معنى ذلك إذا قرئ بالكسر: أن الملائكة جاءت يتبع بعضهم بعضًا، على لغة من قال: « أردفته » . وقالوا: العرب تقول: « أردفته » . و « رَدِفته » , بمعنى « تبعته » و « أتبعته » ، واستشهد لصحة قولهم ذلك بما قال الشاعر: إِذَا الْجَـــوْزَاءُ أرْدَفَــتِ الثُّرَيَّــا ظَنَنْــتُ بِــآلِ فَاطِمَــةَ الظُّنُونَـا قالوا: فقال الشاعر: « أردفت » , وإنما أراد « ردفت » ، جاءت بعدها, لأن الجوزاء تجئ بعد الثريا. وقالوا معناه إذا قرئ ( مردَفين ) ، أنه مفعول بهم, كأن معناه: بألف من الملائكة يُرْدِف الله بعضهم بعضًا. وقال آخرون: معنى ذلك، إذا كسرت الدال: أردفت الملائكة بعضها بعضًا وإذا قرئ بفتحها: أردف الله المسلمين بهم. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ: ( بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) ، بكسر الدال، لإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من تأويلهم، أن معناه: يتبع بعضهم بعضًا، ومتتابعين ففي إجماعهم على ذلك من التأويل، الدليلُ الواضح على أن الصحيح من القراءة ما اخترنا في ذلك من كسر الدال, بمعنى: أردف بعض الملائكة بعضًا, ومسموع من العرب: « جئت مُرْدِفًا لفلان » ، أي: جئت بعده. وأما قول من قال: معنى ذلك إذا قرئ « مردَفين » بفتح الدال: أن الله أردفَ المسلمين بهم فقولٌ لا معنى له، إذ الذكر الذي في « مردفين » من الملائكة دون المؤمنين. وإنما معنى الكلام: أن يمدكم بألف من الملائكة يُرْدَف بعضهم ببعض. ثم حذف ذكر الفاعل, وأخرج الخبر غير مسمَّى فاعلُه, فقيل: ( مردَفين ) ، بمعنى: مردَفٌ بعض الملائكة ببعض. ولو كان الأمر على ما قاله من ذكرنا قوله، وجب أن يكون في « المردفين » ذكر المسلمين، لا ذكر الملائكة. وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر القرآن. وقد ذكر في ذلك قراءة أخرى, وهي ما:- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال عبد الله بن يزيد: « مُرَدِّفِينَ » و « مُرِدِّفِينَ » و « مُرُدِّفِينَ » , مثقَّل على معنى: « مُرْتَدِفين » . حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال، حدثني عبد العزيز بن عمران عن الزمعي, عن أبي الحويرث, عن محمد بن جبير, عن علي رضي الله عنه قال: نـزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر رضي الله عنه, ونـزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم , وأنا فيها. القول في تأويل قوله : وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 10 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لم يجعل الله إردافَ الملائكة بعضها بعضًا وتتابعها بالمصير إليكم، أيها المؤمنون، مددًا لكم « إلا بشرى » لكم، أي: بشارة لكم، تبشركم بنصر الله إياكم على أعدائكم « ولتطمئن به قلوبكم » ، يقول: ولتسكن قلوبكم بمجيئها إليكم, وتوقن بنصرة الله لكم « وما النصر إلا من عند الله » ، يقول: وما تنصرون على عدوكم، أيها المؤمنون، إلا أن ينصركم الله عليهم, لا بشدة بأسكم وقواكم, بل بنصر الله لكم, لأن ذلك بيده وإليه, ينصر من يشاء من خلقه « إن الله عزيز حكيم » يقول: إن الله الذي ينصركم، وبيده نصرُ من يشاء من خلقه « عزيز » ، لا يقهره شيء, ولا يغلبه غالب, بل يقهر كل شيء ويغلبه, لأنه خلقه « حكيم » ، يقول: حكيم في تدبيره ونصره من نصر, وخذلانه من خذل من خلقه, لا يدخل تدبيره وهن ولا خَلل. وروي عن عبد الله بن كثير عن مجاهد في ذلك، ما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال، أخبرني ابن كثير: انه سمع مجاهدًا يقول: ما مدّ النبي صلى الله عليه وسلم مما ذكر الله غيرُ ألف من الملائكة مردفين, وذكر « الثلاثة » و « الخمسة » بشرى, ما مدُّوا بأكثر من هذه الألف الذي ذكر الله عز وجل في « الأنفال » ، وأما « الثلاثة » و « الخمسة » , فكانت بشرَى. وقد أتينا على ذلك في « سورة آل عمران » ، بما فيه الكفاية. القول في تأويل قوله : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَـزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ( 11 ) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ، « إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ » ، ويعني بقوله: ( يغشيكم النعاس ) ، يلقي عليكم النعاس ( أمنة ) يقول: أمانًا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم, وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عز وجل. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن عاصم, عن أبي رزين, عن عبد الله قال: النعاس في القتال، أمنةٌ من الله عز وجل, وفي الصلاة من الشيطان. حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري في قوله: « يغشاكم النعاس أمنة منه » , عن عاصم, عن أبي رزين, عن عبد الله, بنحوه, قال: قال عبد الله، فذكر مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن عاصم, عن أبي رزين, عن عبد الله بنحوه. و « الأمنة » مصدر من قول القائل: « أمنت من كذا أمَنَة، وأمانًا، وأمْنًا » وكل ذلك بمعنى واحد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أمنة منه ) ، أمانًا من الله عز وجل. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أمنة ) ، قال: أمنًا من الله. حدثني يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قوله: ( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ) ، قال: أنـزل الله عز وجل النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أحد. فقرأ: ثُمَّ أَنْـزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا [ سورة آل عمران: 154 ] . واختلفت القرأة في قراءة قوله: « إذ يغشيكم النعاس أمنة منه » ، فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة: « يُغْشِيكُمُ النُّعَاسَ » بضم الياء وتخفيف الشين، ونصب « النعاس » , من: « أغشاهم الله النعاس فهو يغشيهم » . وقرأته عامة قرأة الكوفيين: ( يُغَشِّيكُمُ ) ، بضم الياء وتشديد الشين، من: « غشّاهم الله النعاس فهو يغشِّيهم » . وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: « يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ » ، بفتح الياء ورفع « النعاس » , بمعنى: « غشيهم النعاس فهو يغشاهم » . واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله في « آل عمران » : يَغْشَى طَائِفَةً [ سورة آل عمران: 154 ] . قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب: ( إِذْ يُغَشِّيكُمْ ) ، على ما ذكرت من قراءة الكوفيين, لإجماع جميع القراء على قراءة قوله: ( وينـزل عليكم من السماء ماء ) ، بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل الله عز وجل, فكذلك الواجب أن يكون كذلك ( يغشيكم ) ، إذ كان قوله: ( وينـزل ) ، عطفًا على « يغشي » , ليكون الكلام متسقًا على نحو واحد. وأما قوله عز وجل: ( وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) ، فإن ذلك مطرٌ أنـزله الله من السماء يوم بدر ليطهر به المؤمنين لصلاتهم، لأنهم كانوا أصبحوا يومئذ مُجْنبِين على غير ماء. فلما أنـزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا، وكان الشيطان قد وسوس إليهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء, فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر. فذلك ربطه على قلوبهم، وتقويته أسبابهم، وتثبيته بذلك المطر أقدامهم, لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملة ميثثاء، فلبَّدها المطر، حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها, توطئةً من الله عز وجل لنبيه عليه السلام وأوليائه، أسبابَ التمكن من عدوهم والظفر بهم. وبمثل الذي قلنا تتابعت الأخبار عن [ أصحاب ] رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل العلم. * ذكر الأخبار الواردة بذلك: حدثنا هارون بن إسحاق قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق, عن حارثة, عن علي رضي الله عنه قال: أصابنا من الليل طَشّ من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحَجَف نستظل تحتها من المطر, وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: « اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض! » فلما أن طلع الفجر، نادى: « الصلاة عبادَ الله! » ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف, فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم , وحرض على القتال. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث وأبو خالد, عن داود, عن سعيد بن المسيب: ( ماء ليطهركم به ) ، قال: طش يوم بدر. حدثني الحسن بن يزيد قال، حدثنا حفص, عن داود, عن سعيد, بنحوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن أبي عدي وعبد الأعلى, عن داود, عن الشعبي وسعيد بن المسيب, قالا طش يوم بدر. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن داود, عن الشعبي وسعيد بن المسيب في هذه الآية: ( ينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان ) ، قالا طشٌّ كان يوم بدر, فثبَّت الله به الأقدام. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إذ يغشاكم النعاس أمنة منه » الآية, ذكر لنا أنهم مُطِروا يومئذ حتى سال الوادي ماءً, واقتتلوا على كثيب أعفر, فلبَّده الله بالماء, وشرب المسلمون وتوضأوا وسقوْا, وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال، نـزل النبي صلى الله عليه وسلم يعني: حين سار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دَعْصَة ، فأصاب المسلمين ضعف شديد, وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ, فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله, وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلُّون مُجْنِبين! فأمطر الله عليهم مطرًا شديدًا, فشرب المسلمون وتطهروا, وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر, ومشى الناس عليه والدوابّ، فساروا إلى القوم, وأمدّ الله نبيه بألف من الملائكة, فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنِّبةً, وميكائيل في خمسمائة مجنبةً. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « إذ يغشاكم النعاس أمنة منه » إلى قوله: ( ويثبت به الأقدام ) ، وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها, نـزلوا على الماء يوم بدر, فغلبوا المؤمنين عليه, فأصاب المؤمنين الظمأ, فجعلوا يصلون مجنبين مُحْدِثين, حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنـزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي, فشرب المسلمون، وملئوا الأسقية, وسقوا الرِّكاب، واغتسلوا من الجنابة, فجعل الله في ذلك طهورًا, وثبت الأقدام. وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رَملة، فبعث الله عليها المطر، فضربها حتى اشتدَّت, وثبتت عليها الأقدام. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون, فسبقهم المشركون إلى ماء بدر فنـزلوا عليه, وانصرف أبو سفيان وأصحابه تِلْقاء البحر, فانطلقوا. قال: فنـزلوا على أعلى الوادي, ونـزل محمد صلى الله عليه وسلم في أسفله. فكان الرجل من أصحاب محمد عليه السلام يُجْنِب فلا يقدر على الماء, فصلي جُنُبًا, فألقى الشيطان في قلوبهم فقال: كيف ترجون أن تظهروا عليهم، وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنبًا على غير وضوء!، قال: فأرسل الله عليهم المطر, فاغتسلوا وتوضأوا وشربوا, واشتدّت لهم الأرض, وكانت بطحاء تدخل فيها أرجلهم, فاشتدت لهم من المطر، واشتدُّوا عليها. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: غلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمئ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين, وكانت بينهم رمال, فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزَن, فقال: تزعمون أن فيكم نبيًّا، وأنكم أولياء الله, وقد غلبتم على الماء، وتصلون مُجْنبين محدثين! قال: فأنـزل الله عز وجل ماء من السماء, فسال كل وادٍ, فشرب المسلمون وتطهروا, وثبتت أقدامهم, وذهبت وسوسة الشيطان. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( ماء ليطهركم به ) ، قال: المطر، أنـزله عليهم قبل النعاس ( رجز الشيطان ) ، قال: وسوسته. قال: فأطفأ بالمطر الغبار, والتبدت به الأرض, وطابت به أنفسهم, وثبتت به أقدامهم. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ماء ليطهركم به ) ، أنـزله عليهم قبل النعاس, طبَّق بالمطر الغبار, ولبّد به الأرض, وطابت به أنفسهم, وثبتت به الأقدام. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ماء ليطهركم به ) ، قال: القطر ( ويذهب عنكم رجز الشيطان ) ، وساوسه. أطفأ بالمطر الغبار, ولبد به الأرض, وطابت به أنفسهم, وثبتت به أقدامهم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « رجز الشيطان » ، وسوسته. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ) ، قال: هذا يوم بدر أنـزل عليهم القطر ( وليذهب عنكم رجز الشيطان ) ، الذي ألقى في قلوبكم: ليس لكم بهؤلاء طاقة! ( وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إذ يغشاكم النعاس أمنة منه ) ، إلى قوله: ( ويثبت به الأقدام ) ، إن المشركين نـزلوا بالماء يوم بدر, وغلبوا المسلمين عليه, فأصاب المسلمين الظمأ, وصلوا محدثين مجنبين, فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزَن, ووسوس فيها: إنكم تزعمون أنكم أولياء الله، وأن محمدًا نبي الله, وقد غلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين! فأمطر الله السماء حتى سال كل واد, فشرب المسلمون وملأوا أسقيتهم، وسقوا دوابهم، واغتسلوا من الجنابة, وثبت الله به الأقدام. وذلك أنهم كان بينهم وبين عدوهم رملة لا تجوزها الدواب, ولا يمشي فيها الماشي إلا بجَهد, فضربها الله بالمطر حتى اشتدت، وثبتت فيها الأقدام. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « إذ يغشاكم النعاس أمنة منه » ، أي: أنـزلت عليكم الأمنة حتى نمتم لا تخافون, « وينـزل عليكم من السماء ماء » ، للمطر الذي أصابهم تلك الليلة, فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء, وخلَّي سبيل المؤمنين إليه ( ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ) ، ليذهب عنهم شك الشيطان، بتخويفه إياهم عدوهم, واستجلاد الأرض لهم, حتى انتهوا إلى منـزلهم الذي سبق إليه عدوهم. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة، وقيامهم يصلون بغير وضوء, فقال: « إذ يغشيكم النعاسَ أمنة منه وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام » ، حتى تشتدون على الرمل, وهو كهيئة الأرض. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب وقال مرة: قرأ ( وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهِّركم به ) ، فقال سعيد: إنما هي: « وَيُنَـزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ » . قال: وقال الشعبي: كان ذلك طشًا يوم بدر. وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة, أن مجاز قوله: ( ويثبت به الأقدام ) ، ويفرغ عليهم الصبر وينـزله عليهم, فيثبتون لعدوهم. وذلك قولٌ خِلافٌ لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين, وحَسْبُ قولٍ خطًأ أن يكون خلافًا لقول من ذكرنا، وقد بينا أقوالهم فيه, وأن معناه: ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابِّهم. وأما قوله: ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم ) ، أنصركم ( فثبتوا الذين آمنوا ) ، يقول: قوُّوا عزمهم, وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين. وقد قيل: إن تثبيت الملائكة المؤمنين، كان حضورهم حربهم معهم. وقيل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم. وقيل: كان ذلك بأن الملك يأتي الرجلَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن! فيحدِّث المسلمون بعضهم بعضًا بذلك, فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته. وأما ابن إسحاق, فإنه قال بما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( فثبتوا الذين آمنوا ) ، أي: فآزروا الذين آمنوا. القول في تأويل قوله : سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ( 12 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: سَأرْعِبُ قلوب الذين كفروا بي، أيها المؤمنون، منكم, وأملأها فرقًا حتى ينهزموا عنكم « فاضربوا فوق الأعناق » . واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( فوق الأعناق ) . فقال بعضهم: معناه: فاضربوا الأعناق. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: ( فاضربوا فوق الأعناق ) ، قال: اضربوا الأعناق. . . . . قال، حدثنا أبي, عن المسعودي, عن القاسم, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أبعث لأعذِّب بعذاب الله, إنما بعثت لضرب الأعناق وشدِّ الوَثَاق. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( فاضربوا فوق الأعناق ) ، يقول: اضربوا الرقاب. واحتج قائلو هذه المقالة بأن العرب تقول: « رأيت نفس فلان » , بمعنى: رأيته. قالوا: فكذلك قوله: ( فاضربوا فوق الأعناق ) ، إنما معناه: فاضربوا الأعناق. وقال آخرون: بل معنى ذلك، فاضربوا الرؤوس. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين, عن يزيد, عن عكرمة: ( فاضربوا فوق الأعناق ) ، قال: الرؤوس. واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن الذي « فوق الأعناق » ، الرؤوس. قالوا: وغير جائز أن تقول: « فوق الأعناق » , فيكون معناه: « الأعناق » . قالوا: ولو جاز ذلك، جاز أن يقال « تحت الأعناق » , فيكون معناه: « الأعناق » . قالوا: وذلك خلاف المعقول من الخطاب, وقلبٌ لمعاني الكلام. وقال آخرون: معنى ذلك: فاضربوا على الأعناق، وقالوا: « على » و « فوق » معناهما متقاربان, فجاز أن يوضع أحدهما مكان الآخر. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: أن الله أمر المؤمنين، مُعَلِّمَهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف: أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل. وقوله: ( فوق الأعناق ) ، محتمل أن يكون مرادًا به الرؤوس, ومحتمل أن يكون مرادًا له: من فوق جلدة الأعناق, فيكون معناه: على الأعناق. وإذا احتمل ذلك، صح قول من قال، معناه: الأعناق. وإذا كان الأمر محتملا ما ذكرنا من التأويل, لم يكن لنا أن نوجِّهه إلى بعض معانيه دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها, ولا حجة تدلّ على خصوصه, فالواجب أن يقال: إن الله أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم، أصحابَ نبيه صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدرًا. وأما قوله: ( واضربوا منهم كل بنان ) ، فإن معناه: واضربوا، أيها المؤمنون، من عدوكم كل طَرَف ومَفْصِل من أطراف أيديهم وأرجلهم. و « البنان » : جمع « بنانة » , وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين, ومن ذلك قول الشاعر: أَلا لَيْتَنِــي قَطَّعْــتُ مِنِّــي بَنَانَـةً وَلاقَيْتُـهُ فِـي الْبَيْـتِ يَقْظَـانَ حاذِرَا يعني ب « البنانة » واحدة « البنان » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: ( واضربوا منهم كل بنان ) ، قال: كل مفصِل. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: ( واضربوا منهم كل بنان ) ، قال: المفاصل. . . . . قال: حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: ( واضربوا منهم كل بنان ) ، قال: كل مفصل. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين, عن يزيد, عن عكرمة: ( واضربوا منهم كل بنان ) ، قال: الأطراف. ويقال: كل مفصل. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( واضربوا منهم كل بنان ) ، يعني: بالبنان، الأطراف. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( واضربوا منهم كل بنان ) ، قال: الأطراف. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( واضربوا منهم كل بنان ) ، يعني: الأطراف. القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 13 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( ذلك بأنهم ) ، هذا الفعل من ضرب هؤلاء الكفرة فوق الأعناق وضرب كل بنان منهم, جزاءٌ لهم بشقاقهم الله ورسوله, وعقاب لهم عليه. ومعنى قوله: ( شاقوا الله ورسوله ) ، فارقوا أمرَ الله ورسوله وعصوهما, وأطاعوا أمرَ الشيطان. ومعنى قوله: ( ومن يشاقق الله ورسوله ) ، ومن يخالف أمرَ الله وأمر رسوله ففارق طاعتهما ( فإن الله شديد العقاب ) ، له. وشدة عقابه له: في الدنيا، إحلالُه به ما كان يحلّ بأعدائه من النقم, وفي الآخرة، الخلودُ في نار جهنم وحذف « له » من الكلام، لدلالة الكلام عليها. القول في تأويل قوله : ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ( 14 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هذا العقابُ الذي عجلته لكم، أيها الكافرون المشاقون لله ورسوله، في الدنيا, من الضرب فوق الأعناق منكم, وضرب كل بنان، بأيدي أوليائي المؤمنين, فذوقوه عاجلا واعلموا أن لكم في الآجل والمعاد عذابَ النار. ولفتح « أن » من قوله: ( وأن للكافرين ) ، من الإعراب وجهان: أحدهما الرفع, والآخر: النصبُ. فأما الرفع، فبمعنى: ذلكم فذوقوه, ذلكم وأن للكافرين عذاب النار بنية تكرير « ذلكم » , كأنه قيل: ذلكم الأمر، وهذا. وأما النصب: فمن وجهين: أحدهما: ذلكم فذوقوه, واعلموا, أو: وأيقنوا أن للكافرين فيكون نصبه بنية فعل مضمر, قال الشاعر: وَرَأَيْــتِ زَوْجَــكِ فِــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا بمعنى: وحاملا رمحًا. والآخر: بمعنى: ذلكم فذوقوه, وبأن للكافرين عذاب النار ثم حذفت « الباء » ، فنصبت. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ( 15 ) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 16 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ( إذا لقيتم الذين كفروا ) في القتال ( زحفًا ) ، يقول: متزاحفًا بعضكم إلى بعض و « التزاحف » ، التداني والتقارب « فلا تولوهم الأدبار » ، يقول: فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم, ولكن اثبتوا لهم، فإن الله معكم عليهم « ومن يولهم يومئذ دبره » ، يقول: ومن يولهم منكم ظهره ( إلا متحرفًا لقتال ) ، يقول: إلا مستطردًا لقتال عدوه، يطلب عورةً له يمكنه إصابتها فيكرّ عليه ( أو متحيزًا إلى فئة ) أو: إلا أن يوليهم ظهره متحيزًا إلى فئة, يقول: صائرًا إلى حَيِّز المؤمنين الذين يفيئون به معهم إليهم لقتالهم، ويرجعون به معهم إليهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: ( إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة ) ، قال: « المتحرف » ، المتقدم من أصحابه ليرى غِرَّة من العدوّ فيصيبها. قال، و « المتحيز » ، الفارّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه. قال الضحاك: وإنما هذا وعيد من الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أن لا يفروا. وإنما كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام و أصحابه فئتَهم. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة ) ، أما « المتحرف » ، يقول: إلا مستطردًا, يريد العودة ( أو متحيزًا إلى فئة ) ، قال: « المتحيز » ، إلى الإمام وجنده إن هو كرّ فلم يكن له بهم طاقة, ولا يُعذَر الناس وإن كثروا أن يُوَلُّوا عن الإمام. واختلف أهل العلم في حكم قول الله عز وجل: ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم ) ، هل هو خاص في أهل بدر, أم هو في المؤمنين جميعًا؟ فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة, لأنه لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوه وينهزموا عنه، فأما اليومَ فلهم الانهزام. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن أبي نضرة في قول الله عز وجل: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، قال: ذاك يوم بدر, ولم يكن لهم أن ينحازوا, ولو انحاز أحدٌ لم ينحز إلا إلي قال أبو موسى: يعني: إلى المشركين. حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد, عن داود, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد قوله عز وجل: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين, ولم يكن يومئذ مسلم في الأرض غيرهم. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن مفضل قال، حدثنا داود, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد قال: نـزلت في يوم بدر: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) . حدثني ابن المثنى, وعلي بن مسلم الطوسي قال ابن المثنى: حدثني عبد الصمد وقال علي: حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة, عن داود, يعني ابن أبي هند, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، قال: يوم بدر قال أبو موسى: حدثت أن في كتاب غندر هذا الحديث: عن داود, عن الشعبي, عن أبي سعيد. حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا علي بن عاصم, عن داود بن أبي هند, عن أبي نضرة, عن أبي سعيد الخدري قال: إنما كان ذلك يوم بدر، لم يكن للمسلمين فئة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما بعد ذلك, فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود, عن أبي نضرة: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، قال: هذه نـزلت في أهل بدر. حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن قوله: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، أكان ذلك اليوم، أم هو بعد؟ قال: وكتب إليّ: « إنما كان ذلك يوم بدر » . حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد, عن سفيان, عن جويبر, عن الضحاك قال: إنما كان الفرار يوم بدر, ولم يكن لهم ملجأ يلجأون إليه. فأما اليوم، فليس فرارً. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن الربيع, عن الحسن: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة, ليس الفرار من الزحف من الكبائر. . . . . قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن الضحاك: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة. . . . . قال، حدثنا روح بن عبادة, عن حبيب بن الشهيد, عن الحسن: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، قال: نـزلت في أهل بدر. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، قال: ذلكم يوم بدر. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك. عن المبارك بن فضالة, عن الحسن: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، قال: ذلك يوم بدر. فأما اليوم، فإن انحاز إلى فئة أو مصر أحسبه قال: فلا بأس به. حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان, عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، قال: إنما هذا يوم بدر. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك, عن ابن لهيعة قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النارَ. قال: ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ) ، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [ سورة آل عمران: 155 ] . ثم كان حنين، بعد ذلك بسبع سنين فقال: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [ سورة التوبة: 25 ] : ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [ سورة التوبة: 27 ] . حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون, عن محمد, أن عمر رحمة الله عليه بلغه قتل أبي عبيدٍ فقال: لو تحيز إليّ! إنْ كنتُ لَفِئَةً! حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك, عن جرير بن حازم قال، حدثني قيس بن سعد قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: ( ومن يولهم يومئذ دبره ) ، قال: هذه منسوخة بالآية التي في الأنفال: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، [ سورة الأنفال: 66 ] . قال: وليس لقوم أن يفرُّوا من مثلَيْهم. قال: ونسخت تلك إلا هذه العِدّة. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن سليمان التيمي, عن أبي عثمان قال: لما قتل أبو عبيد، جاء الخبر إلى عمر فقال: يا أيها الناس، أنا فئتكم. . . . . قال: ابن المبارك, عن معمر وسفيان الثوري وابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كل مسلم. وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزمًا. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الشرك بالله, والفرار من الزحف، لأن الله عز وجل يقول: ( ومن يولهم يومئذ دبره... فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) . قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في هذه الآية بالصواب عندي قولُ من قال: حكمها محكم, وأنها نـزلت في أهل بدر, وحكمها ثابت في جميع المؤمنين, وأن الله حرّم على المؤمنين إذا لقوا العدو، أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرفٍ القتال, أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام, وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتالٍ منهزمًا بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما, فقد استوجب من الله وعيده، إلا أن يتفضل عليه بعفوه. وإنما قلنا هي محكمة غير منسوخة, لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره: أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ، وله في غير النسخ وجه، إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر يقطع العذر، أو حجة عقل, ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قول الله عز وجل: ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة ) . وأما قوله: ( فقد باء بغضب من الله ) ، يقول: فقد رجع بغضب من الله ( ومأواه جهنم ) ، يقول: ومصيره الذي يصير إليه في معاده يوم القيامة جهنم « وبئس المصير » , يقول: وبئس الموضع الذي يصير إليه ذلك المصير. القول في تأويل قوله : فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 17 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله، ممن شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش: فلم تقتلوا المشركين، أيها المؤمنون، أنتم, ولكن الله قتلهم. وأضاف جل ثناؤه قتلهم إلى نفسه, ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين, إذ كان جل ثناؤه هو مسبِّب قتلهم, وعن أمره كان قتالُ المؤمنين إياهم. ففي ذلك أدلُّ الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صُنْعٌ به وَصَلوا إليها. وكذلك قوله لنبيه عليه السلام: ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ، فأضاف الرميَ إلى نبي الله, ثم نفاه عنه, وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي, إذ كان جل ثناؤه هو الموصل المرميَّ به إلى الذين رُمُوا به من المشركين, والمسبِّب الرمية لرسوله. فيقال للمنكرين ما ذكرنا قد علمتم إضافة الله رَمْيِ نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نفسه، بعد وصفه نبيَّه به، وإضافته إليه، وذلك فعلٌ واحد، كان من الله تسبيبه وتسديده, ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذفُ والإرسال, فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة: من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب, ومن الخلق الاكتسابُ بالقُوى؟ فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( فلم تقتلوهم ) ، لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال هذا: « قتلت » , وهذا: « قتلت » ( وما رميت إذ رميت ) ، قال لمحمد حين حَصَب الكفار. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد,بنحوه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر عن قتادة: ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ، قال: رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء يوم بدر. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب, عن عكرمة قال: ما وقع منها شيء إلا في عين رجل. حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة قال: لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا قال: هذه مصارعهم! ووَجد المشركون النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه ونـزل عليه, فلما طلعوا عليه زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « هذه قريش قد جاءت بجَلَبتها وفخرها، تحادُّك وتكذب رسولك, اللهم إني أسألك ما وعدتني! » . فلما أقبلوا استقبلهم, فحثا في وجوههم, فهزمهم الله عز وجل. حدثنا أحمد بن منصور قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن عمران قال، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة, عن يزيد بن عبد الله, عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة, عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر, سمعنا صوتًا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طَسْت, ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن قيس، ومحمد بن كعب القرظي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض, أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم, وقال: « شاهت الوجوه! » ، فدخلت في أعينهم كلهم, وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم, وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنـزل الله: ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ، الآية, إلى: ( إن الله سميع عليم ) . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وما رميت إذ رميت ) ، الآية, ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاثة أحجار ورمى بها وجوه الكفار, فهزموا عند الحجر الثالث. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى الجمعان يوم بدر لعلي: « أعطني حصًا من الأرض » ، فناوله حصى عليه تراب، فرمى به وجوه القوم, فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، ثم رَدِفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، فذكر رميةَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ، قال: هذا يوم بدر, أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات, فرمى بحصاة في ميمنة القوم، وحصاة في ميسرة القوم، وحصاة بين أظهرهم، وقال: « شاهت الوجوه! » ، وانهزموا, فذلك قول الله عز وجل: ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يوم بدر فقال: يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا! فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب! فأخذ قبضة من التراب, فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصابَ عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة, فولُّوا مدبرين. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: قال الله عز وجل في رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصباء من يده حين رماهم: ( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ) ، أي: لم يكن ذلك برميتك، لولا الذي جعل الله فيها من نصرك, وما ألقى في صدور عدوك منها حين هزمهم الله. وروي عن الزهري في ذلك قول خلاف هذه الأقوال, وهو ما:- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري: ( وما رميت إذ رميت ) ، قال: جاء أبي بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل, فقال: « آلله محيي هذا، يا محمد، وهو رميم؟ » ، وهو يفتُّ العظم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يحييه الله, ثم يميتك, ثم يدخلك النار! قال: فلما كان يوم أحد قال: والله لأقتلن محمدًا إذا رأيته! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله. وأما قوله: ( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا ) ، فإنّ معناه: وكي ينعم على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم, ويغنّمهم ما معهم, ويكتب لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذلك « البلاء الحسن » , رمي الله هؤلاء المشركين، ويعني ب « البلاء الحسن » ، النعمة الحسنة الجميلة, وهي ما وصفت وما في معناه. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال في قوله: ( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا ) ، أي ليعرِّف المؤمنين من نعمه عليهم، في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم, ليعرفوا بذلك حقه، وليشكروا بذلك نعمته. وقوله: ( إن الله سميع عليم ) ، يعني: إن الله سميع، أيها المؤمنون، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومناشدته ربه، ومسألته إياه إهلاكَ عدوه وعدوكم، فقيل له: إنْ يَكُ إلا جحْش ! قال: أليسَ قال: أنا أقتلك؟ والله لو قالها لجميع الخلق لماتوا! « » ولقِيلكم وقيل جميع خلقه « عليم » ، بذلك كله، وبما فيه صلاحكم وصلاح عباده, وغير ذلك من الأشياء، محيط به, فاتقوه وأطيعوا أمرَه وأمر رسوله. القول في تأويل قوله : ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ( 18 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ذلكم ) ، هذا الفعل من قتل المشركين ورميهم حتى انهزموا, وابتلاء المؤمنين البلاء الحسن بالظفر بهم، وإمكانهم من قتلهم وأسرهم فعلنا الذي فعلنا ( وأنّ الله موهن كيد الكافرين ) ، يقول: واعلموا أن الله مع ذلك مُضْعِف « كيد الكافرين » , يعنى: مكرهم, حتى يَذِلُّوا وينقادوا للحق، أو يُهْلَكوا. وفى فتح « أن » من الوجوه ما في قوله: ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ ، [ سورة الأنفال: 14 ] ، وقد بينته هنالك. وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: ( موهن ) . فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والبصريين: « مُوَهِّنُ » بالتشديد, من: « وهَّنت الشيء » ، ضعَّفته. وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( مُوهِنُ ) ، من أوهنته فأنا موهنه « , بمعنى: أضعفته. » قال أبو جعفر: والتشديد في ذلك أعجبُ إليّ، لأن الله تعالى كان ينقض ما يبرمه المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, عقدًا بعد عَقْدٍ, وشيئًا بعد شيء, وإن كان الآخرُ وجهًا صحيحًا. القول في تأويل قوله : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ( 19 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، يعني: إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم، وأظلم الفئتين, وتستنصروه عليه, فقد جاءكم حكم الله، ونصرُه المظلوم على الظالم, والمحق على المبطل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء. . . . . قال: حدثنا سويد بن عمرو الكلبي, عن حماد بن زيد, عن أيوب, عن عكرمة: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، يعني بذلك المشركين: إن تستنصروا فقد جاءكم المدد. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير, عن ابن عباس قوله: ( إن تستفتحوا ) ، قال: إن تستقضوا القضاء وإنه كان يقول: ( وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ) ، قلت: للمشركين؟ قال: لا نعلمه إلا ذلك حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، قال: كفار قريش في قولهم: « ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه » ! ففُتح بينهم يوم بدر. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، قال: استفتح أبو جهل فقال: اللهم يعني محمدًا ونفسه « أيُّنا كان أفجرَ لك، اللهم وأقطعَ للرحم، فأحِنْه اليوم » ! قال الله: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري في قوله: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، قال: استفتح أبو جهل بن هشام فقال: « اللهم أيُّنا كان أفجر لك وأقطعَ للرحم، فأحنه اليوم! » يعني محمدًا عليه الصلاة والسلام ونفسه. قال الله عز وجل: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، فضربه ابنا عفراء: عوف ومعوِّذ, وأجهزَ عليه ابن مسعود. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثنى عقيل, عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير العدوي، حليف بني زهرة, أن المستفتح يومئذ أبو جهل, وأنه قال حين التقى القوم: « أينا أقطعُ للرحم، وآتانا بما لا يُعرف، فأحِنْه الغداة » ! فكان ذلك استفتاحه, فأنـزل الله في ذلك: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، الآية. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، الآية, يقول: قد كانت بدرٌ قضاءً وعِبْرةً لمن اعتبر. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة, أخذوا بأستار الكعبة واستنصروا الله وقالوا: « اللهم انصر أعز الجندين, وأكرم الفئتين, وخير القبيلتين » ! فقال الله: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، يقول: نصرت ما قلتم, وهو محمد صلى الله عليه وسلم . حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) إلى قوله: ( وأن الله مع المؤمنين ) ، وذلك حين خرج المشركون ينظرون عِيرَهم, وإن أهلَ العير، أبا سفيان وأصحابه، أرسلوا إلى المشركين بمكة يستنصرونهم, فقال أبو جهل: « أينا كان خيرًا عندك فانصره » ! وهو قوله: ( إن تستفتحوا ) ، يقول: تستنصروا. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، قال: إن تستفتحوا العذاب, فعُذِّبوا يوم بدر. قال: وكان استفتاحهم بمكة, قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، [ سورة الأنفال: 32 ] . قال: فجاءهم العذاب يوم بدر. وأخبر عن يوم أحد: ( وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن مطرف, عن عطية قال: قال أبو جهل يوم بدر: « اللهم انصر أهدى الفئتين, وخير الفئتين وأفضل » فنـزلت: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) . . . . . قال، حدثنا عبد الأعلى, عن معمر, عن الزهري: أن أبا جهل هو الذي استفتح يوم بدر وقال: « اللهم أينا كان أفجر وأقطع لرحمه, فأحِنْه اليوم » ! فأنـزل الله: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) . . . . . قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن ابن إسحاق, عن الزهري, عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: أن أبا جهل, قال يوم بدر: اللهمّ أقطعنا لرحمه, وآتانا بما لا نعرف, فأحنه الغداة! « . وكان ذلك استفتاحًا منه, فنـزلت: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، الآية. » . . . . قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن إبراهيم بن سعد, عن صالح بن كيسان, عن الزهري, عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: كان المستفتح يوم بدر أبا جهل, قال: « اللهم أقطعنا للرحم, وآتانا بما لا نعرف, فأحنه الغداة! » ، فأنـزل الله: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري, عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير, حليف بني زهرة قال: لما التقى الناس, ودنا بعضهم من بعض, قال أبو جهل: « اللهم أقطعنا للرحم, وآتانا بما لا نعرف, فأحنه الغداة! » ، فكان هو المستفتح على نفسه قال ابن إسحاق: فقال الله: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، لقول أبي جهل: « اللهم أقطعنا للرحم, وآتانا بما لا نعرف, فأحنه للغداة! » قال: « الاستفتاح » ، الإنصاف في الدعاء. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن يزيد بن رومان وغيره: قال أبو جهل يوم بدر: « اللهم انصر أحب الدينين إليك, دينَنا العتيق, أم دينهم الحديث » ! فأنـزل الله: ( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ) ، إلى قوله: ( وأن الله مع المؤمنين ) . وأما قوله: ( وإن تنتهوا فهو خير لكم ) ، فإنه يقول: « وإن تنتهوا » ، يا معشر قريش، وجماعة الكفار، عن الكفر بالله ورسوله, وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به « فهو خير لكم » ، في دنياكم وآخرتكم ( وإن تعودوا نعد ) ، يقول: وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال أتباعه المؤمنين « نعد » ، أي: بمثل الواقعة التي أوقعت بكم يوم بدر. وقوله: ( ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت ) ، يقول: وإن تعودوا نعد لهلاككم بأيدي أوليائي وهزيمتكم, ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسَبْيكم وهزمكم « فئتكم شيئًا ولو كثرت » , يعني: جندهم وجماعتهم من المشركين, كما لم يغنوا عنهم يوم بدر مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئًا ( وأن الله مع المؤمنين ) ، يقول جل ذكره: وأن الله مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم, ينصرهم عليهم, أو يظهرهم كما أظهرهم يوم بدر على المشركين. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق في قوله: ( وإن تنتهوا فهو خير لكم ) ، قال: يقول لقريش « وإن تعودوا نعد » ، لمثل الواقعة التي أصابتكم يوم بدر ( ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ) ، أي: وإن كثر عددكم في أنفسكم لن يغني عنكم شيئًا. وإني مع المؤمنين، أنصرهم على من خالفهم. وقد قيل: إن معنى قوله: ( وإن تعودوا نعد ) ، وإن تعودوا للاستفتاح، نعد لفتح محمد صلى الله عليه وسلم . وهذا القول لا معنى له، لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه عليه السلام حين أذن له في حرب أعدائه إظهارَ دينه وإعلاءَ كلمته، من قبل أن يستفتح أبو جهل وحزبه, فلا وجه لأن يقال والأمر كذلك: « إن تنتهوا عن الاستفتاح فهو خير لكم، وإن تعودوا نعد » ، لأن الله قد كان وعد نبيه صلى الله عليه وسلم الفتح بقوله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، [ سورة الحج: 39 ] ، استفتح المشركون أو لم يستفتحوا. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن تعودوا نعد ) ، إن تستفتحوا الثانية نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم ( ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ) ، محمد وأصحابه. واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( وأن الله مع المؤمنين ) . ففتحها عامة قرأة أهل المدينة بمعنى: ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله لمع المؤمنين فعطف ب « أن » على موضع « ولو كثرت » ، كأنه قال: لكثرتها, ولأن الله مع المؤمنين. ويكون موضع « أن » حينئذ نصبًا على هذا القول. وكان بعض أهل العربية يزعم أن فتحها إذا فتحت، على: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ , ( وأن الله مع المؤمنين ) ، عطفًا بالأخرى على الأولى. وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين: « وَإِنَّ اللهَ » ، بكسر الألف على الابتداء, واعتلوا بأنها في قراءة عبد الله: « وإنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ » . قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب, قراءة من كسر « إن » للابتداء, لتقضِّي الخبر قبل ذلك عما يقتضي قوله: ( وأن الله مع المؤمنين ) . القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ( 20 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ( أطيعوا الله ورسوله ) ، فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ( ولا تولوا عنه ) ، يقول: ولا تدبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفين أمره ونهيه « وأنتم تسمعون » أمرَه إياكم ونهيه, وأنتم به مؤمنون، كما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ) ، أي: لا تخالفوا أمره، وأنتم تسمعون لقوله, وتزعمون أنكم منه. القول في تأويل قوله : وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ( 21 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا، أيها المؤمنون، في مخالفة رسول الله صلى الله عليهوسلمه، كالمشركين الذين إذا سمعوا كتاب الله يتلى عليهم قالوا: « قد سمعنا » ، بآذاننا « وهم لا يسمعون » ، يقول: وهم لا يعتبرون ما يسمعون بآذانهم ولا ينتفعون به، لإعراضهم عنه, وتركهم أن يُوعُوه قلوبهم ويتدبروه. فجعلهم الله، إذ لم ينتفعوا بمواعظ القرآن وإن كانوا قد سمعوها بآذانهم, بمنـزلة من لم يسمعها. يقول جل ثناؤه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا أنتم في الإعراض عن أمر رسول الله، وترك الانتهاء إليه وأنتم تسمعونه بآذانكم، كهؤلاء المشركين الذين يسمعون مواعظ كتاب الله بآذانهم, ويقولون: « قد سمعنا » , وهم عن الاستماع لها والاتعاظ بها معرضون كمن لا يسمَعُها. وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) ، أي: كالمنافقين الذين يظهرون له الطاعة, ويُسِرُّون المعصية. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وهم لا يسمعون ) ، قال: عاصون. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله. قال أبو جعفر: وللذي قال ابن إسحاق وجه, ولكن قوله: ( ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ) ، في سياق قَصَص المشركين, ويتلوه الخبر عنهم بذمّهم, وهو قوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ، فلأن يكون ما بينهما خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم. القول في تأويل قوله : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ( 22 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنّ شر ما دبَّ على الأرض من خلق الله عند الله، الذين يصمون عن الحق لئلا يستمعوه، فيعتبروا به ويتعظوا به، وينكُصون عنه إن نطقوا به, الذين لا يعقلون عن الله أمره ونهيه, فيستعملوا بهما أبدانهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إن شر الدواب عند الله ) ، قال: « الدواب » ، الخلق. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج, عن عكرمة قال: وكانوا يقولون: « إنا صم بكم عما يدعو إليه محمد, لا نسمعه منه, ولا نجيبه به بتصديق! » فقتلوا جميعًا بأحد, وكانوا أصحاب اللواء. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الصم البكم الذين لا يعقلون » , قال: الذين لا يتّبعون الحق. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إن شر الدوابّ عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) ، وليس بالأصم في الدنيا ولا بالأبكم, ولكن صمّ القلوب وبُكمها وعُميها! وقرأ: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ سورة الحج: 46 ] . واختلف فيمن عني بهذه الآية. فقال بعضهم: عُني بها نفرٌ من المشركين. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال، قال ابن عباس: « الصم البكم الذين لا يعقلون » ، نفرٌ من بني عبد الدار, لا يتبعون الحق. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, قوله: ( الصم البكم الذين لا يعقلون ) ، قال: لا يتبعون الحق قال، قال ابن عباس: هم نَفرٌ من بني عبد الدار. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه. وقال آخرون: عُني بها المنافقون. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( إن شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ) ، [ أي المنافقون الذين نهيتكم أن تكونوا مثلهم، بُكمٌ عن الخير، صم عن الحق، لا يعقلون ] ، لا يعرفون ما عليهم في ذلك من النقمة والتِّباعة. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال بقول ابن عباس: وأنه عُني بهذه الآية مشركو قريش, لأنها في سياق الخبر عنهم. القول في تأويل قوله : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ( 23 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، وفي معناها. فقال بعضهم: عني بها المشركون. وقال: معناه: أنهم لو رزقهم الله الفهم لما أنـزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، لم يؤمنوا به, لأن الله قد حكم عليهم أنهم لا يؤمنون. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج قال، قال ابن جريج قوله: ( ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم ) ، لقالوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا ، [ سورة يونس: 15 ] ، ولقالوا: لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا [ سورة الأعراف: 203 ] ، ولو جاءهم بقرآن غيره ( لتولوا وهم معرضون ) . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ) ، قال: لو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم، ما انتفعوا بذلك, ولتولوا وهم معرضون. وحدثني به مرة أخرى فقال: « لو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم » ، بعد أن يعلم أن لا خير فيهم، ما نفعهم بعد أن نفذ علمه بأنهم لا ينتفعون به. وقال آخرون: بل عني بها المنافقون. قالوا: ومعناه ما:- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ) ، لأنفذ لهم قولهم الذي قالوه بألسنتهم, ولكن القلوب خالفت ذلك منهم, ولو خرجوا معكم لتولوا وهم معرضون, ما وفَوا لكم بشيء مما خرجوا عليه. قال أبو جعفر: وأولى القول في تأويل ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن جريج وابن زيد، لما قد ذكرنا قبل من العلة, وأن ذلك ليس من صفة المنافقين. قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرًا، لأسمعهم مواعظ القرآن وعِبَره, حتى يعقلوا عن الله عز وجل حججه منه, ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم، وأنهم ممن كتب لهم الشقاء فهم لا يؤمنون. ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا، لتولوا عن الله وعن رسوله, وهم معرضون عن الإيمان بما دلَّهم على صحته مواعظُ الله وعبره وحججه، معاندون للحق بعد العلم به. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( إذا دعاكم لما يحييكم ) . فقال بعضهم: معناه: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للإيمان. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ، قال: أمّا « ما يحييكم » ، فهو الإسلام, أحياهم بعد موتهم, بعد كفرهم. وقال آخرون: للحق. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد في قول الله: ( لما يحييكم ) ، قال: الحق. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( إذا دعاكم لما يحييكم ) ، قال: الحق. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ، قال: للحق. وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى ما في القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ، قال: هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ، أي: للحرب الذي أعزكم الله بها بعد الذل, وقوّاكم بعد الضعف, ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب, قولُ من قال: معناه: استجيبوا لله وللرسول بالطاعة، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق. وذلك أن ذلك إذا كان معناه، كان داخلا فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد, والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن, وفي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب. أما في الدنيا, فبقاء الذكر الجميل, وذلك له فيه حياة. وأما في الآخرة, فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها. وأما قول من قال: معناه الإسلام, فقول لا معنى له. لأن الله قد وصفهم بالإيمان بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ، فلا وجه لأن يقال للمؤمن: استجب لله وللرسول إذا دعا إلى الإسلام والإيمان. وبَعْدُ، ففيما:- حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا روح بن القاسم, عن العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيٍّ وهو يصلي, فدعاه: أيْ أُبَيّ ! فالتفت إليه أبيّ ولم يجبه. ثم إن أبيًّا خفف الصلاة, ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك، أي رسول الله! قال: وعليك، ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله، كنت أصلي! قال: أفلم تجد فيما أوحي إليّ: « استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم » ؟ قال: بلى، يا رسول الله! لا أعود. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد, عن محمد بن جعفر, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ وهو قائم يصلي, فصرخ به [ فلم يجبه, ثم جاء ] ، فقال: يا أبيّ، ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ أليس الله يقول: ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ؟ قال أبيّ: لا جَرَم يا رسول الله, لا تدعوني إلا أجبتُ وإن كنت أصلي! ما يُبِين عن أن المعنيَّ بالآية، هم الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حياتهم بإجابتهم إليه من الحق بعد إسلامهم, لأن أبَيًّا لا شك أنه كان مسلمًا في الوقت الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا في هذين الخبرين. القول في تأويل قوله : وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 24 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معناه: يحول بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكفر. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي, عن سعيد بن جبير: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: بين الكافر أن يؤمن, وبين المؤمن أن يكفر. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد قالا حدثنا سفيان وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا الثوري, عن الأعمش, عن عبد الله بن عبد الله الرازي, عن سعيد بن جبير, بنحوه. حدثني أبو زائدة زكريا بن أبي زائدة قال، حدثنا أبو عاصم, عن سفيان, عن الأعمش, عن عبد الله بن عبد الله, عن سعيد بن جبير, مثله. حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية, عن المنهال, عن سعيد بن جبير: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر, وبين الكافر وبين الإيمان. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل, عن الأعمش, عن عبد الله بن عبد الله الرازي, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، يحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله. . . . . قال، حدثنا حفص, عن الأعمش, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: يحول بين المؤمن والكفر, وبين الكافر والإيمان. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان, وعبد العزيز بن أبي رواد, عن الضحاك في قوله: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: يحول بين الكافر وطاعته, وبين المؤمن ومعصيته. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن أبى روق, عن الضحاك بن مزاحم, بنحوه. . . . . قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: يحول بين المرء وبين أن يكفر, وبين الكافر وبين أن يؤمن. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد, عن الضحاك بن مزاحم: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: يحول بين الكافر وبين طاعة الله, وبين المؤمن ومعصية الله. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا ابن أبي رواد, عن الضحاك, نحوه. وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر نحوه. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن منهال قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عبد العزيز بن أبي رواد يحدث، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: يحول بين المؤمن ومعصيته. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) ، يقول: يحول بين المؤمن وبين الكفر, ويحول بين الكافر وبين الإيمان. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) ، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته, ويحول بين المؤمن وبين معصيته. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن ليث, عن مجاهد: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر, وبين الكافر وبين الإيمان. . . . . قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي رواد, عن الضحاك: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته, وبين المؤمن وبين معصيته. . . . . قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن يعقوب القمي, عن جعفر, عن سعيد بن جبير: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، يحول بين المؤمن والمعاصي, وبين الكافر والإيمان. . . . . قال، حدثنا عبيدة, عن إسماعيل, عن أبي صالح: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: يحول بينه وبين المعاصي. وقال آخرون: بل معنى ذلك: يحول بين المرء وعقله, فلا يدري ما يَعمل. ذكر من قال ذلك: حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا عبد المجيد, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: يحول بين المرء وعقله. حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، حتى تركه لا يعقل. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: هو كقوله « حال » ، حتى تركه لا يعقل. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله, عن حميد, عن مجاهد: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: إذا حال بينك وبين قلبك، كيف تعمل. قال: حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: يحول بين قلب الكافر, وأن يعمل خيرًا. وقال آخرون: معناه: يحول بين المرء وقلبه، أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: يحول بين الإنسان وقلبه, فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه. وقال آخرون: معنى ذلك: أنه قريب من قلبه، لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة في قوله: ( يحول بين المرء وقلبه ) ، قال: هي كقوله: أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ، [ سورة ق: 16 ] . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال: إن ذلك خبرٌ من الله عز وجل أنه أملك لقلوب عباده منهم, وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء, حتى لا يقدر ذو قلب أن يُدرك به شيئًا من إيمان أو كفر, أو أن يَعِي به شيئًا, أو أن يفهم، إلا بإذنه ومشيئته. وذلك أن « الحول بين الشيء والشيء » ، إنما هو الحجز بينهما, وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه, لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبَه إدراكَه سبيلٌ. وإذا كان ذلك معناه, دخل في ذلك قول من قال: « يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان » , وقول من قال: « يحول بينه وبين عقله » , وقول من قال: « يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه » ، لأن الله عز وجل إذا حال بين عبد وقلبه, لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه وبينه ما مُنِع إدراكه به على ما بيَّنتُ. غير أنه ينبغي أن يقال: إن الله عم بقوله: ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) ، الخبرَ عن أنه يحول بين العبد وقلبه, ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئًا دون شيء, والكلام محتمل كل هذه المعاني, فالخبر على العموم حتى يخصه ما يجب التسليم له. وأما قوله: ( وأنه إليه تحشرون ) ، فإن معناه: واعلموا، أيها المؤمنون، أيضًا، مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه: أنّ الله الذي يقدر على قلوبكم, وهو أملك بها منكم, إليه مصيركم ومرجعكم في القيامة, فيوفّيكم جزاء أعمالكم, المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته, فاتقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تضيعوه, وأن لا تستجيبوا لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم, فيوجب ذلك سَخَطَه, وتستحقوا به أليم عذابه حين تحشرون إليه. القول في تأويل قوله : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 25 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: « اتقوا » ، أيها المؤمنون « فتنة » , يقول: اختبارًا من الله يختبركم, وبلاء يبتليكم « لا تصيبن » ، هذه الفتنة التي حذرتكموها « الذين ظلموا » , وهم الذين فعلوا ما ليس لهم فعله, إما أجْرام أصابوها، وذنوب بينهم وبين الله ركبوها. يحذرهم جل ثناؤه أن يركبوا له معصية، أو يأتوا مأثمًا يستحقون بذلك منه عقوبة. وقيل: إن هذه الآية نـزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين عُنوا بها. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن إبراهيم قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال، حدثنا داود بن أبي هند, عن الحسن في قوله: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ، قال: نـزلت في علي، وعثمان، وطلحة، والزبير, رحمة الله عليهم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ، قال قتادة: قال الزبير بن العوام: لقد نـزلت وما نرى أحدًا منا يقع بها. ثم خُلِّفْنا في إصابتنا خاصة. حدثني المثنى قال، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة قال، حدثنا حماد, عن حميد, عن الحسن: أن الزبير بن العوام قال: نـزلت هذه الآية: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ، وما نظننا أهلها, ونحن عُنِينا بها. . . . . قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن الصلت بن دينار, عن ابن صبهان قال: سمعت الزبير بن العوام يقول: قرأت هذه الآية زمانًا، وما أرانا من أهلها, فإذا نحن المعنيون بها: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ، قال: هذه نـزلت في أهل بدر خاصة, وأصابتهم يوم الجمل، فاقتتلوا. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي خالد, عن السدي: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ) ، قال: أصحاب الجمل. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ، قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقرُّوا المنكر بين أظهرهم، فيعمَّهم الله بالعذاب. . . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ، قال: هى أيضًا لكم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) ، قال: « الفتنة » ، الضلالة. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن المسعودي, عن القاسم قال: قال عبد الله: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة, إن الله يقول: أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [ سورة الأنفال: 28 ] ، فليستعذ بالله من مُضِلات الفتن. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة, عن الحسن قال: قال الزبير: لقد خُوِّفنا بها يعني قوله: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) . واختلف أهل العربية في تأويل ذلك. فقال بعض نحويي البصرة: ( اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا ) ، قوله: « لا تصيبن » , ليس بجواب, ولكنه نهي بعد أمر, ولو كان جوابًا ما دخلت « النون » . وقال بعض نحويي الكوفة قوله: ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا ) ، أمرهم ثم نهاهم. وفيه طرَفٌ من الجزاء، وإن كان نهيًا. قال: ومثله قوله: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ ، [ سورة النمل: 18 ] ، أمرهم ثم نهاهم, وفيه تأويل الجزاء. وكأن معنى الكلام عنده: اتقوا فتنة، إن لم تتقوها أصابتكم. وأما قوله: ( واعلموا أن الله شديد العقاب ) ، فإنه تحذير من الله، ووعيد لمن واقع الفتنة التي حذره إياها بقوله: ( واتقوا فتنة ) , يقول: اعلموا، أيها المؤمنون، أن ربكم شديد عقابه لمن افتُتن بظلم نفسه، وخالف أمره, فأثم به. القول في تأويل قوله : وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 26 ) قال أبو جعفر: وهذا تذكيرٌ من الله عز وجل أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناصحة. يقول: أطيعوا الله ورسوله، أيها المؤمنون, واستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم، ولا تخالفوا أمرَه وإن أمركم بما فيه عليكم المشقة والشدة, فإن الله يهوِّنه عليكم بطاعتكم إياه، ويعجِّل لكم منه ما تحبون, كما فعل بكم إذ آمنتم به واتبعتموه وأنتم قليلٌ يستضعفكم الكفار فيفتنونكم عن دينكم، وينالونكم بالمكروه في أنفسكم وأعراضكم، تخافون منهم أن يتخطفوكم فيقتلوكم ويصطلموا جميعكم ( فآواكم ) ، يقول: فجعل لكم مأوى تأوون إليه منهم ( وأيدكم بنصره ) ، يقول: وقواكم بنصره عليهم حتى قتلتم منهم من قتلتم ببدر ( ورزقكم من الطيبات ) ، يقول: وأطعمكم غنيمتهم حلالا طيبًا ( لعلكم تشكرون ) ، يقول: لكي تشكروه على ما رزقكم وأنعم به عليكم من ذلك وغيره من نعمه عندكم. واختلف أهل التأويل في « الناس » الذين عنوا بقوله: ( أن يتخطفكم الناس ) . فقال بعضهم: كفار قريش. ذكر من قال ذلك. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ) ، قال: يعني بمكة، مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من قريش وحلفائها ومواليها قبل الهجرة. حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الكلبي أو قتادة أو كلاهما ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون ) أنها نـزلت في يوم بدر, كانوا يومئذ يخافون أن يتخطفهم الناس, فآواهم الله وأيدهم بنصره. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة, بنحوه. وقال آخرون: بل عُني به غيرُ قريش. ذكر من قال ذلك. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرني أبي قال، سمعت وهب بن منبه يقول في قوله عز وجل: ( تخافون أن يتخطفكم الناس ) ، قال: فارس. . . . . قال ، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول, وقرأ: ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس ) ، و « الناس » إذ ذاك، فارس والروم. . . . . قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ) ، قال: كان هذا الحي من العرب أذلَّ الناس ذلا وأشقاهُ عيشًا, وأجوعَه بطونًا, وأعراه جلودًا, وأبينَه ضلالا [ مكعومين، على رأس حجر، بين الأسدين فارس والروم، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه ] . من عاش منهم عاش شقيًّا, ومن مات منهم رُدِّي في النار, يوكلون ولا يأكلون, والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشرَّ منهم منـزلا حتى جاء الله بالإسلام, فمكن به في البلاد, ووسَّع به في الرزق, وجعلكم به ملوكًا على رقاب الناس. فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم, فاشكروا الله على نعمه, فإن ربكم منعمٌ يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله تبارك وتعالى. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: « عُني بذلك مشركو قريش » ، لأن المسلمين لم يكونوا يخافون على أنفسهم قبل الهجرة من غيرهم, لأنهم كانوا أدنى الكفار منهم إليهم, وأشدَّهم عليهم يومئذ، مع كثرة عددهم، وقلة عدد المسلمين. وأما قوله: ( فآواكم ) ، فإنه يعني: آواكم المدينة, وكذلك قوله: ( وأيدكم بنصره ) ، بالأنصار. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فآواكم ) ، قال: إلى الأنصار بالمدينة ( وأيدكم بنصره ) ، وهؤلاء أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم، أيدهم بنصره يوم بدر. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: ( فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات ) ، يعني بالمدينة. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 27 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ( لا تخونوا الله ) ، وخيانتهم الله ورسوله، كانت بإظهار من أظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الإيمانَ في الظاهر والنصيحةَ, وهو يستسرُّ الكفر والغش لهم في الباطن, يدلُّون المشركين على عورتهم, ويخبرونهم بما خفى عنهم من خبرهم. وقد اختلف أهل التأويل فيمن نـزلت هذه الآية, وفي السبب الذي نـزلت فيه. فقال بعضهم: نـزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سرِّ المسلمين. ذكر من قال ذلك. حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا شبابة بن سوار قال، حدثنا محمد بن المُحْرِم قال، لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال، حدثني جابر بن عبد الله: أن أبا سفيان خرج من مكة, فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا! « قال: فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان: » إن محمدًا يريدكم, فخذوا حذركم « ! فأنـزل الله عز وحل: ( لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم ) . » وقال آخرون: بل نـزلت في أبي لبابة، في الذي كان من أمره وأمر بني قريظة. ذكر من قال ذلك. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان, عن معمر, عن الزهري, قوله: « لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم » ، قال: نـزلت في أبي لبابة, بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى حلقه: إنه الذَّبح قال الزهري: فقال، أبو لبابة: لا والله، لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموتَ أو يتوب الله عليَّ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا حتى خر مغشيًّا عليه, ثم تاب الله عليه. فقيل له: يا أبا لبابة، قد تِيبَ عليك! قال: والله لا أحُلُّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يَحُلّني. فجاءه فحله بيده. ثم قال أبو لبابة: إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت بها الذنب، وأن أنخلع من مالي! قال: « يجزيك الثلث أن تصدَّق به. » حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت عبد الله بن أبي قتادة يقول: نـزلت: « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون » في أبي لبابة. وقال آخرون: بل نـزلت في شأن عثمان رحمة الله عليه. ذكر من قال ذلك. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي قال، حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي, عن المغيرة بن شعبة قال: نـزلت هذه الآية في قتل عثمان رحمة الله عليه: « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول » الآية. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله نهى المؤمنين عن خيانته وخيانة رسوله، وخيانة أمانته وجائز أن تكون نـزلت في أبي لبابة وجائز أن تكون نـزلت في غيره, ولا خبر عندنا بأيِّ ذلك كان يجب التسليم له بصحته. فمعنى الآية وتأويلها ما قدمنا ذكره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول » قال: نهاكم أن تخونوا الله والرسول, كما صنع المنافقون. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط. عن السدي: « لا تخونوا الله والرسول » الآية، قال: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين. واختلفوا في تأويل قوله: « وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون » . فقال بعضهم: لا تخونوا الله والرسول, فإن ذلك خيانة لأمانتكم وهلاك لها. ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم » ، فإنهم إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون » ، أي لا تظهروا لله من الحق ما يرضى به منكم، ثم تخالفوه في السرِّ إلى غيره, فإن ذلك هلاك لأماناتكم، وخيانة لأنفسكم. قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل قوله: « وتخونوا أماناتكم » ، في موضع نصب على الصرف كما قال الشاعر: لا تَنْــهَ عَـنْ خُـلُقٍ وَتَـأْتِيَ مِثْلَـهُ عــارٌ عَلَيْــكَ إِذَا فَعَلْــتَ عَظِيـمُ ويروى: « وتأتي مثله » . وقال آخرون: معناه: لا تخونوا الله والرسول, ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون. ذكر من قال ذلك. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم » ، يقول: « لا تخونوا » : يعني لا تنقصُوها. قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويلُ: لا تخونوا الله والرسول, ولا تخونوا أماناتكم. واختلف أهل التأويل في معنى: الأمانة، التي ذكرها الله في قوله: « وتخونوا أماناتكم » . فقال بعضهم: هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله. ذكر من قال ذلك. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: « وتخونوا أماناتكم » ، و « الأمانة » : الأعمال التي أمِن الله عليها العباد يعني: الفريضة. يقول: « لا تخونوا » ، يعني: لا تنقصوها. حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: « يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله » ، يقول: بترك فرائضه « والرسول » ، يقول: بترك سننه، وارتكاب معصيته قال: وقال مرة أخرى: « لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم » ، والأمانة: الأعمال، ثم ذكر نحو حديث المثنى. وقال آخرون: معنى « الأمانات » ، ههنا، الدِّين. ذكر من قال ذلك. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « وتخونوا أماناتكم » دينكم « وأنتم تعلمون » ، قال: قد فعل ذلك المنافقون، وهم يعلمون أنهم كفار, يظهرون الإيمان. وقرأ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [ سورة النساء: 142 ] . قال: هؤلاء المنافقون، أمنهم الله ورسوله على دينه، فخانوا, أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر. قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذن: يا أيها الذين آمنوا، لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه، ولا رسوله من واجب طاعته عليكم, ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه, لا تنقصوهما « وتخونوا أماناتكم » , وتنقصوا أديانكم, وواجب أعمالكم, ولازمَها لكم « وأنتم تعلمون » ، أنها لازمة عليكم، وواجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم. القول في تأويل قوله : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( 28 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: واعلموا، أيها المؤمنون، أنما أموالكم التي خوَّلكموها الله، وأولادكم التي وهبها الله لكم، اختبارٌ وبلاء، أعطاكموها ليختبركم بها ويبتليكم، لينظر كيف أنتم عاملون من أداء حق الله عليكم فيها، والانتهاء إلى أمره ونهيه فيها. « وأن الله عنده أجر عظيم » ، يقول: واعلموا أن الله عنده خيرٌ وثواب عظيم، على طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم، في أمولكم وأولادكم التي اختبركم بها في الدنيا . وأطيعوا الله فيما كلفكم فيها، تنالوا به الجزيل من ثوابه في معادكم. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا المسعودي, عن القاسم, عن عبد الرحمن, عن ابن مسعود, في قوله: « إنما أموالكم وأولادكم فتنة » ، قال: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة, فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مُضِلات الفتن. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة » ، قال: « فتنة » ، الاختبار, اختبارُهم. وقرأ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [ سورة الأنبياء: 35 ] . القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 29 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن تتقوا الله بطاعته وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه, وترك خيانته وخيانة رسوله وخيانة أماناتكم يجعل لكم فرقانًا « ، يقول: يجعل لكم فصلا وفرْقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم المشركين، بنصره إياكم عليهم, وإعطائكم الظفر بهم » ويكفر عنكم سيئاتكم « ، يقول: ويمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم بينكم وبينه » ويغفر لكم « ، يقول: ويغطيها فيسترها عليكم, فلا يؤاخذكم بها » والله ذو الفضل العظيم « ، يقول: والله الذي يفعل ذلك بكم, له الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه بفعله ذلك وفعل أمثاله. وإنّ فعله جزاءٌ منه لعبده على طاعته إياه, لأنه الموفق عبده لطاعته التي اكتسبها، حتى استحقّ من ربه الجزاء الذي وعدَه عليها. » وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عن تأويل قوله: « يجعل لكم فرقانا » . فقال بعضهم: مخرجًا. وقال بعضهم: نجاة. وقال بعضهم: فصلا. وكل ذلك متقارب المعنى، وإن اختلف العبارات عنها, وقد بينت صحة ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. ذكر من قال: معناه: المخرج. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور، عن مجاهد: « إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا » قال: مخرجًا. ......... قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا » ، قال: مخرجًا. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام عن عنبسة, عن جابر, عن مجاهد: « فرقانا » ، مخرجًا. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد « فرقانا » ، قال: مخرجًا في الدنيا والآخرة. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد, عن حجاج, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فرقانًا » ، قال: « الفرقان » المخرج. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: « فرقانا » ، يقول: مخرجًا. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن منصور, عن مجاهد: « فرقانا » ، مخرجًا. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا زائدة, عن منصور, عن مجاهد, مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: « فرقانا » ، قال: مخرجًا. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، سمعت عبيدا يقول، سمعت الضحاك يقول: « فرقانًا » ، مخرجًا. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد, عن زهير, عن جابر، عن عكرمة، قال: « الفرقان » ، المخرج. * ذكر من قال: معناه النجاة. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن جابر, عن عكرمة: « إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا » ، قال: نجاة. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن رجل, عن عكرمة ومجاهد, في قوله: « يجعل لكم فرقانًا » ، قال عكرمة: المخرج وقال مجاهد: النجاة. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « يجعل لكم فرقانًا » ، قال: نجاة. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « يجعل لكم فرقانًا » ، يقول: يجعل لكم نجاة. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « يجعل لكم فرقانًا » ، أي: نجاة. * ذكر من قال فصلا. 15954 - ...................................... « يا أيها الذين آمنوا إذ تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا » ، قال: فرقان يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل, حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا » ، أي: فصلا بين الحق والباطل, ليظهر به حقكم، ويخفي به باطل من خالفكم. و « الفرقان » في كلام العرب، مصدرٌ من قولهم: « فرقت بين الشيء والشيء أفرُق بينهما فَرْقًا وفُرْقانًا. » القول في تأويل قوله : وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( 30 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مذكِّرَه نعمه عليه: واذكر، يا محمد, إذ يمكر بك الذين كفروا من مشركي قومك كي يثبتوك. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « ليثبتوك » . فقال بعضهم: معناه ليقيِّدوك. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك » ، يعني: ليوثقوك. ............ قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليثبتوك » ، ليوثِقوك. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك » ، الآية, يقول: ليشدُّوك وَثاقًا. وأرادوا بذلك نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ بمكة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة ومقسم قالا قالوا: « أوثقوه بالوثاق » . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ليثبتوك » ، قال: الإثبات، هو الحبس والوَثَاق. وقال آخرون: بل معناه الحبس. ذكر من قال ذلك. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، سألت عطاء عن قوله: « ليثبتوك » ، قال: يسجنوك وقالها عبد الله بن كثير. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قالوا: « اسجنوه » . وقال آخرون: بل معناه: ليسحروك. ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن إسماعيل البصري المعروف بالوساوسي قال، حدثنا عبد المجيد بن أبي روّاد, عن ابن جريج, عن عطاء, عن عبيد بن عمير، عن المطلب بن أبي وَداعة: أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر به قومك؟ قال: يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني! فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: ربي! قال: نعم الرب ربك, فاستوص به خيرًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أستوصي به! بل هو يستوصي بي خيرًا « ! فنـزلت: » وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك « ، الآية. » حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه، قال له أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: نعم! قال: فأخبره، قال: من أخبرك؟ قال: ربي! قال: نعم الرب ربك, استوص به خيرًا! قال: « أنا أستوصي به, أو هو يستوصي بي؟ » وكأنّ معنى مكر قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم به ليثبتوه، كما:- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا محمد بن إسحاق, عن عبد الله بن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس قال وحدثني الكلبي, عن زاذان مولى أم هانئ, عن ابن عباس: أن نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة, اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة, فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال شيخ من نجد, سمعت أنكم اجتمعتم, فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأيٌ ونصحٌ. قالوا: أجل، ادخل! فدخل معهم, فقال: انظروا إلى شأن هذا الرجل, والله ليوشكن أن يُواثبكم في أموركم بأمره. قال: فقال قائل: احبسوه في وَثاق, ثم تربصوا به ريبَ المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء, زهير والنابغة, إنما هو كأحدهم! قال: فصرخ عدوُّ الله الشيخ النجدي فقال: والله، ما هذا لكم برأي ! والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم, فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم! قالوا: فانظروا في غير هذا. قال: فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه, فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم، وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي, ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذَ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم، ثم استعرَض العرب, لتجتمعن عليكم, ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم! قالوا: صدق والله! فانظروا رأيًا غير هذا ! قال: فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره! قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كل قبيلة غلامًا وَسيطا شابًّا نَهْدًا, ثم يعطى كل غلام منهم سيفًا صارمًا, ثم يضربوه ضربة رجل واحد, فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها, فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها, فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل، واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القولُ ما قال الفتى, لا أرى غيره! قال: فتفرقوا على ذلك وهم مُجْمعون له، قال: فأتى جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه تلك الليلة, وأذِن الله له عند ذلك بالخروج, وأنـزل عليه بعد قدومه المدينة « الأنفال » ، يذكره نعمه عليه، وبلاءه عنده: « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين » ، وأنـزل في قولهم: « تربصوا به ريبَ المنون » حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء : أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ، [ سورة الطور: 30 ] . وكان يسمى ذلك اليوم: « يوم الزحمة » للذي اجتمعوا عليه من الرأي. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة ومقسم, في قوله: « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك » قالا تشاوروا فيه ليلة وهم بمكة, فقال بعضهم: إذا أصبح فأوثقوه بالوثاق. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه . فلما أصبحوا رأوا عليًّا رحمة الله عليه , فردَّ الله مكرهم. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عيد الرزاق قال، أخبرني أبي, عن عكرمة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار, أمر عليَّ بن أبي طالب, فنام في مضجعه, فبات المشركون يحرسونه، فإذا رأوه نائمًا حسبوا أنه النبي صلى الله عليه وسلم فتركوه. فلما أصبحوا ثاروا إليه وهم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هم بعليّ, فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري! قال: فركبوا الصعب والذَّلول في طلبه. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر قال، أخبرني عثمان الجزريّ: أن مقسمًا مولى ابن عباس أخبره، عن ابن عباس في قوله: « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك » ، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة, فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك, فبات على رحمه الله على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة, وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار, وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم . فلما أصبحوا ثاروا إليه, فلما رأوا عليًّا رحمة الله عليه , ردّ الله مكرهم, فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري! فاقتصُّوا أثره، فلما بلغوا الجبل ومرُّوا بالغار, رأوا على بابه نسج العنكبوت، قالوا: لو دخل ههنا لم يكن نَسْجٌ على بابه! فمكث فيه ثلاثا. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين » ، قال: اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلمت الأنصار، وفَرِقوا أن يتعالى أمره إذا وجد ملجأ لجأ إليه. فجاء إبليس في صورة رجل من أهل نجد, فدخل معهم في دار الندوة، فلما أنكروه قالوا: من أنت؟ فوالله ما كل قومنا أعلمناهم مجلسنا هذا! قال: أنا رجل من أهل نجد، أسمع من حديثكم وأشير عليكم! فاستحيَوْا، فخلَّوا عنه. فقال بعضهم: خذوا محمدًا إذا اضطجع على فراشه, فاجعلوه في بيت نتربص به ريبَ المنون و « الريب » ، هو الموت, و « المنون » ، هو الدهر قال إبليس: بئسما قلت! تجعلونه في بيت، فيأتي أصحابه فيخرجونه، فيكون بينكم قتال! قالوا: صدق الشيخ! قال: أخرجوه من قريتكم! قال إبليس: بئسما قلت! تخرجونه من قريتكم، وقد أفسد سفهاءكم، فيأتي قرية أخرى فيفسد سفهاءهم، فيأتيكم بالخيل والرجال! قالوا: صدق الشيخ! قال أبو جهل وكان أولاهم بطاعة إبليس: بل نعمد إلى كل بطن من بطون قريش, فنخرج منهم رجلا فنعطيهم السلاح, فيشدُّون على محمد جميعًا فيضربونه ضربة رجل واحد, فلا يستطيع بنو عبد المطلب أن يقتلوا قريشًا, فليس لهم إلا الدية! قال إبليس: صدق, وهذا الفتى هو أجودكم رأيًا! فقاموا على ذلك. وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فنام على الفراش, وجعلوا عليه العيون. فلما كان في بعض الليل, انطلق هو وأبو بكر إلى الغار, ونام علي بن أبي طالب على الفراش, فذلك حين يقول الله: « ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك » و « الإثبات » ،: هو الحبس والوثاق وهو قوله: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا [ سورة الإسراء: 76 ] ، يقول: يهلكهم. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لقيه عمر فقال له: ما فعل القوم؟ وهو يرى أنهم قد أهلكوا حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم, وكذلك كان يُصنع بالأمم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أخِّروا بالقتال » . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليثبتوك أو يقتلوك » ، قال: كفار قريش، أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من مكة. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد نحوه. حدثني ابن وكيع قال: حدثنا هانئ بن سعيد, عن حجاج, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد نحوه; إلا أنه قال: فعلوا ذلك بمحمد. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس, قوله: « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك » ، الآية, هو النبي صلى الله عليه وسلم، مكروا به وهو بمكة. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك » ، إلى آخر الآية، قال: اجتمعوا فتشاوروا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: اقتلوا هذا الرجل. فقال بعضهم: لا يقتله رجل إلا قُتل به! قالوا: خذوه فاسجنوه، واجعلوا عليه حديدًا. قالوا: فلا يدعكم أهل بيته! قالوا: أخرجوه. قالوا: إذًا يستغوي الناس عليكم. قال: وإبليس معهم في صورة رجل من أهل نجد، واجتمع رأيهم أنه إذا جاء يطوف البيت ويستلم، أن يجتمعوا عليه فيغمُّوه ويقتلوه, فإنه لا يدري أهله من قتله, فيرضون بالعقل، فنقتله ونستريح ونعقِله! فلما أن جاء يطوف بالبيت، اجتمعوا عليه فغمُّوه، فأتى أبو بكر فقيل له ذاك, فأتى فلم يجد مدخلا. فلما أن لم يجد مدخلا قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ، [ سورة غافر: 28 ] . قال: ثم فرَّجها الله عنه. فلما أن حطّ الليل، أتاه جبريل عليه السلام فقال، من أصحابك؟ فقال: فلان وفلان وفلان. فقال: لا نحن أعلم بهم منك، يا محمد, هو ناموس ليل! قال: وأخِذ أولئك من مضاجعهم وهم نيام، فأتى بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقدِّم أحدهم إلى جبريل, فكحَله ثم أرسله, فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كُفِيتَه يا نبي الله! ثم قدِّم آخر، فنقر فوق رأسه. بعصًا نقرة ثم أرسله، فقال: ما صورته يا جبريل؟ فقال: كُفِيته يا نبي الله! ثم أتي بآخر فنقر في ركبته, فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كفيته! ثم أتي بآخر فسقاه مَذْقة, فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كفيته يا نبي الله! وأتي بالخامس، فلما غدا من بيته، مرّ بنبّال فتعلق مِشْقَص بردائه، فالتوى, فقطع الأكحل من رجله. وأما الذي كحلت عيناه، فأصبح وقد عمي. وأما الذي سقي مَذْقةً، فأصبح وقد استسقى بطنه. وأما الذي نقر فوق رأسه، فأخذته النقبة و « النقبة » ، قرحة عظيمة أخذته في رأسه. وأما الذي طعن في ركبته, فأصبح وقد أقعد. فذلك قول الله: « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين » . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قوله: « ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين » ، أي: فمكرت لهم بكيدي المتين، حتى خلّصك منهم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة, قوله: « وإذ يمكر بك الذين كفروا » ، قال: هذه مكية قال: ابن جريج، قال مجاهد: هذه مكية. قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: واذكر، يا محمد، نعمتي عندك، بمكري بمن حاول المكرَ بك من مشركي قومك, بإثباتك أو قتلك أو إخراجك من وطنك, حتى استنقذتك منهم وأهلكتهم, فامض لأمري في حرب من حاربك من المشركين, وتولى عن إجابة ما أرسلتك به من الدين القيم, ولا يَرْعَبَنَّك كثرة عددهم, فإن ربّك خيرُ الماكرين بمن كفر به، وعبد غيره، وخالف أمره ونهيه. وقد بينا معنى « المكر » فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 31 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آياتِ كتاب الله الواضحةَ لمن شرح الله صدره لفهمه ، قالوا جهلا منهم، وعنادًا للحق، وهم يعلمون أنهم كاذبون في قيلهم « لو نشاء لقلنا مثل هذا » ، الذي تُلِي علينا « إن هذا إلا أساطير الأولين » ، يعني: أنهم يقولون: ما هذا القرآن الذي يتلى عليهم إلا أساطير الأولين. و « الأساطير » جمع « أسطر » , وهو جمع الجمع, لأن واحد « الأسطر » « سطر » , ثم يجمع « السطر » ، « أسطر » و « سطور » , ثم يجمع « الأسطر » « أساطير » و « أساطر » . وقد كان بعضُ أهل العربية يقول: واحد « الأساطير » ، « أسطورة » . وإنما عنى المشركون بقولهم: « إن هذا إلا أساطير الأولين » ، إنْ هذا القرآن الذي تتلوه علينا، يا محمد، إلا ما سطَّره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم! كأنهم أضافوه إلى أنه أخذ عن بني آدم, وأنه لم يوحِه الله إليه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: « وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا » ، قال: كان النضر بن الحارث يختلف تاجرًا إلى فارس, فيمرّ بالعِباد وهم يقرءون الإنجيل ويركعون ويسجدون. فجاء مكة, فوجد محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أنـزل عليه وهو يركع ويسجد, فقال النضر: « قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا! » ، للذي سَمِع من العباد. فنـزلت: « وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا » ، قال: فقص ربُّنا ما كانوا قالوا بمكة, وقص قولهم: إذ قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ، الآية. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كان النضر بن الحارث بن علقمة، أخو بني عبد الدار، يختلف إلى الحيرة, فيسمع سَجْع أهلها وكلامهم. فلما قدم مكة, سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن, فقال: « قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولين » ، يقول: أساجيع أهل الحيرة. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير قال: قتل النبيُّ من يوم بدر صبرًا: عقبةَ بن أبي معيط, وطعيمة بن عدي, والنضر بن الحارث. وكان المقداد أسر النضر, فلما أمر بقتله ، قال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول! فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال المقداد: أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « واللهم اغْنِ المقداد من فضلك! » فقال المقداد: هذا الذي أردت! وفيه نـزلت هذه الآية: « وإذا تتلى عليهم آياتنا » ، الآية. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل يوم بدر ثلاثة رهط من قريش صبرًا: المطعم بن عديّ, والنضر بن الحارث, وعقبة بن أبي معيط. قال: فلما أمر بقتل النضر، قال المقداد بن الأسود: أسيري، يا رسول الله! قال: إنه كان يقول في كتاب الله وفي رسوله ما كان يقول! قال: فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اللهم اغْن المقداد من فضلك! » وكان المقداد أسر النضر. القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 32 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر، يا محمد، أيضًا ما حلّ بمن قال: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم » ، إذ مكرت بهم, فأتيتهم بعذاب أليم وكان ذلك العذاب، قتلُهم بالسيف يوم بدر. وهذه الآية أيضًا ذكر أنها نـزلت في النضر بن الحارث. ذكر من قال ذلك. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير, في قوله: « وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء » ، قال: نـزلت في النضر بن الحارث. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « إن كان هذا هو الحق من عندك » ، قال: قول النضر بن الحارث أو: ابن الحارث بن كَلَدة. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » ، قول النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة، من بني عبد الدار. ......قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « إن كان هذا هو الحق من عندك » ، قال: هو النضر بن الحارث بن كلدة. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو, عن عطاء قال: قال رجل من بني عبد الدار, يقال له النضر بن كلدة: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم » ، فقال الله: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ سورة ص: 16 ] ، وقال: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ سورة الأنعام: 94 ] ، وقال: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ [ سورة المعارج: 1- 2 ] . قال عطاء: لقد نـزل فيه بضعَ عشرة آية من كتاب الله. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: فقال يعني النضر بن الحارث : اللهم إن كان ما يقول محمد هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم! قال الله: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « إن كان هذا هو الحق من عندك » الآية، قال: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » ، الآية قال: قال ذلك سُفَّهُ هذه الأمة وجهلتها, فعاد الله بعائدته ورحمته على سَفَهة هذه الأمة وجهلتها. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر غِرَّة قريش واستفتاحهم على أنفسهم, إذ قالوا: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك » ، أي: ما جاء به محمد « فأمطر علينا حجارة من السماء » ، كما أمطرتها على قوم لوط « أو ائتنا بعذاب أليم » ، أي: ببعض ما عذبت به الأمم قبلنا. واختلف أهل العربية في وجه دخول « هو » في الكلام. فقال بعض البصريين: نصب « الحق » , لأن « هو » والله أعلم، حُوِّلت زائدة في الكلام صلةَ توكيدٍ، كزيادة « ما » , ولا تزاد إلا في كل فعل لا يستغني عن خبر, وليس هو بصفة، ل « هذا » ، لأنك لو قلت: « رأيت هذا هو » ، لم يكن كلامًا. ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة, ولكنها تكون من صفة المضمرة, نحو قوله: وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [ سورة الزخرف: 76 ] و خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [ سورة المزمل: 20 ] . لأنك تقول: « وجدته هو وإياي » ، فتكون « هو » صفة. وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة, ولكنها تكون زائدة، كما كان في الأول. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم, فيرفع ما بعدها، إن كان بعدها ظاهرًا أو مضمرًا في لغة بني تميم, يقولون في قوله: « إن كان هذا هو الحق من عندك » ، « ولكن كانوا هم الظالمون » ، و « تجدوه عند الله هو خيرٌ وأعظم أجرًا » كما تقول: « كانوا آباؤهم الظالمون » , جعلوا هذا المضمر نحو « هو » و « هما » و « أنت » زائدًا في هذا المكان، ولم تجعل مواضع الصفة, لأنه فصْلٌ أراد أن يبين به أنه ليس ما بعده صفةً لما قبله, ولم يحتج إلى هذا في الموضع الذي لا يكون له خبر. وكان بعض الكوفيين يقول: لم تدخل « هو » التي هى عماد في الكلام، إلا لمعنى صحيح. وقال: كأنه قال: « زيد قائم » ، فقلت أنت: « بل عمرو هو القائم » ف « هو » لمعهود الاسم، و « الألف واللام » لمعهود الفعل، [ « والألف واللام » ] التي هي صلة في الكلام، مخالفة لمعنى « هو » , لأن دخولها وخروجها واحد في الكلام. وليست كذلك « هو » . وأما التي تدخل صلة في الكلام, فتوكيدٌ شبيه بقولهم: « وجدته نفسَه » ، تقول ذلك, وليست بصفة « كالظريف » و « العاقل » . القول في تأويل قوله : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( 33 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، أي: وأنت مقيم بين أظهرهم. قال: وأنـزلت هذه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة. قال: ثم خرجَ النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم, فاستغفر من بها من المسلمين, فأنـزل بعد خروجه عليه، حين استغفر أولئك بها: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) . قال: ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم, فعذّب الكفار. ذكر من قال ذلك. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن ابن أبزى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة, فأنـزل الله عليه: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, فأنـزل الله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) . قال: فكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها يستغفرون يعني بمكة فلما خرجوا أنـزل الله عليه: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ . قال: فأذن الله له في فتح مكة, فهو العذاب الذي وعدهم. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين, عن أبي مالك, في قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، يعني: من بها من المسلمين وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ، يعني مكة, وفيهم الكفار. حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن حصين, عن أبي مالك, في قول الله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ) ، يعني: أهل مكة ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ ) ، وفيهم المؤمنون, يستغفرون، يُغفر لمن فيهم من المسلمين. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرازي، وأبو داود الحفري, عن يعقوب, عن جعفر, عن ابن أبزى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، قال: بقية من بقي من المسلمين منهم. فلما خرجوا قال: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ . ....... قال، حدثنا عمران بن عيينة, عن حصين, عن أبي مالك: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، قال: أهل مكة. ......وأخبرنا أبي, عن سلمة بن نبيط, عن الضحاك: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، قال: المؤمنون من أهل مكة وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، قال: المشركون من أهل مكة. ......قال: حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك: ) وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( قال: المؤمنون يستغفرون بين ظهرانَيْهم. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، يقول: الذين آمنوا معك يستغفرون بمكة, حتى أخرجك والذين آمنوا معك. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال: ابن عباس: لم يعذب قريةً حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا معه، ويلحقه بحيث أُمِر ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، يعني المؤمنين. ثم أعاد إلى المشركين فقال: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، قال: يعني أهل مكة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين من قريش بمكة وأنت فيهم، يا محمد, حتى أخرجك من بينهم ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ ) ، وهؤلاء المشركون، يقولون: « يا رب غفرانك! » ، وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول. قالوا: وقوله: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ، في الآخرة. ذكر من قال ذلك. حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عكرمة, عن أبي زميل, عن ابن عباس: إن المشركين كانوا يطوفون بالبيت يقولون: « لبيك، لبَّيك، لا شريك لك » , فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: « قَدْ قَدْ! » فيقولون: « إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك » , ويقولون: « غفرانك، غفرانك! » ، فأنـزل الله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) . فقال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبيّ الله ، والاستغفار. قال: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ ، قال: فهذا عذاب الآخرة. قال: وذاك عذاب الدنيا. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن يزيد بن رومان، ومحمد بن قيس قالا قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا الآية. فلما أمسوا ندموا على ما قالوا, فقالوا: « غفرانك اللهم! » ، فأنـزل الله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) إلى قوله: لا يَعْلَمُونَ . حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: كانوا يقولون يعني المشركين : والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر, ولا يعذِّب أمة ونبيها معها حتى يخرجه عنها! وذلك من قولهم، ورسولُ لله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، يذكر له جَهالتهم وغِرَّتهم واستفتاحهم على أنفسهم, إذ قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ ، كما أمطرتها على قوم لوط. وقال حين نَعى عليهم سوء أعمالهم: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، أي: لقولهم: [ « إنا نستغفر ومحمد بين أظهرنا » وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ، وإن كنت بين أظهرهم ] ، وإن كانوا يستغفرون كما يقولون وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، أي: من آمن بالله وعبده, أي: أنت ومن تبعك. حدثنا الحسن بن الصباح البزار..................... قال، حدثنا أبو بردة, عن أبي موسى قال: إنه كان قبلُ أمانان، قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) قال: أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى, وأما الاستغفار فهو دائر فيكم إلى يوم القيامة. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق, عن عامر أبي الخطاب الثوري قال: سمعت أبا العلاء يقول: كان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمَنَتَان: فذهبت إحداهما وبقيت الأخرى: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، الآية. وقال آخرون: معنى ذلك: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، يا محمد, وما كان الله معذب المشركين وهم يستغفرون أي: لو استغفروا. قالوا: ولم يكونوا يستغفرون، فقال جل ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . ذكر من قال ذلك. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، قال: إن القوم لم يكونوا يستغفرون, ولو كانوا يستغفرون ما عُذِّبوا. وكان بعض أهل العلم يقول: هما أمانان أنـزلهما الله: فأما أحدهما فمضى، نبيُّ الله. وأما الآخر فأبقاه الله رحمة بين أظهركم, الاستغفارُ والتوبةُ. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال الله لرسوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، يقول: ما كنت أعذبهم وهم يستغفرون, ولو استغفروا وأقرُّوا بالذنوب لكانوا مؤمنين, وكيف لا أعذبهم وهم لا يستغفرون؟ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن محمد وعن المسجد الحرام؟ حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، قال يقول: لو استغفروا لم أعذبهم. وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان الله ليعذبهم وهم يُسلمون. قالوا: و « استغفارهم » ، كان في هذا الموضع، إسلامَهم. ذكر من قال ذلك. حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير, عن عكرمة, في قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، قال: سألوا العذاب, فقال: لم يكن ليعذبهم وأنت فيهم, ولم يكن ليعذبهم وهم يدخلون في الإسلام. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، قال: بين أظهرهم وقوله: ( وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، قال: يُسلمون. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، بين أظهرهم ( مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، قال: وهم يسلمون وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ ، قريش، عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا محمد بن عبيد الله, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، قال: بين أظهرهم ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، قال: دخولهم في الإسلام. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإسلام. ذكر من قال ذلك. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، يقول: ما كان الله سبحانه يعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم. ثم قال: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، يقول: ومنهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان, وهو الاستغفار. ثم قال: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ، فعذبهم يوم بدر بالسيف. وقال آخرون: بل معناه: وما كان الله معذبهم وهم يصلُّون. ذكر من قال ذلك. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، يعني: يصلُّون, يعني بهذا أهل مكة. حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين الجعفي, عن زائدة, عن منصور, عن مجاهد في قول الله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، قال: يصلون. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، يعني: أهل مكة. يقول: لم أكن لأعذبكم وفيكم محمد. ثم قال: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، يعني: يؤمنون ويصلون. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد, في قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، قال: وهم يصلون. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب المشركين وهم يستغفرون. قالوا: ثم نسخ ذلك بقوله: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . ذكر من قال ذلك. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في « الأنفال » : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، فنسختها الآية التي تليها: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ، إلى قوله: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ، فقوتلوا بمكة, وأصابهم فيها الجوع والحَصْر. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب، قولُ من قال: تأويله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) ، يا محمد، وبين أظهرهم مقيم, حتى أخرجك من بين أظهرهم، لأنّي لا أهلك قرية وفيها نبيها وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون « ، من ذنوبهم وكفرهم, ولكنهم لا يستغفرون من ذلك, بل هم مصرُّون عليه, فهم للعذاب مستحقون كما يقال: » ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ « , يراد بذلك: لا أحسن إليك، إذا أسأت إليّ، ولو أسأت إليّ لم أحسن إليك, ولكن أحسن إليك لأنك لا تسيء إليّ. وكذلك ذلك ثم قيل: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، بمعنى: وما شأنهم، وما يمنعهم أن يعذبهم الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به, وهم يصدون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام؟ » وإنما قلنا: « هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب » ، لأن القوم أعني مشركي مكة كانوا استعجلوا العذاب, فقالوا: اللهم إن كان ما جاء به محمد هو الحق, « فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم » فقال الله لنبيه: « ما كنت لأعذبهم وأنت فيهم، وما كنت لأعذبهم لو استغفروا, وكيف لا أعذبهم بعد إخراجك منهم، وهم يصدون عن المسجد الحرام؟ » . فأعلمه جل ثناؤه أن الذي استعجلوا العذاب حائق بهم ونازل, وأعلمهم حال نـزوله بهم, وذلك بعد إخراجه إياه من بين أظهرهم. ولا وجه لإيعادهم العذابَ في الآخرة, وهم مستعجلوه في العاجل, ولا شك أنهم في الآخرة إلى العذاب صائرون. بل في تعجيل الله لهم ذلك يوم بدر، الدليلُ الواضحُ على أن القول في ذلك ما قلنا. وكذلك لا وجه لقول من وجَّه قوله: ( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) ، إلى أنه عُنى به المؤمنين, وهو في سياق الخبر عنهم، وعما الله فاعل بهم. ولا دليل على أن الخبر عنهم قد تقضَّى, وعلى ذلك [ كُنِي ] به عنهم, وأن لا خلاف في تأويله من أهله موجودٌ. وكذلك أيضًا لا وجه لقول من قال: ذلك منسوخ بقوله: وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، الآية, لأن قوله جل ثناؤه: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ خبر، والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخ, وإنما يكون النسخ للأمر والنهي. القول في تأويل قوله : وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ واختلف أهل العربية في وجه دخول « أن » في قوله: « وما لهم ألا يعذبهم الله » . فقال بعض نحويي البصرة: هي زائدة ههنا, وقد عملت كما عملت « لا » وهي زائدة, وجاء في الشعر: لَـوْ لَـمْ تَكـنْ غَطَفَـانُ لا ذُنُوبَ لَهَا إلَــيَّ, لامَ ذَوُو أحْسَــابِهَا عُمَــرَا وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية وقال: لم تدخل « أن » إلا لمعنى صحيح, لأن معنى: « وما لهم » ، ما يمنعهم من أن يعذبوا. قال: فدخلت « أن » لهذا المعنى, وأخرج ب « لا » , ليعلم أنه بمعنى الجحد, لأن المنع جحد. قال: و « لا » في البيت صحيح معناها, لأن الجحد إذا وقع عليه جحد صار خبرًا. وقال: ألا ترى إلى قولك: « ما زيد ليس قائما » , فقد أوجبت القيام؟ قال: وكذلك « لا » في هذا البيت. القول في تأويل قوله : وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 34 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام, ولم يكونوا أولياء الله « إن أولياؤه » ، يقول: ما أولياء الله « إلا المتقون » , يعني: الذين يتقون الله بأداء فرائضه, واجتناب معاصيه. « ولكن أكثرهم لا يعلمون » يقول: ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون، بل يحسبون أنهم أولياء الله . وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون » ، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: « إن أولياؤه إلا المتقون » ، مَن كانوا، وحيث كانوا. حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون » ، الذين يحرمون حرمته, ويقيمون الصلاة عنده, أي: أنت يعني النبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن بك يقول: « ولكن أكثرهم لا يعلمون » . القول في تأويل قوله : وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 35 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين ألا يعذبهم الله، وهم يصدون عن المسجد الحرام الذي يصلون لله فيه ويعبدونه, ولم يكونوا لله أولياء, بل أولياؤه الذين يصدونهم عن المسجد الحرام، وهم لا يصلون في المسجد الحرام « وما كان صلاتهم عند البيت » ، يعني: بيت الله العتيق « إلا مُكاء » ، وهو الصفير. يقال منه: « مكا يمكو مَكوًا ومُكاءً » وقد قيل: إن « المكو » : أن يجمع الرجل يديه، ثم يدخلهما في فيه، ثم يصيح. ويقال منه: « مَكت است الدابة مُكاء » ، إذا نفخت بالريح. ويقال: « إنه لا يمكو إلا استٌ مكشوفة » , ولذلك قيل للاست « المَكْوة » , سميت بذلك، ومن ذلك قول عنترة: وَحَــلِيلِ غَانِيَــةٍ تَــرَكْتُ مُجَـدَّلا تَمْكُــو فَرِيصَتُــهُ كَشِـدْقِ الأعْلَـمِ وقول الطِّرِمَّاح: فَنَحَــا لأُِولاَهــا بِطَعْنَــةِ مُحْـفَظٍ تَمْكُــو جَوَانِبُهَــا مِــنَ الإنْهَـارِ بمعنى: تصوِّت. وأما « التصدية » ، فإنها التصفيق, يقال منه: « صدَّى يصدِّي تصديةً » , و « صفَّق » ، و « صفّح » ، بمعنى واحد. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبى, عن موسى بن قيس، عن حجر بن عنبس: « إلا مكاء وتصدية » ، قال: « المكاء » ، التصفير و « التصدية » ، التصفيق. حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، « المكاء » ، التصفير و « التصدية » ، التصفيق. حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، يقول: كانت صلاة المشركين عند البيت « مكاء » يعني الصفير و « تصدية » ، يقول: التصفيق. حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا فضيل, عن عطية: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، قال: التصفيق والصفير. حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن قرة بن خالد, عن عطية, عن ابن عمر قال: « المكاء » ، التصفيق, و « التصدية » ، الصفير. قال: وأمال ابن عمر خدّه إلى جانب. حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا وكيع, عن قرة بن خالد, عن عطية, عن ابن عمر: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، قال: « المكاء » و « التصدية » ، الصفير والتصفيق. حدثني الحارث قال: حدثنا القاسم قال: سمعت محمد بن الحسين يحدث، عن قرة بن خالد, عن عطية العوفي, عن ابن عمر قال: « المكاء » ، الصفير, و « التصدية » : التصفيق. حدثنا ابن بشار قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا قرة, عن عطية, عن ابن عمر في قوله: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، قال: « المكاء » الصفير, و « التصدية » ، التصفيق وقال قرة: وحكى لنا عطية فعل ابن عمر, فصفر، وأمال خده، وصفق بيديه. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني بكر بن مضر, عن جعفر بن ربيعة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول في قول الله: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » قال بكر: فجمع لي جعفر كفيه, ثم نفخ فيهما صفيرًا, كما قال له أبو سلمة. حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس قال: « المكاء » ، الصفير, و « التصدية » ، التصفيق. ... قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سلمة بن سابور, عن عطية, عن ابن عمر: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، قال: تصفير وتصفيق. ... قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فضيل بن مرزوق, عن عطية, عن ابن عمر, مثله. حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا حبويه أبو يزيد, عن يعقوب, عن جعفر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفّرون ويصفقون, فأنـزل الله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [ سورة الأعراف: 32 ] ، فأمروا بالثياب. حدثني المثنى قال: حدثنا الحماني قال: حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد قال: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون به, يصفرون به ويصفقون, فنـزلت: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » . حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « إلا مكاء » ، قال: كانوا ينفخون في أيديهم, و « التصدية » ، التصفيق. حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « إلا مكاء وتصدية » ، قال: « المكاء » ، إدخال أصابعهم في أفواههم, و « التصدية » التصفيق, يخلِطون بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم صلاتَه. حدثنا المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله إلا أنه لم يقل: « صلاته » . حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: « المكاء » ، إدخال أصابعهم في أفواههم, و « التصدية » ، التصفيق. قال نفرٌ من بني عبد الدار، كانوا يخلطون بذلك كله على محمد صلاتَه. حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا طلحة بن عمرو, عن سعيد بن جبير: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، قال: من بين الأصابع قال أحمد: سقط عليَّ حرف ، وما أراه إلا الخَذْف والنفخ والصفير منها، وأراني سعيد بن جبير حيث كانوا يَمْكون من ناحية أبي قُبَيس. حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق بن سليمان قال: أخبرنا طلحة بن عمرو, عن سعيد بن جبير في قوله: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، قال: « المكاء » ، كانوا يشبِّكون بين أصابعهم ويصفرون بها, فذلك « المكاء » . قال: وأراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قُبَيس. حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة, عن جعفر بن ربيعة, عن أبي سلمة بن عبد الرحمن في قوله: « مكاء وتصدية » ، قال: « المكاء » النفخ وأشار بكفه قِبَل فيه و « التصدية » ، التصفيق. حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: « المكاء » ، الصفير, و « التصدية » ، التصفيق. حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك, مثله. حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، قال: كنا نُحَدَّث أن « المكاء » ، التصفيق بالأيدي, و « التصدية » ، صياح كانوا يعارضون به القرآن. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « مكاء وتصدية » ، قال: « المكاء » ، التصفير, و « التصدية » ، التصفيق. حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، و « المكاء » ، الصفير, على نحو طير أبيض يقال له « المكَّاء » ، يكون بأرض الحجاز، و « التصدية » ، التصفيق. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، قال: « المكاء » ، صفير كان أهل الجاهلية يُعلنون به. قال: وقال في « المكاء » ، أيضًا: صفير في أيديهم ولعب. وقد قيل في « التصدية » : إنها « الصد عن بيت الله الحرام » . وذلك قول لا وجه له، لأن « التصدية » ، مصدر من قول القائل: « صدّيت تصدية » . وأما « الصدّ » فلا يقال منه: « صدَّيت » , إنما يقال منه « صدَدْت » , فإن شدَّدت منها الدال على معنى تكرير الفعل قيل: « صدَّدْتَ تصديدًا » . إلا أن يكون صاحب هذا القول وجَّه « التصدية » إلى أنه من « صَدَّدت » , ثم قلبت إحدى داليه ياء, كما يقال: « تظنَّيْتُ » من « ظننت » , وكما قال الراجز: تَقَضِّيَ البَازِي إذَا البَازِي كَسَرْ يعني: تقضُّض البازي, فقلب إحدى ضاديه ياء, فيكون ذلك وجهًا يوجَّه إليه. * ذكر من قال ما ذكرنا في تأويل « التصدية » . حدثني أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا طلحة بن عمرو, عن سعيد بن جبير: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، صدهم عن بيت الله الحرام. حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق بن سليمان قال: أخبرنا طلحة بن عمرو, عن سعيد بن جبير: « وتصدية » قال: « التصدية » ، صدّهم الناس عن البيت الحرام. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: « وتصدية » ، قال: التصديد، عن سبيل الله, وصدّهم عن الصلاة وعن دين الله. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية » ، قال: ما كان صلاتهم التي يزعمون أنها يُدْرَأ بها عنهم « إلا مكاء وتصدية » , وذلك ما لا يرضى الله ولا يحبّ, ولا ما افترض عليهم، ولا ما أمرهم به. وأما قوله: « فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون » ، فإنه يعني العذابَ الذي وعدهم به بالسيف يوم بدر. يقول للمشركين الذين قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ الآية, حين أتاهم بما استعجلوه من العذاب « ذوقوا » ، أي اطعموا, وليس بذوق بفم, ولكنه ذوق بالحسِّ, ووجود طعم ألمه بالقلوب. يقول لهم: فذوقوا العذابَ بما كنتم تجحدون أن الله معذبكم به على جحودكم توحيدَ ربكم، ورسالةَ نبيكم صلى الله عليه وسلم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون » ، أي: ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل. حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج: « فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون » ، قال: هؤلاء أهل بدر، يوم عذبهم الله. حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: « فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون » ، يعني أهل بدر، عذبهم الله يوم بدر بالقتل والأسر. القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ( 36 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم, فيعطونها أمثالهم من المشركين ليتقوَّوا بها على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به, ليصدّوا المؤمنين بالله ورسوله عن الإيمان بالله ورسوله, فسينفقون أموالهم في ذلك، ثم تكون نفقتهم تلك عليهم « حسرة » ، يقول: تصير ندامة عليهم, لأن أموالهم تذهب, ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله, وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله, لأن الله مُعْلي كلمته, وجاعل كلمة الكفر السفلى, ثم يغلبهم المؤمنون, ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلى جهنم, فيعذبون فيها، فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك! أما الحيّ، فحُرِب ماله وذهبَ باطلا في غير دَرَك نفع، ورجع مغلوبًا مقهورًا محروبًا مسلوبًا. وأما الهالك، فقتل وسُلب، وعُجِّل به إلى نار الله يخلُد فيها, نعوذ بالله من غضبه. وكان الذي تولَّى النفقةَ التي ذكرها الله في هذه الآية فيما ذُكر، أبا سفيان. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر, عن سعيد بن جبير في قوله: « إن الذين كفروا ينفقون أموالهم » الآية، « والذين كفروا إلى جهنم يحشرون » ، قال: نـزلت في أبي سفيان بن حرب. استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة, فقاتل بهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم , وهم الذين يقول فيهم كعب بن مالك: وَجِئْنَـا إلَـى مَـوْجٍ مِنَ البَحْرِ وَسْطَه أَحَــابِيشُ, مِنْهُــمْ حَاسِـرٌ وَمُقَنَّـعُ ثَلاثَـــةُ آلافٍ, ونَحْــنُ نَصِيَّــةٌ ثَــلاثُ مِئِــينَ إن كَـثُرْنَ, فَـأرْبَعُ حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا إسحاق بن إسماعيل, عن يعقوب القمي, عن جعفر, عن ابن أبزى: « إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله » ، قال: نـزلت في أبي سفيان, استأجر يوم أحد ألفين ليقاتل بهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، سوى من استجاش من العرب. ......قال، أخبرنا أبي عن خطاب بن عثمان العصفري, عن الحكم بن عتيبة: « إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله » ، قال: نـزلت في أبي سفيان. أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية من ذهب, وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا. حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: « إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله » ، الآية ، قال: لما قدم أبو سفيان بالعير إلى مكة أشَّبَ الناس ودعاهم إلى القتال، حتى غزا نبيَّ الله من العام المقبل. وكانت بدر في رمضان يوم الجمعة صبيحة سابع عشرة من شهر رمضان. وكانت أحد في شوال يوم السبت لإحدى عشرة خلت منه في العام الرابع. حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال الله فيما كان المشركون، ومنهم أبو سفيان، يستأجرون الرجال يقاتلون محمدًا بهم: « إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله » ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم « فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة » ، يقول: ندامة يوم القيامة وويلٌ « ثم يغلبون » . حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله » ، الآية حتى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ، قال: في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد. حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، [ وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد. وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من الحديث عن يوم أحد، قالوا: أو من قاله منهم: لما أصيب ] يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب ، ورجع فَلُّهم إلى مكة, ورجع أبو سفيان بعِيره, مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر, فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير من قريش تجارة, فقالوا: يا معشر قريش, إن محمدًا قد وَتَرَكم وقتل خيارَكم, فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا! ففعلوا. قال: ففيهم، كما ذكر عن ابن عباس، أنـزل الله: « إن الذين كفروا ينفقون أموالهم » إلى قوله: « والذين كفروا إلى جهنم يحشرون » . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله » ، إلى قوله: « يحشرون » ، يعني النفرَ الذين مشوا إلى أبي سفيان، وإلى من كان له مال من قريش في تلك التجارة, فسألوهم أن يُقَوُّوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلوا. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني سعيد بن أبي أيوب, عن عطاء بن دينار في قول الله: « إن الذين كفروا ينفقون أموالهم » ، الآية, نـزلت في أبي سفيان بن حرب. وقال بعضهم: عني بذلك المشركون من أهل بدر. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: « إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله » الآية، قال: هم أهل بدر. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قلنا, وهو أن يقال: إن الله أخبرَ عن الذين كفروا به من مشركي قريش، أنهم ينفقون أموالهم ليصدُّوا عن سبيل الله. لم يخبرنا بأيّ أولئك عَنى, غير أنه عم بالخبر « الذين كفروا » . وجائز أن يكون عَنَى المنفقين أموالهم لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد وجائز أن يكون عنى المنفقين منهم ذلك ببدر وجائز أن يكون عنى الفريقين. وإذا كان ذلك كذلك, فالصواب في ذلك أن يعمّ كما عم جل ثناؤه الذين كفروا من قريش. القول في تأويل قوله : لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ( 37 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحشر الله هؤلاء الذين كفروا بربهم, وينفقون أموالهم للصدّ عن سبيل الله، إلى جهنم, ليفرق بينهم وهم أهل الخبث، كما قال وسماهم « الخبيث » وبين المؤمنين بالله وبرسوله, وهم « الطيبون » ، كما سماهم جل ثناؤه. فميَّز جل ثناؤه بينهم بأن أسكن أهل الإيمان به وبرسوله جناته, وأنـزل أهل الكفر نارَه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « ليميز الله الخبيث من الطيب » فميَّز أهل السعادة من أهل الشقاوة. حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي قال: ثم ذكر المشركين, وما يصنع بهم يوم القيامة, فقال: « ليميز الله الخبيث من الطيب » ، يقول: يميز المؤمن من الكافر، فيجعل الخبيث بعضه على بعض . ويعني جل ثناؤه بقوله: « فيجعل الخبيث بعضه على بعض » ، فيحمل الكفار بعضهم فوق بعض « فيركمه جميعا » ، يقول: فيجعلهم ركامًا, وهو أن يجمع بعضهم إلى بعض حتى يكثروا, كما قال جل ثناؤه في صفة السحاب: ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا [ سورة النور: 43 ] ، أي مجتمعًا كثيفًا، وكما:- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: « فيركمه جميعًا » ، قال: فيجمعه جميعًا بعضه على بعض. وقوله: « فيجعله في جهنم » يقول: فيجعل الخبيث جميعًا في جهنم فوحَّد الخبر عنهم لتوحيد قوله: « ليميز الله الخبيث » , ثم قال: « أولئك هم الخاسرون » ، فجمع، ولم يقل: « ذلك هو الخاسر » , فردَّه إلى أول الخبر. ويعني ب « أولئك » ، الذين كفروا, وتأويله: هؤلاء الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله « هم الخاسرون » ، ويعني بقوله: « الخاسرون » الذين غُبنت صفقتهم، وخسرت تجارتهم. وذلك أنهم شَرَوْا بأموالهم عذابَ الله في الآخرة, وتعجَّلوا بإنفاقهم إياها فيما أنفقوا من قتال نبيّ الله والمؤمنين به، الخزيَ والذلَّ. القول في تأويل قوله : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ( 38 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، « للذين كفروا » ، من مشركي قومك « إن ينتهوا » ، عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله، وقتالك وقتال المؤمنين، فينيبوا إلى الإيمان يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم « وإن يعودوا » ، يقول: وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر فقد مضت سنتي في الأولين منهم ببدر، ومن غيرهم من القرون الخالية، إذ طغوا وكذبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم، من إحلال عاجل النِّقَم بهم, فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك، مثل الذي أحللت بهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « فقد مضت سنة الأولين » ، في قريش يوم بدر، وغيرها من الأمم قبل ذلك. حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله. حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثني ابن وكيع قال: حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فقد مضت سنة الأولين » ، قال: في قريش وغيرها من الأمم قبل ذلك. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال في قوله: « قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا » لحربك « فقد مضت سنة الأولين » ، أي: من قُتل منهم يوم بدر. حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « وإن يعودوا » ، لقتالك « فقد مضت سنة الأولين » ، من أهل بدر. القول في تأويل قوله : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 39 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: وإن يعد هؤلاء لحربك, فقد رأيتم سنتي فيمن قاتلكم منهم يوم بدر, وأنا عائد بمثلها فيمن حاربكم منهم, فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له, فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض وهو « الفتنة » « ويكون الدين كله لله » ، يقول: حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصةً دون غيره. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » ، يعني: حتى لا يكون شرك. حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم, عن يونس, عن الحسن في قوله: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » ، قال: « الفتنة » ، الشرك. حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » ، يقول: قاتلوهم حتى لا يكون شرك « ويكون الدين كله لله » ، حتى يقال: « لا إله إلا الله » , عليها قاتل نبي الله صلى الله عليه وسلم , وإليها دَعا. حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » ، قال: حتى لا يكون شرك. حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا مبارك بن فضالة, عن الحسن في قوله: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » ، قال: حتى لا يكون بلاء. حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج قال: قال ابن جريج: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله » ، أي: لا يفتن مؤمن عن دينه, ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شرك, ويُخلع ما دونه من الأنداد. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: « وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة » ، قال: حتى لا يكون كفر « ويكون الدين كله لله » ، لا يكون مع دينكم كفر. حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أبان العطار قال: حدثنا هشام بن عروة, عن أبيه: أن عبد الملك بن مروان كتبَ إليه يسأله عن أشياء, فكتب إليه عروة: « سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, وسأخبرك به, ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, أن الله أعطاه النبوة, فنعم النبيُّ ! ونعم السيد! ونعم العشيرة! فجزاه الله خيرًا، وعرّفنا وجهه في الجنة, وأحيانَا على ملته, وأماتنا عليها, وبعثنا عليها. وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنـزل عليه, لم يَبْعُدوا منه أوّلَ ما دعاهم إليه, وكادوا يسمعون له، حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش، لهم أموال, أنكر ذلك ناسٌ, واشتدّوا عليه, وكرهوا ما قال, وأغروا به من أطاعهم, فانصفق عنه عامة الناس فتركوه, إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل. فمكث بذلك ما قدّر الله أن يمكث, ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم, فكانت فتنةً شديدة الزلزال , فافتتن من افتتن, وعصم الله من شاء منهم. فلما فُعِل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة. وكان بالحبشة ملك صالح يقال له » النجاشي « ، لا يُظلم أحد بأرضه, وكان يُثْنَى عليه مع ذلك [ صلاح ] ، وكانت أرض الحبشة متجرًا لقريش، يَتْجَرون فيها, ومساكن لتِجَارهم يجدون فيها رَفاغًا من الرزق وأمنًا ومَتْجَرًا حسنًا، فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قُهِروا بمكة, وخاف عليهم الفتن. ومكث هو فلم يبرح. فمكث ذلك سنوات يشتدُّون على من أسلم منهم. ثم إنه فشا الإسلام فيها, ودخل فيه رجال من أشرافهم ومَنَعتهم. فلما رأوا ذلك، استرخوْا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل أرض الحبشة، مخافتَها، وفرارًا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال. فلما استُرْخي عنهم، ودخل في الإسلام من دخل منهم, تُحُدِّث باسترخائهم عنهم. فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قد استُرْخِيَ عمن كان منهم بمكة، وأنهم لا يفتنون. فرجعوا إلى مكة، وكادوا يأمنون بها, وجعلوا يزدادون، ويكثرون. وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير, وفشا بالمدينة الإسلام, وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. فلما رأت ذلك قريش , تذامرَتْ على أن يفتنوهم ويشتدّوا عليهم, فأخذوهم، وحرصوا على أن يفتنوهم, فأصابهم جَهْدٌ شديد. وكانت الفتنة الآخرة. فكانت ثنتين: فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة، حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وأذن لهم في الخروج إليها وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة. ثم إنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبًا، رؤوس الذين أسلموا, فوافوه بالحج, فبايعوه بالعقبة, وأعطوه عهودهم على أنّا منك وأنت منا, وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فاشتدت عليهم قريش عند ذلك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة, وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وخرج هو, وهي التي أنـزل الله فيها: » وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله « . » حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد, عن أبيه, عن عروة بن الزبير: أنه كتب إلى الوليد: ما بعد, فإنك كتبتَ إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, وعندي، بحمد الله ، من ذلك علم بكل ما كتبتَ تسألني عنه, وسأخبرك إن شاء الله, ولا حول ولا قوة إلا بالله, ثم ذكر نحوه. حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا قيس, عن الأعمش, عن مجاهد: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ، قال: « يَسَاف » و « نائلة » ، صنمان كانا يعبدان. وأما قوله: « فإن انتهوا » ، فإن معناه: فإن انتهوا عن الفتنة, وهي الشرك بالله, وصارُوا إلى الدين الحق معكم « فإن الله بما يعملون بصير » ، يقول: فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون من ترك الكفر والدخول في دين الإسلام، لأنه يبصركم ويبصر أعمالكم، والأشياء كلها متجلية له، لا تغيب عنه، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. وقد قال بعضهم: معنى ذلك، فإن انتهوا عن القتال. قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بالصواب, لأن المشركين وإن انتهوا عن القتال, فإنه كان فرضًا على المؤمنين قتالهم حتى يسلموا. القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( 40 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن أدبر هؤلاء المشركون عما دعوتموهم إليه، أيها المؤمنون من الإيمان بالله ورسوله، وترك قتالكم على كفرهم, فأبوا إلا الإصرار على الكفر وقتالكم, فقاتلوهم، وأيقنوا أنّ الله معينكم عليهم وناصركم « نعم المولى » ، هو لكم, يقول: نعم المعين لكم ولأوليائه « ونعم النصير » ، وهو الناصر. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « وإن تولوا » ، عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم ، فإن الله هو مولاكم الذي أعزكم ونصركم عليهم يوم بدر، في كثرة عددهم وقلة عددكم « نعم المولى ونعم النصير » . القول في تأويل قوله : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ قال أبو جعفر: وهذا تعليم من الله عز وجل المؤمنين قَسْمَ غنائمهم إذا غنموها. يقول تعالى ذكره: واعلموا، أيها المؤمنون ، أن ما غنمتم من غنيمة. واختلف أهل العلم في معنى « الغنيمة » و « الفيء » . فقال بعضهم: فيهما معنيان، كل واحد منهما غير صاحبه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن, عن الحسن بن صالح قال: سألت عطاء بن السائب عن هذه الآية: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » ، وهذه الآية: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [ سورة الحشر: 7 ] ، قال قلت: ما « الفيء » ، وما « الغنيمة » ؟ قال: إذا ظهر المسلمون على المشركين وعلى أرضهم, وأخذوهم عنوةً، فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو « غنيمة » , وأما الأرض فهو في سوادنا هذا « فيء » . وقال آخرون: « الغنيمة » ، ما أخذ عنوة، و « الفيء » ، ما كان عن صلح. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان الثوري قال: « الغنيمة » ، ما أصاب المسلمون عنوة بقتال، فيه الخمس, وأربعة أخماسه لمن شهدها. و « الفيء » ، ما صولحوا عليه بغير قتال, وليس فيه خمس, هو لمن سمَّى الله. وقال آخرون: « الغنيمة » و « الفيء » ، بمعنى واحد. وقالوا: هذه الآية التي في « الأنفال » ، ناسخة قوله: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الآية ، [ سورة الحشر: 7 ] . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، قال: كان الفيء في هؤلاء, ثم نسخ ذلك في « سورة الأنفال » , فقال: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل » ، فنسخت هذه ما كان قبلها في « سورة الأنفال » , وجعل الخمس لمن كان له الفيء في « سورة الحشر » , وسائر ذلك لمن قاتل عليه. وقد بينا فيما مضى « الغنيمة » , وأنها المال يوصل إليه من مال من خوّل الله مالَه أهلَ دينه، بغلبة عليه وقهرٍ بقتال. فأما « الفيء » , فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك, وهو ما ردّه عليهم منها بصلح, من غير إيجاف خيل ولا ركاب. وقد يجوز أن يسمى ما ردّته عليهم منها سيوفهم ورماحهم وغير ذلك من سلاحهم « فيئًا » , لأن « الفيء » ، إنما هو مصدر من قول القائل: « فاء الشيء يفيء فيئًا » ، إذا رجع و « أفاءه الله » ، إذا ردّه. غير أن الذي ردّ حكم الله فيه من الفيء بحكمه في « سورة الحشر » ، إنما هو ما وصفت صفته من الفيء، دون ما أوجف عليه منه بالخيل والركاب, لعلل قد بينتها في كتاب: ( كتاب لطيف القول، في أحكام شرائع الدين ) ، وسنبينه أيضًا في تفسير « سورة الحشر » ، إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى. وأما قول من قال: الآية التي في « سورة الأنفال » ، ناسخةٌ الآيةَ التي في « سورة الحشر » ، فلا معنى له, إذ كان لا معنى في إحدى الآيتين ينفي حكم الأخرى. وقد بينا معنى « النسخ » , وهو نفي حكم قد ثبت بحكمٍ خلافه, في غير موضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وأما قوله: « من شيء » ، فإنه مرادٌ به: كل ما وقع عليه اسم « شيء » ، مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من المشركين، مما وقع فيه القَسْم، حتى الخيط والمِخْيط، كما:- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد قوله: « واعلموا أنما غنمتم من شيء » ، قال: المخيط من « الشيء » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ليث, عن مجاهد بمثله. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم الفضل قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن مجاهد, مثله. القول في تأويل قوله : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم قوله: « فأن لله خمسه » ، مفتاحُ كلامٍ, ولله الدنيا والآخرة وما فيهما, وإنما معنى الكلام: فإن للرسول خمسه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن عن قول الله: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول » ، قال: هذا مفتاح كلامٍ, لله الدنيا والآخرة. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد عن قوله: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » ، قال: هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا أبو شهاب, عن ورقاء, عن نهشل, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا، خمَّس الغنيمة، فضرب ذلك الخمس في خمسة. ثم قرأ: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول » . قال: وقوله: « فأن لله خمسه » ، مفتاح كلام, لله ما في السموات وما في الأرض، فجعل الله سهم الله وسهم الرسول واحدًا. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن إبراهيم: « فأن لله خمسه » ، قال: لله كل شيء. حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن مغيرة, عن إبراهيم في قوله: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » ، قال: لله كل شيء, وخُمس لله ورسوله, ويقسم ما سوى ذلك على أربعة أسهم. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس, فأربعة أخماس لمن قاتل عليها, ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس, فخمس لله والرسول. حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا أبان, عن الحسن قال: أوصى أبو بكر رحمه الله بالخمس من ماله، وقال: ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل, عن عبد الملك, عن عطاء: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول » ، قال: خمس الله وخمس رسوله واحد. كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويضع فيه ما شاء. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا أبو عوانة, عن المغيرة, عن أصحابه, عن إبراهيم: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » ، قال: كل شيء لله, الخمس للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. وقال آخرون: معنى ذلك: فإن لبيت الله خمسه وللرسول. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع بن الجراح, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية الرياحي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤتَى بالغنيمة, فيقسمها على خمسة، تكون أربعة أخماس لمن شهدها, ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه, فيأخذ منه الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة, وهو سهم الله. ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم للرسول، وسهم لذي القربى, وسهم لليتامى, وسهم للمساكين, وسهم لابن السبيل. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » ، إلى آخر الآية ، قال: فكان يُجَاء بالغنيمة فتوضع, فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم, فيجعل أربعة بين الناس، ويأخذ سهمًا, ثم يضرب بيده في جميع ذلك السهم, فما قَبَضَ عليه من شيء جعله للكعبة, فهو الذي سُمِّي لله, ويقول: « لا تجعلوا لله نصيبًا، فإن لله الدنيا والآخرة, ثم يقسم بقيته على خمسة أسهم: سهم للنبي صلى الله عليه وسلم , وسهم لذوي القربى, وسهم لليتامى, وسهم للمساكين, وسهم لابن السبيل. » وقال آخرون: ما سُمِّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، فإنما هو مرادٌ به قرابته, وليس لله ولا لرسوله منه شيء. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس, فأربعة منها لمن قاتل عليها, وخمس واحد يقسم على أربعة: فربع لله والرسول ولذي القربى يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم , ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا. والربع الثاني لليتامى, والربع الثالث للمساكين, والربع الرابع لابن السبيل. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: قوله: « فأن لله خمسه » ، « افتتاح كلام » ، وذلك لإجماع الحجة على أنّ الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم, ولو كان لله فيه سهم، كما قال أبو العالية, لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسومًا على ستة أسهم. وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها, فأما على أكثر من ذلك، فما لا نعلم قائلا قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبي العالية. وفي إجماع من ذكرت، الدلالةُ الواضحةُ على صحة ما اخترنا. فأما من قال: « سهم الرسول لذوي القربى » , فقد أوجب للرسول سهمًا، وإن كان صلى الله عليه وسلم صرفه إلى ذوي قرابته, فلم يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم، وقد:- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه » ، الآية ، قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة جعلت أخماسًا, فكان خمس لله ولرسوله, ويقسم المسلمون ما بقي. وكان الخمس الذي جُعل لله ولرسوله، لرسوله ولذوي القربى واليتامى وللمساكين وابن السبيل فكان هذا الخمس خمسة أخماس: خمس لله ورسوله, وخمس لذوي القربى. وخمس لليتامى, وخمس للمساكين. وخمس لابن السبيل. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت يحيى بن الجزار عن سهم النبي صلى الله عليه وسلم , فقال: هو خُمْس الخمس. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, وجرير عن موسى بن أبي عائشة, عن يحيى بن الجزار، مثله. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن موسى بن أبي عائشة, عن يحيى بن الجزار، مثله. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « فأن لله خمسه » ، قال: أربعة أخماس لمن حضر البأس, والخمس الباقي لله والرسول، خمسه يضعه حيث رأى, وخمسه لذوي القربى, وخمسه لليتامى, وخمسة للمساكين, ولابن السبيل خمسه. وأما قوله: « ولذي القربى » ، فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم. فقال بعضهم: هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي, عن شريك, عن خصيف, عن مجاهد قال: كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحلّ لهم الصدقة, فجعل لهم خمس الخمس. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك, عن خصيف, عن مجاهد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهلُ بيته لا يأكلون الصدقة, فجعل لهم خمس الخمس. حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام, عن خصيف, عن مجاهد قال: قد علم الله أنّ في بني هاشم الفقراء, فجعل لهم الخمس مكانَ الصدقة. حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا إسماعيل بن أبان قال، حدثنا الصباح بن يحيى المزني, عن السدي, عن أبي الديلم قال، قال علي بن الحسين، رحمة الله عليه، لرجل من أهل الشأم: أما قرأت في « الأنفال » : « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول » الآية؟ قال: نعم! قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم! حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن خصيف, عن مجاهد قال: هؤلاء قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو معاوية, عن حجاج, عن عطاء, عن ابن عباس: أن نَجْدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى, فكتب إليه كتابًا: « نـزعم أنا نحن هم, فأبى ذلك علينا قومنا » . ...قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « فأن لله خمسه » ، قال: أربعة أخماس لمن حضر البأس, والخمس الباقي لله, وللرسول، خمسه يضعه حيث رأى, وخمسٌ لذوي القربى, وخمس لليتامى, وخمس للمساكين, ولابن السبيل خمسه. وقال آخرون: بل هم قريش كلها. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرني عبد الله بن نافع, عن أبي معشر, عن سعيد المقبري قال: كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن ذي القربى قال: فكتب إليه ابن عباس: « قد كنا نقول: إنّا هم, فأبى ذلك علينا قومنا, وقالوا: قريش كلها ذوو قربى » . وقال آخرون: سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال: كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا, فلما توفي جُعل لوليّ الأمر من بعده. وقال آخرون: بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم وبني المطلب خاصةً. وممن قال ذلك الشافعي, وكانت علته في ذلك ما: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني الزهري, عن سعيد بن المسيب, عن جبير بن مطعم قال: لما قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان بن عفان رحمة الله عليه , فقلنا: يا رسول الله, هؤلاء إخوتك بنو هاشم، لا ننكر فضلهم، لمكانك الذي جعلك الله به منهم, أرأيت إخواننا بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا, وإنما نحن وهم منك بمنـزلة واحدة؟ فقال: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام, إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد! ثم شبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي, قولُ من قال: « سهم ذي القربى، كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب » ، لأنّ حليف القوم منهم, ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين أعني سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم ذي القربى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال بعضهم: يُصرفان في معونة الإسلام وأهله. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا أبو شهاب, عن ورقاء, عن نهشل, عن الضحاك, عن ابن عباس قال: جُعل سهم الله وسهم الرسول واحدًا، ولذي القربى, فجعل هذان السهمان في الخيل والسلاح. وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، لا يُعْطَى غيرَهم. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن عن قول الله: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى » ، قال: هذا مفتاح كلامٍ, لله الدنيا والآخرة. ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال قائلون: سهم النبي صلى الله عليه وسلم , لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله, فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد, فذكر نحوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمر بن عبيد, عن الأعمش, عن إبراهيم قال: كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليهوسلمن في الكُرَاع والسلاح. فقلت لإبراهيم: ما كان علي رضي الله عنه يقول فيه؟ قال: كان عليٌّ أشدَّهم فيه. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين » الآية، قال ابن عباس: فكانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس: أربعة بين من قاتل عليها, وخمس واحد يقسم على أربعة: لله وللرسول ولذي القربى يعني: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم , ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا. فلما قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم ردّ أبو بكر رضي الله عنه نصيبَ القرابة في المسلمين, فجعل يحمل به في سبيل الله, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث, ما تركنا صدقة. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال: كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما تُوُفي، حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله، صدقةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون: سهم ذوي القربى من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ولي أمر المسلمين. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عمرو بن ثابت, عن عمران بن ظبيان, عن حُكَيم بن سعد, عن علي رضي الله عنه قال: يعطى كل إنسان نصيبه من الخمس, ويلي الإمام سهم الله ورسوله. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذوي القربى فقال: كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا, فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده. وقال آخرون: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس, والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم: على اليتامى, والمساكين, وابن السبيل. وذلك قول جماعة من أهل العراق. وقال آخرون: الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك: حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الغفار قال، حدثنا المنهال بن عمرو قال: سألت عبد الله بن محمد بن علي، وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا هو لنا. فقلت لعلي: إن الله يقول: « واليتامى والمساكين وابن السبيل » ، فقالا يتامانَا ومساكيننا. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا, أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردودٌ في الخمس, والخمس مقسوم على أربعة أسهم، على ما روي عن ابن عباس: للقرابة سهم, ولليتامى سهم, وللمساكين سهم, ولابن السبيل سهم، لأن الله أوجبَ الخمس لأقوام موصوفين بصفات, كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين. وقد أجمعوا أنّ حق الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم, فكذلك حق أهل الخمس لن يستحقه غيرهم. فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم, كما غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في كتابه بفقد بعض من يستحقه، إلى غير أهل السهمان الأخَر. وأما « اليتامى » ، فهم أطفال المسلمين الذين قد هلك آباؤهم. و « المساكين » ، هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. و « ابن السبيل » ، المجتاز سفرًا قد انقُطِع به، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قال: الخمس الرابع لابن السبيل, وهو الضيف الفقير الذي ينـزل بالمسلمين. القول في تأويل قوله : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 41 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون، أنما غنمتم من شيء فمقسوم القسم الذي بينته, وصدِّقوا به إن كنتم أقررتم بوحدانية الله وبما أنـزل الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يوم فَرَق بين الحق والباطل ببدر, فأبان فَلَج المؤمنين وظهورَهم على عدوهم, وذلك « يوم التقى الجمعان » ، جمعُ المؤمنين وجمعُ المشركين، والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم بأيدي المؤمنين, وعلى غير ذلك مما يشاء « قدير » ، لا يمتنع عليه شيء أراده. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « يوم الفرقان » ، يعني: ب « الفرقان » ، يوم بدر, فرَق الله فيه بين الحق والباطل. حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل, عن ابن شهاب, عن عروة بن الزبير وإسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق, عن معمر, عن الزهري, عن عروة بن الزبير يزيد أحدهما على صاحبه في قوله: « يوم الفرقان » ، يوم فرق الله بين الحق والباطل, وهو يوم بدر, وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان رأسَ المشركين عُتبةُ بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان, وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين الألف والتسعمئة. فهزم الله يومئذ المشركين, وقتل منهم زيادة على سبعين, وأسر منهم مثل ذلك. 16132م - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن مقسم: « يوم الفرقان » ، قال: يوم بدر, فرق الله بين الحق والباطل. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عثمان الجزري, عن مقسم في قوله: « يوم الفرقان » ، قال: يوم بدر, فرق الله بين الحق والباطل. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « يوم الفرقان يوم التقى الجمعان » يوم بدر, و « بدر » ، بين المدينة ومكة. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثني يحيى بن يعقوب أبو طالب, عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي, عن أبي عبد الرحمن السلمي، عبد الله بن حبيب قال: قال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانت ليلة « الفرقان يوم التقى الجمعان » ، لسبع عشرة من شهر رمضان. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « يوم التقى الجمعان » ، قال ابن جريج، قال ابن كثير: يوم بدر. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « وما أنـزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان » ، أي: يوم فرقت بين الحق والباطل بقدرتي، يوم التقى الجمعان منكم ومنهم. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وما أنـزلنا على عبدنا يوم الفرقان » ، وذاكم يوم بدر, يوم فرق الله بين الحق والباطل. القول في تأويل قوله : إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقنوا، أيها المؤمنون، واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بيَّنه لكم ربكم، إن كنتم آمنتم بالله وما أنـزل على عبده يوم بدر, إذ فرق بين الحق والباطل من نصر رسوله « إذ أنتم » ، حينئذ، « بالعدوة الدنيا » ، يقول: بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة « وهم بالعدوة القصوى » ، يقول: وعدوكم من المشركين نـزولٌ بشَفير الوادي الأقصى إلى مكة « والركب أسفل منكم » ، يقول: والعير فيه أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « إذ أنتم بالعدوة الدنيا » ، قال: شفير الوادي الأدنى، وهم بشفير الوادي الأقصى « والركب أسفل منكم » ، قال: أبو سفيان وأصحابه، أسفلَ منهم. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى » ، وهما شفير الوادي. كان نبيُّ الله بأعلى الوادي، والمشركون أسفلَه « والركب أسفل منكم » ، يعني: أبا سفيان, [ انحدر بالعير على حوزته ] ، حتى قدم بها مكة. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى » ، من الوادي إلى مكة « والركب أسفل منكم » ، أي: عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها، عن غير ميعاد منكم ولا منهم. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « والركب أسفل منكم » ، قال: أبو سفيان وأصحابه، مقبلون من الشأم تجارًا, لم يشعروا بأصحاب بدر, ولم يشعر محمد صلى الله عليه وسلم بكفار قريش، ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه, حتى التقى على ماء بدر من يسقي لهم كلهم. فاقتتلوا, فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: ذكر منازل القوم والعير فقال: « إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى » ، والركب: هو أبو سفيان « أسفل منكم » ، على شاطئ البحر. واختلفت القرأة في قراءة قوله: « إذ أنتم بالعدوة » . فقرأ ذلك عامة قرأة المدنيين والكوفيين: ( بِالعُدْوَةِ ) ، بضم العين. وقرأه بعض المكيين والبصريين: ( بِالعِدْوَةِ ) ، بكسر العين. قال أبو جعفر: وهما لغتان مشهورتان بمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ، يُنْشَد بيت الراعي: وَعَيْنَـــانِ حُـــمْرٌ مَآقِيهِمَـــا كَمَــا نَظَــرَ العِــدْوَةَ الجُــؤْذَرُ بكسر العين من « العدوة » , وكذلك ينشد بيت أوس بن حجر: وَفَـارِس لَـوْ تَحُـلُّ الخَـيْلُ عِدْوَتَـهُ وَلَّـوْا سِـرَاعًا, وَمَـا هَمُّـوا بِإقْبَـالِ القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره: ولو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه، أنتم أيها المؤمنون وعدوكم من المشركين، عن ميعاد منكم ومنهم, « لاختلفتم في الميعاد » ، لكثرة عدد عدوكم، وقلة عددكم، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد بينكم وبينهم « ليقضي الله أمرًا كان مفعولا » ، وذلك القضاء من الله، كان نصره أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله, وهلاك أعدائه وأعدائهم ببدر بالقتل والأسر، كما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد » ، ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم، ما لقيتموهم « ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولا » ، أي: ليقضي الله ما أراد بقدرته، من إعزاز الإسلام وأهله, وإذلال الشرك وأهله, عن غير مَلأ منكم، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:،أخبرني يونس بن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك يقول في غزوة بدر: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيَر قريش, حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون, عن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام, وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فالتقوا ببدر, ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء، ولا هؤلاء بهؤلاء, حتى التقت السُّقَاة. قال: ونَهَدَ الناسُ بعضهم لبعض. القول في تأويل قوله : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 42 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكن الله جمعهم هنالك، ليقضي أمرًا كان مفعولا « ليهلك من هلك عن بينة » . وهذه اللام في قوله: « ليهلك » مكررة على « اللام » في قوله: لِيَقْضِيَ ، كأنه قال: ولكن ليهلك من هلك عن بينة, جَمَعكم. ويعني بقوله: « ليهلك من هلك عن بينة » ، ليموت من مات من خلقه، عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره, وعبرة قد عاينها ورآها « ويحيا من حي عن بينة » ، يقول: وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أُثبتت له وظهرت لعينه فعلمها، جمعنا بينكم وبين عدوكم هنالك. وقال ابن إسحاق في ذلك بما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « ليهلك من هلك عن بينة » ، [ أي ليكفر من كفر بعد الحجة ] ، لما رأى من الآية والعبرة, ويؤمن من آمن على مثل ذلك. وأما قوله: « وإن الله لسميع عليم » ، فإن معناه: « وإن الله » ، أيها المؤمنون، « لسميع » ، لقولكم وقول غيركم، حين يُري الله نبيه في منامه ويريكم، عدوكم في أعينكم قليلا وهم كثير, ويراكم عدوكم في أعينهم قليلا « عليم » ، بما تضمره نفوسكم، وتنطوي عليه قلوبكم, حينئذ وفي كل حال. يقول جل ثناؤه لهم ولعباده: فاتقوا ربكم، أيها الناس، في منطقكم: أن تنطقوا بغير حق, وفي قلوبكم: أن تعتقدوا فيها غيرَ الرُّشد, فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن. القول في تأويل قوله : إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 43 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن الله، يا محمد، سميع لما يقول أصحابك, عليم بما يضمرونه, إذ يريك الله عدوك وعدوهم « في منامك قليلا » ، يقول: يريكهم في نومك قليلا فتخبرهم بذلك, حتى قويت قلوبهم، واجترأوا على حرب عدوهم ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرًا، لفشل أصحابك, فجبنوا وخاموا, ولم يقدروا على حرب القوم, ولتنازعوا في ذلك، ولكن الله سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا, إنه عليم بما تُجنُّه الصدور, لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب. وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: « إذ يريكهم الله في منامك قليلا » ، أي: في عينك التي تنام بها فصيّر « المنام » ، هو العين, كأنه أراد: إذ يريكهم الله في عينك قليلا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « إذ يريكهم الله في منامك قليلا » ، قال: أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك, فكان تثبيتًا لهم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه. ....وقال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « إذ يريكهم الله في منامك قليلا » ، الآية، فكان أول ما أراه من ذلك نعمةً من نعمه عليهم, شجعهم بها على عدوهم, وكفَّ بها ما تُخُوِّف عليهم من ضعفهم، لعلمه بما فيهم. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « ولكن الله سلم » . فقال بعضهم: معناه: ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم، حتى أظهرهم على عدوهم. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولكن الله سلم » ، يقول: سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولكن الله سلم أمره فيهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « ولكن الله سلم » ، قال: سلم أمره فيهم. قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن عباس, وهو أن الله سلم القومَ بما أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه من الفشل والتنازع, حتى قويت قلوبهم، واجترأوا على حرب عدوهم. وذلك أن قوله: « ولكن الله سلم » عَقِيب قوله: « ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر » ، فالذي هو أولى بالخبر عنه, أنه سلمهم منه جل ثناؤه، ما كان مخوفًا منه لو لم يُرِ نبيه صلى الله عليه وسلم من قلة القوم في منامه. القول في تأويل قوله : وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ( 44 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ إذ يري الله نبيه في منامه المشركين قليلا وإذ يريهم الله المؤمنين إذ لقوهم في أعينهم قليلا وهم كثير عددهم, ويقلل المؤمنين في أعينهم, ليتركوا الاستعداد لهم، فتهون على المؤمنين شوكتهم، كما:- حدثني ابن بزيع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: لقد قلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة‍ قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم هم؟ قال: ألفًا. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أبى إسحاق, عن أبي عبيدة, عن عبد الله بنحوه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا » ، قال ابن مسعود: قللوا في أعيننا، حتى قلت لرجل: أتُرَاهم يكونون مئة؟ حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال ناس من المشركين: إن العيرَ قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل: الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه! فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم. وقال: يا قوم لا تقتلوهم بالسلاح, ولكن خذوهم أخذًا, فاربطوهم بالحبال! يقوله من القدرة في نفسه. وقوله: « ليقضي الله أمرًا كان مفعولا » ، يقول جل ثناؤه: قلّلتكم أيها المؤمنون، في أعين المشركين، وأريتكموهم في أعينكم قليلا حتى يقضي الله بينكم ما قضى من قتال بعضكم بعضًا، وإظهاركم، أيها المؤمنون، على أعدائكم من المشركين والظفر بهم, لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. وذلك أمرٌ كان الله فاعلَه وبالغًا فيه أمرَه، كما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « ليقضي الله أمرا كان مفعولا » ، أي: ليؤلف بينهم على الحرب، للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من أهل ولايته. « وإلى الله ترجع الأمور » ، يقول جل ثناؤه: مصير الأمور كلها إليه في الآخرة, فيجازي أهلها على قدر استحقاقهم المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 45 ) قال أبو جعفر: وهذا تعريفٌ من الله جل ثناؤه أهل الإيمان به، السيرةَ في حرب أعدائه من أهل الكفر به، والأفعالَ التي يُرْجَى لهم باستعمالها عند لقائهم النصرة عليهم والظفر بهم. ثم يقول لهم جل ثناؤه: « يا أيها الذين آمنوا » , صدقوا الله ورسوله إذا لقيتم جماعة من أهل الكفر بالله للحرب والقتال, فاثبتوا لقتالهم، ولا تنهزموا عنهم ولا تولوهم الأدبار هاربين, إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة منكم « واذكروا الله كثيرًا » ، يقول: وادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم, وأشعروا قلوبكم وألسنتكم ذكره « لعلكم تفلحون » ، يقول: كيما تنجحوا فتظفروا بعدوكم, ويرزقكم الله النصرَ والظفر عليهم، كما:- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون » ، افترضَ الله ذكره عند أشغل ما تكونون، عند الضِّراب بالسيوف. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق: « يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة » ، يقاتلونكم في سبيل الله « فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا » ، اذكروا الله الذي بذلتم له أنفسكم والوفاء بما أعطيتموه من بيعتكم « لعلكم تفلحون » . القول في تأويل قوله : وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 46 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: أطيعوا، أيها المؤمنون، ربَّكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه, ولا تخالفوهما في شيء « ولا تنازعوا فتفشلوا » ، يقول: ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم « فتفشلوا » , يقول: فتضعفوا وتجبنوا, « وتذهب ريحكم » . وهذا مثلٌ. يقال للرجل إذا كان مقبلا ما يحبه ويُسَرّ به « الريح مقبلةٌ عليه » , يعني بذلك: ما يحبه, ومن ذلك قول عبيد بن الأبرص: كَمَـا حَمَيْنَـاكَ يَـوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطَبٍ وَالفَضْـلُ لِلقَـوْمِ مِـنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ يعني: من البأس والكثرة. وإنما يراد به في هذا الموضع: وتذهب قوتكم وبأسكم، فتضعفوا ويدخلكم الوهن والخلل. « واصبروا » ، يقول: اصبروا مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عند لقاء عدوكم, ولا تنهزموا عنه وتتركوه « إن الله مع الصابرين » ، يقول: اصبروا فإني معكم. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « وتذهب ريحكم » ، قال: نصركم. قال: وذهبت ريحُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، حين نازعوه يوم أحد. حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وتذهب ريحكم » ، فذكر نحوه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه إلا أنه قال: ريح أصحاب محمد حين تركوه يوم أحد. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم » ، قال: حَدُّكم وجِدُّكم. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وتذهب ريحكم » ، قال: ريح الحرب. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وتذهب ريحكم » ، قال: « الريح » ، النصر، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدو, فإذا كان ذلك لم يكن لهم قِوَام. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: « ولا تنازعوا فتفشلوا » ، أي: لا تختلفوا فيتفرق أمركم « وتذهب ريحكم » ، فيذهب حَدُّكم « واصبروا إن الله مع الصابرين » ، أي: إني معكم إذا فعلتم ذلك. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « ولا تنازعوا فتفشلوا » ، قال: الفشل، الضعف عن جهاد عدوه والانكسار لهم, فذلك « الفشل » . القول في تأويل قوله : وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( 47 ) قال أبو جعفر: وهذا تقدُّمٌ من الله جل ثناؤه إلى المؤمنين به وبرسوله، أن لا يعملوا عملا إلا لله خاصة، وطلب ما عنده، لا رئاء الناس، كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلبَ رئاء الناس. وذلك أنهم أخبروا بفَوْت العِير رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وقيل لهم: « انصرفوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها‍! » ، فأبوا وقالوا: « نأتي بدرًا فنشرب بها الخمر، وتعزف علينا القِيان، وتتحدث بنا العرب فيها » ، فَسُقوا مكان الخمر كؤوس المنايا، كما- حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان قال، حدثنا هشام بن عروة, عن عروة قال: كانت قريش قبل أن يلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه: إنا قد أجزنا القوم، وأن ارجعوا. فجاء الركب الذين بعثهم أبو سفيان الذين يأمرون قريشًا بالرجعة بالجُحفة, فقالوا: « والله لا نرجع حتى ننـزل بدرًا، فنقيم فيه ثلاث ليالٍ، ويرانا من غَشِينا من أهل الحجاز, فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا » . وهم الذين قال الله: « الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس » ، والتقوا هم والنبيّ صلى الله عليه وسلم , ففتح الله على رسوله، وأخزى أئمة الكفر, وشفى صدور المؤمنين منهم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق في حديث ذكره قال، حدثني محمد بن مسلم، وعاصم بن عمر, وعبد الله بن أبي بكر, ويزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا, عن ابن عباس قال: لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عِيره, أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم, فقد نجاها الله ، فارجعوا! فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا وكان « بدر » موسمًا من مواسم العرب, يجتمع لهم بها سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثًا, وننحر الجُزُر, ونطعم الطعام, ونسقي الخمور, وتعزف علينا القيان, وتسمع بنا العرب, فلا يزالون يهابوننا أبدًا، فامضوا. قال ابن حميد حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: « ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس » ، أي: لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه الذين قالوا: « لا نرجع حتى نأتي بدرًا، وننحر الجزر، ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا » ، أي: لا يكونن أمركم رياءً ولا سمعة، ولا التماس ما عند الناسَ، وأخلصوا لله النية والحِسْبة في نصر دينكم, وموازرة نبيكم, أي: لا تعملوا إلا لله ، ولا تطلبوا غيره. حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس » ، قال: أصحاب بدر. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « بطرًا ورئاء الناس » ، قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد مثله قال ابن جريج، وقال عبد الله بن كثير: هم مشركو قريش, وذلك خروجهم إلى بدر. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس » ، يعني: المشركين الذي قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس » ، قال: هم قريش وأبو جهل وأصحابه، الذين خرجوا يوم بدر. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط » ، قال: كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله يوم بدر، خرجوا ولهم بَغْي وفخر. وقد قيل لهم يومئذ: « ارجعوا، فقد انطلقت عيركم، وقد ظفرتم » . قالوا: « لا والله ، حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا! » . قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: « اللهم إنّ قريشًا أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادَّك ورسولك » ! حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: ذكر المشركين وما يُطعِمُون على المياه فقال: « ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله » . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « الذين خرجوا من ديارهم بطرًا » ، قال: هم المشركون، خرجوا إلى بدر أشرًا وبطرًا. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر, خرجوا بالقيان والدفوف, فأنـزل الله: « ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط » . قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: ولا تكونوا، أيها المؤمنون بالله ورسوله، في العمل بالرياء والسمعة، وترك إخلاص العمل لله، واحتساب الأجر فيه, كالجيش من أهل الكفر بالله ورسوله الذين خرجوا من منازلهم بطرًا ومراءاة الناس بزّيهم وأموالهم وكثرة عددهم وشدة بطانتهم « ويصدون عن سبيل الله » ، يقول: ويمنعون الناس من دين الله والدخول في الإسلام، بقتالهم إياهم، وتعذيبهم من قدروا عليه من أهل الإيمان بالله « والله بما يعملون » ، من الرياء والصدِّ عن سبيل الله ، وغير ذلك من أفعالهم « محيط » , يقول: عالم بجميع ذلك, لا يخفى عليه منه شيء، وذلك أن الأشياء كلها له متجلّية, لا يعزب عنه منها شيء, فهو لهم بها معاقب، وعليها معذِّب. القول في تأويل قوله : وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 48 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ) ، وحين زين لهم الشيطان أعمالهم، وكان تزيينه ذلك لهم، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: جاء إبليس يوم بدر في جُنْد من الشياطين، معه رايته، في صورة رجل من بني مُدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم, فقال الشيطان للمشركين: ( لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ) . فلما اصطف الناس, أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من التراب فرمى بها في وجوه المشركين, فولَّوا مدبرين. وأقبل جبريل إلى إبليس, فلما رآه, وكانت يده في يد رجل من المشركين, انتزع. إبليس يده فولَّى مدبرًا هو وشيعته, فقال الرجل: يا سراقة، تزعم أنك لنا جار؟ قال: ( إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ) ، وذلك حين رأى الملائكة. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا، أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي قال: أتى المشركين إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكنانيّ الشاعر، ثم المدلجي, فجاء على فرس، فقال للمشركين: ( لا غالب لكم اليوم من الناس ) ! فقالوا: ومن أنت؟ قال: أنا جاركم سراقة, وهؤلاء كنانة قد أتوكم! حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق, حدثني يزيد بن رومان, عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر يعني من الحرب فكاد ذلك أن يثنيهم, فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة [ بن مالك ] بن جعشم المدلجيّ, وكان من أشراف بني كنانة, فقال: « أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة [ من خلفكم بشيء ] تكرهونه » ! فخرجوا سراعا. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق في قوله: ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ) ، فذكر استدراج إبليس إياهم، وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم، حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة في الحرب التي كانت بينهم، يقول الله: ( فلما تراءت الفئتان ) ، ونظر عدوّ الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيَّد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوهم ( نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ) ، وصدق عدوّ الله، إنه رأى ما لا يرون وقال: ( إني أخاف الله والله شديد العقاب ) , فأوردهم ثم أسلمهم. قال: فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منـزل في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لا ينكرونه. حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان, كان الذي رآه حين نكص: « الحارث بن هشام » أو: « عمير بن وهب الجمحي » , فذُكر أحدهما، فقال: أينَ، أيْ سُرَاقَ! ، ومثَل عدوُّ الله فذهب. حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ) ، إلى قوله: ( شديد العقاب ) ، قال: ذُكر لنا أنه رأى جبريل تنـزل معه الملائكة, فزعم عدو الله أنه لا يَدَيْ له بالملائكة, وقال: ( إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله ) ، وكذب والله عدو الله, ما به مخافة الله, ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له, وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له, حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مُسْلَم، وتبرأ منهم عند ذلك. حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ) الآية, قال: لما كان يوم بدر, سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين, وألقى في قلوب المشركين: أنّ أحدًا لن يغلبكم، وإني جار لكم! فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى أمداد الملائكة، نكص على عقبيه قال: رجع مدبرًا وقال: ( إني أرى ما لا ترون ) ، الآية. حدثنا أحمد بن الفرج قال، حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون قال، حدثنا مالك, عن إبراهيم بن أبي عبلة, عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما رؤي إبليس يومًا هو فيه أصغرُ، ولا أحقرُ، ولا أدحرُ، ولا أغيظُ من يوم عرفة, وذلك مما يرى من تنـزيل الرحمة والعفو عن الذنوب, إلا ما رأى يوم بدر! قالوا: يا رسول الله، وما رأى يوم بدر؟ قال: « أما إنه رأى جبريل يَزَعُ الملائكة » . حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سليمان بن المغيرة, عن حميد بن هلال, عن الحسن في قوله: ( إني أرى ما لا ترون ) قال: رأى جبريل معتجرًا ببُرْدٍ، يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم , وفي يده اللجام, ما رَكبَ. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا سليمان بن المغيرة, عن حميد بن هلال قال: قال الحسن، وتلا هذه الآية: ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ) الآية, قال: سار إبليس مع المشركين ببدر برايته وجنوده, وألقى في قلوب المشركين أن أحدًا لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دين آبائكم, ولن تغلبوا كثرةً! فلما التقوا نكص على عقبيه يقول: رجع مدبرًا وقال: ( إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ) ، يعني الملائكة. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب قال: لما أجمعت قريش على السير قالوا: إنما نتخوف من بني بكر! فقال لهم إبليس، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم: أنا جار لكم من بني بكر, ولا غالب لكم اليوم من الناس. قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: ( وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) في هذه الأحوال وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم، أيها المؤمنون، لحربكم وقتالكم وحسَّن ذلك لهم وحثهم عليكم، وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من بني آدم, فاطمئنوا وأبشروا ( وإني جار لكم ) ، من كنانة أن تأتيكم من ورائكم فمعيذكم، أجيركم وأمنعكم منهم, فلا تخافوهم, واجعلوا حدَّكم وبأسكم على محمد وأصحابه ( فلما تراءت الفئتان ) ، يقول: فلما تزاحفت جنود الله من المؤمنين وجنود الشيطان من المشركين, ونظر بعضهم إلى بعض ( نكص على عقبيه ) ، يقول: رجع القهقري على قفاه هاربًا. يقال منه: « نكص ينكُص وينكِص نكوصًا » , ومنه قول زهير: هُـمْ يَضْرِبُـونَ حَبِيكَ البَيْضِ إِذْ لَحِقُوا لا يَنْكُصُـون, إِذَا مَـا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا وقال للمشركين: ( إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ) ، يعني أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددًا للمؤمنين, والمشركون لا يرونهم إني أخاف عقاب الله، وكذب عدوُّ الله ( والله شديد العقاب ) . القول في تأويل قوله : إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 49 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ، في هذه الأحوال ( وإذ يقول المنافقون ) ، وكرّ بقوله: ( إذ يقول المنافقون ) ، على قوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا ( والذين في قلوبهم مرض ) ، يعني: شك في الإسلام، لم يصحَّ يقينهم، ولم تُشرح بالإيمان صدورهم ( غر هؤلاء دينهم ) ، يقول: غر هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أنفسهم، دينُهم وذلك الإسلام. وذُكر أن الذين قالوا هذا القول، كانوا نفرًا ممن كان قد تكلم بالإسلام من مشركي قريش، ولم يستحكم الإسلام في قلوبهم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ) ، قال: كان ناسٌ من أهل مكة تكلموا بالإسلام, فخرجوا مع المشركين يوم بدر, فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: ( غر هؤلاء دينهم ) . حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد, عن داود, عن عامر, مثله. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا, عن ابن جريج, عن مجاهد في قوله: ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ) ، قال: فئة من قريش: أبو قيس بن الوليد بن المغيرة, وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة, والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب, وعلي بن أمية بن خلف, والعاصي بن منبّه بن الحجاج; خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم. فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ( غرّ هؤلاء دينهم ) ، حتى قدموا على ما قدموا عليه، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، فشرَّد بهم من خلفهم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ) ، قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر, فسموا « منافقين » قال معمر: وقال بعضهم: قوم كانوا أقرُّوا بالإسلام وهم بمكة، فخرجوا مع المشركين يوم بدر, فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: ( غر هؤلاء دينهم ) . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ) إلى قوله: ( فإن الله عزيز حكيم ) ، قال: رأوا عصابة من المؤمنين تشرّدت لأمر الله. وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: « والله لا يُعبد الله بعد اليوم! » ، قسوة وعُتُوًّا. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله: ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ) ، قال: ناس كانوا من المنافقين بمكة, قالوه يوم بدر, وهم يومئذ ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا. ... قال حدثني حجاج, عن ابن جريج في قوله: ( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ) ، قال: لما دنا القوم بعضهم من بعض, فقلَّل الله المسلمين في أعين المشركين, وقلَّل المشركين في أعين المسلمين, فقال المشركون: ( غر هؤلاء دينهم ) ، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم, وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك, فقال الله: ( ومن يتوكل على الله فإنّ الله عزيز حكيم ) . وأما قوله: ( ومن يتوكل على الله ) ، فإن معناه: ومن يسلم أمره إلى الله، ويثق به، ويرض بقضائه, فإن الله حافظه وناصره لأنه « عزيز » ، لا يغلبه شيء، ولا يقهره أحد, فجارُه منيع، ومن يتوكل عليه مكفيٌّ. وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله وغيرهم، أن يفوِّضوا أمرهم إليه، ويسلموا لقضائه, كيما يكفيهم أعداءهم, ولا يستذلهم من ناوأهم, لأنه « عزيز » غير مغلوب, فجاره غير مقهور « حكيم » ، يقول: هو فيما يدبر من أمر خلقه حكيم، لا يدخل تدبيره خلل. القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ( 50 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو تعاين، يا محمد، حين يتوفى الملائكةُ أرواحَ الكفار، فتنـزعها من أجسادهم, تضرب الوجوه منهم والأستاه, ويقولون لهم: ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ) ، قال: يوم بدر. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سليم, عن إسماعيل بن كثير, عن مجاهد: ( يضربون وجوههم وأدبارهم ) ، قال: وأستاههم، ولكن الله كريم يَكْنِي. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, حدثنا سفيان, عن أبي هاشم, عن مجاهد, في قوله: ( يضربون وجوههم وأدبارهم ) ، قال: وأستاههم، ولكنه كريم يَكْنِي. حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة, عن يعلى بن مسلم, عن سعيد بن جبير في قوله: ( يضربون وجوههم وأدبارهم ) ، قال: إن الله كنى, ولو شاء لقال: « أستاههم » , وإنما عنى ب « أدبارهم » ، أستاههم. حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قال: أستاههم، يوم بدر قال ابن جريج، قال ابن عباس: إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين، ضربوا وجوههم بالسيوف. وإذا ولّوا، أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عباد بن راشد, عن الحسن قال: قال رجل: يا رسول الله، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك! قال: ما ذاك؟ قال: ضربُ الملائكة. حدثنا محمد قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل, عن منصور, عن مجاهد: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه, فنَدرَ رأسُه؟ فقال: سبقك إليه الملك. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: حدثني حرملة: أنه سمع عمر مولى غفرة يقول: إذا سمعت الله يقول: ( يضربون وجوههم وأدبارهم ) ، فإنما يريد: أستاههم. قال أبو جعفر: وفي الكلام محذوف، استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره, وهو قوله: « ويقولون » ، ( ذوقوا عذاب الحريق ) ، حذفت « يقولون » , كما حذفت من قوله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا [ سورة السجدة: 12 ] ، بمعنى: يقولون: ربنا أبصرنا. القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ( 51 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل الملائكة لهؤلاء المشركين الذين قتلوا ببدر، أنهم يقولون لهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم: « ذوقوا عذاب الله الذي يحرقكم » , هذا العذاب لكم ( بما قدمت أيديكم ) ، أي: بما كسبت أيديكم من الآثام والأوزار، واجترحتم من معاصي الله أيام حياتكم, فذوقوا اليوم العذابَ، وفي معادكم عذابَ الحريق; وذلك لكم بأن الله ( ليس بظلام للعبيد ) , لا يعاقب أحدًا من خلقه إلا بجرم اجترمه, ولا يعذبه إلا بمعصيته إياه, لأن الظلم لا يجوز أن يكون منه. وفي فتح « أن » من قوله: ( وأن الله ) ، وجهان من الإعراب: أحدهما: النصبُ, وهو للعطف على « ما » التي في قوله: ( بما قدمت ) ، بمعنى: ( ذلك بما قدمت أيديكم ) , وبأن الله ليس بظلام للعبيد، في قول بعضهم, والخفض، في قول بعضٍ. والآخر: الرفع، على ( ذلك بما قدمت ) ، وذلك أن الله. القول في تأويل قوله : كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 52 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فِعْلُ هؤلاء المشركون من قريش الذين قتلوا ببدر، كعادة قوم فرعون وصنيعهم وفعلهم وفعل من كذّب بحجج الله ورسله من الأمم الخالية قبلهم, ففعلنا بهم كفعلنا بأولئك. وقد بينا فيما مضى أن « الدأب » ، هو الشأن والعادة, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا شيبان, عن جابر, عن عامر ومجاهد وعطاء: ( كدأب آل فرعون ) كفعل آل فرعون, كسُنَنِ آل فرعون. وقوله: ( فأخذهم الله بذنوبهم ) يقول: فعاقبهم الله بتكذيبهم حججه ورسله، ومعصيتهم ربهم, كما عاقب أشكالهم والأمم الذين قبلهم ( إن الله قوي ) ، لا يغلبه غالب، ولا يرد قضاءه رادٌّ, يُنْفِذ أمره، ويُمضي قضاءه في خلقه شديد عقابه لمن كفر بآياته وجحد حُججه. القول في تأويل قوله : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 53 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأخذنا هؤلاء الذين كفروا بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم، وفعلنا ذلك بهم, بأنهم غيَّروا ما أنعم الله عليهم به من ابتعاثه رسولَه منهم وبين أظهرهم, بإخراجهم إياه من بينهم، وتكذيبهم له، وحربهم إياه، فغيرنا نعمتنا عليهم بإهلاكنا إياهم, كفعلنا ذلك في الماضين قبلهم ممن طغى علينا وعصى أمرنا. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ، يقول: « نعمة الله » ، محمد صلى الله عليه وسلم , أنعم به على قريش، وكفروا, فنقله إلى الأنصار. وقوله: ( وأن الله سميع عليم ) ، يقول: لا يخفى عليه شيء من كلام خلقه, يسمع كلام كلّ ناطق منهم بخير نطق أو بشرٍّ ( عليم ) ، بما تضمره صدورهم, وهو مجازيهم ومثيبهم على ما يقولون ويعملون, إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. القول في تأويل قوله : كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ( 54 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: غير هؤلاء المشركون بالله، المقتولون ببدر, نعمةَ ربهم التي أنعم بها عليهم, بابتعاثه محمدًا منهم وبين أظهرهم, داعيًا لهم إلى الهدى, بتكذيبهم إياه، وحربهم له ( كدأب آل فرعون ) ، كسنة آل فرعون وعادتهم وفعلهم بموسى نبي الله، في تكذيبهم إياه, وقصدهم لحربه، وعادة من قبلهم من الأمم المكذبة رسلَها وصنيعهم ( فأهلكناهم بذنوبهم ) ، بعضًا بالرجفة, وبعضًا بالخسف, وبعضا بالريح ( وأغرقنا آل فرعون ) ، في اليم ( وكل كانوا ظالمين ) ، يقول: كل هؤلاء الأمم التي أهلكناها كانوا فاعلين ما لم يكن لهم فعله، من تكذيبهم رسلَ الله والجحود لآياته, فكذلك أهلكنا هؤلاء الذين أهلكناهم ببدر, إذ غيروا نعمة الله عندهم، بالقتل بالسيف, وأذللنا بعضهم بالإسار والسِّبَاء. القول في تأويل قوله : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 55 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن شر ما دبّ على الأرض عند الله، الذين كفروا بربهم، فجحدوا وحدانيته, وعبدوا غيره ( فهم لا يؤمنون ) ، يقول: فهم لا يصدِّقون رسلَ الله، ولا يقرُّون بوحيه وتنـزيله. القول في تأويل قوله : الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ( 56 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ، ( الذين عاهدت منهم ) ، يا محمد, يقول: أخذت عهودهم ومواثيقهم أن لا يحاربوك، ولا يظاهروا عليك محاربًا لك، كقريظة ونظرائهم ممن كان بينك وبينهم عهد وعقد ( ثم ينقضون ) ، عهودهم ومواثيقهم كلما عاهدوك وواثقوك، حاربوك وظاهروا عليك, وهم لا يتقون الله، ولا يخافون في فعلهم ذلك أن يوقع بهم وقعة تجتاحهم وتهلكهم، كالذي:- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم ) ، قال: قريظة مالأوا على محمد يوم الخندق أعداءه. حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, نحوه. القول في تأويل قوله : فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( 57 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإما تلقيَنَّ في الحرب هؤلاء الذين عاهدتهم فنقضوا عهدك مرة بعد مرة من قريظة، فتأسرهم, ( فشرد بهم من خلفهم ) ، يقول: فافعل بهم فعلا يكون مشرِّدًا مَن خلفهم من نظرائهم، ممن بينك وبينه عهد وعقد. و « التشريد » ، التطريد والتبديد والتفريق. وإنما أمِرَ بذلك نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بالناقض العهد بينه وبينهم إذا قدر عليهم فعلا يكون إخافةً لمن وراءهم، ممن كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه عهد, حتى لا يجترئوا على مثل الذي اجترأ عليه هؤلاء الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية من نقض العهد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ) ، يعني: نكّل بهم من بعدهم. حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( فشرد بهم من خلفهم ) ، يقول: نكل بهم من وراءهم. حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ) ، يقول: عظْ بهم من سواهم من الناس. حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ) ، يقول: نكل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم من العدوّ, لعلهم يحذرون أن ينكُثوا فتصنع بهم مثل ذلك. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أيوب, عن سعيد بن جبير: ( فشرد بهم من خلفهم ) ، قال: أنذر بهم من خلفهم. حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قال: نكل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم قال ابن جريج, قال عبد الله بن كثير: نكل بهم مَنْ وراءهم. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ) ، أي: نكل بهم من وراءهم لعلهم يعقلون. حُدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: ( فشرد بهم من خلفهم ) ، يقول: نكل بهم من بعدهم. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله: ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ) ، قال: أخفهم بما تصنع بهؤلاء. وقرأ: وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [ الأنفال: 60 ] وأما قوله: ( لعلهم يذكرون ) ، فإن معناه: كي يتعظوا بما فعلت بهؤلاء الذين وصفت صفتهم, فيحذروا نقضَ العهد الذي بينك وبينهم خوفَ أن ينـزل بهم منك ما نـزل بهؤلاء إذا هم نقضوه. القول في تأويل قوله : وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ( 58 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( وإما تخافن ) ، يا محمد، من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد، أن ينكث عهد. وينقض عقده، ويغدر بك وذلك هو « الخيانة » والغدر ( فانبذ إليهم على سواء ) ، يقول: فناجزهم بالحرب, وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم، حتى تصير أنتَ وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب, فيأخذوا للحرب آلتها, وتبرأ من الغدر ( إن الله لا يحب الخائنين ) ، الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به فيحاربه، قبل إعلامه إياه أنه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد. فإن قال قائل: وكيف يجوز نقضُ العهد بخوف الخيانة، و « الخوف » ظنٌّ لا يقين؟ قيل: إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت, وإنما معناه: إذا ظهرت أمارُ الخيانة من عدوك، وخفت وقوعهم بك, فألق إليهم مقاليد السَّلم وآذنهم بالحرب. وذلك كالذي كان من بني قريظة إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم معهم، بعد العهد الذي كانوا عاهدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على المسالمة, ولن يقاتلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم . فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك، موجبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم. فكذلك حكم كل قوم أهل موادعةٍ للمؤمنين، ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها, فحقٌّ على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء، ويؤذنهم بالحرب. ومعنى قوله: ( على سواء ) ، أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل فريق منكم حرب لصاحبه لا سِلْم. وقيل: نـزلت الآية في قريظة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فانبذ إليهم على سواء ) ، قال: قريظة. وقد كان بعضهم يقول: « السواء » ، في هذا الموضع، المَهَل. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن سهل قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: إنه مما تبين لنا أن قوله: ( فانبذ إليهم على سواء ) ، أنه: على مهل كما حدثنا بكير، عن مقاتل بن حيان في قول الله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، [ التوبة: 1- 2 ] وأما أهل العلم بكلام العرب, فإنهم في معناه مختلفون. فكان بعضهم يقول: معناه: فانبذ إليهم على عدل يعني: حتى يعتدل علمك وعلمهم بما عليه بعضكما لبعض من المحاربة، واستشهدوا لقولهم ذلك بقول الراجز: وَاضْــرِبْ وُجُـوهَ الغُـدُرِ الأعْـدَاءِ حَــتَّى يُجِــيبُوكَ إلَــى السَّــوَاءِ يعني: إلى العدل. وكان آخرون يقولون: معناه: الوسَط، من قول حسان: يَـا وَيْـحَ أَنْصَـارِ الرَّسُـولِ ورَهْطِهِ بَعْــدَ الُمغيَّـبِ فِـي سَـوَاءِ المُلْحَـدِ بمعنى: في وسط اللَّحْد. وكذلك هذه المعاني متقاربة, لأن « العدل » ، وسط لا يعلو فوق الحق ولا يقصّر عنه, وكذلك « الوسط » عدل, واستواء علم الفريقين فيما عليه بعضهم لبعض بعد المهادنة، عدل من الفعل ووسط. وأما الذي قاله الوليد بن مسلم من أن معناه: « المهل » , فما لا أعلم له وجهًا في كلام العرب. القول في تأويل قوله : وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ( 59 ) قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: « وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ » بكسر الألف من « إنهم » ، وبالتاء في « تحسبن » بمعنى: ولا تحسبن، يا محمد، الذين كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم. ثم ابتدئ الخبر عن قدرة الله عليهم فقيل: إن هؤلاء الكفرة لا يعجزون ربهم، إذا طلبهم وأراد تعذيبهم وإهلاكهم، بأنفسهم فيفوتوه بها. وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة: ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، بالياء في « يحسبن » , وكسر الألف من ( إِنَّهُمْ ) . وهي قراءة غير حميدة، لمعنيين، أحدهما خروجها من قراءة القرأة وشذوذها عنها والآخر: بعدها من فصيح كلام العرب. وذلك أن « يحسب » يطلب في كلام العرب منصوبًا وخبره, كقوله: « عبد الله يحسب أخاك قائمًا » و « يقوم » و « قام » . فقارئ هذه القراءة أصحب « يحسب » خبرًا لغير مخبر عنه مذكور. وإنما كان مراده، ظنّي: ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزوننا فلم يفكر في صواب مخرج الكلام وسُقمه, واستعمل في قراءته ذلك كذلك، ما ظهر له من مفهوم الكلام. وأحسب أن الذي دعاه إلى ذلك، الاعتبارُ بقراءة عبد الله. وذلك أنه فيما ذكر في مصحف عبد الله: « وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ » ، وهذا فصيح صحيح، إذا أدخلت « أنهم » في الكلام, لأن « يحسبن » عاملة في « أنهم » , وإذا لم يكن في الكلام « أنهم » كانت خالية من اسم تعمل فيه. وللذي قرأ من ذلك من القرأة وجهان في كلام العرب، وإن كانا بعيدين من فصيح كلامهم: أحدهما: أن يكون أريد به: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا, أو: أنهم سبقوا ثم حذف « أن » و « أنهم » , كما قال جل ثناؤه: وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ، [ الروم: 24 ] . بمعنى: أن يريكم، وقد ينشد في نحو ذلك بيت لذي الرمة: أَظُـنّ ابْـنُ طُرْثُـوثٍ عُتَيْبَـةُ ذَاهِبًـا بِعَـــادِيَّتِي تَكْذَابُـــهُ وَجَعَائِلُــهْ بمعنى: أظن ابن طرثوث أن يذهب بعاديتي تكذابه وجعائله؟ وكذلك قراءة من قرأ ذلك بالياء, يوجه « سبقوا » إلى « سابقين » على هذا المعنى. والوجه الثاني على أنه أراد إضمار منصوب بـ « يحسب » , كأنه قال: ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا ثم حذف « أنهم » وأضمر. وقد وجه بعضهم معنى قوله: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ، [ سورة آل عمران: 175 ] : إنما ذلكم الشيطان يخوف المؤمن من أوليائه, وأن ذكر المؤمن مضمر في قوله: « يخوف » , إذ كان الشيطان عنده لا يخوف أولياءه. وقرأ ذلك بعض أهل الشأم: « وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا » بالتاء من « تحسبن » ( سَبَقُوا أَنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) ، بفتح الألف من « أنهم » , بمعنى: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون. قال أبو جعفر: ولا وجه لهذه القراءة يُعقل، إلا أن يكون أراد القارئ بـ « لا » التي في « يعجزون » ، « لا » التي تدخل في الكلام حشوًا وصلة، فيكون معنى الكلام حينئذ: ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم يعجزون ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله إلى التطويل، بغير حجة يجب التسليم لها، وله في الصحة مخرج. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ: ( لا تَحْسَبَنَّ ) ، بالتاء ( الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ ) ، بكسر الألف من « إنهم » ، ( لا يُعْجِزُونَ ) ، بمعنى: ولا تحسبن أنت، يا محمد، الذين جحدوا حجج الله وكذبوا بها، سبقونا بأنفسهم ففاتونا, إنهم لا يعجزوننا أي: يفوتوننا بأنفسهم, ولا يقدرون على الهرب منا، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ) ، يقول: لا يفوتون. القول في تأويل قوله : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ( 60 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( وأعدوا ) ، لهؤلاء الذين كفروا بربهم، الذين بينكم وبينهم عهد, إذا خفتم خيانتهم وغدرهم، أيها المؤمنون بالله ورسوله ( ما استطعتم من قوة ) ، يقول: ما أطقتم أن تعدّوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم، من السلاح والخيل ( ترهبون به عدو الله وعدوكم ) ، يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدوَّ الله وعدوكم من المشركين. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أسامة بن زيد, عن صالح بن كيسان, عن رجل من جهينة، يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ، ألا إنَّ الرمي هو القوة, ألا إنّ الرمي هو القوة. حدثنا أبو كريب قال: حدثنا سعيد بن شرحبيل قال: حدثنا ابن لهيعة, عن يزيد بن أبي حبيب, وعبد الكريم بن الحارث, عن أبي علي الهمداني: أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: قال الله: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) ، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: قال الله: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ثلاثا. حدثنا أبو كريب قال: حدثنا محبوب، وجعفر بن عون، ووكيع، وأبو أسامة، وأبو نعيم, عن أسامة بن زيد, عن صالح بن كيسان, عن رجل, عن عقبة بن عامر الجهني قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) ، فقال: « ألا إن القوة الرمي, ألا إن القوة، الرمي » ثلاث مرات. حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن أسامة بن زيد, عن صالح بن كيسان, عن رجل, عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر, فذكر نحوه. حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا أسامة بن زيد, عن صالح بن كيسان, عن عقبة بن عامر, عن النبي صلى الله عليه وسلم , نحوه. حدثنا أحمد بن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا موسى بن عبيدة, عن أخيه، محمد بن عبيدة, عن أخيه عبد الله بن عبيدة, عن عقبة بن عامر, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ، « ألا إن القوة الرمي » . حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي, عن سفيان, عن شعبة بن دينار, عن عكرمة في قوله: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ، قال: الحصون ( ومن رباط الخيل ) ، قال: الإناث. حدثنا علي بن سهل قال: حدثنا ضمرة بن ربيعة, عن رجاء بن أبي سلمة قال: لقي رجل مجاهدًا بمكة, ومع مجاهد جُوَالَق،, قال: فقال مجاهد: هذا من القوة! ومجاهد يتجهز للغزو. حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ، من سلاح. وأما قوله: ( ترهبون به عدو الله وعدوكم ) فقال ابن وكيع: حدثنا أبي، عن إسرائيل, عن عثمان بن المغيرة الثقفي, عن مجاهد, عن ابن عباس: ( ترهبون به عدو الله وعدوكم ) ، قال: تخزون به عدو الله وعدوكم. حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل, عن عثمان, عن مجاهد، عن ابن عباس, مثله. حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن خصيف, عن عكرمة وسعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( ترهبون به عدو الله وعدوكم ) ، قال: تخزون به عدو الله وعدوكم. وكذا كان يقرؤها: ( تُخْزُونَ ) . حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال: حدثنا إسرائيل, عن عثمان بن المغيرة، وخصيف, عن مجاهد, عن ابن عباس: ( ترهبون به ) ، تخزون به. حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا إسرائيل, عن خصيف, عن عكرمة, عن ابن عباس, مثله. يقال منه: « أرهبت العدو، ورهَّبته, فأنا أرهبه وأرهِّبه، إرهابًا وترهيبًا, وهو الرَّهَب والرُّهْب » , ومنه قول طفيل الغنوي: وَيْـلُ أُمِّ حَـيٍّ دَفَعْتُـمْ فِـي نُحُـورِهِمُ بَنِـي كِـلابٍ غَـدَاة الـرُّعْبِ والرَّهَبِ القول في تأويل قوله : وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هؤلاء « الآخرين » ، من هم، وما هم؟ فقال بعضهم: هم بنو قريظة. ذكر من قال ذلك: حدثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وآخرين من دونهم ) ، يعني: من بني قريظة. حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وآخرين من دونهم ) ، قال: قريظة. وقال آخرون: من فارس. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ، هؤلاء أهل فارس. وقال آخرون: هم كل عدو للمسلمين، غير الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرِّد بهم من خلفهم. قالوا: وهم المنافقون. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ، قال: أخفهم بهم، لما تصنع بهؤلاء. وقرأ: ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد, في قوله: ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ) ، قال: هؤلاء المنافقون، لا تعلمونهم لأنهم معكم، يقولون: لا إله إلا الله، ويغزون معكم. وقال آخرون: هم قوم من الجنّ. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوّون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين، من السلاح والرمي وغير ذلك، ورباط الخيل ولا وجه لأن يقال: عني بـ « القوة » ، معنى دون معنى من معاني « القوة » , وقد عمَّ الله الأمر بها. فإن قال قائل: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أن ذلك مرادٌ به الخصوص بقوله: « ألا إن القوة الرمي » ؟ قيل له: إن الخبر، وإن كان قد جاء بذلك، فليس في الخبر ما يدلّ على أنه مرادٌ بها الرمي خاصة، دون سائر معاني القوة عليهم, فإن الرمي أحد معاني القوة, لأنه إنما قيل في الخبر: « ألا إن القوة الرمي » ، ولم يقل: « دون غيرها » ، ومن « القوة » أيضًا السيف والرمح والحربة, وكل ما كان معونة على قتال المشركين, كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما قوله: ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ) ، فإن قول من قال: عنى به الجن, أقربُ وأشبهُ بالصواب، لأنه جل ثناؤه قد أدخل بقوله: وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ، الأمرَ بارتباط الخيل لإرهاب كل عدوٍّ لله وللمؤمنين يعلمونهم, ولا شك أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لهم, لعلمهم بأنهم مشركون، وأنهم لهم حرب. ولا معنى لأن يقال: وهم يعلمونهم لهم أعداءً: ( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ) ، ولكن معنى ذلك إن شاء الله: ترهبون بارتباطكم، أيها المؤمنون، الخيلَ عدوَّ الله وأعداءكم من بني آدم الذين قد علمتم عداوتهم لكم، لكفرهم بالله ورسوله, وترهبون بذلك جنسًا آخر من غير بني آدم، لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم، الله يعلمهم دونكم, لأن بني آدم لا يرونهم. وقيل: إن صهيل الخيل يرهب الجن, وأن الجن لا تقرب دارًا فيها فرس. فإن قال قائل: فإن المؤمنين كانوا لا يعلمون ما عليه المنافقون, فما تنكر أن يكون عُنِي بذلك المنافقون؟ قيل: فإن المنافقين لم يكن تروعهم خيل المسلمين ولا سلاحهم, وإنما كان يَرُوعهم أن يظهر المسلمون على سرائرهم التي كانوا يستسرُّون من الكفر, وإنما أمر المؤمنون بإعداد القوة لإرهاب العدو, فأما من لم يرهبه ذلك، فغير داخل في معنى من أمر بإعداد ذلك له المؤمنون. وقيل: « لا تعلمونهم » , فاكتفي لـ « العلم » ، بمنصوب واحد في هذا الموضع, لأنه أريد: لا تعرفونهم, كما قال الشاعر: فَـــإِنَّ اللــهَ يَعْلَمُنِــي وَوَهْبًــا وَأَنَّـــا سَــوْفَ يَلْقَــاهُ كِلانــا القول في تأويل قوله : وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ( 60 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما أنفقتم، أيها المؤمنون، من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كُرَاع أو غير ذلك من النفقات، في جهاد أعداء الله من المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا, ويدَّخر لكم أجوركم على ذلك عنده, حتى يوفِّيكموها يوم القيامة ( وأنتم لا تظلمون ) ، يقول: يفعل ذلك بكم ربكم، فلا يضيع أجوركم عليه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق، ( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ) ، أي لا يضيع لكم عند الله أجرُه في الآخرة، وعاجل خَلَفه في الدنيا. القول في تأويل قوله : وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 61 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإما تخافنّ من قوم خيانة وغدرًا, فانبذ إليهم على سواء وآذنهم بالحرب ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحربَ, إما بالدخول في الإسلام, وإما بإعطاء الجزية, وإما بموادعة, ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح ( فاجنح لها ) ، يقول: فمل إليها, وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه. يقال منه: « جنح الرجل إلى كذا يجنح إليه جنوحًا » , وهي لتميم وقيس، فيما ذكر عنها, تقول: « يجنُح » ، بضم النون، وآخرون: يقولون: « يَجْنِح » بكسر النون, وذلك إذا مال, ومنه قول نابغة بني ذبيان: جَــوَانِحَ قَــدْ أَيْقَــنَّ أَنَّ قَبِيلَــهُ إذَا مَـا التَقَـى الجمْعـانِ أَوَّلُ غَـالِبِ جوانح: موائل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وإن جنحوا للسلم ) قال: للصلح، ونسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [ سورة التوبة: 5 ] حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله: ( وإن جنحوا للسلم ) ، إلى الصلح ( فاجنح لها ) ، قال: وكانت هذه قبل « براءة » , وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يوادع القوم إلى أجل, فإما أن يسلموا، وإما أن يقاتلهم, ثم نسخ ذلك بعد في « براءة » فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وقال: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ، [ سورة التوبة: 36 ] ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده, وأمره بقتالهم حتى يقولوا « لا إله إلا الله » ويسلموا, وأن لا يقبلَ منهم إلا ذلك. وكلُّ عهد كان في هذه السورة وفي غيرها, وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به، فإن « براءة » جاءت بنسخ ذلك, فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: « لا إله إلا الله » . حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، نسختها الآية التي في « براءة » قوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ [ سورة التوبة: 29 ] حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، يقول: وإن أرادوا الصلح فأرده. حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، أي: إن دعوك إلى السلم إلى الإسلام فصالحهم عليه. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، قال: فصالحهم. قال: وهذا قد نسخه الجهاد. قال أبو جعفر: فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة, فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل. وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائنٍ ناسخا. وقول الله في براءة: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله. ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) ، لأن قوله: ( وإن جنحوا للسلم ) ، إنما عني به بنو قريظة, وكانوا يهودًا أهلَ كتاب, وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحربَ على أخذ الجزية منهم. وأما قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. فليس في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى, بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنـزلت فيه. حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وإن جنحوا للسلم ) ، قال: قريظة. وأما قوله: ( وتوكل على الله ) ، يقول: فوِّض إلى الله، يا محمد، أمرك, واستكفِه، واثقًا به أنه يكفيك كالذي:- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( وتوكل على الله ) ، إن الله كافيك. وقوله: ( إنه هو السميع العليم ) ، يعني بذلك: إن الله الذي تتوكل عليه، « سميع » ، لما تقول أنت ومن تسالمه وتتاركه الحربَ من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه, وما يشترط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط « العليم » ، بما يضمره كل فريق منكم للفريق الآخر من الوفاء بما عاقده عليه, ومن المضمر ذلك منكم في قلبه، والمنطوي على خلافه لصاحبه. القول في تأويل قوله : وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ( 62 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن يرد، يا محمد، هؤلاء الذين أمرتك بأن تنبذ إليهم على سواء إن خفت منهم خيانة, وبمسالمتهم إن جنحوا للسلم، خداعَك والمكرَ بك ( فإن حسبك الله ) ، يقول: فإن الله كافيكهم وكافيك خداعَهم إياك, لأنه متكفل بإظهار دينك على الأديان، ومتضمِّنٌ أن يجعل كلمته العليا وكلمة أعدائه السفلى ( هو الذي أيدك بنصره ) ، يقول: الله الذي قواك بنصره إياك على أعدائه ( وبالمؤمنين ) ، يعني بالأنصار. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، ( وإن يريدوا أن يخدعوك ) ، قال: قريظة. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله ) ، هو من وراء ذلك. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( هو الذي أيدك بنصره ) ، قال: بالأنصار. القول في تأويل قوله : وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 63 ) قال أبو جعفر: يريد جل ثناؤه بقوله: ( وألف بين قلوبهم ) ، وجمع بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج، بعد التفرق والتشتت، على دينه الحق, فصيَّرهم به جميعًا بعد أن كانوا أشتاتًا, وإخوانًا بعد أن كانوا أعداء. وقوله: ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لو أنفقت، يا محمد، ما في الأرض جميعا من ذهب ووَرِق وعَرَض, ما جمعت أنت بين قلوبهم بحيْلك, ولكن الله جمعها على الهدى فأتلفت واجتمعت، تقوية من الله لك وتأييدًا منه ومعونة على عدوك. يقول جل ثناؤه: والذي فعل ذلك وسبَّبه لك حتى صاروا لك أعوانًا وأنصارًا ويدًا واحدة على من بغاك سوءًا هو الذي إن رام عدوٌّ منك مرامًا يكفيك كيده وينصرك عليه, فثق به وامض لأمره، وتوكل عليه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وألف بين قلوبهم ) ، قال: هؤلاء الأنصار، ألف بين قلوبهم من بعد حرب، فيما كان بينهم. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن بشير بن ثابت، رجل من الأنصار: أنه قال في هذه الآية: ( لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ) ، يعني: الأنصار حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( وألف بين قلوبهم ) ، على الهدى الذي بعثك به إليهم ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) ، بدينه الذي جمعهم عليه يعني الأوس والخزرج. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن إبراهيم الخوزيّ, عن الوليد بن أبي مغيث، عن مجاهد قال: إذا التقى المسلمان فتصافحا غُفِر لهما. قال قلت لمجاهد: بمصافحةٍ يغفر لهما؟ فقال مجاهد: أما سمعته يقول: ( لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ) ؟ فقال الوليد لمجاهد: أنت أعلم مني. حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد, عن أبي عمرو قال، حدثني عبدة بن أبي لبابة, عن مجاهد, ولقيته وأخذ بيدي فقال: إذا تراءى المتحابَّان في الله، فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه, تحاتّت خطاياهما كما يتحاتُّ ورق الشجر. قال عبدة: فقلت له: إنّ هذا ليسير! قال: لا تقل ذلك, فإن الله يقول: ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) ! قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني. حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا فضيل بن غزوان قال، أتيت أبا إسحاق فسلمت عليه فقلت أتعرفني؟ فقال فضيل: نعم! لولا الحياء منك لقبَّلتك حدثني أبو الأحوص, عن عبد الله, قال: نـزلت هذه الآية في المتحابين في الله: ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) . حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون, عن عمير بن إسحاق قال: كنا نُحدَّث أن أوّل ما يرفع من الناس أو قال: عن الناس الألفة. حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد, عن الأوزاعي قال، حدثني عبدة بن أبى لبابة, عن مجاهد ثم ذكر نحو حديث عبد الكريم, عن الوليد. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، وابن نمير، وحفص بن غياث, عن فضيل بن غزوان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص قال: سمعت عبد الله يقول: ( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) ، الآية, قال: هم المتحابون في الله. وقوله: ( إنه عزيز حكيم ) ، يقول: إن الله الذي ألف بين قلوب الأوس والخزرج بعد تشتت كلمتهما وتعاديهما، وجعلهم لك أنصارًا ( عزيز ) ، لا يقهره شيء، ولا يردّ قضاءه رادٌّ, ولكنه ينفذ في خلقه حكمه. يقول: فعليه فتوكل, وبه فثق ( حكيم ) ، في تدبير خلقه. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 64 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( يا أيها النبي حسبك الله ) , وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله. يقول لهم جل ثناؤه: ناهضوا عدوكم, فإن الله كافيكم أمرهم, ولا يهولنكم كثرة عددهم وقلة عددكم, فإن الله مؤيدكم بنصره. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان, عن شوذب أبي معاذ، عن الشعبي في قوله: ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) ، قال: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله. حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا سفيان, عن شوذب, عن الشعبي في قوله: ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) ، قال: حسبك الله، وحسب من معك. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن سفيان, عن شوذب, عن عامر, بنحوه إلا أنه قال: حسبك الله، وحسب من شهد معك. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد في قوله: ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) ، قال: يا أيها النبي حسبك الله، وحسب من اتبعك من المؤمنين, إنّ حسبك أنت وهم، الله. فـ « منْ » قوله: ( ومن اتبعك من المؤمنين ) ، على هذا التأويل الذي ذكرناه عن الشعبي، نصب، عطفا على معنى « الكاف » في قوله: ( حسبك الله ) لا على لفظه, لأنها في محل خفض في الظاهر، وفي محل نصب في المعنى, لأن معنى الكلام: يكفيك الله, ويكفي من اتبعك من المؤمنين. وقد قال بعض أهل العربية في « من » ، أنها في موضع رفع على العطف على اسم « الله » , كأنه قال: حسبك الله ومتبعوك إلى جهاد العدو من المؤمنين، دون القاعدين عنك منهم. واستشهد على صحة قوله ذلك بقوله: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ . القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ( 65 ) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( 66 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ) ، حُثَّ متبعيك ومصدِّقيك على ما جئتهم به من الحق، على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين ( إن يكن منكم عشرون ) رجلا ( صابرون ) ، عند لقاء العدو, ويحتسبون أنفسهم ويثبتون لعدوهم ( يغلبوا مئتين ) ، من عدوهم ويقهروهم ( وإن يكن منكم مئة ) ، عند ذلك ( يغلبوا ) ، منهم ( ألفا ) ( بأنهم قوم لا يفقهون ) ، يقول: من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب، ولا لطلب أجر ولا احتساب، لأنهم لم يفقهوا أن الله مُوجبٌ لمن قاتل احتسابًا، وطلب موعود الله في الميعاد، ما وعد المجاهدين في سبيله, فهم لا يثبتون إذا صدقوا في اللقاء، خشية أن يُقتلوا فتذهب دنياهم. ثم خفف تعالى ذكره عن المؤمنين، إذ علم ضعفهم فقال لهم: ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) ، يعني: أن في الواحد منهم عن لقاء العشرة من عدوهم ضعفًا ( فإن يكن منكم مئة صابرة ) ، عند لقائهم للثبات لهم ( يغلبوا مئتين ) منهم ( وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ) منهم ( بإذن الله ) يعني: بتخلية الله إياهم لغلبتهم، ومعونته إياهم ( والله مع الصابرين ) ، لعدوهم وعدو الله, احتسابًا في صبره، وطلبًا لجزيل الثواب من ربه, بالعون منه له، والنصر عليه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال. حدثنا محمد بن محبب قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن عطاء في قوله: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين ) ، قال: كان الواحد لعشرة, ثم جعل الواحد باثنين; لا ينبغي له أن يفرَّ منهما. حدثنا سعيد بن يحيى قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج, عن عمرو بن دينار, عن ابن عباس قال: جعل على المسلمين على الرجل عشر من الكفار, فقال: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين ) ، فخفف ذلك عنهم, فجعل على الرجل رجلان. قال ابن عباس: فما أحب أن يعلم الناس تخفيف ذلك عنهم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال: قال محمد بن إسحاق, حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي, عن عطاء بن أبي رباح, عن عبد الله بن عباس, قال: لما نـزلت هذه الآية، ثقلت على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين، ومئة ألفا, فخفف الله عنهم. فنسخها بالآية الأخرى فقال: ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ) ، قال: وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم. وإن كانوا دون ذلك، لم يجب عليهم أن يقاتلوا, وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين ) ، قال: كان لكل رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي له أن يفرّ منهم. فكانوا كذلك حتى أنـزل الله: ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين ) ، فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين, فنسخ الأمر الأول وقال مرة أخرى في قوله: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين ) ، فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار, فشق ذلك على المؤمنين، ورحمهم الله, فقال: ( إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين ) ، فأمر الله الرجلَ من المؤمنين أن يقاتل رجلين من الكفار. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ) ، إلى قوله: ( بأنهم قوم لا يفقهون ) ، وذلك أنه كان جعل على كل رجل من المسلمين عشرة من العدو يؤشِّبهم يعني: يغريهم بذلك، ليوطنوا أنفسهم على الغزو, وأن الله ناصرهم على العدو, ولم يكن أمرًا عزمه الله عليهم ولا أوجبه, ولكن كان تحريضًا ووصية أمر الله بها نبيه، ثم خفف عنهم فقال: ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) ، فجعل على كل رجلٍ رجلين بعد ذلك، تخفيفا, ليعلم المؤمنون أن الله بهم رحيم, فتوكلوا على الله وصبروا وصدقوا, ولو كان عليهم واجبًا كفّروا إذنْ كلَّ رجل من المسلمين [ نكل ] عمن لقي من الكفار إذا كانوا أكثر منهم فلم يقاتلوهم. فلا يغرنَّك قولُ رجالٍ ! فإني قد سمعت رجالا يقولون: إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى يكون على كل رجل رجلان, وحتى يكون على كل رجلين أربعة, ثم بحساب ذلك, وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة ذلك, وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدَّةَ أن يكون على كل رجل رجلان, وعلى كل رجلين أربعة, وقد قال الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [ سورة البقرة: 207 ] ، وقال الله: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [ سورة النساء: 84 ] ، فهو التحريض الذي أنـزل الله عليهم في « الأنفال » , فلا تعجزنَّ، قاتلْ، قد سقطت بين ظَهْرَيْ أناس كما شاء الله أن يكونوا. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح, عن الحصين, عن زيد, عن عكرمة والحسن قالا قال في « سورة الأنفال » ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) ، ثم نسخ فقال: ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) ، إلى قوله: ( والله مع الصابرين ) . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن عكرمة, في قوله: ( إن يكن منكم عشرون صابرون ) ، قال: واحد من المسلمين وعشرة من المشركين. ثم خفف عنهم فجعل عليهم أن لا يفرَّ رجل من رجلين. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: ( إن يكن منكم عشرون صابرون ) ، إلى قوله: ( وإن يكن منكم مئة ) ، قال: هذا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر, جعل على الرجل منهم عشرة من الكفار, فضجوا من ذلك, فجعل على الرجل قتال رجلين، تخفيفا من الله. حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إبراهيم بن يزيد, عن عمرو بن دينار، وأبي معبد عن ابن عباس قال: إنما أمر الرجل أن يصبر نفسه لعشرة, والعشرة لمئة إذ المسلمون قليل، فلما كثر المسلمون، خفف الله عنهم. فأمر الرجل أن يصبر لرجلين, والعشرة للعشرين, والمئة للمئتين. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن أبي نجيح: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين ) ، قال: كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفروا، فإنهم إن لم يفروا غَلَبوا, ثم خفف الله عنهم وقال: ( إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ) ، فيقول: لا ينبغي أن يفر ألف من ألفين, فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ) ، جعل الله على كل رجل رجلين، بعد ما كان على كل رجل عشرة وهذا الحديث عن ابن عباس. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن جرير بن حازم, عن الزبير بن الخرِّيت, عن عكرمة, عن ابن عباس: كان فُرِض على المؤمنين أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين. قوله: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا ) ، فشق ذلك عليهم, فأنـزل الله التخفيف, فجعل على الرجل أن يقاتل الرجلين, قوله: ( إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين ) ، فخفف الله عنهم, ونُقِصوا من الصبر بقدر ذلك. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين ) ، يقول: يقاتلوا مئتين, فكانوا أضعف من ذلك, فنسخها الله عنهم. فخفف فقال: ( فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين ) ، فجعل أول مرة الرجل لعشرة, ثم جعل الرجل لاثنين. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين ) ، قال: كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفروا, فإنهم إن لم يفرُّوا غَلَبوا. ثم خفف الله عنهم فقال: ( إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ) ، فيقول: لا ينبغي أن يفرّ ألف من ألفين, فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم. حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن جويبر, عن الضحاك قال: كان هذا واجبًا أن لا يفر واحد من عشرة. وبه قال: أخبرنا الثوري, عن الليث, عن عطاء, مثل ذلك. وأما قوله: ( بأنهم قوم لا يفقهون ) ، فقد بينّا تأويله. وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما:- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( بأنهم قوم لا يفقهون ) ، أي لا يقاتلون على نِيَّةٍ ولا حقٍّ فيه, ولا معرفة بخير ولا شر. قال أبو جعفر: وهذه الآية أعني قوله: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين ) ، وإن كان مخرجها مخرج الخبر, فإن معناها الأمر. يدلّ على ذلك قوله: ( الآن خفف الله عنكم ) ، فلم يكن التخفيف إلا بعد التثقيل. ولو كان ثبوت العشرة منهم للمئة من عدوهم كان غير فرض عليهم قبل التخفيف، وكان ندبًا، لم يكن للتخفيف وجه، لأن التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من المسلمين الثبوتَ للعشرة من العدو. وإذا لم يكن التشديد قد كان له متقدِّمًا، لم يكن للترخيص وجه, إذ كان المفهوم من الترخيص إنما هو بعد التشديد. وإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن حكم قوله: ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) ، ناسخ لحكم قوله: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ) . وقد بينا في كتابنا « البيان عن أصول الأحكام » ، أن كل خبرٍ من الله وعد فيه عباده على عملٍ ثوابًا وجزاء, وعلى تركه عقابًا وعذابًا, وإن لم يكن خارجًا ظاهرُه مخرج الأمر, ففي معنى الأمر بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( وعلم أن فيكم ضعفًا ) . فقرأه بعض المدنيين وبعض البصريين: ( وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا ) ، بضم « الضاد » في جميع القرآن، وتنوين « الضعف » على المصدر من: « ضَعُف الرجل ضُعْفًا » . وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ) ، بفتح « الضاد » ، على المصدر أيضًا من « ضَعُف » . وقرأه بعض المدنيين: ( ضُعَفَاء ) ، على تقدير « فعلاء » , جمع « ضعيف » على « ضعفاء » ، كما يجمع « الشريك » ، « شركاء » ، و « الرحيم » ، « رحماء » . قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب، قراءة من قرأه: ( وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ) ، و ( ضُعْفًا ) , بفتح الضاد أو ضمها, لأنهما القراءتان المعروفتان, وهما لغتان مشهورتان في كلام العرب فصيحتان بمعنى واحد, فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ الصوابَ. فأما قراءة من قرأ ذلك: « ضعفاء » ، فإنها عن قراءة القرأة شاذة, وإن كان لها في الصحة مخرج, فلا أحبُّ لقارئٍ القراءةَ بها. القول في تأويل قوله : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 67 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما كان لنبي أن يحتبس كافرًا قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ. و « الأسر » في كلام العرب: الحبس, يقال منه: « مأسورٌ » , يراد به: محبوس. ومسموع منهم: « أبَاله الله أسْرًا » . وإنما قال الله جل ثناؤه [ ذلك ] لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يعرِّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثم فادى بهم، كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم. وقوله: ( حتى يثخن في الأرض ) ، يقول: حتى يبالغ في قتل المشركين فيها, ويقهرهم غلبة وقسرًا. يقال منه: « أثخن فلان في هذا الأمر » ، إذا بالغ فيه. وحكي: « أثخنته معرفةً » , بمعنى: قتلته معرفةً. ( تريدون ) ، يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تريدون ) ، أيها المؤمنون، ( عرض الدنيا ) ، بأسركم المشركين وهو ما عَرَض للمرء منها من مال ومتاع. يقول: تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها ( والله يريد الآخرة ) ، يقول: والله يريد لكم زينة الآخرة وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته، بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض. يقول لهم: فاطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا، لا ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها ( والله عزيز ) ، يقول: إن أنتم أردتم الآخرة، لم يغلبكم عدوّ لكم, لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب وأنه ( حكيم ) في تدبيره أمرَ خلقه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم, أنـزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ، [ سورة محمد: 4 ] ، فجعل الله النبيَّ والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار, إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادَوْهم. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا ) ، الآية, قال: أراد أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداءَ, ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف. ولعمري ما كان أثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ! وكان أول قتال قاتله المشركين. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن حبيب بن أبي عمرة, عن مجاهد قال: « الإثخان » ، القتل. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شريك, عن الأعمش, عن سعيد بن جبير في قوله: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، قال: إذا أسرتموهم فلا تفادوهم حتى تثخنوا فيهم القتلَ. ... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن خصيف, عن مجاهد: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) ، الآية, نـزلت الرخصة بعدُ, إن شئت فمنّ، وإن شئت ففاد. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، يعني: الذين أسروا ببدر. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) ، من عدوه ( حتى يثخن في الأرض ) ، أي: يثخن عدوه حتى ينفيهم من الأرض ( تريدون عرض الدنيا ) ، أي: المتاع والفداء بأخذ الرجال ( والله يريد الآخرة ) ، بقتلهم، لظهور الدين الذي يريدون إطفاءه, الذي به تدرك الآخرة. حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية قال، حدثنا الأعمش, عن عمرو بن مرة, عن أبي عبيدة, عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك, استبقهم واستأنهم, لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك, قدّمهم فاضرب أعناقهم! وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله, انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه, ثم أضرمه عليهم نارا. قال: فقال له العباس: قُطِعتْ رَحِمُك! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم, ثم دخل. فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عُمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن, وإن الله ليشدد قلوبَ رجال حتى تكون أشد من الحجارة! وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم, قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ سورة إبراهيم: 36 ] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ، الآية [ سورة المائدة: 118 ] . ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [ سورة نوح: 26 ] , ومثلك كمثل موسى قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [ سورة يونس: 88 ] . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم عالة, فلا ينفلتّنَ أحدٌ منهم إلا بفداء أو ضرب عنق. قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء, فإني سمعته يذكر الإسلام! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم , فما رأيتُني في يوم أخوفَ أن تقع عليَّ الحجارة من السماء، مني في ذلك اليوم, حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء. قال: فأنـزل الله: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، إلى آخر الثلاث الآيات. » حدثنا ابن بشار قال، [ حدثنا عمر بن يونس اليمامي ] قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثنا أبو زميل قال، حدثني عبد الله بن عباس قال: لما أسروا الأسارى، يعني يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أبو بكر وعمر وعلي؟ قال: ما ترون في الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة, وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار, وعسى الله أن يهديهم للإسلام! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي رأى أبو بكر، يا نبي الله, ولكن أرى أن تمكننا منهم, فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه, وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه, وتمكنني من فلان - نسيبٍ لعمر - فأضرب عنقه, فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلت. قال عمر: فلما كان من الغد، جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان, فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أيّ شيء تبكي أنتَ وصاحبك, فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرَض لأصحابي من أخذهم الفداء, ولقد عُرِض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة! لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنـزل الله عز وجل: ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) ، إلى قوله: حَلالا طَيِّبًا ، وأحلّ الله الغنيمة لهم. القول في تأويل قوله : لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 68 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداء: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، يقول: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ، بأن الله مُحِلٌّ لكم الغنيمة, وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يُضِلّ قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون, وأنه لا يعذب أحدًا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصرًا دينَ الله لنالكم من الله، بأخذكم الغنيمة والفداء، عذاب عظيم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا عوف, عن الحسن في قوله: ( لولا كتاب من الله سبق ) الآية, قال: إن الله كان مُطْعِم هذه الأمة الغنيمةَ, وإنهم أخذوا الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به. قال: فعاب الله ذلك عليهم, ثم أحله الله. حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل عن عوف, عن الحسن في قول الله: ( لولا كتاب من الله سبق ) الآية, وذلك يوم بدر, وأخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المغانمَ والأسارى قبل أن يؤمروا به, وكان الله تبارك وتعالى قد كتب في أم الكتاب: « المغانم والأسارى حلال لمحمد وأمته » , ولم يكن أحله لأمة قبلهم، وأخذوا المغانم وأسروا الأسارى قبل أن ينـزل إليهم في ذلك, قال الله: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، يعني في الكتاب الأول. أن المغانم والأسارى حلال لكم ( لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( لولا كتاب من الله سبق ) الآية, وكانت الغنائم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمم، إذا أصابوا مغنمًا جعلوه للقربان, وحرم الله عليهم أن يأكلوا منه قليلا أو كثيرًا. حُرِّم ذلك على كل نبي وعلى أمته, فكانوا لا يأكلون منه، ولا يغلُّون منه، ولا يأخذون منه قليلا ولا كثيرًا إلا عذبهم الله عليه. وكان الله حرمه عليهم تحريمًا شديدًا, فلم يحله لنبيّ إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم . وكان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال, فذلك قوله يوم بدر، في أخذ الفداء من الأسارى: ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عروة, عن الحسن: ( لولا كتاب من الله سبق ) قال: إن الله كان مُعطِيَ هذه الأمة الغنيمةَ, وفعلوا الذي فعلوا قبل أن تُحَلّ الغنيمة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، قال الأعمش في قوله: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، قال: سبق من الله أن أحل لهم الغنيمة. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن بشير بن ميمون قال: سمعت سعيدًا يحدث، عن أبي هريرة, قال: قرأ هذه الآية: ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) ، قال: يعني: لولا أنه سبق في علمي أني سأحلُّ الغنائم, لمسكم فيما أخذتم من الأسارى عذاب عظيم. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح, وأبو معاوية بنحوه, عن الأعمش, عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحلت الغنائم لأحدٍ سُودِ الرؤوس من قبلكم, كانت تنـزل نارٌ من السماء وتأكلها, حتى كان يوم بدر, فوقع الناس في الغنائم, فأنـزل الله: ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم ) ، حتى بلغ، حَلالا طَيِّبًا . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم , بنحوه قال: فلما كان يوم بدر أسرَع الناس في الغنائم. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن أشعث بن سوار, عن ابن سيرين, عن عبيدة, قال: أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتقوَّوْا به على عدوكم, وإن قبلتموه قتل منكم سبعون أو تقتلوهم! فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم, وقُتل منهم سبعون، قال عبيدة، وطلبوا الخيرتين كلتيهما. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن أشعث, عن عبيدة قال: كان فداء أسارى بدر مئة أوقية, و « الأوقية » أربعون درهمًا, ومن الدنانير ستة دنانير. حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون, عن ابن سيرين, عن عبيدة: أنه قال في أسارى بدر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم قتلتموهم, وإن شئتم فاديتموهم واستشْهِد منكم بعِدَّتهم! فقالوا: بلى, نأخذ الفداء فنستمتع به، ويستشهد منا بعِدَّتهم. حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا همام بن يحيى قال، حدثنا عطاء بن السائب, عن أبي وائل, عن عبد الله بن مسعود قال: أمر عمر رحمه الله عنه بقتل الأسارى, فأنـزل الله: ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، قال: كان المغنم محرَّمًا على كل نبي وأمته, وكانوا إذا غنموا يجعلون المغنم لله قربانًا تأكله النار. وكان سبق في قضاء الله وعلمه أن يحلّ المغنم لهذه الأمة، يأكلون في بطونهم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن عطاء في قول الله: ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم ) ، قال: كان في علم الله أن تحلّ لهم الغنائم, فقال: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، بأنه أحل لكم الغنائم ( لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) . وقال آخرون: معنى ذلك: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر، أن لا يعذبهم، لمسهم عذاب عظيم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري, عن شريك, عن سالم, عن سعيد: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، قال: لأهل بدر، من السعادة. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، لأهل بدر مَشْهدَهم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، قال: سبق من الله خيرٌ لأهل بدر. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) ، كان سبق لهم من الله خير, وأحلّ لهم الغنائم. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد, عن عمرو بن عبيد, عن الحسن: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، قال: ( سبق ) ، أن لا يعذب أحدًا من أهل بدر. حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، لأهل بدر، ومشهدَهم إياه. حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) ، لمسكم فيما أخذتم من الغنائم يوم بدر قبل أن أحلها لكم. فقال: سبق من الله العفو عنهم والرحمة لهم، سبق أنه لا يعذب المؤمنين, لأنه لا يعذب رَسوله ومن آمن به وهاجر معه ونصره. وقال آخرون: معنى ذلك: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، أن لا يؤاخذ أحدًا بفعل أتاه على جهالة ( لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) . ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، لأهل بدر ومشهدَهم إياه, قال: كتاب سبق لقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [ سورة التوبة: 115 ] ، سبق ذلك، وسبق أن لا يؤاخذ قومًا فعلوا شيئًا بجهالة ( لمسكم فيما أخذتم ) ، قال ابن جريج، قال ابن عباس: ( فيما أخذتم ) ، مما أسرتم. ثم قال بعد: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: عاتبه في الأسارى وأخذ الغنائم, ولم يكن أحد قبله من الأنبياء يأكل مغنمًا من عدوٍّ له. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن محمد قال، حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُصِرت بالرعب، وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا, وأعطيت جوامع الكلم, وأحلّت لي المغانم، ولم تحلّ لنبيٍّ كان قبلي, وأعطيت الشفاعة, خمسٌ لم يُؤْتَهُنَّ نبيٌّ كان قبلي قال محمد فقال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ ، أي: قبلك أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى إلى قوله: ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم ) ، أي: من الأسارى والمغانم ( عذاب عظيم ) ، أي: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب إلا بعد النهي، ولم أكن نهيتكم، لعذبتكم فيما صنعتم. ثم أحلها له ولهم رحمةً ونعمةً وعائدةً من الرحمن الرحيم. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما قد بيناه قبلُ. وذلك أن قوله: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، خبر عامٌّ غير محصور على معنى دون معنى، وكل هذه المعاني التي ذكرتها عمن ذكرت، مما قد سبق في كتاب الله أنه لا يؤاخذ بشيء منها هذه الأمة, وذلك: ما عملوا من عمل بجهالة, و إحلال الغنيمة، والمغفرة لأهل بدر, وكل ذلك مما كتب لهم. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يخصّ من ذلك معنى دون معنى, وقد عم الله الخبر بكل ذلك، بغير دلالة توجب صحة القول بخصوصه. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لم يكن من المؤمنين أحد ممن نُصِر إلا أحبَّ الغنائم، إلا عمر بن الخطاب, جعل لا يلقى أسيرًا إلا ضرب عنقه, وقال: يا رسول الله، ما لنا وللغنائم, نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يُعبد الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك! قال الله: لا تعودوا تستحلون قبل أن أحلّ لكم. » حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: لما نـزلت: ( لولا كتاب من الله سبق ) ، الآية, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو نـزل عذابٌ من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ، لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحبّ إلي من استبقاء الرجال. » القول في تأويل قوله : فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 69 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أهل بدر: ( فكلوا ) ، أيها المؤمنون ( مما غنمتم ) ، من أموال المشركين ( حلالا ) ، بإحلاله لكم ( طيبا واتقوا الله ) ، يقول: وخافوا الله أن تعودوا، أن تفعلوا في دينكم شيئا بعد هذه من قبل أن يُعْهَد فيه إليكم, كما فعلتم في أخذ الفداء وأكل الغنيمة، وأخذتموهما من قبل أن يحلا لكم ( إن الله غفور رحيم ) . وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم, وتأويل الكلام: ( فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ) , ( إن الله غفور رحيم ) , ( واتقوا الله ) . ويعني بقوله: ( إن الله غفور ) ، لذنوب أهل الإيمان من عباده ( رحيم ) ، بهم، أن يعاقبهم بعد توبتهم منها. القول في تأويل قوله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 70 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي، قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ: ( إن يعلم الله في قلوبكم خيرا ) ، يقول: إن يعلم الله في قلوبكم إسلامًا ( يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم ) ، من الفداء ( ويغفر لكم ) ، يقول: ويصفح لكم عن عقوبة جُرْمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبي الله وأصحابه وكفركم بالله ( والله غفور ) ، لذنوب عباده إذا تابوا ( رحيم ) ، بهم، أن يعاقبهم عليها بعد التوبة. وذكر أن العباس بن عبد المطلب كان يقول: فيّ نـزلت هذه الآية. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن ابن إسحاق, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, عن ابن عباس, قال: قال العباس: فيّ نـزلت: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ , فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامي, وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذ مني فأبى, فأبدلني الله بها عشرين عبدًا، كلهم تاجر, مالي في يديه. وقد:- حدثنا بهذا الحديث ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد, حدثني الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس, عن جابر بن عبد الله بن رئاب قال: كان العباس بن عبد المطلب يقول: فيّ والله نـزلت، حين ذكرتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي ثم ذكر نحو حديث ابن وكيع. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( قل لمن في أيديكم من الأسرى ) الآية, قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مالُ البحرين ثمانون ألفًا, وقد توضأ لصلاة الظهر, فما أعطى يومئذ شاكيًا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرّقه, وأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي, فأخذ. قال: وكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا، وأرجو المغفرة. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ) الآية, وكان العباس أسر يوم بدر, فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب, فقال العباس حين نـزلت هذه الآية: لقد أعطاني الله خَصلتين، ما أحب أن لي بهما الدنيا: أني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية, فآتاني أربعين عبدًا، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ) إلى قوله: ( والله غفور رحيم ) ، يعني بذلك: من أسر يوم بدر. يقول: إن عملتم بطاعتي ونصحتم لرسولي, آتيتكم خيرًا مما أخذ منكم، وغفرت لكم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني. عن ابن عباس: ( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ) ، عباس وأصحابه, قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به, ونشهد إنك لرسول الله, لننصحن لك على قومنا. فنـزل: ( إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم ) ، إيمانًا وتصديقًا, يخلف لكم خيرًا مما أصيب منكم ( ويغفر لكم ) ، الشرك الذي كنتم عليه. قال: فكان العباس يقول: ما أحب أن هذه الآية لم تنـزل فينا، وأن لي الدنيا, لقد قال: ( يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم ) فقد أعطاني خيرًا مما أخذ مني مئة ضعف, وقال: ( ويغفر لكم ) ، وأرجو أن يكون قد غُفِر لي. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ) الآية, يعني العباسَ وأصحابه، أسروا يوم بدر. يقول الله: إن عملتم بطاعتي ونصحتم لي ولرسولي، أعطيتكم خيرًا مما أخذ منكم وغفرت لكم. وكان العباس بن عبد المطلب يقول: لقد أعطانا الله خصلتين، ما شيء هو أفضل منهما: عشرين عبدًا. وأما الثانية: فنحن في موعود الصادق ننتظر المغفرة من الله سبحانه. القول في تأويل قوله : وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 71 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يرد هؤلاء الأسارى الذين في أيديكم ( خيانتك ) ، أي الغدر بك والمكرَ والخداع, بإظهارهم لك بالقول خلافَ ما في نفوسهم ( فقد خانوا الله من قبل ) ، يقول: فقد خالفوا أمر الله من قبل وقعة بدر, وأمكن منهم ببدر المؤمنين ( والله عليم ) ، بما يقولون بألسنتهم ويضمرونه في نفوسهم ( حكيم ) ، في تدبيرهم وتدبير أمور خلقه سواهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: ( وإن يريدوا خيانتك ) ، يعني: العباس وأصحابه في قولهم: آمنا بما جئت به, ونشهد إنك رسول الله, لننصحن لك على قومنا « ، يقول: إن كان قولهم خيانة ( فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم ) ، يقول: قد كفروا وقاتلوك, فأمكنك الله منهم. » حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وإن يريدوا خيانتك ) الآية، قال: ذكر لنا أن رجلا كتب لنبي الله صلى الله عليه وسلم , ثم عمد فنافق, فلحق بالمشركين بمكة, ثم قال: « ما كان محمد يكتب إلا ما شئت! » فلما سمع ذلك رجل من الأنصار, نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح، أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا عبد الله بن سعد بن أبي سرح, ومِقْيَس بن صُبابة, وابن خطل, وامرأة كانت تدعو على النبيّ صلى الله عليه وسلم كل صباح. فجاء عثمان بابن أبي سرح, وكان رضيعه أو: أخاه من الرضاعة فقال: يا رسول الله، هذا فلان أقبل تائبًا نادمًا! فأعرض نبي الله صلى الله عليه وسلم . فلما سمع به الأنصاريّ أقبل متقلدًا سيفه, فأطاف به, وجعل ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم يده فبايعه, فقال: أما والله لقد تلوَّمتك فيه لتوفي نذرك! فقال: يا نبيّ الله إنّي هِبْتك, فلولا أوْمضت إليّ! فقال: إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يومض. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم ) ، يقول: قد كفروا بالله ونقضوا عهده, فأمكن منهم ببدر. القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله « وهاجروا » ، يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم, يعني: تركوهم وخرجوا عنهم, وهجرهم قومهم وعشيرتهم ( وجاهدوا في سبيل الله ) ، يقول: بالغوا في إتعاب نفوسهم وإنصَابها في حرب أعداء الله من الكفار ( في سبيل الله ) , يقول: في دين الله الذي جعله طريقا إلى رحمته والنجاة من عذابه ( والذين آووا ونصروا ) ، يقول: والذين آووا رسول الله والمهاجرين معه، يعني: أنهم جعلوا لهم مأوًى يأوون إليه, وهو المثوى والمسكن, يقول: أسكنوهم، وجعلوا لهم من منازلهم مساكنَ إذ أخرجهم قومهم من منازلهم ( ونصروا ) ، يقول: ونصروهم على أعدائهم وأعداء الله من المشركين ( أولئك بعضهم أولياء بعض ) ، يقول: هاتان الفرقتان, يعني المهاجرين والأنصار, بعضهم أنصار بعض, وأعوان على من سواهم من المشركين, وأيديهم واحدة على من كفر بالله, وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار. وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض, وأن الله ورَّث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة، دون القرابة والأرحام, وأن الله نسخ ذلك بعدُ بقوله: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، [ سورة الأنفال: 75 \ وسورة الأحزاب: 6 ] . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ) ، يعني: في الميراث، جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام, قال الله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ، يقول: ما لكم من ميراثهم من شيء, وكانوا يعملون بذلك حتى أنـزل الله هذه الآية: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ [ سورة الأنفال: 75 \ وسورة الأحزاب: 6 ] ، في الميراث, فنسخت التي قبلها, وصار الميراث لذوي الأرحام. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ) ، يقول: لا هجرة بعد الفتح, إنما هو الشهادة بعد ذلك ( والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ) ، إلى قوله: حَتَّى يُهَاجِرُوا . وذلك أن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل: منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة, خرج إلى قوم مؤمنين في ديارهم وعَقارهم وأموالهم و ( آووا ونصروا ) ، وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة, وشهروا السيوف على من كذّب وجحد, فهذان مؤمنان، جعل الله بعضهم أولياء بعض, فكانوا يتوارثون بينهم، إذا توفي المؤمن المهاجر ورثه الأنصاري بالولاية في الدين. وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر. فبرَّأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم, وهي الولاية التي قال الله: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا . وكان حقا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قاتلوا، إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق, فلا نصر لهم عليهم، إلا على العدوِّ الذين لا ميثاق لهم. ثم أنـزل الله بعد ذلك أن ألحقْ كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين هاجروا والذين آمنوا ولم يهاجروا. فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبًا مفروضًا بقوله: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ سورة الأنفال: 75 ] , وبقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ سورة التوبة: 71 ] . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: الثلاث الآيات خواتيم الأنفال، فيهن ذكر ما كان من ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مهاجري المسلمين وبين الأنصار في الميراث. ثم نسخ ذلك آخرها: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عبد الله بن كثير قوله: ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا ) ، إلى قوله: بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، قال: بلغنا أنها كانت في الميراث، لا يتوارث المؤمنون الذين هاجروا، والمؤمنون الذين لم يهاجروا. قال: ثم نـزل بعد: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، فتوارثوا ولم يهاجروا قال ابن جريج, قال مجاهد: خواتيم « الأنفال » الثلاث الآيات، فيهن ذكر ما كان من ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين المسلمين وبين الأنصار في الميراث, ثم نسخ ذلك آخرها: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا ، إلى قوله: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ، قال: لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة, والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئًا, فنسخ ذلك بعد ذلك، فألحق الله وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا ، [ سورة الأحزاب: 6 ] ، أي: من أهل الشرك، فأجيزت الوصية, ولا ميراث لهم, وصارت المواريث بالملل, والمسلمون يرث بعضهم بعضًا من المهاجرين والمؤمنين, ولا يرث أهل ملتين. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسن, عن يزيد, عن عكرمة والحسن قالا ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله ) ، إلى قوله: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ، كان الأعرابي لا يرث المهاجر، ولا يرثه المهاجر, فنسخها فقال: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعهم أولياء بعض ) ، في الميراث وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا ، وهؤلاء الأعراب مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، في الميراث وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ يقول: بأنهم مسلمون فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، في الميراث وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ، ثم نسختها الفرائض والمواريث, وَأُولُو الأَرْحَامِ الذين توارثوا على الهجرة بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فتوارث الأعرابُ والمهاجرون. القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: ( والذين آمنوا ) . الذين صدقوا بالله ورسوله ( ولم يهاجروا ) . قومهم الكفار, ولم يفارقوا دارَ الكفر إلى دار الإسلام ( ما لكم ) ، أيها المؤمنون بالله ورسوله. المهاجرون قومَهم المشركين وأرضَ الحرب ( من ولايتهم ) ، يعني: من نصرتهم وميراثهم. وقد ذكرت قول بعض من قال: « معنى الولاية، ههنا الميراث » , وسأذكر إن شاء الله من حضرني ذكره بعدُ. ( من شيء حتى يهاجروا ) ، قومَهم ودورَهم من دار الحرب إلى دار الإسلام ( وإن استنصروكم في الدين ) ، يقول: إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا ( في الدين ) , يعني: بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين, « فعليكم » ، أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار، ( النصر ) ( إلا ) أن يستنصروكم ( على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) , يعني: عهد قد وثَّق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه ( والله بما تعملون بصير ) ، يقول: والله بما تعملون فيما أمركم ونهاكم من ولاية بعضكم بعضًا، أيها المهاجرون والأنصار, وترك ولاية من آمن ولم يهاجر ونصرتكم إياهم عند استنصاركم في الدين, وغير ذلك من فرائض الله التي فرضها عليكم ( بصير ) ، يراه ويبصره, فلا يخفى عليه من ذلك ولا من غيره شيء. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ) ، قال: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة, وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم, فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة. وكان الرجل يسلم ولا يهاجر، لا يرث أخاه, فنسخ ذلك قوله: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ [ سورة الأحزاب: 6 ] . حدثنا محمد قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال: تقيم الصلاة, وتؤتي الزكاة, وتحج البيت, وتصوم رمضان, وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت حرب. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( وإن استنصروكم في الدين ) ، يعني: إن استنصركم الأعراب المسلمون، أيها المهاجرون والأنصار، على عدوهم، فعليكم أن تنصروهم، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ يوم تُوفي على أربع منازل: مؤمن مهاجر, والأنصار, وأعرابي مؤمن لم يهاجر; إن استنصره النبي صلى الله عليه وسلم نصره، وإن تركه فهو إذْنُه، وإن استنصر النبي صلى الله عليه وسلم في الدين كان حقًّا عليه أن ينصره, فذلك قوله: ( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) والرابعة: التابعون بإحسان. حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا ، إلى آخر السورة, قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وترك الناس على أربع منازل مؤمن مهاجر. ومسلم أعرابي, والذين آووا ونصروا, والتابعون بإحسان. القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ( 73 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( والذين كفروا ) ، بالله ورسوله ( بعضهم أولياء بعض ) ، يقول: بعضهم أعوان بعض وأنصاره, وأحق به من المؤمنين بالله ورسوله. وقد ذكرنا قول من قال: « عنى بذلك أن بعضهم أحق بميراث بعض من قرابتهم من المؤمنين » , وسنذكر بقية من حضرنا ذكره. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن أبي مالك قال، قال رجل: نورّث أرحامنا من المشركين! فنـزلت: ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) ، الآية. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، نـزلت في مواريث مشركي أهل العهد. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ، إلى قوله: ( وفساد كبير ) ، قال: كان المؤمن المهاجر والمؤمن الذي ليس بمهاجر، لا يتوارثان وإن كانا أخوين مؤمنين. قال: وذلك لأن هذا الدين كان بهذا البلد قليلا حتى كان يوم الفتح، فلما كان يوم الفتح، وانقطعت الهجرة توارثوا حيثما كانوا بالأرحام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لا هجرة بعد الفتح » ، وقرأ: وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ . وقال آخرون: معنى ذلك: إن الكفار بعضهم أنصار بعض وأنه لا يكون مؤمنًا من كان مقيمًا بدار الحرب لم يهاجر. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) ، قال: كان ينـزل الرجل بين المسلمين والمشركين، فيقول: إن ظهر هؤلاء كنت معهم, وإن ظهر هؤلاء كنت معهم! فأبى الله عليهم ذلك, وأنـزل الله في ذلك، فلا تراءى نار مسلم ونار مشرك، إلا صاحب جزية مُقِرّ بالخراج. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال: حض الله المؤمنين على التواصل, فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون سواهم, وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض. وأما قوله: ( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معناه: إلا تفعلوا، أيها المؤمنون، ما أمرتم به من موارثة المهاجرين منكم بعضهم من بعض بالهجرة، والأنصار بالإيمان، دون أقربائهم من أعراب المسلمين ودون الكفار ( تكن فتنة ) ، يقول: يحدث بلاء في الأرض بسبب ذلك ( وفساد كبير ) ، يعني: ومعاصٍ لله. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، إلا تفعلوا هذا، تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون ( تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) . قال: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الإيمان إلا بالهجرة, ولا يجعلونهم منهم إلا بالهجرة. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس,قوله: ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) ، يعني في الميراث ( إلا تفعلوه ) ، يقول: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به ( تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، وقال آخرون: معنى ذلك: إلا تَناصروا، أيها المؤمنون، في الدين، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: جعل المهاجرين والأنصار أهلَ ولاية في الدين دون من سواهم, وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض, ثم قال: ( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، إلا يوالِ المؤمن المؤمن من دون الكافر، وإن كان ذا رحم به ( تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، أي: شبهة في الحق والباطل، وظهور الفساد في الأرض، بتولّي المؤمن الكافرَ دون المؤمن. ثم رد المواريث إلى الأرحام. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: ( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، قال: إلا تعاونوا وتناصروا في الدين ( تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) . قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل قوله: ( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) ، قول من قال: معناه: أن بعضهم أنصار بعض دون المؤمنين, وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقامَ في دار الحرب وترك الهجرة، لأن المعروف في كلام العرب من معنى « الوليّ » ، أنه النصير والمعين، أو: ابن العم والنسيب. فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه، إلا بمعنى أنه يليه في القيام بإرثه من بعده. وذلك معنى بعيد، وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر, أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك. وإذ كان ذلك كذلك, فبيِّنٌ أن أولى التأويلين بقوله: ( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) ، تأويلُ من قال: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين، تكن فتنة في الأرض إذْ كان مبتدأ الآية من قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ . بالحث على الموالاة على الدين والتناصر جاء, فكذلك الواجب أن يكون خاتمتها به. القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 74 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا ) ، آوَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ونصروهم، ونصروا دين الله, أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقًّا, لا من آمن ولم يهاجر دارَ الشرك، وأقام بين أظهر أهل الشرك، ولم يغزُ مع المسلمين عدوهم ( لهم مغفرة ) ، يقول: لهم ستر من الله على ذنوبهم، بعفوه لهم عنها ( ورزق كريم ) ، يقول: لهم في الجنة مطعم ومشرب هنيٌّ كريم, لا يتغير في أجوافهم فيصير نجْوًا, ولكنه يصير رشحًا كرشح المسك وهذه الآية تنبئ عن صحة ما قلنا: أن معنى قول الله: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ في هذه الآية, وقوله: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، إنما هو النصرة والمعونة، دون الميراث. لأنه جل ثناؤه عقّب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده، دون من لم يهاجر بقوله: ( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا ) ، الآية, ولو كان مرادًا بالآيات قبل ذلك، الدلالةُ على حكم ميراثهم، لم يكن عَقِيبَ ذلك إلا الحثّ على إمضاء الميراث على ما أمر. وفي صحة ذلك كذلك، الدليلُ الواضح على أن لا ناسخ في هذه الآيات لشيء، ولا منسوخ. القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « والذين آمنوا » ، بالله ورسوله، من بعد تبياني ما بيَّنت من ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضًا، وانقطاع ولايتهم ممن آمن ولم يهاجر حتى يهاجر ( وهاجروا ) ، دارَ الكفر إلى دار الإسلام ( وجاهدوا معكم ) ، أيها المؤمنون ( فأولئك منكم ) ، في الولاية، يجب عليكم لهم من الحق والنصرة في الدين والموارثة، مثل الذي يجب لكم عليهم، ولبعضكم على بعض، كما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق, قال: ثم ردّ المواريث إلى الأرحام ممن أسلم بعد الولاية من المهاجرين والأنصار دونهم، إلى الأرحام التي بينهم، فقال: ( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) ، أي: بالميراث إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . القول في تأويل قوله : وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 75 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والمتناسبون بالأرحام ( بعضهم أولى ببعض ) ، في الميراث, إذا كانوا ممن قسم الله له منه نصيبًا وحظًّا، من الحليف والولي ( في كتاب الله ) ، يقول: في حكم الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ والسابق من القضاء ( إن الله بكل شيء عليم ) ، يقول: إن الله عالم بما يصلح عباده، في توريثه بعضهم من بعض في القرابة والنسب، دون الحلف بالعقد, وبغير ذلك من الأمور كلها, لا يخفى عليه شيء منها. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا أبي, قال، حدثنا قتادة أنه قال: كان لا يرث الأعرابيُّ المهاجرَ، حتى أنـزل الله: ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) . حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا ابن عون, عن عيسى بن الحارث: أن أخاه شريح بن الحارث كانت له سُرِّيَّة، فولدت منه جارية, فلما شبت الجارية زُوِّجت, فولدت غلامًا, ثم ماتت السرِّية, واختصم شريح بن الحارث والغلام إلى شريح القاضي في ميراثها, فجعل شريح بن الحارث يقول: ليس له ميراث في كتاب الله! قال: فقضى شريح بالميراث للغلام. قال: ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) ، فركب ميسرة بن يزيد إلى ابن الزبير, فأخبره بقضاء شريح وقوله, فكتب ابن الزبير إلى شريح: « إن ميسرة أخبرني أنك قضيت بكذا وكذا » ، وقلت: ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) ، وإنه ليس كذلك, إنما نـزلت هذه الآية: أنّ الرجل كان يعاقد الرجل يقول: « ترثني وأرثك » , فنـزلت: ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) . فجاء بالكتاب إلى شريح, فقال شريح: أعتقها حيتان بطنها! وأبى أن يرجع عن قضائه. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون قال، حدثني عيسى بن الحارث قال: كانت لشريح بن الحارث سُرِّية, فذكر نحوه إلا إنه قال في حديثه: كان الرجل يعاقد الرجل يقول: « ترثني وأرثك » ، فلما نـزلت تُرِك ذلك. آخر تفسير « سورة الأنفال » والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. ( القول في تفسير السورة التي يذكر فيها التوبة ) الرئيسة المصحف الإلكتروني www.e-quran.com. جميع الحقوق محفوظة. --------------------- فهرس تفسير الطبري للسور 6 - تفسير الطبري سورة الأنعام التالي السابق تفسير سورة الأنعام القول في تفسير السورة التي يذكر فيها الأنعام بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ يسِّرْ القول في تأويل قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله : « الحمد لله » ، الحمدُ الكامل لله وحده لا شريك له دون جميع الأندادِ والآلهة, ودون ما سواه مما تعبده كَفَرةُ خلْقه من الأوثان والأصنام . وهذا كلام مخرجه مَخرج الخبر يُنْحَى به نحو الأمر. يقول: أخلصوا الحمد والشكر للذي خَلَقَكم، أيها الناس، وخلق السماوات والأرض, ولا تشركوا معه في ذلك أحدًا أو شيئًا, فإنه المستوجب عليكم الحمدَ بأياديه عندكم ونعمة عليكم, لا من تعبدونه من دونه، وتجعلونه له شريكًا من خَلْقه . وقد بينا الفصل بين معنى « الحمد والشكر » بشواهده فيما مضى قبل . القول في تأويل قوله : وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض, وأظلم الليلَ ، وأنارَ النَّهار، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وجعل الظلمات والنور » ، قال: الظلمات ظلمة الليل, والنور نورُ النهار . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: أمّا قوله: « الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور » ، فإنه خلق السَّماوات قبل الأرض, والظلمةَ قبل النور, والجنّة قَبل النار . فإن قال قائل: فما معنى قوله إذًا: « جعل » . قيل: إن العرب تجعلها ظرفًا للخبرِ والفِعْل فتقول: « جعلت أفعل كذا » , و « جعلت أقوم وأقعد » , تدل بقولها « جعلت » على اتصال الفعل, كما تقول « علقت أفعل كذا » لا أنها في نفسها فِعْلٌ. يدلُّ على ذلك قول القائل: « جعلت أقوم » , وأنه لا جَعْلَ هناك سوى القيام, وإنما دَلَّ بقوله: « جعلت » على اتّصال الفعل ودوامه، ومن ذلك قول الشاعر: وَزَعَمْـتَ أنَّـكَ سَـوْفَ تَسْـلُكُ فَارِدًا وَالمَــوْتُ مُكْــتَنِعٌ طَـرِيقَيْ قَـادِرِ فَــاجْعَلْ تَحَـلَّلْ مِـنْ يَمِينِـكَ إنَّمَـا حِـنْثٌ اليَمِيـنِ عَـلَى الأثِيـمِ الفَـاجِرِ يقول: « فاجعل تحلّل » ، بمعنى: تحلل شيئًا بعد شيء لا أن هناك جَعْلا من غير التحليل . فكذلك كل « جَعْلٍ » في الكلام، إنما هو دليل على فعلٍ له اتصال, لا أن له حظًّا في معنى الفعْل. فقوله: « وجعل الظلمات والنور » ، إنما هو: أظلم ليلَهما، وأنارَ نَهارَهُما. القول في تأويل قوله : ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( 1 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، معجِّبًا خلقَه المؤمنين من كفَرة عباده، ومحتجًّا على الكافرين: إنّ الإله الذي يجبُ عليكم، أيها الناس، حمدُه، هو الذي خلَق السماوات والأرض, الذي جعل منهما معايشَكم وأقواتكم، وأقواتَ أنعامكم التي بها حياتكم. فمن السماوات ينـزل عليكم الغيثُ، وفيها تجري الشمس والقمر باعتِقابٍ واختلاف لمصالحكم. ومن الأرض ينبُتُ الحب الذي به غذاؤكم، والثمارُ التي فيها ملاذُّكم, مع غير ذلك من الأمور التي فيها مصالحكم ومنافعكم بها والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم، أيها الناس « بربهم » ، الذي فعل ذلك وأحدثه « يعدلون » ، يجعلون له شريكًا في عبادتهم إياه, فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثانَ, وليس منها شيء شرِكه في خلق شيءٍ من ذلك، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم, بل هو المنفرد بذلك كله, وهم يشركون في عبادتهم إيّاه غيره . فسبحان الله ما أبلغها من حجة، وأوجزها من عظة, لمن فكَّر فيها بعقل، وتدبرها بفهم ! ولقد قيل: إنها فاتحة التوراة . ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العَمّي, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن رباح, عن كعب قال: فاتحة التوراة فاتحة « الأنعام » : « الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجَعَل الظلمات والنور ثم الذين كَفَروا بربِّهم يعدلون » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب, عن جعفر بن سليمان, عن أبي عمران الجوني, عن عبد الله بن رباح, عن كعب, مثله وزاد فيه: وخاتمة التوراة خاتمة « هود » . يقالُ من مساواة الشيء بالشيء: « عدلتُ هذا بهذا » , إذا ساويته به، « عَدْلا » . وأما في الحكم إذا أنصفت فيه, فإنك تقول: « عَدَلت فيه أعدلُ عَدْلا » . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « يعدلون » ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني ابن محمد عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « يعدلون » ، قال: يشركون . ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بذلك: فقال بعضهم: عُني به أهل الكتاب . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن ابن أبزى قال: جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية: « الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربِّهم يعدِلون » ، قال له: أليس الذين كفروا بربِّهم يعدلون؟ قال: بلى ! قال: وانصرف عنه الرجل, فقال له رجل من القوم: يا ابن أبزى, إن هذا قد أراد تفسيرَ هذه غير هذا! إنه رجلٌ من الخوارج ! فقال: ردّوه عليّ . فلما جاءه قال: هل تدري فيمن نـزلت هذه الآية؟ قال: لا! قال: إنها نـزلت في أهل الكتاب, اذهبْ، ولا تضعها على غير حدِّها . وقال آخرون: بل عُنى بها المشركون من عبدةِ الأوثان . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ثم الذين كفروا بربهم يعدلون » ، قال: [ هؤلاء: أهل صراحيه ] . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم الذين كفروا بربهم يعدلون » ، قال: هم المشركون . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ثم الذين كفروا بربهم يعدلون » ، قال: الآلهة التي عبَدوها، عدلوها بالله . قال: وليس لله عِدْلٌ ولا نِدٌ, وليس معه آلهة, ولا اتخذ صاحبةً ولا ولدًا . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره أخبر أنّ الذين كفروا بربهم يعدلون, فعمّ بذلك جميع الكفّار, ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. فجميعهم داخلون في ذلك: يهودهم, ونصاراهم, ومجوسهم, وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر . القول في تأويل قوله : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « هو الذي خلقكم من طين » ، أن الله الذي خلق السماوات والأرض, وأظلم ليلهما وأنَار نهارهما, ثم كفر به مع إنعامه عليهم الكافرون, وعدلوا به من لا ينفعهم ولا يضرُّهم . هو الذي خلقكم، أيها الناس، من طين. وإنما يعني بذلك تعالى ذكره: أنَّ الناس وَلدُ مَنْ خلقه من طين, فأخرج ذلك مخرج الخطاب لهم, إذ كانوا وَلَده . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « هو الذي خلقكم من طين » ، بدءُ الخلق، خلقَ الله آدم من طين . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « هو الذي خلقكم من طين » ، قال: هو آدم . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أمّا « خلقكم من طين » ، فآدم . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم قال: خلق آدم من طين, وخلق الناس من سُلالةٍ من ماءٍ مَهين . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « خلقكم من طين » ، قال: خلق آدم من طين, ثم خلقنا من آدم حين أخذَنا من ظهره . القول في تأويل قوله : ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى قوله: « ثم قضى أجلا » ، ثم قضى لكم، أيها الناس، « أجلا » . وذلك ما بين أن يُخْلق إلى أن يموت « وأجل مسمى عنده » ، وذلك ما بين أن يموت إلى أن يبعث . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع وهناد بن السري قالا حدثنا وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن الحسن في قوله: « قضى أجلا » ، قال: ما بين أن يخلق إلى أن يموت « وأجل مسمى عنده » ، قال: ما بين أن يموت إلى أن يبعث . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ثم قضى أجلا وأجلٌ مسمى عِنده » ، كان يقول: أجل حياتك إلى أن تموت، وأجل موتك إلى أن تُبْعث. فأنت بين أجَلين من الله تعالى ذكره . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة, عن عبيد بن سليمان, عن الضحاك بن مزاحم: « قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قال: قضى أجل الموت, وكل نفسٍ أجلها الموت . قال: ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها « وأجل مسمى عنده » ، يعني: أجل الساعة، ذهاب الدنيا، والإفضاءُ إلى الله . وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم قضى الدنيا، وعنده الآخرة . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن سفيان, عن أبي حصين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قوله: « أجلا » ، قال: الدنيا « وأجل مسمى عنده » ، الآخرة . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو عاصم, عن زكريا بن إسحاق, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قضى أجلا » ، قال: الآخرة عنده « وأجل مسمى » ، الدنيا . حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أجلا » ، قال: الآخرة عنده « وأجل مسمًّى » ، قال: الدنيا . حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أجلا » ، قال: الآخرة عنده « وأجل مسمى » ، قال: الدنيا . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة والحسن: « ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قالا قضى أجل الدنيا، من حين خلقك إلى أن تموت « وأجل مسمى عنده » ، يوم القيامة . حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: « ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قال: قَضَى أجل الدنيا « وأجل مسمى عنده » ، قال: هو أجل البعث . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن مجاهد وعكرمة: « ثم قضى أجلا » ، قال: الموت « وأجل مسمى عنده » ، الآخرة . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة والحسن في قوله: « قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قالا قضى أجل الدنيا، منذ يوم خلقت إلى أن تموت « وأجل مسمى عنده » ، يوم القيامة . حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد: « قضى أجلا » ، قال: أجل الدنيا « وأجل مسمى عنده » ، قال: البعث . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « ثم قضى أجلا وأجلٌ مسمى عنده » ، يعني: أجل الموت « والأجل المسمى » ، أجلُ الساعة والوقوفِ عند الله . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قضى أجلا » ، قال: أمّا « قضى أجلا » ، فأجل الموت « وأجل مسمى عنده » ، يوم القيامة . وقال آخرون في ذلك بما:- حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » ، قال: أمّا قوله: « قضى أجلا » ، فهو النومُ، تُقْبض فيه الروح، ثم ترجع إلى صاحبها حين اليقظة « وأجل مسمى عنده » ، هو أجل موت الإنسان . وقال آخرون بما:- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب في قوله: « هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون » ، قال: خلق آدم من طين, ثم خلقنا من آدم, أخذنا من ظهره, ثم أخذ الأجل والمِيثاق في أجلٍ واحد مسمًّى في هذه الحياة الدنيا . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: ثم قضى أجلَ الحياة الدنيا « وأجلٌ مسمى عنده » ، وهو أجل البَعْث عنده . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لأنه تعالى ذكره نبَّه خلقَه على موضع حُجَّته عليهم من أنفسهم فقال لهم: أيها الناس, إن الذي يعدِلُ به كفارُكم الآلهةَ والأندادَ ، هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين, فجعلكم صورًا أجساًما أحياءً، بعد إذ كنتم طينًا جمادًا, ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم, ليعيدكم ترابًا وطينًا كالذي كنتم قبل أن ينشئكم ويخلقكم وأجل مسمى عندَه لإعادتكم أحياءً وأجسامًا كالذي كنتم قبل مماتكم . وذلك نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ، [ سورة البقرة: 28 ] . القول في تأويل قوله : ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ( 2 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم أنتم تَشكُّون في قدرة من قَدَر على خلق السماوات والأرض, وإظلام الليل وإنارة النهار, وخلقكم من طين حتى صيَّركم بالهيئة التي أنتم بها على إنشائه إياكم من بعد مماتكم وفنائكم, وإيجاده إيّاكم بعد عدمكم . و « المرية » في كلام العرب، هي الشك. وقد بيّنت ذلك بشواهده في غير هذا الموضع فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. وقد:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: « ثم أنتم تمترون » ، قال: الشك . قال: وقرأ قول الله: فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [ سورة هود: 17 ] ، قال: في شكٍّ منه. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم أنتم تمترون » ، بمثله . القول في تأويل قوله : وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ( 3 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذي له الألوهةُ التي لا تنبغي لغيره، المستحقَّ عليكم إخلاصَ الحمد له بآلائه عندكم، أيها الناس، الذي يعدل به كفاركم مَن سواه, هو الله الذي هو في السماوات وفي الأرض يعلم سِرَّكم وجَهْركم، فلا يخفى عليه شيء. يقول: فربكم الذي يستحقُّ عليكم الحمدَ، ويجب عليكم إخلاصُ العبادة له, هو هذا الذي صفته لا من لا يقدر لكم على ضرّ ولا نفع، ولا يعمل شيئًا، ولا يدفع عن نفسه سُوءًا أريد بها . وأما قوله: « ويعلم ما تكسبون » ، يقول: ويعلم ما تَعمَلون وتجرَحُون, فيحصي ذلك عليكم ليجازيكم به عند معادكم إليه. القول في تأويل قوله : وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( 4 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما تأتي هؤلاء الكفار الذين بربهم يعدِلون أوثانَهم وآلهتهم « آية من آيات ربهم » ، يقول: حجّة وعلامة ودلالة من حُجج ربهم ودلالاته وأعلامه على وحدانيته، وحقيقة نبوتك، يا محمد، وصدق ما أتيتهم به من عندي « إلا كانوا عنها معرضين » ، يقول: إلا أعرضوا عنها, يعني عن الآية, فصدّوا عن قَبُولها والإقرار بما شهدت على حقيقته ودلّت على صحته, جهلا منهم بالله، واغترارًا بحلمه عنهم . القول في تأويل قوله : فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 5 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقد كذب هؤلاء العادلون بالله، الحقَّ لما جاءهم, وذلك « الحق » ، هو محمد صلى الله عليه وسلم كذّبوا به, وجحدوا نبوَّته لما جاءهم. قال الله لهم متوعّدًا على تكذيبهم إياه وجحودِهم نبوَّته: سوف يأتي المكذّبين بك، يا محمد، من قومِك وغيرهم « أنْباء ما كانوا به يستهزئون » ، يقول: سوف يأتيهم أخبارُ استهزائهم بما كانوا به يستهزئون من آياتي وأدلَّتي التي آتيتهم . ثم وفى لهم بوعيده لمّا تمادَوا في غيِّهم، وعَتْوا على ربهم, فقتلتهم يوم بدرٍ بالسَّيف . القول في تأويل قوله : أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( 6 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم: ألم يرَ هؤلاء المكذبون بآياتي، الجاحدون نبوّتك, كثرةَ من أهلكت من قبلهم من القُرون وهم الأمم الذين وطَّأت لهم البلادَ والأرض توطئة لم أوطِّئها لهم, وأعطيتهم فيها ما لم أعطهم؟ كما:- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم » ، يقول: أعطيناهم ما لم نعطكم . قال أبو جعفر: أمطرت فأخرجت لهم الأشجارُ ثمارها, وأعطتهم الأرض رَيْع نَباتها, وجابوا صخورَ جبالها, ودرَّت عليهم السماء بأمطارها, وتفجرت من تحتهم عيون المياه بينابيعها بإذني, فغمَطُوا نعمة ربهم، وعصوا رسولَ خالقهم، وخالفوا أمرَ بارئهم, وبغَوْا حتى حقَّ عليهم قَوْلي, فأخذتهم بما اجترحوا من ذنوبهم، وعاقبتهم بما اكتسبت أيديهم, وأهلكت بعضهم بالرَّجفة، وبعضهم بالصيحة، وغير ذلك من أنواع العذاب . ومعنى قوله: « وأرسلنا السماء عليهم مدرارًا » ، المطرَ. ويعني بقوله: « مدرارًا » ، غزيرة دائمةً « وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين » ، يقول: وأحدثنا من بعد الذين أهلكناهم قرنًا آخرين، فابتدأنَا سِواهم . فإن قال قائل: فما وجهُ قوله: « مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم » ؟ ومن المخاطب بذلك؟ فقد ابتدأ الخبر في أول الآية عن قوم غَيَبٍ بقوله: « ألم يروا كم أهلكنا من قَبَلهم من قرن » ؟ قيل: إن المخاطب بقوله: « ما لم نمكن لكم » ، هو المخبر عنهم بقوله: « ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن » ، ولكن في الخبر معنى القول ومعناه: قُلْ، يا محمد، لهؤلاء القوم الذين كذبوا بالحقِّ لما جاءهم: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قَرْن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم. والعرب إذا أخبرت خبرًا عن غائبٍ ، وأدخلت فيه « قولا » ، فعلت ذلك، فوجهت الخبرَ أحيانًا إلى الخبر عن الغائب, وأحيانًا إلى الخطاب, فتقول: « قلت لعبد الله: ما أكرمه » , و « قلت لعبد الله: ما أكرمك » , وتخبر عنه أحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، ثم تعود إلى الخطاب. وتخبر على وجه الخطاب له، ثم تعود إلى الخبر عن الغائب. وذلك في كلامها وأشعارها كثيرٌ فاشٍ. وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد كان بعض نحويي البصرة يقول في ذلك: كأنه أخبرَ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خاطبه معهم. وقال: حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [ سورة يونس: 22 ] ، فجاء بلفظ الغائب، وهو يخاطب, لأنه المخاطَب . القول في تأويل قوله : وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ( 7 ) قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، عن هؤلاء القوم الذين يعدلون بربهم الأوثانَ والآلهة والأصنام. يقول تعالى ذكره: وكيف يتفقهون الآيات, أم كيف يستدِلُّون على بُطْلان ما هم عليه مُقِيمون من الكفر بالله وجحودِ نبوتك، بحجج الله وآياته وأدلته, وهم لعنادهم الحقَّ وبعدِهم من الرشد, لو أنـزلت عليك، يا محمد، الوحيَ الذي أنـزلته عليك مع رسولي، في قِرْطاس يعاينونه ويمسُّونه بأيديهم، وينظرون إليه ويقرءونه منه، معلَّقًا بين السماء والأرض، بحقيقة ما تدعوهم إليه، وصحَّةِ ما تأتيهم به من توحيدي وتنـزيلي, لقال الذين يعدلُون بي غيري فيشركون في توحيدِي سواي: « إنْ هذا إلا سحرٌ مبينٌ » ، أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر سحرتَ به أعيننا, ليست له حقيقة ولا صحة « مبين » ، يقول: مبين لمن تدبّره وتأمَّله أنه سحر لا حقيقة له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم » ، قال: فمسوه ونظروا إليه، لم يصدِّقوا به . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولو نـزلنا عليك كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم » ، يقول: فعاينوه معاينة « لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحرٌ مبين » . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولو نـزلنا عليك كتابًا في قرطاس فلمسوه بأيديهم » ، يقول: لو نـزلنا من السماء صُحُفًا فيها كتاب فلمسوه بأيديهم, لزادهم ذلك تكذيبًا. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولو نـزلنا عليك كتابًا في قرطاس » ، الصحف. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « في قرطاس » ، يقول: في صحيفة « فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إنْ هذا إلا سحرٌ مبين » . القول في تأويل قوله : وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ( 8 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المكذبون بآياتي، العادلون بي الأندادَ والآلهةَ، يا محمد، لك لو دعوتهم إلى توحيدي والإقرار بربوبيتي, وإذا أتيتهم من الآيات والعبر بما أتيتهم به، واحتججت عليهم بما احتججت عليهم مما قطعتَ به عذرَهم: هَلا نـزل عليك ملك من السماء في صورته، يصدّقكَ على ما جئتنا به, ويشهد لك بحقيقة ما تدَّعي من أنَّ الله أرسلك إلينا! كما قال تعالى ذكره مخبرًا عن المشركين في قِيلهم لنبي الله صلى الله عليه وسلم: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [ سورة الفرقان: 7 ] ، « ولو أنـزلنا مَلَكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، يقول: ولو أنـزلنا ملكًا على ما سألوا، ثم كفروا ولم يؤمنوا بي وبرسولي, لجاءهم العذابُ عاجلا غيرَ آجل, ولم يُنْظروا فيؤخَّروا بالعقوبة مراجعةَ التوبة, كما فعلت بمن قبلهم من الأمم التي سألت الآيات، ثم كفرت بعد مجيئها، من تعجيل النقمة، وترك الإنظار، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، يقول: لجاءهم العذاب. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، يقول: ولو أنهم أنـزلنا إليهم ملكًا، ثم لم يؤمنوا، لم يُنْظَروا. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « لولا أنـزل عليه ملك » في صورته « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر » ، لقامت الساعة. حدثنا ابن وكيع, عن أبيه قال، حدثنا أبو أسامة, عن سفيان الثوري, عن عكرمة: « لقضي الأمر » ، قال: لقامت الساعة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر » ، قال يقول: لو أنـزل الله ملكًا ثم لم يؤمنوا, لعجل لهم العذاب. وقال آخرون في ذلك بما :- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، أخبرنا بشر بن عمارة, عن أبي روق، عن الضحاك, عن ابن عباس قوله: « ولو أنـزلنا ملكًا لقضي الأمر ثم لا ينظرون » ، قالا لو آتاهم ملك في صورته لماتوا, ثم لم يؤخَّرُوا طرفةَ عينٍ . القول في تأويل قوله : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو جعلنا رسولنا إلى هؤلاء العادلِين بي, القائلين: لولا أنـزل على محمّدٍ ملك بتصديقه- ملكًا ينـزل عليهم من السماء, يشهد بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرهم باتباعه « لجعلناه رجلا » ، يقول: لجعلناه في صورة رجل من البشر, لأنهم لا يقدرون أن يروا الملك في صورته . يقول: وإذا كان ذلك كذلك, فسواء أنـزلت عليهم بذلك ملكًا أو بشرًا, إذ كنت إذا أنـزلت عليهم ملكًا إنما أنـزله بصورة إنسيّ, وحججي في كلتا الحالتين عليهم ثابتة: بأنك صادق، وأنّ ما جئتهم به حق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق, عن الضحاك, عن ابن عباس: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: ما آتاهم إلا في صورة رجل, لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، في صورة رجل، في خَلْق رجل. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: لو بعثنا إليهم ملكًا لجعلناه في صورة آدم. حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » ، يقول: في صورة آدمي. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلا » قال: لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل, لم نرسله في صورة الملائكة . القول في تأويل قوله : وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ( 9 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وللبسنا عليهم » : ولو أنـزلنا ملكًا من السماء مصدِّقًا لك، يا محمد, شاهدًا لك عند هؤلاء العادلين بي، الجاحدين آياتِك على حقيقة نبوّتك, فجعلناه في صورة رجل من بني آدم، إذ كانوا لا يُطيقون رؤية الملك بصورته التي خلقتُه بها التبس عليهم أمرُه، فلم يدروا أملك هو أمْ إنسيّ! فلم يوقنوا به أنَّه ملك، ولم يصدّقوا به, وقالوا: « ليس هذا ملكًا » ! وللبسنا عليهم ما يلبسونه على أنفسهم من حقيقة أمرك، وصحة برهانك وشاهدك على نبوّتك. يقال منه: « لَبَست عليهم الأمر أَلْبِسُه لَبْسًا » ، إذا خلطته عليهم « ولبست الثوبَ ألبَسُه لُبْسًا » . و « اللَّبوس » ، اسم الثياب. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: لشبَّهنا عليهم. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: ما لبَّس قوم على أنفسهم إلا لَبَّس الله عليهم. واللَّبْس إنما هو من الناس. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يقول: شبَّهنا عليهم ما يشبِّهون على أنفسهم . وقد روي عن ابن عباس في ذلك قول آخر, وهو ما:- حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، فهم أهل الكتاب، فارقوا دينهم، وكذَّبوا رسلهم, وهو تحريفُ الكلام عن مواضعه . حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: « وللبسنا عليهم ما يلبسون » ، يعني: التحريفَ، هم أهل الكتاب, فرقوا كتبهم ودينَهم، وكذَّبوا رسلهم, فلبَّس الله عليهم ما لبَّسوا على أنفسهم . وقد بينا فيما مضى قبل أن هذه الآيات من أوّل السورة، بأن تكون في أمر المشركين من عبدة الأوثان، أشبهُ منها بأمرِ أهل الكتاب من اليهود والنصارى, بما أغنى عن إعادته. القول في تأويل قوله : وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ( 10 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، مسليًّا عنه بوعيده المستهزئين به عقوبةَ ما يلقى منهم من أذىَ الاستهزاء به، والاستخفاف في ذات الله: هَوِّنْ عليك، يا محمد، ما أنت لاقٍ من هؤلاء المستهزئين بك، المستخفِّين بحقك فيّ وفي طاعتي, وامضِ لما أمرتك به من الدُّعاء إلى توحيدي والإقرار بي والإذعان لطاعتي، فإنهم إن تمادوا في غيِّهم، وأصَرُّوا على المقام على كفرهم, نسلك بهم سبيلَ أسلافهم من سائر الأمم من غيرهم، من تعجيل النقمة لهم، وحلول المَثُلاثِ بهم. فقد استهزأت أمم من قبلك برسلٍ أرسلتهم إليهم بمثل الذي أرسلتك به إلى قومك, وفعلوا مثل ما فعل قومُك بك « فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون » ، يعني بقوله: « فحاق » ، فنـزل وأحاط بالذين هزئوا من رسلهم « ما كانوا به يستهزئون » ، يقول: العذابُ الذي كانوا يهزءون به، وينكرون أن يكون واقعًا بهم على ما أنذرتهم رسلهم . يقال منه: « حاق بهم هذا الأمر يَحِيقُ بهم حَيْقًا وحُيُوقًا وحَيَقَانًا » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فحاق بالذين سخروا منهم » ، من الرسل « ما كانوا به يستهزئون » ، يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به . القول في تأويل قوله : قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( 11 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « قل » ، يا محمد لهؤلاء العادلين بيَ الأوثانَ والأندادَ، المكذِّبين بك، الجاحدين حقيقة ما جئتهم به من عندي « سيروا في الأرض » ، يقول: جولوا في بلاد المكذِّبين رسلَهم، الجاحدين آياتي مِنْ قبلهم من ضُرَبائهم وأشكالهم من الناس « ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين » ، يقول: ثم انظروا كيف أعقَبَهم تكذيبهم ذلك، الهلاكَ والعطبَ وخزيَ الدنيا وعارَها, وما حَلَّ بهم من سَخَط الله عليهم، من البوار وخراب الديار وعفوِّ الآثار. فاعتبروا به, إن لم تنهكم حُلُومكم, ولم تزجركم حُجج الله عليكم, عمَّا أنتم [ عليه ] مقيمون من التكذيب, فاحذروا مثل مصارعهم، واتقوا أن يحلّ بكم مثلُ الذي حلّ بهم. وكان قتادة يقول في ذلك بما:- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين » ، دمَّر الله عليهم وأهلكهم، ثم صيَّرهم إلى النار. القول في تأويل قوله : قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم « لمن ما في السماوات والأرض » ، يقول: لمن ملك ما في السماوات والأرض؟ ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبدَ كل شيء، وقهر كل شيء بملكه وسلطانه لا للأوثان والأنداد، ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلهًا من الأصنام التي لا تملك لأنفسها نفعًا ولا تدفع عنها ضُرًّا. وقوله: « كتب على نفسه الرحمة » ، يقول: قضى أنَّه بعباده رحيم, لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة. وهذا من الله تعالى ذكره استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة. يقول تعالى ذكره: أن هؤلاء العادلين بي، الجاحدين نبوّتك، يا محمد, إن تابوا وأنابوا قبلت توبتهم, وإني قد قضيت في خَلْقي أنّ رحمتي وسعت كل شيء، كالذي:- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن ذكوان, عن أبي هريرة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لما فرغ الله من الخلق، كتب كتابًا: » إنّ رحمتي سَبَقَتْ غضبي « . » حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: إنّ الله تعالى ذكره لما خلق السماء والأرض, خلق مئة رحمةٍ, كل رحمة ملء ما بين السماء إلى الأرض. فعنده تسع وتسعون رحمةً, وقسم رحمة بين الخلائق. فبها يتعاطفون، وبها تشرب الوَحْش والطير الماءَ. فإذا كان يوم ذلك، قصرها الله على المتقين، وزادهم تسعًا وتسعين. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن داود, عن أبي عثمان, عن سلمان، نحوه إلا أن ابن أبي عدي لم يذكر في حديثه: « وبها تشرب الوحش والطير الماء » . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: نجد في التوراة عطفتين: أن الله خلق السماوات والأرض, ثم خلق مئة رحمة أو: جعل مئة رحمة قبل أن يخلق الخلق. ثم خلق الخلق، فوضع بينهم رحمة واحدة, وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. قال: فبها يتراحمون, وبها يتباذلون, وبها يتعاطفون, وبها يتزاورون, وبها تحنُّ الناقة, وبها تثُوجُ البقرة, وبها تيعر الشاة, وبها تتَّابع الطير, وبها تتَّابع الحيتان في البحر. فإذا كان يوم القيامة، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده. ورحمته أفضل وأوسع. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عاصم بن سليمان, عن أبي عثمان النهدي, عن سلمان في قوله: « كتب على نفسه الرحمة » ، الآية قال: إنا نجد في التوراة عَطْفتين ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: « وبها تَتَابع الطير, وبها تَتَابع الحيتان في البحر » . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، قال ابن طاوس, عن أبيه: إن الله تعالى ذكره لما خلق الخلق, لم يعطف شيء على شيء, حتى خلق مئة رحمة, فوضع بينهم رحمة واحدة, فعطف بعضُ الخلق على بعض. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه، بمثله . حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، وأخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة ، حسبته أسنده قال: إذا فرغ الله عز وجلّ من القضاء بين خلقه, أخرج كتابًا من تحت العرش فيه: « إن رحمتي سبقت غضبي, وأنا أرحم الراحمين » ، قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال: « مِثلا أهل الجنة » , ولا أعلمه إلا قال: « مثلا » , وأما « مثل » فلا أشك مكتوبًا ها هنا, وأشار الحكم إلى نحره, « عتقاء الله » ، فقال رجل لعكرمة: يا أبا عبد الله, فإن الله يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [ سورة المائدة: 37 ] ؟ قال: ويلك ! أولئك أهلها الذين هم أهلها. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة ، حسبت أنه أسنده قال: إذا كان يوم القيامة، أخرج الله كتابًا من تحت العرش ثم ذكر نحوه, غير أنه قال: فقال رجل: يا أبا عبد الله, أرأيت قوله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وسائر الحديث مثل حديث ابن عبد الأعلى . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما قضى الله الخلق، كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: » إنّ رحمتي سبقت غضبي « . » حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن أبي أيوب, عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول: إن لله مئة رحمة, فأهبط رحمةً إلى أهل الدنيا، يتراحم بها الجن والإنس، وطائر السماء، وحيتان الماء، ودوابّ الأرض وهوامّها. وما بين الهواء. واختزن عنده تسعًا وتسعين رحمة, حتى إذا كان يوم القيامة، اختلج الرحمةَ التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا, فحواها إلى ما عنده, فجعلها في قلوب أهل الجنة، وعلى أهل الجنة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة قال: قال عبد الله بن عمرو: إن لله مئة رحمة, أهبط منها إلى الأرض رحمة واحدة، يتراحم بها الجنّ والإنس، والطير والبهائم وهوامُّ الأرض. حدثنا محمد بن عوف قال، أخبرنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج قال، حدثنا صفوان بن عمرو قال، حدثني أبو المخارق زهير بن سالم قال، قال عمر لكعب: ما أوَّل شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فقال كعب: كتب الله كتابًا لم يكتبه بقلم ولا مداد, ولكنه كتب بأصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت « أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي » . القول في تأويل قوله : لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ قال أبو جعفر: وهذه « اللام » التي في قوله: « ليجمعنكم » ، لام قسم . ثم اختلف أهل العربية في جالبها, فكان بعض نحويي الكوفة يقول: إن شئت جعلت « الرحمة » غاية كلام، ثم استأنفت بعدها: « ليجمعنكم » . قال: وإن شئت جعلتَه في موضع نصب يعني: كتب ليجمعنكم كما قال: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ [ سورة الأنعام: 54 ] ، يريد: كتب أنه من عمل منكم قال: والعرب تقول في الحروف التي يصلح معها جوابُ كلام الأيمان ب « أن » المفتوحة وب « اللام » , فيقولون: « أرسلت إليه أن يقوم » , « وأرسلت إليه ليقومن » . قال: وكذلك قوله: ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ، [ سورة يوسف: 35 ] . قال: وهو في القرآن كثير. ألا ترى أنك لو قلت: « بدا لهم أن يسجنوه » , لكان صوابًا؟ وكان بعض نحويي البصرة يقول: نصبت « لام » « ليجمعنكم » ، لأن معنى: « كتب » [ : فرضَ، وأوجب، وهو بمعنى القسم ] ، كأنه قال: والله ليجمعنكم. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يكون قوله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، غايةً, وأن يكون قوله: « ليجمعنكم » ، خبرًا مبتدأ ويكون معنى الكلام حينئذ: ليجمعنكم الله، أيها العادلون بالله، ليوم القيامة الذي لا ريب فيه، لينتقم منكم بكفركم به. وإنما قلت: هذا القول أولى بالصواب من إعمال « كتب » في « ليجمعنكم » ، لأن قوله: « كتب » قد عمل في الرحمة, فغير جائز، وقد عمل في « الرحمة » ، أن يعمل في « ليجمعنكم » ، لأنه لا يتعدَّى إلى اثنين. فإن قال قائل: فما أنت قائل في قراءة من قرأ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ ، [ سورة الأنعام: 54 ] بفتح « أنّ » ؟ قيل: إن ذلك إذ قرئ كذلك, فإن « أنّ » بيانٌ عن « الرحمة » ، وترجمة عنها. لأن معنى الكلام: كتب على نفسه الرحمة أن يرحم [ من تاب ] من عباده بعد اقتراف السوء بجهالة ويعفو، و « الرحمة » ، يترجم عنها ويبيَّن معناها بصفتها. وليس من صفة الرحمة « ليجمعنكم إلى يوم القيامة » ، فيكون مبينًا به عنها. فإذ كان ذلك كذلك, فلم يبق إلا أن تنصب بنية تكرير « كتب » مرة أخرى معه, ولا ضرورة بالكلام إلى ذلك، فيوجَّه إلى ما ليس بموجود في ظاهره. وأما تأويل قوله: « لا ريب فيه » ، فإنه لا شك فيه, يقول: في أنّ الله يجمعكم إلى يوم القيامة، فيحشركم إليه جميعًا, ثم يؤتى كلَّ عامل منكم أجرَ ما عمل من حسن أو سيئ . القول في تأويل قوله : الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 12 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « الذين خسروا أنفسهم » ، العادلين به الأوثانَ والأصنامَ. يقول تعالى ذكره: ليجمعن الله « الذين خسروا أنفسهم » , يقول: الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها بادعائهم لله الندَّ والعَدِيل, فأوبقوها باستيجابهم سَخَط الله وأليم عقابه في المعاد. وأصل « الخسار » ، الغُبْنُ. يقال منه « : خسر الرجل في البيع » ، إذا غبن, كما قال الأعشى: لا يَــأخُذُ الرِّشْــوَةَ فِــي حُكْمِـهِ وَلا يُبَـــالِي خَسَـــرَ الخَاسِــر وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته. وموضوع « الذين » في قوله: « الذين خسروا أنفسهم » ، نصبٌ على الرد على « الكاف والميم » في قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ ، على وجه البيان عنها. وذلك أنّ الذين خسروا أنفسهم, هم الذين خوطبوا بقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ . وقوله: « فهم لا يؤمنون » ، يقول: « فهم » ، لإهلاكهم أنفسهم وغَبْنهم إياه حظَّها « لا يؤمنون » , أي لا يوحِّدون الله، ولا يصدِّقون بوعده ووعيده، ولا يقرُّون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله : وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 13 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا يؤمن هؤلاء العادلون بالله الأوثانَ, فيخلصوا له التوحيد، ويُفْرِدوا له الطاعة، ويقرّوا بالألوهية، جهلا « وله ما سكن في الليل والنهار » ، يقول: وله ملك كل شيء, لأنه لا شيء من خلق الله إلا وهو ساكنٌ في الليل والنهار. فمعلوم بذلك أن معناه ما وصفنا « وهو السميع » ، يقول: وهو السميع ما يقول هؤلاء المشركون فيه، من ادّعائهم له شريكًا, وما يقول غيرهم من خلقه « العليم » ، بما يضمرونه في أنفسهم، وما يظهرونه بجوارحهم, لا يخفى عليه شيء من ذلك, فهو يحصيه عليهم, ليوفّي كل إنسان ثوابَ ما اكتسبَ، وجزاء ما عمل . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « سكن » ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وله ما سكن في الليل والنهار » ، يقول: ما استقرَّ في الليل والنهار. القول في تأويل قوله : قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثانَ والأصنامَ, والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك, الداعين إلى عبادة الآلهة والأوثان: أشيئًا غيرَ الله تعالى ذكره: « أتخذ وليًّا » ، أستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قل أغير الله أتخذ وليًّا » ، قال: أما « الولي » ، فالذي يتولَّونه ويقرّون له بالربوبية . « فاطر السماوات والأرض » ، يقول: أشيئًا غير الله فاطر السماوات والأرض أتخذ وليًّا؟ ف « فاطر السماوات » ، من نعت « الله » وصفته، ولذلك خُفِض. ويعني بقوله: « فاطر السماوات والأرض » ، مبتدعهما ومبتدئهما وخالقهما، كالذي:- حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان, عن سفيان, عن إبراهيم بن مهاجر, عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما « فاطر السماوات والأرض » , حتى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر, فقال أحدهما لصاحبه: « أنا فَطَرتها » , يقول: أنا ابتدأتها. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فاطر السماوات والأرض » ، قال: خالق السماوات والأرض. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فاطر السماوات والأرض » ، قال: خالق السماوات والأرض. يقال من ذلك: « فطرها الله يَفطُرُها وَيفطِرها فَطرًا وفطورًا » ومنه قوله: هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [ سورة الملك: 3 ] ، يعني: شقوقًا وصدوعًا. يقال: « سيف فُطارٌ » ، إذا كثر فيه التشقق, وهو عيب فيه، ومنه قول عنترة: وَسَــيْفِي كَالْعَقِيقَــةِ فَهْـوَ كِـمْعِي, سِـــلاحِي, لا أَفَــلَّ وَلا فُطَــارَا ومنه يقال: « فَطَر ناب الجمل » ، إذا تشقق اللحم فخرج، ومنه قوله: تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [ سورة الشورى: 5 ] ، أي: يتشققن، ويتصدعن. وأما قوله: « وهو يطعم ولا يطعم » ، فإنه يعني : وهو يرزق خلقه ولا يرزق، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهو يطعم ولا يطعم » ، قال: يَرْزق, ولا يُرزق. وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: ( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يَطْعَمُ ) ، أي: أنه يُطعم خلقه, ولا يأكل هو ولا معنى لذلك، لقلة القراءة به. القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 14 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، للذين يدعونك إلى اتخاذ الآلهة أولياء من دون الله، ويحثّونك على عبادتها: أغير الله فاطر السماوات والأرض, وهو يرزقني وغيري ولا يرزقه أحد, أتخذ وليًّا هو له عبد مملوك وخلق مخلوق؟ وقل لهم أيضًا: إني أمرني ربي: « أن أكون أول من أسلم » يقول: أوّل من خضع له بالعبودية، وتذلّل لأمره ونهيه، وانقاد له من أهل دهرِي وزماني « ولا تكوننَّ من المشركين » ، يقول: وقل: وقيل لي: لا تكونن من المشركين بالله، الذين يجعلون الآلهة والأنداد شركاء. وجعل قوله: « أمرت » بدلا من: « قيل لي » , لأن قوله « أمرت » معناه: « قيل لي » . فكأنه قيل: قل إني قيل لي: كن أول من أسلم, ولا تكونن من المشركين فاجتزئ بذكر « الأمر » من ذكر « القول » , إذ كان « الأمر » ، معلومًا أنه « قول » . القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 15 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين العادلين بالله، الذين يدعونك إلى عبادة أوثانهم: إنّ ربي نهاني عن عبادة شيء سواه « وإني أخاف إن عصيت ربي » , فعبدتها « عذاب يوم عظيم » , يعني: عذاب يوم القيامة. ووصفه تعالى ب « العظم » لعظم هَوْله، وفظاعة شأنه . القول في تأويل قوله : مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( 16 ) قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة والبصرة: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ ، بضم « الياء » وفتح « الراء » , بمعنى: من يُصرف عنه العذاب يومئذ . وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: ( مَنْ يَصْرِفْ عَنْهُ ) ، بفتح « الياء » وكسر « الراء » , بمعنى: من يصرف الله عنه العذاب يومئذ. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي, قراءة من قرأه: ( يَصْرِفْ عَنْهُ ) ، بفتح « الياء » وكسر « الراء » , لدلالة قوله: « فقد رحمه » على صحة ذلك, وأنّ القراءة فيه بتسمية فاعله. ولو كانت القراءة في قوله: « من يصرف » ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله, كان الوجه في قوله: « فقد رحمه » أن يقال : « فقد رُحِم » غير مسمى فاعله. وفي تسمية الفاعل في قوله: « فقد رحمه » ، دليل بيِّن على أن ذلك كذلك في قوله: « من يَصرف عنه » . وإذا كان ذلك هو الوجه الأولَى بالقراءة, فتأويل الكلام: منْ يصرف عنه من خلقه يومئذ عذابه فقد رحمه « وذلك هو الفوز المبين » ، ويعني بقوله: « وذلك » ، وصرفُ الله عنه العذاب يوم القيامة, ورحمته إياه « الفوز » ، أي: النجاة من الهلكة، والظفر بالطلبة « المبين » ، يعني الذي بيَّن لمن رآه أنه الظفر بالحاجة وإدراك الطَّلِبة. وبنحو الذي قلنا في قوله: « من يصرف عنه يومئذ » قال أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله « من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه » ، قال: من يصرف عنه العذاب . القول في تأويل قوله : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 17 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد, إن يصبك الله « بضر » , يقول: بشدة في دنياك، وشظَف في عيشك وضيق فيه, فلن يكشف ذلك عنك إلا الله الذي أمرك أن تكون أوّل من أسلم لأمره ونهيه, وأذعن له من أهل زمانك, دون ما يدعوك العادلون به إلى عبادته من الأوثان والأصنام، ودون كل شيء سواها من خلقه « وإن يمسسك بخير » ، يقول: وإن يصبك بخير، أي: برخاء في عيش، وسعة في الرزق، وكثرة في المال، فتقرّ أنه أصابك بذلك « فهو على كل شيء قدير » ، يقول تعالى ذكره: والله الذي أصابك بذلك، فهو على كل شيء قدير هو القادر على نفعك وضرِّك, وهو على كل شيء يريده قادر, لا يعجزه شيء يريده، ولا يمتنع منه شيء طلبه, ليس كالآلهة الذليلة المَهينة التي لا تقدر على اجتلاب نفع على أنفسها ولا غيرها، ولا دفع ضر عنها ولا غيرها. يقول تعالى ذكره: فكيف تعبد من كان هكذا، أم كيف لا تخلص العبادة, وتقرُّ لمن كان بيده الضر والنفع، والثواب والعقاب، وله القدرة الكاملة، والعزة الظاهرة؟ القول في تأويل قوله : وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 18 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وهو » ، نفسَه، يقول: والله الظاهر فوق عباده ويعني بقوله: « القاهر » ، المذلِّل المستعبد خلقه، العالي عليهم. وإنما قال: « فوق عباده » , لأنه وصف نفسه تعالى ذكره بقهره إياهم. ومن صفة كلّ قاهر شيئًا أن يكون مستعليًا عليه . فمعنى الكلام إذًا: والله الغالب عبادَه, المذلِّلهم, العالي عليهم بتذليله لهم، وخلقه إياهم, فهو فوقهم بقهره إياهم, وهم دونه « وهو الحكيم » ، يقول: والله الحكيم في علِّوه على عباده، وقهره إياهم بقدرته، وفي سائر تدبيره « الخبير » ، بمصالح الأشياء ومضارِّها, الذي لا يخفي عليه عواقب الأمور وبواديها, ولا يقع في تدبيره خلل , ولا يدخل حكمه دَخَل. القول في تأويل قوله : قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يكذّبون ويجحدون نبوَّتك من قومك: أيُّ شيء أعظم شهادة وأكبر؟ ثم أخبرهم بأن أكبر الأشياء شهادة: « الله » ، الذي لا يجوز أن يقع في شهادته ما يجوز أن يقع في [ شهادة ] غيره من خلقه من السهو والخطأ، والغلط والكذب. ثم قل لهم: إن الذي هو أكبر الأشياء شهادة، شهيدٌ بيني وبينكم, بالمحقِّ منا من المبطل، والرشيد منا في فعله وقوله من السفيه, وقد رضينا به حكمًا بيننا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل: ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « أيّ شيء أكبر شهادة » ، قال: أمر محمد أن يسأل قريشًا, ثم أمر أن يخبرهم فيقول: « الله شهيد بيني وبينكم » . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه . القول في تأويل قوله : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الذين يكذبونك: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ « وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به » عقابَه, وأُنذر به من بَلَغه من سائر الناس غيركم إن لم ينته إلى العمل بما فيه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، والإيمان بجميعه نـزولَ نقمة الله به. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « أيّ شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ » ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا أيها الناس، بلِّغوا ولو آية من كتاب الله, فإنه من بَلَغه آيةٌ من كتاب الله، فقد بلغه أمر الله, أخذه أو تركه. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لأنذركم به ومن بلغ » ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بلِّغوا عن الله, فمن بلغه آيه من كتاب الله, فقد بلغه أمر الله. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب القرظي: « لأنذركم به ومن بلغ » ، قال: من بلغه القرآن، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قرأ: « ومن بلغ أئنكم لتشهدون » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن , عن حسن بن صالح قال: سألت ليثًا: هل بقي أحدٌ لم تبلغه الدعوة ؟ قال: كان مجاهد يقول: حيثما يأتي القرآنُ فهو داعٍ، وهو نذير. ثم قرأ: « لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون » . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ومن بلغ » ، من أسلم من العجم وغيرهم . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا خالد بن يزيد قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب في قوله: « لأنذركم به ومن بلغ » ، قال: من بلغه القرآن, فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به » ، يعني أهل مكة « ومن بلغ » ، يعني: ومن بلغه هذا القرآن، فهو له نذير. حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت سفيان الثوري يحدّث, لا أعلمه إلا عن مجاهد: أنه قال في قوله: « وأوحي إليّ هذا القرآن لأنذركم به » ، العرب « ومن بلغ » ، العجم. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « لأنذركم به ومن بلغ » ، أما « من بلغ » ، فمن بلغه القرآن فهو له نذير. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ » ، قال يقول: من بلغه القرآن فأنا نذيره. وقرأ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ سورة الأعراف: 158 ] . قال: فمن بلغه القرآن, فرسول الله صلى الله عليه وسلم نذيره . قال أبو جعفر: فمعنى هذا الكلام: لأنذركم بالقرآن، أيها المشركون، وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم. ف « من » في موضع نصب بوقوع « أنذر » عليه, « وبلغ » في صلته, وأسقطت « الهاء » العائدة على « من » في قوله: « بلغ » ، لاستعمال العرب ذلك في صلات « مَن » و « ما » و « الذي » . القول في تأويل قوله : أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 19 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين، الجاحدين نبوَّتك, العادلين بالله، ربًّا غيره: « أئنكم » ، أيها المشركون « لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى » , يقول: تشهدون أنّ معه معبودات غيره من الأوثانَ والأصنام. وقال: « أُخْرَى » ، ولم يقل « أخَر » ، و « الآلهة » جمع, لأن الجموع يلحقها، التأنيث, كما قال تعالى : فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [ سورة طه: 51 ] ، ولم يقل: « الأوَل » ولا « الأوَّلين » . ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد « لا أشهد » ، بما تشهدون: أن مع الله آلهة أخرى, بل أجحد ذلك وأنكره « قل إنما هو إله واحد » ، يقول: إنما هو معبود واحد, لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة « وإنني بريء مما تشركون » ، يقول: قل: وإنني بريء من كلّ شريك تدعونه لله، وتضيفونه إلى شركته، وتعبدونه معه, لا أعبد سوى الله شيئًا، ولا أدعو غيره إلهًا. وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في قوم من اليهود بأعيانهم، من وجه لم تثبت صحته، وذلك ما:- حدثنا به هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة, عن ابن عباس قال، جاء النحَّام بن زيد، وقردم بن كعب، وبحريّ بن عمير فقالوا: يا محمد، ما تعلم مع الله إلهًا غيرَه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إله إلا الله، بذلك بعثت, وإلى ذلك أدعو! فأنـزل الله تعالى فيهم وفي قولهم: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إلى قوله: لا يُؤْمِنُونَ . القول في تأويل قوله : الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 20 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين « آتيناهم الكتاب » ، التوراة والإنجيل يعرفون أنما هو إله واحد ، لا جماعة الآلهة, وأن محمدًا نبيُّ مبعوث « كما يعرفون أبناءهم » . وقوله: « الذين خسروا أنفسهم » ، من نعت « الذين » الأولى. ويعنى بقوله: « خسروا أنفسهم » ، أهلكوها وألقوها في نار جهنم، بإنكارهم محمدًا أنه لله رسول مرسل, وهم بحقيقة ذلك عارفون « فهم لا يؤمنون » ، يقول: فهم بخسارتهم بذلك أنفسهم لا يؤمنون. وقد قيل: إنّ معنى « خسارتهم أنفسهم » ، أن كل عبد له منـزل في الجنة ومنـزل في النار. فإذا كان يوم القيامة، جعل الله لأهل الجنة منازلَ أهل النار في الجنة, وجعل لأهل النار منازلَ أهل الجنة في النار, فذلك خسران الخاسرين منهم، لبيعهم منازلهم من الجنة بمنازل أهل الجنة من النار, بما فرط منهم في الدنيا من معصيتهم الله، وظلمهم أنفسهم, وذلك معنى قول الله تعالى ذكره: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ، [ سورة المؤمنون: 11 ] . وبنحو ما قلنا في معنى قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله : « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، يعرفون أنّ الإسلام دين الله, وأن محمدًا رسول الله, يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق, عن معمر, عن قتادة في قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، النصارى واليهود , يعرفون رسول الله في كتابهم, كما يعرفون أبناءهم. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، [ يعني: النبي صلى الله عليه وسلم: « كما يعرفون أبناءهم » ، لأن نَعْته معهم في التوراة ] . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم » ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم . قال: زعم أهل المدينة عن أهل الكتاب ممن أسلم, أنهم قالوا: والله لنحن أعرف به من أبنائنا، من أجل الصفة والنعت الذي نجده في الكتاب، وأما أبناؤنا فلا ندري ما أحدثَ النساء ! القول في تأويل قوله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 21 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أشدُّ اعتداءً، وأخطأ فعلا وأخطأ قولا « ممن افترى على الله كذبًا » , يعني: ممن اختلق على الله قيلَ باطل, واخترق من نفسه عليه كذبًا, فزعم أن له شريكًا من خلقه، وإلهًا يعبد من دونه - كما قاله المشركون من عبدة الأوثان - أو ادعى له ولدًا أو صاحبةً، كما قالته النصارى « أو كذب بآياته » ، يقول: أو كذب بحججه وأعلامه وأدلته التي أعطاها رسله على حقيقة نبوتهم، كذّبت بها اليهود « إنه لا يفلح الظالمون » ، يقول: إنه لا يفلح القائلون على الله الباطل, ولا يدركون البقاءَ في الجنان, والمفترون عليه الكذب، والجاحدون بنبوة أنبيائه. القول في تأويل قوله : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 22 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء المفترين على الله كذبًا، والمكذبين بآياته, لا يفلحون اليومَ في الدنيا، ولا يوم نحشرهم جميعًا- يعني: ولا في الآخرة. ففي الكلام محذوف قد استغني بذكر ما ظَهر عما حذف. وتأويل الكلام: إنه لا يفلح الظالمون اليوم في الدنيا، « ويوم نحشرهم جميعًا » ، فقوله: « ويوم نحشرهم » , مردود على المراد في الكلام. لأنه وإن كان محذوفًا منه، فكأنه فيه، لمعرفة السامعين بمعناه « ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم » ، يقول: ثم نقول، إذا حشرنا هؤلاء المفترين على الله الكذب، بادِّعائهم له في سلطانه شريكًا، والمكذِّبين بآياته ورسله, فجمعنا جميعهم يوم القيامة « أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون » ، أنهم لكم آلهة من دون الله, افتراء وكذبًا, وتدعونهم من دونه أربابًا؟ فأتوا بهم إن كنتم صادقين ! القول في تأويل قوله : ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( 23 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم: « أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون » ؟ إجابة منهم لنا عن سؤالنا إياهم ذلك، إذ فتناهم فاختبرناهم, « إلا أن قالوا والله ربّنا ما كنا مشركين » ، كذبًا منهم في أيمانهم على قِيلهم ذلك. ثم اختلف القرأة في قراءة ذلك. فقرأته جماعة من قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ ) بالتاء، بالنصب, بمعنى: لم يكن اختبارَناهم لهم إلا قيلُهم « والله ربنا ما كنا مشركين » غير أنهم يقرءون « تكن » بالتاء على التأنيث. وإن كانت للقول لا للفتنة، لمجاورته الفتنة، وهي خبر. وذلك عند أهل العربية شاذٌ غير فصيح في الكلام. وقد روي بيتٌ للبيد بنحو ذلك, وهو قوله: فَمَضَــى وَقَدَّمَهَـا , وكـانت عـادةً مِنْــهُ إذا هــيَ عَــرَّدَتْ إقْدَامُهَـا فقال: « وكانت » بتأنيث « الإقدام » ، لمجاورته قوله: « عادة » . وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفيين: ( ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ) بالياء، ( فِتْنَتَهُمْ ) بالنصب، ( إلا أَنْ قَالُوا ) ، بنحو المعنى الذي قصده الآخرون الذين ذكرنا قراءتهم. غير أنهم ذكَّروا « يكون » لتذكير « أن » . قال أبو جعفر: وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب, لأن « أنْ » أثبت في المعرفة من « الفتنة » . واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « ثم لم تكن فتنتهم » . فقال بعضهم : معناه: ثم لم يكن قولهم . ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة في قوله: « ثم لم تكن فتنتهم » ، قال: مقالتهم قال معمر: وسمعت غير قتادة يقول: معذرتهم . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: « ثم لم تكن فتنتهم » ، قال: قولهم . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبى, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا » ، الآية, فهو كلامهم « قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » . حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك: « ثم لم تكن فتنتهم » ، يعني: كلامهم . وقال آخرون: معنى ذلك: معذرتهم . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن قتادة: « ثم لم تكن فتنتهم » ، قال: معذرتهم. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » ، يقول: اعتذارهم بالباطل والكذب. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: معناه: ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم، اعتذارًا مما سلف منهم من الشرك بالله « إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » ، فوضعت « الفتنة » موضع « القول » ، لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما « الفتنة » ، الاختبار والابتلاء ولكن لما كان الجواب من القوم غيرَ واقع هنالك إلا عند الاختبار, وضعت « الفتنة » التي هي الاختبار، موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم . واختلفت القرأة أيضًا في قراءة قوله: « إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » . فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض الكوفيين والبصريين: وَاللَّهِ رَبِّنَا ، خفضًا، على أن « الرب » نعت لله . وقرأ ذلك جماعة من التابعين: ( وَاللهِ رَبَّنَا ) ، بالنصب، بمعنى: والله يا ربنا. وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة. قال أبو جعفر: وأولى القراءتين عندي بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ: ( وَاللهِ رَبَّنَا ) ، بنصب « الرب » , بمعنى: يا ربَّنا. وذلك أن هذا جواب من المسئولين المقول لهم: « أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون » ؟ وكان من جواب القوم لربهم: والله يا ربنا ما كنا مشركين فنفوا أن يكونوا قالوا ذلك في الدنيا. يقول الله تعالى ذكره لمحمد صلى الله عليه وسلم: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ . ويعني بقوله : « ما كنا مشركين » ، ما كنا ندعو لك شريكًا، ولا ندعو سواك. القول في تأويل قوله : انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 24 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر، يا محمد، فاعلم، كيف كذَب هؤلاء المشركون العادلون بربهم الأوثانَ والأصنامَ، في الآخرة عند لقاء الله على أنفسهم بقيلهم: « والله يا ربنا ما كنا مشركين » , واستعملوا هنالك الأخلاق التي كانوا بها يتخلّقون في الدنيا، من الكذب والفرية . ومعنى « النظر » في هذا الموضع، النظر بالقلب، لا النظر بالبصر. وإنما معناه: تبين فاعلم كيف كذبوا في الآخرة . وقال: « كذبوا » , ومعناه: يكذبون, لأنه لما كان الخبر قد مضى في الآية قبلها، صار كالشيء الذي قد كانَ ووُجد . « وضل عنهم ما كانوا يفترون » ، يقول: وفارقهم الأنداد والأصنام، وتبرءوا منها, فسلكوا غير سبيلها، لأنها هلكت, [ وأعيد الذين كانوا يعبدونها اجتراء ] , ثم أخذوا بما كانوا يفترونه من قيلهم فيها على الله، وعبادتهم إياها، وإشراكهم إياها في سلطان الله, فضلت عنهم, وعوقب عابدُوها بفريتهم. وقد بينا فيما مضى أن معنى « الضلال » ، الأخذ على غير الهدى. وقد ذكر أن هؤلاء المشركين يقولون هذا القول عند معاينتهم سَعةَ رحمة الله يومئذ. ذكر الرواية بذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عمرو, عن مطرّف, عن المنهال بن عمرو, عن سعيد بن جبير قال: أتى رجلٌ ابنَ عباس فقال: سمعت الله يقول: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ , وقال في آية أخرى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ، [ سورة النساء: 42 ] ؟ قال ابن عباس: أما قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام: قالوا: « تعالوا نجحد » ، فقالوا: « وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ » ، فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم، « وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا » . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، قال: قول أهل الشرك، حين رأوا الذنوب تغفر, ولا يغفر الله لمشرك « انظر كيف كذبوا على أنفسهم » ، بتكذيب الله إياهم . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، ثم قال: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ، [ سورة النساء: 42 ] ، بجوارحهم . حدثنا ابن وكيع, قال ، حدثنا أبي, عن حمزة الزيات, عن رجل يقال له هشام, عن سعيد بن جبير: « ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين » ، قال : حلفوا واعتذروا, قالوا: « والله ربنا » . حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان, عن سعيد بن جبير قال، أقسموا واعتذروا: « والله ربنا » . حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن حمزة الزيات, عن رجل يقال له هشام, عن سعيد بن جبير، بنحوه . حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية, عن سفيان بن زياد العُصْفري, عن سعيد بن جبير في قوله: « والله ربنا ما كنا مشركين » والله : لما أمر بإخراج رجال من النار من أهل التوحيد, قال من فيها من المشركين: « تعالوا نقول: لا إله إلا الله, لعلنا نخرج مع هؤلاء » . قال: فلم يصدَّقوا . قال: فحلفوا: « والله ربنا ما كنا مشركين » . قال: فقال الله: « انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون » . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وضل عنهم ما كانوا يفترون » أي: يشركون. حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا المنهال بن عمرو, عن سعيد عن جبير, عن ابن عباس في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، قال: لما رأى المشركون أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم, قالوا: تعالوا إذا سئلنا قلنا: « والله ربنا ما كنا مشركين » . فسئلوا, فقالوا ذلك, فختم الله على أفواههم، وشهدت عليهم جوارحهم بأعمالهم, فودَّ الذين كفروا حين رأوا ذلك: « لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا » . حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا مسلم بن خلف, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: يأتي على الناس يوم القيامة ساعة، لما رأوا أهلُ الشرك أهلَ التوحيد يغفر لهم فيقولون: « والله ربنا ما كنا مشركين » ، قال: « انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون » . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز, قال حدثنا سفيان عن رجل, عن سعيد بن جبير: أنه كان يقول: « والله ربِّنا ما كنا مشركين » ، يخفضها. قال : أقسموا واعتذروا قال الحارث قال، عبد العزيز, قال سفيان مرة أخرى: حدثني هشام, عن سعيد بن جبير . القول في تأويل قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء العادلين بربِّهم الأوثانَ والأصنامَ من قومك، يا محمد « من يستمع إليك » , يقول: من يستمع القرآن منك, ويستمع ما تدعوه إليه من توحيد ربك، وأمره ونهيه, ولا يفقه ما تقول ولا يُوعِيه قلبَه, ولا يتدبره، ولا يصغي له سمعه، ليتفقهه فيفهم حجج الله عليه في تنـزيله الذي أنـزله عليك, إنما يسمع صوتك وقراءَتك وكلامك, ولا يعقل عنك ما تقول، لأن الله قد جعل على قلبه « أكنّة » . وهي جمع « كنان » ، وهو الغطاء، مثل: « سِنان » ، « وأسنة » . يقال منه: « أكننت الشيءَ في نفسي » ، بالألف, « وكننت الشيء » ، إذا غطيته, ومن ذلك: بَيْضٌ مَكْنُونٌ ، [ سورة الصافات: 49 ] ، وهو الغطاء, ومنه قول الشاعر: تَحْــــتَ عَيْــــنٍ, كِنَانُنَـــا ظِــــلُّ بُــــرْدٍ مُرَحَّــــلُ يعني: غطاؤُهم الذي يكنُهم. « وفي آذانهم وقرًا » ، يقول تعالى ذكره: وجعل في آذانهم ثِقلا وصممًا عن فهم ما تتلو عليهم، والإصغاء لما تدعوهم إليه. والعرب تفتح « الواو » من « الوَقْر » في الأذن، وهو الثقل فيها وتكسرها في الحمل فتقول: « هو وِقْرُ الدابة » . ويقال من الحمل: « أوقرْتُ الدَّابة فهي مُوقَرة » ومن السمع: « وَقَرْتُ سمعه فهو موقور » , ومنه قول الشاعر: وَلِي هَامَةٌ قَدْ وَقَّر الضَّرْبُ سَمْعَهَا وقد ذكر سماعًا منهم: « وُقِرَتْ أذنه » ، إذا ثقلت « فهي موقورة » « وأوقرتِ النخلةُ، فهي مُوقِر » كما قيل: « امرأة طامث، وحائض » , لأنه لا حظّ فيه للمذكر. فإذا أريد أن الله أوقرها، قيل « مُوقَرةٌ » . وقال تعالى ذكره: « وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه » ، بمعنى: أن لا يفقهوه, كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ سورة النساء: 176 ] ، بمعنى: أن لا تضلوا, لأن « الكنّ » إنما جعل على القلب، لئلا يفقهه، لا ليفقهه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا » ، قال: يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئًا, كمثل البهيمة التي تسمع النداء، ولا تدري ما يُقَال لها. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: « وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا » ، أما « أكنة » ، فالغطاءُ أكنّ قلوبهم، لا يفقهون الحق « وفي آذانهم وقرًا » ، قال: صمم . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « ومنهم من يستمع إليك » ، قال: قريش . حدثني المثنى قال، حدثنا حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . القول في تأويل قوله : وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( 25 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره : وإن ير هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام, الذين جعلت على قلوبهم أكنة أن يفقهوا عنك ما يسمعون منك « كل آية » ، يقول: كل حجة وعلامة تدلُّ أهل الحجَا والفهم على توحيد الله وصدق قولك وحقيقة نبوتك « لا يؤمنوا بها » ، يقول: لا يصدّقون بها، ولا يقرّون بأنها دالّة على ما هي عليه دالة « حتى إذا جاءوك يجادلونك » ، يقول: حتى إذا صاروا إليك بعد معاينتهم الآيات الدالة على حقيقة ما جئتهم به « يجادلونك » , يقول: يخاصمونك « يقول الذين كفروا » ، يعنى بذلك: الذين جحدوا آيات الله وأنكروا حقيقتها, يقولون لنبيِّ الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا حجج الله التي احتجَّ بها عليهم، وبيانَه الذي بيَّنه لهم « إن هذا إلا أساطير الأوّلين » ، أي: ما هذا إلا أساطير الأوّلين. و « الأساطير » جمع « إسْطارة » و « أُسطُورة » مثل « أفكوهة » و « أضحوكة » وجائز أن يكون الواحد « أسطارًا » مثل « أبيات » ، و « أبابيت » ، و « أقوال وأقاويل » , من قول الله تعالى ذكره: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ، [ سورة الطور: 2 ] . من: « سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرا » . فإذ كان من هذا: فإن تأويله: ما هذا إلا ما كتبه الأوَّلون. وقد ذكر عن ابن عباس وغيره أنهم كانوا يتأوّلونه بهذا التأويل, ويقولون: معناه: إنْ هذا إلا أحاديث الأوّلين . حدثني بذلك المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, أمّا « أساطير الأوّلين » ، فأسَاجيع الأولين. وكان بعض أهل العلم وهو أبو عبيدة معمر بن المثنى بكلام العرب يقول: « الإسطارةُ » لغةٌ، ومجازُها مجازُ الترهات. وكان الأخفش يقول: قال بعضهم : واحده « أسطورة » . وقال بعضهم: « إسطارة » . قال: ولا أراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد, نحو « العباديد » و « المَذَاكير » ، و « الأبابيل » . قال : وقال بعضهم: واحد « الأبابيل » ، « إبِّيل » ، وقال بعضهم: « إبَّوْل » مثل « عِجَّوْل » , ولم أجد العرب تعرف له واحدًا, وإنما هو مثل « عباديد » لا واحد لها. وأما « الشَّماطيط » ، فإنهم يزعمون أن واحده « شمطاط » . قال: وكل هذه لها واحد, إلا أنه لم يستعمل ولم يتكلم به, لأن هذا المثال لا يكون إلا جميعًا. قال: وسمعت العرب الفصحاء تقول: « أرسل خيله أبابيل » , تريد جماعات, فلا تتكلم بها بواحدة. وكانت مجادلتهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الله في هذه الآية، فيما ذُكِر, ما:- حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « حتى إذا جاءوك يجادلونك » الآية، قال: هم المشركون، يجادلون المسلمين في الذَّبيحة, يقولون: « أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون, وأما ما قتل الله فلا تأكلون! وأنتم تتَّبعون أمرَ الله تعالى ذكره » ! القول في تأويل قوله : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 26 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » . فقال بعضهم: معناه: هؤلاء المشركون المكذبون بآيات الله, ينهونَ الناس عن اتباع محمّد صلى الله عليه وسلم والقبول منه « وينأَوْن عنه » ، يتباعدون عنه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث وهانئ بن سعيد، عن حجاج, عن سالم, عن ابن الحنفية: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: يتخلفون عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجيبونه, وينهون الناس عنه. حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، يعني : ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به « وينأون عنه » ، يعني : يتباعدون عنه. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، أن يُتَّبع محمد، ويتباعدون هم منه. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، يقول: لا يلقونَه, ولا يَدَعُون أحدًا يأتيه. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول في قوله: « وهم ينهون عنه » ، يقول: عن محمد صلى الله عليه وسلم . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، جمَعُوا النهي والنأي. و « النأي » ، التباعد. وقال بعضهم: بل معناه: « وهم ينهون عنه » عن القرآن، أن يسمع له ويُعمَل بما فيه. ذكر من قال ذلك : حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وهم ينهون عنه » ، قال: ينهون عن القرآن, وعن النبي صلى الله عليه وسلم « وينأون عنه » ، ويتباعدون عنه. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قوله: « وهم ينهون عنه » ، قال: قريش، عن الذكر « وينأون عنه » ، يقول: يتباعدون . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قريش، عن الذكر. « ينأون عنه » ، يتباعدون. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: ينهون عن القرآن، وعن النبي صلى الله عليه وسلم, ويتباعدون عنه. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ينأون عنه » ، قال: « وينأون عنه » ، يباعدونه. وقال آخرون: معنى ذلك: وهم ينهون عن أذى محمد صلى الله عليه وسلم « وينأون عنه » ، يتباعدون عن دينه واتّباعه . ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وقبيصة وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت, عمن سمع ابن عباس يقول: نـزلت في أبي طالب, كان ينهى عن محمد أن يُؤذَى، وينأى عما جاء به أن يؤمن به . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن حبيب بن أبي ثابت قال، حدثني من سمع ابن عباس يقول: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب، ينهى عنه أن يؤذى، وينأى عما جاء به. حدثنا الحسن بن يحيى, قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن حبيب بن أبي ثابت, عمن سمع ابن عباس: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب، كان ينهى المشركين أن يؤذُوا محمدًا, وينأى عمّا جاء به. حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة قال: كان أبو طالب ينهى عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصدِّقه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ومحمد بن بشر, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة في قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب قال ابن وكيع، قال ابن بشر: كان أبو طالب ينهي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذَى ولا يصدّق به. حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير, عن أبي محمد الأسدي, عن حبيب بن أبي ثابت قال، حدثني من سمع ابن عباس يقول في قول الله تعالى ذكره: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، نـزلت في أبي طالب، كان ينهى عن أذى محمد, وينأى عما جاء به أن يتّبعه. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن القاسم بن مخيمرة في قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، قال: نـزلت في أبي طالب. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى, عن عبد العزيز بن سياه, عن حبيب قال: ذاك أبو طالب, في قوله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » . حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني سعيد بن أبي أيوب قال، قال عطاء بن دينار في قول الله: « وهم ينهون عنه وينأون عنه » ، أنها نـزلت في أبي طالب, أنه كان ينهى الناسَ عن إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينأى عما جاء به من الهدى. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية, قولُ من قال: تأويلُه: « وهم ينهون عنه » ، عن إتباع محمد صلى الله عليه وسلم مَنْ سواهم من الناس, وينأون عن اتباعه. وذلك أن الآيات قبلَها جرت بذكر جماعة المشركين العادِلين به, والخبرِ عن تكذيبهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والإعراض عما جاءهم به من تنـزيل الله ووحيه, فالواجب أن يكون قوله: « وهم ينهون عنه » ، خبرًا عنهم, إذ لم يأتنا ما يدُلُّ على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. بل ما قبل هذه الآية وما بعدها، يدلّ على صحة ما قلنا، من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون خبرًا عن خاصٍّ منهم . وإذ كان ذلك كذلك, فتأويل الآية: وإن يرَ هؤلاء المشركون، يا محمد، كلَّ آية لا يؤمنوا بها, حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقولون: « إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأوَّلين وأخبارهم » ! وهم ينهون عن استماع التنـزيل، وينأون عنك فيبعدون منك ومن اتباعك « وإن يهلكون إلا أنفسهم » ، يقول: وما يهلكونَ بصدّهم عن سبيل الله، وإعراضهم عن تنـزيله، وكفرهم بربهم - إلا أنفسهم لا غيرها, وذلك أنهم يكسِبُونها بفعلهم ذلك، سخط الله وأليم عقابه، وما لا قِبَل لها به « وما يشعرون » ، يقول: وما يدرون ما هُمْ مكسبوها من الهلاك والعطب بفعلهم. والعرب تقول لكل من بعد عن شيء: « قد نأى عنه, فهو ينأى نَأْيًا » . ومسموع منهم: « نأيتُكَ » ، بمعنى: « نأيت عنك » . وأما إذا أرادوا: أبعدتُك عني, قالوا: « أنأيتك » . ومن « نأيتك » بمعنى: نأيتُ عنك، قول الحطيئة: نَــــأَتْكَ أُمَامَـــةُ إلا سُـــؤَالا وَأَبْصَــرْتَ مِنْهَــا بِطَيْـفٍ خَيَـالا القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 27 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: « ولو ترى » ، يا محمد، هؤلاء العادلين بربهم الأصنامَ والأوثانَ، الجاحدين نبوّتك، الذين وصفت لك صفتهم « إذ وُقفوا » ، يقول: إذ حُبِسوا « على النار » ، يعني: في النار- فوضعت « على » موضع « في » كما قال: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [ سورة البقرة: 102 ] ، بمعنى في ملك سليمان. وقيل: « ولو ترى إذ وقفوا » ، ومعناه: إذا وقفوا لما وصفنا قبلُ فيما مضى: أن العرب قد تضع « إذ » مكان « إذا » , و « إذا » مكان « إذ » , وإن كان حظّ « إذ » أن تصاحب من الأخبار ما قد وُجد فقضي, وحظ « إذا » أن تصاحب من الأخبار ما لم يوجد, ولكن ذلك كما قال الراجز، وهو أبو النجم: مَــدَّ لَنَــا فِـي عُمْـرِهِ رَبُّ طَهَـا ثُــمَّ جَــزَاهُ اللـهُ عَنَّـا إذْ جَـزَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فِي العَلالِيِّ العُلَى فقال: « ثم جزاه الله عنا إذ جزى » فوضع، « إذ » مكان « إذا » . وقيل: « وقفوا » ، ولم يُقَل: « أُوقِفوا » , لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب. يقال: « وقَفتُ الدابة وغيرها » ، بغير ألف، إذا حبستها. وكذلك: « وقفت الأرضَ » ، إذا جعلتها صدقةً حَبيسًا, بغير ألف، وقد:- حدثني الحارث, عن أبي عبيد قال: أخبرني اليزيديّ والأصمعي، كلاهما, عن أبي عمرو قال: ما سمعت أحدًا من العرب يقول: « أوقفت الشيء » بالألف. قال: إلا أني لو رأيت رجلا بمكانٍ فقلت: « ما أوقفك ها هنا؟ » ، بالألف، لرأيته حسنًا. « فقالوا يا ليتنا نردّ » ، يقول: فقال هؤلاء المشركون بربهم، إذ حُبسوا في النار: « يا ليتنا نردّ » ، إلى الدنيا حتى نتوب ونراجعَ طاعة الله « ولا نكذب بآيات ربنا » ، يقول: ولا نكذّب بحجج ربنا ولا نجحدها « ونكون من المؤمنين » ، يقول: ونكون من المصدّقين بالله وحججه ورسله, متَّبعي أمره ونهيه. واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة والعراقيين: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، بمعنى: يا ليتنا نردُّ, ولسنا نكذب بآيات ربنا، ولكنّا نكون من المؤمنين. وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفة : يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، بمعنى: يا ليتنا نرد, وأن لا نكذب بآيات ربنا، ونكونَ من المؤمنين. وتأوَّلوا في ذلك شيئًا:- حدثنيه أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون قال: في حرف ابن مسعود: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلا نُكَذِّبَ ) بالفاء . وذكر عن بعض قرأة أهل الشام، أنه قرأ ذلك: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ ) بالرفع ( وَنَكُونَ ) بالنصب، كأنه وجَّه تأويله إلى أنهم تمنوا الردَّ، وأن يكونوا من المؤمنين, وأخبروا أنهم لا يكذِّبون بآيات ربهم إن رُدُّوا إلى الدنيا . واختلف أهل العربية في معنى ذلك منصوبًا ومرفوعًا. فقال بعض نحويي البصرة: « ولا نكذِّبَ بآيات ربِّنا ونكونَ من المؤمنين » ، نصبٌ، لأنه جواب للتمني, وما بعد « الواو » كما بعد « الفاء » . قال: وإن شئت رفعتَ وجعلته على غير التمني, كأنهم قالوا: ولا نكذِّبُ والله بآيات ربنا, ونكونُ والله من المؤمنين. هذا، إذا كان على ذا الوجه، كان منقطعًا من الأوّل. قال: والرفع وجهُ الكلام , لأنه إذا نصب جعلها « واوَ » عطف. فإذا جعلها « واو » عطف, فكأنهم قد تمنوا أن لا يكذِّبوا، وأن يكونوا من المؤمنين. قال: وهذا، والله أعلم، لا يكون, لأنهم لم يتمنوا هذا, إنما تمنوا الردّ , وأخبروا أنهم لا يكذبون، ويكونون من المؤمنين. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: لو نصب « نكذب » و « نكون » على الجواب بالواو، لكان صوابًا. قال: والعرب تجيب ب « الواو » ، و « ثم » , كما تجيب بالفاء. يقولون: « ليت لي مالا فأعطيَك » , « وليت لي مالا وأُعْطيَك » ، « وثم أعطيَك » . قال: وقد تكون نصبًا على الصَّرف, كقولك: « لا يَسَعُنِي شيء ويعجِزَ عَنك. » وقال آخر منهم: لا أحبُّ النصب في هذا, لأنه ليس بتمنٍّ منهم, إنما هو خبرٌ، أخبروا به عن أنفسهم. ألا ترى أن الله تعالى ذكره قد كذَّبهم فقال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ؟ وإنما يكون التكذيب للخبر لا للتمنِّي. وكان بعضهم ينكر أن يكون الجواب « بالواو » , وبحرف غير « الفاء » . وكان يقول: إنما « الواو » موضع حال, لا يسعني شيء ويضيقَ عنك « ، أي: وهو يضيق عنك. قال: وكذلك الصَّرف في جميع العربية. قال: وأما « الفاء » فجواب جزاء: » ما قمت فنأتيَك « ، أي: لو قمت لأتينَاك. قال: فهذا حكم الصرف و « الفاء » . قال: وأمّا قوله: » ولا نكذب « ، و » نكون « فإنما جاز, لأنهم قالوا: » يا ليتنا نرد « ، في غير الحال التي وقفنا فيها على النار. فكان وقفهم في تلك, فتمنَّوا أن لا يكونوا وُقِفُوا في تلك الحال. » قال أبو جعفر: وكأنّ معنى صاحب هذه المقالة في قوله هذا: ولو ترى إذ وقفوا على النار, فقالوا: قد وقفنا عليها مكذِّبين بآيات ربِّنا كفارًا, فيا ليتنا نردّ إليها فنُوقَف عليها غير مكذبين بآيات ربِّنا ولا كفارًا. وهذا تأويلٌ يدفعه ظاهر التنـزيل, وذلك قول الله تعالى ذكره: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، فأخبر الله تعالى أنهم في قيلهم ذلك كذبة, والتكذيب لا يقع في التمني. ولكن صاحب هذه المقالة أظنُّ به أنَّه لم يتدبر التأويل، ولَزِم سَنَن العربيّة. قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) بالرفع في كليهما, بمعنى: يا ليتنا نردّ, ولسنا نكذب بآيات ربِّنا إن رددنا, ولكنا نكون من المؤمنين على وجه الخبر منهم عما يفعلون إن هم ردُّوا إلى الدنيا, لا على التمنّي منهم أن لا يكذِّبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين. لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عنهم أنهم لو ردُّوا لعادوا لما نهوا عنه, وأنهم كذبة في قيلهم ذلك. ولو كان قيلهم ذلك على وجه التمني، لاستحال تكذيبهم فيه, لأن التمني لا يكذَّب, وإنما يكون التصديقُ والتكذيبُ في الأخبار. وأما النصب في ذلك, فإني أظنّ بقارئه أنه توخَّى تأويل قراءة عبد الله التي ذكرناها عنه, وذلك قراءته ذلك: ( يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ فَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، على وجه جواب التمني بالفاء. وهو إذا قرئ بالفاء كذلك، لا شك في صحة إعرابه. ومعناه في ذلك: أن تأويله إذا قرئ كذلك: لو أنّا رددنا إلى الدنيا ما كذَّبنا بآيات ربِّنا, ولكُنَّا من المؤمنين. فإن يكن الذي حَكَى من حكى عن العرب من السماع منهم الجوابَ بالواو، و « ثم » كهيئة الجواب بالفاء، صحيحًا, فلا شك في صحّة قراءة من قرأ ذلك: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ نصبًا على جواب التمني بالواو, على تأويل قراءة عبد الله ذلك بالفاء. وإلا فإن القراءة بذلك بعيدةُ المعنى من تأويل التنـزيل. ولستُ أعلم سماعَ ذلك من العرب صحيحًا, بل المعروف من كلامها: الجوابُ بالفاء، والصرفُ بالواو. القول في تأويل قوله : بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( 28 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء العادلين بربهم، الجاحدين نبوتك، يا محمد، في قيلهم إذا وقفوا على النار: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأسَى والندمُ على ترك الإيمان بالله والتصديق بك، لكن بهم الإشفاق مما هو نازلٌ بهم من عقاب الله وأليم عذابه، على معاصيهم التي كانوا يخفونها عن أعين الناس ويسترونها منهم, فأبداها الله منهم يوم القيامة وأظهرها على رؤوس الأشهاد, ففضحهم بها، ثم جازاهم بها جزاءَهم . يقول: بل بدا لهم ما كانوا يخفون من أعمالهم السيئة التي كانوا يخفونها « من قبل ذلك في الدنيا, فظهرت » وَلَوْ رُدُّوا « ، يقول: ولو ردّوا إلى الدنيا فأمْهلوا » لعادوا لما نهوا عنه « ، يقول: لرجعوا إلى مثل العمل الذي كانوا يعملونه في الدنيا قبل ذلك، من جحود آيات الله، والكفر به، والعمل بما يسخط عليهم ربِّهم » وإنهم لكاذبون « ، في قيلهم: » لو رددنا لم نكذب بآيات ربّنا وكنا من المؤمنين « , لأنهم قالوه حين قالوه خشية العذاب، لا إيمانًا بالله. » وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل » ، يقول: بدت لهم أعمالهم في الآخرة، التي أخفوها في الدنيا . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل » ، قال: من أعمالهم . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولو ردُّوا لعادُوا لما نهوا عنه » ، يقول: ولو وصل الله لهم دُنيا كدنياهم, لعادوا إلى أعمالهم أعمالِ السوء. القول في تأويل قوله : وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( 29 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين، العادلين به الأوثان والأصنام، الذين ابتدأ هذه السورة بالخبرعنهم. يقول تعالى ذكره: « وقالوا إنْ هي إلا حياتنا الدنيا » ، يخبر عنهم أنهم ينكرون أنّ الله يُحيي خلقه بعد أن يُميتهم, ويقولون: « لا حياة بعد الممات، ولا بعث ولا نشور بعد الفناء » . فهم بجحودهم ذلك، وإنكارهم ثوابَ الله وعقابَه في الدار الآخرة, لا يبالون ما أتوا وما ركبوا من إثم ومعصية، لأنهم لا يرجون ثوابًا على إيمان بالله وتصديق برسوله وعملٍ صالح بعد موت, ولا يخافون عقابًا على كفرهم بالله ورسوله وسيّئٍ من عمل يعملونه. وكان ابن زيد يقول: هذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء الكفرة الذين وقفوا على النار: أنهم لو ردُّوا إلى الدنيا لقالوا: « ما هي إلا حياتُنا الدنيا وما نحن بمبعوثين » . حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ، وقالوا حين يردون: « إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين » . القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ( 30 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « لو ترى » ، يا محمد، هؤلاء القائلين: ما هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين « إذ وقفوا » ، يوم القيامة، أي: حبسوا, « على ربهم » ، يعني على حكم الله وقضائه فيهم « قال أليس هذا بالحق » ، يقول: فقيل لهم: أليس هذا البعثُ والنشر بعد الممات الذي كنتم تنكرونَه في الدنيا، حقًّا ؟ فأجابوا، فقالوا: « بَلَى » والله إنه لحقّ « قال فَذُوقُوا الْعَذَابَ » ، يقول: فقال الله تعالى ذكره لهم: فذوقوا العذاب الذي كنتم به في الدنيا تكذبون « بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ » ، يقول: بتكذيبكم به وجحودكموه الذي كان منكم في الدنيا . القول في تأويل قوله : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله » ، قد هلك ووُكس، في بيعهم الإيمان بالكفر « الذين كذبوا بلقاء الله » , يعني: الذين أنكروا البعثَ بعد الممات، والثواب والعقابَ، والجنةَ والنارَ, من مشركي قريش ومَنْ سلك سبيلهم في ذلك « حتى إذا جاءَتهم الساعة » ، يقول: حتى إذا جاءتهم السَّاعة التي يَبْعث الله فيها الموتى من قبورهم. وإنما أدخلت « الألف واللام » في « الساعة » , لأنها معروفة المعنى عند المخاطبين بها, وأنها مقصود بها قصدُ الساعة التي وصفت. ويعني بقوله: « بغتة » ، فجأةً، من غير علم من تفجؤه بوقت مفاجأتها إيّاه. يقال منه: « بغتُّه أبغته بَغْتةً » ، إذا أخذته كذلك: « قالوا يا حَسْرتَنا على ما فرّطنا فيها » ، يقول تعالى ذكره: وُكس الذين كذبوا بلقاء الله ببيعهم منازلهم من الجنة بمنازل من اشتروا منازله من أهل الجنة من النار, فإذا جاءتهم الساعة بغتةً قالوا إذا عاينوا ما باعوا وما اشتروا، وتبيَّنوا خسارة صفقة بَيْعهم التي سلفت منهم في الدنيا، تندُّمًا وتلهُّفًا على عظيم الغَبْن الذي غبنوه أنفسهم، وجليلِ الخسران الذي لا خسرانَ أجلَّ منه « يا حسرتنا على ما فرطنا فيها » ، يقول: يا ندامتنا على ما ضيّعنا فيها، يعني: صفقتهم تلك. و « الهاء والألف » في قوله: « فيها » ، من ذكر « الصفقة » , ولكن اكتفى بدلالة قوله: « قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله » عليها من ذكرها, إذ كان معلومًا أن « الخسران » لا يكون إلا في صفقة بيع قد جرت. وإنما معنى الكلام: قد وُكس الذين كذبوا بلقاء الله, ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانَه وجنته، بالكفر الذي يستوجبون به منه سَخَطه وعقوبته, ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك، حتى تقوم الساعة, فإذا جاءتهم الساعة بغتةً فرأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم، قالوا حينئذ، تندمًا: « يا حسرتنا على ما فرطنا فيها » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « يا حسرتنا على ما فرطنا فيها » ، أمّا « يا حسرتنا » ، فندامتنا « على ما فرطنا فيها » ، فضيعنا من عمل الجنة . حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا يزيد بن مهران قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن الأعمش, عن أبي صالح, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « يا حسرتنا » ، قال: « يرى أهلُ النار منازلهم من الجنة فيقولون: يا حسرتنا » . القول في تأويل قوله : وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ( 31 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين كذَّبوا بلقاء الله، « يحملون أوزارهم على ظهورهم » . وقوله: « وهم » من ذكرهم « يحملون أوزارهم » ، يقول: آثامهم وذنوبهم. واحدها « وِزْر » , يقال منه: « وَزَر الرجل يزِر » ، إذا أثم, قال الله: « ألا ساء ما يزرون » . فإن أريد أنهم أُثِّموا، قيل: « قد وُزِر القوم فهم يُوزَرُون، وهم موزورون » . قد زعم بعضهم أن « الوِزْر » الثقل والحمل. ولست أعرف ذلك كذلك في شاهد، ولا من رواية ثِقة عن العرب. وقال تعالى ذكره: « على ظهورهم » ، لأن الحمل قد يكون على الرأس والمنكِب وغير ذلك, فبيَّن موضع حملهم ما يحملون منْ ذلك. وذكر أنّ حملهم أوزارهم يومئذ على ظهورهم، نحو الذي:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير بن سَلْمان قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شيء صورة وأطيبُه ريحًا, فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد طيَّب ريحك وحسَّن صورتك ! فيقول: كذلك كنت في الدنيا, أنا عملك الصالح, طالما ركبتك في الدنيا، فاركبني أنت اليوم! وتلا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ، [ سورة مريم: 85 ] . وإن الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنُه ريحًا, فيقول، هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله قد قَبّح صورتك وأنتن ريحك ! فيقول: كذلك كنتُ في الدنيا, أنا عملك السيئ، طالما ركبتني في الدنيا، فأنا اليوم أركبك وتلا « وهم يحملون أوزارهم على ظُهورهم ألا ساء ما يزرون » . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم » ، فإنه ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره، إلا جاء رجل قبيح الوجه، أسودُ اللون، مُنتن الريح، عليه ثياب دَنِسة, حتى يدخل معه قبره, فإذا رآه قال له: ما أقبح وجهك! قال: كذلك كان عملك قبيحًا! قال: ما أنتن ريحك! قال: كذلك كان عملك منتنًا! قال: ما أدْنس ثيابك! قال فيقول: إن عملك كان دنسًا. قال: من أنت؟ قال: أنا عملك! قال: فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذَّات والشهوات, فأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخلَه النار، فذلك قوله: « يحملون أوزارهم على ظهورهم » . وأما قوله تعالى ذكره: « ألا ساء ما يزرون » ، فإنه يعني: ألا ساء الوزر الذي يزرون - أي: الإثم الذي يأثمونه بربهم، كما:- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ألا ساء ما يزرون » ، قال: ساء ما يعملون . القول في تأويل قوله : وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 32 ) قال أبو جعفر: وهذا تكذيب من الله تعالى ذكره هؤلاء الكفارَ المنكرين البعثَ بعد الممات في قولهم: إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ , [ سورة الأنعام : 29 ] . يقول تعالى ذكره، مكذبًا لهم في قبلهم ذلك: « ما الحياة الدنيا » ، أيها الناس « إلا لعب ولهو » ، يقول : ما باغي لذاتِ الحياة التي أدْنيت لكم وقرّبت منكم في داركم هذه، ونعيمَها وسرورَها، فيها، والمتلذذُ بها، والمنافسُ عليها, إلا في لعب ولهو، لأنها عما قليل تزول عن المستمتع بها والمتلذذِ فيها بملاذّها, أو تأتيه الأيام بفجائعها وصروفها، فَتُمِرُّ عليه وتكدُر، كاللاعب اللاهي الذي يسرع اضمحلال لهوه ولعبه عنه, ثم يعقبه منه ندمًا، ويُورثه منه تَرحًا. يقول: لا تغتروا، أيها الناس، بها, فإن المغتر بها عمّا قليل يندم « وللدار الآخرة خير للذين يتقون » ، يقول: وللعمل بطاعته، والاستعدادُ للدار الآخرة بالصالح من الأعمال التي تَبقى منافعها لأهلها، ويدوم سرورُ أهلها فيها, خيرٌ من الدار التي تفنى وشيكًا، فلا يبقى لعمالها فيها سرور، ولا يدوم لهم فيها نعيم « للذين يتقون » ، يقول: للذين يخشون الله فيتقونه بطاعته واجتناب معاصيه، والمسارعة إلى رضاه « أفلا تعقلون » ، يقول: أفلا يعقل هؤلاء المكذّبون بالبعث حقيقةَ ما نخبرهم به، من أن الحياة الدنيا لعب ولهوٌ, وهم يرون من يُخْتَرم منهم، ومن يهلك فيموت، ومن تنوبه فيها النوائب وتصيبُه المصائب وتفجعه الفجائع. ففي ذلك لمن عقل مدَّكر ومزدجر عن الركون إليها، واستعباد النفس لها ودليلٌ واضح على أن لها مدبِّرًا ومصرفًا يلزم الخلقَ إخلاصُ العبادة له، بغير إشراك شيءٍ سواه معه . القول في تأويل قوله : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ( 33 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قد نعلم » ، يا محمد، إنه ليحزنك الذي يقول المشركون, وذلك قولهم له: إنه كذّاب « فإنهم لا يكذبونك » . واختلفت القرأة في قراءة ذلك [ فقرأته جماعة من أهل الكوفة: ( فَإنَّهُمْ لا يُكْذِبونَكَ ) بالتخفيف ] ، بمعنى: إنهم لا يُكْذِبونك فيما أتيتهم به من وحي الله, ولا يدفعون أن يكون ذلك صحيحًا، بل يعلمون صحته, ولكنهم يجحَدون حقيقته قولا فلا يؤمنون به. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يحكي عن العرب أنهم يقولون: « أكذبت الرجل » ، إذا أخبرت أنه جاءَ بالكذب ورواه. قال: ويقولون: « كذَّبْتُه » ، إذا أخبرت أنه كاذبٌ. وقرأته جماعة من قرأة المدينة والعراقيين والكوفة والبصرة: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بمعنى: أنهم لا يكذّبونك علمًا, بل يعلمون أنك صادق ولكنهم يكذبونك قولا عنادًا وحسدًا . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرأة, ولكل واحدة منهما في الصحة مخرج مفهوم. وذلك أن المشركين لا شكَّ أنه كان منهم قوم يكذبون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ويدفعونه عما كان الله تعالى ذكره خصه به من النبوّة، فكان بعضهم يقول: « هو شاعر » , وبعضهم يقول: « هو كاهن » , وبعضهم يقول: « هو مجنون » ، وينفي جميعُهم أن يكون الذي أتَاهم به من وحي السماء، ومن تنـزيل رب العالمين، قولا. وكان بعضهم قد تبين أمرَه وعلم صحة نبوّته, وهو في ذلك يعاند ويجحد نبوّته حسدًا له وبغيًا. فالقارئ: ( فَإنَّهُمْ لا يُكْذِبونَكَ ) بمعنى أن الذين كانوا يعرفون حقيقة نبوّتك وصدق قولك فيما تقول, يجحدونَ أن يكون ما تتلوه عليهم من تنـزيل الله ومن عند الله، قولا - وهم يعلمون أن ذلك من عند الله علمًا صحيحًا مصيبٌ، لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته. وفي قول الله تعالى في هذه السورة: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ [ سورة الأنعام : 20 ] ، أوضح الدليل على أنه قد كان فيهم المعاند في جحود نبوّته صلى الله عليه وسلم, مع علمٍ منهم به وبصحة نبوّته. وكذلك القارئ: ( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) بمعنى: أنهم لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عنادًا، لا جهلا بنبوّته وصدق لَهْجته مصيب، لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم مَنْ هذه صفته. وقد ذَهب إلى كل واحد من هذين التأويلين جماعة من أهل التأويل . * ذكر من قال: معنى ذلك: فإنهم لا يكذبونك ولكنهم يجحدون الحقّ على علم منهم بأنك نبيٌّ لله صادق . حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح في قوله: « قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك » ، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو جالس حزينٌ, فقال له: ما يُحزنك؟ فقال: كذَّبني هؤلاء! قال فقال له جبريل: إنهم لا يكذبونك، هم يعلمون أنك صادق, « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل, عن أبي صالح قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس حزين, فقال له: ما يحزنك؟ . فقال: كذَّبني هؤلاء! فقال له جبريل: إنهم لا يكذبونك, إنهم ليعلمون أنك صادق, « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، قال: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط: عن السدي في قوله: « قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة, إن محمدًا ابن أختكم, فأنتم أحقُّ مَنْ كَفَّ عنه، فإنه إن كان نبيًّا لم تقاتلوهُ اليوم، وإن كان كاذبًا كنتم أحق من كف عن ابن أخته! قفوا ههنا حتى ألقى أبا الحكم فإن غُلب محمدٌ [ صلى الله عليه وسلم ] رجعتم سالمين, وإن غَلَب محمدٌ فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئًا فيومئذ سمّي « الأخنس » , وكان اسمه « أبيّ » فالتقى الأخنس وأبو جهل, فخلا الأخنس بأبي جهل, فقال: يا أبا الحكم, أخبرني عن محمد، أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا! فقال أبو جهل: وَيْحك, والله إن محمدًا لصادق, وما كذب محمّد قط, ولكن إذا ذهب بنو قُصَيِّ باللواء والحجابة والسقاية والنبوة, فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله: « فإنهم لا يكذّبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، « فآيات الله » ، محمدٌ صلى الله عليه وسلم . حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس, عن سالم الأفطس, عن سعيد بن جبير: « فإنهم لا يكذبونك » ، قال: ليس يكذّبون محمدًا, ولكنهم بآيات الله يجحدون . * ذكر من قال: ذلك بمعنى: فإنهم لا يكذّبونك، ولكنهم يكذِّبون ما جئت به. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن ناجية قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما نتهمك, ولكن نتَّهم الذي جئت به! فأنـزل الله تعالى ذكره: « فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن ناجية بن كعب: أنّ أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّا لا نكذبك, ولكن نكذب الذي جئت به! فأنـزل الله تعالى ذكره: « فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » . وقال آخرون: معنى ذلك، فإنهم لا يبطلون ما جئتهم به . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان, عن أبي معشر, عن محمد بن كعب: « فإنهم لا يكذبونك » ، قال: لا يبطلون ما في يديك . وأما قوله: « ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون » ، فإنه يقول: ولكن المشركين بالله، بحجج الله وآي كتابه ورسولِه يجحدون, فينكرون صحَّة ذلك كله. وكان السدي يقول: « الآيات » في هذا الموضع، معنيٌّ بها محمّد صلى الله عليه وسلم. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبلُ. القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ( 34 ) قال أبو جعفر: وهذا تسلية من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وتعزيةٌ له عما ناله من المساءة بتكذيب قومه إيّاه على ما جاءهم به من الحق من عند الله . يقول تعالى ذكره: إن يكذبك، يا محمد، هؤلاء المشركون من قومك, فيجحدوا نبوّتك, وينكروا آيات الله أنّها من عنده, فلا يحزنك ذلك, واصبر على تكذيبهم إياك وما تلقى منهم من المكروه في ذات الله, حتى يأتي نصر الله, فقد كُذبت رسلٌ من قبلك أرسلتهم إلى أممهم، فنالوهم بمكروه, فصبروا على تكذيب قومهم إياهم، ولم يثنهم ذلك من المضيّ لأمر الله الذي أمرهم به من دعاء قومهم إليه, حتى حكم الله بينهم وبينهم « ولا مبدّل لكلمات الله » ، يقول: ولا مغيِّر لكلمات الله و « كلماته » تعالى ذكره: ما أنـزل الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، من وعده إياه النصر على من خَالفه وضادّه, والظفرَ على من تولّى عنه وأدبر « ولقد جاءك من نبإ المرسلين » ، يقول: ولقد جاءك يا محمد، من خبر من كان قبلك من الرسل، وخبر أممهم, وما صنعتُ بهم حين جحدوا آياتي وتمادَوا في غيهم وضلالهم أنباء وترك ذكر « أنباء » ، لدلالة « مِنْ » عليها. يقول تعالى ذكره: فانتظر أنت أيضًا من النصرة والظفر مثل الذي كان منِّي فيمن كان قبلك من الرسل إذ كذبهم قومهم, واقتد بهم في صبرهم على ما لَقُوا من قومهم. وبنحو ذلك تأوَّل من تأوَّل هذه الآية من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا » ، يعزِّي نبيه صلى الله عليه وسلم كما تسمعون, ويخبره أن الرسل قد كُذّبت قبله، فصبروا على ما كذبوا، حتى حكم الله وهو خير الحاكمين . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير, عن جويبر, عن الضحاك: « ولقد كذبت رسل من قبلك » ، قال: يعزّي نبيَّه صلى الله عليه وسلم . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « ولقد كذبت رسل من قبلك » ، الآية، قال: يعزِّي نبيّه صلى الله عليه وسلم . القول في تأويل قوله : وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن كان عظم عليك، يا محمد، إعراض هؤلاء المشركين عنك، وانصرافهم عن تصديقك فيما جئتهم به من الحق الذي بعثتُك به, فشقَّ ذلك عليك، ولم تصبر لمكروه ما ينالك منهم « فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض » ، يقول: فإن استطعت أن تتَّخذ سَرَبا في الأرض مثلَ نَافِقاء اليَرْبُوع, وهي أحد جِحَرِته فتذهب فيه « أو سُلمًا في السماء » ، يقول: أو مصعدًا تصعد فيه، كالدَّرَج وما أشبهها, كما قال الشاعر: لا تُحْـرِزُ الْمَـرْءُ أَحْجَـاءُ البِلادِ, وَلا يُبْنَـى لَـهُ فِـي السَّـمَاوَاتِ السَّـلالِيم « فتأتيهم بآية » ، منها يعني بعلامةٍ وبرهان على صحة قولك، غير الذي أتيتك فافعل. وبنحو الذي قلنا في ذلك: قال بعض أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء » ، و « النفق » السَّرب, فتذهب فيه « فتأتيهم بآية » , أو تجعل لك سلَّمًا في السماء, فتصعد عليه، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيناهم به، فافعل . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض » ، قال: سَرَبًا « أو سلمًا في السماء » ، قال: يعني الدَّرَج . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء » ، أما « النفق » فالسرب, وأما « السلم » فالمصعد. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: « نفقًا في الأرض » ، قال: سربًا . وتُرِك جواب الجزاء فلم يذكر، لدلالة الكلام عليه، ومعرفة السامعين بمعناه. وقد تفعل العرب ذلك فيما كان يُفهم معناه عند المخاطبين به, فيقول الرجل منهم للرجل: « إن استطعت أن تنهض معنا في حاجتنا، إن قدرت على مَعُونتنا » , ويحذف الجواب, وهو يريد: إن قدرت على معونتنا فافعل. فأما إذا لم يعرف المخاطب والسامع معنى الكلام إلا بإظهار الجواب، لم يحذفوه. لا يقال: « إن تقم » , فتسكت وتحذف الجواب، لأن المقول ذلك له لا يعرف جوابه إلا بإظهاره, حتى يقال: « إن تقم تصب خيرًا » , أو: « إن تقم فحسن » , وما أشبه ذلك. ونظيرُ ما في الآية مما حذف جَوَابه وهو مراد، لفهم المخاطب لمعنى الكلام قول الشاعر: فَبِحَـــظٍّ مِمَّـــا نَعِيشُ, وَلا تَــذْ هَـبْ بِـكِ التُّرَّهَـاتُ فِـي الأهْـوَالِ والمعنى: فبحظٍّ مما نعيش فعيشي. القول في تأويل قوله : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( 35 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين يكذبونك من هؤلاء الكفار، يا محمد، فيحزنك تكذيبهم إياك, لو أشاء أن أجمعهم على استقامة من الدِّين، وصوابٍ من محجة الإسلام، حتى تكون كلمة جميعكم واحدة، وملتكم وملتهم واحدة, لجمعتهم على ذلك, ولم يكن بعيدًا عليَّ، لأنّي القادرُ على ذلك بلطفي, ولكني لم أفعل ذلك لسابق علمي في خلقي، ونافذ قضائي فيهم، من قبل أن أخلقهم وأصوِّر أجسامهم « فلا تكونن » ، يا محمد، « من الجاهلين » ، يقول: فلا تكونن ممن لا يعلم أن الله لو شاء لجَمع على الهدى جميع خلقه بلطفه, وأنَّ من يكفر به من خلقه إنما يكفر به لسابق علم الله فيه، ونافذ قضائه بأنه كائنٌ من الكافرين به اختيارًا لا إضطرارًا, فإنك إذا علمت صحة ذلك، لم يكبر عليك إعراضُ من أعرض من المشركين عما تدعُوه إليه من الحق، وتكذيبُ من كذَّبك منهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنى معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: يقول الله سبحانه: لو شئتُ لجمعتهم على الهدى أجمعين. قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، الدلالةُ الواضحة على خطإ ما قال أهل التَّفْويض من القدريّة، المنكرون أن يكون عند الله لطائف لمن شاءَ توفيقه من خلقه, يلطفُ بها له حتى يهتدِيَ للحقّ, فينقاد له، وينيبَ إلى الرشاد فيذعن به ويؤثره على الضلال والكفر بالله. وذلك أنه تعالى ذكره أخبر أنه لو شاءَ الهداية لجميع من كفر به، حتى يجتمعوا على الهدى، فعلَ. ولا شك أنه لو فعل ذلك بهم، كانوا مهتدين لا ضلالا. وهم لو كانوا مهتدين، كان لا شك أنّ كونهم مهتدين كان خيرًا لهم. وفي تركه تعالى ذكره أن يجمعهم على الهدى، تركٌ منه أن يفعل بهم في دينهم بعض ما هو خيرٌ لهم فيه، مما هو قادر على فعله بهم، وقد ترك فعله بهم. وفي تركه فعل ذلك بهم، أوضحُ الدليل أنه لم يعطهم كل الأسباب التي بها يصلون إلى الهداية، ويتسبّبون بها إلى الإيمان. القول في تأويل قوله : إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( 36 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يكبُرنّ عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك، وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربّهم والإقرار بنبوّتك, فإنه لا يستجيب لدعائك إلى ما تدعوه إليه من ذلك، إلا الذين فتح الله أسماعهم للإصغاء إلى الحق، وسهَّل لهم اتباع الرُّشد, دون من ختم الله على سمعه، فلا يفقه من دعائك إياه إلى الله وإلى اتباع الحق إلا ما تفقه الأنعام من أصوات رُعاتها, فهم كما وصفهم به الله تعالى ذكره: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [ سورة البقرة: 171 ] « والموتى يبعثهم الله » ، يقول: والكفارُ يبعثهم الله مع الموتى, فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتًا، ولا يعقلون دعاء، ولا يفقهون قولا إذ كانوا لا يتدبرون حُجج الله، ولا يعتبرون آياته، ولا يتذكرون فينـزجرون عما هم عليه من تكذيب رُسل الله وخلافهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « إنما يستجيب الذين يسمعون » ، المؤمنون، للذكر « والموتى » ، الكفار, حين يبعثهم الله مع الموتى. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « إنما يستجيب الذين يسمعون » ، قال: هذا مَثَل المؤمن، سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله. والذين كذَّبوا بآياتنا صم وبكم, وهذا مثل الكافر أصم أبكم, لا يبصر هدًى ولا ينتفع به. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن سفيان الثوري, عن محمد بن جحادة, عن الحسن: « إنما يستجيب الذين يسمعون » ، المؤمنون « والموتى » ، قال: الكفار. حدثني ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن محمد بن جحادة قال: سمعت الحسن يقول في قوله: « إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله » ، قال: الكفار. وأما قوله: « ثم إليه يرجعون » ، فإنه يقول تعالى ذكره: ثم إلى الله يرجع المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول, والكفارُ الذين يحول الله بينهم وبين أن يفقهوا عنك شيئًا, فيثيب هذا المؤمن على ما سلف من صالح عمله في الدنيا بما وعد أهل الإيمان به من الثواب, ويعاقب هذا الكافرَ بما أوعدَ أهل الكفر به من العقاب, لا يظلم أحدًا منهم مثقال ذرة. القول في تأويل قوله : وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 37 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم، المعرضون عن آياته: « لولا نزل عليه آية من ربه » ، يقول: قالوا: هلا نـزل على محمد آية من ربه؟ كما قال الشاعر: تَعُـدُّونَ عَقْـرَ النِّيـبِ أَفْضَـل مَجْدِكُمْ بَنِـي ضَوْطَـرَي, لَـولا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا بمعنى: هلا الكميَّ. و « الآية » ، العلامة. وذلك أنهم قالوا: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْـزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا [ سورة الفرقان : 7،8 ] . قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لقائلي هذه المقالة لك: « إنّ الله قادر على أن ينزل آية » , يعني: حجة على ما يريدون ويسألون « ولكن أكثرهم لا يعلمون » ، يقول: ولكن أكثر الذين يقولون ذلك فيسألونك آية, لا يعلمون ما عليهم في الآية إن نـزلها من البلاء, ولا يدرون ما وجه ترك إنـزال ذلك عليك, ولو علموا السبب الذي من أجله لم أنـزلها عليك، لم يقولوا ذلك، ولم يسألوكه, ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك. القول في تأويل قوله : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( 38 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المعرضين عنك، المكذبين بآيات الله: أيها القوم, لا تحسبُنَّ الله غافلا عما تعملون, أو أنه غير مجازيكم على ما تكسبون! وكيف يغفل عن أعمالكم، أو يترك مجازاتكم عليها، وهو غير غافل عن عمل شيء دبَّ على الأرض صغيرٍ أو كبيرٍ، ولا عمل طائر طار بجناحيه في الهواء، بل جعل ذلك كله أجناسًا مجنَّسة وأصنافًا مصنفة, تعرف كما تعرفون، وتتصرف فيما سُخِّرت له كما تتصرفون, ومحفوظ عليها ما عملت من عمل لها وعليها, ومُثْبَت كل ذلك من أعمالها في أم الكتاب, ثم إنه تعالى ذكره مميتها ثم منشرها ومجازيها يوم القيامة جزاءَ أعمالها. يقول: فالرب الذي لم يضيِّع حفظَ أعمال البهائم والدوابّ في الأرض، والطير في الهواء، حتى حفظ عليها حركاتها وأفعالها، وأثبت ذلك منها في أم الكتاب، وحشرها ثم جازاها على ما سلف منها في دار البلاء, أحرى أن لا يُضيع أعمالكم، ولا يُفَرِّط في حفظ أفعالكم التي تجترحونها، أيها الناس، حتى يحشركم فيجازيكم على جميعها, إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا, إذ كان قد خصكم من نعمه، وبسط عليكم من فضله، ما لم يعمَّ به غيركم في الدنيا, وكنتم بشكره أحقَّ، وبمعرفة واجبه عليكم أولى، لما أعطاكم من العقل الذي به بين الأشياء تميِّزون، والفهم الذي لم يعطه البهائم والطيرَ، الذي به بين مصالحكم ومضارِّكم تفرِّقون. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, قال ، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « أمم أمثالكم » ، أصناف مصنفة تُعرَف بأسمائها . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد , مثله . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم » ، يقول: الطير أمة, والإنس أمة, والجن أمة. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « إلا أمم أمثالكم » ، يقول: إلا خلق أمثالكم . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج, عن ابن جريج في قوله: « وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم » ، قال: الذرّة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب . وأما قوله: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، فإن معناه: ما ضيعنا إثبات شيء منه، كالذي:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، قال : لم نُغفِل الكتاب, ما من شيء إلا وهو في الكتاب. وحدثني به يونس مرة أخرى, قال في قوله: « ما فرطنا في الكتاب من شيء » ، قال: كلهم مكتوبٌ في أم الكتاب . وأما قوله: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، فإن أهل التأويل اختلفوا في معنى « حشرهم » ، الذي عناه الله تعالى ذكره في هذا الموضع. فقال بعضهم: « حشرها » ، موتها. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن سعيد, عن مسروق, عن عكرمة, عن ابن عباس: « وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم » ، قال ابن عباس: موت البهائم حشرها. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، قال: يعني بالحشر، الموت . حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله : « ثم إلى ربهم يحشرون » ، يعني بالحشر: الموت. وقال آخرون: « الحشر » في هذا الموضع، يعني به الجمعُ لبعث الساعة وقيام القيامة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن جعفر بن برقان, عن يزيد بن الأصم, عن أبي هريرة في قوله: « إلا أمم أمثالكم ما فرَّطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون » ، قال: يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة, البهائمَ والدوابَّ والطيرَ وكل شيء, فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذَ للجمَّاء من القَرْناء, ثم يقول: « كوني ترابًا » , فلذلك يقول الكافر: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [ سورة النبأ: 40 ] . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الأعمش, عمن ذكره، عن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انتطحت عنـزان, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون فيما انتطحتا؟ قالوا: لا ندري! قال: « لكن الله يدري, وسيقضي بينهما. » حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليم قال، حدثنا فطر بن خليفة, عن منذر الثوري, عن أبي ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أبا ذَرّ، أتدري فيم انتطحتا « ؟ قلت: لا! قال: لكن الله يدري وسيقضي بينهما! قال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلِّب طائرٌ جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علمًا. » قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ كل دابة وطائر محشورٌ إليه. وجائز أن يكون معنيًّا بذلك حشر القيامة وجائز أن يكون معنيًّا به حشر الموت وجائز أن يكون معنيًّا به الحشران جميعًا ، ولا دلالة في ظاهر التنـزيل، ولا في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أيُّ ذلك المراد بقوله: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، إذ كان « الحشر » ، في كلام العرب الجمع, ومن ذلك قول الله تعالى ذكره: وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ سورة ص: 19 ] ، يعني: مجموعة. فإذ كان الجمع هو « الحشر » ، وكان الله تعالى ذكره جامعًا خلقه إليه يوم القيامة، وجامعهم بالموت, كان أصوبُ القول في ذلك أن يُعَمَّ بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها وأن يقال: كل دابة وكل طائر محشورٌ إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة, إذ كان الله تعالى ذكره قد عم بقوله: « ثم إلى ربهم يحشرون » ، ولم يخصص به حشرًا دون حشر. فإن قال قائل: فما وجهُ قوله: « ولا طائر يطير بجناحيه » ؟ وهل يطير الطائر إلا بجناحيه؟ فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟ قيل : قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى ذكره أنـزل هذا الكتاب بلسان قوم، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم. فإذ كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا: « كلمت فلانًا بفمي » , و « مشيت إليه برجلي » , و « ضربته بيدي » ، خاطبهم تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم، ويستعملونه في خطابهم, ومن ذلك قوله تعالى ذكره : ( إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَي ) [ سورة ص: 23 ] . القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 39 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين كذبوا بحجج الله وأعلامه وأدلته « صمٌّ » ، عن سماع الحق « بكم » ، عن القيل به « في الظلمات » ، يعني: في ظلمة الكفر حائرًا فيها, يقول: هو مرتطم في ظلمات الكفر, لا يبصر آيات الله فيعتبر بها, ويعلم أن الذي خلقه وأنشأه فدبَّره وأحكم تدبيره، وقدَّره أحسن تقدير، وأعطاه القوة، وصحح له آلة جسمه لم يخلقه عبثًا، ولم يتركه سدًى, ولم يعطه ما أعطاه من الآلات إلا لاستعمالها في طاعته وما يرضيه، دون معصيته وما يسخطه. فهو لحيرته في ظلمات الكفر، وتردّده في غمراتها, غافلٌ عمَّا الله قد أثبت له في أمّ الكتاب، وما هو به فاعلٌ يوم يحشر إليه مع سائر الأمم. ثم أخبر تعالى ذكره أنه المضِلّ من يشاء إضلالَه من خلقه عن الإيمان إلى الكفر، والهادي إلى الصراط المستقيم منهم من أحبَّ هدايته، فموفّقه بفضله وطَوْله للإيمان به، وترك الكفر به وبرسله وما جاءت به أنبياؤه, وأنه لا يهتدي من خلقه أحد إلا من سبق له في أمّ الكتاب السعادة, ولا يضل منهم أحد إلا من سبق له فيها الشقاء, وأنّ بيده الخير كلُّه, وإليه الفضل كله, له الخلق والأمر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال قتادة: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « صم وبكم » ، هذا مثل الكافر، أصم أبكم, لا يبصر هدًى، ولا ينتفع به, صَمَّ عن الحق في الظلمات، لا يستطيع منها خروجًا، متسكِّع فيها. القول في تأويل قوله : قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 40 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في معنى قوله: « أرأيتكم » . فقال بعض نحويي البصرة: « الكاف » التي بعد « التاء » من قوله: « أرأيتكم » إنما جاءت للمخاطبة, وتركت « التاء » مفتوحة كما كانت للواحد. قال: وهي مثل « كاف » « رويدك زيدًا » , إذا قلت: أرود زيدًا هذه « الكاف » ليس لها موضع مسمى بحرف، لا رفع ولا نصب, وإنما هي في المخاطبة مثل كاف « ذاك » . ومثل ذلك قول العرب: « أبصرَك زيدًا » , يدخلون « الكاف » للمخاطبة. وقال آخرون منهم: معنى: « أرأيتكم إن أتاكم » ، أرأيتم. قال: وهذه « الكاف » تدخل للمخاطبة مع التوكيد, و « التاء » وحدها هي الاسم, كما أدخلت « الكاف » التي تفرق بين الواحد والاثنين والجميع في المخاطبة، كقولهم: « هذا, وذاك, وتلك, وأولئك » ، فتدخل « الكاف » للمخاطبة، وليست باسم, و « التاء » هو الاسم للواحد والجميع, تركت على حال واحدة, ومثل ذلك قولهم: « ليسك ثَمَّ إلا زيد » , يراد: ليس و « لا سِيَّك زيد » , فيراد: ولا سيما زيد و « بلاك » فيراد، « بلى » في معنى: « نعم » و « لبئسك رجلا ولنعمك رجلا » . وقالوا : « انظرك زيدًا ما أصنع به » و « أبصرك ما أصنع به » ، بمعنى: أبصره. وحكى بعضهم: « أبصركُم ما أصنع به » , يراد: أبصروا و « انظركم زيدًا » ، أي انظروا. وحكي عن بعض بني كلاب: « أتعلمك كان أحد أشعرَ من ذي الرمة؟ » فأدخل « الكاف » . وقال بعض نحويي الكوفة: « أرأيتك عمرًا » أكثر الكلام فيه ترك الهمز. قال: و « الكاف » من « أرأيتك » في موضع نصب, كأن الأصل: أرأيت نفسك على غير هذه الحال؟ قال: فهذا يثني ويجمع ويؤنث, فيقال: « أرأيتما كما » و « أرأيتموكم » . و « وَأَرَأَيْتُنَّكُنَّ » ، أوقع فعله على نفسه, وسأله عنها, ثم كثر به الكلام حتى تركوا « التاء » موحدة للتذكير والتأنيث والتثنية والجمع, فقالوا: « أرأيتكم زيدًا ما صنع » , و « أرأيتكنّ ما صنع » , فوحدوا التاء وثنوا الكاف وجمعوها، فجعلوها بدلا من « التاء » ، كما قال: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ [ سورة الحاقة: 19 ] ، و « هاء يا رجل » , و « هاؤما » , ثم قالوا: « هاكم » , اكتفى بالكاف والميم مما كان يثنى ويجمع. فكأن « الكاف » في موضع رفع، إذ كانت بدلا من « التاء » . وربما وحدت للتثنية والجمع والتذكير والتأنيث, وهي كقول القائل: « عليك زيدًا » , « الكاف » في موضع خفض, والتأويل رفع. فأما ما يُجْلب فأكثر ما يقع على الأسماء, ثم تأتي بالاستفهام فيقال: « أرأيتك زيدًا هل قام » , لأنها صارت بمعنى: أخبرني عن زيد, ثم بيَّن عما يستخبر. فهذا أكثر الكلام. ولم يأت الاستفهام يليها. لم يقل: « أرأيتك هل قمت » , لأنهم أرادوا أن يبيِّنوا عمن يسأل, ثم تُبيّن الحالة التي يسأل عنها. وربما جاء بالجزاء ولم يأت بالاسم, فقالوا: « أرأيت إن أتيت زيدًا هل يأتينا » و « أرأيتك » أيضًا و « أرأيتُ زيدًا إن أتيته هل يأتينا » ، إذا كانت بمعنى: « أخبرني » , فيقال باللغات الثلاث. قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ: أخبروني، إن جاءكم، أيها القوم، عذاب الله, كالذي جاء من قبلكم من الأمم الذين هلك بعضهم بالرجفة, وبعضهم بالصاعقة أو جاءتكم الساعة التي تنشرون فيها من قبوركم، وتبعثون لموقف القيامة, أغير الله هناك تدعون لكشف ما نـزل بكم من البلاء، أو إلى غيره من آلهتكم تفزعون لينجيكم مما نـزل بكم من عظيم البلاء؟ « إن كنتم صادقين » ، يقول: إن كنتم محقّين في دعواكم وزعمكم أنّ آلهتكم التي تدعونها من دون الله تنفع أو تضر. القول في تأويل قوله : بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ( 41 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مكذِّبًا لهؤلاء العادلين به الأوثان: ما أنتم، أيها المشركون بالله الآلهةَ والأندادَ، إن أتاكم عذابُ الله أو أتتكم الساعة، بمستجيرين بشيء غير الله في حال شدة الهول النازل بكم من آلهة ووثن وصنم, بل تدعون هناك ربّكم الذي خلقكم، وبه تستغيثون، وإليه تفزعون، دون كل شيء غيره « فيكشف ما تدعون إليه » ، يقول: فيفرِّج عنكم عند استغاثتكم به وتضرعكم إليه، عظيم البلاء النازل بكم إن شاء أن يفرج ذلك عنكم, لأنه القادر على كل شيء، ومالك كل شيء، دون ما تدعونه إلهًا من الأوثان والأصنام « وتنسون ما تشركون » ، يقول: وتنسون حين يأتيكم عذاب الله أو تأتيكم الساعة بأهوالها، ما تشركونه مع الله في عبادتكم إياه, فتجعلونه له ندًّا من وثن وَصنم, وغير ذلك مما تعبدونه من دونه وتدعونه إلهًا. القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( 42 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: متوعدًا لهؤلاء العادلين به الأصنامَ ومحذِّرَهم أن يسلك بهم إن هم تمادَوا في ضلالهم سبيلَ من سلك سبيلهم من الأمم قبلهم، في تعجيل الله عقوبته لهم في الدنيا ومخبرًا نبيَّه عن سنته في الذين خلوا قبلهم من الأمم على منهاجهم في تكذيب الرسل : « لقد أرسلنا » ، يا محمد، « إلى أمم » ، يعني: إلى جماعات وقرون « من قبلك فأخذناهم بالبأساء » ، يقول: فأمرناهم ونهيناهم, فكذبوا رسلنا، وخالفوا أمرنا ونهينا, فامتحناهم بالابتلاء « بالبأساء » , وهي شدة الفقر والضيق في المعيشة « والضراء » ، وهي الأسقام والعلل العارضة في الأجسام. وقد بينا ذلك بشواهده ووجوه إعرابه في « سورة البقرة » ، بما أغني عن إعادته في هذا الموضع. وقوله: « لعلهم يتضرعون » يقول: فعلنا ذلك بهم ليتضرعوا إليّ, ويخلصوا لي العبادة, ويُفْردوا رغبتهم إليَّ دون غيري، بالتذلل منهم لي بالطاعة، والاستكانة منهم إليّ بالإنابة. وفي الكلام محذوفٌ قد استغني بما دلّ عليه الظاهرمن إظهاره دون قوله: « ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم » ، وإنما كان سبب أخذه إياهم، تكذيبهم الرسل وخلافهم أمرَه لا إرسال الرسل إليهم. وإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن معنى الكلام: « ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك » رسلا فكذبوهم, « فأخذناهم بالبأساء » . و « التضرع » : هو « التفعل » من « الضراعة » , وهي الذلة والاستكانة. القول في تأويل قوله : فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 43 ) قال أبو جعفر: وهذا أيضًا من الكلام الذي فيه متروك استغني بدلالة الظاهر عن ذكر ما تُرك. وذلك أنه تعالى ذكره أخبرَ عن الأمم التي كذّبت رسلها أنه أخذهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا له, ثم قال: « فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا » , ولم يخبر عما كان منهم من الفعل عند أخذه إياهم بالبأساء والضراء. ومعنى الكلام: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ، فلم يتضرعوا, « فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا » . ومعنى: « فلولا » ، في هذا الموضع، فهلا. والعرب إذ أوْلَتْ « لولا » اسمًا مرفوعًا، جعلت ما بعدها خبرًا، وتلقتها بالأمر, فقالت: « فلولا أخوك لزرتك » و « لولا أبوك لضربتك » , وإذا أوْلتها فعلا أو لم تُولها اسمًا, جعلوها استفهامًا فقالوا: « لولا جئتنا فنكرمك » , و « لولا زرت أخاك فنـزورك » , بمعنى: « هلا » ، كما قال تعالى ذكره: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [ سورة المنافقون: 10 ] . وكذلك تفعل ب « لوما » مثل فعلها ب « لولا » . فتأويل الكلام إذًا: فهلا إذ جاء بأسنا هؤلاء الأمم المكذبة رسلَها، الذين لم يتضرعوا عند أخذِناهم بالبأساء والضراء « تضرعوا » ، فاستكانوا لربهم، وخضعوا لطاعته, فيصرف ربهم عنهم بأسه، وهو عذابه. وقد بينا معنى « البأس » في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. « ولكن قست قلوبهم » ، يقول: ولكن أقاموا على تكذيبهم رسلهم, وأصرُّوا على ذلك، واستكبروا عن أمر ربهم, استهانةً بعقاب الله، واستخفافًا بعذابه، وقساوةَ قلب منهم. « وزين لهم الشيطانُ ما كانوا يعملون » ، يقول: وحسن لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الأعمال التي يكرهها الله ويسخطها منهم. القول في تأويل قوله : فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ( 44 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فلما نسوا ما ذكروا به » ، فلما تركوا العمل بما أمرناهم به على ألسن رسلنا، كالذي:- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « فلما نسوا ما ذكروا به » ، يعني: تركوا ما ذكروا به. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « نسوا ما ذكروا به » ، قال: ما دعاهم الله إليه ورسله, أبوْه وردُّوه عليهم. « فتحنا عليهم أبوابَ كل شيء » ، يقول: بدلنا مكان البأساء الرخاء والسعة في العيش، ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام، استدراجًا منَّا لهم، كالذي:- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، قال: رخاء الدنيا ويُسْرها، على القرون الأولى. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، قال: يعني الرخاء وسعة الرزق . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط . عن السدي قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، يقول: من الرزق. فإن قال لنا قائل: وكيف قيل: « فتحنا عليهم أبوابَ كل شيء » ، وقد علمت أن بابَ الرحمة وباب التوبة [ لم يفتحا لهم ] , لم تفتح لهم أبواب أخر غيرهما كثيرة؟ قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننتَ من معناه, وإنما معنى ذلك: فتحنا عليهم، استدراجًا منا لهم، أبوابَ كل ما كنا سددنا عليهم بابه، عند أخذنا إياهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا, إذ لم يتضرعوا وتركوا أمر الله تعالى ذكره، لأنّ آخر هذا الكلام مردودٌ على أوله. وذلك كما قال تعالى ذكره في موضع آخر من كتابه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، [ سورة الأعراف: 94- 95 ] ، ففتح الله على القوم الذين ذكر في هذه الآية [ أنهم نسوا ما ] ذكرهم، بقوله: « فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، هو تبديله لهم مكانَ السيئة التي كانوا فيها في حال امتحانه إياهم، من ضيق العيش إلى الرخاء والسعة, ومن الضر في الأجسام إلى الصحة والعافية, وهو « فتح أبواب كل شيء » كان أغلق بابه عليهم، مما جرى ذكره قبل قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، فردّ قوله: « فتحنا عليهم أبواب كل شيء » ، عليه. ويعني تعالى بقوله: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا » ، يقول: حتى إذا فرح هؤلاء المكذّبون رسلهم بفتحنا عليهم أبوابَ السَّعة في المعيشة، والصحة في الأجسام، كالذي:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا » ، من الرزق . حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، سمعت عبد الرحمن بن مهدي يحدّث، عن حماد بن زيد قال: كان رجل يقول: رَحم الله رجلا تلا هذه الآية، ثم فكر فيها ماذا أريد بها: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة » . حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا ابن أبي رجاء رجل من أهل الشعر, عن عبد الله بن المبارك, عن محمد بن النضر الحارثي في قوله : « أخذناهم بغتة » ، قال: أُمهلوا عشرين سنة. ويعني تعالى ذكره بقوله: « أخذناهم بغتة » ، أتيناهم بالعذاب فجأة، وهم غارُّون لا يشعرون أن ذلك كائن، ولا هو بهم حالٌّ، كما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج , عن ابن جريج: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة » ، قال: أعجبَ ما كانت إليهم، وأغَرَّها لهم. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي « أخذناهم بغتة » ، يقول: أخذهم العذابُ بغتةً . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أخذناهم بغتة » ، قال: فجأة آمنين. وأما قوله: « فإذا هم مبلسون » ، فإنهم هالكون, منقطعة حججهم, نادمون على ما سلف منهم من تكذيبهم رسلَهم، كالذي:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط, عن السدي: « فإذا هم مبلسون » ، قال: فإذا هم مهلكون، متغيِّر حالهم. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ, عن مجاهد: « فإذا هم مبلسون » ، قال: الاكتئاب. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « فإذا هم مبلسون » ، قال: « المبلس » الذي قد نـزل به الشرّ الذي لا يدفعه. والمبلس أشد من المستكين, وقرأ: فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ، [ سورة المؤمنون: 76 ] . وكان أول مرة فيه معاتبة وبقيّة. وقرأ قول الله: « أخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون » فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ، حتى بلغ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، ثم جاء أمرٌ ليس فيه بقية. وقرأ: « حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون » ، فجاء أمر ليس فيه بقية. وكان الأوّل، لو أنهم تضرعوا كُشف عنهم . حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد, عن أبي شريح ضبارة بن مالك, عن أبي الصلت, عن حرملة أبي عبد الرحمن, عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيت الله يعطي عبدَه في دنياه, إنما هو استدراج. ثم تلا هذه الآية: « فلما نسوا ما ذكِّروا به » إلى قوله: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وحدثت بهذا الحديث عن محمد بن حرب, عن ابن لهيعة, عن عقبة بن مسلم, عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإذا رأيت الله تعالى ذكره يعطي العبادَ ما يسألون على معاصيهم إياه, فإنما ذلك استدراج منه لهم! ثم تلا « فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء » الآية. وأصل « الإبلاس » في كلام العرب، عند بعضهم: الحزن على الشيء والندم عليه وعند بعضهم: انقطاع الحجة، والسكوت عند انقطاع الحجة وعند بعضهم: الخشوع وقالوا: هو المخذول المتروك, ومنه قول العجاج: يَـا صَـاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا ? قَــالَ: نَعَــمْ! أَعْرِفُــه! وَأَبْلَسَـا فتأويل قوله: « وأبلسا » ، عند الذين زعموا أن « الإبلاس » ، انقطاع الحجة والسكوت عنده, بمعنى: أنه لم يُحِرْ جوابًا. وتأوَّله الآخرون بمعنى الخشوع, وترك أهله إياه مقيمًا بمكانه. والآخرون بمعنى الحزن والندم. يقال منه: « أبلس الرجل إبلاسًا » , ومنه قيل: لإبليس « إبليس » . القول في تأويل قوله : فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 45 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » ، فاستؤصل القوم الذين عَتَوا على ربهم، وكذّبوا رسله، وخالفوا أمره، عن آخرهم, فلم يترك منهم أحد إلا أهلك بغتةً إذ جاءهم عذاب الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » ، يقول: قُطع أصل الذين ظلموا. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فقطع دابر القوم الذين ظلموا » ، قال: استؤصلوا. و « دابر القوم » ، الذي يدبرُهم, وهو الذي يكون في أدبارهم وآخرهم. يقال في الكلام: « قد دَبَر القومَ فلانٌ يدبُرُهم دَبْرًا ودبورًا » ، إذا كان آخرهم, ومنه قول أمية: فَــاُهْلِكُوا بِعَــذَابٍ حَـصَّ دَابِـرَهُمْ فَمَـا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلا انْتَصَرُوا « والحمد لله رب العالمين » ، يقول: والثناء الكامل والشكر التام « لله رب العالمين » ، على إنعامه على رسله وأهل طاعته, بإظهار حججهم على من خالفهم من أهل الكفر, وتحقيق عِدَاتِهم ما وَعدوهم على كفرهم بالله وتكذيبهم رسله من نقم الله وعاجل عذابه. القول في تأويل قوله : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ( 46 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بي الأوثانَ والأصنامَ، المكذبين بك: أرأيتم، أيها المشركون بالله غيرَه، إن أصمَّكم الله فذهب بأسماعكم، وأعماكم فذهب بأبصاركم, وختم على قلوبكم فطبع عليها، حتى لا تفقهوا قولا ولا تبصروا حجة، ولا تفهموا مفهومًا, أيّ إله غير الله الذي له عبادة كل عابد « يأتيكم به » ، يقول: يرد عليكم ما ذهب الله به منكم من الأسماع والأبصار والأفهام، فتعبدوه أو تشركوه في عبادة ربكم الذي يقدر على ذهابه بذلك منكم، وعلى ردّه عليكم إذا شاء ؟ وهذا من الله تعالى ذكره، تعليم نبيَّه الحجة على المشركين به, يقول له: قل لهم: إن الذين تعبدونهم من دون الله لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا, وإنما يستحق العبادةَ عليكم من كان بيده الضر والنفع، والقبض والبسط, القادرُ على كل ما أراد، لا العاجز الذي لا يقدر على شيء. ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « انظر كيف نصرف الآيات » ، يقول : انظر كيف نتابع عليهم الحجج، ونضرب لهم الأمثال والعبر، ليعتبروا ويذكروا فينيبوا، « ثم هم يصدفون » ، يقول: ثم هم مع متابعتنا عليهم الحجج، وتنبيهنا إياهم بالعبر، عن الادّكار والاعتبار يُعْرضون. يقال منه: « صدف فلانٌ عني بوجهه، فهو يصدِفُ صُدوفًا وصَدفًا » ، أي: عدل وأعرض, ومنه قول ابن الرقاع: إِذَا ذَكَــرْنَ حَدِيثًــا قُلْـنَ أَحْسَـنَهُ, وَهُـنَّ عَـنْ كُـلِّ سُـوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ وقال لبيد: يُـرْوِي قَـوامِحَ قَبْـلَ اللَّيْـلِ صَادِفَـةً أَشْــبَاهَ جِـنّ, عَلَيْهَـا الـرَّيْطُ وَالأزُرُ فإن قال قائل: وكيف قيل: « من إله غير الله يأتيكم به » ، فوحّد « الهاء » , وقد مضى الذكر قبلُ بالجمع فقال: « أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم » ؟ قيل: جائز أن تكون « الهاء » عائدة على « السمع » , فتكون موحّدة لتوحيد « السمع » وجائز أن تكون معنيًّا بها: من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار والأفئدة, فتكون موحده لتوحيد « ما » . والعرب تفعل ذلك، إذا كنتْ عن الأفعال وحّدت الكناية، وإن كثر ما يكنى بها عنه من الأفاعيل, كقولهم: « إقبالك وإدبارك يعجبني » . وقد قيل: إن « الهاء » التي في « به » كناية عن « الهدى » . وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: « يصدفون » ، قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « يصدفون » ، قال: يعرضون. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد , مثله . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « يصدفون » ، قال: يعدلون. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « نصرف الآيات ثم هم يصدفون » ، قال: يعرضون عنها. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم هم يصدفون » ، قال: يصدُّون . القول في تأويل قوله : قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ ( 47 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ، المكذبين بأنك لي رسول إليهم: أخبروني « إن أتاكم عذاب الله » ، وعقابه على ما تشركون به من الأوثان والأنداد, وتكذيبكم إيايَ بعد الذي قد عاينتم من البرهان على حقيقة قولي « بغتة » ، يقول: فجأة على غرة لا تشعرون « أو جهرة » ، يقول: أو أتاكم عذاب الله وأنتم تعاينونه وتنظرون إليه « هل يهلك إلا القوم الظالمون » ، يقول: هل يهلك الله منا ومنكم إلا من كان يعبد غير من يستحق علينا العبادة، وترك عبادة من يستحق علينا العبادة ؟ وقد بينا معنى « الجهرة » في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته، وأنها من « الإجهار » , وهو إظهار الشيء للعين، كما:- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « جهرة » ، قال: وهم ينظرون . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة » ، فجأة آمنين « أو جهرة » ، وهم ينظرون . القول في تأويل قوله : وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 48 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما نرسل رسلنا إلا ببشارة أهل الطاعة لنا بالجنة والفوز المبين يوم القيامة, جزاءً منَّا لهم على طاعتنا وبإنذار من عصَانا وخالف أمرنا, عقوبتنا إياه على معصيتنا يوم القيامة, جزاءً منا على معصيتنا, لنعذر إليه فيهلك إن هلك عن بينة « فمن آمن وأصلح » ، يقول: فمن صدَّق من أرسلنا إليه من رسلنا إنذارهم إياه, وقبل منهم ما جاؤوه به من عند الله، وعمل صالحًا في الدنيا « فلا خوف عليهم » ، عند قدومهم على ربهم، من عقابه وعذابه الذي أعدَّه الله لأعدائه وأهل معاصيه « ولا هم يحزنون » ، عند ذلك على ما خلَّفوا وراءَهم في الدنيا. القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ( 49 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما الذين كذَّبوا بمن أرسلنا إليه من رسلنا، وخالفوا أمرنا ونهينا، ودافعوا حجتنا, فإنهم يباشرهم عذابُنا وعقابنا، على تكذيبهم ما كذبوا به من حججنا « بما كانوا يفسقون » ، يقول: بما كانوا يكذّبون. وكان ابن زيد يقول: كل « فسق » في القرآن, فمعناه الكذب. حدثني بذلك يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عنه. القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ ( 50 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل لهؤلاء المنكرين نبوّتك: لستُ أقول لكم إنّي الرب الذي له خزائنُ السماوات والأرض، وأعلم غيوب الأشياء الخفية التي لا يعلمها إلا الرب الذي لا يخفى عليه شيء, فتكذبوني فيما أقول من ذلك، لأنه لا ينبغي أن يكون ربًّا إلا من له ملك كل شيء، وبيده كل شيء، ومن لا يخفى عليه خافية, وذلك هو الله الذي لا إله غيره « ولا أقول لكم إني ملك » ، لأنه لا ينبغي لملك أن يكون ظاهرًا بصورته لأبصار البشر في الدنيا, فتجحدوا ما أقول لكم من ذلك « إن أتبع إلا ما يوحى إليّ » ، يقول: قل لهم: ما أتبع فيما أقول لكم وأدعوكم إليه، إلا وحي الله الذي يوحيه إليّ، وتنـزيله الذي ينـزله عليّ, فأمضي لوحيه وأئتمر لأمره, وقد أتيتكم بالحجج القاطعة من الله عذركم على صحة قولي في ذلك, وليس الذي أقول من ذلك بمنكر في عقولكم ولا مستحيل كونه، بل ذلك مع وجود البرهان على حقيقته هو الحكمة البالغة, فما وجه إنكاركم ذلك؟ وذلك تنبيه من الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم على موضع حُجته على منكري نبوّته من مشركي قومه. « قل هل يستوي الأعمى والبصير » ، يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهم: هل يستوي الأعمى عن الحق، والبصير به « والأعمى » ، هو الكافر الذي قد عَمى عن حجج الله فلا يتبيَّنها فيتبعها « والبصير » ، المؤمن الذي قد أبصرَ آيات الله وحججه، فاقتدى بها واستضاء بضيائها « أفلا تتفكرون » ، يقول لهؤلاء الذين كذبوا بآيات الله: أفلا تتفكرون فيما أحتجّ عليكم به، أيها القوم، من هذه الحجج, فتعلموا صحة ما أقول وأدعوكم إليه، من فساد ما أنتم عليه مقيمون من إشراك الأوثان والأنداد بالله ربّكم، وتكذيبكم إياي مع ظهور حجج صدقي لأعينكم, فتدعوا ما أنتم عليه من الكفر مقيمون، إلى ما أدعوكم إليه من الإيمان الذي به تفوزون؟ وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره : « قل هل يستوي الأعمى والبصير » ، قال: الضال والمهتدي. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: « قل هل يستوي الأعمى والبصير » ، الآية، قال: « الأعمى » ، الكافر الذي قد عمي عن حق الله وأمره ونعمه عليه و « البصير » ، العبد المؤمن الذي أبصر بصرًا نافعًا, فوحّد الله وحده, وعمل بطاعة ربه, وانتفع بما آتاه الله. القول في تأويل قوله : وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 51 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر، يا محمد، بالقرآن الذي أنـزلناه إليك، القومَ الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، علمًا منهم بأن ذلك كائن، فهم مصدقون بوعد الله ووعيده, عاملون بما يرضي الله, دائبون في السعي، فيما ينقذهم في معادهم من عذاب الله « ليس لهم من دونه وليّ » ، أي ليس لهم من عذاب الله إن عذبهم ، « وليّ » ، ينصرهم فيستنقذهم منه، « ولا شفيع » ، يشفع لهم عند الله تعالى ذكره فيخلصهم من عقابه « لعلهم يتقون » ، يقول: أنذرهم كي يتقوا الله في أنفسهم, فيطيعوا ربهم، ويعملوا لمعادهم, ويحذروا سَخطه باجتناب معاصيه. وقيل: « وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا » ، ومعناه: يعلمون أنهم يحشرون, فوضعت « المخافة » موضع « العلم » ، لأنّ خوفهم كان من أجل علمهم بوقوع ذلك ووجوده من غير شك منهم في ذلك. وهذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتعليم أصحابه ما أنـزل الله إليه من وحيه، وتذكيرهم، والإقبال عليهم بالإنذار وصدَّ عنه المشركون به، بعد الإعذار إليهم، وبعد إقامة الحجة عليهم, حتى يكون الله هو الحاكم في أمرهم بما يشاء من الحكم فيهم. القول في تأويل قوله : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( 52 ) قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نـزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في سبب جماعة من ضعفاء المسلمين، قال المشركون له: لو طردت هؤلاء عنك لغشيناك وحضرنا مجلسك! * ذكر الرواية بذلك: حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو زبيد, عن أشعث, عن كردوس الثعلبي, عن ابن مسعود قال: مرّ الملأ من قريش بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنده صهيب وعمار وبلال وخبّاب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك؟ هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعًا لهؤلاء؟ اطردهم عنك! فلعلك إن طردتهم أن نتّبعك! فنـزلت هذه الآية : « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ، إلى آخر الآية. .........حدثنا جرير, عن أشعث, عن كردوس الثعلبي, عن عبد الله قال: مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم ذكر نحوه . حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث, عن أشعث, عن كردوس, عن ابن عباس قال: مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملأ من قريش, ثم ذكر نحوه. حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن أبي سعد الأزدي وكان قارئ الأزد ، عن أبي الكنود, عن خبّاب, في قول الله تعالى ذكره: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » إلى قوله: « فتكون من الظالمين » ، قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاريّ, فوجدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قاعدًا مع بلال وصهيب وعمار وخباب, في أناس من الضعفاء من المؤمنين. فلما رأوهم حوله حَقَروهم , فأتوه فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسًا تعرف لنا العرب به فضلَنا, فإنّ وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعبُد, فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا, فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت! قال: نعم! قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتابًا. قال: فدعا بالصحيفة, ودعا عليًّا ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية, إذ نـزل جبريل بهذه الآية: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين » , ثم قال: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ , ثم قال: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفةَ من يده, ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ! فكنا نقعد معه, فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا, فأنـزل الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، [ سورة الكهف: 28 ] . قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد, فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه حتى يقوم. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, عن أبي سعيد الأزدي, عن أبي الكنود, عن خباب بن الأرت بنحو حديث الحسين بن عمرو، إلا أنه قال في حديثه: فلما رأوهم حوله نفّروهم, فأتوه فخلَوا به. وقال أيضًا: « فتكون من الظالمين » , ثم ذكر الأقرع وصاحبه فقال: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية. وقال أيضًا: فدعانا فأتيناه وهو يقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، فدنونا منه يومئذ حتى وَضعنا ركبنا على ركبتيه وسائر الحديث نحوه. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة وحدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة والكلبي: أنّ ناسًا من كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سرَّك أن نتبعك، فاطرد عنا فلانًا وفلانًا، ناسًا من ضعفاء المسلمين! فقال الله تعالى ذكره: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ » إلى قوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية، قال: وقد قال قائلون من الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن سرك أن نتبعك فاطرد عنا فلانًا وفلانًا لأناس كانوا دونهم في الدنيا، ازدراهم المشركون، فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية إلى آخرها. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح , عن مجاهد: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، بلال وابن أم عبد، كانا يجالسان محمدًا صلى الله عليه وسلم, فقالت قريش محقِّرتهما: لولاهما وأمثالهما لجالسناه! فنُهي عن طردهم, حتى قوله : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ، قال: « قل سلام عليكم » ، فيما بين ذلك، في هذا. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان, عن المقدام بن شريح, عن أبيه قال، قال سعد: نـزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, منهم ابن مسعود، قال: كنا نسبق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وندنو منه ونسمع منه, فقالت قريش: يدني هؤلاء دوننا! فنـزلت: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة في قوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ الآية، قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عديّ، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من بني عبد مناف من الكفار، إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وحلفاءَنا, فإنما هم عبيدنا وعُسَفاؤنا, كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتّباعنا إياه، وتصديقنا له! قال: فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به, فقال عمر بن الخطاب: لو فعلتَ ذلك، حتى تنظر ما الذي يريدون، وإلام يصيرون من قولهم؟ فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ إلى قوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ، قال: وكانوا: بلال، وعمارُ بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصبيح مولى أسيد ومن الحلفاء: ابن مسعود, والمقداد بن عمرو, ومسعود بن القاريّ, وواقد بن عبد الله الحنظلي, وعمرو بن عبد عمرو ذو الشمالين, ومرثد بن أبي مرثد وأبو مرثد، من غنيّ، حليفُ حمزة بن عبد المطلب وأشباههم من الحلفاء. ونـزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا الآية. فلما نـزلت، أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر من مَقالته, فأنـزل الله تعالى ذكره: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، الآية. حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أستحيي من الله أن يرَاني مع سلمان وبلال وذَوِيهم, فاطردهم عنك، وجالس فلانًا وفلانًا! قال فنـزل القرآن: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه » فقرأ، حتى بلغ: « فتكون من الظالمين » ، ما بينك وبين أن تكون من الظالمين إلا أن تطردهم . ثم قال: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ . ثم قال: وهؤلاء الذين أمروك أن تطردهم، فأبلغهم منّي السلام، وبشرهم وأخبرهم أني قد غفرت لهم! وقرأ: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ، فقرأ حتى بلغ: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ، قال: لتعرفها. واختلف أهل التأويل في الدعاء الذي كان هؤلاء الرَّهط، الذين نهى الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن طردهم، يدعون ربّهم به. فقال بعضهم: هي الصلوات الخمس. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ » ، يعني: يعبدون ربّهم « بالغداة والعشيّ » , يعني: الصلوات المكتوبة . حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أبي حمزة, عن إبراهيم في قوله: « يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه » ، قال: هي الصلوات الخمس الفرائض. ولو كان ما يقول القُصَّاص، هلك من لم يجلس إليهم. حدثنا هناد بن السري وابن وكيع قالا حدثنا ابن فضيل, عن الأعمش, عن إبراهيم: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه » ، قال: هي الصلاة . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، الصلاة المفروضة، الصبح والعصر. حدثني محمد بن موسى بن عبد الرحمن الكندي قال، حدثنا حسين الجعفي قال، أخبرني حمزة بن المغيرة, عن حمزة بن عيسى قال: دخلت على الحسن فسألته فقلت: يا أبا سعيد, أرأيت قول الله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] ، أهم هؤلاء القُصّاص؟ قال: لا ولكنهم المحافظون على الصلوات في الجماعة. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, وحدثني الحارث قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا ورقاء جميعًا, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: الصلاة المكتوبة . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: يعبدون ربّهم « بالغداة والعشي » ، يعني الصلاة المفروضة . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] ، هما الصلاتان: صلاة الصبح وصلاة العصر . حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب قال، حدثنا محمد بن عجلان , عن نافع, عن عبد الله بن عمر في هذه الآية: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ الآية, أنهم الذين يشهدون الصلوات المكتوبة. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد وإبراهيم: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ، قالا الصلوات الخمس. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد, مثله . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: المصلين المؤمنين، بلال وابن أم عبد قال ابن جريج، وأخبرني عبد الله بن كثير, عن مجاهد قال: صليت الصبح مع سعيد بن المسيب, فلما سلّم الإمام ابتدر الناس القاصَّ, فقال سعيد: ما أسرعَ بهم إلى هذا المجلس! قال مجاهد: فقلت يتأولون ما قال الله تعالى ذكره. قال: وما قال؟ قلت: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: وفي هذا ذَا ؟ إنما ذاك في الصلاة التي انصرفنا عنها الآن, إنما ذاك في الصلاة. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع, عن أبيه, عن منصور, عن عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: الصلاة المكتوبة. حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن عامر قال: هي الصلاة . حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع, عن أبيه, عن إسرائيل, عن عامر قال: هي الصلاة . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه » ، يقول: صلاة الصبح وصلاة العصر. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد قال: صلى عبد الرحمن بن أبي عمرة في مسجد الرسول, فلما صلى قامَ فاستند إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم, فانثال الناس عليه, فقال: يا أيها الناس، إليكم! فقيل: يرحمك الله, إنما جاؤوا يريدون هذه الآية : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] . فقال: وهذا عُنِي بهذا! إنما هو في الصلاة. وقال آخرون: هي الصلاة، ولكن القوم لم يسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم طردَ هؤلاء الضعفاء عن مجلسه، ولا تأخيرهم عن مجلسه, وإنما سألوه تأخيرهم عن الصفّ الأول، حتى يكونوا وراءهم في الصفّ . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد, حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية, فهم أناس كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفقراء, فقال أناس من أشراف الناس: نؤمن لك, وإذا صلينا فأخِّر هؤلاء الذين معك فليصلُّوا خلفنا! وقال آخرون: بل معنى « دعائهم » كان، ذكرُهم الله تعالى ذكره . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم قوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: أهل الذكر. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن منصور: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: هم أهل الذكر. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن منصور, عن إبراهيم: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: لا تطردهم عن الذكر. وقال آخرون: بل كان ذلك، تعلمهم القرآن وقراءته. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر قوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [ سورة الكهف: 28 ] ، قال: كان يقرئهم القرآن، من الذي يَقُصُّ على النبي صلى الله عليه وسلم؟! وقال آخرون: بل عنى بدعائهم ربّهم، عبادتهم إياه. ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « يدعون ربهم بالغداة والعشي » ، قال: يعني: يعبدون, ألا ترى أنه قال: لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [ سورة غافر: 43 ] ، يعني: تعبدون. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يطرُد قومًا كانوا يدعون ربّهم بالغداة والعشي، و « الدعاء لله » ، يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولا وكلامًا وقد يكون بالعمل له بالجوارح الأعمالَ التي كان عليهم فرضُها، وغيرُها من النوافل التي ترضي عن العامل له عابدَه بما هو عامل له. وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها, فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشي, لأن الله قد سمى « العبادة » ، « دعاء » , فقال تعالى ذكره: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ، [ سورة غافر: 60 ] . وقد يجوز أن يكون ذلك على خاصّ من الدعاء. ولا قول أولى بذلك بالصحة، من وصف القوم بما وصفهم الله به: من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي، فيعمُّون بالصفة التي وصفهم بها ربهم، ولا يخصُّون منها بشيء دون شيء. فتأويل الكلام إذًا: يا محمد، أنذر القرآن الذي أنـزلته إليك, الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير, في العمل له دائبون إذ أعرض عن إنذارك واستماع ما أنـزل الله عليك المكذبون بالله واليوم الآخر من قومك، استكبارًا على الله ولا تطردهم ولا تُقْصِهم, فتكون ممن وضع الإقصاء في غير موضعه، فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه, وقرّب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدناؤه، فإن الذين نهيتُك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألونه عفوه ومغفرته بصالح أعمالهم، وأداء ما ألزمهم من فرائضه، ونوافل تطوّعهم، وذكرهم إياه بألسنتهم بالغداة والعشي, يلتمسون بذلك القربة إلى الله، والدنوّ من رضاه « ما عليك من حسابهم من شيء » ، يقول: ما عليك من حساب ما رزقتهم من الرزق من شيء وما عليهم من حساب ما رزقتك من الرزق من شيء « فتطردهم » ، حذارَ محاسبتي إياك بما خوّلتهم في الدنيا من الرزق. وقوله: « فتطردهم » ، جواب لقوله: « ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء » . وقوله: « فتكون من الظالمين » جواب لقوله: « ولا تطرد الذين يدعون ربهم » . القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( 53 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، وكذلك اختبرنا وابتلينا، كالذي:- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر وحدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، يقول: ابتلينا بعضهم ببعض. وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى « الفتنة » , وأنها الاختبار والابتلاء, بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإنما فتنة الله تعالى ذكره بعضَ خلقه ببعضٍ, مخالفتُه بينهم فيما قسم لهم من الأرزاق والأخلاق, فجعل بعضًا غنيًّا وبعضًا فقيرًا، وبعضًا قويًّا، وبعضًا ضعيفًا, فأحوج بعضهم إلى بعض, اختبارًا منه لهم بذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وكذلك فتنا بعضهم ببعض » ، يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء, فقال الأغنياء للفقراء: « أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا » ، يعني: هداهم الله. وإنما قالوا ذلك استهزاءً وسُخريًّا. وأما قوله: « ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا » ، يقول تعالى: اختبرنا الناس بالغنى والفقر، والعزّ والذل، والقوة والضعف، والهدى والضلال, كي يقول من أضلّه الله وأعماه عن سبيل الحق، للذين هداهم الله ووفقهم: « أهؤلاء منّ الله عليهم » ، بالهدى والرشد، وهم فقراء ضعفاء أذلاء « من بيننا » ، ونحن أغنياء أقوياء؟ استهزاءً بهم, ومعاداةً للإسلام وأهله. يقول تعالى ذكره: « أليس الله بأعلم بالشاكرين » ، وهذا منه تعالى ذكره إجابة لهؤلاء المشركين الذين أنكروا أن يكون الله هدى أهل المسكنة والضعف للحق, وخذلهم عنه وهم أغنياء وتقريرٌ لهم: أنا أعلم بمن كان من خلقي شاكرًا نعمتي، ممن هو لها كافر. فمنِّي على من مَنَنْتُ عليه منهم بالهداية، جزاء شكره إياي على نعمتي, وتخذيلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد، عقوبة كفرانه إياي نعمتي، لا لغنى الغني منهم ولا لفقر الفقير، لأن الثواب والعقاب لا يستحقه أحدٌ إلا جزاءً على عمله الذي اكتسبه، لا على غناه وفقره, لأن الغنى والفقر والعجز والقوة ليس من أفعال خلقي. القول في تأويل قوله : وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 54 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله تعالى ذكره بهذه الآية. فقال بعضهم: عنى بها الذين نهى الله نبيَّه عن طردهم. وقد مضت الرواية بذلك عن قائليه. وقال آخرون: عنَى بها قومًا استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذنوب أصابوها عظامٍ, فلم يؤيسهم الله من التوبة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان, عن مجمع قال، سمعت ماهان قال: جاء قوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أصابوا ذنوبًا عظامًا. قال ماهان: فما إخاله ردّ عليهم شيئًا. قال: فأنـزل الله تعالى ذكره هذه الآية: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم » الآية. حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن مجمع, عن ماهان: أنّ قومًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، إنا أصبنا ذنوبًا عظامًا! فما إخاله ردّ عليهم شيئًا, فانصرفوا فأنـزل الله تعالى ذكره: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة » . قال: فدعاهم فقرأها عليهم. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان, عن مجمّع التميمي قال، سمعت ماهان يقول: فذكر نحوه. وقال آخرون: بل عُني بها قومٌ من المؤمنين كانوا أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين نهاه الله عن طردهم , فكان ذلك منهم خطيئة, فغفرها الله لهم وعفا عنهم, وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم إذا أتوه أن يبشرهم بأن قد غفر لهم خطيئتهم التي سلفت منهم بمشورتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بطرد القوم الذين أشاروا عليه بطردهم. وذلك قول عكرمة وعبد الرحمن بن زيد, وقد ذكرنا الرواية عنهما بذلك قبل. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بتأويل الآية, قولُ من قال: المعنيُّون بقوله: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم » ، غيرُ الذين نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم عن طردهم. لأن قوله: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا » ، خبر مستأنَفٌ بعد تقضِّي الخبر عن الذين نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن طردهم. ولو كانوا هم، لقيل: « وإذا جاؤوك فقل سلام عليكم » . وفي ابتداء الله الخبرَ عن قصة هؤلاء، وتركه وصلَ الكلام بالخبر عن الأولين، ما ينبئ عن أنهم غيرُهم. فتأويل الكلام إذًا إذ كان الأمر على ما وصفنا وإذا جاءك، يا محمد، القومُ الذين يصدِّقون بتنـزيلنا وأدلتنا وحججنا، فيقرّون بذلك قولا وعملا مسترشديك عن ذنوبهم التي سلفت منهم بيني وبينهم, هل لهم منها توبة، فلا تؤيسهم منها, وقل لهم: « سلام عليكم » ، أَمَنَةُ الله لكم من ذنوبكم، أن يعاقبكم عليها بعد توبتكم منها « كتب ربكم على نفسه الرحمة » ، يقول: قضى ربكم الرحمة بخلقه « أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة ثم تابَ من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم » . واختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأته عامة قرأة المدنيين: ( أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا ) ، فيجعلون « أنّ » منصوبةً على الترجمة بها عن « الرحمة » ( ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، على ائتناف « إنه » بعد « الفاء » فيكسرونها، ويجعلونها أداة لا موضع لها, بمعنى: فهو له غفور رحيم أو: فله المغفرة والرحمة. وقرأهما بعض الكوفيين بفتح « الألف » منهما جميعًا, بمعنى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ثم ترجم بقوله: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ، عن الرحمة، ( فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، فيعطف ب « أنه » الثانية على « أنه » الأولى, ويجعلهما اسمين منصوبين على ما بينت. وقرأ ذلك بعض المكيين وعامة قرأة أهل العراق من الكوفة والبصرة: بكسر « الألف » من « إنه » و « إنه » على الابتداء, وعلى أنهما أداتان لا موضع لهما. قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب, قراءة من قرأهما بالكسر: ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ إِنَّهُ ) ، على ابتداء الكلام, وأن الخبر قد انتهى عند قوله: « كتب ربكم على نفسه الرحمة » ، ثم استؤنف الخبر عما هو فاعلٌ تعالى ذكره بمن عمل سوءًا بجهالة ثم تاب وأصلح منه. ومعنى قوله: « أنه من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، أنه من اقترف منكم ذنبًا, فجهل باقترافه إياه ثم تاب وأصلح « فأنه غفورٌ » ، لذنبه إذا تاب وأناب، وراجع العمل بطاعة الله، وترك العود إلى مثله، مع الندم على ما فرط منه « رحيم » ، بالتائب أن يعاقبه على ذنبه بعد توبته منه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن عثمان, عن مجاهد: « من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، قال: من جهل: أنه لا يعلم حلالا من حرام, ومن جهالته ركب الأمر. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن جويبر, عن الضحاك, مثله . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: « يعملون السوء بجهالة » ، قال: من عمل بمعصية الله, فذاك منه جهل حتى يرجع . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا بكر بن خنيس, عن ليث, عن مجاهد في قوله: « من عمل منكم سوءًا بجهالة » ، قال: كل من عمل بخطيئة فهو بها جاهل. حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا خالد بن دينار أبو خلدة قال: كنا إذا دخلنا على أبي العالية قال: « وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة » . القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( 55 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك نفصل الآيات » ، وكما فصلنا لك في هذه السورة من ابتدائها وفاتحتها، يا محمد، إلى هذا الموضع، حجتَنا على المشركين من عبدة الأوثان، وأدلتَنا, وميَّزناها لك وبيَّناها, كذلك نفصِّل لك أعلامنا وأدلتنا في كل حقّ ينكره أهل الباطل من سائر أهل الملل غيرهم, فنبينها لك، حتى تبين حقه من باطله، وصحيحهُ من سقيمه. واختلفت القرأة في قراءة قوله: « ولتستبين سبيل المجرمين » . فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة: ( وَلِتَسْتَبِينَ ) بالتاء ( سَبِيلَ الْمُجِرمِينَ ) بنصب « السبيل » , على أن « تستبين » ، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، كأن معناه عندهم: ولتستبين، أنت يا محمد، سبيل المجرمين. وكان ابن زيد يتأول ذلك: ولتستبين، أنت يا محمد، سبيلَ المجرمين الذين سألوك طردَ النفر الذين سألوه طردهم عنه من أصحابه . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن ريد : « ولتستبين سبيلَ المجرمين » ، قال: الذين يأمرونك بطرد هؤلاء . وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصرين: ( وَلِتَسْتَبِينَ ) بالتاء ( سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ ) برفع « السبيل » ، على أن القصد للسبيل, ولكنه يؤنثها وكأن معنى الكلام عندهم: وكذلك نفصل الآيات، ولتتضح لك وللمؤمنين طريقُ المجرمين. وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: ( وَلِيَسْتَبِينَ ) بالياء ( سَبِيلُ الْمُجِرمِينَ ) برفع « السبيل » على أن الفعل للسبيل، ولكنهم يذكرونه ومعنى هؤلاء في هذا الكلام, ومعنى من قرأ ذلك بالتاء في: « ولتستبين » ورفع « السبيل » ، واحدٌ, وإنما الاختلاف بينهم في تذكير « السبيل » وتأنيثها. قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب عندي في « السبيل » الرفع, لأن الله تعالى ذكره فصَّل آياته في كتابه وتنـزيله, ليتبين الحقَّ بها من الباطل جميعُ من خوطب بها, لا بعضٌ دون بعض. ومن قرأ « السبيل » بالنصب, فإنما جعل تبيين ذلك محصورًا على النبي صلى الله عليه وسلم. وأما القراءة في قوله: « ولتستبين » ، فسواء قرئت بالتاء أو بالياء, لأن من العرب من يذكر « السبيل » وهم تميم وأهل نجد ومنهم من يؤنث « السبيل » وهم أهل الحجاز. وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، ولغتان مشهورتان من لغات العرب, وليس في قراءة ذلك بإحداهما خلافٌ لقراءته بالأخرى، ولا وجه لاختيار إحداهما على الأخرى بعد أن يرفع « السبيل » للعلة التي ذكرنا. وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: « نفصل الآيات » قال أهل التأويل. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « وكذلك نفصل الآيات » ، نبين الآيات . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في : « نفصل الآيات » ، نبين. القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( 56 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين بربّهم من قومِك, العادلين به الأوثان والأنداد, الذين يدعونك إلى موافقتهم على دينهم وعبادة الأوثان: إنّ الله نهاني أن أعبد الذين تدعون من دونه, فلن أتبعكم على ما تدعونني إليه من ذلك، ولا أوافقكم عليه, ولا أعطيكم محبّتكم وهواكم فيه. وإن فعلت ذلك، فقد تركت محجَّة الحق، وسلكت على غير الهدى, فصرت ضالا مثلكم على غير استقامة. وللعرب في « ضللت » لغتان: فتح « اللام » وكسرها, واللغة الفصيحة المشهورة هي فتحها, وبها قرأ عامة قرأة الأمصار, وبها نقرأ لشهرتها في العرب. وأما الكسر فليس بالغالب في كلامها، والقراأة بها قليلون. فمن قال « ضَلَلتُ » قال: « أَضِلُّ » , ومن قال « ضَلِلتُ » قال في المستقبل « أَضَلُّ » . وكذلك القراءة عندنا في سائر القرآن: وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا بفتح اللام [ سورة السجدة: 10 ] . القول في تأويل قوله : قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ( 57 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم, الداعين لك إلى الإشراك بربك « إني على بيّنة من ربي » ، أي إني على بيان قد تبينته، وبرهان قد وضح لي « من ربي » ، يقول: من توحيدي, وما أنا عليه من إخلاص عُبُودته من غير إشراك شيء به. وكذلك تقول العرب: « فلان على بينة من هذا الأمر » ، إذا كان على بيان منه, ومن ذلك قول الشاعر: أَبَيِّنَــةً تَبْغُــونَ بَعْــدَ اعْتِرَافِــهِ وقَــوْلِ سُـوَيْدٍ قَـدْ كَفَيْتُكُـمُ بِشْـرَا « وكذبتم به » يقول: وكذبتم أنتم بربكم و « الهاء » في قوله « به » من ذكر الرب جلّ وعز « ما عندي ما تستعجلون به » ، يقول: ما الذي تستعجلون من نقم الله وعذابه بيدي, ولا أنا على ذلك بقادر. وذلك أنهم قالوا حين بعث الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بتوحيده, فدعاهم إلى الله، وأخبرهم أنه رسوله إليهم: هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [ سورة الأنبياء: 3 ] . وقالوا للقرآن: هو أضغاث أحلام . وقال بعضهم: بل هو اختلاق اختلقه. وقال آخرون: بل محمد شاعر, فليأتنا بآية كما أرسل الأولون فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: أجبهم بأن الآيات بيد الله لا بيدك, وإنما أنت رسول, وليس عليك إلا البلاغ لما أرسلت به, وأنّ الله يقضي الحق فيهم وفيك، ويفصل به بينك وبينهم، فيتبين المحقُّ منكم والمبطل « وهو خير الفاصلين » ، أي: وهو خير من بيّن وميّز بين المحق والمبطل وأعدلهم, لأنه لا يقع في حكمه وقضائه حَيْف إلى أحد لوسيلة له إليه ولا لقرابة ولا مناسبة, ولا في قضائه جور، لأنه لا يأخذ الرشوة في الأحكام فيجور, فهو أعدل الحكام وخيرُ الفاصلين. وقد ذكر لنا في قراءة عبد الله: ( وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ ) . حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير: أنه قال: في قراءة عبد الله: ( يَقْضِي الْحَقَّ وَهُو أَسْرَعُ الْفَاصِلِينَ ) . واختلفت القرأة في قراءة قوله: « يقصُّ الحق » . فقرأه عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة أهل الكوفة والبصرة: « إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقُصُّ الْحَقَّ » ، بالصاد، بمعنى « القصص » ، وتأوّلوا في ذلك قول الله تعالى ذكره: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [ سورة يوسف: 3 ] . وذكر ذلك عن ابن عباس. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عطاء, عن ابن عباس قال، « يقص الحق » , وقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ . وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة والبصرة: ( إنِ الْحُكْمُ إلا لِلهِ يَقْضِي الْحَقَّ ) بالضاد، من « القضاء » ، بمعنى الحكم والفصل بالقَضَاء، واعتبروا صحة ذلك بقوله: « وهو خير الفاصلين » ، وأن « الفصل » بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقَصَص. وهذه القراءة عندنا أولى القراءَتين بالصواب، لما ذكرنا لأهلِها من العلّة. فمعنى الكلام إذًا: ما الحكم فيما تستعجلون به، أيها المشركون، من عذاب الله وفيما بيني وبينكم, إلا الله الذي لا يجور في حكمه, وبيده الخلق والأمر, يقضي الحق بيني وبينكم, وهو خير الفاصلين بيننا بقضائه وحكمه. القول في تأويل قوله : قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ( 58 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والأوثان، المكذبيك فيما جئتهم به, السائليك أن تأتيهم بآية استعجالا منهم بالعذاب: لو أنّ بيدي ما تستعجلون به من العذاب « لقضي الأمر بيني وبينكم » ، ففصل ذلك أسرع الفصل، بتعجيلي لكم ما تسألوني من ذلك وتستعجلونه, ولكن ذلك بيد الله، الذي هو أعلم بوقت إرساله على الظالمين، الذين يضعون عبادتهم التي لا تنبغي أن تكون إلا لله في غير موضعها، فيعبدون من دونه الآلهة والأصنام, وهو أعلم بوقت الانتقام منهم، وحالِ القضاء بيني وبينهم. وقد قيل: معنى قوله: « لقضي الأمر بيني وبينكم » ، بذبح الموت. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن ابن جريج قال، بلغني في قوله: « لقضي الأمر » ، قال : ذبح الموت . وأحسب أن قائل هذا القول، نـزع لقوله وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ [ سورة مريم: 39 ] ، فإنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قصة تدل على معنى ما قاله هذا القائل في « قضاء الأمر » , وليس قوله: « لقضي الأمر بيني وبينكم » من ذلك في شيء, وإنما هذا أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن استعجله فصلَ القضاء بينه وبينهم من قوله بآية يأتيهم بها: لو أن العذاب والآيات بيدي وعندي، لعاجلتكم بالذي تسألوني من ذلك, ولكنه بيد من هو أعلم بما يُصلح خلقه، منّي ومن جميع خلقه . القول في تأويل قوله : وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قال أبو جعفر: يقول: وعند الله مفاتح الغيب. و « المفاتح » : جمع « مِفْتَح » , يقال فيه: « مِفْتح » و « مِفْتَاح » . فمن قال: « مِفْتَح » ، جمعه « مفاتح » , ومن قال: « مفتاح » ، جمعه « مفاتيح » . ويعني بقوله: « وعنده مفاتح الغيب » ، خزائن الغيب, كالذي:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وعنده مفاتح الغيب » ، قال، يقول: خزائن الغيب. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن مسعر, عن عمرو بن مرة, عن عبد الله بن سلمة, عن ابن مسعود قال: أعطي نبيُّكم كل شيءٍ إلا مفاتح الغيب. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس: « وعنده مفاتح الغيب » ، قال: هن خمس: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَـزِّلُ الْغَيْثَ إلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ سورة لقمان: 34 ] . قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم بالظالمين من خلقه، وما هم مستحقُّوه وما هو بهم صانع, فإنّ عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه، ولن يعلموه ولن يدركوه « ويعلم ما في البر والبحر » ، يقول: وعنده علم ما لم يغب أيضًا عنكم, لأن ما في البر والبحر مما هو ظاهر للعين، يعلمه العباد. فكأن معنى الكلام: وعند الله علم ما غابَ عنكم، أيها الناس، مما لا تعلمونه ولن تعلموه مما استأثرَ بعلمه نفسَه, ويعلم أيضًا مع ذلك جميع ما يعلمه جميعُكم, لا يخفى عليه شيء, لأنه لا شيءَ إلا ما يخفى عن الناس أو ما لا يخفى عليهم. فأخبر الله تعالى ذكره أن عنده علم كل شيء كان ويكون، وما هو كائن مما لم يكن بعد, وذلك هو الغيب. القول في تأويل قوله : وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 59 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تسقط ورقةٌ في الصحاري والبراري، ولا في الأمصار والقرى، إلا الله يعلمها « ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين » ، يقول: ولا شيء أيضًا مما هو موجود، أو ممّا سيوجد ولم يوجد بعد, إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ, مكتوبٌ ذلك فيه، ومرسوم عددُه ومبلغه، والوقت الذي يوجد فيه، والحالُ التي يفنى فيها. ويعني بقوله: « مبين » ، أنه يبين عن صحة ما هو فيه، بوجود ما رُسم فيه على ما رُسم. فإن قال قائل: وما وجهُ إثباته في اللوح المحفوظ والكتاب المبين، ما لا يخفى عليه, وهو بجميعه عالم لا يُخَاف نسيانَه؟ قيل له : لله تعالى ذكره فعل ما شاء. وجائز أن يكون كان ذلك منه امتحانًا منه لحفَظَته، واختبارًا للمتوكلين بكتابة أعمالهم, فإنهم فيما ذُكر مأمورون بكتابة أعمال العباد، ثم بعرضها على ما أثبته الله من ذلك في اللوح المحفوظ, حتى أثبت فيه ما أثبت كل يوم. وقيل إن ذلك معنى قوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ سورة الجاثية: 29 ] . وجائز أن يكون ذلك لغير ذلك مما هو أعلم به, إمّا بحجة يحتج بها على بعض ملائكته، وأما على بني آدم وغير ذلك، وقد:- حدثني زياد بن يحيى الحسّاني أبو الخطاب قال، حدثنا مالك بن سعير قال، حدثنا الأعمش, عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة ولا كمغرِز إبرة, إلا عليها ملك موكّل بها يأتي الله بعلمها: يبسها إذا يبست، ورطوبتها إذا رَطبت. القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: وقل لهم، يا محمد, والله أعلم بالظالمين، والله هو الذي يتوفى أرواحكم بالليل فيقبضها من أجسادكم « ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، يقول: ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار. ومعنى « التوفي » ، في كلام العرب استيفاء العدد, كما قال الشاعر: إِنَّ بَنِــي الأدْرَم لَيْسُــوا مِـنْ أَحَـدْ وَلا تَوَفَّــاهُمْ قُــرَيْشٌ فِـي العَـدَدْ بمعنى: لم تدخلهم قريش في العدد. وأما « الاجتراح » عند العرب، فهو عمل الرجل بيده أو رجله أو فمه, وهي « الجوارح » عندهم، جوارح البدن فيما ذكر عنهم. ثم يقال لكل مكتسب عملا « جارح » , لاستعمال العرب ذلك في هذه « الجوارح » , ثم كثر ذلك في الكلام حتى قيل لكل مكتسب كسبًا، بأيّ أعضاء جسمه اكتسب: « مجترِح » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، أما « يتوفاكم بالليل » ففي النوم وأما « يعلم ما جرحتم بالنهار » ، فيقول: ما اكتسبتم من الإثم. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، يعني: ما اكتسبتم من الإثم . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « ما جرحتم بالنهار » ، قال: ما عملتم بالنهار . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله : « وهو الذي يتوفاكم بالليل » ، يعني بذلك نومهم « ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، أي: ما عملتم من ذنب فهو يعلمه, لا يخفى عليه شيء من ذلك. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار » ، قال: أمّا وفاته إياهم بالليل، فمنامهم وأما « ما جرحتم بالنهار » ، فيقول: ما اكتسبتم بالنهار. قال أبو جعفر: وهذا الكلام وإن كان خبرًا من الله تعالى عن قدرته وعلمه, فإنّ فيه احتجاجًا على المشركين به، الذين كانوا ينكرون قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم. فقال تعالى ذكره محتجًا عليهم: ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ) ، يقول: فالذي يقبض أرواحكم بالليل ويبعثكم في النهار, لتبلغوا أجلا مسمى، وأنتم ترون ذلك وتعلمون صحّته, غير منكرٍ له القدرة على قبض أرواحكم وإفنائكم، ثم ردِّها إلى أجسادكم، وإنشائكم بعد مماتكم, فإن ذلك نظير ما تعاينون وتشاهدون, وغير منكر لمن قدر على ما تعاينون من ذلك، القدرةُ على ما لم تعاينوه. وإن الذي لم تروه ولم تعاينوه من ذلك، شبيه ما رأيتم وعاينتم. القول في تأويل قوله : ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 60 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: « ثم يبعثكم » , يثيركم ويوقظكم من منامكم « فيه » يعني في النهار، و « الهاء » التي في « فيه » راجعة على « النهار » « ليقضى أجلٌ مسمى » ، يقول: ليقضي الله الأجل الذي سماه لحياتكم, وذلك الموت, فيبلغ مدته ونهايته « ثم إليه مرجعكم » ، يقول: ثم إلى الله معادكم ومصيركم « ثم ينبئكم بما كنتم تعملون » ، يقول: ثم يخبركم بما كنتم تعملون في حياتكم الدنيا, ثم يجازيكم بذلك, إن خيرًا فخيرًا وإن شرًّا فشرًّا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ثم يبعثكم فيه » ، قال: في النهار. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « ثم يبعثكم فيه » ، في النهار, و « البعث » ، اليقظة . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة مثله . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ثم يبعثكم فيه » ، قال: بالنهار. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: « ثم يبعثكم فيه » ، قال: يبعثكم في المنام. « ليقضى أجل مسمى » ، وذلك الموت. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « ليقضى أجل مسمى » ، وهو الموت . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ليقضى أجل مسمى » ، قال: هو أجل الحياة إلى الموت . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: « ليقضى أجل مسمى » ، قال: مدّتهم . القول في تأويل قوله : وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ( 61 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « وهو القاهر » ، والله الغالب خلقه، العالي عليهم بقدرته, لا المقهور من أوثانهم وأصنامهم، المذلَّل المعْلُوّ عليه لذلته « ويرسل عليكم حفظة » ، وهي ملائكته الذين يتعاقبونكم ليلا ونهارًا, يحفظون أعمالكم ويحصونها, ولا يفرطون في حفظ ذلك وإحصائه ولا يُضيعون. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « ويرسل عليكم حفظة » ، قال: هي المعقبات من الملائكة, يحفظونه ويحفظون عمله. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، يقول: حفظة، يا ابن آدم، يحفظون عليك عملك ورزقك وأجلك، إذا توفَّيت ذلك قبضت إلى ربك « حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، يقول تعالى ذكره: إن ربكم يحفظكم برسل يعقِّب بينها، يرسلهم إليكم بحفظكم وبحفظ أعمالكم، إلى أن يحضركم الموت، وينـزل بكم أمر الله, فإذا جاء ذلك أحدكم، توفاه أملاكنا الموكَّلون بقبض الأرواح، ورسلنا المرسلون به « وهم لا يفرطون » ، في ذلك فيضيعونه. فإن قال قائل: أو ليس الذي يقبض الأرواح ملك الموت, فكيف قيل: « توفته رسلنا » ، « والرسل » جملة وهو واحد ؟ أو ليس قد قال: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [ سورة السجدة: 11 ] ؟ قيل: جائز أن يكون الله تعالى ذكره أعان ملك الموت بأعوان من عنده, فيتولون ذلك بأمر ملك الموت, فيكون « التوفي » مضافًا وإن كان ذلك من فعل أعوان ملك الموت إلى ملك الموت إذ كان فعلهم ما فعلوا من ذلك بأمره، كما يضاف قتلُ من قتل أعوانُ السلطان وجلدُ من جلدوه بأمر السلطان، إلى السلطان, وإن لم يكن السلطان باشر ذلك بنفسه، ولا وليه بيده. وقد تأول ذلك كذلك جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم في قوله: « حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: كان ابن عباس يقول: لملك الموت أعوانٌ من الملائكة. حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن عبيد الله في قوله: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: سئل ابن عباس عنها فقال: إن لملك الموت أعوانًا من الملائكة . حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم في قوله: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: أعوان ملك الموت. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، قال: الرسل توفَّى الأنفس, ويذهب بها ملك الموت. حدثنا هناد قال، حدثنا حفص, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم, عن ابن عباس: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، أعوان ملك الموت من الملائكة. [ حدثنا هناد قال، حدثنا حفص, عن الحسن بن عبيد الله, عن ابن عباس : « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » . قال: أعوان ملك الموت من الملائكة ] . حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم: « توفته رسلنا » ، قال: هم الملائكة أعوان ملك الموت . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « توفته رسلنا » ، قال: إن ملك الموت له رسل، فيرسل ويرفع ذلك إليه وقال الكلبي: إن ملك الموت هو يلي ذلك, فيدفعه، إن كان مؤمنًا، إلى ملائكة الرحمة, وإن كان كافرًا إلى ملائكة العذاب . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة: « توفته رسلنا » ، قال: يلي قبضَها الرسل, ثم يدفعونها إلى ملك الموت . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن منصور عن إبراهيم في قوله: « توفته رسلنا » ، قال: تتوفاه الرسل, ثم يقبض منهم ملك الموت الأنفس قال الثوري: وأخبرني الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم قال: هم أعوان لملك الموت قال الثوري: وأخبرني رجل، عن مجاهد قال: جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناول من حيث شاء, وجعلت له أعوان يتوفَّون الأنفس ثم يقبضها منهم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم, عن ابن عباس في قوله: « توفته رسلنا » ، قال : أعوان ملك الموت من الملائكة . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم قال: الملائكة أعوان ملك الموت . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن منصور, عن إبراهيم: « توفته رسلنا » ، قال: يتوفونه, ثم يدفعونه إلى ملك الموت . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه قال : سألت الربيع بن أنس عن ملك الموت, أهو وحده الذي يقبض الأرواح ، قال: هو الذي يلي أمرَ الأرواح, وله أعوان على ذلك, ألا تسمع إلى قول الله تعالى ذكره: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ ؟ [ سورة الأعراف: 37 ] . وقال: « توفته رسلنا وهم لا يفرطون » ، غير أن ملك الموت هو الذي يسير كل خطوة منه من المشرق إلى المغرب. قلت: أين تكون أرواح المؤمنين؟ قال: عند السدرة في الجنة . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا محمد بن مسلم, عن إبراهيم بن ميسرة, عن مجاهد قال: ما من أهل بيت شَعَرٍ ولا مَدَرٍ إلا وملك الموت يُطيف بهم كل يوم مرتين . وقد بينا أن معنى « التفريط » ، التضييع, فيما مضى قبل. وكذلك تأوله المتأوّلون في هذا الموضع . حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وهم لا يفرطون » ، يقول: لا يضيعون. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وهم لا يفرطون » ، قال: لا يضيعون . القول في تأويل قوله : ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ( 62 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم ردت الملائكة الذين توفَّوهم فقبضوا نفوسهم وأرواحهم، إلى الله سيدهم الحق، « ألا له الحكم » ، يقول: ألا له الحكم والقضاء دون من سواه من جميع خلقه « وهو أسرعُ الحاسبين » ، يقول: وهو أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم، أيها الناس, وأحصاها، وعرف مقاديرها ومبالغها, لأنه لا يحسب بعقد يد, ولكنه يعلم ذلك ولا يخفى عليه منه خافية, و لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [ سورة سبأ: 3 ] . القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 63 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم، الداعين إلى عبادة أوثانهم: من الذين ينجيكم « من ظلمات البر » ، إذا ضللتم فيه فتحيَّرتم، فأظلم عليكم الهدى والمحجة ومن ظلمات البحر إذا ركبتموه، فأخطأتم فيه المحجة، فأظلم عليكم فيه السبيل، فلا تهتدون له غير الله الذي إليه مفزعكم حينئذ بالدعاء « تضرعًا » ، منكم إليه واستكانة جهرًا « وخفية » ، يقول: وإخفاء للدعاء أحيانًا, وإعلانًا وإظهارًا تقولون: لئن أنجيتنا من هذه يا رب أي من هذه الظلمات التي نحن فيها « لنكونن من الشاكرين » ، يقول: لنكونن ممن يوحدك بالشكر، ويخلص لك العبادة، دون من كنا نشركه معك في عبادتك. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعيد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعًا وخفية » ، يقول: إذا أضل الرجل الطريق، دعا الله: « لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين » . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر » ، يقول: من كرْب البر والبحر. القول في تأويل قوله : قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ( 64 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم سواه من الآلهة، إذا أنت استفهمتهم عمن به يستعينون عند نـزول الكرب بهم في البر والبحر: الله القادرُ على فَرَجكم عند حلول الكرب بكم, ينجيكم من عظيم النازل بكم في البر والبحر من همّ الضلال وخوف الهلاك، ومن كرب كل سوى ذلك وهمّ لا آلهتكم التي تشركون بها في عبادته, ولا أوثانكم التي تعبدونها من دونه, التي لا تقدر لكم على نفع ولا ضرّ, ثم أنتم بعد تفضيله عليكم بكشف النازل بكم من الكرب، ودفع الحالِّ بكم من جسيم الهم، تعدلون به آلهتكم وأصنامكم، فتشركونها في عبادتكم إياه. وذلك منكم جهل بواجب حقه عليكم، وكفر لأياديه عندكم، وتعرضٌ منكم لإنـزال عقوبته عاجلا بكم. القول في تأويل قوله : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم غيره من الأصنام والأوثان، يا محمد: إن الذي ينجيكم من ظلمات البرّ والبحر ومن كل كرب، ثم تعودون للإشراك به, هو القادر على أن يرسل عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم, لشرككم به، وادّعائكم معه إلهًا آخر غيره، وكفرانكم نعمه، مع إسباغه عليكم آلاءه ومِنَنه. وقد اختلف أهل التأويل في معنى « العذاب » الذي توعد الله به هؤلاء القوم أن يبعثه عليهم من فوقهم أو من تحت أرجلهم. فقال بعضهم: أما العذاب الذي توعدهم به أن يبعثه عليه من فوقهم، فالرجم. وأما الذي توعدهم أن يبعثه عليهم من تحتهم، فالخسف. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: عذابًا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، قال: الخسف. حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن الأشجعي, عن سفيان, عن السدي, عن أبي مالك وسعيد بن جبير, مثله . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو سلمة, عن شبل, عن ابن نجيح, عن مجاهد: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم » ، قال الخسف . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم » ، فعذاب السماء « أو من تحت أرجلكم » ، فيخسف بكم الأرض . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم » قال: كان ابن مسعود يصيح وهو في المجلس أو على المنبر: ألا أيها الناس، إنه نـزل بكم. إن الله يقول: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم » ، لو جاءكم عذاب من السماء لم يبق منكم أحد « أو من تحت أرجلكم » ، لو خسف بكم الأرض أهلككم، لم يبق منكم أحد أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، ألا إنه نـزل بكم أسوأ الثلاث. وقال آخرون: عنى بالعذاب من فوقكم، أئمةَ السوء « أو من تحت أرجلكم » ، الخدم وسِفلة الناس. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت خلادًا يقول: سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول: إن ابن عباس كان يقول في هذه: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم أو من تحت أرجلكم » ، فأما العذاب من فوقكم، فأئمة السوء وأما العذاب من تحت أرجلكم، فخدم السوء. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم » ، يعني من أمرائكم « أو من تحت أرجلكم » ، يعني: سفلتكم . قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: عنى بالعذاب من فوقهم، الرجمَ أو الطوفان وما أشبه ذلك مما ينـزل عليهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم، الخسفَ وما أشبهه. وذلك أن المعروف في كلام العرب من معنى « فوق » و « تحت » الأرجل, هو ذلك، دون غيره. وإن كان لما روي عن ابن عباس في ذلك وجه صحيح, غير أن الكلام إذا تُنُوزع في تأويله، فحمله على الأغلب الأشهر من معناه أحق وأولى من غيره، ما لم تأت حجة مانعة من ذلك يجب التسليم لها. القول في تأويل قوله : أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أو يخلطكم « شيعًا » ، فرقًا, واحدتها « شِيعة » . وأما قوله: « يلبسكم » فهو من قولك: « لبَسْت عليه الأمر » , إذا خلطت, « فأنا ألبِسه » . وإنما قلت إن ذلك كذلك, لأنه لا خلاف بين القرأة في ذلك بكسر « الباء » , ففي ذلك دليل بَيِّنٌ على أنه من: « لبَس يلبِس » , وذلك هو معنى الخلط. وإنما عنى بذلك: أو يخلطكم أهواء مختلفة وأحزابًا مفترقة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أو يلبسكم شيعًا » ، الأهواء المفترقة. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: يفرق بينكم. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: ما كان منكم من الفتن والاختلاف. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: الذي فيه الناس اليوم من الاختلاف، والأهواء، وسفك دماء بعضهم بعضًا . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي, قال : حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: الأهواء والاختلاف. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أو يلبسكم شيعًا » ، يعني بالشيع، الأهواء المختلفة . وأما قوله: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، فإنه يعني: بقتل بعضكم بيد بعض. والعرب تقول للرجل ينال الرجل بسلام فيقتله به: « قد أذاق فلان فلانًا الموت » ، و « أذاقه بأسه » ، وأصل ذلك من: « ذوق الطعام » وهو يطعمه, ثم استعمل ذلك في كل ما وصل إلى الرجل من لذة وحلاوة، أو مرارة ومكروه وألم. وقد بينت معنى « البأس » في كلام العرب فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، بالسيوف . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد, عن أبي هارون العبدي, عن عوف البكالي أنه قال في قوله: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: هي والله الرجال في أيديهم الحراب، يطعُنون في خواصركم . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب. حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: عذاب هذه الأمة أهل الإقرار، بالسيف « أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض » وعذاب أهل التكذيب، الصيحة والزلزلة. ثم اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية. فقال بعضهم: عني بها المسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم, وفيهم نـزلت. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عيسى الدامغاني قال، أخبرنا ابن المبارك, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية في قوله : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ الآية ، قال: فهن أربع، وكلهن عذاب, فجاء مستقرّ اثنتين، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة, فألبسوا شيعًا، وأذيق بعضهم بأس بعض, وبقيت اثنتان, فهما لا بدّ واقعتان يعني: الخسف والمسخ. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، لأمة محمد صلى الله عليه وسلم, وأعفاكم منه « أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا » ، قال: ما كان فيكم من الفتن والاختلاف. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة : قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا ، الآية. ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلى ذات يوم الصبح فأطالها, فقال له بعض أهله: يا نبي الله، لقد صلّيت صلاة ما كنت تصَليها ؟ قال: إنها صلاةُ رَغبة ورَهبة, وإني سألت ربّي فيها ثلاثًا، سألته أن لا يسلط على أمتي عدوًّا من غيرهم، فيهلكهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يسلط على أمتي السنة، فأعطانيها. وسألته أن لا يلبسهم شيعًا ولا يذيق بعضهم بأس بعض, فمنعنيها. ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا تزال طائفةٌ من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله. حدثنا أحمد بن الوليد القرشي وسعيد بن الربيع الرازي قالا حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو, سمع جابرًا يقول: لما أنـزل الله تعالى ذكره على النبي صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) ، قال: أعوذ بوجهك « أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: هاتان أيسر أو: أهون. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن جابر, قال: لما نـزلت: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) ، قال: نعوذ بك, نعوذ بك « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: هو أهون. حدثني زياد بن عبيد الله المزني قال، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال، حدثنا أبو مالك قال، حدثني نافع بن خالد الخزاعي, عن أبيه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود، فقال: قد كانت صلاة رغبة ورهبة, فسألت الله فيها ثلاثًا، فأعطاني اثنتين, وبقي واحداة. سألت الله أن لا يصيبكم بعذاب أصاب به مَن قبلكم، فأعطانيها. وسألت الله أن لا يسلِّط عليكم عدوًّا يستبيح بيضتكم، فأعطانيها. وسألته أن لا يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض, فمنعنيها قال أبو مالك: فقلت له: أبوك سمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم، سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها مِن في رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور عن معمر، عن أيوب, عن أبي قلابة, عن أبي الأشعث, عن أبي أسماء الرحبي, عن شداد بن أوس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: إن الله زَوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربَها, وإنّ ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها, وإني أعطيت الكنـزين الأحمرَ والأبيض, وإني سألت ربّي أن لا يهلك قومي بسَنَةٍ عامة، وأن لا يلبسهم شيعًا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض, فقال: يا محمد, إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يردّ, وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلِّط عليهم عدوًّا ممن سواهم فيهلكهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، وبعضهم يقتل بعضًا، وبعضهم يسبي بعضًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أخاف على أمتي الأئمة المضلين, فإذا وضع السيف في أمتي، لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني أيوب, عن أبي قلابة, عن أبي الأشعث, عن أبي أسماء الرحبي, عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه إلا أنه قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن الزهري قال: راقب خباب بن الأرتّ, وكان بدريًّا, النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلي, حتى إذا فرغ، وكان في الصبح، قال له: يا رسول الله, لقد رأيتك تصلي صلاة ما رأيتك صليت مثلها ؟ قال: أجل, إنها صلاة رَغَبٍ ورَهَبٍ, سألت ربي ثلاث خصال، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة: سألته أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم، فأعطاني. وسألته أن لا يسلط علينا عدوًّا، فأعطاني. وسألته أن لا يلبسنا شيعًا، فمنعني. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الزهري في قوله: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: راقب خبابُ بن الأرت, وكان بدريًّا, رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, فذكر نحوه إلا أنه قال: ثلاث خصلات. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لما نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: هذه أهون. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن يونس, عن الحسن : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: سألت ربّي أربعًا، فأعطيت ثلاثًا ومنعت واحداة: سألته أن لا يسلط على أمتي عدوًّا من غيرهم يستبيح بيضتهم, ولا يسلط عليهم جوعًا, ولا يجمعهم على ضلالة، فأعطيتهن وسألته أن لا يلبسهم شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض, فمنعتُ. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني سألت ربي خصالا فأعطاني ثلاثًا ومنعني واحدة: سألته أن لا تكفر أمتي صفقة واحدة، فأعطانيها. وسألته لا يُظهر عليهم عدوًّا من غيرهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الأمم من قبلهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم, فمنعنيها. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي بكر, عن الحسن قال: لما نـزلت هذه الآية, قوله: « ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال الحسن: ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يُشهده عليهم: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ, فسأل ربه أن لا يرسل عليهم عذابًا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، ولا يلبس أمته شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل, فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إنك سألت ربك أربعًا, فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين: لن يأتيهم عذاب من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم، فإنهما عذابان لكل أمة اجتمعت على تكذيب نبيها وردِّ كتاب ربها، ولكنهم يلبسهم شيعًا ويذيق بعضهم بأس بعض, وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتاب والتصديق بالأنبياء, ولكن يعذبون بذنوبهم، وأوحي إليه: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ، يقول: من أمتك أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ من العذاب وأنت حي فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [ سورة الزخرف: 41،42 ] . فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم فراجع ربه, فقال : أيّ مصيبة أشدّ من أن أرى أمتي يعذب بعضها بعضًا! وأوحي إليه: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ، [ سورة العنكبوت: 1،3 ] ، فأعلمه أن أمته لم تخصّ دون الأمم بالفتن, وأنها ستبلى كما ابتليت الأمم. ثم أنـزل عليه: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [ سورة المؤمنون: 93،94 ] ، فتعوّذ نبي الله, فأعاذه الله, لم يرَ من أمته إلا الجماعة والألفة والطاعة. ثم أنـزل عليه آية حذّر فيها أصحابه الفتنة, فأخبره أنه إنما يُخَصّ بها ناسٌ منهم دون ناس, فقال: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، [ سورة الأنفال: 25 ] ، فخصّ بها أقوامًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بعده، وعصم بها أقوامًا. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية قال: لما جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما يكون في أمته من الفرقة والاختلاف, فشق ذلك عليه, ثم دعا فقال: اللهم أظهر عليهم أفضلهم بقية. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو الأسود قال، أخبرنا ابن لهيعة, عن خالد بن يزيد, عن أبي الزبير قال: لما نـزلت هذه الآية: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله من ذلك ! قال: أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، قال: أعوذ بالله من ذلك قال: « أو يلبسكم شيعًا » ، قال: هذه أيسر ! ولو استعاذه لأعاذه. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا المؤمل البصري قال، أخبرنا يعقوب بن إسماعيل بن يسار المديني قال، حدثنا زيد بن أسلم قال: لما نـزلت: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض بالسيوف! فقالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله! قال: نعم! فقال بعض الناس: لا يكون هذا أبدًا! فأنـزل الله: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ . وقال آخرون: عنى ببعضها أهل الشرك، وببعضها أهل الإسلام . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن هارون بن موسى, عن حفص بن سليمان, عن الحسن في قوله: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ، قال: هذا للمشركين « أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض » ، قال: هذا للمسلمين. قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره توعَّد بهذه الآية أهلَ الشرك به من عبدة الأوثان، وإياهم خاطبَ بها, لأنها بين إخبار عنهم وخطاب لهم, وذلك أنها تتلو قوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ، ويتلوها قوله: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ . وغير جائز أن يكون المؤمنون كانوا به مكذبين ، فإذا كان غير جائز أن يكون ذلك كذلك, وكانت هذه الآية بين هاتين الآيتين, كان بيّنًا أن ذلك وعيدٌ لمن تقدّم وصف الله إياه بالشرك، وتأخر الخبر عنه بالتكذيب لا لمن لم يجر له ذكر. غير أن ذلك وإن كان كذلك، فإنه قد عم وعيدُه بذلك كلَّ من سلك سبيلهم من أهل الخلاف على الله وعلى رسوله، والتكذيب بآيات الله من هذه وغيرها. وأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « سألت ربي ثلاثًا, فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة » ، فجائز أن هذه الآية نـزلت في ذلك الوقت وعيدًا لمن ذكرتُ من المشركين، ومن كان على منهاجهم من المخالفين ربهم, فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه أن يعيذ أمته مما ابتلى به الأمم الذين استوجبوا من الله تعالى ذكره بمعصيتهم إياه هذه العقوبات، فأعاذهم بدعائه إياه ورغبته إياه، من المعاصي التي يستحقون بها من هذه الخلال الأربع من العقوبات أغلظها، ولم يُعذهم من ذلك ما يستحقون به اثنتين منها. وأما الذين تأوّلوا أنه عني بجميع ما في هذه الآية هذه الأمة, فإني أراهم تأوّلوا أن في هذه الأمة من سيأتي من معاصي الله وركوب ما يُسخط الله، نحو الذي ركب مَن قبلهم من الأمم السالفة، من خلافه والكفر به, فيحلّ بهم مثل الذي حلّ بمن قبلهم من المثلات والنقمات، وكذلك قال أبو العالية ومن قال بقوله: « جاء منهن اثنتان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة. وبقيت اثنتان، الخسف والمسخ » ، وذلك أنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سيكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف » ، وأن قومًا من أمته سيبيتون على لهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير. وذلك إذا كان, فلا شك أنه نظير الذي في الأمم الذين عتوا على ربهم في التكذيب وجحدوا آياته. وقد روي نحو الذي روي عن أبي العالية, عن أبيّ. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا سفيان قال، أخبرنا أبي ، عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع, عن أبي العالية, عن أبي بن كعب: ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ) ، قال: أربع خِلال, وكلهن عذاب, وكلهن واقعٌ قبل يوم القيامة, فمضت اثنتان بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، ألبسوا شيعًا, وأذيق بعضهم بأس بعض. وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف والرجم. القول في تأويل قوله : انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ( 65 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: انظر، يا محمد، بعين قلبك إلى ترديدنا حججنا على هؤلاء المكذبين بربّهم الجاحدين نعمه، وتصريفناها فيهم « لعلهم يفقهون » ، يقول: ليفقهوا ذلك ويعتبروه, فيذّكروا ويزدجروا عما هم عليه مقيمون مما يسخطه الله منهم، من عبادة الأوثان والأصنام، والتكذيب بكتاب الله تعالى ذكره ورسوله صلى الله عليه وسلم . القول في تأويل قوله : وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ( 66 ) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( 67 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكذب، يا محمد، قومك بما تقول وتخبر وتوعد من الوعيد « وهو الحق » ، يقول: والوعيدُ الذي أوعدناهم على مقامهم على شركهم: من بعث العذاب من فوقهم، أو من تحت أرجلهم، أو لبسهم شيعًا, وإذاقة بعضهم بأس بعض « الحق » الذي لا شك فيه أنه واقع إن هم لم يتوبوا وينيبوا مما هم عليه مقيمون من معصية الله والشرك به، إلى طاعة الله والإيمان به « قل لست عليكم بوكيل » ، يقول: قل لهم، يا محمد، لست عليكم بحفيظ ولا رقيب, وإنما رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم « لكل نبإ مستقر » ، يقول: لكل خبر مستقر, يعني قرار يستقرّ عنده، ونهاية ينتهي إليه, فيتبين حقه وصدقه، من كذبه وباطله « وسوف تعلمون » ، يقول: وسوف تعلمون، أيها المكذبون بصحة ما أخبركم به من وعيد الله إياكم، أيها المشركون، حقيقته عند حلول عذابه بكم، فرأوا ذلك وعاينوه، فقتلهم يومئذ بأيدي أوليائه من المؤمنين. وبنحو الذي قلنا من التأويل في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفصل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وكذب به قومك وهو الحق » ، يقول: كذبت قريش بالقرآن, وهو الحق وأما « الوكيل » ، فالحفيظ ، وأما « لكل نبإ مستقر » ، فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يَعِدهم من العذاب. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لكل نبإ مستقر » ، لكل نبأ حقيقة, إما في الدنيا وإما في الآخرة « وسوف تعلمون » ، ما كان في الدنيا فسوف ترونه, وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « لكل نبإ مستقر » ، يقول: حقيقة. حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون » ، يقول: فعل وحقيقة, ما كان منه في الدنيا وما كان منه في الآخرة. وكان الحسن يتأوّل في ذلك أنه الفتنة التي كانت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن جعفر بن حيان, عن الحسن أنه قرأ: « لكل نبإ مستقر » ، قال: حبست عقوبتها، حتى [ إذا ] عمل ذنبها أرسلت عقوبتها. القول في تأويل قوله : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 68 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رأيت، يا محمد، المشركين الذين يخوضون في آياتنا التي أنـزلناها إليك, ووحينا الذي أوحيناه إليك, و « خوضهم فيها » ، كان استهزاءَهم بها، وسبَّهم من أنـزلها وتكلم بها، وتكذيبهم بها « فأعرض عنهم » ، يقول: فصد عنهم بوجهك, وقم عنهم، ولا تجلس معهم « حتى يخوضوا في حديث غيره » ، يقول: حتى يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بآيات الله من حديثهم بينهم « وإما ينسينك الشيطان » ، يقوله: وإن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم والإعراض عنهم في حال خوضهم في آياتنا، ثم ذكرت ذلك, فقهم عنهم، ولا تقعد بعد ذكرك ذلك مع القوم الظالمين الذين خاضوا في غير الذي لهم الخوضُ فيه بما خاضوا به فيه. وذلك هو معنى « ظلمهم » في هذا الموضع. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره » ، قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذبون بها، فإن نسي فلا يقعد بعد الذكر مع القوم الظالمين. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، أخبرنا معمر, عن قتادة بنحوه. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان, عن السدي, عن أبي مالك وسعيد بن جبير في قوله : « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » ، قال: الذين يكذبون بآياتنا. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين » ، قال: كان المشركون إذا جالسوا المؤمنين وقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن فسبوه واستهزءوا به, فأمرهم الله أن لا يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره . وأما قوله: « وإما ينسينك الشيطان » ، يقول: نَهْيَنَا فتقعد معهم, فإذا ذكرت فقم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « يخوضون في آياتنا » ، قال: يكذبون بآياتنا . حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض, عن ليث, عن أبي جعفر قال: لا تجالسوا أهل الخصومات, فإنهم الذين يخوضون في آيات الله . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا » , وقوله: الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا [ سورة الأنعام: 159 ] ؛ وقوله: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [ سورة آل عمران: 105 ] ؛ وقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [ سورة الشورى: 13 ] ، ونحو هذا في القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة, وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمِراء والخصومات في دين الله . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » ، قال: يستهزئون بها. قال: نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعد معهم إلا أن ينسى، فإذا ذكر فليقم. فذلك قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين » قال ابن جريج: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه, فإذا سمعوا استهزءوا، فنـزلت: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم » ، الآية. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا » ، قال: يكذبون. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عن أبي مالك قوله: « وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره » ، يعني المشركين « وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين » ، إن نسيت فذكرتَ فلا تجلس معهم. القول في تأويل قوله : وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( 69 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن اتقى الله فخافه، فأطاعه فيما أمره به، واجتنب ما نهاه عنه, فليس عليه بترك الإعراض عن هؤلاء الخائضين في آيات الله في حال خوضهم في آيات الله، شيء من تبعة فيما بينه وبين الله, إذا لم يكن تركه الإعراضَ عنهم رضًا بما هم فيه، وكان لله بحقوقه متقيًا, ولا عليه من إثمهم بذلك حرج, ولكن ليعرضوا عنهم حينئذ ذكرى لأمر الله « لعلهم يتقون » ، يقول: ليتقوا. ومعنى « الذكرى » ، الذكرُ. و « الذكر » و « الذكرى » بمعنًى. وقد يجوز أن يكون « ذكرى » في موضع نصب ورفع: فأما النصب، فعلى ما وصفت من تأويل: ولكن ليعرضوا عنهم ذكرى. وأما الرفع، فعلى تأويل: وما على الذين يتقون من حسابهم شيء بترك الإعراض, ولكن إعراضهم ذكرى لأمر الله لعلهم يتقون. وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالقيام عن المشركين إذا خاضوا في آيات الله, لأن قيامه عنهم كان مما يكرهونه, فقال الله له: إذا خاضوا في آيات الله فقم عنهم، ليتقوا الخوضَ فيها ويتركوا ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: كان المشركون يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحبون أن يسمعوا منه, فإذا سمعوا استهزءوا, فنـزلت: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، الآية، قال: فجعل إذا استهزءوا قام، فحذروا وقالوا لا تستهزءوا فيقوم! فذلك قوله: « لعلهم يتقون » ، أن يخوضوا فيقوم، ونـزل: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، إن قعدوا معهم, ولكن لا تقعدوا. ثم نسخ ذلك قوله بالمدينة: وَقَدْ نَـزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ، [ سورة النساء: 140 ] , فنسخ قولَه: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، الآية. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، يقول: من حساب الكفار من شيء « ولكن ذكرى » ، يقول: إذا ذكرت فقم « لعلهم يتقون » مساءتكم، إذا رأوكم لا تجالسونهم استحيوا منكم، فكفوا عنكم. ثم نسخها الله بعد, فنهاهم أن يجلسوا معهم أبدًا، قال: وَقَدْ نَـزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا ، الآية . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء » ، إن قعدوا, ولكن لا تقعد . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد , مثله . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن السدي, عن أبي مالك: « وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى » ، قال: وما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك. القول في تأويل قوله : وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ذرْ هؤلاء الذين اتخذوا دين الله وطاعتهم إياه لعبًا ولهوًا, فجعلوا حظوظهم من طاعتهم إياه اللعب بآياته، واللهوَ والاستهزاء بها إذا سمعوها وتليت عليهم, فأعرض عنهم, فإني لهم بالمرصاد, وإني لهم من وراء الانتقام منهم والعقوبة لهم على ما يفعلون، وعلى اغترارهم بزينة الحياة الدنيا، ونسيانهم المعادَ إلى الله تعالى ذكره والمصيرَ إليه بعد الممات، كالذي:- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، قال: كقوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ، [ سورة المدثر: 11 ] . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله: ( اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، [ سورة التوبة:5 ] . وكذلك قال عدد من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى, عن قتادة: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، ثم أنـزل في « سورة براءة » , فأمر بقتالهم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال: قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة: « وذر الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا » ، ثم أنـزل الله تعالى ذكره « براءة » , وأمر بقتالهم فقال: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، [ سورة التوبة: 5 ] . وأما قوله: « وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت » ، فإنه يعني به: وذكّر، يا محمد، بهذا القرآن هؤلاء المولِّين عنك وعنه « أن تبسل نفس » ، بمعنى: أن لا تبسل, كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [ سورة النساء : 176 ] ، بمعنى: أن لا تضلوا وإنما معنى الكلام: وذكرهم به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحق, فلا تُبْسل أنفسهم بما كسبت من الأوزار ولكن حذفت « لا » ، لدلالة الكلام عليها. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « أن تبسل نفس » . فقال بعضهم: معنى ذلك: أن تُسْلَم. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد النحوي, عن عكرمة قوله: « أن تبسل نفس بما كسبت » ، قال: تُسلم . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الحسن: « أن تبسل نفس » ، قال: أن تُسلم . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن الحسن, مثله . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « أن تبسل » ، قال: تسلم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « أن تبسل نفس » ، قال: تسلم. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن ليث, عن مجاهد: أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا ، أسلموا. وقال آخرون: بل معنى ذلك: تُحْبس. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « أن تبسل نفس » ، قال: تؤخذ فتحبس . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة, مثله . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله : « أن تبسل نفس بما كسبت » ، أن تؤخذ نفس بما كسبت. وقال آخرون: معناه: تُفضَح. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت » ، يقول: تفضح. وقال آخرون: معناه: أن تجزَى. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد قال، قال الكلبي: « أن تبسل » ، أن تجزَى. وأصل « الإبسال » التحريم, يقال منه: « أبسلت المكان » ، إذا حرّمته فلم يقرب، ومنه قوله الشاعر: بَكَـرَتْ تَلُـومُكَ بَعْـدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى, بَسْــلٌ عَلَيْــكِ مَلامَتِـي وَعِتَـابِي أي: حرام [ عليك ملامتي وعتابي ] . ومنه قولهم: « أسد باسل » , ويراد به: لا يقربه شيء, فكأنه قد حرَّم نفسه، ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يتحامى لشدته. ويقال: « أعط الراقي بُسْلَتَه » , يراد بذلك: أجرته, « وشراب بَسِيل » ، بمعنى متروك. وكذلك « المبسَلُ بالجريرة » , وهو المرتهن بها, قيل له: « مُبْسَل » ، لأنه محرَّم من كل شيء إلا مما رُهن فيه وأُسلم به، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي: وَإبْسَــالِي بَنِــيَّ بِغَــيْرِ جُــرْمٍ بَعَوْنَــــاهُ وَلا بِـــدَمٍ مُـــرَاقِ وقال الشنفرى: هُنَــالِكَ لا أَرْجُــو حَيَـاةً تَسُـرُّنِي سَــمِيرَ اللَّيَــالِي مُبْسَـلا بِـالْجَرَائِرِ قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وذكّر بالقرآن هؤلاء الذين يخوضون في آياتنا وغيرهم ممن سلك سبيلهم من المشركين, كيلا تُبسل نفس بذنوبها وكفرها بربها, وترتهن فتغلق بما كسبت من إجرامها في عذاب الله « ليس لها من دون الله » ، يقول: ليس لها، حين تسلم بذنوبها فترتهن بما كسبت من آثامها، أحدٌ ينصرها فينقذها من الله الذي جازاها بذنوبها جزاءها « ولا شفيع » ، يشفع لها, لوسيلة له عنده. القول في تأويل قوله : وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن تعدل النفس التي أبسلت بما كسبت, يعني: « وإن تعدل كل عدل » ، يعني: كل فداء. يقال منه: « عَدَل يعدِل » ، إذا فدى, « عَدْلا » ، ومنه قول الله تعالى ذكره: أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، [ سورة المائدة: 95 ] ، وهو ما عادله من غير نوعه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، قال: لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي في قوله: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، فما يعدلها لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لتفتدي به ما قُبل منها. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها » ، قال: « وإن تعدل » ، وإن تفتد، يكون له الدنيا وما فيها يفتدي بها « لا يؤخذ منه » ، عدلا عن نفسه, لا يقبل منه. وقد تأوّل ذلك بعض أهل العلم بالعربية بمعنى: وإن تُقسط كل قسط لا يقبل منها. وقال: إنها التوبة في الحياة. وليس لما قال من ذلك معنى, وذلك أن كل تائب في الدنيا فإن الله تعالى ذكره يقبل توبته. القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 70 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين إن فدوا أنفسهم من عذاب الله يوم القيامة كل فداء لم يؤخذ منهم, هم « الذين أبسلوا بما كسبوا » ، يقول: أسلموا لعذاب الله, فرهنوا به جزاءً بما كسبوا في الدنيا من الآثام والأوزار، « لهم شرابٌ من حميم » . و « الحميم » هو الحارّ، في كلام العرب, وإنما هو « محموم » صرف إلى « فعيل » ، ومنه قيل للحمّام، « حمام » لإسخانه الجسم، ومنه قول مرقش: فِــي كُــلِّ مُمْسًـى لَهَـا مِقْطَـرَةٌ فِيهَـــا كِبَــاءٌ مُعَــدٌّ وَحَــمِيمْ يعني بذلك ماء حارًّا، ومنه قول أبي ذويب الهذلي في صفة فرس: تَــأبَى بِدِرَّتِهَـا إذَا مَـا اسْـتُضْغِبَتْ إلا الْحَـــمِيمَ فَإنّـــهُ يَتَبَضَّـــعُ يعني بالحميم: عرق الفرس. وإنما جعل تعالى ذكره لهؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية شرابًا من حميم, لأن الحارّ من الماء لا يروي من عطش. فأخبر أنهم إذا عطشوا في جهنم لم يغاثوا بماء يرويهم, ولكن بما يزيدون به عطشًا على ما بهم من العطش « وعذاب أليم » ، يقول: ولهم أيضًا مع الشراب الحميم من الله العذابُ الأليم والهوان المقيم « بما كانوا يكفرون » ، يقول: بما كان من كفرهم في الدنيا بالله، وإنكارهم توحيده، وعبادتهم معه آلهة دونه. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا » ، قال يقال: أسلموا. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « أولئك الذين أبسلوا » ، قال: فُضحوا. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا » ، قال: أخذوا بما كسبوا. القول في تأويل قوله : قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قال أبو جعفر: وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره نبيه صلى الله عليه وسلم على حجته على مشركي قومه من عبدة الأوثان. يقول له تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأنداد، والآمرين لك باتباع دينهم وعبادة الأصنام معهم: أندعو من دون الله حجرًا أو خشبًا لا يقدر على نفعنا أو ضرنا, فنخصه بالعبادة دون الله, وندع عبادة الذي بيده الضر والنفع والحياة والموت, إن كنتم تعقلون فتميزون بين الخير والشر؟ فلا شك أنكم تعلمون أن خدمة ما يرتجى نفعه ويرهب ضره، أحق وأولى من خدمة من لا يرجى نفعه ولا يخشى ضره! « ونرد على أعقابنا » ، يقول: ونرد إلى أدبارنا، فنرجع القهقري خلفنا، لم نظفر بحاجتنا. وقد بينا معنى: « الرد على العقب » , وأن العرب تقول لكل طالب حاجة لم يظفر بها: « رد على عقبيه » ، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإنما يراد به في هذا الموضع: ونرد من الإسلام إلى الكفر « بعد إذ هدانا الله، فوفقنا له, فيكون مثلنا في ذلك مثل الرجل الذي استتبعه الشيطان، يهوي في الأرض حيران. » وقوله: « استهوته » ، « استفعلته » , من قول القائل: « هوى فلان إلى كذا يهوي إليه » , ومن قول الله تعالى ذكره: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، [ سورة إبراهيم: 37 ] ، بمعنى: تنـزع إليهم وتريدهم. وأما « حيران » ، فإنه « فعلان » من قول القائل: « قد حار فلان في الطريق، فهو يَحَار فيه حَيرة وحَيَرَانًا وَحيرُورة » , وذلك إذ ضل فلم يهتد للمحجَّة. « له أصحاب يدعونه إلى الهدى » , يقول: لهذا الحيران الذي قد استهوته الشياطين في الأرض، أصحابٌ على المحجة واستقامة السبيل, يدعونه إلى المحجة لطريق الهدى الذي هم عليه, يقولون له : ائتنا. وترك إجراء « حيران » , لأنه « فعلان » , وكل اسم كان على « فعلان » مما أنثاه « فعلى » فإنه لا يجري في كلام العرب في معرفة ولا نكرة. قال أبو جعفر: وهذا مثل ضربه الله تعالى ذكره لمن كفَر بالله بعد إيمانه، فاتبع الشياطين، من أهل الشرك بالله وأصحابه الذين كانوا أصحابه في حال إسلامه، المقيمون على الدين الحق، يدعونه إلى الهدى الذي هم عليه مقيمون، والصواب الذي هم به متمسكون, وهو له مفارق وعنه زائل, يقولون له: « ائتنا فكن معنا على استقامة وهدى » ! وهو يأبى ذلك, ويتبع دواعي الشيطان، ويعبد الآلهة والأوثان. وبمثل الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل, وخالف في ذلك جماعة. ذكر من قال ذلك مثل ما قلنا: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا » ، قال: قال المشركون للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا, واتركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم. فقال الله تعالى ذكره: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، هذه الآلهة « ونردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله » , فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الأرض، يقول: مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق, فضلّ الطريق, فحيرته الشياطين، واستهوته في الأرض, وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم, يقولون: « ائتنا، فإنا على الطريق » , فأبى أن يأتيهم. فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد, ومحمد الذي يدعو إلى الطريق, والطريق هو الإسلام. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا » ، قال: هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها، وللدعاة الذين يدعونَ إلى الله, كمثل رجل ضل عن الطريق تائهًا ضالا إذ ناداه مناد: « يا فلان بن فلان، هلمّ إلى الطريق » ، وله أصحاب يدعونه: « يا فلان، هلم إلى الطريق » ! فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه في الهلكة, وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق. وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان. يقول: مثل من يعبد هؤلاء الآلهة من دون الله, فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت، فيستقبل الهلكة والندامة. وقوله: « كالذي استهوته الشياطين في الأرض » ، وهم « الغيلان » يدعونه باسمه واسم أبيه واسم جده, فيتبعها، فيرى أنه في شيء، فيصبح وقد ألقته في الهلكة، وربما أكلته أو تلقيه في مضلّة من الأرض يهلك فيها عطشًا. فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تُعبد من دون الله عز وجل. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « استهوته الشياطين في الأرض » ، قال: أضلته في الأرض حيران. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: « ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، قال: الأوثان . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « استهوته الشياطين في الأرض حيران » ، قال: رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق, فذلك مثل من يضلّ بعد إذ هدي. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، حدثنا رجل, عن مجاهد قال، « حيران » ، هذا مثل ضربه الله للكافر, يقول: الكافر حيران، يدعوه المسلم إلى الهدى فلا يجيب. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا » ، حتى بلغ لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، علمها الله محمدًا وأصحابه، يخاصمون بها أهلَ الضلالة. وقال آخرون في تأويل ذلك، بما:- حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى » ، فهو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله, وهو رجل أطاعَ الشيطان، وعمل في الأرض بالمعصية، وحار عن الحقّ وضل عنه, وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويزعمون أن الذي يأمرونه هدًى. يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس: إن الهدى هدى الله, والضلالة ما تدعو إليه الجنّ. فكأنّ ابن عباس على هذه الرواية يرى أن أصحاب هذا الحيران الذين يدعونه إنما يدعونه إلى الضلال، ويزعمون أنّ ذلك هدى, وأنّ الله أكذبهم بقوله: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ، لا ما يدعوه إليه أصحابه. وهذا تأويل له وجه، لو لم يكن الله سمى الذي دعا الحيرانَ إليه أصحابه « هدى » , وكان الخبر بذلك عن أصحابه الدعاة له إلى ما دعوه إليه: أنهم هم الذين سموه, ولكن الله سماه « هدى » , وأخبر عن أصحاب الحيران أنهم يدعونه إليه. وغير جائز أن يسمي الله « الضلال » هدى، لأن ذلك كذب, وغير جائز وصف الله بالكذب، لأن ذلك وصفه بما ليس من صفته. وإنما كان يجوز توجيه ذلك إلى الصواب، لو كان ذلك خبرًا من الله عن الداعي الحيران أنهم قالوا له: « تعال إلى الهدى » ، فأما وهو قائل: « يدعونه إلى الهدى » , فغير جائز أن يكون ذلك، وهم كانوا يدعونه إلى الضلال. وأما قوله: « ائتنا » ، فإن معناه: يقولون: ائتنا، هلم إلينا فحذف « القول » ، لدلالة الكلام عليه. وذكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ ذلك: ( يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) . حدثنا بذلك ابن وكيع قال، حدثنا غندر, عن شعبة, عن أبي إسحاق قال: في قراءة عبد الله: ( يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: في قراءة ابن مسعود: ( لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الهُدَى بَيِّنًا ) ، قال: « الهدى » الطريق, أنه بين. وإذا قرئ ذلك كذلك, كان « البين » من صفة « الهدى » , ويكون نصب « البين » على القطع من « الهدى » , كأنه قيل: يدعونه إلى الهدى البين, ثم نصب « البين » لما حذفت « الألف واللام » , وصار نكرة من صفة المعرفة. وهذه القراءة التي ذكرناها عن ابن مسعود تؤيد قول من قال: « الهدى » في هذا الموضع، هو الهدى على الحقيقة. القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( 71 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان، القائلين لأصحابك: « اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم، فإنا على هدى » : ليس الأمر كما زعمتم « إن هدى الله هو الهدى » ، يقول: إن طريق الله الذي بينه لنا وأوضحه، وسبيلنا الذي أمرنا بلزومه، ودينه الذي شرعه لنا فبينه, هو الهدى والاستقامة التي لا شك فيها, لا عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع, فلا نترك الحق ونتبع الباطل « وأمرنا لنسلم لرب العالمين » ، يقول: وأمرَنا ربنا وربّ كل شيء تعالى وجهه, لنسلم له، لنخضع له بالذلة والطاعة والعبودية, فنخلص ذلك له دون ما سواه من الأنداد والآلهة. وقد بينا معنى « الإسلام » بشواهده فيما مضى من كتابنا، بما أغنى عن إعادته. وقيل: « وأمرنا لنسلم » ، بمعنى: وأمرنا كي نسلم, وأن نسلم لرب العالمين لأن العرب تضع « كي » و « اللام » التي بمعنى « كي » ، مكان « أن » و « أن » مكانها . القول في تأويل قوله : وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 72 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأمرنا أنْ أقيموا الصلاة. وإنما قيل: « وأن أقيموا الصلاة » ، فعطف ب « أن » على « اللام » من لِنُسْلِمَ ، لأن قوله: لِنُسْلِمَ معناه: أن نسلم, فردّ قوله: « وأن أقيموا » على معنى: لِنُسْلِمَ , إذ كانت « اللام » التي في قوله: لِنُسْلِمَ , لامًا لا تصحب إلا المستقبل من الأفعال, وكانت « أن » من الحروف التي تدل على الاستقبال دلالة « اللام » التي في لِنُسْلِمَ , فعطف بها عليها، لاتفاق معنيهما فيما ذكرت. ف « أن » في موضع نصب بالردّ على اللام. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: إما أن يكون ذلك، « أمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة » , يقول: أمرنا كي نسلم, كما قال: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ سورة يونس: 104 ] ، أي: إنما أمرت بذلك. ثم قال: « وأن أقيموا الصلاة واتقوه » ، أي: أمرنا أن أقيموا الصلاة أو يكون أوصل الفعل باللام, والمعنى: أمرت أن أكون, كما أوصل الفعل باللام في قوله: هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ، [ سورة الأعراف: 154 ] . فتأويل الكلام: وأمرنا بإقامة الصلاة, وذلك أداؤها بحدودها التي فرضت علينا « واتقوه » ، يقول: واتقوا رب العالمين الذي أمرنا أن نسلم له, فخافوه واحذروا سَخطه، بأداء الصلاة المفروضة عليكم، والإذعان له بالطاعة، وإخلاص العبادة له « وهو الذي إليه تحشرون » ، يقول: وربكم رب العالمين، هو الذي إليه تحشرون فتجمعون يوم القيامة, فيجازي كلَّ عامل منكم بعمله, وتوفي كل نفس ما كسبت. القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( 73 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد, الداعيك إلى عبادة الأوثان: « أمرنا لنسلم لرب العالمين، الذي خلق السماوات والأرض بالحق, لا من لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر » . واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « بالحق » . فقال بعضهم: معنى ذلك، وهو الذي خلق السماوات والأرض حقًّا وصوابًا, لا باطلا وخطأ, كما قال تعالى ذكره: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا [ سورة ص: 27 ] . قالوا: وأدخلت فيه « الباء » و « الألف واللام » , كما تفعل العرب في نظائر ذلك فتقول: « فلان يقول بالحق » , بمعنى: أنه يقول الحق. قالوا: ولا شيء في « قوله بالحق » غير إصابته الصواب فيه لا أنّ « الحق » معنى غير « القول » , وإنما هو صفةٌ للقول، إذا كان بها القول، كان القائل موصوفًا بالقول بالحق، وبقول الحق. قالوا: فكذلك خلق السماوات والأرض، حكمة من حكم الله, فالله موصوف بالحكمة في خلقهما وخلق ما سواهما من سائر خلقه لا أنّ ذلك حقٌّ سوى خَلْقِهما خَلَقَهما به. وقال آخرون: معنى ذلك: خلق السماوات والأرض بكلامه وقوله لهما: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا ، [ سورة فصلت: 11 ] . قالوا: فالحق، في هذا الموضع معنيّ به: كلامه. واستشهدوا لقيلهم ذلك بقوله: « ويوم يقول كن فيكون قوله الحق » ، « الحق » هو قوله وكلامه. قالوا: والله خلق الأشياء بكلامه وقيله، فما خلق به الأشياء فغير الأشياء المخلوقة. قالوا: فإذْ كان ذلك كذلك, وجب أن يكون كلام الله الذي خلق به الخلق غيرَ مخلوق. وأما قوله: « ويوم يقول كن فيكون » ، فإن أهل العربية اختلفوا في العامل في « يوم يقول » ، وفي معنى ذلك. فقال بعض نحويي البصرة: « اليوم » مضاف إلى « يقول كن فيكون » . قال: وهو نصب، وليس له خبر ظاهر, والله أعلم, وهو على ما فسرت لك كأنه يعني بذلك أن نصبه على: واذكر يوم يقول كن فيكون. قال: وكذلك: « يوم ينفخ في الصور » ، قال: وقال بعضهم: يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة. وقال بعضهم: « يقول كن فيكون » للصور خاصة فمعنى الكلام على تأويلهم: يوم يقول للصور كن فيكون، قوله الحق يوم ينفخ فيه عالم الغيب والشهادة فيكون « القول » حينئذ مرفوعًا ب « الحق » و « الحق » ب « القول » ، وقوله: « يوم يقول كن فيكون » ، و « يوم ينفخ في الصور » ، صلة « الحق » . وقال آخرون: بل قوله: « كن فيكون » ، معنيٌّ به كل ما كان الله مُعِيده في الآخرة بعد إفنائه، ومنشئه بعد إعدامه فالكلام على مذهب هؤلاء، متناهٍ عند قوله: « كن فيكون » ، وقوله: « قوله الحق » ، خبر مبتدأ وتأويله: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق, ويوم يقول للأشياء كن فيكون خلقهما بالحق بعد فنائهما. ثم ابتدأ الخبر عن قوله ووعده خلقَه أنه معيدهما بعد فنائهما عن أنه حق فقال: قوله هذا، الحقّ الذي لا شك فيه. وأخبر أن له الملك يوم ينفخ في الصور ف يوم ينفخ في الصور « ، يكون على هذا التأويل من صلة » الملك « . » وقد يجوز على هذا التأويل أن يكون قوله: « يوم ينفخ في الصور » من صلة « الحق » . وقال آخرون: بل معنى الكلام: ويوم يقول لما فني: « كن » ، فيكون قوله الحق, فجعل « القول » مرفوعًا بقوله « ويوم يقول كن فيكون » ، وجعل قوله: « كن فيكون » ، للقول محلا وقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، من صلة « الحق » كأنه وجه تأويل ذلك إلى: ويومئذ قوله الحق يوم ينفخ في الصور. وإن جعل على هذا التأويل « يوم ينفخ في الصور » بيانًا عن اليوم الأول, كان وجهًا صحيحًا. ولو جعل قوله: « قوله الحق » ، مرفوعًا بقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، وقوله: « يوم ينفخ في الصور » ، محلا وقوله: « ويوم يقول كن فيكون » من صلته، كان جائزًا. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أنه المنفرد بخلق السماوات والأرض دون كل ما سواه, معرِّفًا من أشرك به من خلقه جهلَه في عبادة الأوثان والأصنام، وخطأ ما هم عليه مقيمون من عبادة ما لا يضر ولا ينفع، ولا يقدر على اجتلاب نفع إلى نفسه، ولا دفع ضر عنها ومحتجًّا عليهم في إنكارهم البعثَ بعد الممات والثوابَ والعقاب، بقدرته على ابتداع ذلك ابتداءً, وأن الذي ابتدع ذلك غير متعذر عليه إفناؤه ثم إعادته بعد إفنائه, فقال: « وهو الذي خلق » ، أيها العادلون بربهم من لا ينفع ولا يضر ولا يقدر على شيء « السماوات والأرض بالحق » , حجة على خلقه, ليعرفوا بها صانعها، وليستدلُّوا بها على عظيم قدرته وسلطانه, فيخلصوا له العبادة « ويوم يقول كن فيكون » ، يقول: ويوم يقول حين تبدل الأرض غير الأرض والسماوات كذلك: « كن فيكون » , كما شاء تعالى ذكره, فتكون الأرض غير الأرض ويكون [ الكلام ] عند قوله: « كن فيكون » متناهيًا. وإذا كان كذلك معناه، وجب أن يكون في الكلام محذوفٌ يدلّ عليه الظاهر, ويكون معنى الكلام: ويوم يقول كذلك: « كن فيكون » تبدل [ السماوات والأرض ] غير السماوات والأرض. ويدلّ على ذلك قوله: « وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق » ، ثم ابتدأ الخبر عن القول فقال: « قوله الحق » ، بمعنى وعدُه هذا الذي وَعدَ تعالى ذكره، من تبديله السماوات والأرض غير الأرض والسماوات, الحقُّ الذي لا شك فيه « وله الملك يوم ينفخ في الصور » ، فيكون قوله: « يوم ينفخ في الصور » ، من صلة « الملك » ويكون معنى الكلام: ولله الملك يومئذ، لأن النفخة الثانية في الصور حال تبديل الله السماوات والأرض غيرهما. وجائز أن يكون « القول » أعنى: « قوله الحق » ، مرفوعًا بقوله: « ويوم يقول كن فيكون » , ويكون قوله: « كن فيكون » محلا للقول مرافعًا، فيكون تأويل الكلام: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق, ويوم يبدلها غير السماوات والأرض، فيقول لذلك: « كن فيكون » ، « قوله الحق » . وأما قوله: « وله الملك يوم ينفخ في الصور » ، فإنه خُصّ بالخبر عن ملكه يومئذ, وإن كان الملك له خالصًا في كل وقت في الدنيا والآخرة، لأنه عنى تعالى ذكره أنه لا منازع له فيه يومئذ ولا مدّعي له, وأنه المنفرد به دون كل من كان ينازعه فيه في الدنيا من الجبابرة، فأذعن جميعهم يومئذ له به, وعلموا أنهم كانوا من دعواهم في الدنيا في باطل. واختلف في معنى « الصور » في هذا الموضع. فقال بعضهم: هو قرن ينفخ فيه نفختان: إحداهما لفناء من كان حيًّا على الأرض, والثانية لنشر كل مَيْتٍ. واعتلوا لقولهم ذلك بقوله: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ سورة الزمر : 68 ] ، وبالخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذ سئل عن الصور: هو قرن يُنفخ فيه. وقال آخرون: « الصور » في هذا الموضع جمع « صورة » ، ينفخ فيها روحها فتحيا, كقولهم: « سور » لسور المدينة, وهو جمع « سورة » , كما قال جرير: سُورُ الْمَدِينَةِ وَالْجِبَالُ الْخُشَّعَ والعرب تقول: « نفخ في الصور » و « نفخ الصور » ، ومن قولهم: « نفخ الصور » قول الشاعر: لَـوْلا ابْـنُ جَـعْدَةَ لَـمْ تُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُمْ وَلا خُرَاسَـانَ حَـتَّى يُنْفَـخَ الصُّـورُ قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال: « إن إسرافيلَ قد التقم الصور وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر فينفخ » ، وأنه قال: « الصور قرن ينفخ فيه » . وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: « يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة » ، يعني: أن عالم الغيب والشهادة، هو الذي ينفخ في الصور. حدثني به المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، يعني: أنّ عالم الغيب والشهادة هو الذي ينفخ في الصور . فكأن ابن عباس تأوّل في ذلك أن قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، اسم الفاعل الذي لم يسمَّ في قوله: « يوم ينفخ في الصور » ، وأن معنى الكلام: يوم ينفخ الله في الصور، عالم الغيب والشهادة. كما تقول العرب: « أُكلَ طعامك، عبدُ الله » , فتظهر اسم الآكل بعد أن قد جرى الخبر بما لم يسم آكله. وذلك وإن كان وجهًا غير مدفوع, فإن أحسن من ذلك أن يكون قوله: « عالم الغيب والشهادة » ، مرفوعًا على أنه نعت ل « الذي » ، في قوله: « وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق » . وروي عنه أيضًا أنه كان يقول: « الصور » في هذا الموضع، النفخة الأولى. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة » ، يعني بالصور: النفخة الأولى, ألم تسمع أنه يقول: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى يعني الثانية فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [ سورة الزمر: 68 ] . ويعني بقوله: « عالم الغيب والشهادة » ، عالم ما تعاينون: أيها الناس, فتشاهدونه, وما يغيب عن حواسكم وأبصاركم فلا تحسونه ولا تبصرونه « وهو الحكيم » ، في تدبيره وتصريفه خلقه من حال الوجود إلى العدم, ثم من حال العدم والفناء إلى الوجود, ثم في مجازاتهم بما يجازيهم به من ثواب أو عقاب « الخبير » ، بكل ما يعملونه ويكسبونه من حسن وسيئ, حافظ ذلك عليهم ليحازيهم على كل ذلك. يقول تعالى ذكره: فاحذروا، أيها العادلون بربكم، عقابَه, فإنه عليم بكل ما تأتون وتذرون, وهو لكم من وراء الجزاء على ما تعملون. القول في تأويل قوله : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واذكر، يا محمد لحجاجك الذي تحاجّ به قومك، وخصومتك إياهم في آلهتهم، وما تراجعهم فيها, مما نلقيه إليك ونعلمكه من البرهان والدلالة على باطل ما عليه قومك مقيمون، وصحة ما أنت عليه مقيم من الدين، وحقيقة ما أنت عليهم به محتج حِجَاج إبراهيم خليلي قومَه, ومراجعته إياهم في باطل ما كانوا عليه مقيمين من عبادة الأوثان, وانقطاعه إلى الله والرضا به وليًّا وناصرًا دون الأصنام، فاتخذه إمامًا واقتد به, واجعل سيرته في قومك لنفسك مثالا إذ قال لأبيه مفارقًا لدينه، وعائبًا عبادته الأصنام دون بارئه وخالقه: يا آزر . ثم اختلف أهل العلم في المعنيّ ب « آزر » , وما هو، اسم هو أم صفة؟ وإن كان اسمًا, فمن المسمى به؟ فقال بعضهم: هو اسم أبيه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: اسم أبيه « آزر » . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: « آزر » ، أبو إبراهيم. وكان، فيما ذكر لنا والله أعلم، رجلا من أهل كُوثَى, من قرية بالسواد, سواد الكوفة . حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز يذكر قال: هو « آزر » , وهو « تارح » , مثل « إسرائيل » و « يعقوب » . وقال آخرون: إنه ليس أبا إبراهيم. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: ليس « آزر » ، أبا إبراهيم. حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا الثوري قال، أخبرني رجل, عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: « آزر » لم يكن بأبيه، إنما هو صنم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « آزر » اسم، صنم. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: « وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر » ، قال: اسم أبيه، ويقال: لا بل اسمه « تارح » , واسم الصنم « آزر » . يقول: أتتخذ آزرَ أصنامًا آلهة. وقال آخرون: هو سبٌّ وعيب بكلامهم, ومعناه: معوَجٌّ . كأنه تأوّل أنه عابه بزَيْغه واعوجاجه عن الحق. واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الأمصار: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ) بفتح « آزر » على اتباعه « الأب » في الخفض, ولكنه لما كان اسمًا أعجميًّا فتحوه، إذ لم يجروه، وإن كان في موضع خفض. وذكر عن أبي زيد المديني والحسن البصري أنهما كانا يقرآن ذلك: ( آزَرُ ) بالرفع على النداء, بمعنى: يا آزر. فأما الذي ذكر عن السديّ من حكايته أن « آزر » اسم صنم, وإنما نصبَه بمعنى: أتتخذ آزر أصنامًا آلهة فقولٌ من الصواب من جهة العربية بعيدٌ. وذلك أن العرب لا تنصب اسمًا بفعلٍ بعد حرف الاستفهام, لا تقول: « أخاك أكلمت » ؟ وهي تريد: أكلمت أخاك. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي, قراءةُ من قرأ بفتح « الراء » من ( آزَرَ ) ، على اتباعه إعراب « الأب » , وأنه في موضع خفض ففتح، إذ لم يكن جاريًا، لأنه اسم عجمي. وإنما اخترتُ قراءة ذلك كذلك، لإجماع الحجة من القرأة عليه. وإذْ كان ذلك هو الصواب من القراءة، وكان غير جائز أن يكون منصوبًا بالفعل الذي بعد حرف الاستفهام, صحَّ لك فتحه من أحد وجهين: إما أن يكون اسمًا لأبي إبراهيم صلوات الله عليه وعلى جميع أنبيائه ورسله, فيكون في موضع خفض ردًّا على « الأب » , ولكنه فتح لما ذكرت من أنه لمّا كان اسمًا أعجميًّا ترك إجراؤه ففتح، كما تفعل العرب في أسماء العجم. أو يكون نعتًا له, فيكون أيضًا خفضًا بمعنى تكرير اللام عليه, ولكنه لما خرج مخرج « أحمر » و « أسود » ترك إجراؤه، وفعل به كما يفعل بأشكاله. فيكون تأويل الكلام حينئذ: وإذ قال إبراهيم لأبيه الزائغ: أتتخذ أصنامًا آلهة. وإذ لم يكن له وِجهة في الصواب إلا أحد هذين الوجهين, فأولى القولين بالصواب منهما عندي قولُ من قال: « هو اسم أبيه » ، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه أبوه، وهو القول المحفوظ من قول أهل العلم، دون القول الآخر الذي زعم قائلُه أنه نعتٌ. فإن قال قائل: فإن أهل الأنساب إنما ينسبون إبراهيم إلى « تارح » , فكيف يكون « آزر » اسمًا له، والمعروف به من الاسم « تارح » ؟ قيل له: غير محال أن يكون له اسمان, كما لكثير من الناس في دهرنا هذا, وكان ذلك فيما مضى لكثير منهم . وجائز أن يكون لقبًا يلقّب به. القول في تأويل قوله : أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( 74 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيل إبراهيم لأبيه آزر أنه قال: « أتتخذ أصنامًا آلهة » ، تعبدها وتتخذها ربًّا دون الله الذي خلقك فسوَّاك ورزقك ؟ و « الأصنام » : جمع « صنم » , و « الصنم » التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان, وهو « الوثن » . وقد يقال للصورة المصوّرة على صورة الإنسان في الحائط وغيره: « صنم » و « وثن » . « إني أراك وقومَك في ضلال مبين » ، يقول: « إني أراك » ، يا آزر، « وقومَك » الذين يعبدون معك الأصنام ويتخذونها آلهة « في ضلال » ، يقول: في زوال عن محجّة الحق, وعدول عن سبيل الصواب « مبين » ، يقول: يتبين لمن أبصَره أنه جوْرٌ عن قصد السبيل، وزوالٌ عن محجة الطريق القويم. يعني بذلك أنه قد ضلّ هو وهم عن توحيد الله وعبادته، الذي استوجب عليهم إخلاص العبادة له بآلائه عندهم, دون غيره من الآلهة والأوثان. القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( 75 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وكذلك » ، وكما أريناه البصيرة في دينه، والحقّ في خلافه ما كانوا عليه من الضلال, نريه ملكوت السماوات والأرض يعني ملكه. وزيدت فيه « التاء » كما زيدت في « الجبروت » من « الجبر » وكما قيل: « رَهَبوتٌ خيرٌ من رَحَمُوت » , بمعنى: رهبة خير من رحمة. وحكي عن العرب سماعًا: « له مَلَكوت اليمنِ والعراق » ، بمعنى: له ملك ذلك. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » . فقال بعضهم: معنى ذلك: نريه خلقَ السماوات والأرض. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أي: خلق السماوات والأرض . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أي: خلق السماوات والأرض « وليكون من الموقنين » . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس : « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، يعني ب « ملكوت السماوات والأرض » ، خلق السماوات والأرض. وقال آخرون: معنى « الملكوت » الملك، بنحو التأويل الذي تأوّلناه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عمر بن أبي زائدة قال: سمعت عكرمة, وسأله رجل عن قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: هو الملك, غير أنه بكلام النبط: « ملكوتَا » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي زائدة, عن عكرمة قال: هي بالنبطية: « ملكوتَا » . وقال آخرون: معنى ذلك: آيات السماوات والأرض. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع, عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: آيات السماوات والأرض. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: آيات . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: تفرجت لإبراهيم السماوات السبعُ حتى العرش, فنظر فيهنّ ، وتفرَّجت له الأرضون السبع, فنظر فيهنّ. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين » ، قال: أقيم على صخرة وفتحت له السماوات, فنظر إلى ملك الله فيها، حتى نظر إلى مكانه في الجنة. وفتحت له الأرضون حتى نظَر إلى أسفل الأرض, فذلك قوله: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا [ سورة العنكبوت : 27 ] ، يقول: آتيناه مكانه في الجنّة، ويقال: أَجْرَهُ الثناء الحسن. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: فرجت له السماوات فنظر إلى ما فيهنّ، حتى انتهى بصره إلى العرش، وفرجت له الأرضون السبع فنظر ما فيهنّ. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سالم, عن سعيد بن جبير: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: كشف له عن أدِيم السماواتِ والأرض، حتى نظر إليهن على صخرة, والصخرةُ، على حوت, والحوت على خاتم ربّ العِزّة لا إله إلا الله. حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية, عن عاصم, عن أبي عثمان, عن سلمان قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض, رأى عبدًا على فاحشة, فدعا عليه، فهلك. ثم رأى آخر على فاحشة, فدعا عليه فهلك. ثم رأى آخر على فاحشة, فدعا عليه فهلك. فقال: أنـزلوا عبدِي لا يُهْلِك عبادِي ! حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن طلحة بن عمرو, عن عطاء قال: لما رفع الله إبراهيم في الملكوت في السماوات, أشرفَ فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه، فهلك. ثم رُفع فأشرف، فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه، فهلك. ثم رفع فأشرف، فرأى عبدًا يزني, فدعا عليه, فنودي: على رِسْلِك يا إبراهيم، فإنك عبد مستجابٌ لك، وإني من عبدي على ثلاث: إما أن يتوب إليّ فأتوب عليه, وإما أن أخرج منه ذرية طيبة, وإما أن يتمادى فيما هو فيه, فأنا من ورائه. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي ومحمد بن جعفر وعبد الوهاب, عن عوف, عن أسامة: أن إبراهيم خليل الرّحمن حدَّث نفسه أنه أرحمُ الخلق, وأن الله رفعه حتى أشرفَ على أهل الأرض, فأبصر أعمالهم. فلما رآهم يعملون بالمعاصي قال: اللهم دمِّر عليهم! فقال له ربه: أنا أرحم بعبادي منك, اهبطْ، فلعلهم أن يتوبوا إليّ ويُراجِعوا. وقال آخرون: بل معنى ذلك، ما أخبر تعالى أنه أراه من النُّجوم والقمر والشمس. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: الشمس والقمر والنجوم . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، قال: الشمس والقمر. حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، يعني به: الشمس والقمر والنجوم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: خُبِّئ إبراهيم صلى الله عليه وسلم من جبار من الجبابرة, فجُعِل له رزقه في أصابعه, فإذا مصّ أصبعًا من أصابعه وَجَد فيها رزقًا. فلما خرج، أراه الله ملكوت السماوات والأرض. فكان ملكوت السماوات: الشمس والقمر والنجوم, وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار. حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ذكر لنا أن نبيّ الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فُرَّ به من جبَّار مُتْرَف, فجعل في سَرَبٍ, وجعل رزقه في أطرافه, فجعل لا يمصُّ إصبعًا من أصابعه إلا وجد فيها رزقًا. فلما خرج من ذلك السَّرَب، أراه الله ملكوت السماوات, فأراه شمسًا وقمرًا ونجومًا وسحابًا وخلقًا عظيمًا، وأراه ملكوت الأرض, فأراه جبالا وبحورًا وأنهارًا وشجرًا ومن كلّ الدواب وخلقًا عظيمًا. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: عنى الله تعالى ذكره بقوله: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض » ، أنه أراه ملك السماوات والأرض, وذلك ما خلق فيهما من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب وغير ذلك من عظيم سلطانه فيهما, وجلَّى له بواطنَ الأمور وظواهرَها، لما ذكرنا قبل من معنى « الملكوت » ، في كلام العرب، فيما مضى قبل. وأما قوله: « وليكون من الموقنين » ، فإنه يعني أنه أراه ملكوت السماوات والأرض، ليكون ممن يقرّ بتوحيد الله, ويعلم حقيقة ما هداه له وبصّره إياه، من معرفة وحدانيته، وما عليه قومه من الضلالة، من عبادتهم الأصنام، واتخاذهم إياها آلهة دون الله تعالى. وكان ابن عباس يقول في تأويل ذلك, ما:- حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وليكون من الموقنين » ، أنه جلَّى له الأمر سرَّه وعلانيتَه, فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق. فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب, قال الله: إنك لا تستطيع هذا! فردَّه الله كما كان قبل ذلك. فتأويل ذلك على هذا التأويل: أريناه ملكوت السماوات والأرض ليكون ممن يوقن علم كل شيء حسًّا لا خبرًا. حدثني العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، حدثنا ابن جابر قال، وحدثنا الأوزاعيُّ أيضًا قال: حدثني خالد بن اللجلاج قال: سمعت عبد الرحمن بن عائش الحضرميّ يقول: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداةٍ, فقال له قائل: ما رأيتك أسفرَ وجهًا منك الغداة! قال: ومالي، وقد تبدّى لي ربّي في أحسن صورة, فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى، يا محمد؟ قلت: أنت أعلم [ يا رب ] ! فوضع يده بين كتفي فوجدت بردَها بين ثدييّ، فعلمت ما في السماوات والأرض. ثم تلا هذه الآية: « وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين » . القول في تأويل قوله : فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( 76 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما واراه الليل وغيّبه. يقال منه: « جنَّ عليه الليل » , و « جنَّه الليل » , و « أجنه » , و « أجنّ عليه » . وإذا ألقيت « على » ، كان الكلام بالألف أفصح منه بغير « الألف » , « أجنه الليل » ، أفصح من « أجن عليه » و « جنّ عليه الليل » ، أفصح من « جنَّه » , وكل ذلك مقبول مسموع من العرب. « جنّه الليل » ، في أسد « وأجنه وجنه » في تميم. والمصدر من: « جن عليه » ، « جنًّا وجُنُونًا وجَنَانًا » , ومن « أجنّ » « إجنانًا » . ويقال: « أتى فلان في جِنّ الليل » . و « الجن » من ذلك لأنهم استجنُّوا عن أعين بني آدم فلا يرون. وكل ما توارى عن أبصار الناس، فإن العرب تقول فيه: « قد جَنّ » ، ومنه قول الهذلي: وَمَـــاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْـــلَ الكَــرَى وَقَــدْ جَنَّــهُ السَّــدَفُ الأَدْهَــمْ وقال عبيد: وَخَـرْقٍ تَصِيـحُ البُومُ فِيهِ مَعَ الصَّدَى مَخُـوفٍ إذَا مَـا جَنَّـهُ اللَّيْـلُ مَرْهُوبِ ومنه: « أجننت الميت » ، إذا واريته في اللحد, و « جننته » ، وهو نظير « جنون الليل » ، في معنى غطيته. ومنه قيل للترس « مِجَنّ » لأنه يُجنّ من استجنَّ به فيغطّيه ويواريه . وقوله: « رأى كوكبًا » ، يقول: أبصر كوكبًا حين طلع « قال هذا ربي » ، فروي عن ابن عباس في ذلك, ما:- حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ، يعني به الشمس والقمر والنجوم « فلما جنّ عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربي » ، فعبده حتى غاب, فلما غاب قال: لا أحب الآفلين فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي ، فعبده حتى غاب، فلما غاب قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فعبدها حتى غابت، فلما غابت قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة : « فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ » ، علم أن ربّه دائم لا يزول. فقرأ حتى بلغ: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ، رأى خلقًا هو أكبرَ من الخلقين الأوّلين وأنور. وكان سبب قيل إبراهيم ذلك, ما:- حدثني به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق فيما ذكر لنا، والله أعلم أن آزر كان رجلا من أهل كوثى، من قرية بالسوادِ، سواد الكوفة, وكان إذ ذاك ملك المشرق النمرود، فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم [ عليه السلام، خليل الرحمن، حجة على قومه ] ، ورسولا إلى عباده, ولم يكن فيما بين نوح وإبراهيم نبيّ إلا هود وصالح، فلما تقارب زمان إبراهيم الذي أراد الله ما أراد, أتى أصحابُ النجوم نمرودَ فقالوا له: تَعَلَّمْ، أنّا نجد في عِلْمنا أن غلامًا يولد في قريتك هذه يقال له « إبراهيم » , يفارق دينكم، ويكسر أوثانكم، في شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا . فلما دخلت السنة التي وصف أصحابُ النجوم لنمرود, بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقريته فحبسها عنده إلا ما كان من أمّ إبراهيم امرأة آزر, فإنه لم يعلم بحبَلها, وذلك أنها كانت امرأة حَدَثة، فيما يذكر، لم تعرف الحبَل في بطنها، ولِمَا أرادَ الله أن يبلغ بولدها، يريدُ أن يقتل كل غلام ولد في ذلك الشهر من تلك السنة، حذرًا على ملكه. فجعلَ لا تلد امرأة غلامًا في ذلك الشهر من تلك السنة، إلا أمر به فذبح. فلما وجدت أم إبراهيم الطَّلقَ خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبًا منها, فولدت فيها إبراهيم, وأصلحت من شأنه ما يُصْنع بالمولود, ثم سَدّت عليه المغارة, ثم رجعت إلى بيتها، ثم كانت تطالعه في المغارة فتنظر ما فعل, فتجده حيًّا يمصّ إبهامه, يزعمون، والله أعلم، أن الله جعل رزق إبراهيم فيها وما يجيئه من مصّه. وكان آزر، فيما يزعمون, سأل أمّ إبراهيم عن حمْلها ما فعل، فقالت: ولدت غلامًا فمات! فصدّقها, فسكت عنها. وكان اليوم، فيما يذكرون، على إبراهيم في الشَّباب كالشهر، والشهر كالسنة. فلم يلبث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرًا حتى قال لأمه: أخرجيني أنظر! فأخرجته عِشاء فنظر، وتفكر في خلق السماوات والأرض, وقال: « إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني وسقاني لربّي, ما لي إله غيره » ! ثم نظر في السماء فرأى كوكبًا، قال: « هذا ربي » ، ثم اتّبعه ينظر إليه ببصره حتى غاب, فلما أفل قال: « لا أحب الآفلين » ، ثم طلع القمر فرآه بازغًا، قال: هَذَا رَبِّي ، ثم اتّبعه ببصره حتى غاب, فلما أفل قال: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ! فلما دخل عليه النهار وطلعت الشمس, أعظَمَ الشمسَ, ورأى شيئًا هو أعظم نورًا من كل شيء رآه قبل ذلك, فقال: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ! فلما أفلت قال: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . ثم رجع إبراهيم إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته، وعرف ربَّه، وبرئ من دين قومه, إلا أنه لم يبادئهم بذلك. وأخبر أنه ابنه, وأخبرته أم إبراهيم أنه ابنه, وأخبرته بما كانت صنعت من شأنه, فسرَّ بذلك آزر وفرح فرحًا شديدًا. وكان آزر يصنع أصنام قومِه التي يعبدونها, ثم يعطيها إبراهيم يبيعها, فيذهب بها إبراهيم، فيما يذكرون, فيقول : « من يشتري ما يضرُّه ولا ينفعه » ، فلا يشتريها منه أحد. فإذا بارت عليه, ذهب بها إلى نهر فصوَّبَ فيه رؤوسها, وقال: « اشربي » ، استهزاء بقومه وما هم عليه من الضلالة، حتى فشا عيبُه إياها واستهزاؤُه بها في قومه وأهل قريته, من غير أن يكون ذلك بلغ نمرودَ الملك. قال أبو جعفر: وأنكر قوم من غير أهل الرواية هذا القول الذي روي عن ابن عباس وعمن روي عنه، من أن إبراهيم قال للكوكب أو للقمر: « هذا ربي » ، وقالوا: غير جائز أن يكون لله نبيٌّ ابتعثه بالرسالة، أتى عليه وقتٌ من الأوقات وهو بالغٌ إلا وهو لله موحدٌ، وبه عارف، ومن كل ما يعبد من دونه برئ. قالوا: ولو جاز أن يكون قد أتى عليه بعض الأوقات وهو به كافر، لم يجز أن يختصه بالرسالة, لأنه لا معنى فيه إلا وفي غيره من أهل الكفر به مثله, وليس بين الله وبين أحد من خلقه مناسبة، فيحابيه باختصاصه بالكرامة. قالوا: وإنما أكرم من أكرم منهم لفضله في نفسه, فأثابه لاستحقاقه الثوابَ بما أثابه من الكرامة. وزعموا أن خبرَ الله عن قيل إبراهيم عند رؤيته الكوكب أو القمر أو الشمس: « هذا ربي » , لم يكن لجهله بأن ذلك غير جائز أن يكون ربّه، وإنما قال ذلك على وجه الإنكار منه أن يكون ذلك ربه, وعلى العيب لقومه في عبادتهم الأصنام, إذْ كان الكوكبُ والقمرُ والشمسُ أضوأ وأحسنَ وأبهجَ من الأصنام, ولم تكن مع ذلك معبودة, وكانت آفلةً زائلة غير دائمة, والأصنام التي [ هي ] دونها في الحسن وأصغرَ منها في الجسم, أحقُّ أن لا تكون معبودة ولا آلهة. قالوا: وإنما قال ذلك لهم، معارضةً, كما يقول أحد المتناظرين لصاحبه معارضًا له في قولٍ باطلٍ قال به بباطل من القول، على وجه مطالبته إياه بالفُرْقان بين القولين الفاسدين عنده، اللذين يصحِّح خصمه أحدَهما ويدعي فسادَ الآخر. وقال آخرون منهم: بل ذلك كان منه في حال طفولته، وقبل قيام الحجة عليه. وتلك حال لا يكون فيها كفر ولا إيمان. وقال آخرون منهم: إنما معنى الكلام: أهذا ربي ؟ على وجه الإنكار والتوبيخ، أي: ليس هذا ربي. وقالوا: قد تفعل العرب مثل ذلك, فتحذف « الألف » التي تدلّ على معنى الاستفهام. وزعموا أن من ذلك قول الشاعر: رَفَـوْنِي وَقَـالُوا: يَـا خُوَيْلِدُ, لا تُرَعْ ! فَقُلْـتُ, وأَنْكَـرْتُ الوُجُـوهَ: هُـمُ هُمُ? يعني: أهم هم؟ قالوا: ومن ذلك قول أوس: لَعَمْـرُكَ مَـا أَدْرِي, وَإنْ كُـنْتُ دَارِيًا, شُـعَيْثَ بـنَ سَـهْمٍ أم شُعَيْثَ بْنَ مِنْقَرِ بمعنى: أشعيث بن سهم؟ فحذف « الألف » ، ونظائر ذلك. وأما تذكير « هذا » في قوله: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي ، فإنما هو على معنى: هذا الشيء الطالع ربِّي. قال أبو جعفر: وفي خبر الله تعالى عن قيل إبراهيم حين أفل القمر: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ، الدليلُ على خطأ هذه الأقوال التي قالها هؤلاء القوم، وأنّ الصوابَ من القول في ذلك، الإقرارُ بخبر الله تعالى الذي أخبر به عنه، والإعراض عما عداه. وأما قوله: « فلما أفل » ، فإن معناه: فلما غاب وذهب، كما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، قال ابن إسحاق: « الأفول » ، الذهاب. يقال منه: « أفل النجم يأفُلُ ويأفِلُ أفولا وأفْلا » ، إذا غاب، ومنه قول ذي الرمة: مَصَــابِيحُ لَيْسَـتْ بِـالَّلوَاتِي تَقُودُهَـا نُجُــومٌ, وَلا بــالآفِلاتِ الــدَّوَالِكِ ويقال : « أين أفلت عنا » بمعنى: أين غبت عنا ؟ القول في تأويل قوله : فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( 77 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما طلع القمر فرآه إبراهيم طالعًا، وهو « بُزُوغه » . يقال منه: « بزغت الشمس تَبْزُغُ بزُوغًا » ، إذا طلعت, وكذلك القمر. « قال هذا ربي فلما أفل » ، يقول: فلما غاب « قال » ، إبراهيم، « لئن لم يهدني ربي » ، ويوفقني لإصابة الحق في توحيده « لأكونن من القوم الضالين » ، أيْ: من القوم الذين أخطؤوا الحق في ذلك, فلم يصيبوا الهدى, وعبدوا غير الله. وقد بينا معنى « الضلال » ، في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله : فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( 78 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله « فلما رأى الشمس بازغة » ، فلما رأى إبراهيم الشمس طالعةً, قال: هذا الطالعُ ربّي « هذا أكبر » ، يعني: هذا أكبر من الكوكب والقمر فحذف ذلك لدلالة الكلام عليه « فلما أفلت » ، يقول: فلما غابت, قال إبراهيم لقومه « يا قوم إنّي بريء مما تشركون » ، أي: من عبادة الآلهة والأصنام ودعائه إلهًا مع الله تعالى ذكره. القول في تأويل قوله : إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 79 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن خليله إبراهيم عليه السلام: أنه لما تبيّن له الحق وعرَفه, شهد شهادةَ الحقّ, وأظهر خلاف قومِه أهلِ الباطل وأهلِ الشرك بالله، ولم يأخذه في الله لومة لائم, ولم يستوحش من قِيل الحقِّ والثبات عليه, مع خلاف جميع قومه لقوله، وإنكارهم إياه عليه, وقال لهم: « يا قوم إنّي بريء مما تشركون » مع الله الذي خلقني وخلقكم في عبادته من آلهتكم وأصنامكم, إني وجهت وجهي في عبادتي إلى الذي خلق السماوات والأرض, الدائم الذي يبقى ولا يفنى، ويُحْيي ويميت لا إلى الذي يفنى ولا يبقى، ويزول ولا يدوم، ولا يضر ولا ينفع. ثم أخبرهم تعالى ذكره: أن توجيهه وجهه لعبادته، بإخلاص العبادة له، والاستقامة في ذلك لربه على ما يحبُّ من التوحيد, لا على الوجه الذي يوجَّه له وَجْهه من ليس بحنيف, ولكنه به مشرك, إذ كان توجيه الوجه على غير التحنُّف غير نافع موجِّهه، بل ضارّه ومهلكه « وما أنا من المشركين » ، ولست منكم ، أي : لست ممن يدين دينكم، ويتّبع ملّتكم أيُّها المشركون. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول: 13465م - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول قوم إبراهيم لإبراهيم: تركت عبادة هذه؟ فقال: « إني وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض » ، فقالوا: ما جئت بشيء! ونحن نعبده ونتوجّهه! فقال : لا حنيفًا!! قال: مخلصًا, لا أشركه كما تُشْركون. القول في تأويل قوله : وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ( 80 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجادل إبراهيم قومه في توحيد الله وبراءته من الأصنام، وكان جدالهم إياه قولُهم: أن آلهتهم التي يعبدونها خير من إلهه. قال إبراهيم: « أتحاجوني في الله » ، يقول: أتجادلونني في توحيدي الله وإخلاصي العمل له دون ما سواه من آلهة « وقد هداني » ، يقول: وقد وفقني ربي لمعرفة وحدانيته, وبصّرني طريق الحقّ حتى أيقنتُ أن لا شيء يستحق أن يعبد سواه « ولا أخاف ما تشركون به » ، يقول: ولا أرهب من آلهتكم التي تدعونها من دونه شيئًا ينالني به في نفسي من سوء ومكروه. وذلك أنهم قالوا له: « إنا نخاف أن تمسَّك آلهتنا بسوء من برص أو خبل, لذكرك إياها بسوء » ! فقال لهم إبراهيم: لا أخاف ما تشركون بالله من هذه الآلهة أن تنالَنِي بضر ولا مكروه, لأنها لا تنفع ولا تضر « إلا أن يشاء ربي شيئًا » ، يقول: ولكن خوفي من الله الذي خلقني وخلق السماوات والأرض, فإنه إن شاء أن ينالني في نفسي أو مالي بما شاء من فناء أو بقاءٍ، أو زيادة أو نقصان أو غير ذلك، نالني به, لأنه القادر على ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن جريج يقول: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني » ، قال: دعا قومُه مع الله آلهةً, وخوّفوه بآلهتهم أن يصيبَه منها خَبَل, فقال إبراهيم: « أتحاجوني في الله وقد هداني » ، قال: قد عرفت ربّي, لا أخاف ما تشركون به. « وسع ربي كل شيء علمًا » ، يقول: وعلم ربي كلَّ شيء، فلا يخفى عليه شيء, لأنه خالق كل شيء, وليس كالآلهة التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تفهم شيئًا, وإنما هي خشبة منحوتةٌ، وصورة ممثلة « أفلا تتذكرون » ، يقول: أفلا تعتبرون، أيها الجهلة، فتعقلوا خطأ ما أنتم عليه مقيمون، من عبادتكم صورةً مصوّرة وخشبة منحوتة, لا تقدر على ضر ولا على نفع، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله وترككم عبادةَ من خلقكم وخلق كلّ شيء, وبيده الخير، وله القدرة على كل شيء، والعالم لكل شيء . القول في تأويل قوله : وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( 81 ) قال أبو جعفر: وهذا جواب إبراهيم لقومه حين خوفوه من آلهتهم أن تمسَّه، لذكره إياها بسوء في نفسه بمكروه, فقال لهم: وكيف أخاف وأرهب ما أشركتموه في عبادتكم ربَّكم فعبدتموه من دونه، وهو لا يضر ولا ينفع ؟ ولو كانت تنفع أو تضر، لدفعت عن أنفسها كسرِى إياها وضربي لها بالفأس! وأنتم لا تخافون الله الذي خلقكم ورزقكم، وهو القادر على نفعكم وضركم في إشراككم في عبادتكم إياه « ما لم ينـزل به عليكم سلطانًا » ، يعني: ما لم يعطكم على إشراككم إياه في عبادته حُجّة, ولم يضع لكم عليه برهانًا, ولم يجعل لكم به عذرًا « فأي الفريقين أحقّ بالأمن » ، يقول: أنا أحق بالأمن من عاقبة عبادتي ربّي مخلصًا له العبادة، حنيفًا له ديني، بريئًا من عبادة الأوثان والأصنام, أم أنتم الذين تعبدون من دون الله أصنامًا لم يجعل الله لكم بعبادتكم إياها برهانًا ولا حجة « إن كنتم تعلمون » ، يقول: إن كنتم تعلمون صدق ما أقول، وحقيقة ما أحتجُّ به عليكم, فقولوا وأخبروني: أيُّ الفريقين أحق بالأمن؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك, كان محمد بن إسحاق يقول فيما:- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق في قوله: « وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله » ، يقول : كيف أخاف وثَنًا تعبدون من دون الله لا يضرُّ ولا ينفع, ولا تخافون أنتم الذي يضر وينفع, وقد جعلتم معه شركاء لا تضر ولا تنفع ؟ « فأيّ الفريقين أحقّ بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أي: بالأمن من عذاب الله في الدنيا والآخرة، الذي يَعْبد الذي بيده الضرّ والنفع، أم الذي يعبد ما لا يضرّ ولا ينفع؟ يضرب لهم الأمثال, ويصرِّف لهم العبر, ليعلموا أنَّ الله هو أحق أن يخاف ويعبد مما يعبُدون من دونه. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: أفلج الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين خاصمهم, فقال: « وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينـزل به عليكم سلطانًا فأيّ الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ؟ ثم قال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قول إبراهيم حين سألهم: « أيُّ الفريقين أحق بالأمن » ، هي حجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره، قال إبراهيم حين سألهم: « فأي الفريقين أحق بالأمن » ؟ قال: وهي حجة إبراهيم عليه السلام . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: « فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أمَنْ يعبد ربًّا واحدًا, أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ يقول قومه: الذين آمنوا برب واحد. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون » ، أمن خاف غير الله ولم يخفه، أم من خاف الله ولم يخف غيره؟ فقال الله تعالى ذكره: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ، الآية. القول في تأويل قوله : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ( 82 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي أخبر تعالى ذكره عنه أنه قال هذا القول أعني: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، الآية. فقال بعضهم: هذا فصلُ القضاء من الله بين إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم، وبين من حاجّه من قومه من أهل الشرك بالله, إذ قال لهم إبراهيم: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ؟ فقال الله تعالى ذكره، فاصلا بينه وبينهم: الذين صدَّقوا الله وأخلصُوا له العبادة, ولم يخلطوا عبادتهم إياه وتصديقهم له بظلم يعني: بشرك ولم يشركوا في عبادته شيئًا, ثم جعلوا عبادتهم لله خالصًا، أحقّ بالأمن من عقابه مكروهَ عبادته ربَّه، من الذين يشركون في عبادتهم إياه الأوثان والأصنامَ, فإنهم الخائفون من عقابه مكروه عبادتهم أمَّا في عاجل الدنيا فإنهم وجِلون من حلول سخَط الله بهم, وأما في الآخرة، فإنهم الموقنون بأليم عذابِ الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، يقول الله تعالى ذكره: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: الذين أخلصوا كإخلاص إبراهيم صلى الله عليه وسلم لعبادة الله وتوحيده « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: بشرك « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، الأمن من العذاب، والهدى في الحجة بالمعرفة والاستقامة. يقول الله تعالى ذكره: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، قال فقال الله وقضى بينهم: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. قال: « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فأما الذنوبُ فليس يبري منها أحدٌ. وقال آخرون: هذا جوابٌ من قوم إبراهيم صلى الله عليه وسلم لإبراهيم، حين قال لهم: « أيُّ الفريقين أحق بالأمن » ؟ فقالوا له: الذين آمنوا بالله فوحّدوه أحق بالأمن، إذا لم يلبسوا إيمانهم بظلم. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، أمن يعبد ربًّا واحدًا أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ يقول قومه: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، بعبادة الأوثان, وهي حجة إبراهيم « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » . قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: هذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن أولى الفريقين بالأمن, وفصل قضاءٍ منه بين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبين قومه. وذلك أن ذلك لو كان من قول قوم إبراهيم الذين كانوا يعبدون الأوثان ويشركونها في عبادة الله, لكانوا قد أقروا بالتوحيد واتبعوا إبراهيم على ما كانوا يخالفونه فيه من التوحيد, ولكنه كما ذكرت من تأويله بَدِيًّا. واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله تعالى بقوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » . فقال بعضهم: بشرك. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا ترونَ إلى قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، [ سورة لقمان : 13 ] ؟ قال أبو كريب قال « ابن إدريس، حدثنيه أوّلا أبي » ، عن أبان بن تغلب, عن الأعمش, ثم سمعتُه قيل له: مِنَ الأعمش؟ قال: نعم! حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثني عمي يحيى بن عيسى, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شقَّ ذلك على المسلمين, فقالوا: يا رسول الله، ما منّا أحدٌ إلا وهو يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس بذلك, ألا تسمعون إلى قول لقمان لابنه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ » حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما تظنُّون, وإنما هو ما قال لقمان لابنه: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية , عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسُوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على الناس, فقالوا: يا رسول الله, وأيُّنا لا يظلم نفسه؟ فقال: « إنه ليس كما تعنون, ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ إنما هو الشرك » . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة في قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل, عن منصور, عن إبراهيم في قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة, عن عبد الله قال: لما نـزلت هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالوا: أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس بذلك, ألم تسمعوا قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير وابن إدريس, عن الشيباني, عن أبي بكر بن أبي موسى, عن الأسود بن هلال, عن أبي بكر: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن يونس بن أبي إسحاق, عن أبي إسحاق، عن أبي بكر: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن سعيد بن عبيد الطائي, عن أبي الأشعر العبدي, عن أبيه: أن زيد بن صوحان سأل سلمان فقال: يا أبا عبد الله، آيةٌ من كتاب الله قد بلغت منِّي كل مبلغ: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ! فقال سلمان: هو الشرك بالله تعالى ذكره. فقال زيد: ما يسرُّني بها أنّي لم أسمعها منك، وأنّ لي مثل كل شيء أمسيتُ أملكه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سعيد بن عبيد, عن أبي الأشعر, عن أبيه, عن سلمان قال: بشرك. حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا نسير بن ذعلوق, عن كردوس, عن حذيفة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن أبي إسحاق الكوفي, عن رجل, عن عيسى, عن حذيفة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. حدثني المثنى قال، حدثنا عارم أبو النعمان قال، حدثنا حماد بن زيد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير وغيره: أن ابن عباس كان يقول: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، يقول: بكفر. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه , عن ابن عباس: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، يقول: لم يلبسوا إيمانهم بالشرك. وقال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . [ سورة لقمان: 13 ] حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثني أبي قال، حدثنا جرير بن حازم, عن علي بن زيد, عن المسيّب: أن عمر بن الخطاب قرأ : « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فلما قرأها فزع, فأتى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر، قرأتُ آية من كتاب الله، مَنْ يَسْلم؟ فقال: ما هي؟ فقرأها عليه فأيُّنا لا يظلِمُ نفسه؟ فقال: غفر الله لك! أما سمعت الله تعالى ذكره يقول: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ؟ إنما هو: ولم يلبسوا إيمانهم بشرك. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن حماد بن سلمة, عن علي بن زيد بن جدعان, عن يوسف بن مهران, عن ابن عباس: أن عمر دخل منـزله فقرأ في المصحف، فمرّ بهذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فأتى أبيًّا فأحبره, فقال: يا أمير المؤمنين، إنما هو الشرك. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن علي بن زيد, عن يوسف بن مهران، عن [ ابن مهران ] : أنَّ عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأه, فدخل ذات يوم فقرأ, فأتى على هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فانفتَل وأخذ رداءه, ثم أتى أبيّ بن كعب فقال: يا أبا المنذر فتلا هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » وقد ترى أنا نظلِم، ونفعل ونفعل! فقال: يا أمير المؤمنين, إن هذا ليس بذاك, يقول الله تعالى ذكره: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، إنما ذلك الشرك. حدثنا هناد قال، حدثنا بن فضيل, عن مطرف, عن أبي عثمان عمرو بن سالم قال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، فقال عمر: قد أفلح من لم يلبس إيمانه بظلم! فقال أبيّ: يا أمير المؤمنين، ذاك الشرك! حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أسباط, عن محمد بن مطرف, عن ابن سالم قال: قرأ عمر بن الخطاب، فذكر نحوه. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة, مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين، عن علي, عن زائدة, عن الحسن بن عبيد الله, عن إبراهيم: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، أي: بشرك. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد, عن أبيه, عن أبي إسحاق, عن أبي ميسرة, مثله . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بعبادة الأوثان. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك . حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن الأعمش: أن ابن مسعود قال: لما نـزلت: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، كبُر ذلك على المسلمين, فقالوا: يا رسول الله, ما منا أحدٌ إلا وهو يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما سمعتم قول لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد في قوله: « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: عبادة الأوثان. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر, عن مسعر, عن أبي حصين, عن أبي عبد الرحمن، قال: بشرك. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق : « ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: بشرك. وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولم يخلطوا إيمانهم بشيء من معاني الظلم، وذلك: فعلُ ما نهى الله عن فعله، أو ترك ما أمر الله بفعله، وقالوا: الآية على العموم , لأن الله لم يخصَّ به معنى من معاني الظلم. قالوا: فإن قال لنا قائل: أفلا أمْن في الآخرة، إلا لمن لم يعص الله في صغيرة ولا كبيرة , وإلا لمن لقى الله ولا ذنبَ له؟ قلنا: إن الله عنى بهذه الآية خاصًّا من خلقه دون الجميع منهم، والذي عنى بها وأراده بها، خليلَه إبراهيم صلى الله عليه وسلم, فأما غيره، فإنه إذا لقي الله لا يشرك به شيئًا فهو في مشيئته إذا كان قد أتى بعض معاصيه التي لا تبلغ أن تكون كفرًا, فإن شاء لم يؤمنه من عذابه, وإن شاء تفضل عليه فعفا عنه. قالوا: وذلك قول جماعة من السلف، وإن كانوا مختلفين في المعنيِّ بالآية. فقال بعضهم: عُني بها إبراهيم. وقال بعضهم: عني بها المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. * ذكر من قال: عنى بهذه الآية إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن, عن قيس بن الربيع, عن زياد بن علاقة, عن زياد بن حرملة, عن علي قال: هذه الآية لإبراهيم صلى الله عليه وسلم خاصة, ليس لهذه الأمة منها شيء. * ذكر من قال: عني بها المهاجرون خاصة. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان وحميد بن عبد الرحمن, عن قيس بن الربيع, عن سماك, عن عكرمة: « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » ، قال: هي لمن هاجر إلى المدينة. قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصحة في ذلك, ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو الخبر الذي رواه ابن مسعود عنه أنه قال: الظلم الذي ذكره الله تعالى ذكره في هذا الموضع، هو الشرك. وأما قوله: « أولئك لهم الأمن وهم مهتدون » ، فإنه يعني: هؤلاء الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بشرك « لهم الأمن » يوم القيامة من عذاب الله « وهم مهتدون » ، يقول: وهم المصيبون سبيل الرشاد، والسالكون طريق النجاة. القول في تأويل قوله : وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 83 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « وتلك حجتنا » ، قولَ إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين: « أي الفريقين أحق بالأمن » , أمن يعبد ربًّا واحدًا مخلصًا له الدين والعبادة، أم من يعبد أربابًا كثيرة؟ وإجابتهم إياه بقولهم: « بل من يعبد ربًّا واحدًا أحق بالأمن » ، وقضاؤهم له على أنفسهم, فكان في ذلك قطع عذرهم وانقطاع حجتهم، واستعلاء حجة إبراهيم عليهم. فهي الحجة التي آتاها الله إبراهيم على قومه، كالذي:- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري, عن رجل, عن مجاهد: « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه » ، قال: هي « الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم » . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا, عن ابن جريج, عن مجاهد قال : قال إبراهيم حين سأل: « أي الفريقين أحق بالأمن » ، قال: هي حجة إبراهيم وقوله: « آتيناها إبراهيم على قومه » ، يقول: لقناها إبراهيم وبَصَّرناه إياها وعرفّناه « على قومه نرفع درجات من نشاء » . واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والبصرة: « نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَشَاءُ » ، بإضافة « الدرجات » إلى « من » , بمعنى: نرفع الدرجات لمن نشاء. وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ بتنوين « الدرجات » , بمعنى: نرفع من نشاء درجات. و « الدرجات » جمع « درجة » ، وهي المرتبة. وأصل ذلك مراقي السلم ودرَجه, ثم تستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: هما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة، متقارب معناهما. وذلك أن من رفعت درجته، فقد رفع في الدرج ومن رفع في الدرج، فقد رفعت درجته. فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك. فمعنى الكلام إذًا: « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه » ، فرفعنا بها درجته عليهم، وشرّفناه بها عليهم في الدنيا والآخرة. فأما في الدنيا، فآتيناه فيها أجره وأما في الآخرة، فهو من الصالحين « نرفع درجات من نشاء » ، أي بما فعل من ذلك وغيره. وأما قوله: « إن ربك حكيم عليم » ، فإنه يعني: إن ربك، يا محمد، « حكيم » ، في سياسته خلقَه، وتلقينه أنبياءه الحجج على أممهم المكذّبة لهم، الجاحدة توحيد ربهم, وفي غير ذلك من تدبيره « عليم » ، بما يؤول إليه أمر رسله والمرسل إليهم، من ثبات الأمم على تكذيبهم إياهم، وهلاكهم على ذلك، أوإنابتهم وتوبتهم منه بتوحيد الله تعالى ذكره وتصديق رسله، والرجوع إلى طاعته. يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: فأتَسِ، يا محمد، في نفسك وقومك المكذبيك، والمشركين، بأبيك خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم, واصبر على ما ينوبك منهم صبرَه, فإني بالذي يؤول إليه أمرك وأمرهم عالم، وبالتدبير فيك وفيهم حكيم. القول في تأويل قوله : وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( 84 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فجزينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم على طاعته إيانا، وإخلاصه توحيد ربه, ومفارقته دين قومه المشركين بالله، بأن رفعنا درجته في عليين, وآتيناه أجره في الدنيا، ووهبنا له أولادًا خصصناهم بالنبوّة, وذرية شرفناهم منا بالكرامة، وفضلناهم على العالمين, منهم: ابنه إسحاق, وابن ابنه يعقوب « كلا هدينا » ، يقول: هدينا جميعهم لسبيل الرشاد, فوفقناهم للحق والصواب من الأديان « ونوحًا هدينا من قبل » ، يقول: وهدينا لمثل الذي هدينا إبراهيم وإسحاق ويعقوب من الحق والصواب، فوفقناه له نوحًا، من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب. « ومن ذريته داود » ، و « الهاء » التي في قوله: « ومن ذريته » ، من ذكر نوح. وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر في سياق الآيات التي تتلو هذه الآية لوطًا فقال: وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ . ومعلوم أن لوطًا لم يكن من ذرية إبراهيم صلى الله عليهم أجمعين. فإذا كان ذلك كذلك, وكان معطوفًا على أسماء من سمَّينا من ذريته, كان لا شك أنه لو أريد بالذرية ذرية إبراهيم، لما دخل يونس ولوط فيهم. ولا شك أن لوطًا ليس من ذرّية إبراهيم، ولكنه من ذرية نوح, فلذلك وجب أن تكون « الهاء » في « الذرية » من ذكر نوح. فتأويل الكلام: ونوحًا وفقنا للحق والصواب من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب, وهدينا أيضًا من ذرّية نوح، داود وسليمان. و « داود » ، هو داود بن إيشا و « سليمان » هو ابنه: سليمان بن داود و « أيوب » ، هو أيوب بن موص بن رزاح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم و « يوسف » ، هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم و « موسى » ، هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب و « هارون » ، أخو موسى. « وكذلك نجزي المحسنين » ، يقول تعالى ذكره: جزينا نوحًا بصبره على ما امتحن به فينا، بأن هديناه فوفقناه لإصابة الحق الذي خذلنا عنه من عصانا فخالف أمرنا ونهينا من قومه, وهدينا من ذريته من بعده من ذكر تعالى ذكره من أنبيائه لمثل الذي هديناه له. وكما جزينا هؤلاء بحسن طاعتهم إيانا وصبرهم على المحن فينا, كذلك نجزي بالإحسان كل محسن. القول في تأويل قوله : وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ( 85 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا لمثل الذي هدينا له نوحًا من الهدى والرشاد من ذريته: زكريا بن إدُّو بن برخيَّا، ويحيى بن زكريا, وعيسى ابن مريم ابنة عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا, وإلياس . واختلفوا في « إلياس » . فكان ابن إسحاق يقول: هو إلياس بن يسى بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، ابن أخي موسى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. وكان غيره يقول: هو إدريس. وممن ذكر ذلك عنه عبد الله بن مسعود. حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبيدة بن ربيعة, عن عبد الله بن مسعود قال: « إدريس » ، هو « إلياس » , و « إسرائيل » ، هو « يعقوب » . وأما أهل الأنساب فإنهم يقولون: « إدريس » ، جدّ نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، و « أخنوخ » هو « إدريس بن يرد بن مهلائيل » . وكذلك روي عن وهب بن منبه. والذي يقول أهل الأنساب أشبه بالصواب. وذلك أنّ الله تعالى ذكره نسب « إلياس » في هذه الآية إلى « نوح » ، وجعله من ذريته، و « نوح » ابن إدريس عند أهل العلم, فمحال أن يكون جدّ أبيه منسوبًا إلى أنه من ذريته. وقوله: « كل من الصالحين » ، يقول: من ذكرناه من هؤلاء الذين سمينا « من الصالحين » , يعني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس صلى الله عليهم. القول في تأويل قوله : وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( 86 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا من ذرية نوح « إسماعيل » وهو: إسماعيل بن إبراهيم « واليسع » ، هو اليسع بن أخْطُوب بن العجوز. واختلفت القرأة في قراءة اسمه. فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: ( وَالْيَسَعَ ) بلام واحدة مخففة. وقد زعم قوم أنه « يفعل » , من قول القائل: « وسِعَ يسع » . ولا تكاد العرب تدخل « الألف واللام » على اسم يكون على هذه الصورة أعني على « يفعل » لا يقولون: « رأيت اليزيد » ولا « أتاني اليَحْيَى » ولا « مررت باليشكر » , إلا في ضرورة شعر , وذلك أيضًا إذا تُحُرِّي به المدح, كما قال بعضهم: وَجَدْنَـا الْوَليـدَ بْـنَ الْـيَزِيدَ مُبَارَكًـا شَــدِيدًا بِأَحْنَــاءِ الْخِلافَـةِ كَاهِلُـهْ فأدخل في « اليزيد » الألف واللام, وذلك لإدخاله إياهما في « الوليد » , فأتبعه « اليزيد » بمثل لفظه. وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفيين: ( وَاللَّيْسَعَ ) بلامين، وبالتشديد, وقالوا: إذا قرئ كذلك، كان أشبه بأسماء العجم، وأنكروا التخفيف. وقالوا: لا نعرف في كلام العرب اسمًا على « يفعل » فيه ألف ولام. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءةُ من قرأه بلام واحدة مخففة, لإجماع أهل الأخبار على أن ذلك هو المعروف من اسمه، دون التشديد, مع أنه اسم أعجمي، فينطق به على ما هو به. وإنما يُعْلَم دخول « الألف واللام » فيما جاء من أسماء العرب على « يفعل » . وأما الاسم الذي يكون أعجميًّا، فإنما ينطق به على ما سَمَّوا به. فإن غُيِّرَ منه شيء إذا تكلمت العرب به، فإنما يغيّر بتقويم حرف منه من غير حذف ولا زيادة فيه ولا نقصان. و « الليسع » إذا شدد، لحقته زيادة لم تكن فيه قبل التشديد. وأخرى، أنه لم يحفظ عن أحد من أهل العلم علمنا أنه قال: اسمه « ليسع » . فيكون مشددًا عند دخول « الألف واللام » اللتين تدخلان للتعريف. و « يونس » هو: يونس بن متى « ولوطًا وكلا فضلنا » ، من ذرية نوح ونوحًا, لهم بينا الحق ووفقناهم له، وفضلنا جميعهم « على العالمين » ، يعني: على عالم أزمانهم. القول في تأويل قوله : وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 87 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهدينا أيضًا من آباء هؤلاء الذين سماهم تعالى ذكره « ومن ذرياتهم وإخوانهم » ، آخرين سواهم، لم يسمهم، للحق والدين الخالص الذي لا شرك فيه, فوفقناهم له « واجتبيناهم » ، يقول: واخترناهم لديننا وبلاغ رسالتنا إلى من أرسلناهم إليه, كالذي اخترنا ممن سمَّينا. يقال منه: « اجتبى فلان لنفسه كذا » ، إذا اختاره واصطفاه، « يجتبيه اجتباء » . وكان مجاهد يقول في ذلك ما:- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: « واجتبيناهم » ، قال: أخلصناهم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد مثله . « وهديناهم إلى صراط مستقيم » ، يقول: وسدّدناهم فأرشدناهم إلى طريق غير معوجّ, وذلك دين الله الذي لا عِوَج فيه, وهو الإسلام الذي ارتضاه الله ربُّنا لأنبيائه, وأمر به عباده. القول في تأويل قوله : ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 88 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « ذلك هدى الله » ، هذا الهدي الذي هديت به من سميت من الأنبياء والرسل، فوفقتهم به لإصابة الدين الحقّ الذي نالوا بإصابتهم إياه رضا ربهم، وشرفَ الدنيا، وكرامة الآخرة, هو « هدى الله » , يقول: هو توفيق الله ولطفه, الذي يوفق به من يشاء، ويلطف به لمن أحب من خلقه, حتى ينيب إلى طاعة الله، وإخلاص العمل له، وإقراره بالتوحيد، ورفضِ الأوثان والأصنام « ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون » ، يقول: ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم، بربهم تعالى ذكره, فعبدوا معه غيره « لحبط عنهم » ، يقول: لبطل فذهبَ عنهم أجرُ أعمالهم التي كانوا يعملون, لأن الله لا يقبل مع الشرك به عملا . القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « أولئك » ، هؤلاء الذين سميناهم من أنبيائه ورسله، نوحًا وذريته الذين هداهم لدين الإسلام، واختارهم لرسالته إلى خلقه, هم « الذين آتيناهم الكتاب » ، يعني بذلك: صحفَ إبراهيم وموسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى صلوات الله عليهم أجمعين « والحكم » ، يعني: الفهم بالكتاب، ومعرفة ما فيه من الأحكام. وروي عن مجاهد في ذلك ما:- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبان قال، حدثنا مالك بن شداد, عن مجاهد: « والحكم والنبوة » ، قال: « الحكم » ، هو اللبُّ. وعنى بذلك مجاهد، إن شاء الله، ما قلت، لأن « اللب » هو « العقل » , فكأنه أراد: أن الله آتاهم العقل بالكتاب, وهو بمعنى ما قلنا أنه الفهم به. وقد بينا معنى « النبوة » و « الحكم » ، فيما مضى بشواهدهما, فأغنى ذلك عن إعادته. القول في تأويل قوله : فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ( 89 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن يكفر: يا محمد، بآيات كتابي الذي أنـزلته إليك فيجحد هؤلاء المشركون العادلون بربهم, كالذي:- حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يقول: إن يكفروا بالقرآن. ثم اختلف أهل التأويل في المعنيّ ب « هؤلاء » . فقال بعضهم: عُني بهم كفار قريش وعنى بقوله: « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، الأنصار. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال, عن قتادة في قول الله تعالى ذكره: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: أهل مكة « فقد وكلنا بها » ، أهل المدينة. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان, عن جويبر, عن الضحاك، « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال : الأنصار. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء, عن جويبر, عن الضحاك: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: إن يكفر بها أهل مكة « فقد وكلنا بها » ، أهل المدينة الأنصار « ليسوا بها بكافرين » . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يقول: إن تكفر بها قريش « فقد وكلنا بها » ، الأنصار. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، أهل مكة « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، أهلَ المدينة. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال: كان أهل المدينة قد تبوءوا الدار والإيمان قبل أن يقدم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أنـزل الله عليهم الآيات، جحد بها أهل مكة. فقال الله تعالى ذكره: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » . قال عطية: ولم أسمع هذا من ابن عباس, ولكن سمعته من غيره. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني أهل مكة. يقول: إن يكفروا بالقرآن « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني أهلَ المدينة والأنصار. وقال آخرون: معنى ذلك: فإن يكفر بها أهل مكة, فقد وكلنا بها الملائكة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن عوف, عن أبي رجاء: « فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، قال: هم الملائكة . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي وعبد الوهاب, عن عوف, عن أبي رجاء, مثله . وقال آخرون: عنى بقوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني قريشًا وبقوله: « فقد وكلنا بها قومًا » ، الأنبياء الذين سماهم في الآيات التي مضت قبلَ هذه الآية. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، يعني أهل مكة « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، وهم الأنبياء الثمانية عشر الذين قال الله: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، قال: يعني قوم محمد. ثم قال: « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني: النبيين الذين قص قبل هذه الآية قصصهم. ثم قال: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » . قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: عنى بقوله: « فإن يكفر بها هؤلاء » ، كفار قريش « فقد وكلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين » ، يعني به الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر, فما بينها بأن يكون خبرًا عنهم، أولى وأحق من أن يكون خبرًا عن غيرهم. فتأويل الكلام، إذ كان ذلك كذلك: فإن كفر قومك من قريش، يا محمد، بآياتنا, وكذبوا وجحدوا حقيقتها, فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رُسلَنا وأنبياءنا من قبلك، الذين لا يجحدون حقيقتها، ولا يكذبون بها, ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها. وقد قال بعضهم: معنى قوله: « فقد وكّلنا بها قومًا » ، رزقناها قومًا. القول في تأويل قوله : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « أولئك » ، هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين, هم الذين هداهم الله لدينه الحق, وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه، والقيام بحدوده، واتباع حلاله وحرامه، والعمل بما فيه من أمر الله، والانتهاء عما فيه من نهيه, فوفقهم جل ثناؤه لذلك « فبهداهم اقتده » ، يقول تعالى ذكره: فبالعمل الذي عملوا، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم، والتوفيق الذي وفقناهم « اقتده » ، يا محمد، أي: فاعمل، وخذ به واسلكه, فإنه عمل لله فيه رضًا، ومنهاجٌ من سلكه اهتدى. وهذا التأويل على مذهب من تأوّل قوله: فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ، أنهم الأنبياء المسمون في الآيات المتقدمة. وهو القول الذي اخترناه في تأويل ذلك. وأما على تأويل من تأول ذلك: أن القوم الذين وكّلوا بها هم أهل المدينة أو: أنهم هم الملائكة فإنهم جعلوا قوله: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ، اعتراضًا بين الكلامين, ثم ردّوا قوله: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » ، على قوله: « أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة » . ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ إلى قوله: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » ، يا محمد . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « أولئك الذين هدى الله » ، يا محمد, « فبهداهم اقتده » ، ولا تقتد بهؤلاء. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: « أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده » . حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: ثم قال في الأنبياء الذين سماهم في هذه الآية: « فبهداهم اقتده » . ومعنى: « الاقتداء » في كلام العرب، بالرجل: اتباع أثره، والأخذ بهديه. يقال: « فلان يقدو فلانًا » ، إذا نحا نحوه، واتبع أثره, « قِدَة، وقُدوة وقِدوة وقِدْيَة » . القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( 90 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » لهؤلاء الذين أمرتك أن تذكّرهم بآياتي، أن تبسَل نفس بما كسبت، من مشركي قومك يا محمد: « لا أسألكم » ، على تذكيري إياكم، والهدى الذي أدعوكم إليه، والقرآن الذي جئتكم به, عوضًا أعتاضه منكم عليه، وأجرًا آخذه منكم, وما ذلك مني إلا تذكير لكم، ولكل من كان مثلكم ممن هو مقيم على باطل، بَأسَ الله أن يَحُلّ بكم، وسَخَطه أن ينـزل بكم على شرككم به وكفركم وإنذارٌ لجميعكم بين يدي عذاب شديد, لتذكروا وتنـزجروا. لقول في تأويل قوله : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « وما قدروا الله حق قدره » ، وما أجلُّوا الله حق إجلاله, ولا عظموه حق تعظيمه « إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، يقول: حين قالوا: لم ينـزل الله على آدميٍّ كتابًا ولا وحيًا. واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: « إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، وفي تأويل ذلك. فقال بعضهم: كان قائل ذلك رجلا من اليهود. ثم اختلفوا في اسم ذلك الرجل. فقال بعضهم: كان اسمه: مالك بن الصيف. وقال بعضهم: كان اسمه فنحاص. واختلفوا أيضًا في السبب الذي من أجله قال ذلك. * ذكر من قال: كان قائل ذلك: مالك بن الصيف. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي , عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنـزل التوراة على موسى, أما تجد في التوراة أن الله يُبْغِض الحَبْر السمين؟ وكان حبرًا سمينًا, فغضب فقال: والله ما أنـزل الله على بشر من شيء ! فقال له أصحابه الذين معه: ويحك! ولا موسى! فقال: والله ما أنـزل الله على بشر من شيء ! فأنـزل الله: « وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى » ، الآية . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قال: نـزلت في مالك بن الصيف، كان من قريظة، من أحبار يهود « قل » يا محمد مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، الآية . * ذكر من قال: نـزلت في فنحاص اليهوديّ. حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قال: قال فنحاص اليهوديّ: ما أنـزل الله على محمد من شيء! وقال آخرون: بل عنى بذلك جماعة من اليهود، سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آيات مثل آيات موسى. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، حدثنا يونس قال، حدثنا أبو معشر المدني, عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناسٌ من يهودَ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مُحْتَبٍ, فقالوا: يا أبا القاسم, ألا تأتينا بكتاب من السماء، كما جاء به موسى ألواحًا يحملها من عند الله؟ فأنـزل الله: يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَـزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ، الآية [ سورة النساء : 153 ] . فجثا رجل من يهود فقال: ما أنـزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئًا! فأنـزل الله: « وما قدروا الله حق قدره » . قال محمد بن كعب: ما علموا كيف الله « إِذْ قَالُوا مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا » ، فحلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُبْوته, وجعل يقول: « ولا على أحَدٍ » . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، إلى قوله: فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ، هم اليهود والنصارى, قوم آتاهم الله علمًا فلم يقتدوا به، ولم يأخذوا به، ولم يعملوا به, فذمهم الله في عملهم ذلك. ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: إن من أكثر ما أنا مخاصَمٌ به غدًا أن يقال: يا أبا الدرداء، قد علمت, فماذا عملت فيما علمت ؟ حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، يعني من بني إسرائيل، قالت اليهود: يا محمد، أنـزل الله عليك كتابًا؟ قال: نعم! قالوا: والله ما أنـزل الله من السماء كتابًا! قال: فأنـزل الله: « قل » يا محمد مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، إلى قوله : وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: الله أنـزله . وقال آخرون: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن مشركي قريش أنهم قالوا: « ما أنـزل الله على بشر من شيء » . ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول: « وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنـزل الله على بشر من شيء » ، قالها مشركو قريش. قال: وقوله: ( قُلْ مَنْ أَنـزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلناسِ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) ، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا. قال: وقوله: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، قال: هذه للمسلمين. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، قال: هم الكفار، لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم, فمن آمنَ أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره. ومن لم يؤمن بذلك، فلم يقدر الله حق قدره. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وما قدروا الله حق قدره » ، يقول: مشركو قريش . قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: عني بقوله « وما قدروا الله حق قدره » ، مشركو قريش. وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا فأن يكون ذلك أيضًا خبرًا عنهم، أشبهُ من أن يكون خبرًا عن اليهود ولما يجر لهم ذكرٌ يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنـزل على بشر شيئًا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود, بل المعروف من دين اليهود: الإقرار بصُحُف إبراهيم وموسى، وزبور داود. وإذا لم يأت بما روي من الخبر، بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبرٌ صحيح متصل السند ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماعٌ وكان الخبر من أوّل السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرًا عن المشركين من عبدة الأوثان وكان قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، موصولا بذلك غير مفصول منه لم يجز لنا أن ندّعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول، إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. ولكني أظن أن الذين تأوّلوا ذلك خبرًا عن اليهود, وجدوا قوله: « قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » ، فوجهوا تأويل ذلك إلى أنه لأهل التوراة, فقرءوه على وجه الخطاب لهم: تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ ، فجعلوا ابتداء الآية خبرًا عنهم, إذ كانت خاتمتها خطابًا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنـزيل, لما وصفت قبل من أن قوله: « وما قدروا الله حق قدره » ، في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل, فالأولى أن يكون ذلك خبرًا عنهم . والأصوب من القراءة في قوله: ( يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) ، أن يكون بالياء لا بالتاء, على معنى: أنّ اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا, ويكون الخطاب بقوله : قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ ، لمشركي قريش. وهذا هو المعنى الذي قصده مجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك, وكذلك كان يقرأ. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد أنه كان يقرأ هذا الحرف: ( يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا ) . القول في تأويل قوله : قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لمشركي قومك القائلين لك: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قل: « من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا » ، يعني: جلاءً وضياء من ظلمة الضلالة « وهدى للناس » ، يقول: بيانًا للناس, يبين لهم به الحق من الباطل فيما أشكل عليهم من أمر دينهم « تجعلونه قراطيس تبدونها » . فمن قرأ ذلك: ( تَجْعَلُونَهُ ) ، جعله خطابًا لليهود على ما بيّنت من تأويل من تأوّل ذلك كذلك. ومن قرأه بالياء: ( يَجْعَلُونَهُ ) ، فتأويله في قراءته: يجعله أهله قراطيس, وجرى الكلام في « يبدونها » بذكر « القراطيس » , والمراد منه المكتوب في القراطيس, يراد: يبدون كثيرًا مما يكتبون في القراطيس فيظهارونه للناس، ويخفون كثيرًا مما يثبتونه في القراطيس فيسرُّونه ويكتمونه الناس. ومما كانوا يكتمونه إياهم، ما فيها من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، كالذي:- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، اليهود. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: « قل » يا محمد « من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها » ، يعني يهود، لما أظهروا من التوراة « ويخفون كثيرًا » ، مما أخفوا من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وما أنـزل عليه قال ابن جريج: وقال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول: « يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، قال: هم يهود، الذين يبدونها ويخفون كثيرًا. القول في تأويل قوله : وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( 91 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعلمكم الله جل ثناؤه بالكتاب الذي أنـزله إليكم، ما لم تعلموا أنتم من أخبار من قبلكم، ومن أنباء من بعدكم، وما هو كائن في معادكم يوم القيامة « ولا آباؤكم » ، يقول: ولم يعلمه آباؤكم، أيها المؤمنون بالله من العرب وبرسوله صلى الله عليه وسلم، كالذي:- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن أيوب, عن مجاهد: « وعلمتم » ، معشرَ العرب « ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: قال عبد الله بن كثير: إنه سمع مجاهدًا يقول في قوله: « وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم » ، قال: هذه للمسلمين . وأما قوله: « قل الله » ، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يجيبَ استفهامَه هؤلاء المشركين عما أمره باستفهامهم عنه بقوله: « قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرًا » ، بقيل الله، كأمره إياه في موضع آخر في هذه السورة بقوله: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، [ سورة الأنعام : 63 ] . فأمره باستفهام المشركين عن ذلك, كما أمره باستفهامهم إذ قالوا: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، عمن أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس. ثم أمره بالإجابة عنه هنالك بقيله: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [ سورة الأنعام : 64 ] ، كما أمره بالإجابة ههنا عن ذلك بقيله: الله أنـزله على موسى، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، قال: الله أنـزله. ولو قيل: معناه: « قل: هو الله » ، على وجه الأمر من الله له بالخبر عن ذلك لا على وجه الجواب، إذ لم يكن قوله: قُلْ مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ مسألة من المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم, فيكون قوله: « قل الله » ، جوابًا لهم عن مسألتهم, وإنما هو أمرٌ من الله لمحمد بمسألة القوم: مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ ؟ فيجب أن يكون الجواب منهم غير الذي قاله ابن عباس من تأويله كان جائزًا، من أجل أنه استفهام, ولا يكون للاستفهام جوابٌ، وهو الذي اخترنا من القول في ذلك لما بينا. وأما قوله: « ثم ذرهم في خوضهم يلعبون » ، فإنه يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ثم ذَرْ هؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام، بعد احتجاجك عليهم في قيلهم: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، بقولك: مَنْ أَنْـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ ، وإجابتك ذلك بأن الذي أنـزله: الله الذي أنـزل عليك كتابه « في خوضهم » ، يعني: فيما يخوضون فيه من باطلهم وكفرهم بالله وآياته « يلعبون » ، يقول: يستهزئون ويسخرون. وهذا من الله وعيد لهؤلاء المشركين وتهدُّد لهم: يقول الله جل ثناؤه: ثم دعهم لاعبين، يا محمد. فإني من وراء ما هم فيه من استهزائهم بآياتي بالمرصاد، وأذيقهم بأسي, وأحلّ بهم إن تمادوا في غَيِّهم سَخَطي. القول في تأويل قوله : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا القرآن، يا محمد « كتاب » . وهو اسم من أسماء القرآن، قد بينته وبينت معناه فيما مضى قبلُ بما أغنى عن إعادته، ومعناه مكتوب, فوضع « الكتاب » مكان « المكتوب » . « أنـزلناه » ، يقول: أوحيناه إليك « مبارك » ، وهو « مفاعل » من « البركة » « مصدّق الذي بين يديه » ، يقول: صدّق هذا الكتاب ما قبله من كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه قبلك, لم يخالفها [ دلالة ومعنى ] نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ , يقول: هو الذي أنـزل إليك، يا محمد، هذا الكتاب مباركًا، مصدقًا كتاب موسى وعيسى وغير ذلك من كتب الله. ولكنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عنه, إذ كان قد تقدم [ من ] الخبر عن ذلك ما يدل على أنه [ له ] مواصل, فقال: « وهذا كتاب أنـزلناه إليك مبارك » , ومعناه: وكذلك أنـزلت إليك كتابي هذا مباركًا, كالذي أنـزلت من التوراة إلى موسى هدى ونورًا. وأما قوله: « ولتنذر أمَّ القرى ومن حولها » ، فإنه يقول: أنـزلنا إليك، يا محمد، هذا الكتاب مصدِّقًا ما قبله من الكتب, ولتنذِر به عذابَ الله وبأسَه مَنْ في أم القرى، وهي مكة « ومن حولها » ، شرقًا وغربًا، من العادلين بربّهم غيره من الآلهة والأنداد, والجاحدين برسله، وغيرهم من أصناف الكفار. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، يعنى ب « أم القرى » ، مكة « ومن حولها » ، من القرى إلى المشرق والمغرب. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، و « أم القرى » ، مكة « ومن حولها » ، الأرض كلها. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: « ولتنذر أم القرى » ، قال: هي مكة وبه عن معمر, عن قتادة قال: بلغني أن الأرض دُحِيَتْ من مكة. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، كنا نُحَدّث أن أم القرى، مكة وكنا نحدَّث أن منها دُحيت الأرض. حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: « ولتنذر أم القرى ومن حولها » ، أما « أم القرى » فهي مكة، وإنما سميت « أم القرى » , لأنها أول بيت وضع بها. وقد بينا فيما مضى العلة التي من أجلها سميت مكة « أم القرى » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 92 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن كان يؤمن بقيام الساعة والمعادِ في الآخرة إلى الله، ويصدِّق بالثواب والعقاب, فإنه يؤمن بهذا الكتاب الذي أنـزلناه إليك، يا محمد، ويصدق به، ويقرّ بأن الله أنـزله, ويحافظ على الصلوات المكتوبات التي أمرَه الله بإقامتها، لأنه منذرُ من بلغه وعيدَ الله على الكفر به وعلى معاصيه, وإنما يجحد به وبما فيه ويكذِّب، أهل التكذيب بالمعاد، والجحود لقيام الساعة, لأنه لا يرجو من الله إن عمل بما فيه ثوابًا, ولا يخاف إن لم يجتنب ما يأمره باجتنابه عقابًا. القول في تأويل قوله : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا » ، ومن أخطأ قولا وأجهل فعلا « ممن افترى على الله كذبًا » , يعني: ممن اختلق على الله كذبًا, فادعى عليه أنه بعثه نبيًّا وأرسله نذيرًا, وهو في دعواه مبطل، وفي قيله كاذب. وهذا تسفيهٌ من الله لمشركي العرب، وتجهيلٌ منه لهم، في معارضة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، والحنفيِّ مسيلمة، لنبي الله صلى الله عليه وسلم، بدعوى أحدهما النبوّة، ودعوى الآخر أنه قد جاء بمثل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفْيٌ منه عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اختلاقَ الكذب عليه ودعوى الباطل. وقد اختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم فيه نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين, قال حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة قوله: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، قال: نـزلت في مسيلمة أخي بني عدي بن حنيفة، فيما كان يسجع ويتكهن به « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح, أخي بني عامر بن لؤي, كان كتب للنبي صلى الله عليه وسلم, وكان فيما يملي « عَزِيزٌ حَكِيمٌ » , فيكتب « غَفُورٌ رَحِيمٌ » , فيغيره, ثم يقرأ عليه « كذا وكذا » ، لما حوَّل, فيقول: « نعم، سواءٌ » . فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال لهم: لقد كان ينـزل عليه « عَزِيزٌ حَكِيمٌ » فأحوِّله، ثم أقرأ ما كتبت, فيقول: « نعم سواء » ! ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة, إذ نـزل النبي صلى الله عليه وسلم بمرّ. وقال بعضهم: بل نـزل ذلك في عبد الله بن سعد خاصة . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط, عن السدي: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوحَ إليه شيء » إلى قوله: تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ . قال: نـزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، أسلم, وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم, فكان إذا أملى عليه: « سميعًا عليمًا » , كتب هو: « عليمًا حكيمًا » ، وإذا قال: « عليمًا حكيمًا » كتب: « سميعًا عليمًا » ، فشكّ وكفر, وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ, وإن كان الله ينـزله فقد أنـزلت مثل ما أنـزل الله ! قال محمد: « سميعًا عليمًا » فقلت أنا: « عليمًا حكيمًا » ! فلحق بالمشركين, ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار. فأخذوهم فعُذِّبوا حتى كفروا، وجُدِعت أذن عمار يومئذ. فانطلق عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما لقي، والذي أعطاهم من الكفر, فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولاه, فأنـزل الله في شأن ابن أبي سرح وعمار وأصحابه: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا [ سورة النحل :106 ] ، فالذي أكره: عمار وأصحابه والذي شرح بالكفر صدرًا، فهو ابن أبي سرح. وقال آخرون: بل القائل: « أوحي إلي ولم يوح إليه شيء » ، مسيلمة الكذاب. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، ذكر لنا أن هذه الآية نـزلت في مسيلمة. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين من ذهب, فكبرا عليّ وأهمّاني, فأوحى إليّ: أن انفخهما, فنفختهما فطارا, فأوَّلتهما في منامي الكذَّابين اللذين أنا بينهما، كذّاب اليمامةِ مُسيلمة, وكذّاب صنعاء العنسي. وكان يقال له: « الأسود » . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: « أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، قال: نـزلت في مسيلمة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة وزاد فيه: وأخبرني الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « بينا أنا نائم رأيتُ في يديّ سوارين من ذهب, فكبر ذلك عليّ, فأوحي إلي أن انفخهما, فنفخهما فطارا, فأوّلت ذلك كذاب اليمامة وكذاب صنعاء العنسي. » قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله قال: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء » ، ولا تمانُع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: « إني قد قلت مثل ما قال محمد » , وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا كذبًا. وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسيّ الكذابين، ادّعيا على الله كذبًا. أنه بعثهما نبيين, وقال كل واحد منهما إنّ الله أوحى إليه، وهو كاذب في قيله. فإذ كان ذلك كذلك, فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقًا على الله كذبًا، وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره: « أوحى الله إلي » , وهو في قيله كاذب، لم يوح الله إليه شيئًا. فأما التنـزيل، فإنه جائز أن يكون نـزل بسبب بعضهم وجائز أن يكون نـزل بسبب جميعهم وجائز أن يكون عني به جميعُ المشركين من العرب إذ كان قائلو ذلك منهم، فلم يغيّروه. فعيّرهم الله بذلك، وتوعّدهم بالعقوبة على تركهم نكيرَ ذلك، ومع تركهم نكيرَه هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون, ولنبوّته جاحدون, ولآيات كتاب الله وتنـزيله دافعون, فقال لهم جل ثناؤه: « ومن أظلم ممن ادّعى عليّ النبوّة كاذبًا » ، وقال: « أوحي إلي » ، ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ، فينقض قولَه بقوله, ويكذب بالذي تحققه, وينفي ما يثبته. وذلك إذا تدبره العاقلُ الأريب علم أن فاعله من عقله عديم . وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول في قوله: « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، ما:- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ومن قال سأنـزل مثل ما أنـزل الله » ، قال: زعم أنه لو شاء قال مثله يعني الشعر . فكأنّ ابن عباس في تأويله هذا على ما تأوّله، يوجِّه معنى قول قائل: « سأنـزل مثل ما أنـزل الله » , إلي: سأنـزل مثل ما قال الله من الشعر. وكذلك تأوّله السدي. وقد ذكرنا الرواية عنه قبل فيما مضى. القول في تأويل قوله : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو ترى، يا محمد، حين يغمر الموت بسكراته هؤلاء الظالمين العادلين بربهم الآلهة والأنداد, والقائلين: مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ , والمفترين على الله كذبًا، الزاعمين أنّ الله أوحى إليه ولم يوحَ إليه شيء, والقائلين: سَأُنْـزِلُ مِثْلَ مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ ، فتعاينهم وقد غشيتهم سكرات الموت, ونـزل بهم أمر الله, وحان فناء آجالهم, والملائكة باسطو أيديهم يضربون وجوههم وأدبارهم, كما قال جل ثناؤه: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [ سورة محمد : 27 ، 28 ] . يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم. و « الغمرات » جمع « غمرة » , و « غمرة كل شيء » ، كثرته ومعظمه, وأصله الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها, ومنه قول الشاعر: وَهَــلْ يُنْجِــي مِـنَ الْغَمَـرَاتِ إلا بُرَاكَـــاءُ القِتَـــالِ أوِ الفِــرَارُ وروي عن ابن عباس في ذلك, ما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت » ، قال: سكرات الموت. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « في غمرات الموت » ، يعني سكرات الموت. وأما « بسط الملائكة أيديها » ، فإنه مدُّها. ثم اختلف أهل التأويل في سبب بسطها أيديها عند ذلك. فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم » ، قال: هذا عند الموت، « والبسط » ، الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي, قال حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم » ، يقول: « الملائكة باسطو أيديهم » ، يضربون وجوههم وأدبارهم والظالمون في غمرات الموت, وملك الموت يتوفّاهم. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والملائكة باسطو أيديهم » ، يضربونهم . وقال آخرون: بل بسطها أيديها بالعذاب. ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن جويبر, عن الضحاك: « والملائكة باسطو أيديهم » ، قال : بالعذاب. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن أبي صالح: « والملائكة باسطو أيديهم » ، بالعذاب. وكان بعض نحويي الكوفيين يتأوّل ذلك بمعنى: باسطو أيديهم بإخراج أنفسهم. فإن قال قائل: ما وجه قوله: « أخرجوا أنفسكم » ، ونفوس بني آدم إنما يخرجها من أبدان أهلها رب العالمين؟ فكيف خوطب هؤلاء الكفار, وأمروا في حال الموت بإخراج أنفسهم؟ فإن كان ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون بنو آدم هم يقبضون أنفس أجسامهم! قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي [ إليه ] ذهبت وإنما ذلك أمرٌ من الله على ألسن رُسله الذين يقبضون أرواحَ هؤلاء القوم من أجسامهم, بأداء ما أسكنها ربها من الأرواح إليه، وتسليمها إلى رسله الذين يتوفَّونها. القول في تأويل قوله : الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( 93 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما تقولُ رسل الله التي تقبض أرواحَ هؤلاء الكفار لها, يخبر عنها أنها تقول لأجسامها ولأصحابها: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ، إلى سخط الله ولعنته, فإنكم اليوم تُثابون على كفركم بالله, وقيلكم عليه الباطل, وزعمكم أن الله أوحى إليكم ولم يوحَ إليكم شيئًا, وإنكاركم أن يكون الله أنـزل على بشر شيئًا, واستكباركم عن الخضوع لأمر الله وأمر رسوله، والانقياد لطاعته « عذابَ الهون » ، وهو عذاب جهنم الذي يُهينُهم فيذلّهم, حتى يعرفوا صَغَار أنفسهم وذِلَّتَها، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « عذاب الهون » ، فالذي يهينهم. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: « اليوم تجزون عذاب الهون » ، قال: عذاب الهون، في الآخرة بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . والعرب إذا أرادت ب « الْهُونِ » معنى « الهوان » ، ضمت « الهاء » , وإذا أرادت به الرفق والدَّعَة وخفة المؤونة، فتحت « الهاء » , فقالوا: هو « قليل هَوْن المؤونة » ، ومنه قول الله: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [ سورة الفرقان : 63 ] ، يعني: بالرفق والسكينة والوقار، ومنه قول جندل بن المثنَّى الطُّهويّ: وَنَقْــضَ أَيْــامٍ نَقَضْــنَ أَسْــرَهُ هَوْنًــا وَأَلْقَــى كُـلُّ شَـيْخٍ فَخـرَهُ ومنه قول الآخر: هَوْنَكُمَــا لا يَـرُدُّ الدَّهْـرُ مـا فَاتَـا لا تَهْلِكَـا أَسَـفًا فِـي إِثْـرِ مَـنْ مَاتَا يريد: أرْوِدا. وقد حكي فتح « الهاء » في ذلك بمعنى « الهوان » ، واستشهدوا على ذلك ببيت عامر بن جُوَين: يُهِيـنُ النفُــوسَ, وَهَــوْنُ النُّفُــو سِ عِنْـدَ الكَرِيهَـــةِ أَغْلَى لَهَــا والمعروف من كلامهم، ضمُّ « الهاء » منه، إذا كان بمعنى الهوان والذل, كما قال ذو الإصبع العدواني: اذْهَــبْ إلَيْـكَ فَمَـا أُمِّـي بِرَاعِيَـةٍ تَرْعَى الْمَخَاضَ وَلا أُغْضِي عَلَى الهُونِ يعني: على الهوان وإذا كان بمعنى الرفق، ففتْحُها. القول في تأويل قوله : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الآلهة والأنداد, يخبر عبادَه أنه يقول لهم عند ورودهم عليه: « لقد جئتمونا فرادى » . ويعني بقوله: « فرادى » ، وُحدانًا لا مال معهم، ولا إناث، ولا رقيق، ولا شيء مما كان الله خوّلهم في الدنيا « كما خلقناكم أوّل مرة » ، عُرَاة غُلْفًا غُرْلا حُفاة، كما ولدتهم أمهاتهم, وكما خلقهم جل ثناؤه في بطون أمهاتهم, لا شيء عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهَوْن به في الدنيا. و « فرادى » ، جمع, يقال لواحدها: « فَرِد » , كما قال نابغة بني ذبيان: مِـنْ وَحْـشِ وَجْـرَةَ مَوْشـيٍّ أَكَارِعُهُ طَـاوِي المَصِـيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ و « فَرَدٌ » و « فريد » , كما يقال: « وَحَد » و « وَحِد » و « وحيد » في واحد « الأوحاد » . وقد يجمع « الفَرَد » « الفُرَاد » كما يجمع « الوَحَد » ، « الوُحَاد » , ومنه قول الشاعر: تَـرَى النَّعَـرَاتِ الـزُّرْقَ فَـوْقَ لَبَانِه فُـرَادَى وَمَثْنًـى أَصْعَقَتْهَـا صَوَاهِلُـهْ وكان يونس الجرْميّ، فيما ذكر عنه، يقول: « فُراد » جمع « فَرْد » , كما قيل: « تُؤْم » و « تُؤَام » للجميع. ومنه: « الفُرَادى » ، و « الرُّدَافى » و « القُرَانى » . يقال: « رجل فرد » و « امرأة فرد » , إذا لم يكن لها أخٌ. « وقد فَرد الرجلُ فهو يفرُد فرودًا » , يراد به تفرَّد, « فهو فارد » . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، [ قال ابن زيد قال ] ، أخبرني عمرو: أن ابن أبي هلال حدثه: أنه سمع القرظيّ يقول: قرأت عائشةُ زوجُ النبي صلى الله عليه وسلم قولَ الله: « ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة » ، فقالت: واسوأتاه, إن الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ , لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء إلى الرجال, شغل بعضهم عن بعض. وأما قوله: « وتركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم » ، فإنه يقول: خلفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها، خلفكم في الدنيا فلم تحملوه معكم. وهذا تعيير من الله جل ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم. وكل ما ملكته غيرك وأعطيته: « فقد خوّلته » , يقال منه: « خال الرجل يَخَال أشدّ الخِيال » بكسر الخاء « وهو خائل » , ومنه قول أبي النجم: أَعْطَــى فَلَــمْ يَبْخَـلْ وَلَـمْ يُبَخَّـلِ كَـومَ الـذُّرَى مِـنْ خَـوَلِ المُخَــوِّلِ وقد ذكر أن أبا عمرو بن العلاء كان ينشد بيت زهير: هُنَـالِكَ إِنْ يُسْـتَخْوَلُوا الْمَـالَ يُخـوِلُوا وَإن يُسْـأَلُوا يُعطُـوا وَإِنْ يَيْسِرُوا يُغْلُوا وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك : حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وتركتم ما خوّلناكم » ، من المال والخدم « وراء ظهوركم » ، في الدنيا. القول في تأويل قوله : وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة. وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في النضر بن الحارث، لقيله: إنّ اللات والعزى يشفعان لهُ عند الله يوم القيامة. وقيل: إن ذلك كان قول كافة عَبَدة الأوثان. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: « وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء » ، فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدُون الآلهة، لأنهم شفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنّ هذه الآلهة شركاءُ لله. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث: « سوف تشفع لي اللات والعزَّى » ! فنـزلت هذه الآية: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، إلى قوله: « شركاء » . القول في تأويل قوله : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( 94 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الأنداد: « لقد تقطع بينكم » ، يعني تواصلَهم الذي كان بينهم في الدنيا, ذهب ذلك اليوم, فلا تواصل بينهم ولا توادّ ولا تناصر, وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون، فاضمحلّ ذلك كله في الآخرة, فلا أحدَ منهم ينصر صاحبه، ولا يواصله. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى , عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لقد تقطع بينكم » ، « البين » ، تواصلهم. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « لقد تقطع بينكم » ، قال: تواصلهم في الدنيا . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « لقد تقطع بينكم » ، قال: وصلكم. وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « لقد تقطع بينكم » ، قال: ما كان بينكم من الوصل. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس: « لقد تقطع بينكم وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون » ، يعني الأرحام والمنازل. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « لقد تقطع بينكم » ، يقول: تقطع ما بينكم. حدثنا أبو كريب قال، قال أبو بكر بن عياش: « لقد تقطع بينكم » ، التواصل في الدنيا. واختلفت القرأة في [ قراءة ] قوله: « بينكم » . فقرأته عامة قرأة أهل المدينة نصبًا، بمعنى: لقد تقطع ما بينكم. وقرأ ذلك عامة قرأة مكة والعراقَيْن: ( لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ ) ، رفعًا, بمعنى: لقد تقطع وصلُكم. قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان باتفاق المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ. وذلك أن العرب قد تنصب « بين » في موضع الاسم. ذكر سماعًا منها: « أتاني نحَوك، ودونَك، وسواءَك » , نصبًا في موضع الرفع. وقد ذكر عنها سماعًا الرفع في « بين » ، إذا كان الفعل لها، وجعلت اسمًا، وينشد بيت مهلهل: كَــأَنَّ رِمــاحَهُم أَشْــطَانُ بِــئْرٍ بَعِيـــدٍ بَيْــنُ جَالَيْهَــا جَــرُورِ برفع « بين » ، إذ كانت اسمًا، غير أن الأغلب عليهم في كلامهم النصبُ فيها في حال كونها صفة، وفي حال كونها اسمًا. وأما قوله: « وضل عنكم ما كنتم تزعمون » ، فإنه يقول: وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم, وأنه لكم شفيع عند ربكم, فلا يشفع لكم اليوم. القول في تأويل قوله : إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى قال أبو جعفر: وهذا تنبيهٌ من الله جل ثناؤه هؤلاء العادلين به الآلهة والأوثان على موضع حجّته عليهم, وتعريفٌ منه لهم خطأ ما هم عليه مقيمون من إشراك الأصنام في عبادتهم إياه. يقول تعالى ذكره: إن الذي له العبادة، أيها الناس، دون كل ما تعبدون من الآلهة والأوثان, هو الله الذي فَلق الحبَّ يعني: شق الحبَّ من كل ما ينبت من النبات, فأخرج منه الزرع « والنوى » ، من كل ما يغرس مما له نَواة, فأخرج منه الشجر. و « الحبّ » جمع « الحبة » , و « النوى » جمع « النواة » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « إن الله فالق الحب والنوى » ، أما « فالق الحب والنوى » : ففالق الحب عن السنبلة, وفالق النواة عن النخلة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فالق الحب والنوى » ، قال: يفلق الحب والنوى عن النبات. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « فالق الحب والنوى » ، قال: الله فالق ذلك, فلقه فأنبت منه ما أنبت. فلق النواة فأخرج منها نَبَات نخلة, وفلق الحبة فأخرج نبات الذي خلق. وقال آخرون: معنى « فالق » ، خالق. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا مروان بن معاوية, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: خالق الحب والنوى. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك, مثله . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: خالق الحب والنوى. وقال آخرون: معنى ذلك: أنه فلق الشقّ الذي في الحبّة والنواة. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « فالق الحب والنوى » ، قال: الشقان اللذان فيهما. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد, عن حصين, عن أبي مالك في قول الله: « إن الله فالق الحب والنوى » ، قال: الشق الذي يكون في النواة وفي الحنطة . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: « فالق الحب والنوى » ، قال: الشقان اللذان فيهما. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فالق الحب والنوى » ، يقول: خالق الحب والنوى, يعني كلّ حبة . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، ما قدّمنا القول به. وذلك أن الله جل ثناؤه أتبع ذلك بإخباره عن إخراجه الحي من الميت والميت من الحي, فكان معلومًا بذلك أنه إنَّما عنى بإخباره عن نفسه أنّه فالق الحب عن النبات، والنوى عن الغُرُوس والأشجار, كما هو مخرج الحي من الميت، والميّت من الحي. وأما القول الذي حكي عن الضحاك في معنى « فالق » ، أنه خالق, فقولٌ إن لم يكن أراد به أنّه خالق منه النبات والغُروس بفلقه إياه لا أعرف له وجهًا, لأنه لا يعرف في كلام العرب: « فلق الله الشيء » ، بمعنى: خلق . القول في تأويل قوله : يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 95 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يخرج السنبل الحيّ من الحبّ الميت, ومخرج الحبِّ الميت من السنبل الحيّ, والشجرِ الحيّ من النوى الميت, والنوى الميِّت من الشجر الحيّ. والشجر ما دام قائمًا على أصوله لم يجفّ، والنبات على ساقه لم ييبَس, فإن العرب تسميه « حَيًّا » , فإذا يبس وجفّ أو قطع من أصله، سمّوه « ميتًا » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « يخرج الحي من الميت » ، فيخرج السنبلة الحية من الحبة الميتة, ويخرج الحبة الميتة من السنبلة الحية, ويخرج النخلة الحية من النواة الميتة, ويخرج النواة الميتة من النخلة الحية. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن السدي, عن أبي مالك: « يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي » ، قال: النخلة من النواة، والنواة من النخلة, والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة. وقال آخرون بما:- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ) ، قال: يخرج النطفة الميتة من الحي, ثم يخرج من النطفة بشرًا حيًّا. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا التأويل الذي اخترنا في ذلك, لأنه عَقِيب قوله: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ، على أن قوله: « يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي » ، وإن كان خبرًا من الله عن إخراجه من الحبّ السنبل ومن السنبل الحب, فإنه داخل في عمومه ما رُوي عن ابن عباس في تأويل ذلك. وكل ميّت أخرجه الله من جسمٍ حَيٍّ, وكل حيّ أخرجه الله من جسمٍ ميتٍ. وأما قوله: « ذلكم الله » ، فإنه يقول: فاعل ذلك كلِّه اللهُ جل جلاله « فأنى تؤفكون » ، يقول: فأيّ وجوه الصدّ عن الحقّ، أيها الجاهلون، تصدّون عن الصواب وتصرفون, أفلا تتدبرون فتعلمون أنّه لا ينبغي أن يُجعل لمن أنعم عليكم بفلق الحب والنوى, فأخرج لكم من يابس الحب والنوى زروعًا وحُروثًا وثمارًا تتغذون ببعضه وتفكّهون ببعضه, شريكٌ في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، ولا يسمع ولا يبصر؟ القول في تأويل قوله : فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا قال أبو جعفر: يعني بقوله: « فالق الإصباح » ، شاقٌّ عمود الصبح عن ظلمة الليل وسواده. و « الإصباح » مصدر من قول القائل: « أصبحنا إصباحًا » . وبنحو ما قلنا في ذلك قال عامة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: « فالق الإصباح » ، قال: إضاءة الصبح. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي, نجيح, عن مجاهد: « فالق الإصباح » ، قال: إضاءة الفجر. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « فالق الإصباح » ، قال: فالق الصُّبح. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: « فالق الإصباح » ، يعني بالإصباح، ضوءَ الشمس بالنهار, وضوءَ القمر بالليل. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: « فالق الإصباح » ، قال: فالق الصبح. حدثنا به ابن حميد مرة بهذا الإسناد, عن مجاهد فقال في قوله: « فالق الإصباح » ، قال إضاءة الصبح. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « فالق الإصباح » ، قال: فلق الإصباح عن الليل. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « فالق الإصباح » ، يقول: خالق النور, نور النهار. وقال آخرون: معنى ذلك: خالق الليل والنهار . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: ( فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا ) ، يقول: خلق الليل والنهار. وذكر عن الحسن البصري أنّه كان يقرأ: ( فَالِقُ الأصْبَاحِ ) ، بفتح الألف، كأنه تأول ذلك بمعنى جمع « صبح » , كأنه أراد صبح كل يوم, فجعله « أصباحًا » , ولم يبلغنا عن أحد سواه أنه قرأ كذلك. والقراءة التي لا نستجيز تعدِّيها، بكسر الألف: ( فالِقُ الإصْبَاح ) ، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحة ذلك ورفضِ خلافه. وأما قوله: « وجاعِلُ الليل سكنًا » ، فإن القرأة اختلفت في قراءته. فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض البصريين: ( وَجَاعِلُ اللَّيْلِ ) بالألف على لفظ الاسم، ورفعه عطفًا على « فالق » , وخفض « الليل » بإضافة « جاعل » إليه, ونصب « الشمس والقمر » ، عطفًا على موضع « الليل » ، لأن « الليل » وان كان مخفوضًا في اللفظ، فإنه في موضع النصب, لأنه مفعول « جاعل » . وحسن عطف ذلك على معنى « الليل » لا على لفظه, لدخول قوله: « سكنًا » بينه وبين « الليل » ، قال الشاعر: قُعُـوداً لَـدَى الأبْـوَابِ طُـلابَ حاجَةٍ عَـوَانٍ مِـنَ الْحَاجَـاتِ أَوْ حَاجَةً بِكْرًا فنصب « الحاجة » الثانية، عطفًا بها على معنى « الحاجة » الأولى, لا على لفظها، لأن معناها النصب، وإن كانت في اللفظ خفضًا. وقد يجيء مثل هذا أيضًا معطوفًا بالثاني على معنى الذي قبله لا على لفظه, وإن لم يكن بينهما حائل, كما قال بعضهم: بَيْنَـــا نَحْـــنُ نَنْظُــرْهُ أَتَانَــا مُعلِّـــقَ شِـــكْوَةٍ وَزِنــادَ رَاعِ وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ ) ، على « فَعَلَ » ، بمعنى الفعل الماضي، ونصب « الليل » . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار, متفقتا المعنى، غير مختلفتيه, فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في الإعراب والمعنى. وأخبر جل ثناؤه أنه جعل الليل سكنًا, لأنه يسكن فيه كل متحرك بالنهار، ويهدأ فيه, فيستقر في مسكنه ومأواه. القول في تأويل قوله : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك: فقال بعضهم: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر يجريان في أفلاكهما بحساب. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « والشمس والقمر حسبانًا » ، يعني: عدد الأيام والشهور والسنين . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: يجريان إلى أجلٍ جُعل لهما. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « والشمس والقمر حسبانًا » ، يقول: بحساب. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع في قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: الشمس والقمر في حساب, فإذا خَلَتْ أيامهما فذاك آخرُ الدهر، وأول الفزع الأكبر « ذلك تقدير العزيز العليم » . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال: يدوران في حساب. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: « والشمس والقمر حسبانًا » ، قال هو مثل قوله: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [ سورة الأنبياء: 33 ] ، ومثل قوله: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [ سورة الرحمن: 5 ] . وقال آخرون: معنى ذلك: وجعل الشمس والقمر ضياء. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « والشمس والقمر حسبانًا » ، أي ضياء. قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل ذلك عندي بالصواب، تأويل من تأوَّله: وجعل الشمس والقمرَ يجريان بحساب وعددٍ لبلوغ أمرهما ونهاية آجالهما, ويدوران لمصالح الخلق التي جُعِلا لها. وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية, لأن الله تعالى ذكره ذكَر قبلَه أياديه عند خلقه، وعظم سلطانه, بفلقه الإصباح لهم، وإخراج النبات والغِراس من الحب والنوى, وعقّب ذلك بذكره خلق النجوم لهدايتهم في البر والبحر. فكان وصفه إجراءه الشمس والقمرَ لمنافعهم، أشبه بهذا الموضع من ذكر إضاءتهما، لأنه قد وصف ذلك قبلُ بقوله: « فالق الإصباح » ، فلا معنى لتكريره مرة أخرى في آية واحدة لغير معنى. و « الحسبان » في كلام العرب جمع « حِساب » , كما « الشُّهبان » جمع شهاب. وقد قيل إن « الحسبان » ، في هذا الموضع مصدر من قول القائل: « حَسَبْتُ الحساب أحسُبُه حِسابًا وحُسْبانًا » . وحكي عن العرب: « على الله حُسْبان فلان وحِسْبته » ، أي: حسابه. وأحسب أن قتادة في تأويل ذلك بمعنى الضياء, ذهب إلى شيء يروى عن ابن عباس في قوله: وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ [ سورة الكهف: 40 ] . قال: نارًا, فوجه تأويل قوله: « والشمس والقمر حسبانًا » ، إلى ذلك التأويل. وليس هذا من ذلك المعنى في شيء. وأما « الحِسبان » بكسر « الحاء » ، فإنه جمع « الحِسبانة » ، وهي الوسادة الصغيرة, وليست من الأوَّليين أيضًا في شيء. يقال: « حَسَّبته » ، أجلستُه عليها. ونصب قوله: « حسبانًا » بقوله: « وجعل » . وكان بعض البصريين يقول: معناه: « والشمس والقمرَ حسبانًا » ، أي: بحساب, فحذف « الباء » ، كما حذفها من قوله: هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ [ سورة الأنعام: 117 ] ، أي: أعلم بمن يضل عن سبيله. القول في تأويل قوله : ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( 96 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الفعل الذي وصفه أنه فعله, وهو فلقه الإصباح، وجعله الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا, تقدير الذي عزّ سلطانه, فلا يقدر أحد أراده بسوء وعقاب أو انتقام، من الامتناع منه « العليم » ، بمصالح خلقه وتدبيرهم لا تقديرُ الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تفقه شيئًا ولا تعقله، ولا تضر ولا تنفع, وإن أريدت بسوء لم تقدر على الامتناع منه ممن أرادها. يقول جل ثناؤه: وأخلصوا، أيها الجهلة، عبادتَكم لفاعل هذه الأشياء, ولا تشركوا في عبادته شيئًا غيره. القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 97 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله الذي جعل لكم، أيها الناس، النجوم أدلةً في البر والبحر إذا ضللتم الطريق, أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا تستدلّون بها على المحجَّة, فتهتدون بها إلى الطريق والمحجة، فتسلكونه وتنجون بها من ظلمات ذلك, كما قال جل ثناؤه: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [ سورة النحل: 16 ] ، أي: من ضلال الطريق في البرّ والبحر وعنى بالظلمات، ظلمة الليل, وظلمة الخطأ والضلال, وظلمة الأرض أو الماء. وقوله: « قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون » ، يقول: قد ميَّزنا الأدلة، وفرَّقنا الحجج فيكم وبيّناها، أيها الناس، ليتدبّرها أولو العلم بالله منكم، ويفهمها أولو الحجا منكم, فينيبوا من جهلهم الذي هم مقيمون عليه, وينـزجروا عن خطأ فعلهم الذي هم عليه ثابتون, ولا يتمادوا عنادًا لله مع علمهم بأن ما هم عليه مقيمون خطأ في غَيِّهم. وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر » ، قال: يضلّ الرجل وهو في الظلمة والجور عن الطريق. القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( 98 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإلهكم، أيها العادلون بالله غيره « الذي أنشأكم » ، يعني: الذي ابتدأ خلقكم من غير شيء، فأوجدكم بعد أن لم تكونوا شيئًا « من نفس واحدة » ، يعني: من آدم كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « من نفس واحدة » ، قال: آدم عليه السلام. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة » ، من آدم عليه السلام. وأما قوله: « فمستقر ومستودع » ، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون. فقال بعضهم: معنى ذلك: وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة, فمنكم مستقِرٌّ في الرحم، ومنكم مستودع في القبر حتى يبعثه الله لنَشْر القيامة. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم, عن عبد الله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ، [ سورة هود: 6 ] . قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الأرحام وَمُسْتَوْدَعَهَا ، حيث تموت. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم, عن إسماعيل, عن إبراهيم, عن عبد الله أنه قال: « المستودع » حيث تموت, و « المستقر » ، ما في الرحم . حدثت عن عبيد الله بن موسى, عن إسرائيل, عن السدي, عن مرة, عن عبد الله بن مسعود قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، المكان الذي تموت فيه. حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا محمد بن فضيل وعلي بن هاشم, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الأرحام وَمُسْتَوْدَعَهَا ، في الأرض، حيث تموت فيها. حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مقسم قال: مُسْتَقَرَّهَا ، في الصلب حيث تأويل إليه وَمُسْتَوْدَعَهَا ، حيث تموت. وقال آخرون: « المستودع » ، ما كان في أصلاب الآباء و « المستقر » ، ما كان في بطون النساء، وبطون الأرض، أو على ظهورها. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: مستودعون، ما كانوا في أصلاب الرجال. فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض أو في بطنها, فقد استقرّوا. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن علية, عن كلثوم بن جبر, عن سعيد بن جبير: « فمستقر ومستودع » ، قال: المستودعون ما كانوا في أصلاب الرجال. فإذا قرّوا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض، فقد استقروا. حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن المغيرة بن النعمان, عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ، [ سورة هود : 6 ] . قال: « المستودع » في الصلب و « المستقر » ، ما كان على وجه الأرض أو في الأرض. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمستقر في الأرض على ظهورها، ومستودع عند الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن المغيرة, عن أبي الجبر بن تميم بن حذلم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: « المستقر » الأرض, « والمستودع » ، عند الرحمن. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الأرض, و « المستودع » ، عند ربك. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن إبراهيم قال، قال عبد الله: مُسْتَقَرَّهَا ، في الدنيا, وَمُسْتَوْدَعَهَا ، في الآخرة يعني « فمستقر ومستودع » . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير قال: « المستودع » ، في الصلب, و « المستقر » ، في الآخرة وعلى وجه الأرض. وقال آخرون: معنى ذلك: فمستقر في الرحم، ومستودع في الصلب. ذكر من قال ذلك: حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص, عن أبي الحارث, عن عكرمة, عن ابن عباس في قول الله: « فمستقر ومستودع » ، قال: مستقر في الرحم, ومستودع في صلب، لم يخلق سَيُخلق. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن يحيى الجابر, عن عكرمة: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، الذي قد استقر في الرحم, و « المستودع » ، الذي قد استودع في الصلب. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أبي الجبر تميم, عن سعيد بن جبير, قال ابن عباس: سل! فقلت: « فمستقرّ ومستودع » ؟ قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب. حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن قابوس, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » الرحم, و « المستودع » ، ما كان عند رب العالمين مما هو خالقه ولم يخلق. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس في قوله: وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [ سورة هود: 6 ] ، قال: « المستقر » ، ما كان في الرحم مما هو حيٌّ، ومما قد مات و « المستودع » ، ما في الصلب. حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر, عن سعيد بن جيير قال: قال لي ابن عباس, وذلك قبل أن يَخْرُج وجهي أتزوّجت يا ابن جبير؟ قال: قلت لا وما أريد ذاك يومي هذا! قال فقال: أما إنه مع ذلك سيخرج ما كان في صلبك من المستودَعين. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جيير قال: قال لي ابن عباس: تزوجت؟ قلت: لا ! قال: فضرب ظهري وقال: ما كان من مستودَع في ظهرك سيخرج. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، في الأرحام, و « المستودع » ، في الصلب، لم يخلق وهو خالقه. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في أصلاب الرجال والدوابّ. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: « المستقر » ، ما استقرّ في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن أبي الجبر بن تميم, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, بنحوه. حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة بن حميد, عن عمار الدهني, عن رجل, عن كريب قال: دعاني ابن عباس فقال: اكتب: « بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله بن عباس، إلى فلان حَبْر تَيْماء، سلامٌ عليك, فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو, أما بعد قال، فقلت: تبدؤه تقول: السلام عليك؟ فقال: إن الله هو السلام ثم قال: اكتب » سلامٌ عليك, أما بعد، فحدثني عن: « مستقر ومستودع » . قال: ثم بعثني بالكتاب إلى اليهودي, فأعطيته إياه. فلما نظر إليه قال: مرحبًا بكتاب خليلي من المسلمين ! فذهب بي إلى بيته, ففتح أسفاطًا له كبيرة, فجعل يطرح تلك الأشياء لا يلتفت إليها. قال قلت: ما شأنك؟ قال: هذه أشياء كتبها اليهود! حتى أخرج سفر موسى عليه السلام، قال: فنظر إليه مرتين فقال: « المستقر » ، الرحم، قال: ثم قرأ: وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ [ سورة الحج: 5 ] ، وقرأ: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ ، [ سورة البقرة :36 ] ، [ سورة الأعراف:24 ] . قال: مستقرُّه فوق الأرض, ومستقرُّه في الرحم, ومستقره تحت الأرض حتى يصير إلى الجنة أو إلى النار. حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء: « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، ما استقر في أرحام النساء, و « المستودع » ، ما استودع في أصلاب الرجال. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن سفيان, عن ابن جريج, عن عطاء قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، في أصلاب الرجال. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا روح بن عبادة, عن ابن جريج, عن عطاء وعن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، في الأصلاب. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثناعيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « فمستقر » ، ما استقر في أرحام النساء « ومستودع » ، ما كان في أصلاب الرجال . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه . حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد قال: « المستقر » ، ما استقر في الرحم, و « المستودع » ، ما استودع في الصلب. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « المستقر » ، الرحم, « والمستودع » ، الصلب . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا معاذ بن معاذ, عن ابن عون قال: أتينا إبراهيم عند المساء فأخبرونا أنه قد مات، فقلنا: هل سأله أحدٌ عن شيء؟ قالوا: عبد الرحمن بن الأسود، عن « المستقر » و « المستودع » ، فقال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب. حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال: أتينا إبراهيم وقد مات، قال: فحدثني بعضهم: أنّ عبد الرحمن بن الأسود سأله قبل أن يموت عن « المستقر » و « المستودع » , فقال: « المستقر » ، في الرحم, « والمستودع » ، في الصلب. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون: أتينا منـزل إبراهيم, فسألنا عنه فقالوا: قد توفي. وسأله عبد الرحمن بن الأسود, فذكر نحوه. حدثني به يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن ابن عون: أنه بلغه: أنّ عبد الرحمن بن الأسود سأل إبراهيم عن ذلك, فذكر نحوه. حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة, عن العلاء بن هارون قال: انتهيت إلى منـزل إبراهيم حين قبض, فقلت لهم: هل سأله أحد عن شيء؟ قالوا: سأله عبد الرحمن بن الأسود عن « مستقر ومستودع » , فقال: أما « المستقر » ، فما استقر في أرحام النساء, و « المستودع » ، ما في أصلاب الرجال. حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس, عن ليث, عن مجاهد في « فمستقر ومستودع » ، قال: « المستقر » ، الرحم, و « المستودع » ، الصلب. حدثني يونس قال، حدثني سفيان, عن رجل حدَّثه، عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس: ألا تنكح؟ ثم قال: أما إني أقول لك هذا، وإني لأعلم أن الله مخرجٌ من صلبك ما كان فيه مستودَع. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة, عن ابن عباس: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الرحم, و « مستودع » ، في الصلب. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الرحم, و « مستودع » ، في الصلب. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك: « فمستقر ومستودع » ، أما « مستقر » ، فما استقر في الرحم وأما « مستودع » ، فما استودع في الصلب. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: « فمستقر ومستودع » ، قال: « مستقر » ، في الأرحام, « ومستودع » ، في الأصلاب. حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير وأبي حمزة, عن إبراهيم قالا « مستقر ومستودع » , « المستقر » ، في الرحم, و « المستودع » ، في الصلب. وقال آخرون: « المستقر » ، في القبر, « والمستودع » ، في الدنيا. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقول: « مستقر » ، في القبر, « ومستودع » في الدنيا، وأوشك أن يلحق بصاحبه. قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه عمّ بقوله: « فمستقر ومستودع » ، كلَّ خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة، مستقرًّا ومستودعًا, ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أنّ من بني آدم مستقرًّا في الرحم، ومستودعًا في الصلب, ومنهم من هو مستقر على ظهر الأرض أو بطنها، ومستودع في أصلاب الرجال, ومنهم مستقر في القبر، مستودع على ظهر الأرض. فكلٌّ « مستقر » أو « مستودع » بمعنى من هذه المعاني، فداخل في عموم قوله: « فمستقر ومستودع » ومراد به، إلا أن يأتي خبرٌ يجب التسليم له بأنه معنيٌّ به معنى دون معنى، وخاص دون عام. واختلفت القرأة في قراءة قوله: « فمستقر ومستودع » . فقرأت ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: ( فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) ، بمعنى: فمنهم من استقرّه الله في مقرِّه، فهو مستقَرٌّ ومنهم من استودعه الله فيما استودعه فيه، فهو مستودَع فيه. وقرأ ذلك بعض أهل المدينة وبعض أهل البصرة: ( فَمُسْتَقِرٌّ ) ، بكسر « القاف » بمعنى: فمنهم من استقرّ في مقرّه، فهو مستقِرّ به. وأولى القراءتين بالصواب عندي، وإن كان لكليهما عندي وجه صحيح: ( فَمُسْتَقَرٌّ ) ، بمعنى: استقرّه الله في مستقَرِّه, ليأتلف المعنى فيه وفي « المستودَع » ، في أن كل واحد منهما لم يسمَّ فاعله, وفي إضافة الخبر بذلك إلى الله في أنه المستقِرُّ هذا، والمستودِع هذا. وذلك أن الجميع مجمعون على قراءة قوله: « ومستودَع » بفتح « الدال » على وجه ما لم يسمَّ فاعله, فإجراء الأوّل أعني قوله: « فمستقر » عليه، أشبه من عُدُوله عنه. وأما قوله: « قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون » ، يقول تعالى: قد بيّنا الحجج، وميزنا الأدلة والأعلام وأحكمناها « لقوم يفقهون » ، مواقعَ الحجج ومواضع العبر، ويفهمون الآيات والذكر, فإنهم إذا اعتبروا بما نبّهتهم عليه من إنشائي من نفس واحدة ما عاينوا من البشر، وخلقي ما خلقت منها من عجائب الألوان والصور, علموا أنّ ذلك من فعل من ليس له مثل ولا شريك فيشركوه في عبادتهم إياه، كما:- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون » ، يقول: قد بينا الآيات لقوم يفقهون. القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله الذي له العبادة خالصة لا شريك فيها لشيء سواه, هو الإله الذي أنـزل من السماء ماء « فأخرجنا به نبات كل شيء » ، فأخرجنا بالماء الذي أنـزلناه من السماء من غذاء الأنعام والبهائم والطير والوحش وأرزاق بني آدم وأقواتهم، ما يتغذون به ويأكلونه فينبتُون عليه وينمون. وإنما معنى قوله: « فأخرجنا به نبات كل شيء » ، فأخرجنا به ما ينبت به كل شيء وينمو عليه ويصلحُ. ولو قيل: معناه: فأخرجنا به نبات جميع أنواع النبات، فيكون « كل شيء » ، هو أصناف النبات كان مذهبًا، وإن كان الوجه الصحيح هو القولَ الأول. وقوله: « فأخرجنا منه خضرًا » ، يقول: « فأخرجنا منه » ، يعني: من الماء الذي أنـزلناه من السماء « خَضِرًا » ، رطبًا من الزرع. « والخضر » ، هو « الأخضر » , كقول العرب: « أرِنيهَا نَمِرة، أُرِكْها مَطِرَة » . يقال: « خَضِرَت الأرض خَضَرًا. وخَضَارة » . و « الخضر » رطب البقول, ويقال: « نخلة خضيرة » ، إذا كانت ترمي ببسرها أخضر قبل أن ينضج. و « قد اختُضِر الرجل » و « اغْتُضِر » ، إذا مات شابًّا مُصَحَّحًا. ويقال: « هو لك خَضِرًا مَضِرًا » ، أي هنيئًا مريئًا. قوله: « نخرج منه حبًّا متراكبًا » ، يقول: نخرج من الخضر حبًّا يعني: ما في السنبل, سنبل الحنطة والشعير والأرز, وما أشبه ذلك من السنابل التي حبُّها يركب بعضه بعضًا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: « منه خضرًا نخرج منه حبًّا متراكبًا » ، فهذا السنبل. القول في تأويل قوله : وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن النخل من طلعها قنوانه دانية، ولذلك رفعت « القِنوان » . و « القنوان » جمع « قِنْو » , كما « الصنوان » جمع « صِنْو » , وهو العِذْق, يقال للواحد هو « قِنْو » ، و « قُنْو » و « قَنَا » ، يثنى « قِنوانِ » , ويجمع « قنوانٌ » و « قُنوانٌ » . قالوا في جمع قليله: « ثلاثة أقْناء » . و « القِنوان » من لغة الحجاز, و « القُنْوان » ، من لغة قيس، وقال امرؤ القيس: فَـــأَثَّتْ أَعَالِيــهِ, وَآدَتْ أُصُولُــهُ وَمَـالَ بِقِنْـوانٍ مِـنَ البُسْـرِ أَحْـمَرَا و « قِنْيان » ، جميعًا، وقال آخر: لَهَـا ذَنَـبٌ كَـالْقِنْوِ قَـدْ مَـذِلَتْ بِـهِ وَأَسْــحَمَ لِلتَّخْطَــارِ بَعْـدَ التَّشَـذُّرِ وتميم تقول: « قُنْيان » بالياء. ويعني بقوله: « دانية » ، قريبة متهدّلة. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « قنوان دانية » ، يعني ب « القنوان الدانية » ، قصار النخل، لاصقة عُذُوقها بالأرض. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « من طلعها قنوان دانية » ، قال: عذوق متهدلة . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « قنوان دانية » ، يقول: متهدلة. حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن البراء في قوله: « قنوان دانية » ، قال: قريبة. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن أبي إسحاق, عن البراء بن عازب: « قنوان دانية » ، قال: قريبة. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « ومن النخل من طلعها قنوان دانية » ، قال: الدانية، لتهدُّل العُذوق من الطلع. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « ومن النخل من طلعها قنوان دانية » ، يعني النخل القصارَ الملتزقة بالأرض, و « القنوان » طلعه. القول في تأويل قوله : وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأخرجنا أيضًا جنات من أعناب يعني: بساتينَ من أعناب. واختلف القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة القرأة: ( وَجَنَّاتٍ ) نصبًا, غير أن « التاء » كسرت، لأنها « تاء » جمع المؤنث, وهي تخفض في موضع النصب. وقد:- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام, عن الكسائي قال، أخبرنا حمزة, عن الأعمش أنه قرأ: ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ ) . بالرفع، فرفع « جنات » على إتباعها « القنوان » في الإعراب, وإن لم تكن من جنسها، كما قال الشاعر: وَرَأَيْــتِ زَوْجَــكِ فِــي الـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز أن يقرأ ذلك إلا بها، النصبُ: ( وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ ) ، لإجماع الحجة من القرأة على تصويبها والقراءة بها، ورفضهم ما عداها, وبُعْدِ معنى ذلك من الصواب إذ قرئ رفعًا. وقوله: « والزيتون والرمان » ، عطف ب « الزيتون » على « الجنات » ، بمعنى: وأخرجنا الزيتونَ والرمان مشتبهًا وغير متشابه. وكان قتادة يقول في معنى « مشتبهًا وغير متشابه » ، ما:- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهًا وغير متشابه » ، قال: مشتبهًا ورقه, مختلفًا ثمرُه . وجائز أن يكون مرادًا به: مشتبهًا في الخلق، مختلفًا في الطعم. قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: وشجر الزيتون والرمان, فاكتفى من ذكر « الشجر » بذكر ثمره, كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ، [ سورة يوسف: 82 ] ، فاكتفى بذكر « القرية » من ذكر « أهلها » , لمعرفة المخاطبين بذلك بمعناه. القول في تأويل قوله : انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة: ( انْظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ ) ، بفتح « الثاء » و « الميم » . وقرأه بعض قرأة أهل مكة وعامة قرأة الكوفيين: ( إلَى ثُمُرِهِ ) ، بضم « الثاء » و « الميم » . فكأنّ من فتح « الثاء » و « الميم » من ذلك، وجَّه معنى الكلام: انطروا إلى ثمر هذه الأشجار التي سمينا من النخل والأعناب والزيتون والرمان إذا أثمرَ وأن « الثمر » جمع « ثمرة » , كما « القصب » ، جمع « قصبة » , و « الخشب » جمع « خشبة » . وكأنّ من ضم « الثاء » و « الميم » , وجَّه ذلك إلى أنه جمع « ثِمَار » , كما « الحُمُر » جمع « حمار » , و « الجُرُب » جمع « جراب » ، وقد:- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد, عن ابن إدريس, عن الأعمش, عن يحيى بن وثاب: أنه كان يقرأ: ( إلَى ثُمُرِهِ ) ، يقول: هو أصناف المال. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا محمد بن عبيد الله, عن قيس بن سعد, عن مجاهد قال: « الثُّمُر » ، هو المال و « الثمر » ، ثَمَر النخل. وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب, قراءة من قرأ: ( انْظُرُوا إلَى ثُمُرِهِ ) بضم « الثاء » و « الميم » , لأن الله جل ثناؤه وصفَ أصنافًا من المال كما قال يحيى بن وثاب، وكذلك حبّ الزرع المتراكب, وقنوان النخل الدانية, والجنات من الأعناب والزيتون والرمان, فكان ذلك أنواعًا من الثمر, فجمعت « الثمرة » « ثمرًا » ، ثم جمع « الثمر » « ثمارًا » , ثم جمع ذلك فقيل: ( انْظُرُوا إلَى ثُمُرِهِ ) , فكان ذلك جمع « الثمار » و « الثمار » جمع « الثمر » و « إثماره » ، عقدُ الثمر. وأما قوله: « وَينْعه » ، فإنه نُضجه وبلوغُه حين يبلغ. وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يقول في « يَنْعه » إذا فتحت ياؤه، هو جمع « يانع » , كما « التَّجْر » جمع « تاجر » , و « الصحب » جمع « صاحب » . وكان بعض أهل الكوفة ينكر ذلك، ويرى أنه مصدر من قولهم: « ينع الثمر فهو يَيْنع يَنْعًا » ، ويحكى في مصدره عن العرب لغات ثلاثًا: « يَنْع » , و « يُنْع » , و « يَنَع » , وكذلك في « النَّضْج » « النُّضج » و « النَّضَج » . وأما في قراءة من قرأ ذلك: ( وَيَانِعِهِ ) ، فإنه يعني به: وناضجه، وبالغه. وقد يجوز في مصدره « يُنُوعًا » , ومسموع من العرب: « أينعت الثمرة تُونِع إيناعًا » ، ومن لغة الذين قالوا: « ينع » , قول الشاعر: فِـــي قِبَــابٍ عِنْــدَ دَسْــكَرَةٍ حَوْلَهَـــا الزَّيْتُــونُ قَــدْ يَنَعَــا وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: « وينعه » ، يعني: إذا نضج. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه » ، قال: « ينعه » ، نضجه. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه » ، أي نضجه. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: « وينعه » ، قال: نضجه. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وينعه » ، يقول: ونضجه. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: « وينعه » ، قال: يعني نضجه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: « وينعه » ، قال: نضجه. القول في تأويل قوله : إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 99 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره إن في إنـزال الله من السماء الماءَ الذي أخرج به نباتَ كل شيء, والخضِرَ الذي أخرج منه الحبَّ المتراكب, وسائر ما عدَّد في هذه الآية من صنوف خلقه « لآيات » ، يقول: في ذلكم، أيها الناس، إذا أنتم نظرتم إلى ثمره عند عقد ثمره, وعند ينعه وانتهائه, فرأيتم اختلاف أحواله وتصرفه في زيادته ونموّه, علمتم أن له مدبِّرًا ليس كمثله شيء, ولا تصلح العبادة إلا له دون الآلهة والأنداد, وكان فيه حجج وبرهان وبيان « لقوم يؤمنون » ، يقول: لقوم يصدقون بوحدانية الله وقدرته على ما يشاء. وخصّ بذلك تعالى ذكره القوم الذين يؤمنون, لأنهم هم المنتفعون بحجج الله والمعتبرون بها, دون من قد طَبعَ الله على قلبه، فلا يعرف حقًّا من باطل، ولا يتبين هدًى من ضلالة. القول في تأويل قوله : وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الآلهةَ والأندادَ لله شركاء، الجن، كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا [ سورة الصافات: 158 ] . وفي الجن وجهان من النصب. أحدهما: أن يكون تفسيرًا للشركاء. . والآخر: أن يكون معنى الكلام: وجعلوا لله الجن شركاء، وهو خالقهم . واختلفوا في قراءة قوله: « وخلقهم » . فقرأته قراء الأمصار: ( وَخَلَقَهُمْ ) ، على معنى أن الله خلقهم، منفردًا بخلقه إياهم . . وذكر عن يحيى بن يعمر ما:- حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون, عن واصل مولى أبي عيينة, عن يحيى بن عقيل, عن يحيى بن يعمر: أنه قال: « شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ » . بجزم « اللام » بمعنى أنهم قالوا: إنّ الجنّ شركاء لله في خلقه إيّانا . قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ ذلك: ( وَخَلَقَهُمْ ) ، لإجماع الحجة من القرأة عليها . وأما قوله: ( وخرقوا له بنين وبنات بغير علم ) ، فإنه يعني بقوله: ( خرقوا ) اختلقوا. يقال: « اختلق فلان على فلان كذبًا » و « اخترقه » ، إذا افتعله وافتراه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: وجعلوا لله شركاء الجن والله خلقهم « وخرقوا له بنين وبنات » ، يعني أنهم تخرَّصوا . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: جعلوا له بنين وبنات بغير علم . حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: كذبوا . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « وجعلوا لله شركاء الجن » كذبوا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ، عما يكذبون . أما العرب فجعلوا له البنات، ولهم ما يشتهون من الغلمان وأما اليهود فجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرُون . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » قال: خرصوا له بنين وبنات . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، يقول: قطعوا له بنين وبنات. قالت العرب: الملائكة بنات الله وقالت اليهود والنصارى: المسيح وعزير ابنا الله . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: « وخرقوا له بنين وبنات بغير علم » ، قال: « خرقوا » ، كذبوا، لم يكن لله بنون ولا بنات قالت النصارى: المسيح ابن الله وقال المشركون: الملائكة بنات الله فكلٌّ خرقوا الكذب، « وخرقوا » ، اخترقوا . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « وجعلوا لله شركاء الجن » ، قال: قول: الزنادقة « وخرقوا له » ، قال ابن جريج، قال مجاهد: « خرقوا » ، كذبوا . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن جويبر, عن الضحاك: « وخرقوا له بنين وبنات » ، قال: وصفوا له . حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث, عن أبي عمرو: « وخرقوا له بنين وبنات » ، قال: تفسيرها: وكذبوا . قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وجعلوا لله الجنَّ شركاءَ في عبادتهم إياه, وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير « وخرقوا له بنين وبنات » ، يقول: وتخرَّصوا لله كذبًا, فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم منهم بحقيقة ما يقولون, ولكن جهلا بالله وبعظمته، وأنه لا ينبعي لمن كان إلهًا أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة, ولا أن يشركه في خلقه شريك . القول في تأويل قوله : سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( 100 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: تنـزه الله، وعلا فارتفع عن الذي يصفه به هؤلاء الجهلة من خلقه، في ادّعائهم له شركاء من الجن، واختراقهم له بنين وبنات، وذلك لا ينبغي أن يكون من صفته، لأن ذلك من صفة خلقه الذين يكون منهم الجماع الذي يحدث عنه الأولاد, والذين تضطرّهم لضعفهم الشهواتُ إلى اتخاذ الصاحبة لقضاء اللذات, وليس الله تعالى ذكره بالعاجز فيضطره شيء إلى شيء, و لا بالضعيف المحتاج فتدعوه حاجته إلى النساء إلى اتخاذ صاحبة لقضاء لذة . وقوله: « تعالى » ، « تفاعل » من « العلوّ » ، والارتفاع . وروي عن قتادة في تأويل قوله: « عما يصفون » ، أنه: يكذبون . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « سبحانه وتعالى عما يصفون » ، عما يكذبون . وأحسب أن قتادة عنى بتأويله ذلك كذلك, أنهم يكذبون في وصفهم الله بما كانوا يصفونه به، من ادعائهم له بنين وبنات لا أنه وجه تأويل « الوصف » إلى الكذب . القول في تأويل قوله : بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي جعل هؤلاء الكفرة به له الجنَّ شركاءَ، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم « بديع السماوات والأرض » ، يعني: مبتدعها ومحدثها وموجدها بعد أن لم تكن ، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: « بديع السماوات والأرض » ، قال: هو الذي ابتدع خلقهما جل جلاله، فخلقهما ولم يكونا شيئًا قبله . « أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة » ، والولد إنما يكون من الذكر والأنثى, ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة، فيكون له ولد. وذلك أنه هو الذي خلق كل شيء . يقول: فإذا كان لا شيء إلا اللهُ خلقه, فأنّى يكون لله ولد، ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد ؟ القول في تأويل قوله : وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( 101 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والله خلق كل شيء، ولا خالق سواه. وكلُّ ما تدَّعون أيها العادلون بالله الأوثان من دونه، خلقُه وعبيده, مِلكًا، كان الذي تدعونه ربًّا وتزعمون أنه له ولد، أو جنيًّا أو إنسيًّا « وهو بكل شيء عليم » ، يقول: والله الذي خلق كل شيء, لا يخفى عليه ما خلق ولا شيء منه, ولا يعزب عنه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء, عالم بعددكم وأعمالكم، وأعمال من دعوتموه ربًّا أو لله ولدًا, وهو محصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي كلا بعمله . القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( 102 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذي خلق كل شيء وهو بكل شيء عليم, هو الله ربكم، أيها العادلون بالله الآلهة والأوثان, والجاعلون له الجن شركاء, وآلهتكم التي لا تملك نفعًا ولا ضرًا، ولا تفعل خيرًا ولا شرًا « لا إله إلا هو » . وهذا تكذيبٌ من الله جل ثناؤه للذين زعموا أن الجن شركاء الله. يقول جل ثناؤه لهم: أيها الجاهلون، إنه لا شيء له الألوهية والعبادة، إلا الذي خلق كل شيء, وهو بكل شيء عليم, فإنه لا ينبغي أن تكون عبادتكم وعبادةُ جميع من في السماوات والأرض إلا له خالصة بغير شريك تشركونه فيها, فإنه خالق كل شيء وبارئه وصانعه, وحق على المصنوع أن يفرد صانعه بالعبادة « فاعبدوه » ، يقول: فذلُّوا له بالطاعة والعبادة والخدمة, واخضعوا له بذلك . « وهو على كل شيء وكيل » ، يقول: والله على كل ما خلق من شيء رقيبٌ وحفيظ، يقوم بأرزاق جميعه وأقواته وسياسته وتدبيره وتصريفه بقدرته . القول في تأويل قوله تعالى : لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( 103 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » . فقال بعضهم: معناه لا تحيط به الأبصار، وهو يحيط بها . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » ، يقول: لا يحيط بصر أحدٍ بالملك . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » ، وهو أعظم من أن تدركه الأبصار . حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عرفجة, عن عطية العوفي في قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ سورة القيامة: 22- 23 ] ، قال: هم ينظرون إلى الله, لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم, فذلك قوله: « لا تدركه الأبصار » ، الآية . قال أبو جعفر: واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم هذا، بأن قالوا: إن الله قال: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ ، [ يونس: 90 ] قالوا: فوصف الله تعالى ذكره الغرق بأنه أدرك فرعون, ولا شك أن الغرق غير موصوف بأنه رآه, ولا هو مما يجوز وصفه بأنه يرى شيئًا . قالوا: فمعنى قوله: « لا تدركه الأبصار » بمعنى: لا تراه، بعيد. لأن الشيء قد يدرك الشيء ولا يراه, كما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل أصحاب موسى صلى الله عليه وسلم لموسى حين قرُب منهم أصحاب فرعون: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، [ سورة الشعراء: 61 ] ، لأن الله قد كان وعد نبيه موسى صلى الله عليه وسلم أنهم لا يُدْرَكون، لقوله: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ، [ 61، طه: 77 ] . قالوا: فإن كان الشيء قد يرى الشيء ولا يدركه، ويدركه ولا يراه, فكان معلومًا بذلك أن قوله: « لا تدركه الأبصار » ، من معنى: لا تراه الأبصار، بمعزل وأن معنى ذلك: لا تحيط به الأبصار، لأن الإحاطة به غير جائزة . قالوا: فالمؤمنون وأهل الجنة يرون ربهم بأبصارهم، ولا تدركه أبصارهم, بمعنى: أنها لا تحيط به، إذ كان غير جائز أن يوصف الله بأن شيئًا يحيط به . قالوا: ونظير جواز وصفه بأنه يُرَى ولا يُدْرَك، جوازُ وصفه بأنه يعلم ولا يحاط بعلمه, وكما قال جل ثناؤه: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ [ سورة البقرة: 255 ] . قالوا: فنفى جل ثناؤه عن خلقه أن يكونوا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . قالوا: ومعنى « العلم » في هذا الموضع، المعلوم. قالوا: فلم يكن في نفيه عن خلقه أن يحيطوا بشيء من علمه إلا بما شاء، نَفْيٌ عن أن يعلموه . قالوا: فإذا لم يكن في نفي الإحاطة بالشيء علمًا نَفْيٌ للعلم به, كان كذلك، لم يكن في نفي إدراك الله عن البصر، نفيُ رؤيته له . قالوا: وكما جاز أن يعلم الخلق أشياءَ ولا يحيطون بها علمًا, كذلك جائزٌ أن يروا ربَّهم بأبصارهم ولا يدركوه بأبصارهم, إذ كان معنى « الرؤية » غير معنى « الإدراك » , ومعنى « الإدراك » غير معنى « الرؤية » , وأن معنى « الإدراك » ، إنما هو الإحاطة, كما قال ابن عباس في الخبر الذي ذكرناه قبل . قالوا: فإن قال لنا قائل: وما أنكرتم أن يكون معنى قوله: « لا تدركه الأبصار » ، لا تراه الأبصار؟ قلنا له: أنكرنا ذلك, لأن الله جل ثناؤه أخبر في كتابه أن وجوهًا في القيامة إليه ناظرة, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أمته أنهم سيرون ربهم يوم القيامة، كما يُرَى القمر ليلة البدر، وكما ترونَ الشمس ليسَ دونها سحاب . قالوا: فإذ كان الله قد أخبر في كتابه بما أخبر، وحققتْ أخبارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا عنه من قيله صلى الله عليه وسلم: إن تأويل قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ سورة القيامة: 22- 23 ] ، أنه نظر أبصار العيون لله جل جلاله, وكان كتاب الله يصدق بعضه بعضًا, وكان مع ذلك غير جائز أن يكون أحدُ هذين الخبرين ناسخًا للآخر, إذ كان غير جائز في الأخبار لما قد بينا في كتابنا: « كتاب لطيف البيان، عن أصول الأحكام » ، وغيره علم، أن معنى قوله: « لا تدركه الأبصار » ، غير معنى قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ، فإن أهل الجنة ينظرون بأبصارهم يوم القيامة إلى الله، ولا يدركونه بها, تصديقًا لله في كلا الخبرين، وتسليمًا لما جاء به تنـزيله على ما جاء به في السورتين . وقال آخرون: معنى ذلك: لا تراه الأبصار، وهو يرى الأبصار . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال, حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط , عن السدي: « لا تدركه الأبصار » ، لا يراه شيء, وهو يرى الخلائق . حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن عامر, عن مسروق, عن عائشة قالت: من حدَّثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه فقد كذب! « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » ، وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، [ سورة الشورى: 51 ] ، ولكن قد رأى جبريل في صورته مرتين . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن عامر, عن مسروق قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحان الله, لقد قَفَّ شعري مما قلت ! ثم قرأت: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى وابن علية, عن داود, عن الشعبي, عن مسروق, عن عائشة بنحوه . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير, عن مغيرة, عن الشعبي قال، قالت عائشة: من قال إن أحدًا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله! قال الله: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار » . فقال قائلو هذه المقالة: معنى « الإدراك » في هذا الموضع، الرؤية وأنكروا أن يكون الله يُرَى بالأبصار في الدنيا والآخرة وتأوّلوا قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ، بمعنى انتظارها رحمة الله وثوابَه . قال أبو جعفر: وتأول بعضهم في الأخبار التي رُويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتصحيح القول برؤية أهل الجنة ربَّهم يوم القيامة تأويلات، وأنكر بعضهم مجيئها, ودافعوا أن يكون ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم, وردُّوا القول فيه إلى عقولهم, فزعموا أن عقولهم تُحِيل جواز الرؤية على الله عز وجل بالأبصار، وأتوا في ذلك بضرُوب من التمويهات, وأكثروا القول فيه من جهة الاستخراجات . وكان من أجلّ ما زعموا أنهم علموا به صحة قولهم ذلك من الدليل، أنهم لم يجدوا أبصارهم ترى شيئًا إلا ما باينها دون ما لاصقها, فإنها لا ترى ما لاصقها . قالوا: فما كان للأبصار مباينًا مما عاينته, فإن بينه وبينها فضاءً وفرجةً . قالوا: فإن كانت الأبصار ترى ربها يوم القيامة على نحو ما ترى الأشخاص اليوم, فقد وجب أن يكون الصانع محدودًا . قالوا: ومن وصفه بذلك, فقد وصفه بصفات الأجسام التي يجوز عليها الزيادة والنقصان . قالوا: وأخرى, أن من شأن الأبصار أن تدرك الألوان، كما من شأن الأسماع أن تدرك الأصوات, ومن شأن المتنسِّم أن يدرك الأعراف . قالوا: فمن الوجه الذي فسد أن يكون جائزًا أن يُقْضَى للسمع بغير إدراك الأصوات، وللمتنسِّم إلا بإدراك الأعراف, فسد أن يكون جائزًا القضاءُ للبصر إلا بإدراك الألوان . قالوا: ولما كان غير جائز أن يكون الله تعالى ذكره موصوفًا بأنه ذو لون, صح أنه غير جائز أن يكون موصوفًا بأنه مرئيٌّ . وقال آخرون: معنى ذلك: لا تدركه أبصار الخلائق في الدنيا, وأما في الآخرة فإنها تدركه . وقال أهل هذه المقالة: « الإدراك » ، في هذا الموضع، الرؤية . واعتلّ أهل هذه المقالة لقولهم هذا بأن قالوا: « الإدراك » ، وإن كان قد يكون في بعض الأحوال بغير معنى الرؤية, فإن الرؤية من أحد معانيه. وذلك أنه غير جائز أن يلحق بصرُه شيئًا فيراه، وهو لما أبصره وعاينه غير مدرك، وإن لم يحط بأجزائه كلها رؤية . قالوا: فرؤية ما عاينه الرائي إدراك له، دون ما لم يره . قالوا: وقد أخبر الله أن وجوهًا يوم القيامة إليه ناظرة. قالوا، فمحالٌ أن تكون إليه ناظرة وهي له غير مدركة رؤيةً . قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون في أخبار الله تضادٌّ وتعارض, وجب وصحّ أن قوله: « لا تدركه الأبصار » ، على الخصوص لا على العموم, وأن معناه: لا تدركه الأبصار في الدنيا، وهو يدرك الأبصار في الدنيا والآخرة, إذ كان الله قد استثنى ما استثنى منه بقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ . وقال آخرون من أهل هذه المقالة: الآية على الخصوص, إلا أنه جائز أن يكون معنى الآية: لا تدركه أبصارُ الظالمين في الدنيا والآخرة, وتدركه أبصار المؤمنين وأولياء الله . قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار بالنهاية والإحاطة، وأما بالرؤية فَبَلَى . قالوا: وجائز أن يكون معناها: لا تدركه الأبصار في الدنيا وتدركه في الآخرة وجائز أن يكون معناها: لا تدركه أبصارُ من يراه بالمعنى الذي يدرك به القديم أبصارَ خلقه فيكون الذي نفى عن خلقه من إدراك أبصارهم إياه, هو الذي أثبته لنفسه, إذ كانت أبصارهم ضعيفة لا تنفذ إلا فيما قوَّاها جل ثناؤه على النفوذ فيه, وكانت كلها متجلية لبصره لا يخفى عليه منها شيء . قالوا: ولا شك في خصوص قوله: « لا تدركه الأبصار » ، وأن أولياء الله سيرونه يوم القيامة بأبصارهم, غير أنا لا ندري أيَّ معاني الخصوص الأربعة أريد بالآية . واعتلُّوا لتصحيح القول بأن الله يرى في الآخرة، بنحو علل الذين ذكرنا قبل . وقال آخرون: الآية على العموم, ولن يدرك الله بصرُ أحد في الدنيا والآخرة; ولكن الله يُحدث لأوليائه يوم القيامة حاسّة سادسة سوى حواسِّهم الخمس، فيرونه بها . واعتلوا لقولهم هذا بأنّ الله تعالى ذكره نفى عن الأبصار أن تدركه، من غير أن يدلّ فيها أو بآية غيرها على خصوصها . قالوا: وكذلك أخبرَ في آية أخرى أن وجوهًا إليه يوم القيامة ناظرة . قالوا: فأخبار الله لا تتنافى ولا تتعارض, وكلا الخبرين صحيح معناه على ما جاء به التنـزيل . واعتلُّوا أيضًا من جهة العقل بأن قالوا: إن كان جائزًا أن نراه في الآخرة بأبصارنا هذه و إن زيد في قواها، وجب أن نراه في الدنيا وإن ضعفت, لأن كل حاسة خلقت لإدراك معنًى من المعاني، فهي وإن ضعفت كل الضعف، فقد تدرك مع ضعفها ما خلقت لإدراكه وإن ضعف إدراكها إياه، ما لم تُعْدم . قالوا: فلو كان في البصر أن يُدرك صانعه في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات ويراه, وجب أن يكون يدركه في الدنيا ويراه فيها و إن ضعف إدراكه إياه . قالوا: فلما كان ذلك غير موجود من أبصارنا في الدنيا, كان غير جائز أن تكون في الآخرة إلا بهيئتها في الدنيا في أنها لا تدرك إلا ما كان من شأنها إدراكه في الدنيا . قالوا: فلما كان ذلك كذلك, وكان الله تعالى ذكره قد أخبر أنّ وجوهًا في الآخرة تراه, علم أنها تراه بغير حاسة البصر, إذ كان غير جائز أن يكون خبرُه إلا حقًّا . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر » « وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب » ، فالمؤمنون يرونه, والكافرون عنه يومئذ محجوبون، كما قال جل ثناؤه: كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [ سورة المطففين: 15 ] . فأما ما اعتلَّ به منكرُو رؤية الله يوم القيامة بالأبصار, لما كانت لا ترى إلا ما باينها, وكان بينها وبينه فضاءٌ وفرجة, وكان ذلك عندهم غير جائز أن تكون رؤية الله بالأبصار كذلك، لأن في ذلك إثبات حدٍّ له ونهايةٍ, فبطل عندهم لذلك جواز الرؤية عليه فإنه يقال لهم: هل علمتم موصوفًا بالتدبير سوى صانعكم، إلا مماسًّا لكم أو مباينًا؟ فإن زعموا أنهم يعلمون ذلك، كُلِّفوا تبيينه, ولا سبيل إلى ذلك . وإن قالوا: لا نعلم ذلك. قيل لهم: أو ليس قد علمتموه لا مماسًّا لكم ولا مباينًا, وهو موصوف بالتدبير والفعل, ولم يجب عندكم إذْ كنتم لم تعلموا موصوفًا بالتدبير والفعل غيره إلا مماسًّا لكم أو مباينًا، أن يكون مستحيلا العلم به، وهو موصوف بالتدبير والفعل, لا مماس ولا مباين؟ فإن قالوا: ذلك كذلك. قيل لهم: فما تنكرون أن تكون الأبصار كذلك لا ترى إلا ما باينها وكانت بينه وبينها فرجة، قد تراه وهو غير مباين لها ولا فرجة بينها وبينه ولا فضاء, كما لا تعلم القلوب موصوفًا بالتدبير إلا مماسًّا لها أو مباينًا، وقد علمتْه عندكم لا كذلك؟ وهل بينكم وبين من أنكر أن يكون موصوفًا بالتدبير والفعل معلومًا، لا مماسًّا للعالم به أو مباينًا وأجاز أن يكون موصوفًا برؤية الأبصار، لا مماسًّا لها ولا مباينًا، فرق؟ ثم يسألون الفرقَ بين ذلك, فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله . وكذلك يسألون فيما اعتلوا به في ذلك: أن من شأن الأبصار إدراك الألوان, كما أن من شأن الأسماع إدراك الأصوات, ومن شأن المتنسِّم درَك الأعراف, فمن الوجه الذي فسد أن يُقضى للسمع بغير درك الأصوات، فسد أن يُقضى للأبصار لغير درك الألوان . فيقال لهم: ألستم لم تعلموا فيما شاهدتم وعاينتم، موصوفًا بالتدبير والفعل إلا ذا لونٍ, وقد علمتموه موصوفًا بالتدبير لا ذا لونٍ؟ فإن قالوا: « نعم » لا يجدون من الإقرار بذلك بدًّا، إلا أن يكذبوا فيزعموا أنهم قد رأوا وعاينوا موصوفًا بالتدبير والفعل غير ذي لون, فيكلفون بيان ذلك, ولا سبيل إليه. فيقال لهم: فإذ كان ذلك كذلك، فما أنكرتم أن تكون الأبصار فيما شاهدتم وعاينتم لم تجدوها تدرك إلا الألوان, كما لم تجدوا أنفسكم تعلم موصوفًا بالتدبير إلا ذا لون، وقد وجدتموها علمته موصوفًا بالتدبير غير ذي لون. ثم يسألون الفرق بين ذلك, فلن يقولوا في أحدهما شيئًا إلا ألزموا في الآخر مثله . ولأهل هذه المقالة مسائل فيها تلبيس، كرهنا ذكرها وإطالة الكتاب بها وبالجواب عنها, إذ لم يكن قصدنا في كتابنا هذا قصدَ الكشف عن تمويهاتهم, بل قصدنا فيه البيان عن تأويل آي الفرقان . ولكنا ذكرنا القدرَ الذي ذكرنا, ليعلم الناظرُ في كتابنا هذا أنهم لا يرجعون من قولهم إلا إلى ما لبَّس عليهم الشيطان، مما يسهل على أهل الحق البيانُ عن فساده, وأنهم لا يرجعون في قولهم إلى آية من التنـزيل محكمة، ولا رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة ولا سقيمة, فهم في الظلمات يخبطون, وفي العمياء يتردّدون, نعوذ بالله من الحيرة والضلالة. وأما قوله: « وهو اللطيف الخبير » ، فإنه يقول: والله تعالى ذكره المتيسر له من إدراك الأبصار, والمتأتِّي له من الإحاطة بها رؤيةُ ما يعسر على الأبصار من إدراكها إياه وإحاطتها به ويتعذر عليها « الخبير » ، يقول: العليم بخلقه وأبصارهم، والسبب الذي له تعذر عليها إدراكه، فلطف بقدرته فهيأ أبصار خلقه هيئة لا تدركه, وخبرَ بعلمه كيف تدبيرها وشؤونها وما هو أصلح بخلقه، كالذي: حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية في قوله: « اللطيف الخبير » ، قال: « اللطيف » باستخراجها « الخبير » ، بمكانها . القول في تأويل قوله تعالى : قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ( 104 ) قال أبو جعفر: وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الذين نبَّههم بهذه الآيات من قوله: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى إلى قوله: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ على حججه عليهم, وعلى سائر خلقه معهم, العادلين به الأوثان والأنداد, والمكذبين بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم من عند الله قل لهم يا محمد: « قد جاءكم » ، أيها العادلون بالله، والمكذبون رسوله « بصائر من ربكم » ، أي: ما تبصرون به الهدى من الضلال، والإيمان من الكفر . وهي جمع « بصيرة » , ومنه قول الشاعر: حَــمَلُوا بَصَـائِرَهُمْ عَـلَى أَكْتَـافِهِمْ وَبَصِــيرَتِي يَعْـدُو بِهَـا عَتَـدٌ وَأَى يعني بالبصيرة: الحجة البينة الظاهرة ، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد, في قوله: « قد جاءكم بصائر من ربكم » قال: « البصائر » الهدى، بصائر في قلوبهم لدينهم, وليست ببصائر الرؤوس . وقرأ: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ سورة الحج: 46 ] وقال: إنما الدين بصره وسمعه في هذا القلب . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: « قد جاءكم بصائر من ربكم » ، أي بينة . وقوله: « فمن أبصر فلنفسه » يقول: فمن تبين حجج الله وعرَفها وأقرَّ بها، وآمن بما دلّته عليه من توحيد الله وتصديق رسوله وما جاء به, فإنما أصاب حظ نفسه، ولنفسه عمل, وإياها بَغَى الخير « ومن عمي فعليها » ، يقول: ومن لم يستدلّ بها، ولم يصدق بما دلَّته عليه من الإيمان بالله ورسوله وتنـزيله, ولكنه عمي عن دلالتها التي تدل عليها, يقول: فنفسَه ضر، وإليها أساء لا إلى غيرها . وأما قوله: « وما أنا عليكم بحفيظ » ، يقول: وما أنا عليكم برقيب أحصي عليكم أعمالكم وأفعالكم, وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلت به إليكم, والله الحفيظ عليكم، الذي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم . القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 105 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما صرفت لكم، أيها الناس، الآيات والحجج في هذه السورة، وبينتها, فعرفتكموها، في توحيدي وتصديق رسولي وكتابي ووقَّفتكم عليها, فكذلك أبيِّن لكم آياتي وحججي في كل ما جهلتموه فلم تعرفوه من أمري ونهيي ، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « وكذلك نصرف الآيات » ، لهؤلاء العادلين بربهم, كما صرفتها في هذه السورة, ولئلا يقولوا: درسْتَ . واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قَرَأة أهل المدينة والكوفة: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، يعني: قرأت، أنت، يا محمد، بغير « ألف » . وقرأ ذلك جماعة من المتقدمين، منهم ابن عباس، على اختلاف عنه فيه, وغيرُه وجماعة من التابعين, وهو قراءة بعض قَرَأة أهل البصرة: « وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ » ، بألف, بمعنى: قارأت وتعلمت من أهل الكتاب . وروى عن قتادة: أنه كان يقرؤه: « دُرِسَتْ » ، بمعنى: قرئت وتليت . وعن الحسن أنه كان يقرؤه: « دَرَسَتْ » ، بمعنى: انمحت . قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأه: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، بتأويل: قرأتَ وتعلمت; لأن المشركين كذلك كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله عن قيلهم ذلك بقوله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [ سورة النحل: 103 ] . فهذا خبرٌ من الله ينبئ عنهم أنهم كانوا يقولون: إنما يتعلم محمد ما يأتيكم به من غيره . فإذ كان ذلك كذلك, فقراءة: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، يا محمد, بمعنى: تعلمت من أهل الكتاب, أشبهُ بالحق، وأولى بالصواب من قراءة من قرأه: « دارسْتَ » ، بمعنى: قارأتهم وخاصمتهم, وغير ذلك من القراءات . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، على قدر اختلاف القرأة في قراءته . * ذكر من قرأ ذلك: ( وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ ) ، من المتقدمين, وتأويله بمعنى: تعلمت وقرأت . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح قال، حدثنا علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وليقولوا درست ) ، قالوا: قرأت وتعلمت. تقول ذلك قريش . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد: ( وليقولوا درست ) قال: قرأت وتعلمت . حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل وافقه, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس: ( وليقولوا درست ) ، قال: قرأت وتعلمت . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وليقولوا درست ) ، يقول: قرأت الكتب . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنى عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( درست ) ، يقول: تعلمت وقرأت . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن التميمي, قال: قلت لابن عباس: أرأيت قوله: ( درست ) ؟ قال: قرأت وتعلمت . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس, مثله . * ذكر من قرأ ذلك ( دَارَسْتَ ) ، وتأوله بمعنى: جادلت، من المتقدمين . حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث, عن حميد, عن مجاهد, عن ابن عباس: « دارست » ، يقول: قارأت . حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أيوب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أنه كان يقرؤها: « وَلِيَقُولُوا دَارَسْتَ » ، أحسبه قال: قارأت أهل الكتاب . حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن التميمي, عن ابن عباس: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت وتعلمت . حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق قال، سمعت التميمي يقول: سألت ابن عباس عن قوله: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت وتعلَّمت . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية, عن أبي المعلى, عن سعيد بن جبير قال، كان ابن عباس يقرؤها: « دَارَسْتَ » . حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو المعلى قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: كان ابن عباس يقرأ: « دَارَسْتَ » ، بالألف, بجزم السين، ونصب التاء . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار قال، أخبرني عمرو بن كيسان: أن ابن عباس كان يقرأ: « دَارَسْتَ » ، تلوت, خاصمت, جادلت . حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا سفيان بن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عمرو بن كيسان, قال ابن عباس في: « دارست » ، قال: تلوت, خاصمت, جادلت . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير في هذه الآية: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت . حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو بشر, عن سعيد بن جبير أنه قرأ: « دَارَسْتَ » ، بالألف أيضًا، منتصبة التاء, وقال: قارأت . حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا أبو عوانة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جبير أنه قرأ: « دَارَسْتَ » ، أي: ناسخت . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: « دارست » ، قال: فاقهت، قرأت على يهود، وقرءوا عليك . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « وليقولوا دارست » ، قال: قارأت, قرأت على يهود، وقرءوا عليك . حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك في قوله: « دارست » ، يعني، أهلَ الكتاب . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « دارست » ، قال: قرأت على يهود, وقرءوا عليك . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس في قوله: « وليقولوا دارست » ، قال: قالوا دارستَ أهل الكتاب, وقرأت الكتب وتعلَّمتها . * ذكر من قرأ ذلك: « دُرِسَتْ » بمعنى: تُليت، وقُرِئت, على وجه ما لم يسمَّ فاعله. حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا الحسين المعلم وسعيد, عن قتادة: « وكذلك نصرف الآيات وليقولوا دُرِسَتْ » ، أي: قرئت وتعلمت . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر قال، قال قتادة: « دُرِست » ، قرئت وفي حرف ابن مسعود: « دَرَسَ » . ذكر من قال ذلك: « دَرَسَتْ » بمعنى: انمحت وتقادمت، أي هذا الذي تتلوه علينا قد مرَّ بنا قديمًا، وتطاولت مدته. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد, قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قال: كان الحسن يقرأ: « وَلِيَقُولُوا دَرَسَتْ » ، أي: انمحت . حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال: في قراءة ابن مسعود: « دَرَسَتْ » ، بغير ألف, بنصب السين، ووقف التاء . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار قال، سمعت ابن الزبير يقول: إن صبيانًا ههنا يقرؤون: « دَارَسْتَ » وإنما هي « دَرَسَتْ » . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمرقال: قال الحسن: « وليقولوا دَرَسَتْ » : يقول: تقادمت وانمحت . وقرأ ذلك آخرون: « دَرَسَ » , من « درس الشيء » ، تلاه . حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي قال، حدثنا أبو عبيدة قال، حدثنا حجاج, عن هارون قال: هي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود: « وَلِيَقُولُوا دَرَسَ » ، قال: يعني النبي صلى الله عليه وسلم، قرَأ . وإنما جاز أن يقال مرة: « دَرَسْتَ » , ومرة « دَرَسَ » , فيخاطب مرة، ويخبر مرة, من أجل القول . قال أبو جعفر: وقد بينا أولى هذه القراءات في ذلك الصواب عندنا, والدلالة على صحة ما اخترنا منها . وأما تأويل قوله: « ولنبينه لقوم يعلمون » ، يقول تعالى ذكره: كما صرفنا الآيات والعبر والحجج في هذه السورة لهؤلاء العادلين بربهم الآلهة والأنداد, كذلك نصرف لهم الآيات في غيرها, كيلا يقولوا لرسولنا الذي أرسلناه إليهم: « إنما تعلمت ما تأتينا به تتلوه علينا من أهل الكتاب » , فينـزجروا عن تكذيبهم إياه، وتقوُّلهم عليه الإفك والزور, ولنبين بتصريفنا الآيات الحقَّ، لقوم يعلمون الحق إذا تبيَّن لهم فيتبعوه ويقبلوه, وليسوا كمن إذا بُيِّن لهم عَمُوا عنه فلم يعقلوه، وازدادوا من الفهم به بعدًا . القول في تأويل قوله تعالى : اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( 106 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: اتبع، يا محمد، ما أمرك به ربك في وحيه الذي أوحاه إليك, فاعمل به, وانـزجر عما زجرك عنه فيه, ودع ما يدعوك إليه مشركو قومك من عبادة الأوثان والأصنام, فإنه لا إله إلا هو. يقول: لا معبود يستحق عليك إخلاص العبادة له إلا الله الذي هو فالق الحب والنوى، وفالق الإصباح، وجاعلُ الليل سكنًا، والشمسَ والقمر حسبانًا ( وأعرض عن المشركين ) , يقول: ودع عنك جدالهم وخصومتهم . ثم نسخ ذلك جل ثناؤه بقوله في براءة: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، الآية [ سورة التوبة: 5 ] . كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: أما قوله: ( وأعرض عن المشركين ) ونحوه، مما أمر الله المؤمنين بالعفو عن المشركين, فإنه نسخ ذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( 107 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أعرض عن هؤلاء المشركين بالله, ودع عنك جدالهم وخصومتهم ومسابَّتهم ( ولو شاء الله ما أشركوا ) ، يقول: لو أراد ربُّك هدايتهم واستنقاذهم من ضلالتهم، للطف لهم بتوفيقه إياهم فلم يشركوا به شيئًا، ولآمنوا بك فاتبعوك وصدَّقوا ما جئتهم به من الحق من عند ربك ( وما جعلناك عليهم حفيظًا ) ، يقولُ جل ثناؤه: وإنما بعثتك إليهم رسولا مبلِّغًا, ولم نبعثك حافظًا عليهم ما هم عاملوه، تحصي ذلك عليهم, فإن ذلك إلينا دونك ( وما أنت عليهم بوكيل ) ، يقول: ولست عليهم بقيِّم تقوم بأرزاقهم وأقواتهم ولا بحفظهم، فما لم يُجْعل إليك حفظه من أمرهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولو شاء الله ما أشركوا ) ، يقول سبحانه: لو شئتُ لجمعتهم على الهدى أجمعين . القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: ولا تسبُّوا الذين يدعو المشركون من دون الله من الآلهة والأنداد, فيسبَّ المشركون اللهَ جهلا منهم بربهم، واعتداءً بغير علم ، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) ، قال: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبِّ آلهتنا، أو لنهجوَنَّ ربك ! فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدوًا بغير علم . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) ، كان المسلمون يسبون أوثان الكفار, فيردّون ذلك عليهم, فنهاهم الله أن يستسِبُّوا لربهم, فإنهم قومٌ جهلة لا علم لهم بالله . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) ، قال: لما حضر أبا طالب الموتُ, قالت قريش: انطلقوا بنا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه, فإنا نستحي أن نقتله بعد موته, فتقول العرب: « كان يمنعه فلما مات قتلوه » ! فانطلق أبو سفيان, وأبو جهل, والنضر بن الحارث, وأمية وأبيّ ابنا خلف, وعقبة بن أبي معيط, وعمرو بن العاص, والأسود بن البختري, وبعثوا رجلا منهم يقال له: « المطلب » , قالوا: استأذن على أبي طالب ! فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخولَ عليك ! فأذن لهم, فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب, أنت كبيرنا وسيدنا, وإنّ محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا, فنحبّ أن تدعوه فتنهاهُ عن ذكر آلهتنا, ولندَعْه وإلهه ! فدعاه, فجاء نبي الله صلى الله عليه وسلم, فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، وندعك وإلهك ! قال له أبو طالب: قد أنصفك قومك, فاقبل منهم ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطيَّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب, ودانت لكم بها العجم، وأدَّت لكم الخراج؟ » قال أبو جهل: نعم وأبيك، لنعطينكها وعشرَ أمثالها, فما هي؟ قال: قولوا: « لا إله إلا الله » ! فأبوا واشمأزُّوا . قال أبو طالب: يا ابن أخي، قل غيرها, فإن قومك قد فزعوا منها ! قال: يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوني بالشمس فيضعوها في يديّ, ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يديّ ما قلت غيرها! إرادةَ أن يُؤْيسهم ، فغضبوا وقالوا: لتكفّنَّ عن شتمك آلهتنا, أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك . فذلك قوله ( فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله عدوًا بغير علم, فأنـزل الله: ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فيسبوا الله عدوًا بغير علم ) قال: إذا سببت إلهه سبَّ إلهك, فلا تسبوا آلهتهم . قال أبو جعفر: وأجمعت الحجة من قرأة الأمصار على قراءة ذلك: ( فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ، بفتح العين، وتسكين الدال, وتخفيف الواو من قوله: ( عدوًا ) ، على أنه مصدر من قول القائل: « عدا فلان على فلان » ، إذا ظلمه واعتدى عليه, « يعدو عَدْوًا وعُدُوًّا وعُدْوانًا » . و « الاعتداء » ، إنما هو: « افتعال » ، من ذلك . روى عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: « عُدُوًّا » مشددة الواو . حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج, عن هارون, عن عثمان بن سعد: ( فَيَسُبُّوا اللَّهَ عُدُوًّا ) ، مضمومة العين، مثقّلة . وقد ذكر عن بعض البصريين أنه قرأ ذلك: « فَيَسُبُّوا الَله عَدُوًّا » ، يوجِّه تأويله إلى أنهم جماعة, كما قال جل ثناؤه: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ ، [ سورة الشعراء: 77 ] , وكما قال: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ، [ سورة الممتحنة: 1 ] ويجعل نصب « العدوّ » حينئذ على الحال من ذكر « المشركين » في قوله: ( فيسبوا ) ، فيكون تأويل الكلام: ولا تسبوا أيها المؤمنون الذين يدعو المشركون من دون الله, فيسب المشركون الله، أعداءَ الله، بغير علم . وإذا كان التأويل هكذا، كان « العدوّ » ، من صفة « المشركين » ونعتهم, كأنه قيل: فيسب المشركون أعداء الله، بغير علم ولكن « العدوّ » لما خرج مخرج النكرة وهو نعت للمعرفة، نصب على الحال . قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك، قراءةُ من قرأ بفتح العين وتخفيف الواو، لإجماع الحجة من القرأة على قراءة ذلك كذلك, وغير جائز خلافُها فيما جاءت به مجمعة عليه . القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 108 ) يقول تعالى ذكره: كما زيّنا لهؤلاء العادلين بربهم الأوثَانَ والأصنام، عبادةَ الأوثان وطاعةَ الشيطان بخذلاننا إيّاهم عن طاعة الرحمن, كذلك زيَّنا لكل جماعةٍ اجتمعت على عملٍ من الأعمال من طاعة الله ومعصيته، عملَهم الذي هم عليه مجتمعون, ثم مرجعهم بعد ذلك ومصيرهم إلى ربهم « فينبئهم بما كانوا يعملون » . يقول: فيُوقفهم ويخبرهم بأعمالهم التي كانوا يعملون بها في الدنيا, ثم يجازيهم بها، إن كان خيرًا فخيرًا، وإن كان شرًّا فشرًّا, أو يعفو بفضله، ما لم يكن شركًا أو كفرًا . القول في تأويل قوله تعالى : وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ( 109 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحلف بالله هؤلاء العادلون بالله جَهْد حَلِفهم, وذلك أوكدُ ما قدروا عليه من الأيمان وأصعبُها وأشدُّها ( لئن جاءتهم آية ) ، يقول: قالوا: نقسم بالله لئن جاءتنا آية تصدِّق ما تقول، يا محمد، مثلُ الذي جاء مَنْ قبلنا من الأمم ( ليؤمنن بها ) ، يقول: قالوا: لنصدقن بمجيئها بك, وأنك لله رسولٌ مرسل, وأنّ ما جئتنا به حقُّ من عند الله . وقيل: « ليؤمنن بها » , فأخرج الخبر عن « الآية » ، والمعنى لمجيء الآية . يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قل إنما الآيات عند الله ) ، وهو القادر على إتيانكم بها دون كل أحد من خلقه ( وما يشعركم ) ، يقول: وما يدريكم ( أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) ؟ وذكر أن الذين سألوه الآية من قومه، هم الذين آيس الله نبيَّه من إيمانهم من مشركي قومه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) ، إلى قوله: يَجْهَلُونَ ، سألت قريش محمدًا أن يأتيهم بآية, واستحلفهم: ليؤمننّ بها . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح: ( لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) ، ثم ذكر مثله . حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أبو معشر, عن محمد بن كعب القرظي قال: كلّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا, فقالوا: يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصًا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا, وتخبرنا أنّ عيسى كان يحيي الموتى, وتخبرنا أن ثَمُود كانت لهم ناقة، فأتنا بشيء من الآيات حتى نصدقك ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيَّ شيء تحبُّون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعَلُ لنا الصَّفَا ذهبًا. فقال لهم: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله، لئن فعلت لنتبعنّك أجمعين ! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو, فجاءه جبريل عليه السلام فقال له: لك ما شئت، إن شئتَ أصبح ذهبًا, ولئن أرسل آيةً فلم يصدقوا عند ذلك لنعذبنَّهم, وإن شئت فأنْدِحْهُم حتى يتوب تائبهم . فقال: بل يتوب تائبهم . فأنـزل الله تعالى: ( وأقسموا بالله ) إلى قوله: يَجْهَلُونَ . القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله: ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) . فقال بعضهم: خوطب بقوله: ( وما يشعركم ) المشركون المقسمون بالله، لئن جاءتهم آية ليؤمنن وانتهى الخبر عند قوله: ( وما يشعركم ) ، ثم استُؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافًا مبتدأ . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وما يشعركم ) ، قال: ما يدريكم . قال: ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وما يشعركم ) ، وما يدريكم « أنها إذا جاءت » ، قال: أوجب عليهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، سمعت عبد الله بن زيد يقول: إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ , ثم يستأنف فيقول: إنها إذا جاءت لا يؤمنون . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: « إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ » ، وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت. ثم استقبل يخبر عنهم فقال: إذا جاءت لا يؤمنون . وعلى هذا التأويل قراءةُ من قرأ ذلك بكسر ألف: « إنَّها » ، على أن قوله: « إِنَّهَا إِذَا جَاءَتَ لا يُؤْمِنُون » ، خبر مبتدأ منقطعٌ عن الأول. وممن قرأ ذلك كذلك، بعضُ قرأة المكيين والبصريين . وقال آخرون منهم: بل ذلك خطابٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه. قالوا: وذلك أنّ الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآيةٍ, المؤمنون به . قالوا: وإنما كان سببَ مسألتهم إيّاه ذلك، أن المشركين حَلَفوا أنّ الآية إذا جاءت آمنوا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا رسول الله ربك ذلك ! فسأل, فأنـزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك: « قُلْ » للمؤمنين بك يا محمد « إنما الآيات عند الله وما يشعركم » ، أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله، أنهم لا يؤمنون به ففتحوا « الألف » من « أنّ » . ومن قرأ ذلك كذلك، عامة قرأة أهل المدينة والكوفة, وقالوا: أدخلت « لا » في قوله: ( لا يؤمنون ) صلة, كما أدخلت في قوله: مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ ، [ سورة الأعراف: 12 ] ، وفي قوله: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ، [ سورة الأنبياء: 95 ] ، وإنما المعنى: وحرام عليهم أن يرجعوا وما منعك أن تسجُد . وقد تأوَّل قوم قرؤوا، ذلك بفتح « الألف » من ( أنها ) بمعنى: لعلها. وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبيّ بن كعب . وقد ذكر عن العرب سماعًا منها: « اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئًا » , بمعنى: لعلك تشتري. وقد قيل: إن قول عدي بن زيد العِبَاديّ: أَعَــاذِلَ, مَــا يُـدْرِيكِ أَنَّ مَنِيَّتِـي إلَـى سَاعَةٍ فِي الْيَومِ أَوْ فِي ضُحَى الغَدِ بمعنى: لعل منيَّتي; وقد أنشدوا في بيت دريد بن الصمة: ذَرِينِـي أُطَـوِّفْ فِـي البِـلادِ لأَنَّنِـي أَرَى مَــا تَـرَيْنَ أَوْ بَخِـيلا مُخَـلَّدَا بمعنى: لعلني . والذي أنشدني أصحابُنا عن الفراء: « لعلَّني أَرَى ما ترَيْن » . وقد أنشد أيضًا بيتُ توبة بن الحميِّر: لَعَلَّـك يَـا تَيْسًـا نـزا فـيِ مَرِيـرَةٍ مُعَــذِّبُ لَيْـلَى أَنْ تَـرَانِي أَزُورُهَـا « لهَنَّك يا تيسًا » , بمعنى: « لأنّك » التي في معنى « لعلك » ، وأنشد بيت أبي النجم العجليّ: قُلْــتُ لِشَــيْبَانَ ادْنُ مِــنْ لِقَائِـهِ أَنَّــا نُغَــدِّي القَـوْمَ مِـنْ شِـوَائِهِ بمعنى: لعلنا نغدِّي القوم . قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الآية, قولُ من قال: ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله أعنى قوله: ( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ) وأن قوله: « أنها » ، بمعنى: لعلَّها . وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لاستفاضة القراءة في قرأة الأمصار بالياء من قوله: ( لا يؤمنون ) . ولو كان قوله: ( وما يشعركم ) خطابًا للمشركين, لكانت القراءة في قوله: ( لا يؤمنون ) ، بالتاء, وذلك، وإن كان قد قرأه بعض قرأة المكيين كذلك, فقراءةٌ خارجة عما عليه قرأة الأمصار, وكفى بخلاف جميعهم لها دليلا على ذهابها وشذوذها . وإنما معنى الكلام: وما يدريكم، أيها المؤمنون، لعل الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون، فيعاجلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك، ولا يؤخَّروا به . القول في تأويل قوله تعالى : وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: لو أنَّا جئناهم بآية كما سألوا، ما آمنوا، كما لم يؤمنوا بما قبلَها أول مرة, لأن الله حال بينهم وبين ذلك : ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ) الآية, قال: لما جحد المشركون ما أنـزل الله، لم تثبت قلوبهم على شيء، ورُدَّتْ عن كل أمر . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) ، قال: نمنعهم من ذلك، كما فعلنا بهم أول مرة . وقرأ: ( كما لم يؤمنوا به أول مرة ) . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم ) ، قال: نحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون, كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة . وقال آخرون: معنى ذلك: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لو رُدُّوا من الآخرة إلى الدنيا فلا يؤمنون، كما فعلنا بهم ذلك, فلم يؤمنوا في الدنيا . قالوا: وذلك نظير قوله وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ، [ سورة الأنعام: 28 ] . * ذكر من قال قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه ما العبادُ قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه. قال: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ : أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ، [ سورة الزمر: 56- 58 ] ، يقول: من المهتدين . فأخبر الله سبحانه أنهم لو رُدُّوا [ إلى الدنيا، لما استقاموا ] على الهدى، و [ قال ] : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ , وقال: « ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة » ، قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى, كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا . قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه، أخبر عن هؤلاء الذين أقسموا بالله جهدَ أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها: أنَّه يقلب أفئدتهم وأبصارهم ويصرِّفها كيف شاء, وأنّ ذلك بيده يقيمه إذا شاء، ويزيغه إذا أراد وأنّ قوله: ( كما لم يؤمنوا به أول مرة ) ، دليل على محذوف من الكلام وأنّ قوله: « كما » تشبيه ما بعده بشيء قبله . وإذْ كان ذلك كذلك, فالواجب أن يكون معنى الكلام: ونقلب أفئدتَهم، فنـزيغها عن الإيمان, وأبصارَهم عن رؤية الحق ومعرفة موضع الحجة, وإن جاءتهم الآية التي سألوها، فلا يؤمنوا بالله ورسوله وما جاء به من عند الله، كما لم يؤمنوا بتقليبنا إياها قبلَ مجيئها مرَّة قبل ذلك . وإذا كان ذلك تأويله، كانت « الهاء » من قوله: ( كما لم يؤمنوا به ) ، كناية ذكر « التقليب » . القول في تأويل قوله تعالى : وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 110 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونذر هؤلاء المشركين الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها عند مجيئها في تمرُّدهم على الله واعتدائهم في حدوده, يتردَّدون، لا يهتدون لحق، ولا يبصرون صوابًا, قد غلب عليهم الخِذْلان، واستحوذ عليهم الشيطانُ . القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ( 111 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد, آيسْ من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثانَ والأصنام ، القائلين لك: « لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك » , فإننا لو نـزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانًا، وكلمهم الموتى بإحيائنا إياهم حُجَّةً لك، ودلالة على نبوّتك, وأخبروهم أنك محقٌّ فيما تقول, وأن ما جئتهم به حقٌّ من عند الله, وحشرنا عليهم كل شيء فجعلناهُم لك قبلا ما آمنوا ولا صدّقوك ولا اتبعوك إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم ( ولكن أكثرهم يجهلون ) ، يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن ذلك كذلك, يحسبون أن الإيمان إليهم، والكفرَ بأيديهم, متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا كفروا . وليس ذلك كذلك, ذلك بيدي, لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته, ولا يكفر إلا من خذلته عن الرشد فأضللته . وقيل: إن ذلك نـزل في المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم, وما جاء به من عند الله, من مشركي قريش . ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج قال: نـزلت في المستهزئين الذين سألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم الآية, فقال: قُلْ ، يا محمد، إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ، ونـزل فيهم: ( ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) . وقال آخرون: إنما قيل: ( ما كانوا ليؤمنوا ) ، يراد به أهل الشقاء, وقيل: ( إلا أن يشاء الله ) ، فاستثنى ذلك من قوله: ( ليؤمنوا ) ، يراد به أهل الإيمان والسعادة . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن ابن عباس قوله: ( ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا ) ، وهم أهل الشقاء ثم قال: ( إلا أن يشاء الله ) ، وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه أن يدخلوا في الإيمان . قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس, لأن الله جل ثناؤه عمَّ بقوله: ( ما كانوا ليؤمنوا ) ، القوم الذين تقدّم ذكرهم في قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا . وقد يجوز أن يكون الذين سألوا الآية كانوا هم المستهزئين الذين قال ابن جريج إنهم عُنوا بهذه الآية، ولكن لا دلالة في ظاهر التنـزيل على ذلك، ولا خبر تقوم به حجة بأن ذلك كذلك . والخبر من الله خارجٌ مخرجَ العموم, فالقول بأنَّ ذلك عنى به أهل الشقاء منهم أولى، لما وصفنا . واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) . فقرأته قرأة أهل المدينة: « قِبَلا » ، بكسر « القاف » وفتح « الباء » , بمعنى: معاينةً من قول القائل: « لقيته قِبَلا » ، أي معاينة ومُجاهرةً . وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين: ( وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا ) ، بضم « القاف » ، « والباء » . وإذا قرئ كذلك، كان له من التأويل ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون « القبل » جمع « قبيل » ، كالرُّغُف التي هي جمع « رغيف » , و « القُضُب » التي هي جمع « قضيب » , ويكون « القبل » ، الضمناء والكفلاء وإذا كان ذلك معناه, كان تأويل الكلام: وحشرنا عليهم كل شيء كُفَلاء يكفلون لهم بأن الذي نعدهم على إيمانهم بالله إن آمنوا، أو نوعدهم على كفرهم بالله إن هلكوا على كفرهم, ما آمنوا إلا أن يشاء الله . والوجه الآخر: أن يكون « القبل » بمعنى المقابلة والمواجهة, من قول القائل: « أتيتُك قُبُلا لا دُبُرًا » , إذا أتاه من قبل وجهه . والوجه الثالث: أن يكون معناه: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلةً قبيلةً, صنفًا صنفًا, وجماعة جماعةً ، فيكون « القبل » حينئذ جمع « قبيل » ، الذي هو ج مع « قبيلة » , فيكون « القبل » جمع الجمع . وبكل ذلك قد قالت جماعة من أهل التأويل . * ذكر من قال: معنى ذلك: معاينةً . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، يقول: معاينة . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، حتى يعاينوا ذلك معاينة ( ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ) . * ذكر من قال: معنى ذلك: قبيلة قبيلة، صنفًا صنفًا . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: من قرأ: ( قُبُلا ) ، معناه: قبيلا قبيلا . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ( قُبُلا ) ، أفواجًا, قبيلا قبيلا . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أحمد بن يونس, عن أبي خيثمة قال، حدثنا أبان بن تغلب قال، حدثني طلحة أن مجاهدًا قرأ في « الأنعام » : ( كل شيء قُبُلا ) ، قال: قبائل, قبيلا وقبيلا وقبيلا . * ذكر من قال: معناه: مقابلةً . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، يقول: لو استقبلهم ذلك كله, لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ) ، قال: حشروا إليهم جميعًا, فقابلوهم وواجهوهم . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن يزيد: قرأ عيسى: ( قُبُلا ) ومعناه: عيانًا . قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا, قراءةُ من قرأ: ( وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا ) ، بضم « القاف » و « الباء » ، لما ذكرنا من احتمال ذلك الأوجهَ التي بينّا من المعاني, وأن معنى « القِبَل » داخلٌ فيه, وغير داخل في القبل معاني « القِبَل » . وأما قوله: ( وحشرنا عليهم ) ، فإن معناه: وجمعنا عليهم, وسقنا إليهم . القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مسلِّيَه بذلك عما لقي من كفرة قومه في ذات الله, وحاثًّا له على الصبر على ما نال فيه: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا ) ، يقول: وكما ابتليناك، يا محمد، بأن جعلنا لك من مشركي قومك أعداء شياطينَ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، ليصدُّوهم بمجادلتهم إياك بذلك عن اتباعك والإيمان بك وبما جئتهم به من عند ربّك، كذلك ابتلينا من قبلك من الأنبياء والرسّل, بأن جعلنا لهم أعداءً من قومهم يؤذُونهم بالجدال والخصومات. يقول: فهذا الذي امتحنتك به، لم تخصص به من بينهم وحدك, بل قد عممتهم بذلك معك لأبتليهم وأختبرهم، مع قدرتي على منع من آذاهم من إيذائهم, فلم أفعل ذلك إلا لأعرف أولي العزم منهم من غيرهم. يقول: فاصبر أنتَ كما صبر أولو العزم من الرسل . وأما « شياطين الإنس والجن » ، فإنهم مَرَدتهم ، وقد بينا الفعل الذي منه بُنِي هذا الاسم، بما أغنى عن إعادته . ونصب « العدو » و « الشياطين » بقوله: ( جعلنا ) . وأما قوله: ( يُوحِي بعضُهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ) ، فإنه يعني أنّه يلقي الملقي منهم القولَ، الذي زيّنه وحسَّنه بالباطل إلى صاحبه, ليغترّ به من سمعه، فيضلّ عن سبيل الله . ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( شياطين الإنس والجن ) . فقال بعضهم: معناه: شياطين الإنس التي مع الإنس, وشياطين الجن التي مع الجنّ، وليس للإنس شياطين . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجنّ يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه ) ، أما « شياطين الإنس » ، فالشياطين التي تضلّ الإنس « وشياطين الجن » ، الذين يضلون الجنّ، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما: « إني أضللت صاحبي بكذا وكذا, وأضللت أنت صاحبك بكذا وكذا » , فيعلم بعضُهم بعضًا . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة: ( شياطين الإنس والجن ) ، قال: ليس في الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس, وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن السدي في قوله: ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ) ، قال: للإنسان شيطان, وللجنّي شيطان, فيلقَى شيطان الإنس شيطان الجن, فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا . قال أبو جعفر: جعل عكرمة والسدي في تأويلهما هذا الذي ذكرت عنهما، عدوّ الأنبياء الذين ذكرهم الله في قوله: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا ) ، أولادَ إبليس، دون أولاد آدم، ودون الجن وجعل الموصوفين بأن بعضهم يوحي إلى بعض زخرف القول غرورًا, ولدَ إبليس, وأن مَنْ مع ابن آدم من ولد إبليس يوحي إلى مَنْ مع الجن من ولده زخرفَ القول غرورًا . وليس لهذا التأويل وجه مفهوم, لأن الله جعل إبليس وولده أعداءَ ابن آدم, فكل ولده لكل ولده عدوّ. وقد خصّ الله في هذه الآية الخبر عن الأنبياء أنه جعل لهم من الشياطين أعداءً. فلو كان معنيًّا بذلك الشياطين الذين ذكرهم السدي, الذين هم ولد إبليس, لم يكن لخصوص الأنبياء بالخبرِ عنهم أنه جعل لهم الشياطين أعداءً، وجهٌ . وقد جعل من ذلك لأعدى أعدائه، مثل الذي جعل لهم. ولكن ذلك كالذي قلنا، من أنه معنيٌّ به أنه جعل مردة الإنس والجن لكل نبي عدوًّا يوحي بعضهم إلى بعض من القول ما يؤذيهم به . وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن حميد بن هلال قال، حدثني رجل من أهل دمشق, عن عوف بن مالك, عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا ذر, هل تعوَّذت بالله من شر شياطين الإنس والجنّ؟ قال: قلت: يا رسول الله, هل للإنس من شياطين؟ قال: نعم! حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة, عن ابن عائذ, عن أبي ذر, أنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس, قال فقال: يا أبا ذر, هل صلَّيت؟ قال قلت: لا يا رسول الله. قال: قم فاركع ركعتين. قال: ثم جئت فجلستُ إليه فقال: يا أبا ذر، هل تعوَّذت بالله من شرِّ شياطين الإنس والجن؟ قال قلت: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: نعم, شرٌّ من شياطين الجن! حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة قال: بلغني أن أبا ذر قام يومًا يُصلّي, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر، من شياطين الإنس والجن. فقال: يا رسول الله، أوَ إنّ من الإنس شياطين؟ قال: نعم! وقال آخرون في ذلك بنحو الذي قلنا: من أن ذلك إخبارٌ من الله أنّ شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض . ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن قتادة في قوله: ( شياطين الإنس والجن ) ، قال: من الجن شياطين, ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض قال قتادة: بلغني أن أبا ذر كان يومًا يصلّي, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تعوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن. فقال: يا نبي الله, أوَ إن من الإنس شياطين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم! حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجن ) ، الآية, ذكر لنا أنّ أبا ذر قام ذات يوم يصلي, فقال له نبي الله: تعوّذ بالله من شياطين الجن والإنس. فقال: يا نبي الله، أوَ للإنس شياطين كشياطين الجن؟ قال: « نعم, أوَ كذَبْتُ عليه؟ » حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوَّا شياطين الإنس والجن ) ، فقال: كفار الجنّ شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفارِ الإنس، زخرفَ القول غرورًا . وأما قوله: ( زُخرف القول غرورًا ) ، فإنه المزيَّن بالباطل، كما وصفت قبل. يقال منه: « زخرف كلامه وشهادته » ، إذا حسَّن ذلك بالباطل ووشّاه ، كما:- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم, عن شريك, عن سعيد بن مسروق, عن عكرمة قوله: ( زخرف القول غرورًا ) قال: تزيين الباطل بالألسنة . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « الزخرف » , فزخرفوه، زيَّنوه . حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( زخرف القول غرورًا ) ، قال: تزيين الباطل بالألسنة . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( زخرف القول غرورًا ) ، يقول: حسَّن بعضهم لبعضٍ القول ليتّبعوهم في فتنتهم . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( زخرف القول غرورًا ) قال: « الزخرف » ، المزيَّن, حيث زيَّن لهم هذا الغرور, كما زيَّن إبليس لآدم ما جاءه به وقاسمه إنه له لمن الناصحين . وقرأ: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ، [ سورة فصلت: 25 ] . قال: ذلك الزخرف . وأما « الغرور » ، فإنه ما غرّ الإنسان فخدعه فصدَّه عن الصواب إلى الخطأ وعن الحق إلى الباطل وهو مصدر من قول القائل: « غررت فلانًا بكذا وكذا, فأنا أغرُّه غرورًا وغرًّا . كالذي:- » حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( غرورًا ) قال: يغرّون به الناسَ والجنّ . القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 112 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شئت، يا محمد، أن يؤمن الذين كانوا لأنبيائي أعداءً من شياطين الإنس والجن فلا ينالهم مكرهم ويأمنوا غوائلهم وأذاهم, فعلتُ ذلك، ولكني لم أشأ ذلك، لأبتلي بعضهم ببعض، فيستحق كل فريق منهم ما سبق له في الكتاب السابق ( فذرهم ) ، يقول: فدعهم يعني الشياطين الذين يجادلونك بالباطل من مشركي قومك ويخاصمونك بما يوحي إليهم أولياؤهم من شياطين الإنس والجن ( وما يفترون ) ، يعني: وما يختلقون من إفك وزور. يقول له صلى الله عليه وسلم: اصبر عليهم، فإني من وراء عقابهم على افترائهم على الله، واختلاقهم عليه الكذبَ والزور . القول في تأويل قوله تعالى : وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ( ولتصغى إليه ) ، يقول جل ثناؤه: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيَّن من القول بالباطل, ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، يقول: ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة . وهو من « صغَوْت تَصْغَى وتصغُو » والتنـزيل جاء بـ « تصغَى » « صَغْوًا، وصُغُوًّا » ، وبعض العرب يقول: « صغيت » ، بالياء، حكي عن بعض بني أسد: « صَغيت إلى حديثه, فأنا أصغَى صُغِيًّا » بالياء, وذلك إذا ملت. يقال: « صَغْوِي معك » ، إذا كان هواك معه وميلك, مثل قولهم: « ضِلَعِي معك » . ويقال: « أصغيت الإناء » إذا أملته ليجتمع ما فيه، ومنه قول الشاعر: تَـرَى السَّـفِيهَ بِـهِ عَـنْ كُـلِّ مُحْكَمَةٍ زَيْـغٌ, وفيـهِ إلَـى التَّشْـبِيهِ إصْغَـاءُ ويقال للقمر إذا مال للغيوب: « صغا » و « أصغى » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن على بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( ولتصغى إليه أفئدة ) ، يقول: تزيغ إليه أفئدة . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، قال: لتميل . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، يقول: تميل إليه قلوبُ الكفار، ويحبونه، ويرضون به . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، قال: « ولتصغى » ، وليهووا ذلك وليرضوه. قال: يقول الرجل للمرأة: « صَغَيْت إليها » ، هويتها . القول في تأويل قوله : وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ( 113 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وليكتسبوا من الأعمال ما هم مكتسبون . حكي عن العرب سماعًا منها: « خرج يقترف لأهله » , بمعنى يكسب لهم. ومنه قيل: « قارف فلان هذا الأمر » ، إذا واقعه وعمله . وكان بعضهم يقول: هو التهمة والادعاء. يقال للرجل: « أنت قَرَفْتَنِي » ، أي اتهمتني. ويقال: « بئسما اقترفتَ لنفسك » ، وقال رؤبة: أَعْيَــا اقْـتِرَافُ الكَـذِبِ المَقْـرُوفِ تَقْــوَى التَّقِــي وعِفَّــةَ العَفِيـفِ وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: ( وليقترفوا ) ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وليقترفوا ما هم مقترفون ) ، وليكتسبوا ما هم مكتسبون . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وليقترفوا ما هم مقترفون ) ، قال: ليعملوا ما هم عاملون . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وليقترفوا ما هم مقترفون ) ، قال: ليعملوا ما هم عاملون . القول في تأويل قوله : أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام, القائلين لك: « كفَّ عن آلهتنا، ونكف عن إلهك » : إن الله قد حكم عليّ بذكر آلهتكم بما يكون صدًّا عن عبادتها ( أفغير الله أبتغي حكمًا ) ، أي: قل: فليس لي أن أتعدَّى حكمه وأتجاوزه, لأنه لا حَكَم أعدل منه، ولا قائل أصدق منه ( وهو الذي أنـزل إليكم الكتاب مفصلا ) يعني القرآن « مفصَّلا » , يعني: مبينًا فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم . وقد بينا معنى: « التفصيل » ، فيما مضى قبل . القول في تأويل قوله : وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 114 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن أنكر هؤلاء العادلون بالله الأوثان من قومك توحيدَ الله, وأشركوا معه الأندادَ, وجحدوا ما أنـزلته إليك, وأنكروا أن يكون حقًا وكذَّبوا به فالذين آتيناهم الكتاب ، وهو التوراة والإنجيل ، من بني إسرائيل ( يعلمون أنه منـزل من ربّك ) ، يعني: القرآن وما فيه ( بالحق ) يقول: فصلا بين أهل الحق والباطل, يدلُّ على صدق الصادق في علم الله, وكذبِ الكاذب المفتري عليه ( فلا تكونن من الممترين ) ، يقول: فلا تكونن، يا محمد، من الشاكين في حقيقة الأنباء التي جاءتك من الله في هذا الكتاب، وغيرِ ذلك مما تضمنه، لأن الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنَّه منـزل من ربك بالحق . وقد بيَّنا فيما مضى ما وجه قوله: ( فلا تكونن من الممترين ) ، بما أغنى عن إعادته، مع الرواية المروية فيه ، وقد: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قوله: ( فلا تكونن من الممترين ) ، يقول: لا تكونن في شك مما قصَصنا عليك . القول في تأويل قوله : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 115 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكملت « كلمة ربك » , يعني القرآن . سماه « كلمة » ، كما تقول العرب للقصيدة من الشعر يقولها الشاعر: « هذه كلمة فلان » . . ( صدقًا وعدلا ) ، يقول: كملت كلمة ربك من الصدق والعدل. و « الصدق » و « العدل » نصبا على التفسير للكلمة, كما يقال: « عندي عشرون درهما » . ( لا مبدِّل لكلماته ) ، يقول: لا مغيِّر لما أخبر في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله الذي أخبر الله أنه واقع فيه ، وذلك نظير قوله جل ثناؤه يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ ، [ سورة الفتح:15 ] . فكانت إرادتهم تبديل كلام الله، مسألتهم نبيَّ الله أن يتركهم يحضرون الحرب معه, وقولهم له ولمن معه من المؤمنين: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ، بعد الخبر الذي كان الله أخبرهم تعالى ذكره في كتابه بقوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا الآية، [ سورة التوبة: 83 ] , فحاولوا تبديل كلام الله وخبره بأنهم لن يخرجوا مع نبي الله في غَزاةٍ, ولن يقاتلوا معه عدوًّا بقولهم لهم: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ ، فقال الله جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « يريدون أن يبدلوا » بمسألتهم إياهم ذلك كلامَ الله وخبره: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ . فكذلك معنى قوله: ( لا مبدِّل لكلماته ) ، إنما هو: لا مغيِّر لما أخبرَ عنه من خبر أنه كائن، فيبطل مجيئه وكونه ووُقُوعه على ما أخبرَ جل ثناؤه، لأنه لا يزيد المفترون في كتب الله ولا ينقصون منها. وذلك أن اليهود والنصارى لا شك أنهم أهلُ كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه, وقد أخبر جل ثناؤه أنهم يحرِّفون غيرَ الذي أخبر أنَّه لا مبدِّل له . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلا لا مبدل لكلماته ) ، يقول: صدقًا وعدلا فيما حكَم . وأما قوله: ( وهو السميع العليم ) ، فإن معناه: والله « السميع » ، لما يقول هؤلاء العادلون بالله, المقسمون بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها, وغير ذلك من كلام خلقه « العليم » ، بما تؤول إليه أيمانهم من برٍّ وصدق وكذب وحِنْثٍ، وغير ذلك من أمور عباده . القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 116 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تطع هؤلاء العادلين بالله الأنداد، يا محمد، فيما دعوك إليه من أكل ما ذبحوا لآلهتهم, وأهلُّوا به لغير ربهم، وأشكالَهم من أهل الزيغ والضلال, فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن دين الله، ومحجة الحق والصواب، فيصدُّوك عن ذلك . وإنما قال الله لنبيه: ( وإن تطع أكثر من في الأرض ) ، من بني آدم, لأنهم كانوا حينئذ كفارًا ضلالا فقال له جل ثناؤه: لا تطعهم فيما دعوك إليه, فإنك إن تطعهم ضللت ضلالهم، وكنتَ مثلهم، لأنهم لا يدعونك إلى الهدى وقد أخطئوه . ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الذين نَهَى نبيه عن طاعتهم فيما دعوه إليه في أنفسهم, فقال: ( إن يتبعون إلا الظن ) ، فأخبر جل ثناؤه أنهم من أمرهم على ظن عند أنفسهم, وحسبان على صحة عزمٍ عليه، وإن كان خطأ في الحقيقة ( وإن هم إلا يخرصون ) ، يقول: ما هم إلا متخرِّصون، يظنون ويوقعون حَزْرًا، لا يقينَ علمٍ. يقال منه: « خرَصَ يخرُصُ خَرْصًا وخروصًا » ، أي كذب، و « تخرّص بظن » ، و « تخرّص بكذب » , و « خرصتُ النخل أخرُصه » , و « خَرِصَتْ إبلك » ، أصابها البردُ والجوع . القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( 117 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن ربك الذي نهاك أن تطيع هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ, لئلا يُضِلوك عن سبيله, هو أعلم منك ومن جميع خلقه أيُّ خلقه يَضلّ عن سبيله بزخرف القول الذي يوحِي الشياطين بعضُهم إلى بعض, فيصدُّوا عن طاعته واتباع ما أمر به ( وهو أعلم بالمهتدين ) ، يقول: وهو أعلم أيضًا منك ومنهم بمن كان على استقامة وسدادٍ, لا يخفى عليه منهم أحد . يقول: واتبع، يا محمد، ما أمرتك به, وانته عما نهيتك عنه من طاعة مَنْ نهيتك عن طاعته, فإني أعلم بالهادي والمضلِّ من خلقي، منك . واختلف أهل العربية في موضع: « مَن » في قوله: ( إن ربك هو أعلم من يضل ) . فقال بعض نحويي البصرة: موضعه خفض بنيّة « الباء » . قال: ومعنى الكلام: إن ربك هو أعلم بمن يضِلُّ . وقال بعض نحويي الكوفة: موضعه رفع, لأنه بمعنى « أيّ » ، والرافع له « يضلّ » . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أنه رفع بـ « يضل » ، وهو في معنى « أيّ » . وغير معلوم في كلام العرب اسم مخفوض بغير خافض، فيكون هذا له نظيرا. وقد زعم بعضهم أن قوله: ( أعلم ) ، في هذا الموضع بمعنى « يعلم » , واستشهد لقيله ببيت حاتم الطائي: فَحَــالَفَتْ طَيّـئٌ مِـنْ دُونِنَـا حِلِفًـا وَاللــهُ أَعْلَـمُ مـا كُنَّـا لَهُـمْ خُـذْلا وبقول الخنساء: القَــــوْمُ أَعْلَـــمُ أَنَّ جَفْنَتَـــهُ تَعْــدُو غَــدَاةَ الــرِّيحِ أَوْ تَسـري وهذا الذي قاله قائل هذا التأويل، وإن كان جائزًا في كلام العرب, فليس قولُ الله تعالى ذكره: ( إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله ) ، منه. وذلك أنه عطف عليه بقوله: ( وهو أعلم بالمهتدين ) ، فأبان بدخول « الباء » في « المهتدين » أن « أعلم » ليس بمعنى « يعلم » , لأن ذلك إذ كان بمعنى « يفعل » ، لم يوصل بالباء, كما لا يقال: « هو يعلم بزيد » , بمعنى: يعلم زيدًا . القول في تأويل قوله : فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( 118 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين به وبآياته: « فكلوا » ، أيها المؤمنون، مما ذكّيتم من ذبائحكم وذبحتموه الذبح الذي بينت لكم أنه تحلّ به الذبيحة لكم, وذلك ما ذبحه المؤمنون بي من أهل دينكم دين الحق, أو ذبحه مَنْ دان بتوحيدي من أهل الكتاب, دون ما ذبحه أهل الأوثان ومَنْ لا كتاب له من المجوس ( إن كنتم بآياته مؤمنين ) ، يقول: إن كنتم بحجج الله التي أتتكم وأعلامه، بإحلال ما أحللت لكم، وتحريم ما حرمت عليكم من المطاعم والمآكل، مصدّقين, ودَعوا عنكم زخرف ما توحيه الشياطين بعضها إلى بعض من زخرف القول لكم، وتلبيس دينكم عليكم غرورًا . وكان عطاء يقول في ذلك ما:- حدثنا به محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله: ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ) ، قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح. وكل شيء يدلّ على ذكره يأمر به . القول في تأويل قوله : وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم بكلام العرب في تأويل قوله: ( وما لكم أن لا تأكلوا ) . فقال بعض نحويي البصريين: معنى ذلك: وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا. قال: وذلك نظير قوله: وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ ، [ سورة البقرة: 246 ] . يقول: أيّ شيء لنا في ترك القتال؟ قال: ولو كانت « لا » ، زائدة لا يقع الفعل. ولو كانت في معنى: « وما لنا وكذا » , لكانت: وما لنا وأن لا نقاتل . وقال غيره: إنما دخلت « لا » للمنع, لأن تأويل « ما لك » , و « ما منعك » واحد. « ما منعك لا تفعل ذلك » , و « ما لك لا تفعل » ، واحد. فلذلك دخلت « لا » . قال: وهذا الموضع تكون فيه « لا » ، وتكون فيه « أنْ » ، مثل قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [ سورة النساء: 176 ] ، و « أن لا تضلوا » ، يمنعكم من الضلال بالبيان . قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: معنى قوله: ( وما لكم ) ، في هذا الموضع: وأيُّ شيء يمنعكم أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه؟ وذلك أنّ الله تعالى ذكره تقدّم إلى المؤمنين بتحليل ما ذكر اسم الله عليه، وإباحة أكل ما ذبح بدينه أو دين من كان يدين ببعض شرائع كتبه المعروفة, وتحريم ما أهلّ به لغيره، من الحيوان وزجرهم عن الإصغاء لما يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من زخرف القول في الميتة والمنخنقة والمتردية, وسائر ما حرم الله من المطاعم . ثم قال: وما يمنعكم من أكل ما ذبح بديني الذي ارتضيته, وقد فصّلت لكم الحلال من الحرام فيما تطعمون, وبينته لكم بقولي: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْـزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ، إلى قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ، [ سورة المائدة: 3 ] ، فلا لبس عليكم في حرام ذلك من حلاله, فتتمنعوا من أكل حلاله حذرًا من مواقعة حرامه . فإذ كان ذلك معناه، فلا وجه لقول متأوِّلي ذلك: « وأي شيء لكم في أن لا تأكلوا » ، لأن ذلك إنما يقال كذلك، لمن كان كفَّ عن أكله رجاء ثواب بالكفّ عن أكله, وذلك يكون ممن آمن بالكفّ فكف اتّباعًا لأمر الله وتسليمًا لحكمه. ولا نعلم أحدًا من سلف هذه الأمة كفَّ عن أكل ما أحل الله من الذبائح رجاء ثواب الله على تركه ذلك, واعتقادًا منه أن الله حرَّمه عليه . فبيّنٌ بذلك، إذ كان الأمر كما وصفنا، أن أولى التأويلين في ذلك بالصواب ما قلنا . وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى قوله: « فصَّل » , و « فَصَّلْنَا » و « فُصِّل » بيَّن, أو بُيِّن, بما يغني عن إعادته في هذا الموضع كما:- حدثني محمد بن عبد الأعلى, قال: حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) ، يقول: قد بين لكم ما حرم عليكم . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب, عن ابن زيد, مثله . واختلفت القرأة في قول الله جل ثناؤه: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) . فقرأه بعضهم بفتح أول الحرفين من « فَصَّلَ » و « حَرَّم » ، أي: فصّل ما حرّمه من مطاعمكم, فبيَّنه لكم . وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( وَقَدْ فَصَّلَ ) بفتح فاء « فصل » وتشديد صاده, « مَا حُرِّمَ » ، بضم حائه وتشديد رائه, بمعنى: وقد فصل الله لكم المحرَّم عليكم من مطاعمكم . وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين: « وَقَدْ فُصِّلَ لَكَمْ » ، بضم فائه وتشديد صاده، « مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ » ، بضم حائه وتشديد رائه, على وجه ما لم يسمَّ فاعله في الحرفين كليهما . وروي عن عطية العوفي أنه كان يقرأ ذلك: « وَقَدْ فَصَلَ » ، بتخفيف الصاد وفتح الفاء, بمعنى: وقد أتاكم حكم الله فيما حَرَّم عليكم . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن كل هذه القراءات الثلاث التي ذكرناها، سوى القراءة التي ذكرنا عن عطية، قراءات معروفات مستفيضةٌ القراءةُ بها في قرأة الأمصار, وهن متّفقات المعاني غير مختلفات, فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ فيه الصوابَ . وأما قوله: ( إلا ما اضطررتم إليه ) ، فإنه يعني تعالى ذكره: أن ما أضطررنا إليه من المطاعم المحرّمة التي بيَّن تحريمها لنا في غير حال الضرورة، لنا حلال ما كنا إليه مضطرين, حتى تزول الضرورة . كما:- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( إلا ما اضطررتم إليه ) ، من الميتة . القول في تأويل قوله : وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( 119 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن كثيرًا من الناس [ الذين ] يجادلونكم في أكل ما حرم الله عليكم، أيها المؤمنون بالله، من الميتة، ليُضلون أتباعهم بأهوائهم من غير علم منهم بصحة ما يقولون, ولا برهان عندهم بما فيه يجادلون, إلا ركوبًا منهم لأهوائهم, واتباعًا منهم لدواعي نفوسهم, اعتداءً وخلافًا لأمر الله ونهيه, وطاعة للشياطين ( إن ربك هو أعلم بالمعتدين ) ، يقول: إن ربك، يا محمد، الذي أحلَّ لك ما أحلَّ وحرَّم عليك ما حرم, هو أعلم بمن اعتدى حدوده فتجاوزها إلى خلافها, وهو لهم بالمرصاد . واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( ليضلون ) . فقرأته عامة أهل الكوفة: ( لَيُضِلُّونَ ) ، بمعنى: أنهم يضلون غيرهم . وقرأ ذلك بعض البصريين والحجازيين: « لَيَضِلُّونَ » ، بمعنى: أنهم هم الذين يضلون عن الحق فيجورون عنه . قال أبو جعفر: وأَولى القراءتين بالصواب في ذلك, قراءةُ من قرأ: ( وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ ) ، بمعنى: أنهم يضلون غيرهم. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبرَ نبيه صلى الله عليه وسلم عن إضلالهم من تبعهم، ونهاه عن طاعتهم واتباعهم إلى ما يدعونه إليه, فقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، ثم أخبر أصحابه عنهم بمثل الذي أخبره عنهم, ونهاهم من قبول قولهم عن مثل الذي نهاه عنه, فقال لهم: وإن كثيرًا منهم ليضلونكم بأهوائهم بغير علم نظيرَ الذي قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ . القول في تأويل قوله : وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ودعوا، أيها الناس، علانية الإثم، وذلك ظاهره وسرّه، وذلك باطنه، . كذلك:- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، أي: قليله وكثيره، وسرّه وعلانيته . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: سره وعلانيته . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس في قوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، يقول: سره وعلانيته وقوله: مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، [ سورة الأعراف: 33 ] ، قال: سره وعلانيته . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس في قوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: نهى الله عن ظاهر الإثم وباطنه، أن يعمل به سرًّا أو علانية, وذلك ظاهره وباطنه . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، معصية الله في السر والعلانية . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: هو ما ينوي مما هو عامل . ثم اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بالظاهر من الإثم والباطن منه، في هذا الموضع. فقال بعضهم: « الظاهر منه » ، ما حرم جل ثناؤه بقوله: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ، [ سورة النساء: 22 ] ، وقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ الآية, و « الباطن منه » ، الزنى . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير في قوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، قال: الظاهر منه: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ والأمهات والبنات والأخوات « والباطن » . الزنى . وقال آخرون: « الظاهر » ، أولات الرايات من الزواني ، والباطن: ذوات الأخدان . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) أما « ظاهره » ، فالزواني في الحوانيت ، وأما « باطنه » ، فالصديقة يتخذها الرجل فيأتيها سرًّا . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، [ سورة الأنعام: 151 ] . كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى, ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا, فحرّم الله السر منه والعلانية « ما ظهر منها » ، يعني العلانية « وما بطن » ، يعني: السر . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي مكين وأبيه, عن خصيف, عن مجاهد: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قال: « ما ظهر منها » ، الجمع بين الأختين, وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده « وما بطن » ، الزنى . وقال آخرون: « الظاهر » ، التعرّي والتجرد من الثياب، وما يستر العورة في الطواف « والباطن » ، الزنى . ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، قال: ظاهره العُرْيَة التي كانوا يعملون بها حين يطوفون بالبيت ، وباطنه: الزنى . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره تقدم إلى خلقه بترك ظاهر الإثم وباطنه، وذلك سره وعلانيته. و « الإثم » كل ما عُصِي الله به من محارمه, وقد يدخل في ذلك سرُّ الزنى وعلانيته, ومعاهرة أهل الرايات وأولات الأخدان منهن, ونكاحُ حلائل الآباء والأمهات والبنات, والطواف بالبيت عريانًا, وكل معصية لله ظهرت أو بطنت . وإذ كان ذلك كذلك, وكان جميعُ ذلك « إثمًا » , وكان الله عمّ بقوله: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ، جميع ما ظهر من الإثم وجميع ما بطن لم يكن لأحد أن يخصّ من ذلك شيئًا دون شيء، إلا بحجة للعذر قاطعة . غير أنه لو جاز أن يوجَّه ذلك إلى الخصوص بغير برهان, كان توجيهه إلى أنه عنى بظاهر الإثم وباطنه في هذا الموضع، ما حرم الله من المطاعم والمآكل من الميتة والدم, وما بيَّن الله تحريمه في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إلى آخر الآية, أولى, إذ كان ابتداء الآيات قبلها بذكر تحريم ذلك جرى، وهذه في سياقها. ولكنه غير مستنكر أن يكون عنى بها ذلك, وأدخل فيها الأمر باجتناب كل ما جانسه من معاصي الله, فخرج الأمر عامًا بالنهي عن كل ما ظهر أو بطن من الإثم . القول في تأويل قوله : إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ( 120 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين يعملون بما نَهاهم الله عنه، ويركبون معاصيَ الله ويأتون ما حرَّم الله ( سيجزون ) ، يقول: سيثيبهم الله يوم القيامة بما كانوا في الدنيا يعملون من معاصيه . القول في تأويل قوله : وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( 121 ) قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، لا تأكلوا، أيها المؤمنون، مما مات فلم تذبحوه أنتم، أو يذبحه موحِّدٌ يدين لله بشرائع شَرَعها له في كتاب منـزل، فإنه حرام عليكم ولا ما أهلَّ به لغير الله مما ذبَحه المشركون لأوثانهم, فإن أكل ذلك « فسق » , يعني: معصية كفر . فكنى بقوله: « وإنه » ، عن « الأكل » , وإنما ذكر الفعل, كما قال: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا ، [ سورة آل عمران: 173 ] يراد به، فزاد قولُهم ذلك إيمانًا, فكنى عن « القول » , وإنما جرى ذكره بفعلٍ . ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) . اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، فقال بعضهم: عنى بذلك شياطين فارسَ ومن على دينهم من المجوس ( إلى أوليائهم ) ، من مردة مشركي قريش, يوحون إليهم زخرف القول، بجدالِ نبي الله وأصحابه في أكل الميتة . ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري قال، حدثنا موسى بن عبد العزيز القنباريّ قال، حدثنا الحكم بن أبان, عن عكرمة: لما نـزلت هذه الآية، بتحريم الميتة، قال: أوحت فارس إلى أوليائها من قريشٍ أنْ خاصموا محمدًا وكانت أولياءهم في الجاهلية وقولوا له: أوَ ما ذبحتَ فهو حلال, وما ذَبح الله قال ابن عباس: بِشمْشَارٍ من ذهب فهو حرام ! ! فأنـزل الله هذه الآية: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، قال: الشياطين: فارس, وأولياؤهم قريش . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار, عن عكرمة: « إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم وكاتبتهم فارس, وكتبت فارسُ إلى مشركي قريش إن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله, فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه للميتة وأمّا ما ذبحوا هم يأكلون » ! وكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد عليه السلام, فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء, فنـزلت: ( وإنه لفسقٌ وإن الشياطين ليوحون ) الآية, ونـزلت: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا . [ سورة الأنعام: 112 ] وقال آخرون: إنما عنى بالشياطين الذين يغرُون بني آدم: أنهم أوحوا إلى أوليائهم من قريش . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن سماك, عن عكرمة قال: كان مما أوحى الشياطين إلى أوليائهم من الإنس: كيف تعبدون شيئًا لا تأكلون مما قَتَل, وتأكلون أنتم ما قتلتم؟ فرُوِي الحديث حتى بلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم, فنـزلت: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، قال: إبليسُ الذي يوحي إلى مشركي قريش قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قال: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس: « يوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم » قال ابن جريج, عن عبد الله بن كثير قال: سمعت أنَّ الشياطين يوحون إلى أهل الشرك، يأمرونهم أن يقولوا: ما الذي يموتُ، وما الذي تذبحون إلا سواء ! يأمرونهم أن يخاصِمُوا بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم ( وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون ) ، قال: قولُ المشركين أمّا ما ذبح الله، للميتة، فلا تأكلون, وأمّا ما ذبحتم بأيديكم فحلال ! حدثنا محمد بن عمار الرازي قال، حدثنا سعيد بن سليمان قال، حدثنا شريك, عن سماك بن حرب, عن عكرمة, عن ابن عباس: إن المشركين قالوا للمسلمين: ما قتل ربّكم فلا تأكلون, وما قتلتم أنتم تأكلونه ! فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قال: لما حرم الله الميتة، أمر الشيطان أولياءَه فقال لهم: ما قتل الله لكم، خيرٌ مما تذبحون أنتم بسكاكينكم! فقال الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) . حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق, عن سفيان, عن هارون بن عنترة, عن أبيه, عن ابن عباس قال: جادل المشركون المسلمين فقالوا: ما بال ما قتلَ الله لا تأكلونه، وما قتلتم أنتم أكلتموه! وأنتم تتبعون أمر الله ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) ، إلى آخر الآية . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) ، يقولون: ما ذبح الله فلا تأكلوه, وما ذبحتم أنتم فكلوه ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة: أن ناسًا من المشركين دخلُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا عن الشاة إذا ماتت، من قَتَلها؟ فقال: اللهُ قتلها . قالوا: فتزعم أن ما قتلتَ أنت وأصحابُك حلالٌ, وما قتله الله حرام! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه, عن الحضرمي: أن ناسًا من المشركين قالوا: أما ما قتل الصقر والكلب فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه ! حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ، قال: قالوا: يا محمد, أمّا ما قتلتم وذبحتم فتأكلونه, وأمّا ما قتل ربُّكم فتحرِّمونه ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه, إنكم إذًا لمشركون . حدثنا المثنى، قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن جويبر, عن الضحاك قال: قال المشركون: ما قتلتم فتأكلونه, وما قتل ربكم لا تأكلونه ! فنـزلت: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، قول المشركين: أما ما ذبح الله للميتة فلا تأكلون منه, وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال ! حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ، قال: جادلهم المشركون في الذبيحة فقالوا: أما ما قتلتم بأيديكم فتأكلونه, وأما ما قتل الله فلا تأكلونه ! يعنون « الميتة » ، فكانت هذه مجادلتهم إياهم . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) الآية, يعني عدوّ الله إبليس, أوحى إلى أوليائه من أهل الضلالة فقال لهم: خاصموا أصحاب محمد في الميتة فقولوا: « أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون, وأما ما قتل الله فلا تأكلون, وأنتم تزعمون أنكم تتبعون أمرَ الله » ! فأنـزل الله على نبيه: ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، وإنا والله ما نعلمه كان شرك قط إلا بإحدى ثلاث: أن يدعو مع الله إلهًا آخر, أو يسجد لغير الله, أو يسمي الذبائح لغير الله . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله, وما ذبح الله فلا تأكلونه, وما ذبحتم أنتم أكلتموه؟ فقال الله: لئن أطعتموهم فأكلتم الميتة، إنكم لمشركون . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع, عن إسرائيل, عن سماك, عن عكرمة, عن ابن عباس في قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ، قال: كانوا يقولون: ما ذكر الله عليه وما ذبحتم فكلوا ! فنـزلت: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن عطاء, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) إلى قوله: ( ليجادلوكم ) ، قال يقول: يوحي الشياطين إلى أوليائهم: تأكلون ما قتلتم, ولا تأكلون مما قتل الله! فقال: إن الذي قتلتم يذكر اسم الله عليه, وإن الذي مات لم يذكر اسم الله عليه . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ) ، هذا في شأن الذبيحة. قال: قال المشركون للمسلمين: تزعمون أن الله حرم عليكم الميتة, وأحل لكم ما تذبحون أنتم بأيديكم, وحرم عليكم ما ذبح هو لكم ؟ وكيف هذا وأنتم تعبدونه! فأنـزل الله هذه الآية: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، إلى قوله: ( لمشركون ) . وقال آخرون: كان الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك قومًا من اليهود . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى وسفيان بن وكيع قالا حدثنا عمران بن عيينة, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس قال ابن عبد الأعلى: خاصمت اليهودُ النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن وكيع: جاءت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نأكل ما قتلنا, ولا نأكل ما قتل الله ! فأنـزل الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنّ الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة، بما ذكرنا من جدالهم إياهم وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أوليائهم منهم وجائز أن يكونوا شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس وجائز أن يكون الجنسان كلاهما تعاونا على ذلك, كما أخبر الله عنهما في الآية الأخرى التي يقول فيها: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ، [ سورة الأنعام: 112 ] . بل ذلك الأغلب من تأويله عندي, لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجن والإنس, كما جعل لأنبيائه من قبله، يوحي بعضهم إلى بعض المزيَّنَ من الأقوال الباطلة, ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرمَ الله من الميتة عليهم . واختلف أهل التأويل في الذي عنى الله جل ثناؤه بنهيه عن أكله مما لم يذكر اسم الله عليه. فقال بعضهم: هو ذبائح كانت العرب تذبحها لآلهتها . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؟ قال: يأمر بذكر اسمه على الشراب والطعام والذبح . قلت لعطاء: فما قوله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ؟ قال: ينهى عن ذبائح كانت في الجاهلية على الأوثان، كانت تذبحها العرب وقريش . وقال آخرون: هي الميتة . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، قال: الميتة . وقال آخرون: بل عنى بذلك كلَّ ذبيحة لم يذكر اسمُ الله عليها . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن جَهِير بن يزيد قال: سُئِل الحسن, سأله رجل قال له: أُتِيتُ بطيرِ كَرًى, فمنه ما ذبح فذكر اسم الله عليه, ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه، واختلط الطير؟ فقال الحسن: كُلْه، كله ! قال: وسألت محمد بن سيرين فقال: قال الله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) . حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد, عن أيوب وهشام, عن محمد بن سيرين, عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كلوا من ذبائح أهل الكتاب والمسلمين, ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن أشعث, عن ابن سيرين, عن عبد الله بن يزيد قال: كنت أجلس إليه في حلقة, فكان يجلس فيها ناس من الأنصار هو رأسهم, فإذا جاء سائل فإنما يسأله ويسكتون . قال: فجاءه رجل فسأله, فقال: رجل ذبح فنسي أن يسمِّي؟ فتلا هذه الآية: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، حتى فرغ منها . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عنى بذلك ما ذُبح للأصنام والآلهة, وما مات أو ذبحه من لا تحلّ ذبيحته . وأما من قال: « عنى بذلك: ما ذبحه المسلم فنسي ذكر اسم الله » , فقول بعيد من الصواب، لشذوذه وخروجه عما عليه الحجة مجمعة من تحليله, وكفى بذلك شاهدًا على فساده . وقد بينا فساده من جهة القياس في كتابنا المسمى: « لطيف القول في أحكام شرائع الدين » ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وأما قوله « ( وإنه لفسق ) ، فإنه يعني: وإنّ أكْل ما لم يذكر اسم الله عليه من الميتة، وما أهل به لغير الله، لفسق » . واختلف أهل التأويل في معنى: « الفسق » ، في هذا الموضع. فقال بعضهم: معناه: المعصية . فتأويل الكلام على هذا: وإنّ أكلَ ما لم يذكر اسم الله عليه لمعصية لله وإثم . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وإنه لفسق ) ، قال: « الفسق » ، المعصية . وقال آخرون: معنى ذلك: الكفر . وأما قوله: ( وإن الشياطين ليوحون إلي أوليائهم ) ، فقد ذكرنا اختلاف المختلفين في المعنيّ بقوله: ( وإن الشياطين ليوحون ) ، والصوابَ من القول فيه وأما إيحاؤهم إلى أوليائهم, فهو إشارتهم إلى ما أشاروا لهم إليه: إما بقول, وإما برسالة, وإما بكتاب . وقد بينا معنى: « الوحي » فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقد:- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عكرمة, عن أبي زُمَيل قال: كنت قاعدًا عند ابن عباس, فجاءه رجل من أصحابه, فقال: يا ابن عباس, زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة! يعني المختار بن أبي عبيد فقال ابن عباس: صدق ! فنفرت فقلت: يقول ابن عباس « صدق » ! فقال ابن عباس: هما وحيان، وحي الله, ووحي الشيطان، فوحي الله إلى محمد, ووحي الشياطين إلى أوليائهم . ثم قرأ: ( وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ) . وأما الأولياء: فهم النصراء والظهراء، في هذا الموضع . ويعني بقوله: ( ليجادلوكم ) ، ليخاصموكم, بالمعنى الذي قد ذكرت قبل . وأما قوله: ( وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) ، فإنه يعني: وإن أطعتموهم في أكل الميتة وما حرم عليكم ربكم; كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وإن أطعتموهم ) ، يقول: وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن أطعتموهم ) ، فأكلتم الميتة . وأما قوله: ( إنكم لمشركون ) ، يعني: إنكم إذًا مثلهم, إذ كان هؤلاء يأكلون الميتة استحلالا. فإذا أنتم أكلتموها كذلك، فقد صرتم مثلهم مشركين . قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل نسخ من حكمها شيء أم لا؟ فقال بعضهم: لم ينسخ منها شيء، وهي محكمة فيما عُنيت به. وعلى هذا قول عامة أهل العلم . وروي عن الحسن البصري وعكرمة, ما:- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين بن واقد, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ . ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) ، فنسخ واستثنى من ذلك فقال: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [ سورة المائدة: 5 ] . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا, أن هذه الآية محكمة فيما أنـزلت، لم ينسخ منها شيء, وأن طعام أهل الكتاب حلال، وذبائحهم ذكيّة . وذلك مما حرم الله على المؤمنين أكله بقوله: ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ) ، بمعزل. لأن الله إنما حرم علينا بهذه الآية الميْتة، وما أهلّ به للطواغيت, وذبائحُ أهل الكتاب ذكية سمُّوا عليها أو لم يسمُّوا، لأنهم أهل توحيد وأصحاب كتب لله، يدينون بأحكامها, يذبحون الذبائح بأديانهم، كما يذبح المسلم بدينه, سمى الله على ذبيحته أو لم يسمِّه, إلا أن يكون ترك من ذكر تسمية الله على ذبيحته على الدينونة بالتعطيل, أو بعبادة شيء سوى الله, فيحرم حينئذ أكل ذبيحته، سمى الله عليها أو لم يسم . القول في تأويل قوله : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا قال أبو جعفر: وهذا الكلام من الله جلّ ثناؤه يدل على نهيه المؤمنين برسوله يومئذ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة، بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به, وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرًا, فهداه جلّ ثناؤه لرشده، ووفقه للإيمان. فقال لهم: أطاعة من كان ميتًا, يقول: من كان كافرًا ؟ فجعله جل ثناؤه لانصرافه عن طاعته، وجهله بتوحيده وشرائع دينه، وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته, بمنـزلة « الميت » الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه نازلة ( فأحييناه ) ، يقول: فهديناه للإسلام, فأنعشناه, فصار يعرف مضارّ نفسه ومنافعها, ويعمل في خلاصها من سَخَط الله وعقابه في معاده. فجعل إبصاره الحق تعالى ذكره بعد عَمَاه عنه، ومعرفته بوحدانيته وشرائع دينه بعد جهله بذلك، حياة وضياء يستضيء به فيمشي على قصد السبيل، ومنهج الطريق في الناس ( كمن مثله في الظلمات ) ، لا يدري كيف يتوجه، وأي طريق يأخذ، لشدة ظلمة الليل وإضلاله الطريق. فكذلك هذا الكافر الضال في ظلمات الكفر، لا يبصر رشدًا ولا يعرف حقًّا, يعني في ظلمات الكفر . يقول: أفَطَاعة هذا الذي هديناه للحق وبصَّرناه الرشاد، كطاعة من مثله مثل من هو في الظلمات متردّد، لا يعرف المخرج منها، في دعاء هذا إلى تحريم ما حرم الله، وتحليل ما أحل، وتحليل هذا ما حرم الله، وتحريمه ما أحلّ؟ وقد ذكر أن هذه الآية نـزلت في رجلين بأعيانهما معروفين: أحدهما مؤمن, والآخر كافر . ثم اختلف أهل التأويل فيهما. فقال بعضهم: أما الذي كان مَيْتًا فأحياه الله، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا سليمان بن أبي هوذة, عن شعيب السراج, عن أبي سنان عن الضحاك في قوله: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( كمن مثله في الظلمات ) ، قال: أبو جهل بن هشام . وقال آخرون: بل الميت الذي أحياه الله، عمار بن ياسر رحمة الله عليه. وأما الذي مثله في الظلمات ليس بخارج منها، فأبو جهل بن هشام . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن بشر بن تيم, عن رجل, عن عكرمة: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، قال: نـزلت في عمار بن ياسر . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن بشر, عن تيم, عن عكرمة: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، عمار بن ياسر ( كمن مثلة في الظلمات ) ، أبو جهل بن هشام . وبنحو الذي قلنا في الآية قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) قال: ضالا فهديناه ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) قال: هدى ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ، قال: في الضلالة أبدًا . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، هديناه ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ) في الضلالة أبدًا . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن رجل, عن مجاهد: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، قال: ضالا فهديناه . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، يعني: من كان كافرًا فهديناه ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، يعني بالنور، القرآنَ، من صدَّق به وعمل به ( كمن مثله في الظلمات ) ، يعني: بالظلمات، الكفرَ والضلالة . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، يقول: الهدى « يمشي به في الناس » , يقول: فهو الكافر يهديه الله للإسلام. يقول: كان مشركًا فهديناه ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أو من كان ميتًا فأحييناه ) ، هذا المؤمن معه من الله نور وبيِّنة يعمل بها ويأخذ، وإليها ينتهي, كتابَ الله ( كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ، وهذا مثل الكافر في الضلالة، متحير فيها متسكع, لا يجد مخرجًا ولا منفذًا . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: ( أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، يقول: من كان كافرًا فجعلناه مسلمًا، وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس، وهو الإسلام, يقول: هذا كمن هو في الظلمات, يعني: الشرك . حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس ) ، قال: الإسلام الذي هداه الله إليه ( كمن مثله في الظلمات ) ، ليس من أهل الإسلام . وقرأ: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، [ سورة البقرة: 257 ] . قال: والنور يستضيء به ما في بيته ويبصره, وكذلك الذي آتاه الله هذا النور، يستضيء به في دينه ويعمل به في نوره، كما يستضيء صاحب هذا السراج . قال: ( كمن مثله في الظلمات ) ، لا يدري ما يأتي ولا ما يقع عليه . القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 122 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما خذلت هذا الكافر الذي يجادلكم أيها المؤمنون بالله ورسوله، في أكل ما حرّمت عليكم من المطاعم عن الحق, فزينت له سوءَ عمله فرآه حسنًا، ليستحق به ما أعددت له من أليم العقاب, كذلك زيَّنت لغيره ممن كان على مثل ما هو عليه من الكفر بالله وآياته، ما كانوا يعملون من معاصي الله, ليستوجبوا بذلك من فعلهم، ما لهم عند ربهم من النَّكال . قال أبو جعفر: وفي هذا أوضح البيان على تكذيب الله الزاعمين أن الله فوَّض الأمور إلى خلقه في أعمالهم، فلا صنع له في أفعالهم, وأنه قد سوَّى بين جميعهم في الأسباب التي بها يصلون إلى الطاعة والمعصية. لأن ذلك لو كان كما قالوا, لكان قد زَيَّن لأنبيائه وأوليائه من الضلالة والكفر، نظيرَ ما زيَّن من ذلك لأعدائه وأهل الكفر به ، وزيّن لأهل الكفر به من الإيمان به، نظيرَ الذي زيّن منه لأنبيائه وأوليائه . وفي إخباره جل ثناؤه أنه زين لكل عامل منهم عمله، ما ينبئ عن تزيين الكفر والفسوق والعصيان, وخصّ أعداءه وأهل الكفر، بتزيين الكفر لهم والفسوق والعصيان, وكرّه إليهم الإيمان به والطاعة . القول في تأويل قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلَِ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( 123 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون, كذلك جعلنا بكل قرية عظماءَها مجرميها يعني أهل الشرك بالله والمعصية له ( ليمكروا فيها ) ، بغرور من القول أو بباطل من الفعل، بدين الله وأنبيائه ( وما يمكرون ) : أي ما يحيق مكرهم ذلك, إلا بأنفسهم , لأن الله تعالى ذكره من وراء عقوبتهم على صدّهم عن سبيله « وهم لا يشعرون » , يقول: لا يدرون ما قد أعدّ الله لهم من أليم عذابه, فهم في غيِّهم وعتوِّهم على الله يتمادَوْن . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أكابر مجرميها ) ، قال: عظماءها . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أكابر مجرميها ) ، قال: عظماءها . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عكرمة: نـزلت في المستهزئين قال ابن جريج، عن عمرو, عن عطاء, عن عكرمة: ( أكابر مجرميها ) ، إلى قوله: بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ، بدين الله، وبنبيه عليه الصلاة والسلام وعباده المؤمنين . والأكابر: جمع « أكبر » , كما « الأفاضل » جمع « أفضل » . ولو قيل: هو جمع « كبير » , فجمع « أكابر » , لأنه قد يقال: « أكبر » , كما قيل: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ، [ سورة الكهف: 103 ] ، واحدهم « الخاسر » ، لكان صوابًا . وحكي عن العرب سماعًا « الأكابرة » و « الأصاغرة » , و « الأكابر » ، و « الأصاغر » ، بغير الهاء، على نية النعت, كما يقال: « هو أفضل منك » . وكذلك تفعل العرب بما جاء من النعوت على « أفعل » ، إذا أخرجوها إلى الأسماء, مثل جمعهم « الأحمر » و « الأسود » ، « الأحامر » و « الأحامرة » , و « الأساود » و « الأساودة » ، ومنه قول الشاعر: إنَّ الأحَـــامِرَة الثَّلاثَــةَ أَهْلَكَــتْ مَــالِي, وكُـنْتُ بِهِـنّ قِدْمًـا مُولَعًـا الخَــمْرُ واللَّحْــمُ السِّــمِينُ إدَامُـهُ والزَّعْفَــرَانُ, فَلَــنْ أرُوحَ مُبَقَّعَــا وأما « المكر » ، فإنه الخديعة والاحتيال للممكور به بالغدر، ليورِّطه الماكر به مكروهًا من الأمر . القول في تأويل قوله : وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا جاءت هؤلاء المشركين الذين يجادلون المؤمنين بزخرف القول فيما حرم الله عليهم، ليصدّوا عن سبيل الله ( آية ) ، يعني: حجة من الله على صحة ما جاءهم به محمد من عند الله وحقيقته قالوا لنبي الله وأصحابه: ( لن نؤمن ) ، يقول: يقولون: لن نصدق بما دعانا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان به, وبما جاء به من تحريم ما ذكر أنّ الله حرّمه علينا ( حتى نؤتى ) ، يعنون: حتى يعطيهم الله من المعجزات مثل الذي أعطى موسى من فلق البحر, وعيسى من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص . يقول تعالى ذكره: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، يعني بذلك جل ثناؤه: أن آيات الأنبياء والرسل لن يُعطاها من البشر إلا رسول مرسل, وليس العادلون بربهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها . يقول جل ثناؤه: فأنا أعلم بمواضع رسالاتي، ومن هو لها أهل, فليس لكم أيها المشركون أن تتخيَّروا ذلك عليّ أنتم, لأن تخيُّر الرسول إلى المرسِلِ دون المرسَل إليه, والله أعلم إذا أرسل رسالةً بموضع رسالاته . القول في تأويل قوله : سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ( 124 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, معلِّمَه ما هو صانع بهؤلاء المتمردين عليه: « سيصيب » ، يا محمد، الذين اكتسبوا الإثم بشركهم بالله وعبادتهم غيره ( صغار ) ، يعني: ذلة وهوان ، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله ) ، قال: « الصغار » ، الذلة . وهو مصدر من قول القائل: « صَغِرَ يصغَرُ صَغارًا وصَغَرًا » , وهو أشدّ الذلّ . وأما قوله: ( صغار عند الله ) ، فإن معناه: سيصيبهم صغارٌ من عند الله, كقول القائل: « سيأتيني رزقي عند الله » , بمعنى: من عند الله, يراد بذلك: سيأتيني الذي لي عند الله . وغير جائز لمن قال: « سيصيبهم صغار عند الله » ، أن يقول: « جئت عند عبد الله » ، بمعنى: جئت من عند عبد الله, لأن معنى « سيصيبهم صغارٌ عند الله » ، سيصيبهم الذي عند الله من الذل، بتكذيبهم رسوله. فليس ذلك بنظير: « جئت من عند عبد الله » . . وقوله: ( وعذاب شديد بما كانوا يمكرون ) ، يقول: يصيب هؤلاء المكذبين بالله ورسوله، المستحلين ما حرَّم الله عليهم من الميتة، مع الصغار عذابٌ شديد، بما كانوا يكيدون للإسلام وأهله بالجدال بالباطل، والزخرف من القول، غرورًا لأهل دين الله وطاعته . القول في تأويل قوله : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره: فمن يرد الله أن يهديه للإيمان به وبرسوله وما جاء به من عند ربه، فيوفقه له ( يشرح صدره للإسلام ) ، يقول: فسح صدره لذلك وهوَّنه عليه، وسهَّله له، بلطفه ومعونته, حتى يستنير الإسلام في قلبه, فيضيء له، ويتسع له صدره بالقبول ، كالذي جاء الأثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي:- حدثنا سوّار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي يحدث, عن عبد الله بن مرة, عن أبي جعفر قال: لما نـزلت هذه الآية: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قالوا: كيف يشرح الصدر؟ قال: إذا نـزل النور في القلب انشرح له الصدر وانفسح . قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها؟ قال: نعم, الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الفوت. حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن عمرو بن قيس, عن عمرو بن مرة, عن أبي جعفر قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم للموت ذكرًا, وأحسنهم لما بعده استعدادًا . قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قالوا: كيف يشرح صدره، يا رسول الله؟ قال: نور يُقذف فيه، فينشرح له وينفسح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يُعرف بها؟ قال: « الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت » . حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن عمرو بن مرة, عن رجل يكنى « أبا جعفر » ، كان يسكن المدائن قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قال: نور يقذف في القلب فينشرح وينفسخ . قالوا: يا رسول الله, هل له من أمارة يعرف بها؟ ثم ذكر باقي الحديث مثله . حدثني هلال بن العلاء قال، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني قال: حدثنا محمد بن سلمة, عن أبي عبد الرحيم, عن زيد بن أبي أنيسة, عن عمرو بن مرة, عن أبي عبيدة, عن عبد الله بن مسعود قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين نـزلت هذه الآية: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قال: إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح . قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود, والتنحِّي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل الموت. حدثني سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان بن عيينة, عن خالد بن أبي كريمة, عن عبد الله بن المسور قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دخل النور القلبَ انفسح وانشرح. قالوا: يا رسول الله, وهل لذلك من علامة تعرف؟ قال: نعم, الإنابة إلى دار الخلود, والتجافي عن دار الغرور, والاستعداد للموت قبل نـزول الموت. حدثني ابن سنان القزاز قال، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي, عن يونس, عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة, عن عبد الله بن مسعود, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، قالوا: يا رسول الله, وكيف يُشرح صدره؟ قال: يدخل فيه النور فينفسح . قالوا: وهل لذلك من علامة يا رسول الله؟ قال: التجافي عن دار الغرور, والإنالة إلى دار الخلود, والاستعداد للموت قبل أن ينـزل الموت . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، أما « يشرح صدره للإسلام » ، فيوسع صدره للإسلام . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، بـ « لا إله إلا الله » . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءة: ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) ، بـ « لا إله إلا الله » يجعل لها في صدره متَّسعًا . القول في تأويل قوله : وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أراد الله إضلاله عن سبيل الهدى، يَشغله بكفره وصدِّه عن سبيله, ويجعل صدره بخذلانه وغلبة الكفر عليه ، حرجًا . و « الحرج » ، أشد الضيق, وهو الذي لا ينفذه، من شدة ضيقه, وهو ههنا الصدر الذي لا تصل إليه الموعظة، ولا يدخله نور الإيمان، لريْن الشرك عليه . وأصله من « الحرج » , و « الحرج » جمع « حَرَجة » ، وهي الشجرة الملتف بها الأشجار, لا يدخل بينها وبينها شيء لشدة التفافها بها ، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا عبد الله بن عمار رجل من أهل اليمن عن أبي الصلت الثقفي: أن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه قرأ هذه الآية: ( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ) بنصب الراء . قال: وقرأ بعض مَنْ عنده من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ضَيِّقًا حَرِجًا » . قال صفوان: فقال عمر: ابغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيًا, وليكن مُدْلجيًّا. قال: فأتوه به. فقال له عمر: يا فتى، ما الحرجة؟ قال: « الحرجة » فينا، الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعيةٌ ولا وحشيَّة ولا شيء . قال: فقال عمر: كذلك قلبُ المنافق لا يصل إليه شيء من الخير . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، يقول: من أراد الله أن يضله يضيق عليه صدره حتى يجعل الإسلام عليه ضيقًا، والإسلام واسع. وذلك حين يقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، [ سورة الحج:78 ] ، يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال: بعضهم معناه: شاكًّا . ذكر من قال ذلك: حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا حميد, عن مجاهد: ( ضيقًا حرجًا ) قال: شاكًّا . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ضيقًا حرجًا ) أما « حرجًا » ، فشاكًّا . وقال آخرون: معناه: ملتبسًا . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، قال: ضيقًا ملتبسًا . حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن الحسن, عن قتادة أنه كان يقرأ: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) ، يقول: ملتبسًا . وقال آخرون: معناه: أنه من شدة الضيق لا يصل إليه الإيمان . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن حبيب بن أبي عمرة, عن سعيد بن جبير: ( يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، قال: لا يجد مسلكًا إلا صُعُدًا . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عطاء الخراساني: ( ضيقًا حرجًا ) ، قال: ليس للخير فيه منفَذٌ . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن عطاء الخراساني، مثله . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قوله: ( ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقًا حرجًا ) ، بلا إله إلا الله، لا يجد لها في صدره مَسَاغًا . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءةً في قوله: ( ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا ) ، بلا إله إلا الله, حتى لا تستطيع أن تدخله . واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: ( ضَيِّقًا حَرَجًا ) بفتح الحاء والراء من ( حرجًا ) , وهي قراءة عامة المكيين والعراقيين, بمعنى جمع « حرجة » ، على ما وصفت . وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة: « ضَيِّقًا حَرِجًا » ، بفتح الحاء وكسر الراء . ثم اختلف الذين قرأوا ذلك في معناه. فقال بعضهم: هو بمعنى: « الحَرَج » . وقالوا: « الحرَج » بفتح الحاء والراء, و « الحرِج » بفتح الحاء وكسر الراء، بمعنى واحد, وهما لغتان مشهورتان, مثل: « الدَّنَف » و « الدَّنِف » , و « الوَحَد » و « الوَحِد » , و « الفَرَد » و « الفَرِد » . وقال آخرون منهم: بل هو بمعنى الإثم، من قولهم: « فلان آثِمٌ حَرِجٌ » ، وذكر عن العرب سماعًا منها: « حَرِجٌ عليك ظُلمي » , بمعنى: ضِيقٌ وإثْم. قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان، ولغتان مستفيضتان بمعنى واحد, وبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ، لاتفاق معنييهما. وذلك كما ذكرنا من الروايات عن العرب في « الوحَد » و « الفَرَد » بفتح الحاء من « الوحد » والراء من « الفرد » ، وكسرهما، بمعنى واحدٍ . وأما « الضيِّق » , فإن عامة القرأة على فتح ضاده وتشديد يائه, خلا بعض المكيين فإنه قرأه: « ضَيْقًا » ، بفتح الضاد وتسكين الياء، وتخفيفه . وقد يتجه لتسكينه ذلك وجهان: أحدهما أن يكون سكنه وهو ينوي معنى التحريك والتشديد, كما قيل: « هَيْنٌ لَيْنٌ » , بمعنى: هيِّنٌ ليِّنٌ . والآخر: أن يكون سكنه بنية المصدر، من قولهم: « ضاق هذا الأمر يضيق ضَيْقًا » , كما قال رؤبة: قَــدْ عَلِمْنَــا عِنْــدَ كُـلِّ مَـأْزِقِ ضَيْــقٍ بِوَجْــهِ الأمْـرِ أَوْ مُضَيِّـقِ ومنه قول الله: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ، [ سورة النحل: 127 ] . وقال رؤبة أيضًا * وَشَفَّها اللَّوحُ بِمَأْزُولٍ ضَيَقْ * بمعنى: ضيّق . وحكي عن الكسائي أنه كان يقول: « الضيِّقُ » ، بالكسر: في المعاش والموضع, وفي الأمر « الضَّيْق » . قال أبو جعفر: وفي هذه الآية أبينُ البيان لمن وُفّق لفهمهما، عن أن السبب الذي به يُوصل إلى الإيمان والطاعة، غير السبب الذي به يُوصل إلى الكفر والمعصية, وأن كلا السببين من عند الله. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن نفسه أنه يشرح صدرَ من أراد هدايته للإسلام, ويجعل صدر من أراد إضلاله ضيِّقًا عن الإسلام حَرَجًا كأنَّما يصعد في السماء . ومعلومٌ أن شرح الصدر للإيمان خِلافُ تضييقه له, وأنه لو كان يوصل بتضييق الصدر عن الإيمان إليه، لم يكن بين تضييقه عنه وبين شرحه له فرق, ولكان من ضُيِّق صدره عن الإيمان، قد شُرِح صدره له، ومن شرح صدره له، فقد ضُيِّق عنه, إذ كان مَوْصولا بكل واحد منهما أعني من التضييق والشرح إلى ما يُوصَل به إلى الآخر . ولو كان ذلك كذلك, وجب أن يكون الله قد كان شرح صدرَ أبي جهل للإيمان به، وضيَّق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه. وهذا القول من أعظم الكفر بالله . وفي فساد ذلك أن يكون كذلك، الدليلُ الواضح على أن السَّبب الذي به آمن المؤمنون بالله ورسله، وأطاعه المطيعون, غير السبب الذي كفر به الكافرون بالله وعصاه العاصون, وأن كِلا السببين من عند الله وبيده, لأنه أخبر جل ثناؤه أنه هو الذي يشرح صدرَ هذا المؤمن به للإيمان إذا أراد هدايته, ويضيِّق صدر هذا الكافر عنه إذا أراد إضلالَه . القول في تأويل قوله : كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ قال أبو جعفر: وهذا مثل من الله تعالى ذكره، ضربه لقلب هذا الكافر في شدة تضييقه إياه عن وصوله إليه, مثل امتناعه من الصُّعود إلى السماء وعجزه عنه، لأن ذلك ليس في وسعه . وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عطاء الخراساني: ( كأنما يصعد في السماء ) ، يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن عطاء الخراساني, مثله . وبه قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن جريج قراءةً: « يجعل صدره ضيقًا حرجًا » ، بلا إله إلا الله, حتى لا تستطيع أن تدخله, « كأنما يصعد في السماء » ، من شدّة ذلك عليه . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, مثله . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( كأنما يصعد في السماء ) ، من ضيق صدره . واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والعراق: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ ) ، بمعنى: « يتصعَّد » , فأدغموا التاء في الصاد, فلذلك شدَّدوا الصاد . وقرأ ذلك بعض الكوفيين: « يَصَّاعَدُ » ، بمعنى: « يتصاعد » , فأدغم التاء في الصاد، وجعلها صادًا مشدَّدة . وقرأ ذلك بعض قرأة المكيين: « كَأَنَّمَا يَصْعَدُ » ، من « صَعِد يصعَد » . وكل هذه القراءات متقاربات المعانى، وبأيِّها قرأ القارئ فهو مصيب, غير أني أختار القراءة في ذلك بقراءة من قرأه: ( كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ ) ، بتشديد الصاد بغير ألف, بمعنى: « يتصعد » , لكثرة القرأة بها, ولقيل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: « مَا تَصَعَّدَني شَيْء مَا تَصَعَّدَتْنِي خُطْبَةُ النّكاح » . القول في تأويل قوله : كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ( 125 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما يجعل الله صدر مَنْ أراد إضلاله ضيقًا حرجًا, كأنما يصعد في السماء من ضيقه عن الإيمان فيجزيه بذلك, كذلك يسلّط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبَى الإيمان بالله ورسوله, فيغويه ويصدّه عن سبيل الحق . وقد اختلف أهل التأويل في معنى « الرجس » . فقال بعضهم: هو كل ما لا خير فيه . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: « الرجس » ، ما لا خير فيه . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نحيح, عن مجاهد: ( يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) ، قال: ما لا خير فيه . وقال آخرون: « الرجس » ، العذاب . ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) ، قال: الرجس عذابُ الله . وقال آخرون: « الرجس » ، الشيطان . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( الرجس ) ، قال: الشيطان . وكان بعض أهل المعرفة بلغات العرب من الكوفيين يقول: « الرِّجْس » ، « والنِّجْس » لغتان . ويحكى عن العرب أنها تقول: « ما كان رِجْسًا, ولقد رَجُس رَجَاسة » و « نَجُس نَجَاسة » . وكان بعض نحويي البصريين يقول: « الرجس » و « الرِّجز » ، سواء, وهما العذاب . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله ابن عباس, ومَنْ قال إن « الرجس » و « النجس » واحد, للخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا دخل الخَلاء: « اللهُمّ إنّي أعوذ بك من الرجْس النِّجْس الخبيث المُخْبِثِ الشيطان الرَّجيم » . حدثني بذلك عبد الرحمن بن البختري الطائي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي, عن إسماعيل بن مسلم, عن الحسن وقتادة, عن أنس, عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد بيَّن هذا الخبر أن « الرِّجْس » هو « النِّجْس » ، القذر الذي لا خير فيه, وأنه من صفة الشيطان . القول في تأويل قوله : وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( 126 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي بيّنا لك، يا محمد، في هذه السورة وغيرها من سور القرآن هو صراطُ ربك, يقول: طريق ربّك، ودينه الذي ارتضاه لنفسه دينًا، وجعله مستقيمًا لا اعوجاج فيه. فاثبُتْ عليه، وحرِّم ما حرمته عليك، وأحلل ما أحللته لك, فقد بيّنا الآيات والحجج على حقيقة ذلك وصحته « لقوم يذكرون » , يقول: لمن يتذكر ما احتجَّ الله به عليه من الآيات والعبر فيعتبر بها . وخص بها « الذين يتذكرون » , لأنهم هم أهل التمييز والفهم، وأولو الحجى والفضل وقيل: « يذَّكرون » ...................... وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وهذا صراط ربك مستقيمًا ) ، يعني به الإسلام . القول في تأويل قوله : لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 127 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: « لهم » ، للقوم الذين يذكرون آيات الله فيعتبرون بها، ويوقنون بدلالتها على ما دلت عليه من توحيد الله ومن نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك, فيصدِّقون بما وصلوا بها إلى علمه من ذاك . وأما « دار السلام » , فهي دار الله التي أعدَّها لأوليائه في الآخرة، جزاءً لهم على ما أبلوا في الدنيا في ذات الله، وهي جنته . و « السلام » ، اسم من أسماء الله تعالى, كما قال السدي:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( لهم دار السلام عند ربهم ) ، الله هو السلام, والدار الجنة . وأما قوله: ( وهو وليُّهم ) ، فإنه يقول: والله ناصر هؤلاء القوم الذين يذكرون آيات الله ( بما كانوا يعملون ) ، يعني: جزاءً بما كانوا يعملون من طاعة الله, ويتبعون رضوانه . القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( ويوم يحشرهم جميعًا ) ، ويوم يحشر هؤلاء العادلين بالله الأوثانَ والأصنامَ وغيرَهم من المشركين، مع أوليائهم من الشياطين الذين كانوا يُوحون إليهم زخرف القول غرورًا ليجادلوا به المؤمنين, فيجمعهم جميعًا في موقف القيامة يقول للجن: ( يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) ، وحذف « يقول للجن » من الكلام، اكتفاءً بدلالة ما ظهر من الكلام عليه منه . وعنى بقوله: ( قد استكثرتم من الإنس ) ، استكثرتم من إضلالهم وإغوائهم ، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ( ويوم يحشرهم جميعًا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) ، يعني: أضللتم منهم كثيرًا . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ) ، قال: قد أضللتم كثيرًا من الإنس . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( قد استكثرتم من الإنس ) ، قال: كثُر من أغويتم . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان, عن معمر, عن الحسن: ( قد استكثرتم من الإنس ) ، يقول: أضللتم كثيرًا من الإنس . القول في تأويل قوله : وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فيجيب أولياءُ الجن من الإنس فيقولون: « ربنا استمتع بعضنا ببعض » في الدنيا . فأما استمتاع الإنس بالجن, فكان كما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( ربنا استمتع بعضنا ببعض ) ، قال: كان الرجل في الجاهلية ينـزل الأرض فيقول: « أعوذ بكبير هذا الوادي » ، فذلك استمتاعهم, فاعتذروا يوم القيامة . وأما استمتاع الجن بالإنس, فإنه كان، فيما ذكر, ما ينال الجنَّ من الإنس من تعظيمهم إيّاهم في استعاذتهم بهم, فيقولون: « قد سدنا الجِنّ والحِنّ » القول في تأويل قوله : وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالوا: بلغنا الوقتَ الذي وقَّتَّ لموتنا . وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أنهم قالوا: استمتع بعضنا ببعض أيّام حياتنا إلى حال موتنا . كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: ( وبلغنا أجلنا الذي أجَّلتَ لنا ) ، فالموت . القول في تأويل قوله : قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 128 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عمّا هو قائل لهؤلاء الذين يحشرهم يوم القيامة من العادلين به في الدنيا الأوثان، ولقُرَنائهم من الجن, فأخرج الخبر عما هو كائنٌ، مُخْرَج الخبر عما كان، لتقدُّم الكلام قبلَه بمعناه والمراد منه, فقال: قال الله لأولياء الجن من الإنس الذين قد تقدَّم خبرُه عنهم: ( النار مثواكم ) ، يعني نار جهنم « مثواكم » ، الذي تثوون فيه، أي تقيمون فيه . و « المثوى » هو « المَفْعَل » من قولهم: « ثَوَى فلان بمكان كذا » , إذا أقام فيه . ( خالدين فيها ) ، يقول: لابثين فيها ( إلا ما شاء الله ) ، يعني إلا ما شاء الله من قَدْر مُدَّة ما بين مبعثهم من قبورهم إلى مصيرهم إلى جهنم, فتلك المدة التي استثناها الله من خلودهم في النار ( إن ربك حكيم ) ، في تدبيره في خلقه, وفي تصريفه إياهم في مشيئته من حال إلى حال، وغير ذلك من أفعاله ( عليم ) ، بعواقب تدبيره إياهم, وما إليه صائرةُ أمرهم من خير وشر . وروي عن ابن عباس أنه كان يتأول في هذا الاستثناء: أنّ الله جعل أمرَ هؤلاء القوم في مبلغ عَذَابه إيّاهم إلى مشيئته . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ) ، قال: إن هذه الآية: آيةٌ لا ينبغي لأحدٍ أن يحكم على الله في خلقه، أن لا ينـزلهم جنَّةً ولا نارًا . القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 129 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ( نُوَلّي ) . فقال بعضهم: معناه: نحمل بعضهم لبعض وليًّا، على الكفر بالله . ذكر من قال ذلك: حدثنا يونس قال، حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون ) ، وإنما يولي الله بين الناس بأعمالهم ، فالمؤمن وليُّ المؤمن أين كان وحيث كان, والكافر وليُّ الكافر أينما كان وحيثما كان . ليس الإيمان بالتَمنِّي ولا بالتحَلِّي . وقال آخرون: معناه: نُتْبع بعضهم بعضًا في النار من « الموالاة » , وهو المتابعة بين الشيء والشيء, من قول القائل: « واليت بين كذا وكذا » ، إذا تابعت بينهما . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا ) ، في النار، يتبع بعضهم بعضًا . وقال آخرون: معنى ذلك، نسلط بعض الظلمة على بعض . ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا ) ، قال: ظالمي الجن وظالمي الإنس . وقرأ: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، [ سورة الزخرف: 36 ] . قال: نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس . قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب, قولُ من قال: معناه: وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعضٍ أولياء . لأن الله ذكر قبل هذه الآية ما كان من قول المشركين, فقال جل ثناؤه: وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ , وأخبر جل ثناؤه: أنّ بعضهم أولياء بعض, ثم عقب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضًا بتوليته إياهم, فقال: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض يستمتع بعضهم ببعض, كذلك نجعل بعضَهم أولياء بعض في كل الأمور « بما كانوا يكسبون » ، من معاصي الله ويعملونه . القول في تأويل قوله : يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجن, يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذ: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ) ، يقول: يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي، وتعريفي لكم أدلّتي على توحيدي, وتصديق أنبيائي, والعمل بأمري، والانتهاء إلى حدودي ( وينذرونكم لقاء يومكم هذا ) ، يقول: يحذّرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا، وعقابي على معصيتكم إيّاي, فتنتهوا عن معاصيَّ . وهذا من الله جل ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي. ومعناه: قد أتاكم رسلٌ منكم ينبِّهونكم على خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيدَ الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين, فلم تقبلوا ذلك، ولم تتذكروا ولم تعتبروا . واختلف أهل التأويل في « الجن » , هل أرسل منهم إليهم، أم لا؟ فقال بعضهم: قد أرسل إليهم رسل، كما أرسل إلى الإنس منهم رسلٌ . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سئل الضحاك عن الجن، هل كان فيهم نبيّ قبل أن يُبْعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألم تسمع إلى قول الله: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي ) ، يعني بذلك: رسلا من الإنس ورسلا من الجن؟ فقالوا: بلَى! وقال آخرون: لم يرسل منهم إليهم رسولٌ, ولم يكن له من الجنّ قطٌّ رسول مرسل, وإنما الرسل من الإنس خاصَّة ، فأما من الجن فالنُّذُر . قالوا: وإنما قال الله: ( ألم يأتكم رسل منكم ) ، والرسل من أحد الفريقين, كما قال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، [ سورة الرحمن: 19 ] ، ثم قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ، [ سورة الرحمن: 22 ] ، وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح دون العذب منهما، وإنما معنى ذلك: يخرج من بعضهما، أو من أحدهما . قال: وذلك كقول القائل لجماعة أدؤُرٍ: « إن في هذه الدُّور لشرًّا » , وإن كان الشر في واحدة منهن, فيخرج الخبر عن جميعهن، والمراد به الخبر عن بعضهن, وكما يقال: « أكلت خبزًا ولبنًا » ، إذا اختلطا، ولو قيل: « أكلت لبنًا » , كان الكلام خطأً, لأن اللبن يشرب ولا يؤكل . ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم ) ، قال: جمعهم كما جمع قوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ، [ سورة فاطر: 12 ] ، ولا يخرج من الأنهار حلية قال ابن جريج ، قال ابن عباس: هم الجن لقُوا قومهم, وهم رسل إلى قومهم . فعلى قول ابن عباس هذا, أنّ من الجنّ رسلا للإنس إلى قومهم فتأويل الآية على هذا التأويل الذي تأوَّله ابن عباس: ألم يأتكم، أيها الجن والإنس، رسل منكم، فأما رسل الإنس فرسل من الله إليهم، وأما رسل الجن فرسُل رُسُل الله من بني آدم, وهم الذين إذا سَمِعوا القرآنَ وَلّوا إلى قومهم منذرين . وأما الذين قالوا بقول الضحاك, فإنهم قالوا: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ من الجن رسلا أرسلوا إليهم, كما أخبر أن من الإنس رسلا أرسلوا إليهم . قالوا: ولو جاز أن يكون خبرُه عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس, جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رُسُل الجنّ . قالوا: وفي فساد هذا المعنى ما يدلُّ على أن الخبرين جميعًا بمعنى الخبر عنهم أنهم رُسُل الله, لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره . القول في تأويل قوله : قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ( 130 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن قول مشركي الجن والإنس عند تقريعه إياهم بقوله لهم: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ، أنهم يقولونه ................ ( شهدنا على أنفسنا ) ، بأن رسلك قد أتتنا بآياتك, وأنذرتنا لقاء يومنا هذا, فكذبناها وجحدنا رسالتها, ولم نتبع آياتك ولم نؤمن بها . قال الله خبرًا مبتدأ: وغَرَّت هؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام، وأولياءَهم من الجن ( الحياة الدنيا ) ، يعني: زينة الحياة الدنيا، وطلبُ الرياسة فيها والمنافسة عليها, أن يسلموا لأمر الله فيطيعوا فيها رسله, فاستكبروا وكانوا قومًا عالين . فاكتفى بذكر « الحياة الدنيا » من ذكر المعاني التي غرَّتهم وخدَعتهم فيها, إذ كان في ذكرها مكتفًى عن ذكر غيرها، لدلالة الكلام على ما تُرك ذكره يقول الله تعالى ذكره: ( وشهدوا على أنفسهم ) ، يعني: هؤلاء العادلين به يوم القيامة أنهم كانوا في الدنيا كافرين به وبرسله, لتتم حجَّة الله عليهم بإقرارهم على أنفسهم بما يوجب عليهم عقوبته وأليمَ عذابه . القول في تأويل قوله : ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( 131 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، أي: إنما أرسلنا الرسل، يا محمد، إلى من وصفتُ أمرَه, وأعلمتك خبره من مشركي الإنس والجن، يقصون عليهم آياتي وينذرونهم لقاء معادهم إليَّ, من أجل أن ربَّك لم يكن مهلك القرى بظلم . وقد يتَّجه من التأويل في قوله: « بظلم » ، وجهان: أحدهما: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، أي: بشرك مَنْ أشرك, وكفر مَنْ كفر من أهلها, كما قال لقمان: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، [ سورة لقمان: 13 ] ( وأهلها غافلون ) ، يقول: لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسلا تنبههم على حجج الله عليهم, وتنذرهم عذاب الله يوم معادهم إليه, ولم يكن بالذي يأخذهم غَفْلة فيقولوا: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ . والآخر: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، يقول: لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرُّسل والآيات والعبر, فيظلمهم بذلك, والله غير ظلامٍ لعبيده . قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب عندي، القولُ الأول: أن يكون معناه: أن لم يكن ليهلكهم بشركهم، دون إرسال الرسل إليهم، والإعذار بينه وبينهم. وذلك أن قوله: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، عقيب قوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ، فكان في ذلك الدليل الواضحُ على أن نصَّ قوله: ( ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم ) ، إنما هو: إنما فعلنا ذلك من أجل أنَّا لا نهلك القرى بغير تذكيرٍ وتنبيه . وأما قوله: ( ذلك ) ، فإنه يجوز أن يكون نصبًا, بمعنى: فعلنا ذلك ويجوز أن يكون رفعًا، بمعنى الابتداء, كأنه قال: ذلك كذلك . وأما « أنْ » ، فإنها في موضع نصب، بمعنى: فعلنا ذلك من أجل أنْ لم يكن ربك مهلك القرى فإذا حذف ما كان يخفضها، تعلق بها الفعل فنصب . القول في تأويل قوله : وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( 132 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكل عامل في طاعة الله أو معصيته، منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها, ويثيبه بها, إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا ( وما ربك بغافل عما يعملون ) ، يقول جل ثناؤه: وكل ذلك من عملهم، يا محمد، بعلم من ربِّك، يحصيها ويثبتها لهم عنده، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه . القول في تأويل قوله : وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ( 133 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « وربك » ، يا محمد، الذي أمر عباده بما أمرهم به، ونهاهم عما نهاهم عنه، وأثابهم على الطاعة، وعاقبهم على المعصية « الغني » ، عن عباده الذين أمرهم بما أمر، ونهاهم عما نهى, وعن أعمالهم وعبادتهم إياه, وهم المحتاجون إليه, لأنه بيده حياتهم ومماتهم، وأرزاقهم وأقواتهم، ونفعهم وضرهم. يقول عز ذكره: فلم أخلقهم، يا محمد، ولم آمرهم بما أمرتهم به، وأنههم عما نهيتهم عنه, لحاجةٍ لي إليهم، ولا إلى أعمالهم, ولكن لأتفضَّل عليهم برحمتي، وأثيبهم على إحسانهم إن أحسنوا, فإني ذو الرَّأفة والرحمة . وأما قوله: ( إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) ، فإنه يقول: إن يشأ ربُّك، يا محمد، الذي خلق خلقه لغير حاجة منه إليهم وإلى طاعتهم إياه ( يذهبكم ) ، يقول: يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم ( ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) ، يقول: ويأت بخلق غيركم وأمم سواكم، يخلفونكم في الأرض « من بعدكم » , يعني: من بعد فنائكم وهلاككم ( كما أنشأكم من ذريَّة قوم آخرين ) ، كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلَكم . ومعنى « مِنْ » في هذا الموضع التعقيب, كما يقال في الكلام: « أعطيتك من دينارك ثوبًا » , بمعنى: مكانَ الدينار ثوبًا, لا أن الثوب من الدينار بعضٌ, كذلك الذين خوطبوا بقوله: ( كما أنشأكم ) ، لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين, ولكن معنى ذلك ما ذكرنا من أنَّهم أنشئوا مكان خَلْقٍ خَلَف قوم آخرين قد هلكوا قبلهم . و « الذرية » « الفُعْليّة » ، من قول القائل: « ذرأ الله الخلق » , بمعنى خلقهم، « فهو يذرؤهم » , ثم ترك الهمزة فقيل: « ذرا الله » , ثم أخرج « الفُعْليّة » بغير همز، على مثال « العُبِّيَّة » . وقد روي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ: « مِنْ ذُرِّيئَةِ قَوْمٍ آخَرِينَ » على مثال « فُعِّيلة » . وعن آخر أنه كان يقرأ: « وَمِنْ ذِرِّيَّةِ » ، على مثال « عِلِّيَّة » . قال أبو جعفر: والقراءة التي عليها القرأة في الأمصار: ( ذُرِّيَّةِ ) ، بضم الذال، وتشديد الياء، على مثال « عُبِّية » . وقد بينا اشتقاق ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته ههنا . وأصل « الإنشاء » ، الإحداث. يقال: « قد أنشأ فلان يحدِّث القوم » , بمعنى ابتدأ وأخذ فيه . القول في تأويل قوله : إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 134 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمشركين به: أيها العادلون بالله الأوثانَ والأصنامَ, إن الذي يُوعدكم به ربكم من عقابه على إصراركم على كفركم، واقعٌ بكم ( وما أنتم بمعجزين ) , يقول: لن تعجزوا ربّكم هربًا منه في الأرض فتفوتوه, لأنكم حيث كنتم في قبضته, وهو عليكم وعلى عقوبتكم بمعصيتكم إيّاه قادر. يقول: فاحذرُوه وأنيبوا إلى طاعته، قبل نـزول البلاء بكم . القول في تأويل قوله : قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « قل » ، يا محمد، لقومك من قريش الذين يجعلون مع الله إلها آخر: ( اعملوا على مكانتكم ) ، يقول: اعملوا على حِيالكم وناحيتكم . كما:- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( يا قوم اعملوا على مكانتكم ) ، يعني: على ناحيتكم . يقال منه: « هو يعمل على مكانته، ومَكِينته » . وقرأ ذلك بعض الكوفيين: « عَلَى مَكَانَاتِكُمْ » ، على جمع « المكانة » . قال أبو جعفر: والذي عليه قرأة الأمصار: ( عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) ، على التوحيد . ( إني عامل ) ، يقول جل ثناؤه، لنبيه: قل لهم: اعملوا ما أنتم عاملون, فإني عامل ما أنا عامله مما أمرني به ربي ( فسوف تعلمون ) ، يقول: فسوف تعلمون عند نـزول نقمة الله بكم, أيُّنا كان المحقّ في عمله، والمصيب سبيلَ الرشاد, أنا أم أنتم. وقوله تعالى ذكره لنبيه: قل لقومك: ( يا قوم اعملوا على مكانتكم ) ، أمرٌ منه له بوعيدهم وتهدّدهم, لا إطلاقٌ لهم في عمل ما أرادُوا من معاصي الله . القول في تأويل قوله : مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( 135 ) قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ( من تكون له عاقبة الدار ) ، فسوف تعلمون، أيها الكفرة بالله، عند معاينتكم العذابَ, مَن الذي تكون له عاقبة الدار منا ومنكم. يقول: من الذي تُعْقبه دنياه ما هو خير له منها أو شر منها، بما قدَّم فيها من صالح أعماله أو سَيّئها . ثم ابتدأ الخبر جل ثناؤه فقال: ( إنه لا يفلح الظالمون ) ، يقول: إنه لا ينجح ولا يفوز بحاجته عند الله مَنْ عمل بخلاف ما أمره الله به من العمل في الدنيا وذلك معنى: « ظلم الظالم » ، في هذا الموضع . وفي « من » التي في قوله: ( من تكون ) ، له وجهان من الإعراب: الرفع على الابتداء. والنصبُ بقوله: ( تعلمون ) ، ولإعمال « العلم » فيه. والرفع فيه أجود, لأن معناه: فسوف تعلمون أيُّنا له عاقبة الدار؟ فالابتداء في « من » ، أصحُّ وأفصح من إعمال « العلم » فيه . القول في تأويل قوله : وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( 136 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجعل هؤلاء العادلون بربهم الأوثانَ والأصنام لربهم ( مما ذرأ ) خالقهم, يعني: مما خلق من الحرث والأنعام. يقال منه: « ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذَرْءًا، وذَرْوًا » ، إذا خَلَقهم . « نصيبًا » ، يعني قسمًا وجزءًا . ثم اختلف أهل التأويل في صفة النصيب الذي جعلوا لله، والذي جعلوه لشركائهم من الأوثان والشيطان. فقال بعضهم: كان ذلك جزءًا من حُروثهم وأنعامهم يُفْرِزُونه لهذا، وجزءًا آخر لهذا . ذكر من قال ذلك: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير, عن خصيف, عن عكرمة عن ابن عباس ( فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله ) ، الآية, قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حُزَمًا، جعلوا منها لله سَهْمًا، وسهمًا لآلهتهم. وكان إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله، ردُّوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم. وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم، أقرُّوه ولم يردُّوه. فذلك قوله: ( سَاءَ ما يحكمون ) . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس في قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ) ، قال: جعلوا لله من ثمراتهم وما لهم نصيبًا، وللشيطان والأوثان نصيبًا. فإن سقط من ثمرة ما جَعَلوا لله في نصيب الشيطان تركوه ، وإن سقط مما جعلوه للشيطان في نصيب الله التقَطُوه وحفظُوه وردُّوه إلى نصيب الشيطان ، وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه لله في نصيب الشيطان تركوه، وإن انفجر من سِقْي ما جعلوه للشيطان في نصيب الله سدُّوه. فهذا ما جعلوا من الحروث وسِقْي الماء . وأما ما جعلوا للشيطان من الأنعام فهو قول الله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ ، [ سورة المائدة: 103 ] . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا لله بزعمهم ) ، الآية, وذلك أن أعداءَ الله كانوا إذا احترثُوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة, جعلوا لله منها جزءًا وللوَثَن جزءًا, فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. فإن سقط منه شيء فيما سُمِّي لله ردُّوه إلى ما جعلوا للوثن. وإن سبقهم الماء إلى الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئًا جعلوه لله. جعلوا ذلك للوثن, وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوا لله. فاختلط بالذي جعلوا للوثن, قالوا: « هذا فقير » ! ولم يردوه إلى ما جعلوا لله . وإن سبقهم الماء الذي جعلوا لله فسقى ما سُمِّي للوثن، تركوه للوثن . وكانوا يحرِّمون من أنعامهم البَحيرة والسائبة والوصيلةَ والحام, فيجعلونه للأوثان, ويزعمون أنهم يحرّمونه لله. فقال الله في ذلك: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، الآية . حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، قال: يسمون لله جزءًا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم جزءًا ، فما ذهبت به الريح مما سمّوا لله إلى جزء أوثانهم تركوه, وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردُّوه، وقالوا: « الله عن هذا غنيّ » ! و « الأنعام » السائبة والبحيرة التي سمُّوا . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، الآية, عمَدَ ناس من أهل الضلالة فجزَّءوا من حروثهم ومواشيهم جزءًا لله وجزءًا لشركائهم . وكانوا إذا خالط شيء مما جزّءوا لله فيما جزءوا لشركائهم خلَّوه. فإذا خالط شيء مما جزءوا لشركائهم فيما جزءوا لله ردّوه على شركائهم . وكانوا إذا أصابتهم السَّنةُ استعانوا بما جزءوا لله، وأقرُّوا ما جزءوا لشركائهم ، قال الله: ( ساء ما يحكمون ) . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) ، قال: كانوا يجزئون من أموالهم شيئًا, فيقولون: « هذا لله, وهذا للأصنام » ، التي يعبدون . فإذا ذهب بعيرٌ مما جعلوا لشركائهم، فخالط ما جعلوا لله ردُّوه. وإن ذهب مما جعلوه لله فخالط شيئًا مما جعلوه لشركائهم تركوه . وإن أصابتهم سنة, أكلوا ما جعلوا لله، وتركوا ما جعلوا لشركائهم, فقال الله: ( ساء ما يحكمون ) . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) إلى ( يحكمون ) ، قال: كانوا يقسمون من أموالهم قِسْمًا فيجعلونه لله, ويزرعون زَرْعًا فيجعلونه لله, ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك. فما خرج للآلهة أنفقوه عليها, وما خرج لله تصدقوا به . فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم، وكثر الذي لله قالوا: « ليس بُدٌّ لآلهتنا من نفقة » ، وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم. وإذا أجدب الذي لله، وكثر الذي لآلهتهم, قالوا: « لو شاء أزكى الذي له » ! فلا يردُّون عليه شيئًا مما للآلهة . قال الله: لو كانوا صادقين فيما قسموا، لبئس إذًا ما حكموا: أن يأخذوا مني ولا يعطوني . فذلك حين يقول: ( ساء ما يحكمون ) . وقال آخرون: « النصيب » الذي كانوا يجعلونه لله فكان يصل منه إلى شركائهم: أنهم كانوا لا يأكلون ما ذبحوا لله حتى يسمّوا الآلهة, وكانوا ما ذبحوه للآلهة يأكلونه ولا يسمون الله عليه . ذكر من قال ذلك: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ) حتى بلغ: ( وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ) ، قال: كل شيء جعلوه لله من ذِبْح يذبحونه، لا يأكلونه أبدًا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم يذكروا اسمَ الله معه ، وقرأ الآية حتى بلغ: ( ساء ما يحكمون ) . قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية ما قال ابن عباس ومَنْ قال بمثل قوله في ذلك, لأن الله جل ثناؤه أخبر أنهم جعلوا لله من حرثهم وأنعامهم قسمًا مقدرُا, فقالوا: « هذا لله » وجعلوا مثله لشركائهم, وهم أوثانهم، بإجماع من أهل التأويل عليه, فقالوا: « هذا لشركائنا » وإن نصيب شركائهم لا يصل منه إلى الله, بمعنى: لا يصل إلى نصيب الله, وما كان لله وصَل إلى نصيب شركائهم . فلو كان وصول ذلك بالتسمية وترك التسمية, كان أعيان ما أخبر الله عنه أنه لم يصل، جائزًا أن تكون قد وصلت, وما أخبر عنه أنه قد وصل، لم يصل. وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر الكلام، لأن الذبيحتين تُذبح إحداهما لله، والأخرى للآلهة, جائز أن تكون لحومهما قد اختلطت، وخلطوها إذ كان المكروه عندهم تسمية الله على ما كان مذبوحًا للآلهة، دون اختلاط الأعيان واتصال بعضها ببعض . وأما قوله : ( ساء ما يحكمون ) ، فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم . يقول جل ثناؤه: وقد أساؤوا في حكمهم، إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم، ولم يعطوني من نصيب شركائهم . وإنما عنى بذلك تعالى ذكره الخبرَ عن جهلهم وضلالتهم، وذهابهم عن سبيل الحق، بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى، ما لا يضرهم ولا ينفعهم, حتى فضّلوه في أقسامهم عند أنفسهم بالقَسْم عليه . القول في تأويل قوله : وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( 137 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما زيَّن شركاء هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام لهم ما زينوا لهم, من تصييرهم لربهم من أموالهم قَسْما بزعمهم, وتركهم ما وَصل من القَسْم الذي جعلوه لله إلى قسم شركائهم في قسمهم, وردِّهم ما وَصَل من القسم الذي جعلوه لشركائهم إلى قسم نصيب الله، إلى قسم شركائهم ( كذلك زين لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤهم ) ، من الشياطين, فحسنوا لهم وأد البنات ( ليردوهم ) ، يقول: ليهلكوهم ( وليلبسوا عليهم دينهم ) ، فعلوا ذلك بهم، ليخلطوا عليهم دينهم فيلتبس, فيضلوا ويهلكوا، بفعلهم ما حرم الله عليهم ولو شاء الله أن لا يفعلوا ما كانوا يفعلون من قتلهم لم يفعلوه, بأن كان يهديهم للحق، ويوفقهم للسداد, فكانوا لا يقتلونهم, ولكن الله خذلهم عن الرشاد فقتلوا أولادهم، وأطاعوا الشياطين التي أغوتهم . يقول الله لنبيه، متوعدًا لهم على عظيم فريتهم على ربهم فيما كانوا يقولون في الأنصباء التي يقسِمونها: « هذا لله وهذا لشركائنا » ، وفي قتلهم أولادهم « ذرهم » ، يا محمد، « وما يفترون » ، وما يتقوّلون عليَّ من الكذب والزور, فإني لهم بالمرصاد, ومن ورائهم العذاب والعقاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ) ، زينوا لهم, من قَتْل أولادهم . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( قتل أولادهم شركاؤهم ) ، شياطينهم، يأمرونهم أن يَئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, نحوه . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم ) الآية, قال: شركاؤهم زينوا لهم ذلك ( ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ) . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ) ، قال: شياطينهم التي عبدوها, زينوا لهم قتلَ أولادهم . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ) ، أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات . وأمَّا ( ليردوهم ) ، فيهلكوهم . وأما ( ليلبسوا عليهم دينهم ) ، فيخلطوا عليهم دينهم . واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته قرأة الحجاز والعراق: ( وَكَذَلِكَ زَيَّن ) ، بفتح الزاي من « زين » ، ( لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ ) ، بنصب « القتل » , ( شُرَكَاؤُهُمْ ) ، بالرفع بمعنى أن شركاء هؤلاء المشركين، الذين زينوا لهم قتلَ أولادهم فيرفعون « الشركاء » بفعلهم, وينصبون « القتل » ، لأنه مفعول به . وقرأ ذلك بعض قرأة أهل الشام: « وَكَذَلِكَ زُيِّنَ » بضم الزاي « لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ » بالرفع « أَوْلادَهُمْ » بالنصب « شُرَكَائِهِمْ » بالخفض بمعنى: وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ شركائهم أولادَهم ، ففرّقوا بين الخافض والمخفوض بما عمل فيه من الاسم. وذلك في كلام العرب قبيح غير فصيح . وقد روي عن بعض أهل الحجاز بيت من الشعر يؤيِّد قراءة من قرأ بما ذكرت من قرأة أهل الشام, رأيتُ رواة الشعر وأهل العلم بالعربية من أهل العراق ينكرونه, وذلك قول قائلهم: فَزَجَجْتُــــــهُ مُتَمَكِّنًــــــا زَجَّ القَلُـــوصَ أَبـــي مَــزَادَهْ قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز غيرها: ( وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ) ، بفتح الزاي من « زين » ، ونصب « القتل » بوقوع « زين » عليه، وخفض « أولادهم » بإضافة « القتل » إليهم, ورفع « الشركاء » بفعلهم، لأنهم هم الذين زينوا للمشركين قتلَ أولادهم، على ما ذكرتُ من التأويل . وإنما قلت: « لا أستجيز القراءة بغيرها » ، لإجماع الحجة من القرأة عليه, وأن تأويل أهل التأويل بذلك ورد, ففي ذلك أوضح البيان على فساد ما خالفها من القراءة . ولولا أن تأويل جميع أهل التأويل بذلك ورد، ثم قرأ قارئ: « وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادَهُمْ شُرَكَائِهِمْ » ، بضم الزاي من « زين » ، ورفع « القتل » ، وخفض « الأولاد » و « الشركاء » , على أن « الشركاء » مخفوضون بالردّ على « الأولاد » ، بأنّ « الأولاد » شركاء آبائهم في النسب والميراث كان جائزًا . ولو قرأه كذلك قارئ, غير أنه رفع « الشركاء » وخفض « الأولاد » ، كما يقال: « ضُرِبَ عبدُ الله أخوك » , فيظهر الفاعل، بعد أن جرى الخبر بما لم يسمَّ فاعله كان ذلك صحيحًا في العربية جائزًا . القول في تأويل قوله : وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء الجهلة من المشركين أنهم كانوا يحرمون ويحللون من قِبَل أنفسهم، من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك . يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء العادلون بربهم من المشركين، جهلا منهم, لأنعام لهم وحرث: هذه أنعامٌ وهذا حرث حجر يعني بـ « الأنعام » و « الحرث » ما كانوا جعلوه لله ولآلهتهم، التي قد مضى ذكرها في الآية قبل هذه . وقيل: إن « الأنعام » ، السائبة والوصيلة والبحيرة التي سمَّوا . حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الأنعام » ، السائبة والبحيرة التي سمُّوا . و « الحِجْر » في كلام العرب، الحرام. يقال: « حَجَرت على فلان كذا » ، أي حرَّمت عليه, ومنه قول الله: وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا ، [ سورة الفرقان: 22 ] ، ومنه قول المتلمس: حَـنَّتْ إلَـى النَّخْلَةِ القُصْوَى فَقُلْتُ لَهَا: حِجْــرٌ حَــرَامٌ, أَلا ثَـمَّ الدَّهَـارِيسُ وقول رؤبة، [ العجاج ] : * وَجَارَةُ البَيْتِ لَهَا حُجْرِيُّ * يعني المحرّمَ ، ومنه قول الآخر: فَبِــتُّ مُرْتَفِقًــا, والعَيْـنُ سَـاهِرَةٌ كَـأَنَّ نَـوْمِي عَـلَيَّ اللَّيْـلَ مَحْجُـورُ أي حرام. يقال : « حِجْر » و « حُجْر » , بكسر الحاء وضمها . وبضمها كان يقرأ، فيما ذُكر، الحسنُ وقتادة . حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي [ قال، حدثني عمي ] قال، حدثني أبي, عن الحسين, عن قتادة أنه: كان يقرؤها: « وَحَرْثٌ حُجْرٌ » ، يقول: حرام, مضمومة الحاء . وأما القرأة من الحجاز والعراق والشام، فعلى كسرها. وهي القراءة التي لا أستجيز خلافها، لإجماع الحجة من القرأة عليها, وأنها اللغة الجُودَى من لغات العرب . وروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: « وَحَرْثٌ حِرْجٌ » ، بالراء قبل الجيم . حدثني بذلك الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن ابن عباس: أنه كان يقرؤها كذلك . وهي لغة ثالثة، معناها ومعنى « الحجر » واحد. وهذا كما قالوا: « جذب » و « جبذ » , و « ناء » و « نأى » . ففي « الحجر » ، إذًا، لغات ثلاث: « حجر » بكسر الحاء، والجيم قبل الراء « وحُجر » بضم الحاء، والجيم قبل الراء و « حِرْج » ، بكسر الحاء، والراء قبل الجيم . وبنحو الذي قلنا في تأويل الحجر قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث, عن حميد, عن مجاهد وأبي عمرو: ( وحرث حجر ) ، يقول: حرام . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وحرث حجر ) ، فالحجر . ما حرّموا من الوصيلة, وتحريم ما حرموا . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( وحرث حجر ) ، قال: حرام . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( هذه أنعام وحرث حجر ) الآية, تحريمٌ كان عليهم من الشياطين في أموالهم، وتغليظ وتشديد. وكان ذلك من الشياطين، ولم يكن من الله . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما قوله: ( وقالوا هذه أنعام وحرث حجر ) ، فيقولون: حرام، أن نطعم إلا من شئنا . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( هذه أنعام وحرث حجر ) ، نحتجرها على مَنْ نريد وعمن نريد, لا يطعمها إلا مَنْ نشاء، بزعمهم. قال: إنما احتجروا ذلك لآلهتهم, وقالوا: لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ) ، قالوا: نحتجرها عن النساء, ونجعلها للرجال . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أنعام وحرث حجر ) ، أما « حجر » , يقول: محرَّم . وذلك أنهم كانوا يصنعون في الجاهلية أشياء لم يأمر الله بها, كانوا يحرّمون من أنعامهم أشياء لا يأكلونها, ويعزلون من حرثهم شيئًا معلومًا لآلهتهم, ويقولون: لا يحل لنا ما سمّينا لآلهتنا. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( أنعام وحرث حجر ) ، ما جعلوه لله ولشركائهم . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . القول في تأويل قوله : وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 138 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحرّم هؤلاء الجهلة من المشركين ظهورَ بعض أنعامهم, فلا يركبون ظهورها, وهم ينتفعون برِسْلِها ونِتَاجها وسائر الأشياء منها غير ظهورها للركوب . وحرموا من أنعامهم أنعامًا أخر، فلا يحجُّون عليها، ولا يذكرون اسم الله عليها إن ركبوها بحالٍ، ولا إن حلبوها، ولا إن حمَلوا عليها . وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم قال: قال لي أبو وائل : أتدري ما « أنعام لا يذكرون اسم الله عليها » ؟ قال: قلت: لا! قال: أنعام لا يحجون عليها . حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال، حدثنا شاذان قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم قال: قال لي أبو وائل: أتدري ما قوله: ( حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) ؟ قال: قلت: لا! قال: هي البحيرة، كانوا لا يحجون عليها . حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال، حدثنا محمد بن سعيد الشهيد قال، حدثنا أبو بكر بن عياش, عن عاصم, عن أبي وائل: ( وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) ، قال: لا يحجون عليها . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي أما: ( أنعام حرمت ظهورها ) ، فهي البحيرة والسائبة والحام وأما « الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها » , قال: إذا أولدوها, ولا إن نحروها . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) ، قال: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها، لا إن ركبوها, ولا إن حلبوا, ولا إن حملوا, ولا إن منحوا, ولا إن عملوا شيئًا . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأنعام حرمت ظهورها ) ، قال: لا يركبها أحد ( وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها ) . وأما قوله: ( افتراء على الله ) , فإنه يقول: فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا, وقالوا ما قالوا من ذلك, كذبًا على الله, وتخرّصًا الباطلَ عليه; لأنهم أضافوا ما كانوا يحرّمون من ذلك، على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه، إلى أنّ الله هو الذي حرّمه, فنفى الله ذلك عن نفسه, وأكذبهم, وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدّعون . ثم قال عز ذكره: ( سيجزيهم ) ، يقول: سيثيبهم ربُّهم بما كانوا يفترونَ على الله الكذبَ ثوابَهم, ويجزيهم بذلك جزاءهم . القول في تأويل قوله : وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله: ( ما في بطون هذه الأنعام ) . فقال بعضهم: عنى بذلك اللَّبن . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن أبي الهذيل, عن ابن عباس: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ) ، قال: اللبن . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن ابن أبي الهذيل, عن ابن عباس، مثله . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) ، ألبان البحائر كانت للذكور دون النساء, وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) ، قال: ما في بطون البحائر، يعني ألبانها, كانوا يجعلونه للرجال، دون النساء . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عيسى بن يونس, عن زكريا, عن عامر قال: « البحيرة » لا يأكل من لبنها إلا الرجال, وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس,قوله: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ) الآية, فهو اللبن، كانوا يحرمونه على إناثهم، ويشربه ذكرانهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركب لم تذبح. وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء . فنهى الله عن ذلك . وقال آخرون: بل عنى بذلك ما في بطون البحائر والسوائب من الأجنة . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ) ، فهذه الأنعام، ما ولد منها من حيّ فهو خالص للرجال دون النساء. وأما ما ولد من ميت، فيأكله الرجال والنساء . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ) ، السائبة والبحيرة . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الكفرة أنهم قالوا في أنعام بأعيانها: « ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا دون إناثنا » ، واللبن ما في بطونها, وكذلك أجنتها. ولم يخصُص الله بالخبر عنهم أنهم قالوا: بعضُ ذلك حرام عليهن دون بعض . وإذ كان ذلك كذلك, فالواجب أن يقال إنهم قالوا: ما في بطون تلك الأنعام من لبن وجنين حِلٌّ لذكورهم خالصة دون إناثهم, وإنهم كانوا يؤثرون بذلك رجالهم, إلا أن يكون الذي في بطونها من الأجنة ميتًا، فيشترك حينئذ في أكله الرجال والنساء . واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله أنثت « الخالصة » . فقال بعض نحويي البصرة وبعض الكوفيين: أنثت لتحقيق « الخلوص » , كأنه لما حقق لهم الخلوص أشبه الكثرة, فجرى مجرى « راوية » و « نسابة » . وقال بعض نحويي الكوفة: أنثت لتأنيث « الأنعام » , لأن « ما في بطونها » ، مثلها, فأنثت لتأنيثها . ومن ذكّره فلتذكير « ما » . قال: وهي في قراءة عبد الله: « خَالِصٌ » . قال: وقد تكون الخالصة في تأنيثها مصدرًا, كما تقول: « العافية » و « العاقبة » , وهو مثل قوله: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ [ سورة ص: 46 ] . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: أريد بذلك المبالغة في خلوص ما في بطون الأنعام التي كانوا حرَّموا ما في بطونها على أزواجهم, لذكورهم دون إناثهم, كما فعل ذلك « بالراوية » و « النسابة » و « العلامة » , إذا أريد بها المبالغة في وصف من كان ذلك من صفته, كما يقال: « فلان خالصة فلان، وخُلصانه » . وأما قوله: ( ومحرم على أزواجنا ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في المعنيِّ بـ « الأزواج » . فقال بعضهم: عنى بها النساء . ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( ومحرم على أزواجنا ) ، قال: النساء . وقال آخرون: بل عنى بالأزواج البنات . ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( ومحرم على أزواجنا ) ، قال: « الأزواج » ، البنات . وقالوا: ليس للبنات منه شيء . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام يعني أنعامهم : « هذا محرم على أزواجنا » ، و « الأزواج » ، إنما هي نساؤهم في كلامهم, وهن لا شك بنات من هن أولاده, وحلائل من هن أزواجه . وفي قول الله عز وجل: ( ومحرم على أزواجنا ) ، الدليلُ الواضح على أن تأنيث « الخالصة » ، كان لما وصفت من المبالغة في وصف ما في بطون الأنعام بالخلوصة للذكور, لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل: و « محرمة على أزواجنا » , ولكن لما كان التأنيث في « الخالصة » لما ذكرت, ثم لم يقصد في « المحرم » ما قصد في « الخالصة » من المبالغة, رجع فيها إلى تذكير « ما » , واستعمال ما هو أولى به من صفته . وأما قوله: ( وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ) ، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه يزيد بن القعقاع، وطلحة بن مصرِّف، في آخرين: « وَإنْ تَكُنْ مَيْتَةٌ » بالتاء في « تكن » ، ورفع « ميتة » , غير أن يزيد كان يشدّد الياء من « مَيِّتَةٌ » ويخففها طلحة . حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا عيسى, عن طلحة بن مصرف . وحدثنا أحمد بن يوسف, عن القاسم, وإسماعيل بن جعفر, عن يزيد . وقرأ ذلك بعض قَرَأة المدينة والكوفة والبصرة: ( وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً ) ، بالياء، و « ميتة » ، بالنصب، وتخفيف الياء . وكأنّ من قرأ: ( وإن يكن ) ، بالياء ( ميتة ) بالنصب, أراد: وإن يكن ما في بطون تلك الأنعام فذكر « يكن » لتذكير « ما » ونصب « الميتة » ، لأنه خبر « يكن » . وأما من قرأه : « وإن تكن ميتة » ، فإنه إن شاء الله أراد: وإن تكن ما في بطونها ميتة, فأنث « تكن » لتأنيث « ميتة » . وقوله: ( فهم فيه شركاء ) ، فإنه يعني أن الرجال وأزواجهم شركاء في أكله، لا يحرمونه على أحد منهم, كما ذكرنا عمن ذكرنا ذلك عنه قبل من أهل التأويل . وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ) ، قال: تأكل النساء مع الرجال, إن كان الذي يخرج من بطونها ميتة، فهم فيه شركاء, وقالوا: إن شئنا جعلنا للبنات فيه نصيبًا، وإن شئنا لم نجعل . قال أبو جعفر: وظاهر التلاوة بخلاف ما تأوَّله ابن زيد, لأن ظاهرها يدل على أنهم قالوا: « إن يكن ما في بطونها ميتة, فنحن فيه شركاء » بغير شرط مشيئة . وقد زعم ابن زيد أنهم جعلوا ذلك إلى مشيئتهم . القول في تأويل قوله : سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( 139 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « سيجزي » ، أي: سيثيب ويكافئ هؤلاء المفترين عليه الكذب في تحريمهم ما لم يحرّمه الله, وتحليلهم ما لم يحلله الله, وإضافتهم كذبهم في ذلك إلى الله وقوله: ( وصفهم ) ، يعني بـ « وصفهم » ، الكذبَ على الله, وذلك كما قال جلَّ ثناؤه في موضع آخر من كتابه: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ، [ سورة النحل: 62 ] . و « الوصف » و « الصفة » في كلام العرب واحد, وهما مصدران مثل « الوزن » و « الزنة » . وبنحو الذي قلنا في معنى « الوصف » قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قوله: ( سيجزيهم وصفهم ) ، قال: قولهم الكذب في ذلك . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية: ( سيجزيهم وصفهم ) قال: كذبهم . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( سيجزيهم وصفهم ) ، أي كذبهم . وأما قوله: ( إنه حكيم عليم ) ، فإنه يقول جل ثناؤه: إن الله في مجازاتهم على وصفهم الكذب وقيلهم الباطل عليه « حكيم » ، في سائر تدبيره في خلقه « عليم » ، بما يصلحهم، وبغير ذلك من أمورهم . القول في تأويل قوله : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 140 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قد هلك هؤلاء المفترون على ربهم الكذبَ, العادلون به الأوثانَ والأصنام, الذين زين لهم شركاؤهم قتل أولادهم, وتحريم [ ما أنعمت به ] عليهم من أموالهم, فقتلوا طاعة لها أولادهم, وحرّموا ما أحل الله لهم وجعله لهم رزقًا من أنعامهم « سفها » ، منهم. يقول: فعلوا ما فعلوا من ذلكَ جهالة منهم بما لهم وعليهم, ونقصَ عقول, وضعفَ أحلام منهم, وقلة فهم بعاجل ضرّه وآجل مكروهه، من عظيم عقاب الله عليه لهم ( افتراء على الله ) ، يقول: تكذّبًا على الله وتخرصًا عليه الباطل ( قد ضلوا ) ، يقول: قد تركوا محجة الحق في فعلهم ذلك, وزالوا عن سواء السبيل ( وما كانوا مهتدين ) ، يقول: ولم يكن فاعلو ذلك على هدًى واستقامة في أفعالهم التي كانوا يفعلون قبل ذلك, ولا كانوا مهتدين للصواب فيها، ولا موفقين له . ونـزلت هذه الآية في الذين ذكر الله خبرهم في هذه الآيات من قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا الذين كانوا يبحرون البحائر, ويسيِّبون السوائب, ويئدون البنات ، كما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال، قال عكرمة، قوله: ( الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم ) ، قال: نـزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومُضَر, كان الرجل يشترط على امرأته أن تستحيي جارية وتئد أخرى. فإذا كانت الجارية التي تَئِد، غدا الرجل أو راح من عند امرأته، وقال لها: « أنت علي كظهر أمِّي إن رجعت إليك ولم تئديها » ، فتخُدُّ لها في الأرض خدًّا, وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها, ثم يتداولنها, حتى إذا أبصرته راجعًا دستها في حفرتها, ثم سوّت عليها التراب . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ثم ذكر ما صنعوا في أولادهم وأموالهم فقال: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم وحرموا ما رزقهم الله ) . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم ) ، فقال: هذا صنيع أهل الجاهلية. كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السِّباء والفاقة، ويغذو كلبه وقوله: ( وحرموا ما رزقهم الله ) ، الآية, وهم أهل الجاهلية. جعلوا بحيرةً وسائبة ووصيلةً وحاميًا, تحكمًا من الشياطين في أموالهم . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، إذا سرَّك أن تعلم جهل العرب, فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام قوله: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهًا بغير علم ) ، الآية . وكان أبو رزين يتأوّل قوله: ( قد ضلوا ) ، أنه معنيٌّ به: قد ضلوا قبل هؤلاء الأفعال من قتل الأولاد، وتحريم الرزق الذي رزقهم الله بأمور غير ذلك . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبى رزين في قوله: ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم ) ، إلى قوله: ( قد ضلوا ) ، قال: قد ضلوا قبل ذلك . القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ قال أبو جعفر: وهذا إعلام من الله تعالى ذكره ما أنعم به عليهم من فضله, وتنبيهٌ منه لهم على موضع إحسانه, وتعريفٌ منه لهم ما أحلَّ وحرَّم وقسم في أموالهم من الحقوق لمن قسم له فيها حقًّا . يقول تعالى ذكره: وربكم، أيها الناس ( أنشأ ) ، أي أحدث وابتدع خلقًا, لا الآلهة والأصنام ( جنات ) ، يعني: بساتين ( معروشات ) ، وهي ما عَرَش الناس من الكروم ( وغير معروشات ) ، غير مرفوعات مبنيَّات, لا ينبته الناس ولا يرفعونه, ولكن الله يرفعه وينبته وينمِّيه ، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( معروشات ) ، يقول: مسموكات . وبه عن ابن عباس: ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ) ، فـ « المعروشات » ، ما عرش الناس « وغير معروشات » ، ما خرج في البر والجبال من الثمرات . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما « جنات » ، فالبساتين وأما « المعروشات » ، فما عرش كهيئة الكَرْم . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن عطاء الخراساني, عن ابن عباس قوله: ( وهو الذي أنشأ جنات معروشات ) ، قال: ما يُعرَش من الكروم ( وغير معروشات ) ، قال: ما لا يعرش من الكرم . القول في تأويل قوله : وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وأنشأ النخل والزرع مختلفا أكله يعني بـ « الأكل » ، الثمر. يقول: وخلق النخل والزرع مختلفًا ما يخرج منه مما يؤكل من الثمر والحب « والزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه » ، في الطعم, منه الحلو، والحامض، والمزّ، كما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: ( متشابهًا وغير متشابه ) ، قال: « متشابهًا » ، في المنظر « وغير متشابه » ، في الطعم . وأما قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) ، فإنه يقول: كلوا من رطبه ما كان رطبًا ثمره ، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب في قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) ، قال: من رطبه وعنبه . حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن الزبرقان قال، حدثنا موسى بن عبيدة في قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر ) ، قال: من رطبه وعنبه . القول في تأويل قوله : وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: هذا أمر من الله بإيتاء الصدقة المفروضة من الثمر والحبِّ . ذكر من قال ذلك: حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس, عن الحسن, في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة . حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا يزيد بن درهم قال، سمعت أنس بن مالك يقول: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة المفروضة . حدثنا عمرو قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا الحجاج بن أرطاة, عن الحكم, عن مجاهد, عن ابن عباس في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر ونصف العشر . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد, عن حجاج, عن محمد بن عبيد الله, عن عبد الله بن شداد, عن ابن عباس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر ونصف العشر . حدثنا عمرو بن علي وابن وكيع وابن بشار قالوا، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إبراهيم بن نافع المكي, عن ابن عباس, عن أبيه, في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة . حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو هلال, عن حيان الأعرج, عن جابر بن زيد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة . حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا يونس, عن الحسن في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هي الصدقة قال: ثم سئل عنها مرة أخرى فقال: هي الصدقة من الحبّ والثمار . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الله, عن عمرو بن سليمان وغيره, عن سعيد بن المسيب أنه قال: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الصدقة المفروضة . حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هي الصدقة من الحب والثمار . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، يعني بحقه، زكاته المفروضة, يوم يُكال أو يُعلم كيله . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده, وهو أن يعلم ما كيله وحقّه, فيخرج من كل عشرة واحدًا, وما يَلْقُط الناس من سنبله . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، و « حقه يوم حصاده » ، الصدقة المفروضة ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سَنَّ فيما سقت السماء أو العين السائحة, أو سقاه الطل و « الطل » ، الندى أو كان بَعْلا العشرَ كاملا. وإن سقي برشاء: نصفَ العشر قال قتادة: وهذا فيما يكال من الثمرة. وكان هذا إذا بلغت الثمرة خمسةُ أوسقٍ, وذلك ثلثمئة صاع, فقد حق فيها الزكاة. وكانوا يستحبون أن يعطوا مما لا يكال من الثمرة على قدر ذلك . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة وطاوس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قالا هو الزكاة . حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن الحجاج, عن سالم المكي, عن محمد بن الحنفية قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يوم كيله, يعطي العشر أو نصف العشر . حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم المكي, عن محمد ابن الحنفية قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر, ونصف العشر . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه, وعن قتادة: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قالا الزكاة . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية الضرير, عن الحجاج, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العشر ونصف العشر . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شريك, عن الحكم بن عتيبة, عن ابن عباس, مثله . حدثت عن الحسين بن الفرج قال،سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، يعني: يوم كيله، ما كان من برّ أو تمر أو زبيب . و « حقه » ، زكاته . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كُلْ منه, وإذا حصدته فآت حقه ، و « حقه » ، عشوره . حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن يونس بن عبيد, عن الحسن أنه قال في هذه الآية: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة إذا كِلْتَه . حدثنا عمرو قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي رجاء قال: سألت الحسن عن قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الزكاة . حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، سألت ابن زيد بن أسلم عن قول الله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، فقلت له: هو العشور؟ قال: نعم! فقلت له: عن أبيك؟ قال: عن أبي وغيره . وقال آخرون: بل ذلك حقٌّ أوجبه الله في أموال أهل الأموال, غيرُ الصدقة المفروضة . ذكر من قال ذلك: حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا محمد بن جعفر, عن أبيه: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: شيئًا سوى الحق الواجب قال: وكان في كتابه: « عن علي بن الحسين » . حدثنا عمرو قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا عبد الملك, عن عطاء في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: القبضة من الطعام . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج, عن عطاء: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: من النخل والعنب والحب كله . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت ما حصدتُ من الفواكه؟ قال: ومنها أيضًا تؤتي . وقال: من كل شيء حصدتَ تؤتي منه حقه يوم حصاده, من نخل أو عنب أو حب أو فواكه أو خضر أو قصب, من كل شيء من ذلك . قلت لعطاء: أواجب على الناس ذلك كله؟ قال: نعم! ثم تلا ( وآتوا حقه يوم حصاده ) . قال: قلت لعطاء: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ،هل في ذلك شيء مُؤَقّت معلوم؟ قال: لا . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن عبد الملك, عن عطاء في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يعطي من حُضورِ يومئذ ما تيسر, وليس بالزكاة . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عيسى بن يونس, عن عبد الملك, عن عطاء: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: ليس بالزكاة, ولكن يطعم من حضره ساعتئذٍ حَصِيده . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن العلاء بن المسيب, عن حماد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كانوا يعطون رُطبًا . حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه, وإذا أنقيته وأخذت في كيله حَثَوْت لهم منه. وإذا علمتَ كيله عزلتَ زكاته. وإذا أخذت في جَدَاد النخل طَرَحت لهم من الثفاريق. وإذا أخذت في كيله حثَوْت لهم منه. وإذا علمت كيله عزلت زكاته . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن ليث, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: سوى الفريضة . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عمرو, عن منصور, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يلقي إلى السؤَّال عند الحصاد من السنبل, فإذا طِينَ أو طُيِّن، الشك من أبي جعفر ألقى إليهم . فإذا حمله فأراد أن يجعله كُدْسًا ألقى إليهم. وإذا داس أطعمَ منه, وإذا فرغ وعلم كم كيله، عزل زكاته . وقال: في النخل عند الجَدَاد يطعم من الثمرة والشماريخ. فإذا كان عند كيله أطعم من التمر. فإذا فرغ عزل زكاته . حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن منصور, عن مجاهد قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: إذا حصد الزرع ألقى من السنبل, وإذا جَدَّ النخل ألقى من الشماريخ. فإذا كاله زكّاه . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: عند الحصاد, وعند الدِّياس, وعند الصِّرام، يقبض لهم منه, فإذا كاله عزل زكاته . وبه، عن سفيان, عن مجاهد مثله إلا أنه قال: سوى الزكاة . حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: شيء سوى الزكاة، في الحصاد والجَدَاد, إذا حَصَدوا وإذا حَزَرُوا. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, في قول الله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: واجب، حين يصرم . حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن منصور, عن مجاهد: أنه قال في هذه الآية: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: إذا حصد أطعم, وإذا أدخله البَيْدَر, وإذا داسه أطعم منه . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن أشعث, عن ابن عمر, قال: يطعم المعترَّ، سوى ما يعطي من العشر ونصف العشر . وبه، عن سفيان, عن منصور, عن مجاهد قال: قبضة عند الحصاد, وقبضة عند الجَدَاد . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص, عن أشعث, عن ابن سيرين, قال: كانوا يعطون مَنْ اعترَّ بهم الشيءَ . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قال: الضِّغث . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد, عن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قال: يعطي مثل الضِّغث . حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا حماد, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: مثل هذا من الضغث ووضع يحيى إصبعه الإبهام على المفصل الثاني من السَّبّابة . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قال: نحو الضِّغث . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن إسرائيل, عن جابر, عن أبي جعفر وعن سفيان, عن حماد, عن إبراهيم, قالا يعطي ضغثًا . حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا كثير بن هشام قال، حدثنا جعفر بن برقان, عن يزيد بن الأصم قال، كان النخل إذا صُرِم يجيء الرجل بالعِذْق من نخله، فيعلِّقه في جانب المسجد, فيجيء المسكين فيضربُه بعصاه, فإذا تناثر أكلَ منه . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه حَسن أو حسين, فتناول تمرةً, فانتزعها من فيه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الصَّدقة, ولا أهلُ بيته . فذلك قوله: ( وآتوا حقَّه يوم حصاده ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان, عن جعفر بن برقان, عن ميمون بن مهران, ويزيد بن الأصم قالا كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعِذْق فيضعونه في المسجد, ثم يجيء السائل فيضربه بعصاه, فيسقط منه, وهو قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) . حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء, عن جعفر, عن يزيد وميمون، في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قالا كان الرجل إذا جدَّ النخلَ يجيء بالعِذْق فيعلقه في جانب المسجد, فيأتيه المسكين فيضربه بعصاه, فيأكل ما يتناثر منه . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: لَقَطُ السُّنبل . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن عبد الكريم الجزري, عن مجاهد قال: كانوا يعلقون العذق في المسجد عند الصِّرام, فيأكل منه الضعيف . وبه، عن معمر قال, قال مجاهد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، يطعم الشيءَ عند صِرَامه . حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: الضغث، وما يقع من السنبل . وبه، عن سالم, عن سعيد: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: العلَف . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن شريك, عن سالم, عن سعيد في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كان هذا قبل الزكاة، للمساكين, القبضةُ والضِّغث لعلف دابته . حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا محمد بن رفاعة, عن محمد بن كعب في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: ما قلّ منه أو كثر . حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن ابن أبي نجيح: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: عند الزرع يعطي القبضَ, وعند الصِّرام يعطي القبض, ويتركهم فيتتبعون آثار الصِّرام . وقال آخرون: كان هذا شيئًا أمر الله به المؤمنين قبل أن تفرض عليهم الصدقة المؤقتة. ثم نسخته الصدقة المعلومة, فلا فرض في مال كائنًا ما كان زرعًا كان أو غرسًا, إلا الصدقة التي فرضها الله فيه . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن حجاج, عن الحكم, عن مقسم, عن ابن عباس قال: نسخها العُشْر ونصف العشر . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص, عن الحجاج, عن الحكم, عن ابن عباس قال: نسخها العُشْر ونصف العشر . وبه، عن حجاج, عن سالم, عن ابن الحنفية قال: نسخها العُشْر, ونصف العشر . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن سالم, عن سعيد بن جبير: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هذا قبل الزكاة, فلما نـزلت الزكاة نسختها, فكانوا يعطون الضِّغْث . حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: كانوا يفعلون ذلك، حتى سُنَّ العُشر ونصف العشر. فلما سُنّ العشر ونصف العشر، تُرك . حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هي منسوخة, نسختها العُشر ونصف العشر . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى, عن سفيان, عن المغيرة, عن إبراهيم: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: نسختها العشر ونصف العشر . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان, عن سفيان, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم قال: نسختها العشر ونصف العشر . وبه، عن سفيان, عن يونس, عن الحسن قال: نسختها الزكاة . وبه، عن سفيان, عن السدى قال: نسختها الزكاة: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) . حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم, في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: هذه السورة مكية، نسختها العشر ونصف العشر. قلت: عمّن؟ قال: عن العلماء . وبه، عن سفيان, عن مغيرة, عن شباك, عن إبراهيم قال: نسختها العشر ونصف العشر . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أما ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، فكانوا إذا مرّ بهم أحدٌ يوم الحصاد أو الجدَادِ، أطعموه منه, فنسخها الله عنهم بالزكاة, وكان فيما أنبتتِ الأرضُ، العشرُ ونصف العشر . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى, عن يونس, عن الحسن قال: كانوا يَرْضَخون لقرَابتهم من المشركين . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس, عن أبيه, عن عطية: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: نسخه العشر ونصف العشر. كانوا يعطون إذا حصَدوا وإذا ذَرَّوا, فنسختها العشر ونصف العشر. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب, قولُ من قال: كان ذلك فرضًا فرضه الله على المؤمنين في طعامِهم وثمارهم التي تُخْرجها زروعهم وغرُوسهم, ثم نسخه الله بالصدقة المفروضة, والوظيفة المعلومةِ من العشر ونصف العشر. وذلك أن الجميع مجمعون لا خلاف بينهم: أنّ صدقة الحرث لا تؤخذ إلا بعد الدِّياس والتنقية والتذرية, وأن صدقة التمر لا تؤخذ إلا بعد الإجزاز. فإذا كان ذلك كذلك, وكان قوله جل ثناؤه: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، ينبئ عن أنه أمرٌ من الله جل ثناؤه بإيتاء حقه يوم حصاده, وكان يوم حصاده هو يوم جَدِّه وقطعه، والحبُّ لا شك أنه في ذلك اليوم في سنبله, والتَّمر وإن كان ثمر نخل أو كَرْم غيرُ مستحكم جُفوفه ويبسه, وكانت الصدقة من الحبِّ إنما تؤخذ بعد دِياسه وتذريته وتنقيته كيلا والتمر إنما تؤخذ صدقته بعد استحكام يبسه وجفوفه كَيْلا علم أن ما يؤخذ صدقة بعد حين حَصْده، غير الذي يجب إيتاؤه المساكين يوم حَصاده . فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك إيجابًا من الله في المال حقًّا سوى الصدقة المفروضة؟ قيل: لأنه لا يخلو أن يكون ذلك فرضًا واجبًا، أو نَفْلا. فإن يكن فرضًا واجبًا، فقد وجب أن يكون سبيلُه سبيلَ الصدقات المفروضات التي من فرَّط في أدائها إلى أهلها كان بربِّه آثمًا، ولأمره مخالفًا. وفي قيام الحجة بأن لا فرض لله في المال بعد الزكاة يجبُ وجوبَ الزكاة سوى ما يجبُ من النفقة لمن يلزم المرءَ نفقته، ما ينبئ عن أنّ ذلك ليس كذلك . أو يكون ذلك نَفْلا. فإن يكن ذلك كذلك، فقد وجب أن يكون الخيارُ في إعطاء ذلك إلى ربّ الحرث والثمر. وفي إيجاب القائلين بوجوب ذلك، ما ينبئ عن أن ذلك ليسَ كذلك . وإذا خرجت الآية من أن يكون مرادًا بها الندب, وكان غير جائز أن يكون لها مخرجٌ في وجوب الفرض بها في هذا الوقت, علم أنها منسوخة . ومما يؤيد ما قلنا في ذلك من القول دليلا على صحته, أنه جل ثناؤه أتبع قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ، ومعلوم أنّ من حكم الله في عباده مذ فرض في أموالهم الصدقة المفروضة المؤقتة القدرِ, أنّ القائم بأخذ ذلك ساستهم ورُعاتهم . وإذا كان ذلك كذلك, فما وجه نهي ربّ المال عن الإسراف في إيتاء ذلك, والآخذ مُجْبِرٌ, وإنما يأخذ الحق الذي فرض لله فيه؟ فإن ظن ظانّ أن ذلك إنما هو نهي من الله القيِّمَ بأخذ ذلك من الرعاة عن التعدِّي في مال رب المال، والتجاوز إلى أخذ ما لم يُبَحْ له أخذه, فإن آخر الآية وهو قوله: وَلا تُسْرِفُوا ، معطوف على أوله، وهو قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) . فإن كان المنهيَّ عن الإسراف القيِّمُ بقبض ذلك, فقد يجب أن يكون المأمورُ بإيتائه، المنهيَّ عن الإسراف فيه, وهو السلطان . وذلك قول إن قاله قائل, كان خارجًا من قول جميع أهل التأويل، ومخالفًا المعهود من الخطاب, وكفى بذلك شاهدًا على خطئه . فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معنى قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، وآتوا حقه يوم كيله, لا يوم قصله وقطعه, ولا يوم جداده وقطافه؟ فقد علمتَ مَنْ قال ذلك من أهل التأويل؟ وذلك ما:- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر, عن الضحاك في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يوم كيله . وحدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم, عن الحجاج, عن سالم المكي, عن محمد بن الحنفية قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، قال: يوم كيله، يعطي العشر ونصف العشر . مع آخرين قد ذكرت الرواية فيما مضى عنهم بذلك؟ قيل: لأن يوم كيله غير يوم حصاده . ولن يخلو معنى قائلي هذا القول من أحد أمرين: إما أن يكونوا وجّهوا معنى « الحصاد » ، إلى معنى « الكيل » , فذلك ما لا يعقل في كلام العرب، لأن « الحصاد » و « الحصد » في كلامهم: الجدّ والقطع, لا الكيل أو يكونوا وجّهوا تأويل قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، إلى: وآتوا حقه بعد يوم حصاده إذا كلتموه ، فذلك خلاف ظاهر التنـزيل. وذلك أن الأمر في ظاهر التنـزيل بإيتاء الحقّ منه يوم حصاده، لا بعد يوم حصاده . ولا فرقَ بين قائلٍ: إنما عنى الله بقوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ) ، بعد يوم حصاده وآخرَ قال: عنى بذلك قبل يوم حصاده, لأنهما جميعًا قائلان قولا دليلُ ظاهر التنـزيل بخلافه . القول في تأويل قوله : وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ( 141 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « الإسراف » ، الذي نهى الله عنه بهذه الآية, ومن المنهيّ عنه . فقال بعضهم: المنهيّ عنه: ربّ النخل والزرع والثمر و « السرف » الذي نهى الله عنه في هذه الآية, مجاوزة القدر في العطِيّة إلى ما يجحف برب المال . ذكر من قال ذلك: حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا عاصم, عن أبي العالية في قوله: ( وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا ) ، الآية, قال: كانوا يعطون شيئًا سوى الزكاة, ثم تسارفوا, فأنـزل الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان, عن عاصم الأحول, عن أبي العالية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ، قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا سوى الزكاة, ثم تبارَوْا فيه، أسرفوا, فقال الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا معتمر بن سليمان, عن عاصم الأحول, عن أبي العالية: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ، قال: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا, ثم تسارفوا, فقال الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قال: نـزلت في ثابت بن قيس بن شماس, جَدَّ نخلا فقال: لا يأتين اليوم أحدٌ إلا أطعمته ! فأطعم، حتى أمسى وليست له ثمرة, فقال الله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ( ولا تسرفوا ) ، يقول: لا تسرفوا فيما يؤتى يوم الحصاد, أم في كل شيء؟ قال: بلى ! في كل شيء، ينهى عن السرف . قال: ثم عاودته بعد حين, فقلت: ما قوله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ؟ قال: ينهى عن السرف في كل شيء . ثم تلا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ، [ سورة الفرقان: 67 ] . حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا سفيان بن حسين, عن أبي بشر قال: أطاف الناس بإياس بن معاوية بالكوفة, فسألوه: ما السَّرَف؟ فقال: ما دون أمرِ الله فهو سَرَف . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تسرفوا ) ، لا تعطوا أموالكم فتغدوا فقراء . وقال آخرون: « الإسراف » الذي نهى الله عنه في هذا الموضع: منع الصدقة والحقّ الذي أمر الله ربَّ المال بإيتائه أهلَه بقوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر, عن ابن جريج قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الله, عن عمرو بن سليم وغيره, عن سعيد بن المسيب في قوله: ( ولا تسرفوا ) ، قال: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا . حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن الزبرقان قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) ، والسرف، أن لا يعطي في حق . وقال آخرون: إنما خوطب بهذا السلطان. نُهِى أن يأخذ من ربّ المال فوق الذي ألزم الله ماله . ذكر من قال ذلك . حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب, قال ابن زيد في قوله: ( ولا تسرفوا ) ، قال: قال للسلطان: « لا تسرفوا » , لا تأخذوا بغير حق ، فكانت هذه الآية بين السلطان وبين الناس يعني قوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ ، الآية . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى بقوله: ( ولا تسرفوا ) ، عن جميع معاني « الإسراف » , ولم يخصص منها معنًى دون معنى . وإذ كان ذلك كذلك, وكان « الإسراف » في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية, إما بتجاوز حدّه في الزيادة، وإما بتقصير عن حدّه الواجب كان معلومًا أن المفرِّق مالَه مباراةً، والباذلَهُ للناس حتى أجحفت به عطيته, مسرفٌ بتجاوزه حدَّ الله إلى ما [ ليس له ] . وكذلك المقصِّر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه, وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهلَ سُهْمَان الصدقة إذا وجبت فيه, أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله ما ألزمه منها. وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه . كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون, داخلون في معنى مَنْ أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: ( ولا تسرفوا ) ، في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم إذ كان ما قبله من الكلام أمرًا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده. فإنّ الآية قد كانت تنـزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خاصّ من الأمور، والحكم بها على العامّ, بل عامّة آي القرآن كذلك. فكذلك قوله: ( ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) . ومن الدليل على صحة ما قلنا من معنى « الإسراف » أنه على ما قلنا، قول الشاعر: أَعْطَــوا هُنَيْــدَةَ يَحْدُوهَـا ثَمَانِيَـةٌ مَـا فِـي عَطَـائِهِمُ مَـنٌّ وَلا سَـرَفُ يعني بـ « السرف » : الخطأ في العطيّة . القول في تأويل قوله : وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا, مع ما أنشأ من الجنات المعروشات وغير المعروشات . و « الحمولة » ، ما حمل عليه من الإبل وغيرها. و « الفرش » ، صغار الإبل التي لم تدرك أن يُحْمَل عليها . واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: « الحمولة » ، ما حمل عليه من كبار الإبل ومسانّها و « الفرش » ، صغارها التي لا يحمل عليها لصغرها . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، الكبار من الإبل « وفرشًا » ، الصغار من الإبل . . . . . وقال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن عكرمة, عن ابن عباس: « الحمولة » ، هي الكبار, و « الفرش » ، الصغار من الإبل . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن أبي يحيى, عن مجاهد قال: « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، ما لم يحمل . وبه عن إسرائيل, عن خصيف, عن مجاهد: « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، ما لم يحمل . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وفرشًا ) ، قال: صغار الإبل . حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، الكبار, و « الفرش » ، الصغار . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا سفيان, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن ابن مسعود في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، هنّ الصغار . حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص عن عبد الله: أنه قال في هذه الآية: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، ما حمل عليه من الإبل, و « الفرش » ، الصغار قال ابن المثنى, قال محمد, قال شعبة: إنما كان حدثني سفيان، عن أبي إسحاق . حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان, عن أبيه قال، قال الحسن: « الحمولة » ، من الإبل والبقر . وقال بعضهم: « الحمولة » ، من الإبل, وما لم يكن من « الحمولة » ، فهو « الفرش » . حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, عن الحسن: ( حمولة وفرشًا ) ، قال: « الحمولة » ، ما حمل عليه, و « الفرش » ، حواشيها, يعني صغارها . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، فـ « الحمولة » ، ما حمل من الإبل, و « الفرش » ، صغار الإبل, الفصيل وما دون ذلك مما لا يحمل . ويقال: « الحمولة » ، من البقر والإبل و « الفرش » ، الغنم . وقال آخرون: « الحمولة » ، ما حمل عليه من الإبل والخيل والبغال وغير ذلك, و « الفرش » ، الغنم . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، فأما « الحمولة » ، فالإبل والخيل والبغال والحمير, وكل شيء يحمل عليه، وأما « الفرش » ، فالغنم . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله, عن أبي جعفر, عن الربيع بن أنس: « الحمولة » ، من الإبل والبقر و « فرشًا » . المعز والضأن . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، قال: أما « الحمولة » ، فالإبل والبقر . قال: وأما « الفرش » ، فالغنم . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, كان غير الحسن يقول: « الحمولة » ، الإبل والبقر, و « الفرش » ، الغنم . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ومن الأنعام حمولة وفرشًا ) ، أما « الحمولة » ، فالإبل . وأما « الفرش » ، فالفُصْلان والعَجَاجيل والغنم. وما حمل عليه فهو « حمولة » . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( حمولة وفرشًا ) ، « الحمولة » ، الإبل, و « الفرش » , الغنم . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي بكر الهذلي, عن الحسن: ( وفرشًا ) ، قال: « الفرش » ، الغنم . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( حمولة وفرشًا ) قال: « الحمولة » ، ما تركبون, و « الفرش » ، ما تأكلون وتحلبون, شاة لا تحمل, تأكلون لحمها, وتتخذون من أصوافها لحافًا وفرشًا . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن « الحمولة » ، هي ما حمل من الأنعام, لأن ذلك من صفتها إذا حملت, لا أنه اسم لها، كالإبل والخيل والبغال، فإذا كانت إنما سميت « حمولة » لأنها تحمل, فالواجب أن يكون كل ما حَمَل على ظهره من الأنعام فحمولة. وهي جمع لا واحد لها من لفظها, كالرَّكوبة، و « الجزورة » . وكذلك « الفرش » ، إنما هو صفة لما لطف فقرب من الأرض جسمه, ويقال له: « الفرش » . وأحسبها سميت بذلك تمثيلا لها في استواء أسنانها ولطفها بالفَرْش من الأرض, وهي الأرض المستوية التي يتوطَّؤُها الناس . فأما « الحمولة » ، بضم « الحاء » ، فإنها الأحمال, وهي « الحمول » أيضًا بضم الحاء . القول في تأويل قوله : كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 142 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: كلوا مما رزقكم الله، أيها المؤمنون, فأحلّ لكم ثمرات حروثكم وغروسكم، ولحوم أنعامكم, إذ حرّم بعض ذلك على أنفسهم المشركون بالله, فجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا وللشيطان مثله, فقالوا: هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) ، كما اتبعها باحرُو البحيرة، ومسيِّبو السوائب, فتحرموا على أنفسكم من طيب رزق الله الذي رزقكم ما حرموه, فتطيعوا بذلك الشيطان، وتعصوا به الرحمن ، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) ، لا تتبعوا طاعته، هي ذنوب لكم, وهي طاعة للخبيث . إن الشيطان لكم عدو يبغي هلاككم وصدكم عن سبيل ربكم ( مبين ) ، قد أبان لكم عدواته، بمناصبته أباكم بالعداوة, حتى أخرجه من الجنة بكيده، وخدَعه حسدًا منه له، وبغيًا عليه . القول في تأويل قوله : ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 143 ) قال أبو جعفر: وهذا تقريعٌ من الله جل ثناؤه العادلين به الأوثان من عبدة الأصنام، الذين بحروا البحائر، وسيَّبوا السوائب، ووصلوا الوصائل وتعليم منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به, الحجةَ عليهم في تحريمهم ما حرموا من ذلك. فقال للمؤمنين به وبرسوله: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، ومن الأنعام أنشأ حمولة وفرشًا . ثم بين جل ثناؤه « الحمولة » و « الفرش » , فقال: ( ثمانية أزواج ) . وإنما نصب « الثمانية » , لأنها ترجمة عن « الحمولة » و « الفرش » ، وبدل منها. كأن معنى الكلام: ومن الأنعام أنشأ ثمانية أزواج فلما قدّم قبل « الثمانية » « الحمولة » و « الفرش » بيّن ذلك بعد فقال: ( ثمانية أزواج ) ، على ذلك المعنى. ( من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، فذلك أربعة, لأن كل واحد من الأنثيين من الضأن زوج, فالأنثى منه زوج الذكر, والذكر منه زوج الأنثى, وكذلك ذلك من المعز ومن سائر الحيوان. فلذلك قال جل ثناؤه: ( ثمانية أزواج ) ، كما قال: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ، [ سورة الذاريات: 49 ] ، لأن الذَّكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر, فهما وإن كانا اثنين فيهما زوجان, كما قال جل ثناؤه: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ، [ سورة الأعراف: 189 ] ، وكما قال: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ، [ سورة الأحزاب: 37 ] ، وكما:- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية, عن جويبر, عن الضحاك: ( من الضأن اثنين ) ، ذكر وأنثى, ( ومن البقر اثنين ) ، ذكر وأنثى ( ومن الإبل اثنين ) ، ذكر وأنثى . ويقال للاثنين: « هما زوج » ، كما قال لبيد: مِـنْ كُـلِّ مَحْـفُوفٍ يُظِـلُّ عِصِيَّـهُ زَوْجٌ عَلَيْـــهِ كِلَّـــةٌ وَقِرَامُهَــا ثم قال لهم: كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار واللحوم, واركبوا هذه الحمولة، أيها المؤمنون, فلا تتبعوا خطوات الشيطان في تحريم ما حرم هؤلاء الجهلة بغير أمري إياهم بذلك . قل، يا محمد، لهؤلاء الذين حرّموا ما حرموا من الحرث والأنعام اتباعًا للشيطان، من عبدة الأوثان والأصنام الذين زعموا أن الله حرم عليهم ما هم محرمون من ذلك: آلذكرين حرم ربكم، أيها الكذبة على الله، من الضأن والمعز؟ فإنهم إن ادعوا ذلك وأقرّوا به, كذبوا أنفسهم وأبانوا جهلهم. لأنهم إذا قالوا: « يحرم الذكرين من ذلك » , أوجبوا تحريم كل ذكرين من ولد الضأن والمعز, وهم يستمتعون بلحوم الذكران منها وظهورها. وفي ذلك فساد دعواهم وتكذيب قولهم ( أم الأنثيين ) ، فإنهم إن قالوا: « حرم ربنا الأنثيين » , أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم وظهورها. وفي ذلك أيضًا تكذيب لهم, ودحض دعواهم أنّ ربهم حرم ذلك عليهم, إذ كانوا يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره ( أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، يقول: أم حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين, يعني أرحام أنثى الضأن وأنثى المعز، فلذلك قال: « أرحام الأنثيين » ، وفي ذلك أيضًا لو أقرُّوا به فقالوا: « حرم علينا ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين » , بُطولُ قولهم وبيان كذبهم, لأنهم كانوا يقرّون بإقرارهم بذلك أنّ الله حرّم عليهم ذكور الضأن والمعز وإناثها، أن يأكلوا لحومها أو يركبوا ظهورها, وقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها. و « ما » التي في قوله: ( أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، نصب عطفًا بها على « الأنثيين » . ( نبئوني بعلم ) ، يقول: قل لهم: خبروني بعلم ذلك على صحته: أيَّ ذلك حرم ربكم عليكم، وكيف حرم؟ ( إن كنتم صادقين ) ، فيما تنحلونه ربكم من دعواكم، وتضيفونه إليه من تحريمكم . وإنما هذا إعلامٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه أنّ كل ما قاله هؤلاء المشركون في ذلك وأضافوه إلى الله, فهو كذب على الله, وأنه لم يحرم شيئًا من ذلك, وأنهم إنما اتّبعوا في ذلك خطوات الشيطان, وخالفوا أمره . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) الآية, إن كل هذا لم أحرم منه قليلا ولا كثيرًا، ذكرًا ولا أنثى . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، قال: سلهم: ( آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، أي: لم أحرم من هذا شيئًا ( بعلم إن كنتم صادقين ) ، فذكر من الإبل والبقر نحو ذلك . حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( ثمانية أزواج ) ، في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( ثمانية أزواج ) ، قال: هذا في شأن ما نهى الله عنه من البحائر والسُّيَّب قال ابن جريج يقول: من أين حرمت هذا؟ من قبل الذكرين أم من قبل الأنثيين, أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ وإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى, فمن أين جاء التحريم؟ فأجابوا هم: وجدنا آباءنا كذلك يفعلون . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن البقر اثنين ومن الإبل اثنين , يقول: أنـزلت لكم ثمانية أزواج من هذا الذي عددت، ذكر وأنثى, فالذكرين حرمت عليكم أم الأنثيين، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ يقول: أي: ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، ما تشتمل إلا على ذكر أو أنثى, فما حرمت عليكم ذكرًا ولا أنثى من الثمانية. إنما ذكر هذا من أجل ما حرَّموا من الأنعام . حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية, عن أبي رجاء, عن الحسن: ( أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، قال: ما حملت الرَّحم . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قل آلذكرين حرم أم الأنثيين ) ، قال: هذا لقولهم: مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا . قال: وقال ابن زيد في قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، قال: « الأنعام » ، هي الإبل والبقر والضأن والمعز, هذه « الأنعام » التي قال الله: « ثمانية أزواج » . قال: وقال في قوله: هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ، نحتجرها على من نريد، وعمن نريد. وقوله: وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا ، قال: لا يركبها أحد وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ، فقال: ( آلذكرين حرم أم الأنثيين ) ، أيّ هذين حرم على هؤلاء؟ أي: أن تكون لهؤلاء حِلا وعلى هؤلاء حرامًا . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، يعني: هل تشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى؟ فهل يحرمون بعضًا ويحلون بعضًا؟ . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) ، فهذه أربعة أزواج وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ ، يقول: لم أحرم شيئًا من ذلك ( نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ) ، يقول: كله حلال . و « الضأن » جمع لا واحد له من لفظه, وقد يجمع « الضأن » ، « الضَّئين والضِّئين » , مثل « الشَّعير » و « الشِّعير » , كما يجمع « العبد » على « عَبيد، وعِبيد » . وأما الواحد من ذكوره فـ « ضائن » , والأنثى « ضائنة » , وجمع « الضائنة » « ضوائن » . وكذلك « المعز » ، جمع على غير واحد, وكذلك « المعزى » ، وأما « الماعز » , فجمعه « مواعز » . القول في تأويل قوله : وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 144 ) قال أبو جعفر: وتأويل قوله: ( ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) ، نحو تأويل قوله: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ، وهذه أربعة أزواج, على نحو ما بيّنا من الأزواج الأربعة قبلُ من الضأن والمعز, فذلك ثمانية أزواج، كما وصف جل ثناؤه . وأما قوله: ( أم كنتم شهداء إذ وصّاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم ) ، فإنه أمرٌ من الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء الجهلة من المشركين الذين قص قصصهم في هذه الآيات التي مضَت. يقول له عز ذكره: قل لهم، يا محمد, أيَّ هذه سألتكم عن تحريمه حرم ربكم عليكم من هذه الأزواج الثمانية؟ فإن أجابوك عن شيء مما سألتهم عنه من ذلك, فقل لهم: أخبرًا قلتم: « إن الله حرم هذا عليكم » ، أخبركم به رسول عن ربكم, أم شهدتم ربكم فرأيتموه فوصَّاكم بهذا الذي تقولون وتزوّرون على الله؟ فإن هذا الذي تقولون من إخباركم عن الله أنه حرام بما تزعمون على ما تزعمون, لا يعلم إلا بوحي من عنده مع رسول يرسله إلى خلقه, أو بسماع منه, فبأي هذين الوجهين علمتم أنّ الله حرم ذلك كذلك، برسول أرسله إليكم، فأنبئوني بعلم إن كنتم صادقين ؟ أم شهدتم ربكم فأوصَاكم بذلك، وقال لكم: « حرمت ذلك عليكم » , فسمعتم تحريمه منه، وعهدَه إليكم بذلك؟ فإنه لم يكن واحدٌ من هذين الأمرين . يقول جل ثناؤه: ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ) ، يقول: فمن أشد ظلمًا لنفسه، وأبعد عن الحق ممن تخرَّص على الله قيلَ الكذب، وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم، وتحليل ما لم يحلل ( ليضل الناس بغير علم ) ، يقول: ليصدّهم عن سبيله ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) ، يقول: لا يوفّق الله للرشد من افترى على الله وقال عليه الزُّور والكذب، وأضاف إليه تحريم ما لم يحرّم، كفرًا بالله، وجحودًا لنبوة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، كالذي:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ) ، الذي تقولون. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: كانوا يقولون يعني الذين كانوا يتّخذون البحائر والسوائب : إن الله أمر بهذا . فقال الله: ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم ) . القول في تأويل قوله : قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء الذين جعلوا لله ممّا ذَرأ من الحرث والأنعام نصيبًا، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله والقائلين هذه أنعام وحرث حجرٌ لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم والمحرّمين من أنعام أُخَر ظهورَها والتاركين ذكر اسم الله على أُخَر منها والمحرِّمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم، ومحلِّيه لذكورهم, المحرّمين ما رزقهم الله افتراءً على الله, وإضافةً منهم ما يحرمون من ذلك إلى أنَّ الله هو الذي حرّمه عليهم: أجاءكم من الله رسولٌ بتحريمه ذلك عليكم, فأنبئونا به, أم وصَّاكم الله بتحريمه مشاهدةً منكم له، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك، ولا يمكنكم دعواه, لأنكم إذا ادّعيتموه علم الناس كذبكم فإني لا أجد فيما أوحي إليّ من كتابه وآي تنـزيله، شيئًا محرَّمًا على آكل يأكله مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريمَ ما حَرّم عليكم منها بزعمكم « إلا أن يكون ميتة » ، قد ماتت بغير تذكية « أو دمًا مسفوحًا » ، وهو المُنْصَبّ أو إلا أن يكون لحم خنـزير ( فإنه رجس أو فسقًا ) ، يقول: أو إلا أن يكون فسقًا، يعني بذلك: أو إلا أن يكون مذبوحًا ذبحه ذابحٌ من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته، فذكر عليه اسم وثنه, فإن ذلك الذبح فسقٌ نهى الله عنه وحرّمه, ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك, لأنه ميتة . وهذا إعلام من الله جل ثناؤه للمشركين الذين جادلوا نبيَّ الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادَلوهم به، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرّمه الله, وأن الذي زعموا أنّ الله حرمه حلالٌ قد أحلَّه الله, وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه في قوله: ( قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرمًا ) قال: كان أهل الجاهلية يحرِّمون أشياء ويحلِّون أشياء, فقال: قل لا أجد مما كنتم تحرمون وتستحلُّون إلا هذا: ( إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به ) . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن معمر, عن ابن طاوس, عن أبيه في قوله: ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرَّمًا ) الآية, قال: كان أهل الجاهلية يستحلّون أشياء ويحرّمون أشياء, فقال الله لنبيه: قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا مما كنتم تستحلون إلا هذا وكانت أشياء يحرِّمونها، فهي حرام الآن . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن ابن طاوس, عن أبيه: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه ) ، قال: ما يؤكل . قلت: في الجاهلية؟ قال: نعم ! وكذلك كان يقول: ( إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا ) قال ابن جريج: وأخبرني إبراهيم بن أبي بكر, عن مجاهد: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا ) ، قال: مما كان في الجاهلية يأكلون, لا أجد محرمًا من ذلك على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا . وأما قوله: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، فإن معناه: أو دمًا مُسَالا مُهَرَاقًا. يقال منه: « سفحت دمه » ، إذا أرقته, أسفحه سَفْحًا, فهو دم مسفوح كما قال طرفة بن العبد: إِنِّــي وَجــدِّكَ مَـا هَجَـوْتُكَ وَالْ أَنْصَـــابِ يَسْـــفَحُ فَــوْقَهُنَّ دَمُ وكما قال عَبِيد بن الأبرص: إذَا مَـــا عَــادَهُ مِنْهَــا نِسَــاءٌ سَــفَحْنَ الـدَّمْعَ مِـنْ بَعْـدِ الـرَّنِينِ يعني: صببن, وأسلنَ الدمع . وفي اشتراطه جل ثناؤه في الدم عند إعلامه عبادَه تحريمه إياه، المسفوحَ منه دون غيره, الدليلُ الواضح أنَّ ما لم يكن منه مسفوحًا، فحلال غير نجس . وذلك كالذي:- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو, عن عكرمة: ( أو دما مسفوحًا ) ، قال: لولا هذه الآية لتتبَّع المسلمون من العروق ما تتبعتِ اليهود . حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة بنحوه إلا أنه قال: لاتَّبَع المسلمون . حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عكرمة، بنحوه . حدثنا أبو كريب قال، أخبرنا وكيع, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز, في القِدْر يعلوها الحمرة من الدم. قال: إنما حرم الله الدمَ المسفوحَ . حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن عمران بن حدير, عن أبي مجلز قال: سألته عن الدم وما يتلطَّخ بالمذْبح من الرأس, وعن القدر يرى فيها الحُمرة؟ قال: إنما نهى الله عن الدم المسفوح . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، قال: حُرِّم الدم ما كان مسفوحًا; وأما لحم خالطه دم، فلا بأس به . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ( قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دمًا مسفوحًا ) ، يعني: مُهَراقًا . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد, أخبرني ابن دينار, عن عكرمة: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، قال: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود . حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد, عن يحيى بن سعيد, عن القاسم بن محمد, عن عائشة: أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسًا, والحمرةِ والدم يكونان على القدر بأسًا ، وقرأت هذه الآية: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه ) ... الآية. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك, عن يحيى بن سعيد, قال حدثني القاسم بن محمد, عن عائشة قالت, وذكرت هذه الآية: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، قلت: وإن البرمة ليرى في مائها [ من ] الصفرة . وقد بينا معنى « الرجس » ، فيما مضى من كتابنا هذا, وأنه النجس والنتن, وما يُعْصى الله به, بشواهده, فأغنى عن إعادته في هذا الموضع . وكذلك القول في معنى « الفسق » وفي قوله: ( أهل لغير الله به ) ، قد مضى ذلك كله بشواهده الكافية من وفِّق لفهمه، عن تكراره وإعادته . قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( إلا أنْ يكون ميتة ) . فقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة والكوفة والبصرة: ( إِلا أَنْ يَكُونَ ) ، بالياء ( مَيْتَةً ) مخففة الياء منصوبة، على أن في « يكون » مجهولا و « الميتة » فعل له، فنصبت على أنها فعل « يكون » , وذكروا « يكون » ، لتذكير المضمر في « يكون » . وقرأ ذلك بعض قرأة أهل مكة والكوفة: « إلا أَنْ تَكُونَ » ، بالتاء « مَيْتَةً » ، بتخفيف الياء من « الميتة » ونصبها وكأن معنى نصبهم « الميتة » معنى الأولين, وأنثوا « تكون » لتأنيث الميتة, كما يقال: « إنها قائمة جَارِيتُك » , و « إنه قائم جاريتك » , فيذكر المجهول مرة ويؤنث أخرى، لتأنيث الاسم الذي بعده . وقرأ ذلك بعض المدنيين: « إلا أَنْ تَكُونَ مَيِّتَةٌ » ، بالتاء في « تكون » , وتشديد الياء من « ميتة » ورفعها فجعل « الميتة » اسم « تكون » , وأنث « تكون » لتأنيث « الميتة » , وجعل « تكون » مكتفية بالاسم دون الفعل, لأن قوله: « إلا أن تكون ميتة » استثناء, والعرب تكتفي في الاستثناء بالأسماء عن الأفعال, فيقولون: « قام الناس إلا أن يكون أخاك » , و « إلا أن يكون أخوك » , فلا تأتي لـ « يكون » ، بفعل, وتجعلها مستغنية بالاسم, كما يقال: « قام القوم إلا أخاك » و « إلا أخوك » , فلا يفتقد الاسم الذي بعد حرف الاستثناء فعلا . قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي: ( إِلا أَنْ يَكُونَ ) بـ « الياء » ( مَيْتَةً ) ، بتخفيف الياء ونصب « الميتة » , لأن الذي في « يكون » من المكنى من ذكر المذكر وإنما هو: قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ذلك ميتةً أو دمًا مسفوحًا . فأما قراءة « ميتة » بالرفع, فإنه، وإن كان في العربية غير خطأ، فإنه في القراءة في هذا الموضع غيرُ صواب. لأن الله يقول: ( أو دمًا مسفوحًا ) ، فلا خلاف بين الجميع في قراءة « الدم » بالنصب, وكذلك هو في مصاحف المسلمين, وهو عطف على « الميتة » . فإذ كان ذلك كذلك, فمعلوم أن « الميتة » لو كانت مرفوعة، لكان « الدم » ، وقوله « أو فسقًا » ، مرفوعين, ولكنها منصوبة، فيعطف بهما عليها بالنصب . القول في تأويل قوله : فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 145 ) قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله: ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) ، والصواب من القول فيه عندنا فيما مضى من كتابنا هذا، في « سورة » البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع وأن معناه: فمن اضطر إلى أكلِ ما حرَّم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنـزير, أو ما أهل لغير الله به, غير باغ في أكله إيّاه تلذذًا, لا لضرورة حالة من الجوع, ولا عادٍ في أكله بتجاوزه ما حدَّه الله وأباحه له من أكله, وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك، لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه, فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك ( فإنّ الله غفور ) ، فيما فعل من ذلك, فساتر عليه بتركه عقوبته عليه, ولو شاء عاقبه عليه ( رحيم ) ، بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه, ولو شاء حرَّمه عليه ومنعه منه . القول في تأويل قوله : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وحرّمنا على اليهود « كل ذي ظفر » , وهو من البهائم والطير ما لم يكن مشقُوق الأصابع، كالإبل والنَّعام والإوز والبط . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى, وعلي بن داود قالا حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، وهو البعير والنعامة . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: البعير والنعامة ونحو ذلك من الدوابّ . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عطاء, عن سعيد: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: هو الذي ليس بمنفرج الأصابع . حدثني علي بن الحسين الأزدي قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن شريك, عن عطاء بن السائب, عن سعيد بن جبير في قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: كل شيء متفرق الأصابع, ومنه الديك . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد قال: ( كل ذي ظفر ) ، النعامة والبعير . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, مثله . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، فكان يقال: البعير والنعامة وأشباهه من الطير والحيتان . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر, عن قتادة: ( كل ذي ظفر ) ، قال: الإبل والنعام, ظفر يد البعير ورجله, والنعام أيضًا كذلك, وحرم عليهم أيضًا من الطير البط وشبهه, وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: « أما كل ذي ظفر » ، فالإبل والنعام . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ, عن مجاهد في قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، قال: النعامة والبعير، شقًّا شقًّا, قال قلت: « ما شقًّا شقًّا » ؟ قال: كل ما لم تفرج قوائمه لم يأكله اليهود, البعيرُ والنعامة. والدجاج والعصافير تأكلها اليهود، لأنها قد فُرِجت . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد: ( كل ذي ظفر ) ، قال: النعامة والبعير، شقًّا شقًّا. قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثنيه: ما « شقًّا شقًّا » ؟ قال: كل شيء لم يفرج من قوائم البهائم. قال: وما انفرج أكلته اليهود. قال: انفرجت قوائم الدجاج والعصافير, فيهود تأكلها . قال: ولم تنفرج قائمة البعير، خفّه، ولا خف النعامة، ولا قائمة الوَزِّينة, فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزِّين، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته, وكذلك لا تأكل حمار وحش . وكان ابن زيد يقول في ذلك بما:- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ) ، الإبل قطْ . قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب, القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ومن قال بمثل مقالته؛ لأن الله جل ثناؤه أخبر أنه حرم على اليهود كل ذي ظفر, فغير جائز إخراج شيء من عموم هذا الخبر إلا ما أجمع أهل العلم أنه خارج منه . وإذا كان ذلك كذلك, وكان النعام وكل ما لم يكن من البهائم والطير مما له ظفر غير منفرج الأصابع داخلا في ظاهر التنـزيل, وجب أن يحكم له بأنه داخل في الخبر, إذ لم يأت بأن بعض ذلك غير داخلٍ في الآية، خبرٌ عن الله ولا عن رسوله, وكانت الأمة أكثرها مجمع على أنه فيه داخل . القول في تأويل قوله : وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في « الشحوم » التي أخبر الله تعالى ذكره: أنه حرمها على اليهود من البقر والغنم. فقال بعضهم: هي شحوم الثُّروب خاصة . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما ) ، الثروب . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الثروب ثم أكلوا أثمانها! وقال آخرون: بل ذلك كان كل شحم لم يكن مختلطًا بعظم ولا على عظم . ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: ( حرمنا عليهم شحومهما ) ، قال: إنما حرم عليهم الثرب, وكل شحم كان كذلك ليس في عظم . وقال آخرون: بل ذلك شحم الثرب والكُلَى . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( حرمنا عليهم شحومهما ) ، قال: الثرب وشحم الكليتين . وكانت اليهود تقول: إنما حرَّمه إسرائيل، فنحن نحرّمه . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( حرمنا عليهم شحومهما ) ، قال: إنما حرم عليهم الثروب والكليتين هكذا هو في كتابي عن يونس, وأنا أحسب أنه: « الكُلَى » . قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول أن يقال: إن الله أخبر أنه كان حرم على اليهود من البقر والغنم شحومهما، إلا ما استثناه منها مما حملت ظهورهما أو الحَوَايا أو ما اختلط بعظم. فكل شحم سوى ما استثناه الله في كتابه من البقر والغنم, فإنه كان محرمًا عليهم . وبنحو ذلك من القول تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذلك قوله: « قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها ثم باعوها وأكلوا أثمانها » . وأما قوله: ( إلا ما حملت ظهورهما ) ، فإنه يعني: إلا شحوم الجَنْب وما علق بالظهر, فإنها لم تحرَّم عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس: ( إلا ما حملت ظهورهما ) ، يعني: ما علق بالظهر من الشحوم . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: أمّا « ما حملت ظهورهما » ، فالألْيات . 14108م - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن إسماعيل, عن أبي صالح قال: الألية، مما حملت ظهورهما . القول في تأويل قوله : أَوِ الْحَوَايَا قال أبو جعفر: و « الحوايا » جمع, واحدها « حاوِياء » ، و « حاوية » ، و « حَوِيَّة » ، وهي ما تحوَّى من البطن فاجتمع واستدار, وهي بنات اللبن, وهي « المباعر » , وتسمى « المرابض » , وفيها الأمعاء . ومعنى الكلام: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما، إلا ما حملت ظهورهما، أو ما حملت الحوايا فـ « الحوايا » ، رفع، عطفًا على « الظهور » , و « ما » التي بعد « إلا » , نصبٌ على الاستثناء من « الشحوم » . وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( أو الحوايا ) ، وهي المبعر . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: « الحوايا » ، المبعر والمرْبَض . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان, عن سفيان, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: ( أو الحوايا ) ، قال: المباعر . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم, عن شريك, عن عطاء, عن سعيد بن جبير: ( أو الحوايا ) ، قال: المباعر . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر . حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( أو الحوايا ) ، قال: المبعر . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة والمحاربي, عن جويبر, عن الضحاك قال: المبعر . حدثت عن الحسين بن الفرج قال،سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( أو الحوايا ) ، يعني: البطون غير الثروب . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( أو الحوايا ) ، هو المبعر . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أو الحوايا ) ، قال: المباعر . وقال ابن زيد في ذلك ما:- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( أو الحوايا ) ، قال: « الحوايا » ، المرابض التي تكون فيها الأمعاء، تكون وسطها, وهي « بنات اللبن » , وهي في كلام العرب تدعى « المرابض » . القول في تأويل قوله : أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن البقر والغنم حرمنا على الذين هادوا شحومهما، سوى ما حملت ظهورهما, أو ما حملت حواياهما, فإنا أحللنا ذلك لهم, وإلا ما اختلط بعظم، فهو لهم أيضًا حلال . فردّ قوله: ( أو ما اختلط بعظم ) ، على قوله: إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا فـ « ما » التي في قوله: ( أو ما اختلط بعظم ) ، في موضع نصب عطفًا على « ما » التي في قوله: إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا . وعنى بقوله: ( أو ما اختلط بعظم ) ، شحم الألية والجنب، وما أشبه ذلك ، كما:- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج: ( أو ما اختلط بعظم ) ، قال: شحم الألية بالعُصْعُص, فهو حلال. وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين قد اختلط بعظم, فهو حلال . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أو ما اختلط بعظم ) ، مما كان من شحم على عظم . القول في تأويل قوله : ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 146 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فهذا الذي حرمنا على الذين هادوا من الأنعام والطير, ذوات الأظافير غير المنفرجة, ومن البقر والغنم, ما حرمنا عليهم من شحومهما، الذي ذكرنا في هذه الآية, حرمناه عليهم عقوبة منّا لهم, وثوابًا على أعمالهم السيئة، وبغيهم على ربهم ، كما:- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) ، إنما حرم ذلك عليهم عقوبة ببغيهم . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ذلك جزيناهم ببغيهم ) ، فعلنا ذلك بهم ببغيهم. وقوله: ( وإنا لصادقون ) ، يقول: وإنا لصادقون في خبرنا هذا عن هؤلاء اليهود عما حرمنا عليهم من الشحوم ولحوم الأنعام والطير التي ذكرنا أنّا حرمنا عليهم, وفي غير ذلك من أخبارنا, وهم الكاذبون في زعمهم أن ذلك إنما حرمه إسرائيل على نفسه، وأنهم إنما حرموه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه . القول في تأويل قوله : فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ( 147 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كذبك، يا محمد، هؤلاء اليهود فيما أخبرناك أنا حرمنا عليهم وحللنا لهم، كما بينا في هذه الآية « فقل ربكم ذو رحمة » ، بنا، وبمن كان به مؤمنًا من عباده، وبغيرهم من خلقه « واسعة » , تسع جميع خلقه، المحسنَ والمسيء, لا يعاجل من كفر به بالعقوبة، ولا من عصاه بالنِّقمة, ولا يدع كرامة من آمن به وأطاعه، ولا يحرمه ثواب عمله, رحمة منه بكلا الفريقين، ولكن بأسه وذلك سطوته وعذابه لا يردّه إذا أحله عند غضبه على المجرمين بهم عنهم شيء و « المجرمون » هم الذين أجرَموا فاكتسبوا الذنوب واجترحوا السيئات . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فإن كذبوك ) ، اليهود . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( فإن كذبوك ) ، اليهود ( فقل ربكم ذو رحمة واسعة ) . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال، كانت اليهود يقولون: إنما حرّمه إسرائيل يعني: الثَّرْب وشحم الكليتين فنحن نحرمه, فذلك قوله: ( فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يردّ بأسه عن القوم المجرمين ) . القول في تأويل قوله : سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ( سيقول الذين أشركوا ) ، وهم العادلون بالله الأوثان والأصنام من مشركي قريش ( لو شاء الله ما أشركنا ) ، يقول: قالوا احتجازًا من الإذعان للحق بالباطل من الحجة، لما تبين لهم الحق, وعلموا باطل ما كانوا عليه مقيمين من شركهم, وتحريمهم ما كانوا يحرّمون من الحروث والأنعام, على ما قد بيَّن تعالى ذكره في الآيات الماضية قبل ذلك: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا ، وما بعد ذلك: لو أراد الله منا الإيمان به، وإفراده بالعبادة دون الأوثان والآلهة، وتحليل ما حرم من البحائر والسوائب وغير ذلك من أموالنا, ما جعلنا لله شريكًا, ولا جعل ذلك له آباؤنا من قبلنا, ولا حرمنا ما نحرمه من هذه الأشياء التي نحن على تحريمها مقيمون، لأنه قادر على أن يحول بيننا وبين ذلك, حتى لا يكون لنا إلى فعل شيء من ذلك سبيل: إما بأن يضطرنا إلى الإيمان وترك الشرك به، وإلى القول بتحليل ما حرمنا وأما بأن يلطف بنا بتوفيقه، فنصير إلى الإقرار بوحدانيته، وترك عبادة ما دونه من الأنداد والأصنام, وإلى تحليل ما حرمنا ، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من عبادة الأوثان والأصنام, واتخاذ الشريك له في العبادة والأنداد, وأراد ما نحرّم من الحروث والأنعام, فلم يَحُلْ بيننا وبين ما نحن عليه من ذلك . قال الله مكذبًا لهم في قيلهم: « إن الله رضي منا ما نحن عليه من الشرك، وتحريم ما نحرّم » ورادًّا عليهم باطلَ ما احتجوا به من حجتهم في ذلك ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) ، يقول: كما كذب هؤلاء المشركون، يا محمد، ما جئتهم به من الحق والبيان, كذب من قبلهم من فسقة الأمم الذين طَغَوا على ربهم ما جاءتهم به أنبياؤهم من آيات الله وواضح حججه, وردُّوا عليهم نصائحهم ( حتى ذاقوا بأسنا ) ، يقول: حتى أسخطونا فغضبنا عليهم, فأحللنا بهم بأسنا فذاقوه, فعطبوا بذوقهم إياه, فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة. يقول: وهؤلاء الآخرون مسلوك بهم سبيلهم, إن هم لم ينيبوا فيؤمنوا ويصدقوا بما جئتهم به من عند ربهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) ، وقال: ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) , ثم قال: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ، فإنهم قالوا: « عبادتنا الآلهة تقرّبنا إلى الله زلفى » , فأخبرهم الله أنها لا تقربهم, وقوله: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ، يقول الله سبحانه: لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين . حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم, عن عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا حرمنا من شيء ) ، قال: قول قريش يعني: إن الله حرم هذه البحيرة والسائبة . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا حرمنا من شيء ) ، قولُ قريش بغير يقين: إن الله حرّم هذه البحيرة والسائبة . فإن قال قائل: وما برهانك على أن الله تعالى إنما كذب من قيل هؤلاء المشركين قولهم: « رضي الله منا عبادة الأوثان, وارأد منا تحريم ما حرمنا من الحروث والأنعام » , دون أن يكون تكذيبه إياهم كان على قولهم: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) ، وعلى وصفهم إياه بأنه قد شاء شركهم وشرك آبائهم, وتحريمهم ما كانوا يحرمون؟ قيل له: الدلالة على ذلك قوله: ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) ، فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم سلكوا في تكذيبهم نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما آتاهم به من عند الله من النهي عن عبادة شيء غير الله تعالى ذكره, وتحريم غير ما حرّم الله في كتابه وعلى لسان رسوله مسلكَ أسلافهم من الأمم الخالية المكذبة اللهَ ورسولَه . والتكذيبُ منهم إنما كان لمكذَّب, ولو كان ذلك خبرًا من الله عن كذبهم في قيلهم: ( لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) ، لقال: « كذلك كذَبَ الذين من قبلهم » ، بتخفيف « الذال » , وكان ينسبهم في قيلهم ذلك إلى الكذب على الله، لا إلى التكذيب مع علل كثيرة يطول بذكرها الكتاب, وفيما ذكرنا كفاية لمن وُفِّق لفهمه . القول في تأويل قوله : قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ( 148 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، المحرِّمين ما هم له محرِّمون من الحُروث والأنعام, القائلين: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ، ولكنه رضي منا ما نحن عليه من الشرك وتحريم ما نحرم: « هل عندكم » ، بدعواكم ما تدعون على الله من رضاه بإشراككم في عبادته ما تشركون، وتحريمكم من أموالكم ما تحرمون علمُ يقينٍ من خبر مَنْ يقطع خبره العذر, أو حجة توجب لنا اليقين، من العلم « فتخرجوه لنا » ، يقول: فتظهروا ذلك لنا وتبينوه, كما بينا لكم مواضع خطأ قولكم وفعلكم, وتناقض ذلك واستحالته في المعقول والمسموع ( إن تتبعون إلا الظن ) ، يقولُ له: قل لهم: إن تقولون ما تقولون، أيها المشركون، وتعبدون من الأوثان والأصنام ما تعبدون، وتحرمون من الحروث والأنعام ما تحرّمون، إلا ظنًّا وحسبانًا أنه حق, وأنكم على حق، وهو باطلٌ, وأنتم على باطل ( وإن أنتم إلا تخرصون ) ، يقول: « وإن أنتم » , وما أنتم في ذلك كله « إلا تخرصون » , يقول: إلا تتقوّلون الباطل على الله، ظنًّا بغير يقين علم ولا برهان واضح . القول في تأويل قوله : قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( 149 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, القائلين على ربهم الكذبَ، في تحريمهم ما حرموا من الحروث والأنعام, إن عجزوا عن إقامة الحجة عند قيلك لهم: « هل عندكم من علم بما تدعون على ربكم فتخرجوه لنا » , وعن إخراج علم ذلك لك وإظهاره, وهم لا شك عن ذلك عَجَزَة, وعن إظهاره مقصرون, لأنه باطل لا حقيقة له ( فلله ) ، الذي حرم عليكم أن تشركوا به شيئًا, وأن تتبعوا خطوات الشيطان في أموالكم من الحروث والأنعام ( الحجة البالغة ) ، دونكم أيها المشركون . ويعني بـ « البالغة » ، أنها تبلغ مراده في ثبوتها على مَنْ احتج بها عليه من خلقه, وقَطْعِ عُذْرِه إذا انتهت إليه فيما جُعِلت حجة فيه . ( فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، يقول: فلو شاء ربكم لوفَّقكم أجمعين للإجماع على إفراده بالعبادة، والبراءة من الأنداد والآلهة، والدينونة بتحريم ما حرم الله وتحليل ما حلله الله, وترك اتباع خطوات الشيطان, وغير ذلك من طاعاته، ولكنه لم يشأ ذلك، فخالف بين خلقه فيما شاء منهم, فمنهم كافر ومنهم مؤمن . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع بن أنس قال، لا حجة لأحد عصَى الله, ولكن لله الحجة البالغة على عباده . وقال: ( فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، قال: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [ سورة الأنبياء: 23 ] . القول في تأويل قوله : قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ( 150 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المفترين على ربهم من عبدة الأوثان, الزاعمين أنّ الله حرم عليهم ما هم محرموه من حروثهم وأنعامهم ( هلم شهداءكم ) ، يقول: هاتوا شهداءكم الذين يشهدون على الله أنه حرم عليكم ما تزعمون أنه حرمه عليكم . وأهل العالية من تهامة توحِّد « هلم » في الواحد والاثنين والجميع, وتذكر في المؤنث والمذكر, فتقول للواحد: « هلم يا فلان » ، وللاثنين والجميع كذلك, وللأنثى مثله، ومنه قول الأعشى: وَكَـــانَ دَعَــا قَوْمَــهُ دَعْــوَةً هَلُــمَّ إلَــى أَمْــرِكُمْ قَـدْ صُـرِمْ ينشد: « هلم » ، و « هلموا » . وأما أهل السافلة من نجد، فإنهم يوحِّدون للواحد، ويثنُّون للاثنين، ويجمعون للجميع. فيقال للواحد من الرجال: « هلم » وللواحدة من النساء: « هلمي » , وللاثنين: « هلما » , وللجماعة من الرجال: « هلموا » , وللنساء: « هَلْمُمْنَ » . قال الله لنبيه: ( فإن شهدوا ) ، يقول: يا محمد, فإن جاءوك بشهداء يشهدون أن الله حَرَّم ما يزعمون أن الله حرمه عليهم ( فلا تشهد معهم ) ، فإنهم كذبة وشهود زور في شهادتهم بما شهدوا به من ذلك على الله . وخاطب بذلك جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم, والمراد به أصحابه والمؤمنون به ( ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ) ، يقول: ولا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب بوحي الله وتنـزيله، في تحريم ما حرم، وتحليل ما أحل لهم, ولكن اتبع ما أوحي إليك من كتاب ربك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ( والذين لا يؤمنون بالآخرة ) ، يقول: ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة, فتكذب بما هم به مكذبون من إحياء الله خلقه بعد مماتهم، ونشره إياهم بعد فنائهم ( وهم بربهم يعدلون ) ، يقول: وهم مع تكذيبهم بالبعث بعد الممات، وجحودهم قيام الساعة، بالله يعدلون الأوثانَ والأصنامَ, فيجعلونها له عِدْلا ويتخذونها له ندًّا يعبدونها من دونه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ) ، يقول: قل أروني الذين يشهدون أن الله حرم هذا مما حرمت العرب, وقالوا: أمرنا الله به . قال الله لرسوله: ( فإن شهدوا فلا تشهد معهم ) . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن مجاهد قوله: ( هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ) ، قال: البحائر والسُّيَّب . القول في تأويل قوله : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, الزاعمين أن الله حرم عليهم ما هم محرِّموه من حروثهم وأنعامهم, على ما ذكرت لك في تنـزيلي عليك : تعالوا، أيها القوم، أقرأ عليكم ما حرم ربكم حقًا يقينًا, لا الباطل تخرُّصًا، تخرُّصَكم على الله الكذبَ والفريةَ ظنًّا, ولكن وحيًا من الله أوحاه إليّ, وتنـزيلا أنـزله عليّ: أن لا تشركوا بالله شيئًا من خلقه، ولا تعدلوا به الأوثان والأصنام، ولا تعبدوا شيئًا سواه ( وبالوالدين إحسانًا ) ، يقول: وأوصى بالوالدين إحسانًا وحذف « أوصى » و « أمر » ، لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامع بمعناه. وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى من الكتاب . وأما « أن » في قوله: ( أن لا تشركوا به شيئًا ) ، فرفعٌ, لأن معنى الكلام: قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربكم عليكم, هو أن لا تشركوا به شيئًا . وإذا كان ذلك معناه, كان في قوله: ( تشركوا ) ، وجهان: الجزم بالنهي, وتوجيهه « لا » إلى معنى النهي . والنصب، على توجيه الكلام إلى الخبر, ونصب « تشركوا » ، بـ « أن لا » ، كما يقال: « أمرتك أن لا تقوم » . وإن شئت جعلت « أن » في موضع نصبٍ، ردًّا على « ما » وبيانًا عنها, ويكون في قوله: ( تشركوا ) ، أيضًا من وجهي الإعراب، نحو ما كان فيه منه. و « أن » في موضع رفع. ويكون تأويل الكلام حينئذ: قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم, أتلُ أن لا تشركوا به شيئًا . فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون قوله ( تشركوا ) نصبًا بـ « أن لا » , أم كيف يجوز توجيه قوله: « ألا تشركوا به » , على معنى الخبر, وقد عطف عليه بقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ ، وما بعد ذلك من جزم النهي؟ قيل: جاز ذلك، كما قال تعالى ذكره: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ، فجعل « أن أكون » خبرًا، و « أنْ » اسمًا, ثم عطف عليه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، [ سورة الأنعام: 14 ] , وكما قال الشاعر: حَــجَّ وَأوْصَــى بِسُـلَيْمَى الأعْبُـدَا أَنْ لا تَـــرَى وَلا تُكَـــلِّمْ أَحَــدَا وَلا يَزَلْ شَرَابُهَا مُبَرَّدَا فجعل قوله: « أن لا ترى » خبرًا, ثم عطف بالنهي فقال: « ولا تكلم » , « ولا يزل » . القول في تأويل قوله : وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم, فإن الله هو رازقكم وإياهم, ليس عليكم رزقهم, فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجزَ عن أرزاقهم وأقواتهم . و « الإملاق » ، مصدر من قول القائل: « أملقت من الزاد, فأنا أملق إملاقًا » , وذلك إذا فني زاده، وذهب ماله، وأفلس . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، الإملاق الفقر, قتلوا أولادهم خشية الفقر . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة في قوله: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، أي خشية الفاقة. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ) ، قال: « الإملاق » ، الفقر . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: ( من إملاق ) ، قال: شياطينهم، يأمرونهم أن يئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك في قوله: ( من إملاق ) ، يعني: من خشية فقر . القول في تأويل قوله : وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تقربوا الظاهرَ من الأشياء المحرّمة عليكم، التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها, والباطنَ منها الذي تأتونه سرًّا في خفاء لا تجاهرون به, فإن كل ذلك حرام . وقد قيل : إنما قيل: لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن, لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنى بعضًا [ دون بعض ] . وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع, غير أن دليل الظاهر من التنـزيل على النهي عن ظاهر كل فاحشة وباطنها, ولا خبر يقطع العذرَ، بأنه عنى به بعض دون جميع. وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن، إلا بحجة يجب التسليم لها . * ذكر من قال ما ذكرنا من قول من قال: الآية خاصُّ المعنى: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، أما « ما ظهر منها » ، فزواني الحوانيت, وأما « ما بطن » ، فما خَفِي . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان, عن الضحاك قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى, ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا. فحرّم الله السر منه والعلانية ( ما ظهر منها ) ، يعني: العلانية ( وما بطن ) ، يعني: السر . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأسًا في السر، ويستقبحونه في العلانية, فحرَّم الله الزنى في السرّ والعلانية . وقال آخرون في ذلك بمثل الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، سرَّها وعلانيتها . حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة, نحوه . وقال آخرون: « ما ظهر » ، نكاح الأمهات وحلائل الآباء « وما بطن » ، الزنى . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن خصيف, عن مجاهد: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: « ما ظهر » ، جمعٌ بين الأختين, وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده « وما بطن » ، الزنى . وقال آخرون في ذلك بما:- حدثني إسحاق بن زياد العطار النصري قال، حدثنا محمد بن إسحاق البلخي قال، حدثنا تميم بن شاكر الباهلي, عن عيسى بن أبي حفصة قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) ، قال: « ما ظهر » ، الخمر « وما بطن » ، الزنى . القول في تأويل قوله : وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 151 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) ، يعني بالنفس التي حرم الله قتلها، نفسَ مؤمن أو مُعاهد وقوله: ( إلا بالحق ) ، يعني بما أباح قتلها به: من أن تقتل نفسًا فتقتل قَوَدًا بها, أو تزني وهي محصنة فترجم, أو ترتدَّ عن دينها الحقِّ فتقتل. فذلك « الحق » الذي أباح الله جل ثناؤه قتل النفس التي حرم على المؤمنين قتلها به ( ذلكم ) ، يعني هذه الأمور التي عهد إلينا فيها ربُّنا أن لا نأتيه وأن لا ندعه, هي الأمور التي وصَّانا والكافرين بها أن نعمل جميعًا به ( لعلكم تعقلون ) ، يقول: وصاكم بذلك لتعقلوا ما وصاكم به ربكم . القول في تأويل قوله : وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، ولا تقربوا ماله إلا بما فيه صلاحه وتثميره ، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: التجارة فيه. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، فليثمر مالَه . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا فضيل بن مرزوق العنـزي, عن سليط بن بلال, عن الضحاك بن مزاحم في قوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: يبتغي له فيه, ولا يأخذ من ربحه شيئًا . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) ، قال: « التي هي أحسن » ، أن يأكل بالمعروف إن افتقر, وإن استغنى فلا يأكل. قال الله: وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ، [ سورة النساء: 6 ] . قال: وسئل عن الكسوة، فقال: لم يذكر الله الكسوة، إنما ذكر الأكل . وأما قوله: ( حتى يبلغ أشده ) ، فإن « الأشُدّ » جمع « شَدٍّ » , كما « الأضُرّ » جمع « ضر » , وكما « الأشُرّ » جمع « شر » ، و « الشد » القوة, وهو استحكام قوة شبابه وسنه, كما « شَدُّ النهار » ارتفاعه وامتداده. يقال: « أتيته شدَّ النهار ومدَّ النهار » , وذلك حين امتداده وارتفاعه; وكان المفضل فيما بلغني ينشد بيت عنترة: عَهْــدِي بِــهِ شَـدَّ النَّهَـارِ كَأَنَّمَـا خُــضِبَ اللَّبَــانُ وَرَأْسُـهُ بِـالْعِظْلِمِ ومنه قول الآخر: تُطِيــفُ بِــهِ شَـدَّ النَّهَـارِ ظَعِينَـةٌ طَوِيلَــةُ أَنْقَــاءِ اليَــدَيْنِ سَـحُوقُ وكان بعض البصريين يزعم أن « الأشد » مثل « الآنُك » . فأما أهل التأويل، فإنهم مختلفون في الحين الذي إذا بلغه الإنسان قيل: « بلغ أشدّه » . فقال بعضهم: يقال ذلك له إذا بلغ الحُلُم . ذكر من قال ذلك: حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، أخبرني يحيى بن أيوب, عن عمرو بن الحارث, عن ربيعة في قوله: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: الحلم . حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, عن أبيه, مثله قال ابن وهب: وقال لي مالك مثله . حدثت عن الحماني قال، حدثنا هشيم, عن مجاهد, عن عامر: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: « الأشد » ، الحلم, حيث تكتب له الحسنات، وتكتب عليه السيئات . وقال آخرون: إنما يقال ذلك له، إذا بلغ ثلاثين سنة . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( حتى يبلغ أشده ) ، قال: أما « أشده » ، فثلاثون سنة, ثم جاء بعدها: حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ . [ سورة النساء: 6 ] . وفي الكلام محذوف، ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حذف . وذلك أن معنى الكلام: « ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده » , فإذا بلغ أشده فآنستم منه رشدًا، فادفعوا إليه ماله لأنه جل ثناؤه لم ينه أن يُقرب مال اليتيم في حال يُتمه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، ليحِلَّ لوليّه بعد بلوغه أشده أن يقربه بالتي هي أسوأ, ولكنه نهاهم أن يقرَبوه حياطةً منه له، وحفظًا عليه، ليسلموه إليه إذا بلغ أشده . القول في تأويل قوله : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وأن أوفوا الكيل والميزان. يقول: لا تبخسوا الناس الكيلَ إذا كلتموهم، والوزنَ إذا وزنتموهم, ولكن أوفوهم حقوقهم. وإيفاؤهم ذلك، إعطاؤهم حقوقهم تامة « بالقسط » ، يعني بالعدل ، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( بالقسط ) ، بالعدل . وقد بينا معنى: « القسط » بشواهده فيما مضى، وكرهنا إعادته . وأما قوله: ( لا نكلف نفسًا إلا وسعها ) ، فإنه يقول: لا نكلف نفسًا، من إيفاء الكيل والوزن، إلا ما يسعها فيحلّ لها ولا تحرَجُ فيه . وذلك أن الله جل ثناؤه، علم من عباده أن كثيرًا منهم تَضيق نفسه عن أن تطيب لغيره بما لا يجبُ عليها له, فأمر المعطي بإيفاء رب الحق حقَّه الذي هو له، ولم يكلِّفه الزيادة، لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر الذي له الحق، بأخذ حقه، ولم يكلفه الرضا بأقل منه, لما في النقصان عنه من ضيق نفسه. فلم يكلف نفسًا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا ضيق, فلذلك قال: ( لا نكلف نفسًا إلا وسعها ) . وقد استقصينا بيان ذلك بشواهده في موضع غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته . القول في تأويل قوله : وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 152 ) قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: ( وإذا قلتم فاعدلوا ) ، وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم فقولوا الحق بينهم, واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم، ذا قرابة لكم, ولا تحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره, أن تقولوا غير الحق فيما احتكم إليكم فيه ( وبعهد الله أوفوا ) ، يقول: وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك: أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم, وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وذلك هو الوفاء بعهد الله . وأما قوله: ( ذلكم وصاكم به ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للعادلين بالله الأوثان والأصنام من قومك: هذه الأمور التي ذكرت لكم في هاتين الآيتين, هي الأشياء التي عهد إلينا ربنا، ووصاكم بها ربكم، وأمركم بالعمل بها لا بالبحائر، والسوائب، والوصائل، والحام، وقتل الأولاد، ووأد البنات، واتباع خطوات الشيطان ( لعلكم تذكرون ) ، يقول: أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الآيتين، ووصاكم بها وعهد إليكم فيها, لتتذكروا عواقبَ أمركم، وخطأ ما أنتم عليه مقيمون, فتنـزجروا عنها، وترتدعوا وتُنيبوا إلى طاعة ربكم . وكان ابن عباس يقول: هذه الآيات، هنَّ الآيات المحكمات . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن علي بن صالح, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن قيس, عن ابن عباس قال: هن الآيات المحكمات, قوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي قال، سمعت يحيى بن أيوب يحدّث، عن يزيد بن أبى حبيب, عن مرثد بن عبد الله, عن عبيد الله بن عديّ بن الخيار قال، سمع كعب الأحبار رجلا يقرأ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، فقال: والذي نفس كعب بيده, إنّ هذا لأوَّل شيء في التوراة: « بسم الله الرحمن الرحيم » ، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبيه, عن سعيد بن مسروق, عن رجل, عن الربيع بن خثيم أنه قال لرجل: هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد؟ ثم قرأ هؤلاء الآيات: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي سنان, عن عمرو بن مرة قال: قال الربيع: ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لم يقل: « خاتمها » فقرأ هذه الآيات: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن إبراهيم, عن علقمة قال: جاء إليه نفر فقالوا: قد جالست أصحابَ محمد، فحدثنا عن الوَحي. فقرأ عليهم هذه الآيات من « الأنعام » : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، قالوا: ليس عن هذا نسألك ! قال: فما عندنا وحيٌ غيره . حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قال: هؤلاء الآيات التي أوصى بها من محكم القرآن . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإذا قلتم فاعدلوا ) ، قال: قولوا الحق . القول في تأويل قوله : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 153 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي وصاكم به ربكم، أيها الناس، في هاتين الآيتين من قوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، وأمركم بالوفاء به, هو « صراطه » يعني: طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده ( مستقيمًا ) ، يعني: قويمًا لا اعوجاج به عن الحق ( فاتبعوه ) ، يقول: فاعملوا به, واجعلوه لأنفسكم منهاجًا تسلكونه، فاتبعوه ( ولا تتبعوا السبل ) ، يقول: ولا تسلكوا طريقًا سواه, ولا تركبوا منهجًا غيره, ولا تبغوا دينًا خلافه ، من اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان، وغير ذلك من الملل, فإنها بدع وضلالات ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول: فيشتّت بكم، إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طرق ولا أديان, اتباعُكم إياها « عن سبيله » , يعني: عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه, وهو الإسلام الذي وصّى به الأنبياء، وأمر به الأمم قبلكم ( ذلكم وصاكم به ) ، يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم: « أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل » ، وصاكم به « لعلكم تتقون » , يقول: لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها, وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها، فيحل بكم نقمته وعذابه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال: البدع والشبهات . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة, عن شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ولا تتبعوا السبل ) ، البدع والشبهات . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) , وقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [ سورة الشورى: 13 ] ، ونحو هذا في القرآن. قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة, وأخبرهم أنه إنما هلك مَنْ كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، يقول: لا تتبعوا الضلالات . حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حماد, عن عاصم, عن أبي وائل, عن عبد الله قال: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطًّا فقال: هذا سبيل الله. ثم خط عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطًا فقال: هذه سُبُل، على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إليها. ثم قرأ هذه الآية: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، قال: « سبيله » ، الإسلام, و « صراطه » ، الإسلام . نهاهم أن يتبعوا السبل سواه ( فتفرق بكم عن سبيله ) ، عن الإسلام . حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن أبان: أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه, وطرفُه في الجنة, وعن يمينه جوادُّ, وعن يساره جَوَادُّ, وثمَّ رجال يدعون من مرّ بهم. فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به إلى النار, ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة . ثم قرأ ابن مسعود: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا ) ، الآية . قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( وأن هذا صراطي مستقيمًا ) . فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: ( وَأَنَّ ) بفتح « الألف » من « أن » , وتشديد « النون » , ردًّا على قوله: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، بمعنى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , « وأن هذا صراطي مستقيمًا » . وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: « وَإِنَّ » بكسر « الألف » من « أن » , وتشديد « النون » منها، على الابتداء وانقطاعها عن الأول, إذ كان الكلام قد انتهى بالخبر عن الوصية التي أوصى الله بها عباده دونه، عندهم . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار وعوامّ المسلمين، صحيح معنياهما, فبأيِّ القراءتين قرأ القارئ فهو مصيبٌ الحقَّ في قراءته . وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله, كما أمر عباده الأنبياء . وإن أدخل ذلك مُدْخِلٌ فيما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، وما أمركم به, ففتح على ذلك « أن » ، فمصيب وإن كسرها، إذ كانت « التلاوة » قولا وإن كان بغير لفظ « القول » لبعدها من قوله: « أتل » , وهو يريد إعمال ذلك فيه، فمصيبٌ وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأول و « التلاوة » , وأن ما أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوته على من أُمِر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك, فمصيب . وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصري: « وَأنْ » بفتح الألف من « أن » وتخفيف النون منها, بمعنى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا , « وأنْ هذا صراطي » ، فخففها، إذ كانت « أن » في قوله: أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، مخففة, وكانت « أن » في قوله: ( وأن هذا صراطي ) ، معطوفة عليها, فجعلها نظيرةَ ما عطفت عليه . وذلك وإن كان مذهبًا, فلا أحب القراءة به، لشذوذها عن قراءة قرأة الأمصار، وخلاف ما هم عليه في أمصارهم . القول في تأويل قوله : ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب ) ، ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتى ربك موسى الكتابَ فترك ذكر « قل » , إذ كان قد تقدم في أول القصّة ما يدلّ على أنه مرادٌ فيها, وذلك قوله : قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ، فقصَّ ما حرم عليهم وأحلّ, ثم قال: ثم قل: « آتينا موسى » , فحذف « قل » لدلالة قوله: « قل » عليه, وأنه مراد في الكلام . وإنما قلنا: ذلك مرادٌ في الكلام, لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا شك أنه بُعث بعد موسى بدهر طويل، وأنه إنما أمر بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه. ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمدًا بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه. و « ثم » في كلام العرب حرف يدلّ على أن ما بعده من الكلام والخبر، بعد الذي قبلها . ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، فقال بعضهم: معناه: تمامًا على المحسنين . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: على المؤمنين. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( تمامًا على الذي أحسن ) ، المؤمنين والمحسنين. وكأنّ مجاهدًا وجّه تأويل الكلام ومعناه إلى أن الله جل ثناؤه أخبر عن موسى أنه آتاه الكتاب فضيلة على ما آتى المحسنين من عباده . فإن قال قائل: فكيف جاز أن يقال: ( على الذي أحسن ) ، فيوحِّد « الذي » , والتأويل على الذين أحسنوا؟ قيل: إن العرب تفعل ذلك خاصة في « الذي » وفي « الألف واللام » ، إذا أرادت به الكل والجميع, كما قال جل ثناؤه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، [ سورة العصر: 2،1 ] ، وكما قالوا: « كثر الدِّرهم فيه في أيدي الناس » . وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرأ ذلك: « تمامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا » ، وذلك من قراءته كذلك، يؤيد قول مجاهد . وإذا كان المعنى كذلك, كان قوله: « أحسن » ، فعلا ماضيًا, فيكون نصبه لذلك . وقد يجوز أن يكون « أحسن » في موضع خفض, غير أنه نصب إذ كان « أفعل » , و « أفعل » ، لا يجري في كلامها . فإن قيل: فبأيِّ شيء خفض؟ قيل: ردًّا على « الذي » ، إذ لم يظهر له ما يرفعه فيكون تأويل الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي هو أحسن, ثم حذف « هو » , وجاور « أحسن » « الذي » , فعرِّب بتعريبه, إذ كان كالمعرفة من أجل أن « الألف واللام » لا يدخلانه, « والذي » مثله, كما تقول العرب: « مررت بالذي خيرٍ منك، وشرٍّ منك » , كما قال الراجز: إِنَّ الزُّبَــيْرِيَّ الَّــذِي مِثْـلَ الحَـلَمْ مَسَّــى بِأَسْــلابِكُمُ أَهْــلَ الْعَلَــمْ فأتبع « مثل » « الذي » ، في الإعراب . ومن قال ذلك، لم يقل: مررت « بالذي عالمٍ » , لأن « عالمًا » نكرة، « والذي » معرفة, ولا تتبع نكرة معرفة . وقال آخرون: معنى ذلك: « تمامًا على الذي أحسن » ، موسى، فيما امتحنه الله به في الدنيا من أمره ونهيه . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذين أحسن ) ، فيما أعطاه الله. حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: من أحسن في الدنيا، تمم الله له ذلك في الآخرة . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة قوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، يقول: من أحسن في الدنيا، تمت عليه كرامة الله في الآخرة. وعلى هذا التأويل الذي تأوّله الربيع، يكون « أحسن » ، نصبًا, لأنه فعل ماض, و « الذي » بمعنى « ما » وكأنّ الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على ما أحسن موسى أي: آتيناه الكتاب لأتمم له كرامتي في الآخرة، تمامًا على إحسانه في الدنيا في عبادة الله والقيام بما كلفه به من طاعته . وقال آخرون في ذلك: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم . ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن ) ، قال: تمامًا من الله وإحسانه الذي أحسن إليهم وهداهم للإسلام, وآتاهم ذلك الكتاب تمامًا، لنعمته عليه وإحسانه . « وأحسن » على هذا التأويل أيضًا، في موضع نصب، على أنه فعل ماض، « والذي » على هذا القول والقول الذي قاله الربيع، بمعنى: « ما » . وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك: « تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ » رفعًا بتأويل: على الذي هو أحسن . حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا الحجاج, عن هارون, عن أبي عمرو بن العلاء, عن يحيى بن يعمر . قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، وإن كان لها في العربية وجه صحيح, لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قرأة الأمصار . قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا لنعمنا عنده، على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا لأن ذلك أظهرُ معانيه في الكلام, وأن إيتاء موسى كتابه نعمةٌ من الله عليه ومنة عظيمة. فأخبر جل ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحُسن طاعة . ولو كان التأويل على ما قاله ابن زيد، كان الكلام: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسنّا أو: ثم آتى الله موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن . وفي وصفه جل ثناؤه نفسه بإيتائه الكتاب، ثم صرفه الخبر بقوله: « أحسن » , إلى غير المخبر عن نفسه بقرب ما بين الخبرين الدليلُ الواضح على أن القول غير القول الذي قاله ابن زيد . وأما ما ذكر عن مجاهد من توجيهه « الذي » إلى معنى الجميع، فلا دليل في الكلام يدل على صحة ما قال من ذلك. بل ظاهر الكلام بالذي اخترنا من القول أشبه . وإذا تنوزع في تأويل الكلام، كان أولى معانيه به أغلبُه على الظاهر, إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليلٌ واضح على أنه معنيٌّ به غير ذلك . وأما قوله: ( وتفصيلا لكل شيء ) ، فإنه يعني: وتبيينًا لكل شيء من أمر الدين الذي أمروا به . فتأويل الكلام إذًا: ثم آتينا موسى التوراة تمامًا لنعمنا عنده وأيادينا قِبَله, تتم به كرامتنا عليه على إحسانه وطاعته ربَّه وقيامه بما كلّفه من شرائع دينه, وتبيينًا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم، كما:- حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وتفصيلا لكل شيء ) ، فيه حلاله وحرامه . القول في تأويل قوله : وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ( 154 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: آتينا موسى الكتاب تمامًا وتفصيلا لكل شيء ( وهدى ) ، يعني بقوله « وهدى » ، تقويمًا لهم على الطريق المستقيم, وبيانًا لهم سُبُل الرشاد لئلا يضلوا ( ورحمة ) ، يقول: ورحمة منا بهم ورأفة, لننجيهم من الضلالة وَعمى الحيرة . وأما قوله: ( لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) ، فإنه يعني: إيتائي موسى الكتاب تمامًا لكرامة الله موسى، على إحسان موسى, وتفصيلا لشرائع دينه, وهدًى لمن اتبعه، ورحمة لمن كان منهم ضالا لينجيه الله به من الضلالة, وليؤمن بلقاء ربه إذا سمع مواعظ الله التي وعظ بها خلقه فيه, فيرتدع عما هو عليه مقيمٌ من الكفر به, وبلقائه بعد مماته, فيطيع ربه, ويصدِّق بما جاءه به نبيه موسى صلى الله عليه وسلم . القول في تأويل قوله : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( 155 ) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: ( وهذا كتاب أنـزلناه مبارك ) ، وهذا القرآن الذي أنـزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم « كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه » ، يقول: فاجعلوه إمامًا تتّبعونه وتعملون بما فيه، أيها الناس ( واتقوا ) ، يقول: واحذروا الله في أنفسكم، أن تضيعوا العمل بما فيه, وتتعدّوا حدودَه, وتستحلُّوا محارمه . كما:- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة,قوله: ( وهذا كتاب أنـزلناه مبارك ) ، وهو القرآن الذي أنـزله الله على محمد عليه الصلاة والسلام ( فاتبعوه ) ، يقول: فاتبعوا حلاله، وحرّموا حرامه . وقوله: ( لعلكم ترحمون ) ، يقول: لترحموا، فتنجوا من عذاب الله، وأليم عقابه . القول في تأويل قوله : أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ( 156 ) قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في العامل في « أن » التي في قوله: ( أن تقولوا ) وفي معنى هذا الكلام. فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ، كراهيةَ أن تقولوا: « إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا » . وقال بعض نحويي الكوفة: بل ذلك في موضع نصب بفعل مضمر. قال: ومعنى الكلام: فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون اتقوا أن تقولوا . قال: ومثله يقول الله أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ، [ سورة الحجرات: 2 ] . وقال آخرون منهم: هو في موضع نصب . قال: ونصبه من مكانين: أحدهما: أنـزلناه لئلا يقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا والآخر من قوله: ( اتقوا ) . قال: ولا يصلح في موضع « أن » كقوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [ سورة النساء: 176 ] . قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: نصب « أن » لتعلقها: بالإنـزال, لأن معنى الكلام: وهذا كتاب أنـزلناه مبارك لئلا تقولوا: « إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا » . فأما الطائفتان اللتان ذكرهما الله, وأخبر أنه إنما أنـزل كتابه على نبيه محمد لئلا يقول المشركون: « لم ينـزل علينا كتاب فنتبعه, ولم نؤمر ولم نُنْه, فليس علينا حجة فيما نأتي ونَذَر, إذ لم يأت من الله كتاب ولا رسول » , وإنما الحجة على الطائفتين اللتين أنـزل عليهما الكتاب من قبلنا فإنهما اليهود والنصارى، وكذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، وهم اليهود والنصارى . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، اليهود والنصارى يُخاف أن تقوله قريش . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج, عن ابن جريج عن مجاهد: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، قال: اليهود والنصارى. قال: أن تقول قريش . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، وهم اليهود والنصارى . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) ، أما الطائفتان: فاليهود والنصارى . وأما ( وإن كنا عن دِرَاستهم لغافلين ) ، فإنه يعني: أن تقولوا: وقد كنا عن تلاوة الطائفتين الكتابَ الذي أنـزلتُ عليهم « غافلين » , لا ندري ما هي, ولا نعلم ما يقرؤون وما يقولون، وما أنـزل إليهم في كتابهم, لأنهم كانوا أهله دوننا, ولم نعن به ولم نؤمر بما فيه, ولا هو بلساننا, فيتخذوا ذلك حجة . فقطع الله بإنـزاله القرآنَ على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حجتهم تلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، يقول: وإن كنا عن تلاوتهم لغافلين . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، أي: عن قراءتهم . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، قال: « الدراسة » ، القراءة والعلم. وقرأ: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ، [ سورة الأعراف: 169 ] . قال: علموا ما فيه، لم يأتوه بجهالة . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) ، يقول: وإن كنا عن قراءتهم لغافلين، لا نعلم ما هي . القول في تأويل قوله : أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ , لئلا يقول المشركون من عبدة الأوثان من قريش: إِنَّمَا أُنْـزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا , أو: لئلا يقولوا: لو أنّا أنـزل علينا الكتاب كما أنـزل على هاتين الطائفتين من قبلنا, فأمرنا فيه ونُهِينا, وبُيِّن لنا فيه خطأ ما نحن فيه من صوابه ( لكنا أهدى منهم ) ، أي: لكنا أشدَّ استقامة على طريق الحق، واتباعًا للكتاب, وأحسن عملا بما فيه، من الطائفتين اللتين أنـزل عليهما الكتاب من قبلنا . يقول الله: ( فقد جاءكم بينة من ربكم ) ، يقول: فقد جاءكم كتابٌ بلسانكم عربيٌ مبين, حجة عليكم واضحة بيّنة من ربكم ( وهدى ) ، يقول: وبيان للحق, وفُرْقانٌ بين الصواب والخطأ ، ( ورحمة ) لمن عمل به واتّبعه، كما:- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم ) ، يقول: قد جاءكم بينة، لسانٌ عربي مبين, حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين, وحين قلتم: لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ) ، فهذا قول كفار العرب ( فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ) . القول في تأويل قوله : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ( 157 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فمن أخطأ فعلا وأشدّ عدوانًا منكم، أيها المشركون, المكذبون بحجج الله وأدلته وهي آياته ( وصدف عنها ) ، يقول: وأعرض عنها بعد ما أتته, فلم يؤمن بها، ولم يصدِّق بحقيقتها . وأخرج جل ثناؤه الخبر بقوله: ( فمن أظلم ممن كذب بآيات الله ) ، مخرج الخبر عن الغائب, والمعنيّ به المخاطبون به من مشركي قريش . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله: ( وصدف عنها ) ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( وصدف عنها ) ، يقول: أعرض عنها . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( يصدفون عن آياتنا ) ، يعرضون عنها, و « الصدف » ، الإعراض. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة: ( وصدف عنها ) ، أعرض عنها, ( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ) ، أي: يعرضون . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وصدف عنها ) ، فصدَّ عنها. وقوله: ( سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب ) ، يقول: سيثيب الله الذين يعرضون عن آياته وحججه ولا يتدبرونها، ولا يتعرفون حقيقتها فيؤمنوا بما دلتهم عليه من توحيد الله، وحقيقة نبوة نبيه، وصدق ما جاءهم به من عند ربهم ( سوء العذاب ) ، يقول: شديد العقاب, وذلك عذاب النار التي أعدَّها الله لكفرة خلقه به ( بما كانوا يصدفون ) ، يقول: يفعل الله ذلك بهم جزاء بما كانوا يعرضون عن آياته في الدنيا، فلا يقبلون ما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم . القول في تأويل قوله : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: « هل ينتظر هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام إلا أن تأتيهم الملائكة » ، بالموت فتقبض أرواحهم أو أن يأتيهم ربك، يا محمد، بين خلقه في موقف القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، يقول: أو أن يأتيهم بعضُ آيات ربك. وذلك فيما قال أهل التأويل: طلوعُ الشمس من مغربها . * ذكر من قال من أهل التأويل ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( إلا أن تأتيهم الملائكة ) ، يقول: عند الموت حين توفَّاهم « أو يأتي ربك » ، ذلك يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، طلوع الشمس من مغربها . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( إلا أن تأتيهم الملائكة ) ، بالموت « أو يأتي ربك » ، يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » ، قال: آية موجبة، طلوع الشمس من مغربها, أو ما شاء الله . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة , قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، يقول: بالموت « أو يأتي ربك » ، وذلك يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي, « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، عند الموت « أو يأتي ربك » « أو يأتي بعض آيات ربك » ، يقول: طلوع الشمس من مغربها. حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير, عن منصور, عن أبي الضحى, عن مسروق قال، قال عبد الله في قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك » ، قال: يصبحون والشمس والقمر من هاهنا من قبل المغرب، كالبعيرين القَرينين زاد ابن حميد في حديثه: « فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قَبْل أو كسبت في إيمانها خيرًا » ، وقال: « كالبعيرين المقترنين » . . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج قوله: « هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة » ، تقبض الأنفس بالموت « أو يأتي ربك » ، يوم القيامة « أو يأتي بعض آيات ربك » . القول في تأويل قوله : يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « يوم يأتي بعض آيات ربك » , لا ينفع من كان قبل ذلك مشركًا بالله، أن يؤمن بعد مجيء تلك الآية . وقيل: إن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه أن الكافر لا ينفعه إيمانه عند مجيئها: طلوعُ الشمس من مغربها . ذكر من قال ذلك، وما ذكر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثني عيسى بن عثمان الرملي قال، حدثنا يحيى بن عيسى, عن ابن أبي ليلى, عن عطية, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها » ، قال: طلوع الشمس من مغربها. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن ابن أبي ليلى, عن عطية, عن أبي سعيد, عن النبي صلى الله عليه وسلم, مثله. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل, وجرير عن عمارة, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. قال: فإذا رآها الناس آمن من عليها, فتلك « حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » . حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري وإسحاق بن شاهين قالا أخبرنا خالد بن عبد الله الطحان, عن يونس, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومًا: أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم ! قال: إنها تذهب إلى مستقرِّها تحت العرش, فتخرُّ ساجدة, فلا تزال كذلك حتى يقال لها: « ارتفعي من حيث شئت » , فتصبح طالعة من مطلعها . ثم تجري إلى أن تنتهي إلى مستقرٍّ لها تحت العرش, فتخرّ ساجدة, فلا تزال كذلك حتى يقال لها: « ارتفعي من حيث شئت » ، فتصبح طالعةً من مطلعها . ثم تجري لا ينكر الناسُ منها شيئًا, حتى تنتهي فتخرّ ساجدة في مستقر لها تحت العرش, فيصبح الناسُ لا ينكرون منها شيئًا, فيقال لها: « اطلعي من مغربك » فتصبح طالعة من مغربها. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتدرون أيّ يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: ذاك يومَ « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » . حدثنا مؤمل بن هشام ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية, عن يونس, عن إبراهيم بن يزيد التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر, عن النبي صلى الله عليه وسلم, نحوه . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله, عن إسرائيل, عن عاصم, عن زر, عن صفوان بن عسّال قال، حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ من قِبَل مغرب الشمس بابًا مفتوحًا للتوبة حتى تطلع الشمس من نحوه. فإذا طلعت الشمس من نحوه ، لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا. . حدثنا المفضل بن إسحاق قال، حدثنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد الإياميّ, عن أبيه, عن زبيد, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال المرادي قال: ذكرت التوبة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: للتوبة بابٌ بالمغرب مسيرة سبعين عامًا أو: أربعين عامًا فلا يزال كذلك حتى يأتي بعض آيات ربك. . حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك, عن عاصم بن أبي النجود, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال أنه قال: إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة مسيرة سبعين عامًا, فإذا طلعت الشمس من مغربها, لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن عمارة بن القعقاع, عن أبي زرعة, عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت ورآها الناس، آمن مَنْ عليها, فذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل » . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا محمد بن جعفر, عن العلاء, عن أبيه, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلعَ الشمس من مغربها, فيومئذ يؤمن الناس كلهم أجمعون, وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن أبي عون, عن ابن سيرين, عن أبي هريرة قال، التوبة مقبولة، ما لم تطلع الشمس من مغربها . حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا ضمضم بن زرعة, عن شريح بن عبيد, عن مالك بن يخامر, عن معاوية بن أبي سفيان وعبد الرحمن بن عوف, وعبد الله بن عمرو بن العاص, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: لا تزل التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت طُبِع على كل قلب بما فيه, وكُفي الناسُ العمل. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة وجعفر بن عون, بنحوه . حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية, عن أبي حيان التيمي, عن أبي زرعة قال، جلس ثلاثة من المسلمين إلى مروان بن الحكم بالمدينة, فسمعوه وهو يحدث عن الآيات: أن أولها خروجا الدجالُ، فانصرف القوم إلى عبد الله بن عمرو, فحدثوه بذلك, فقال: لم يقل مروان شيئًا! قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئًا لم أنسَه, لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أوّل الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها, أو خروج الدابة على الناس ضُحًى, أيَّتهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثرها قريبًا . ثم قال عبد الله بن عمرو، وكان يقرأ الكتب: أظن أولهما خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع, فيؤذن لها في الرجوع, حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها، فعلت كما كانت تفعل، أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع, فلم يردَّ عليها شيئًا, فتفعل ذلك ثلاث مرات، لا يردّ عليها بشيء. حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب, وعرفت أن لو أذن لها لم تدرك المشرق, قالت: « ما أبعدَ المشرق! ربِّ، منْ لي بالناس » ! حتى إذا صار الأفق كأنه طَوْق، استأذنت في الرجوع, فقيل لها: « اطلعي من مكانك » ، فتطلع من مغربها . ثم قرأ: « يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها » ، إلى آخر الآية . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو ربيعة فهد قال، حدثنا حماد, عن يحيى بن سعيد أبي حيان, عن الشعبي, أن ثلاثة نفر دخلوا على مروان بن الحكم, فذكر نحوه, عن عبد الله بن عمرو. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، سمعت عاصم بن أبي النجود، يحدث عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بالمغرب بابًا مفتوحًا للتوبة مسيرة سبعين عامًا, لا يغلق حتى تطلع الشمس من نحوه. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد, عن حجاج, عن عاصم, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال قال: إذا طلعت الشمس من مغربها, فيومئذ لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو ربيعة فهد قال، حدثنا عاصم بن بهدلة, عن زر بن حبيش قال: غَدَوْتُ إلى صفوان بن عسال فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن باب التوبة مفتوح من قبل المغرب, عرضه مسيرة سبعين عامًا, فلا يزال مفتوحًا حتى تطلع من قبله الشمس . ثم قرأ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ، إلى: خَيْرًا . حدثني الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث, عن جعفر بن ربيعة, عن عبد الرحمن بن هرمز: أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من المغرب. قال: فإذا طلعت الشمس من المغرب آمن الناس كلهم، وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر, عن أيوب, عن ابن سيرين, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها قُبِل منه . حدثني المثنى قال، حدثنا فهد قال، حدثنا حماد, عن يونس بن عبيد, عن إبراهيم بن يزيد التيمي, عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الشمس إذا غربت أتت تحت العرش فسجدت, فيقال لها: « اطلعي من حيث غربت » ، ثم قرأ هذه الآية: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ، إلى آخر الآية . حدثني المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون, عن سفيان بن حسين, عن الحكم, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على حمارٍ, فنظر إلى الشمس حين غربت فقال: إنها تغرب في عين حامية, تنطلق حتى تخرّ لربها ساجدة تحت العرش، حتى يأذن لها, فإذا أراد أن يطلعها من مغربها حبسها, فتقول: يا ربِّ، إن مسيري بعيد! فيقول لها: اطلعي من حيث غربت ! فذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة, عن موسى بن المسيب, عن إبراهيم التيمي, عن أبيه, عن أبي ذر قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم يومًا إلى الشمس فقال: يوشك أن تجيء حتى تقف بين يدي الله, فيقول: « ارجعي من حيث جئت » ! فعند ذلك: « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، فهو أنه لا ينفع مشركًا إيمانه عند الآيات, وينفع أهل الإيمان عند الآيات إن كانوا اكتسبوا خيرًا قبل ذلك . قال ابن عباس: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيةً من العشيّات فقال لهم: يا عباد الله, توبوا إلى الله ، فإنكم توشكون أن تروا الشمس من قِبَل المغرب, فإذا فعلت ذلك، حُبِست التوبة، وطُوِي العمل، وخُتم الإيمان. فقال الناس: هل لذلك من آية يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن آية تلكم الليلة، أن تطول كقدر ثلاث ليال, فيستيقظ الذين يخشون رَبهم، فيصلُّون له, ثم يقضون صلاتهم والليل مكانه لم ينقض, ثم يأتون مضاجعهم فينامون. حتى إذا استيقظوا والليل مكانه, فإذا رأوا ذلك خافوا أن يكون بين يدي أمرٍ عظيم. فإذا أصبحوا وطال عليهم طلوع الشمس ، فبينا هم ينتظرونها إذ طلعت عليهم من قبل المغرب, فإذا فعلت ذلك لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج, عن ابن جريج, عن صالح مولى التوأمة, عن أبي هريرة, أنه سمعه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها, فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا كلهم أجمعون, فيومئذ « لا ينفع نفسًا إيمانها » ، الآية . وبه قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن أبي عتيق, أنه سمع عبيد بن عمير يتلو: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال، يقول: [ كنّا ] نُحدَّث، والله أعلم، أنها الشمس تطلع من مغربها قال ابن جريج، وأخبرني عمرو بن دينار: أنه سمع عبيد بن عمير يقول ذلك قال ابن جريج، وأخبرني عبد الله بن أبي مليكة: أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: إن الآية التي لا ينفع نفسًا إيمانها، إذا طلعت الشمس من مغربها . قال ابن جريج: وقال مجاهد ذلك أيضًا . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن شعبة, عن قتادة, عن زرارة بن أوفى, عن ابن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها . حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث عن زرارة بن أوفى, عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب، عن عوف, عن ابن سيرين قال، حدثني أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان عبد الله بن مسعود يقول: ما ذكر من الآيات فقد مضَين غير أربع: طلوع الشمس من مغربها, ودابة الأرض, والدجال, وخروج يأجوج ومأجوج ، والآية التي تختم بها الأعمال: طلوع الشمس من مغربها. ألم تر أن الله قال: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، قال: فهي طلوع الشمس من مغربها . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي, عن شعبة, عن سليمان, عن أبي الضحى, عن مسروق قال: قال عبد الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر, كأنهما بعيران مقرونان . . . . . قال شعبة: وحدثنا قتادة, عن زرارة, عن عبد الله بن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن الأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق, عن عبد الله بن مسعود: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر، كالبعيرين المقترنين . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور والأعمش, عن أبي الضحى, عن مسروق عن عبد الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها مع القمر، كالبعيرين القرينين . . . . وقال، حدثنا أبي, عن إسرائيل وأبيه, عن أشعث بن أبي الشعثاء, عن أبيه, عن عبد الله قال: التوبة مبسوطةٌ ما لم تطلع الشمس من مغربها . حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر لنا أن ابن أمِّ عبد كان يقول: لا يزال باب التوبة مفتوحًا حتى تطلع الشمس من مغربها, فإذا رأى الناس ذلك آمنوا, وذلك حين « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » . حدثنا بشر قال، حدثنا عبد الله بن جعفر قال، حدثنا العلاء بن عبد الرحمن, عن أبيه, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا طلعت آمن الناس كلهم, فيومئذ « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن عبيد بن عمير: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها . . . . وقال، حدثنا أبي, عن الحسن بن عقبة، أبي كيران, عن الضحاك: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل قال، أخبرني أشعث بن أبي الشعثاء, عن أبيه, عن ابن مسعود في قوله: ( لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) ، قال: لا تزال التوبة مبسوطة ما لم تطلع الشمس من مغربها . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها . حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر, عن القرظي: أنه كان يقول في هذه الآية: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ) ، يقول: إذا جاءت الآيات لم ينفع نفسًا إيمانها. يقول: طلوع الشمس من مغربها . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري, عن عاصم بن أبي النجود, عن زر بن حبيش, عن صفوان بن عسال: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها . حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن وهب بن جابر, عن عبد الله بن عمرو: ( يوم يأتي بعض آيات ربك ) ، قال: طلوع الشمس من مغربها . وقال آخرون: بل ذلك بعض الآيات الثلاثة: الدابة, ويأجوج ومأجوج, وطلوع الشمس من مغربها . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون, عن المسعودي, عن القاسم قال، قال عبد الله: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها، ما لم تخرج إحدى ثلاث: ما لم تطلع الشمس من مغربها, أو الدابة, أو فتح يأجوج ومأجوج . حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا المسعودي, عن القاسم بن عبد الرحمن قال، قال عبد الله: التوبة معروضة على ابن آدم إن قبلها، ما لم تخرج إحدى ثلاث: الدابة, وطلوع الشمس من مغربها, وخروج يأجوج ومأجوج . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن منصور, عن عامر, عن عائشة قالت: إذا خرج أول الآيات، طُرِحت الأقلام, وحُبِست الحفظة, وشهدت الأجساد على الأعمال . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل, عن أبيه, عن أبي حازم, عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث إذا خرجت « لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا » : طلوع الشمس من مغربها, والدجال, ودابة الأرض . حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا معاوية بن عبد الكريم قال: حدثنا الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بادروا بالأعمال ستًّا: طلوعَ الشمس من مغربها, والدجال، والدخَان, ودابة الأرض, وخُوَيِّصة أحدكم, وأمرَ العامة . حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد, عن قتادة قال: ذكر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول, فذكر نحوه . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك, ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ذلك حين تطلع الشمس من مغربها » . وأما قوله: ( أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، فإنه يعني: أو عملت في تصديقها بالله خيرًا، من عمل صالح يصدِّق قِيلَه ويُحققه، من قبل طلوع الشمس من مغربها. لا ينفع كافرًا لم يكن آمن بالله قبل طلوعها كذلك، إيمانه بالله إن آمن وصدق بالله ورسله, لأنها حالة لا تمتنع نفسٌ من الإقرار بالله، لعظيم الهول الوارد عليهم من أمر الله, فحكم إيمانهم، كحكم إيمانهم عند قيام الساعة، وتلك حال لا يمتنع الخلق من الإقرار بوحدانية الله، لمعاينتهم من أهوال ذلك اليوم ما ترتفع معه حاجتهم إلى الفكر والاستدلال والبحث والاعتبار, ولا ينفع مَنْ كان بالله وبرسله مصدِّقًا، ولفرائض الله مضيعًا، غير مكتسب بجوارحه لله طاعة، إذا هي طلعت من مغربها أعمالُه إن عمل, وكسبُه إن اكتسب, لتفريطه الذي سلف قبل طلوعها في ذلك ، كما:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا ) ، يقول: كسبت في تصديقها خيرًا، عملا صالحًا, فهؤلاء أهل القبلة . وإن كانت مصدقة ولم تعمل قبل ذلك خيرًا، فعملت بعد أن رأت الآية، لم يقبل منها . وإن عملت قبل الآية خيرًا، ثم عملت بعد الآية خيرًا, قُبل منها . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها ) ، قال: مَنْ أدركه بعضُ الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه، قَبِلَ الله منه العمل بعدَ نـزول الآية، كما قَبِلَ منه قبل ذلك . القول في تأويل قوله : قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ( 158 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام: انتظروا أن تأتيكم الملائكة بالموت فتقبض أرواحكم, أو أن يأتي ربكم لفصل القضاء بيننا وبينكم في موقف القيامة, أو أن يأتيكم طلوع الشمس من مغربها, فتطوى صحف الأعمال, ولا ينفعكم إيمانكم حينئذ إن آمنتم, حتى تعلموا حينئذ المحقَّ منا من المبطل, والمسيءَ من المحسن, والصادقَ من الكاذب, وتتبينوا عند ذلك بمن يحيق عذاب الله وأليم نكاله, ومَنْ الناجي منا ومنكم ومَنْ الهالك - إنا منتظرو ذلك, ليجزل الله لنا ثوابه على طاعتنا إياه, وإخلاصنا العبادة له, وإفرادناه بالربوبية دون ما سواه, ويفصل بيننا وبينكم بالحق, وهو خير الفاصلين . القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ( 159 ) قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة قوله: ( فرقوا ) . فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه, ما: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي إسحاق, عن عمرو بن دينار, أن عليًّا رضي الله عنه قرأ: « إنَّ الَّذِينَ فَارَقُوا دِينَهُمْ » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير قال، قال حمزة الزيات: قرأها علي رضي الله عنه: « فَارَقُوا دِينَهُمْ » . . . . وقال، حدثنا الحسن بن علي, عن سفيان, عن قتادة: « فَارَقُوا دِينَهُمْ » . وكأن عليًّا ذهب بقوله: « فارقوا دينهم » ، خرجوا فارتدوا عنه، من « المفارقة » . وقرأ ذلك عبد الله بن مسعود, كما:- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن رافع, عن زهير قال، حدثنا أبو إسحاق أن عبد الله كان يقرؤها: ( فَرَّقوا دِينَهُمْ ) . وعلى هذه القراءة أعني قراءة عبد الله قرأة المدينة والبصرة وعامة قرأة الكوفيين . وكأنّ عبد الله تأوّل بقراءته ذلك كذلك: أن دين الله واحد, وهو دين إبراهيم الحنيفية المسلمة, ففرّق ذلك اليهود والنصارى, فتهوّد قومٌ وتنصَّر آخرون, فجعلوه شيعًا متفرقة . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان, قد قرأت بكل واحدة منهما أئمة من القرأة, وهما متفقتا المعنى غير مختلفتيه . وذلك أن كل ضالّ فلدينه مفارق, وقد فرَّق الأحزابُ دينَ الله الذي ارتضاه لعباده, فتهود بعض وتنصر آخرون, وتمجس بعض. وذلك هو « التفريق » بعينه، ومصير أهله شيعًا متفرقين غير مجتمعين, فهم لدين الله الحقِّ مفارقون، وله مفرِّقون. فبأيِّ ذلك قرأ القارئ فهو للحق مصيب, غير أني أختار القراءة بالذي عليه عُظْم القرأة, وذلك تشديد « الراء » من « فرقوا » . ثم اختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: ( إن الذين فرّقوا دينهم ) . فقال بعضهم: عنى بذلك اليهود والنصارى . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد في قول الله: ( وكانوا شيعًا ) ، قال: يهود . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, بنحوه . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( فرقوا دينهم ) ، قال: هم اليهود والنصارى. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، من اليهود والنصارى. حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، هؤلاء اليهود والنصارى . وأما قوله: ( فارقوا دينهم ) ، فيقول: تركوا دينهم وكانوا شيعًا . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي, عن أبيه, عن ابن عباس قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد، فتفرقوا. فلما بعث محمد أنـزل الله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، يعني اليهود والنصارى . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي, عن شيبان, عن قتادة: « فارقوا دينهم » ، قال: هم اليهود والنصارى . وقال آخرون: عنى بذلك أهلَ البدع من هذه الأمة، الذين اتبعوا متشابه القرآن دون محكمه . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: ( إن الذين فرقوا دينهم ) ، قال: نـزلت هذه الآية في هذه الأمة . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ) ، قال: هم أهل الصلاة . حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد قال: كتب إليّ عباد بن كثير قال، حدثني ليث, عن طاوس, عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في هذه الآية: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، وليسوا منك, هم أهل البدع، وأهل الشبهات، وأهل الضلالة من هذه الأمة . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فارق دينه الحق وفرقه, وكانوا فرقًا فيه وأحزابًا شيعًا, وأنه ليس منهم. ولا هم منه، لأن دينه الذي بعثه الله به هو الإسلام، دين إبراهيم الحنيفية، كما قال له ربه وأمره أن يقول: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ سورة الأنعام: 161 ] . فكان من فارق دينه الذي بعث به صلى الله عليه وسلم من مشرك ووثنيّ ويهودي ونصرانيّ ومتحنِّف مبتدع قد ابتدع في الدين ما ضلّ به عن الصراط المستقيم والدين القيم ملة إبراهيم المسلم, فهو بريء من محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد منه بريء, وهو داخل في عموم قوله: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) . وأما قوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: نـزلت هذه الآية على نبيّ الله بالأمر بترك قتال المشركين قبل وُجوب فرض قتالهم, ثم نسخها الأمر بقتالهم في « سورة براءة » , وذلك قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . [ سورة التوبة: 5 ] . ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، لم يؤمر بقتالهم, ثم نسخت, فأمر بقتالهم في « سورة براءة » . وقال آخرون: بل نـزلت على النبي صلى الله عليه وسلم إعلامًا من الله له أنَّ من أمته من يُحْدث بعده في دينه. وليست بمنسوخة, لأنها خبرٌ لا أمر, والنسخ إنما يكون في الأمر والنهي . ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا مالك بن مغول, عن علي بن الأقمر, عن أبي الأحوص, أنه تلا هذه الآية: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) ، ثم يقول: بريء نبيكم صلى الله عليه وسلم منهم . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن إدريس وأبو أسامة ويحيى بن آدم, عن مالك بن مغول, بنحوه . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا شجاع أبو بدر, عن عمرو بن قيس الملائي قال، قالت أم سلمة: ليتّق امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ! ثم قرأت: ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا لست منهم في شيء ) قال عمرو بن قيس: قالها مُرَّة الطيِّب، وتلا هذه الآية . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قوله: ( لست منهم في شيء ) ، إعلام من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه من مبتدعة أمته الملحدة في دينه بريء, ومن الأحزاب من مشركي قومه، ومن اليهود والنصارى . وليس في إعلامه ذلك ما يوجب أن يكون نهاه عن قتالهم, لأنه غير محال أن في الكلام: « لست من دين اليهود والنصارى في شيء فقاتلهم. فإن أمرهم إلى الله في أن يتفضل على من شاء منهم فيتوب عليه, ويهلك من أراد إهلاكه منهم كافرًا فيقبض روحه, أو يقتله بيدك على كفره, ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون عند مقدَمهم عليه » . وإذ كان غير مستحيل اجتماع الأمر بقتالهم, وقوله: ( لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ) ، ولم يكن في الآية دليلٌ واضح على أنها منسوخة، ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبرٌ كان غير جائز أن يُقْضَى عليها بأنها منسوخة، حتى تقوم حجةٌ موجبةٌ صحةَ القول بذلك، لما قد بينا من أن المنسوخ هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة، في كتابنا كتاب: « اللطيف عن أصول الأحكام » . وأما قوله: ( إنما أمرهم إلى الله ) ، فإنه يقول: أنا الذي إليَّ أمر هؤلاء المشركين الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا, والمبتدعة من أمتك الذين ضلوا عن سبيلك, دونك ودون كل أحد. إما بالعقوبة إن أقاموا على ضلالتهم وفُرْقتهم دينهم فأهلكهم بها, وإما بالعفو عنهم بالتوبة عليهم والتفضل مني عليهم ( ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) ، يقول: ثم أخبرهم في الآخرة عند ورودهم عليَّ يوم القيامة بما كانوا يفعلون، فأجازي كلا منهم بما كانوا في الدنيا يفعلون, المحسنَ منهم بالإحسان، والمسيء بالإساءة . ثم أخبر جل ثناؤه ما مبلغ جزائه من جازى منهم بالإحسان أو بالإساءة فقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ . القول في تأويل قوله : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 160 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: من وافَى ربَّه يوم القيامة في موقف الحساب، من هؤلاء الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعًا، بالتوبة والإيمان والإقلاع عما هو عليه مقيم من ضلالته, وذلك هو الحسنة التي ذكرها الله فقال: من جاء بها فله عشر أمثالها . ويعني بقوله: ( فله عشر أمثالها ) ، فله عشر حسنات أمثال حسنته التي جاء بها ( ومن جاء بالسيئة ) ، يقول: ومن وافى يوم القيامة منهم بفراق الدِّين الحقّ والكفر بالله, فلا يجزى إلا ما ساءه من الجزاء, كما وافى الله به من عمله السيئ ( وهم لا يظلمون ) ، يقول: ولا يظلم الله الفريقين، لا فريق الإحسان, ولا فريق الإساءة, بأن يجازي المحسن بالإساءة والمسيء بالإحسان، ولكنه يجازي كلا الفريقين من الجزاء ما هو له, لأنه جل ثناؤه حكيمٌ لا يضع شيئًا إلا في موضعه الذي يستحق أن يضعه فيه, ولا يجازي أحدًا إلا بما يستحقّ من الجزاء . وقد دللنا فيما مضى على أن معنى « الظلم » ، وضع الشيء في غير موضعه، بشواهده المغنية عن إعادتها في هذا الموضع . قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما ذكرت، من أن معنى « الحسنة » في هذا الموضع: الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، والتصديق برسوله « والسيئة » فيه: الشرك به، والتكذيب لرسوله أفللإيمان أمثال فيجازى بها المؤمن؟ وإن كان له مثل، فكيف يجازى به, و « الإيمان » ، إنما هو عندك قول وعمل, والجزاء من الله لعباده عليه الكرامة في الآخرة, والإنعام عليه بما أعدّ لأهل كرامته من النعيم في دار الخلود, وذلك أعيان ترى وتعاين وتحسّ ويلتذّ بها, لا قول يسمع، ولا كسبُ جوارح؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبتَ إليه, وإنما معناه: من جاء بالحسنة فوافَى الله بها له مطيعًا, فإن له من الثواب ثواب عشر حسنات أمثالها . فإن قال: قلت فهل لقول « لا إله إلا الله » من الحسنات مثل؟ قيل: له مثل هو غيره, [ ولكن له مثل هو قول لا إله إلا الله ] , وذلك هو الذي وعد الله جل ثناؤه من أتاه به أن يجازيه عليه من الثواب بمثل عشرة أضعاف ما يستحقه قائله. وكذلك ذلك فيمن جاء بالسيئة التي هي الشرك, إلا أنه لا يجازى صاحبها عليها إلا ما يستحقه عليها من غير إضعافه عليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير قال: لما نـزلت: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال رجل من القوم: فإنّ « لا إله إلا الله » حسنة؟ قال: نعم, أفضل الحسنات . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث, عن الأعمش والحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله: ( من جاء بالحسنة ) ، لا إله إلا الله . حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا حفص قال، حدثنا الأعمش والحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله قال: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: من جاء بلا إله إلا الله. قال: ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل, عن الحسن بن عبيد الله, عن جامع بن شداد, عن الأسود بن هلال, عن عبد الله: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا معاوية بن عمرو المعنَّى، عن زائدة, عن عاصم, عن شقيق: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان, عن أشعث, عن جعفر, عن سعيد وعن عثمان بن الأسود, عن مجاهد والقاسم بن أبي بزة: ( من جاء بالحسنة ) ، قالوا: لا إله إلا الله، كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قالوا: بالشرك وبالكفر . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير وابن فضيل, عن عبد الملك, عن عطاء: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك . حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا موسى بن عبيدة, عن محمد بن كعب: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: لا إله إلا الله . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن أبي المحجل, عن إبراهيم: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك . حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان, عن أبي المحجل, عن أبي معشر, عن إبراهيم, مثله . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سفيان, عن أبي المحجل, عن إبراهيم, مثله . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير, عن أبي المحجل, عن أبي معشر قال: كان إبراهيم يحلف بالله ما يستثني: أنّ ( من جاء بالحسنة ) ، لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، من جاء بالشرك . حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك, عن عطاء, في قوله: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: كلمة الإخلاص، لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) قال: بالشرك . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وحدثنا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو نعيم جميعًا, عن سفيان, عن الأعمش, عن أبي صالح: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير, عن عثمان بن الأسود, عن القاسم بن أبي بزة: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: كلمة الإخلاص ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الكفر . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي, عن سلمة, عن الضحاك: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر, عن أشعث, عن الحسن: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله . حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن سالم, عن سعيد: ( من جاء بالحسنة ) ، قال: لا إله إلا الله . حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك, عن ليث, عن مجاهد, مثله . حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية, عن علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس قوله: ( من جاء بالحسنة ) ، يقول: من جاء بلا إله إلا الله ( ومن جاء بالسيئة ) ، قال: الشرك . حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: الأعمال ستة: مُوجِبة ومُوجِبة, ومُضْعِفة ومُضْعِفة, ومِثْل ومِثْل . فأما الموجبتان: فمن لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة, ومن لقي الله مشركًا به دخل النار. وأما المضعف والمضعف: فنفقة المؤمن في سبيل الله سبعمئة ضعف, ونفقته على أهل بيته عشر أمثالها . وأما مثل ومثل: فإذا همّ العبد بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة, وإذا هم بسيئة ثم عملها كتبت عليه سيئة . حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا الأعمش, عن شمر بن عطية, عن شيخ من التيم, عن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله، علمني عملا يقرِّبني إلى الجنة ويباعدني من النار . قال: إذا عملت سيئة فاعمل حسنة, فإنها عشر أمثالها . قال: قلت: يا رسول الله, « لا إله إلا الله » من الحسنات؟ قال: هي أحسن الحسنات . وقال قوم: عني بهذه الآية الأعراب، فأما المهاجرون فإن حسناتهم سبعمئة ضعف أو أكثر . ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي, عن قتادة, عن أبي الصديق الناجي, عن أبي سعيد الخدري في قوله: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: هذه للأعراب, وللمهاجرين سبعمئة . حدثنا محمد أبو نشيط بن هارون الحربي قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير قال، حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي, عن عبد الله بن عمر قال: نـزلت هذه الآية في الأعراب: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، قال: قال رجل: فما للمهاجرين؟ قال: ما هو أعظم من ذلك: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ، [ سورة النساء: 40 ] وإذا قال الله لشيء: « عظيم » , فهو عظيم . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر, عن الربيع قال: نـزلت هذه الآية: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ، وهم يصومون ثلاثة أيام من الشهر، ويؤدّون عشر أموالهم. ثم نـزلت الفرائض بعد ذلك: صوم رمضان والزكاة . فإن قال قائل: وكيف قيل « عشر أمثالها » , فأضيف « العشر » إلى « الأمثال » , وهي « الأمثال » ؟ وهل يضاف الشيء إلى نفسه؟ قيل: أضيفت إليها لأنه مرادٌ بها: فله عشر حسنات أمثالها, فـ « الأمثال » حلّت محل المفسّر, وأضيف « العشر » إليها, كما يقال: « عندي عشر نسوة » , فلأنه أريد بالأمثال مقامها، فقيل: « عشر أمثالها » , فأخرج « العشر » مخرج عدد الحسنات, و « المثل » مذكر لا مؤنث, ولكنها لما وضعت موضع الحسنات, وكان « المثل » يقع للمذكر والمؤنث, فجعلت خلفًا منها, فعل بها ما ذكرت. ومَنْ قال: « عندي عشر أمثالها » , لم يقل: « عندي عشر صالحات » , لأن « الصالحات » فعل لا يعدّ, وإنما تعدّ الأسماء. و « المثل » اسم, ولذلك جاز العدد به . وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: « فَلَهُ عَشْرٌ » بالتنوين، « أَمْثَالُهَا » بالرفع. وذلك على وجه صحيح في العربية, غير أن القرأة في الأمصار على خلافها, فلا نستجيز خلافها فيما هي عليه مُجْمِعة . القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 161 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنامَ ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، يقول: قل لهم إنني أرشدني ربي إلى الطريق القويم, هو دين الله الذي ابتعثه به, وذلك الحنيفية المسلمة, فوفقني له ( دينًا قيمًا ) ، يقول: مستقيمًا ( ملة إبراهيم ) ، يقول: دين إبراهيم ( حنيفًا ) يقول: مستقيمًا ( وما كان من المشركين ) ، يقول: وما كان من المشركين بالله, يعني إبراهيم صلوات الله عليه, لأنه لم يكن ممن يعبد الأصنام . واختلفت القرأة في قراءة قوله: ( دينًا قيمًا ) . فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض البصريين: « دِينًا قَيِّمًا » بفتح « القاف » وتشديد « الياء » ، إلحاقًا منهم ذلك بقول الله: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [ سورة التوبة: 36 / سورة يوسف: 40 / سورة الروم: 30 ] . وبقوله: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [ سورة البينة: 5 ] . وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: ( دِينًا قِيَمًا ) بكسر « القاف » وفتح « الياء » وتخفيفها. وقالوا: « القيِّم » و « القِيَم » بمعنى واحد, وهم لغتان معناهما: الدين المستقيم . قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مشهورتان في قرأة الأمصار, متفقتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب مصيبٌ, غير أن فتح « القاف » وتشديد « الياء » أعجب إليّ, لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما . ونصب قوله: ( دينًا ) على المصدر من معنى قوله: ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، وذلك أن المعنى: هداني ربي إلى دين قويم, فاهتديت له « دينا قيما » فالدين منصوب من المحذوف الذي هو « اهتديت » ، الذي ناب عنه قوله: ( إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ) . وقال بعض نحويي البصرة: إنما نصب ذلك، لأنه لما قال: ( هداني ربي إلى صراط مستقيم ) ، قد أخبر أنه عرف شيئًا, فقال: « دينًا قيمًا » ، كأنه قال: عرفت دينًا قيما ملّة إبراهيم . وأما معنى الحنيف, فقد بينته في مكانه في « سورة البقرة » بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . القول في تأويل قوله : قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 162 ) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ( 163 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام, الذين يسألونك أن تتبع أهواءهم على الباطل من عبادة الآلهة والأوثان ( إن صلاتي ونسكي ) ، يقول: وذبحي ( ومحياي ) ، يقول: وحياتي ( ومماتي ) يقول: ووفاتي ( لله رب العالمين ) ، يعني: أن ذلك كله له خالصًا دون ما أشركتم به، أيها المشركون، من الأوثان ( لا شريك له ) في شيء من ذلك من خلقه, ولا لشيء منهم فيه نصيب, لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا له خالصًا ( وبذلك أمرت ) ، يقول: وبذلك أمرني ربي ( وأنا أول المسلمين ) ، يقول: وأنا أوّل من أقرَّ وأذْعن وخضع من هذه الأمة لربه بأن ذلك كذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . * ذكر من قال: « النسك » ، في هذا الموضع، الذبح. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام, عن عنبسة, عن محمد بن عبد الرحمن, عن القاسم بن أبي بزة, عن مجاهد: ( إن صلاتي ونسكي ) ، قال: « النسك » ، الذبائح في الحج والعمرة . حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, في قول الله: ( ونسكي ) ، ذبحي في الحج والعمرة . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: ( ونسكي ) ، ذبيحتي في الحج والعمرة . حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان, عن إسماعيل, وليس بابن أبي خالد, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: ذبحي . حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري, عن إسماعيل, عن سعيد بن جبير في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: ذبحي . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, عن سفيان, عن إسماعيل، عن سعيد بن جبير قال ابن مهدي: لا أدري من « إسماعيل » هذا ! ( صلاتي ونسكي ) ، قال: صلاتي وذبيحتي . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا الثوري, عن إسماعيل بن أبي خالد, عن سعيد بن جبير, في قوله: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: وذبيحتي . حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة: ( ونسكي ) ، قال: ذبحي . حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي قوله: ( ونسكي ) ، قال: ذبيحتي . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي, عن جويبر, عن الضحاك: ( صلاتي ونسكي ) ، قال: « الصلاة » ، الصلاة, و « النسك » ، الذبح . وأما قوله: ( وأنا أوّل المسلمين ) ، فإن:- محمد بن عبد الأعلى حدثنا قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر، عن قتادة: ( وأنا أول المسلمين ) ، قال: أول المسلمين من هذه الأمة . القول في تأويل قوله : قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان, الداعيك إلى عبادة الأصنام واتباع خطوات الشيطان ( أغير الله أبغي ربًّا ) ، يقول: أسوى الله أطلب سيدًا يسودني ؟ ( وهو رب كل شيء ) ، يقول: وهو سيد كل شيء دونه ومدبّره ومصلحه ( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ) ، يقول: ولا تجترح نفس إثمًا إلا عليها، أي: لا يؤخذ بما أتت من معصية الله تبارك وتعالى، وركبت من الخطيئة، سواها, بل كل ذي إثم فهو المعاقب بإثمه والمأخوذ بذنبه ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ، يقول: ولا تأثم نفس آثمة بإثم نفس أخرى غيرها, ولكنها تأثم بإثمها، وعليه تعاقب، دون إثم أخرى غيرها . وإنما يعني بذلك المشركين الذين أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول لهم. يقول: قل لهم: إنا لسنا مأخوذين بآثامكم, وعليكم عقوبة إجرامكم, ولنا جزاء أعمالنا . وهذا كما أمره الله جل ثناؤه في موضع آخر أن يقول لهم: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [ سورة الكافرون:6 ] ، وذلك كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال: كان في ذلك الزمان، لا مخرج للعلماء العابدين إلا إحدى خَلَّتين: إحداهما أفضل من صاحبتها. إمَّا أمرٌ ودعاء إلى الحق, أو الاعتزال فلا تشارك أهل الباطل في عملهم, وتؤدي الفرائض فيما بينك وبين ربك, وتحبّ لله وتبغض لله, ولا تشارك أحدًا في إثم . قال: وقد أنـزل في ذلك آية محكمة: ( قل أغير الله أبغي ربًا وهو رب كل شيء ) ، إلى قوله: فِيهِ تَخْتَلِفُونَ , وفي ذلك قال: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [ سورة البينة: 4 ] . يقال من « الوزر » « وزَر يَزِر » , « و وزَرَ يَوْزَر » , و « وُزِرَ يُؤزر، فهو موزور » . القول في تأويل قوله : ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 164 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان: كل عامل منا ومنكم فله ثواب عمله، وعليه وزره, فاعملوا ما أنتم عاملوه - ( ثم إلى ربكم ) ، أيها الناس ( مرجعكم ) ، يقول: ثم إليه مصيركم ومنقلبكم ( فينبئكم بما كنتم فيه ) ، في الدنيا, ( تختلفون ) من الأديان والملل, إذ كان بعضكم يدين باليهودية, وبعضٌ بالنصرانية, وبعض بالمجوسية, وبعض بعبادة الأصنام وادِّعاء الشركاء مع الله والأنداد, ثم يجازي جميعَكم بما كان يعمل في الدنيا من خير أو شر, فتعلموا حينئذ من المحسنُ منَّا والمسيء . القول في تأويل قوله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته: والله الذي جعلكم، أيها الناس، ( خلائفَ الأرض ) ، بأن أهلك مَنْ كان قبلكم من القرون والأمم الخالية, واستخلفكم، فجعلكم خلائف منهم في الأرض, تخلفونهم فيها, وتعمرُونها بعدَهم . و « الخلائف » جمع « خليفة » , كما « الوصائف » جمع « وصيفة » , وهي من قول القائل: « خَلَف فلان فلانًا في داره يخلُفه خِلافة، فهو خليفة فيها » , كما قال الشماخ: تُصِيبُهُـــمُ وَتُخْـــطِئُنِي المَنَايــا وَأَخْــلُفُ فِـي رُبُـوعٍ عَـنْ رُبُـوعِ وذلك كما:- حدثني الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ) ، قال: أما « خلائف الأرض » ، فأهلك القرون واستخلفنا فيها بعدهم . وأما قوله: ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) ، فإنه يقول: وخالف بين أحوالكم, فجعل بعضكم فوق بعض, بأن رفع هذا على هذا، بما بسط لهذا من الرزق ففضّله بما أعطاه من المال والغِنى، على هذا الفقير فيما خوَّله من أسباب الدنيا, وهذا على هذا بما أعطاه من الأيْد والقوة على هذا الضعيف الواهن القُوى, فخالف بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا، وخفض من درجة هذا عن درجة هذا . وذلك كالذي:- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: ( ورفع بعضكم فوق بعض درجات ) ، يقول: في الرزق . وأما قوله: ( ليبلوكم في ما آتاكم ) ، فإنه يعني: ليختبركم فيما خوَّلكم من فضله ومنحكم من رزقه, فيعلم المطيع له منكم فيما أمره به ونهاه عنه، والعاصي؛ ومن المؤدِّي مما آتاه الحق الذي أمره بأدائه منه، والمفرِّط في أدائه . القول في تأويل قوله : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 165 ) قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « إن ربك » ، يا محمد، لسريع العقاب لمن أسخطه بارتكابه معاصيه، وخلافه أمره فيما أمره به ونهاه, ولمن ابتلى منه فيما منحه من فضله وطَوْله, تولِّيًا وإدبارًا عنه, مع إنعامه عليه، وتمكينه إياه في الأرض, كما فعل بالقرون السالفة ( وإنه لغفور ) ، يقول: وإنه لساتر ذنوبَ مَنْ ابتلى منه إقبالا إليه بالطاعة عند ابتلائه إياه بنعمة, واختباره إياه بأمره ونهيه, فمغطٍّ عليه فيها، وتارك فضيحته بها في موقف الحساب ( رحيم ) بتركه عقوبته على سالف ذنوبه التي سلفت بينه وبينه، إذ تاب وأناب إليه قبل لقائه ومصيره إليه. آخر تفسير سورة الأنعام الرئيسة المصحف الإلكتروني www.e----------quran.com. جميع الحقوق محفوظة. --------------------- فهرس تفسير الطبري للسور 10 - تفسير الطبري سورة يونس التالي السابق سورة يونس القول في تأويل قوله تعالى : الر قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم تأويله: أنا الله أرى. ذكر من قال ذلك: حدثنا يحيى بن داود بن ميمون الواسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي روق، عن الضحاك، في قوله : ( الر ) ، أنا الله أرى. حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قوله: ( الر ) ، قال: أنا الله أرى. وقال آخرون: هي حروف من اسم الله الذي هو « الرحمن » . ذكر من قال ذلك: حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن الحسين قال حدثني أبي، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( الر ) و ( حم ) و ( نون ) حروف « الرَّحمن » مقطعةً. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا عيسى بن عبيد عن الحسين بن عثمان قال: ذكر سالم بن عبد الله: ( الر ) و ( حم ) و ( نون ) ، فقال: اسم « الرحمن » مقطع ثم قال: « الرحمن » . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا مندل عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: ( الر ) و ( حم ) و ( نون ) ، هو اسم « الرحمن » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو الكلبي، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن عامر : أنه سئل عن: ( الر ) و ( حم ) و ( ص ) ، قال: هي أسماء من أسماء الله مقطعة بالهجاء، فإذا وصلتها كانت اسمًا من أسماء الله تعالى. وقال آخرون: هي اسم من أسماء القرآن. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( الر ) ، اسم من أسماء القرآن. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا اختلاف الناس ، وما إليه ذهب كل قائل في الذي قال فيه وما الصواب لدينا من القول في ذلك في نظيره، وذلك في أول « سورة البقرة » ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. وإنما ذكرنا في هذا الموضع القدرَ الذي ذكرنا ، لمخالفة من ذكرنا قوله في هذا ، قوله في ( الم ) ، فأما الذين وفَّقوا بيْن معاني جميع ذلك، فقد ذكرنا قولهم هناك ، مكتفًى عن الإعادة ههنا. القول في تأويل قوله تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ( 1 ) قال أبو جعفر: اختلف في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تلك آيات التوراة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجاهد: ( تلك آيات الكتاب الحكيم ) ، قال: التوراة والإنجيل. . . . . قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة: ( تلك آيات الكتاب ) ، قال: الكُتُب التي كانت قبل القرآن. وقال آخرون: معنى ذلك: هذه آيات القرآن. قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوّله: « هذه آيات القرآن » ، ووجّه معنى ( تلك ) إلى معنى « هذه » ، وقد بينا وجه توجيه ( تلك ) إلى هذا المعنى في « سورة البقرة » ، بما أغنى عن إعادته. و ( الآيات ) ، الأعلام و ( الكتاب ) ، اسم من أسماء القرآن، وقد بينا كل ذلك فيما مضى قبل. وإنما قلنا: هذا التأويل أولى في ذلك بالصواب، لأنه لم يجيء للْتوراة والإنجيل قبلُ ذكرٌ ولا تلاوةٌ بعدُ، فيوجه إليه الخبر. فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: والرحمن، هذه آيات القرآن الحكيم. ومعنى ( الحكيم ) ، في هذا الموضع، « المحكم » ، صرف « مُفْعَل » إلى « فعيل » ، كما قيل: عَذَابٌ أَلِيمٌ ، بمعنى مؤلم، وكما قال الشاعر: *أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ* وقد بينا ذلك في غير موضع من الكتاب. فمعناه إذًا: تلك آيات الكتاب المحكم ، الذي أحكمه الله وبينه لعباده، كما قال جل ثناؤه: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [ سورة هود : 1 ] القول في تأويل قوله تعالى : أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أكان عجبًا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم بإنذارهم عقابَ الله على معاصيه، كأنهم لم يعلموا أنَّ الله قد أوحى من قبله إلى مثله من البشر، فتعجَّبوا من وحينا إليه. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: اللهُ أعظمُ من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد ! فأنـزل الله تعالى: ( أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم ) ، وقال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا [ سورة يوسف: 109 ] . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: عجبت قريش أن بُعث رجل منهم. قال: ومثل ذلك: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [ سورة الأعراف: 65 ] ، وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ، [ سورة الأعراف: 73 ] ، قال الله: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ ، [ سورة الأعراف: 69 ] . القول في تأويل قوله تعالى : وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أما كان عجبًا للناس أن أوحينا إلى رجل منهم : أن أنذر الناس، وأن بشر الذين آمنوا بالله ورسوله: ( أن لهم قدم صدق ) ، عطفٌ على ( أنذر ) . واختلف أهل التأويل في معنى قوله: ( قدم صدق ) ، فقال بعضهم: معناه: أن لهم أجرًا حسنًا بما قدَّموا من صالح الأعمال. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال: ثواب صِدق. . . . . قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال: الأعمال الصالحة. حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، يقول: أجرًا حسنًا بما قدَّموا من أعمالهم. حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حبان، عن إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث، عن مجاهد: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال: صلاتهم وصومهم، وصدقتُهم، وتسبيحُهم. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( قدم صدق ) ، قال: خير. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( قدم صدق ) ، مثله. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: ( قدم صدق ) ، ثواب صدق ( عند ربهم ) . حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق ) ، قال: « القدم الصدق » ، ثواب الصّدق بما قدّموا من الأعمال. وقال آخرون: معناه: أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح عن علي، عن ابن عباس قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، يقول: سبقت لهم السعادة في الذِّكر الأَوّل. وقال آخرون: معنى ذلك أنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم، قَدَمَ صدق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل بن عمرو بن الجون، عن قتادة أو الحسن : ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال: محمدٌ شفيعٌ لهم. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) : أي سلَفَ صدقٍ عند ربهم. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، في قوله: ( أن لهم قدم صدق عند ربهم ) ، قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثوابَ. وذلك أنه محكيٌّ عن العرب: « هؤلاء أهْلُ القَدَم في الإسلام » أي هؤلاء الذين قدَّموا فيه خيرًا، فكان لهم فيه تقديم. ويقال: « له عندي قدم صِدْق ، وقدم سوء » ، وذلك ما قدَّم إليه من خير أو شر، ومنه قول حسان بن ثابت: لَنَــا القَــدَمُ العُلْيَـا إِلَيْـكَ وَحَلْفُنَـا لأَوّلِنَــا فِــي طَاعَــةِ اللـهِ تَـابِعُ وقول ذي الرمة: لَكُــمْ قَــدَمٌ لا يُنْكِـرُ النَّـاسُ أَنَّهَـا مَـعَ الحَسَـبِ العَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى البَحْرِ قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وبشر الذين آمنوا أنّ لهم تقدِمة خير من الأعمال الصالحة عند ربِّهم. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ( 2 ) قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: ( إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ) ، بمعنى: إن هذا الذي جئتنا به يعنون القرآن لسحر مبين. وقرأ ذلك مسروق، وسعيد بن جبير ، وجماعة من قراء الكوفيين: ( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ ) . وقد بينت فيما مضى من نظائر ذلك: أن كل موصوف بصفةٍ ، يدل الموصوف على صفته، وصفته عليه. والقارئ مخيَّرٌ في القراءة في ذلك، وذلك نظير هذا الحرف: ( قال الكافرون إن هذا لسحر مبين ) ، و « لساحر مبين » . وذلك أنهم إنما وصفوه بأنه « ساحر » ، ووصفهم ما جاءهم به أنه « سحر » يدل على أنهم قد وصفوه بالسحر. وإذْ كان ذلك كذلك ، فسواءٌ بأيِّ ذلك قرأ القارئ، لاتفاق معنى القراءتين. وفي الكلام محذوف ، استغني بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره ، وهو: « فلما بشرهم وأنذرهم وتلا عليهم الوحي » قال الكافرون : إن هذا الذي جاءنا به لسحرٌ مبين. قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذًا: أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم: أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم؟ فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم، قال المنكرون توحيد الله ورسالة رسوله: إن هذا الذي جاءنا به محمدٌ لسحر مبين أي : يبين لكم عنه أنه مبطِلٌ فيما يدعيه. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ( 3 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إن ربكم الذي له عبادة كل شيء، ولا تنبغي العبادة إلا له، هو الذي خلق السماوات السبع والأرضين السبع في ستة أيام، وانفرد بخلقها بغير شريك ولا ظهيرٍ، ثم استوى على عرشه مدبرًا للأمور ، وقاضيًا في خلقه ما أحبّ، لا يضادُّه في قضائه أحدٌ، ولا يتعقب تدبيره مُتَعَقِّبٌ، ولا يدخل أموره خلل. ( ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ، يقول : لا يشفع عنده شافع يوم القيامة في أحد ، إلا من بعد أن يأذن في الشفاعة « ( ذلكم الله ربكم ) ، يقول جل جلاله : هذا الذي هذه صفته ، سيِّدكم ومولاكم ، لا من لا يسمع ولا يبصر ولا يدبِّر ولا يقضي من الآلهة والأوثان ( فاعبدوه ) ، يقول : فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته ، وأخلصوا له العبادة ، وأفردوا له الألوهية والربوبية ، بالذلة منكم له ، دون أوثانكم وسائر ما تشركون معه في العبادة ( أفلا تذكرون ) ، يقول : أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الآيات والحجج ، فتنيبون إلى الإذعان بتوحيدِ ربكم وإفراده بالعبادة، وتخلعون الأنداد وتبرؤون منها؟ » وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يدبر الأمر ) ، قال: يقضيه وحدَه. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: ( يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ) ، قال: يقضيه وحده. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يدبر الأمر ) قال: يقضيه وحده. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى : إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 4 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إلى ربكم الذي صفته ما وصَفَ جل ثناؤه في الآية قبل هذه ، معادُكم ، أيها الناس ، يوم القيامة جميعًا. ( وعد الله حقا ) فأخرج ( وعد الله ) مصدَّرًا من قوله: ( إليه مرجعكم ) ، لأنه فيه معنى « الوعد » ، ومعناه: يعدكم الله أن يحييكم بعد مماتكم وعدًا حقًّا، فلذلك نصب ( وعد الله حقا ) ( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) يقول تعالى ذكره: إن ربكم يبدأ إنشاء الخلق وإحداثه وإيجاده ( ثم يعيده ) ، يقول : ثم يعيده فيوجده حيًّا كهيئته يوم ابتدأه ، بعد فنائه وبَلائِه. كما:- حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( يبدأ الخلق ثم يعيده ) ، قال: يحييه ثم يميته قال أبو جعفر: وأحسبه أنا قال: « ثم يحييه » . حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: ( يبدأ الخلق ثم يعيده ) ، قال: يحييه ثم يميته، ثم يحييه. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ) ، : يحييه ، ثم يميته، ثم يبدؤه ، ثم يحييه. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، بنحوه. وقرأت قراء الأمصار ذلك: ( إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ) ، بكسر الألف من ( إنه ) ، على الاستئناف. وذكر عن أبي جعفر الرازي أنه قرأه ( أَنَّهُ ) بفتح الألف من ( أنه ) . كأنه أراد: حقًّا أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، ف « أنّ » حينئذ تكون رفعًا، كما قال الشاعر: أحَقًّــا عِبَـادَ اللـهِ أَنْ لَسْـتُ زَائِـرًا رُبَــى جَنَّــة إِلا عَــلَيَّ رَقِيــبُ وقوله: ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ) ، يقول: ثم يعيده من بعد مماته كهيئته قبل مماته عند بعثه من قبره ( ليجزي الذين آمنوا ) ليثيب من صدّق الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به من الأعمال ، واجتنبوا ما نهاهم عنه ، على أعمالهم الحسنة ( بالقسط ) يقول: ليجزيهم على الحسن من أعمالهم التي عملوها في الدنيا الحسنَ من الثواب ، والصالحَ من الجزاء في الآخرة وذلك هو « القسط » ، و « القسط » العدلُ والإنصاف، كما:- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( بالقسط ) ، بالعدل. وقوله: ( والذين كفروا لهم شَرَاب من حميم ) ، فإنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عما أعدَّ الله للذين كفروا من العذاب، وفيه معنى العطف على الأول. لأنه تعالى ذكره عمَّ بالخبر عن معادِ جميعهم ، كفارهم ومؤمنيهم ، إليه. ثم أخبر أن إعادتهم ليجزي كلَّ فريق بما عمل المحسنَ منهم بالإحسان ، والمسيءَ بالإساءة. ولكن لما كان قد تقدم الخبر المستأنفُ عما أعدّ للذين كفروا من العذاب ، ما يدلُّ سامعَ ذلك على المرادِ ، ابتدأ الخبر ، والمعنيُّ العطف فقال: والذين جحدوا الله ورسولَه وكذبوا بآيات الله ( لهم شراب ) في جهنم ( من حميم ) وذلك شراب قد أُغلي واشتدّ حره ، حتى إنه فيما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ليتساقطُ من أحدهم حين يدنيه منه فروةُ رأسه، وكما وصفه جل ثناؤه: كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ، [ سورة الكهف: 29 ] . وأصله : « مفعول » صرف إلى « فعيل » ، وإنما هو « محموم » : أي مسخّن، وكل مسخَّن عند العرب فهو حميم، ومنه قول المرقش: وَكُـــلُّ يَـــوْمٍ لَهَــا مِقْطَــرَةٌ فِيهَـــا كِبَــاءٌ مُعَــدٌّ وَحَــمِيمْ يعني ب « الحميم » ، الماء المسخَّن. وقوله: ( عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ، يقول: ولهم مع ذلك عذاب موجع، سوى الشراب من الحميم، بما كانوا يكفرون بالله ورسوله. القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 5 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض ( هو الذي جعل الشمس ضياء ) ، بالنهار ( والقمر نورًا ) بالليل. ومعنى ذلك: هو الذي أضاء الشمسَ وأنار القمر ( وقدّره منازل ) ، يقول: قضاه فسوّاه منازلَ ، لا يجاوزها ولا يقصر دُونها ، على حالٍ واحدةٍ أبدًا. وقال: ( وقدّره منازل ) ، فوحّده، وقد ذكر « الشمس » و « القمر » ، فإن في ذلك وجهين: أحدهما : أن تكون « الهاء » في قوله: ( وقدره ) للقمر خاصة، لأن بالأهلة يُعرف انقضاءُ الشهور والسنين ، لا بالشمس. والآخر: أن يكون اكتفي بذكر أحدهما عن الآخر، كما قال في موضع آخر: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ، [ سورة التوبة: 62 ] ، وكما قال الشاعر: رَمَـانِي بِـأَمْرٍ كُـنْتُ مِنْـهُ وَوَالِـدِي بَرِيًّـا, وَمِـنْ جُـولِ الطَّـوِيِّ رَمَانِي وقوله: ( لتعلموا عدد السنين والحساب ) ، يقول: وقدّر ذلك منازل ( لتعلموا ) ، أنتم أيها الناس ( عدد السنين ) ، دخول ما يدخل منها، أو انقضاءَ ما يستقبل منها ، وحسابها يقول: وحساب أوقات السنين ، وعدد أيامها، وحساب ساعات أيامها ( مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ ) ، يقول جل ثناؤه: لم يخلق الله الشمس والقمر ومنازلهما إلا بالحق. يقول الحق تعالى ذكره: خلقت ذلك كله بحقٍّ وحدي، بغير عون ولا شريك ( يفصل الآيات ) يقول: يبين الحجج والأدلة ( لقوم يعلمون ) ، إذا تدبروها، حقيقةَ وحدانية الله وصحةَ ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم ، من خلع الأنداد ، والبراءة من الأوثان. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ( 6 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره ، منبِّهًا عبادَه على موضع الدّلالة على ربوبيته ، وأنه خالق كلِّ ما دونه: إن في اعتقاب الليل النهارَ ، واعتقاب النهار الليلَ، . إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب هذا، وفيما خلق الله في السماوات من الشمس والقمر والنجوم ، وفي الأرض من عجائب الخلق الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء ( لآيات ) ، يقول : لأدلة وحججًا وأعلامًا واضحةً ( لقوم يتقون ) الله، فيخافون وعيده ويخشون عقابه على إخلاص العبادة لربهم. فإن قال قائل: أوَ لا دلالة فيما خلق الله في السماوات والأرض على صانعه ، إلا لمن اتقى الله؟ قيل: في ذلك الدلالة الواضحةُ على صانعه لكل من صحَّت فطرته، وبرئ من العاهات قلبه. ولم يقصد بذلك الخبرَ عن أن فيه الدلالة لمن كان قد أشعرَ نفسه تقوى الله وإنما معناه: إن في ذلك لآيات لمن اتَّقى عقاب الله ، فلم يحمله هواه على خلاف ما وضحَ له من الحق، لأن ذلك يدلُّ كل ذي فطرة صحيحة على أن له مدبِّرًا يستحقّ عليه الإذعان له بالعبودة ، دون ما سواه من الآلهة والأنداد. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ ( 7 ) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 8 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يخافون لقاءَنا يوم القيامة، فهم لذلك مكذِّبون بالثواب والعقاب، متنافسون في زين الدنيا وزخارفها، راضُون بها عوضًا من الآخرة، مطمئنين إليها ساكنين والذين هم عن آيات الله وهي أدلته على وحدانيته، وحججه على عباده ، في إخلاص العبادة له ( غافلون ) ، معرضون عنها لاهون، لا يتأملونها تأمُّل ناصح لنفسه، فيعلموا بها حقيقة ما دلَّتهم عليه، ويعرفوا بها بُطُول ما هم عليه مقيمون ( أولئك مأواهم النار ) ، يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم ( مأواهم ) ، مصيرهم إلى النار نار جهنم في الآخرة ( بما كانوا يكسبون ) ، في الدنيا من الآثام والأجْرام، ويجْترحون من السيئات. والعرب تقول: « فلان لا يرجو فلانًا » : إذا كان لا يخافه. ومنه قول الله جل ثناؤه: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا . [ سورة نوح: 13 ] ، ومنه قول أبي ذؤيب: إِذَا لَسَـعَتْهُ النَّحْـلُ لَـمْ يُـرْج لَسْـعَهَا وَخَالَفهَـا فِـي بَيْـتِ نُـوب عَوَاسِـلِ وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واطمأنوا بها ) ، قال: هو مثل قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا . حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ) ، قال: هو مثل قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا [ سورة هود: 15 ] . حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون ) ، قال: إذا شئتَ رأيتَ صاحب دُنْيا، لها يفرح، ولها يحزن، ولها يسخط، ولها يرضى. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ) ، الآية كلها، قال: هؤلاء أهل الكفر. ثم قال: ( أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ) . القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ( 9 ) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 10 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، إن الذين صدَّقوا الله ورسوله ( وعملوا الصالحات ) ، وذلك العمل بطاعة الله والانتهاء إلى أمره ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) ، يقول: يرشدهم ربهم بإيمانهم به إلى الجنة، كما:- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ) بلغنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة حَسَنة فيقول له: ما أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ صِدْقٍ! فيقول: أنا عملك! فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة. وأما الكافر إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة سيئة وشارة سيئة فيقول: ما أنت ؟ فوالله إني لأراك امرأ سَوْء! فيقول: أنا عملك! فينطلق به حتى يدخله النار. حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) ، قال: يكون لهم نورًا يمشون به. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح. عن مجاهد، مثله. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله وقال ابن جريج: ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) ، قال: يَمْثُل له عمله في صورة حسنة وريحٍ طيبة، يعارِض صاحبه ويبشره بكل خير، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك! فيجعل له نورًا من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله: ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) . والكافر يَمْثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيلازم صاحبه ويُلازُّهُ حتى يقذفه في النار. وقال آخرون: معنى ذلك: بإيمانهم ، يهديهم ربهم لدينه. يقول: بتصديقهم هَدَاهم. ذكر من قال ذلك: . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وقوله: ( تجري من تحتهم الأنهار ) ، يقول: تجري من تحت هؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم ، أنهار الجنة ( في جنات النعيم ) ، يقول في بساتين النعيم ، الذي نعَّم الله به أهل طاعته والإيمان به. فإن قال قائل: وكيف قيل : ( تجري من تحتهم الأنهار ) ، وإنما وصف جل ثناؤه أنهار الجنة في سائر القرآن أنها تجري تحت الجنات؟ وكيف يمكن الأنهار أن تجري من تحتهم ، إلا أن يكونوا فوق أرضها والأنهار تجري من تحت أرضها؟ وليس ذلك من صفة أنهار الجنة، لأن صفتها أنها تجري على وجه الأرض في غير أخاديد؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى ذلك: تجري من دونهم الأنهار إلى ما بين أيديهم في بساتين النعيم، وذلك نظير قول الله: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [ سورة مريم: 24 ] . ومعلوم أنه لم يجعل « السري » تحتها وهي عليه قاعدة إذ كان « السري » هو الجدول وإنما عني به : جعل دونها: بين يديها، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل فرعون، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ، [ سورة الزخرف: 51 ] ، بمعنى: من دوني، بين يديّ. وأما قوله: ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) ، فإن معناه: دعاؤهم فيها : سبحانك اللهم، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله: ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) ، قال: إذا مرّ بهم الطيرُ يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم! وذلك دعواهم، فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فيسلم عليهم فيردّون عليه، فذلك قوله: ( وتحيتهم فيها سلام ) . قال: فإذا أكلوا حمدوا الله ربّهم، فذلك قوله: ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) . حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( دعواهم فيها سبحانك اللهم ) ، يقول: ذلك قولهم فيها ( وتحيتهم فيها سلام ) . حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبيد الله الأشجعي قال: سمعت سفيانا يقول: ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام ) ، قال: إذا أرادوا الشيء قالوا: « اللهم » ، فيأتيهم ما دَعَوا به. وأما قوله: ( سبحانك اللهم ) ، فإن معناه: تنـزيها لك ، يا رب ، مما أضاف إليك أهل الشرك بك ، من الكذب عليك والفِرْية. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي. عن غير واحدٍ عطيةُ فيهم: « سبحان الله » تنـزيهٌ لله. حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا سفيان، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن « سبحان الله » ، قال: إبراء الله عن السوء. حدثنا أبو كريب ، وأبو السائب ، وخلاد بن أسلم قالوا، حدثنا ابن إدريس قال ، حدثنا قابوس، عن أبيه: أن ابن الكوّاء سأل عليًّا رضي الله عنه عن « سبحان الله » ، قال: كلمة رضيها الله لنفسه. حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي قال ، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان بن سعيد الثوري ، عن عثمان بن عبد الله بن موهب الطلحي، عن موسى بن طلحة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن « سبحان الله » ، فقال: تنـزيهًا لله عن السوء. حدثني علي بن عيسى البزار قال ، حدثنا عبيد الله بن محمد قال ، حدثنا عبد الرحمن بن حماد قال ، حدثني حفص بن سليمان قال ، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير « سبحان الله » ، فقال: هو تنـزيه الله من كل سوء. حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي قال ، حدثنا سليمان بن أيوب قال : حدثني أبي، عن جدي، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله ، قول « سبحان الله » ؟ قال: تنـزيه الله عن السوء. ( وتحيتهم ) ، يقول: وتحية بعضهم بعضًا ( فيها سلام ) ، أي : سَلِمْتَ وأمِنْتَ مما ابتُلي به أهل النار. والعرب تسمي الملك « التحية » ، ومنه قول عمرو بن معد يكرب: أَزُورُ بِهَــا أَبَــا قَــابُوسَ حَـتَّى أُنِيــخَ عَــلَى تَحِيَّتِــهِ بِجُــنْدِي ومنه قول زهير بن جناب الكلبي: مِــنْ كُــلِّ مَــا نَــالَ الفَتَــى قَــــدْ نِلْتُــــهُ إلا التَّحِيَّـــهْ وقوله: ( وآخر دعواهم ) ، يقول: وآخر دعائهم ( أن الحمد لله رب العالمين ) ، يقول: وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين « ، ولذلك خففت » أن « ولم تشدّد لأنه أريد بها الحكاية. » القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( 11 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولو يعجل الله للناس إجابةَ دعائهم في الشرّ ، وذلك فيما عليهم مضرّة في نفس أو مال ( استعجالهم بالخير ) ، يقول: كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به ( لقضي إليهم أجلهم ) ، يقول: لهلكوا ، وعُجِّل لهم الموت، وهو الأجل. وعني بقوله: ( لقضي ) ، لفرغ إليهم من أجلهم ، ونُبذ إليهم، كما قال أبو ذؤيب: وَعَلَيْهِمَــا مَسْــرُودَتَانِ قَضَاهُمَــا دَاوُدُ , أَوْ صَنَــعُ السَّــوَابِغِ تُبَّــعُ ( فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ) ، يقول: فندع الذين لا يخافون عقابنا ، ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور، ( في طغيانهم ) ، يقول: في تمرّدهم وعتوّهم، ( يعمهون ) يعني: يترددون. وإنما أخبر جل ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم ، من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشرّ لو استجاب لهم ، أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرُّب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) ، قال: قولُ الإنسان إذا غضب لولده وماله: « لا باركَ الله فيه ولعنه » ! حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) ، قال: قولُ الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: « اللهم لا تبارك فيه والعنه » ! فلو يعجّل الله الاستجابة لهم في ذلك، كما يستجاب في الخير لأهلكهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) ، قال: قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: « اللهم لا تبارك فيه والعنه » ( لقضي إليهم أجلهم ) قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) ، قال: قول الرجل لولده إذا غضب عليه أو ماله: « اللهم لا تبارك فيه والعنه » ! قال الله: ( لقضي إليهم أجلهم ) ، قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته. قال: ( فنذر الذين لا يرجون لقاءنا ) ، قال يقول: لا نهلك أهل الشرك، ولكن نذرهم في طغيانهم يعمهون. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قوله: ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير ) ، قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( لقضي إليهم أجلهم ) ، قال: لأهلكناهم. وقرأ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ، [ سورة فاطر: 45 ] . قال: يهلكهم كلهم. ونصب قوله : ( استعجالهم ) ، بوقوع ( يعجل ) عليه، كقول القائل: « قمت اليوم قيامَك » بمعنى : قمت كقيامك، وليس بمصدّرٍ من ( يعجل ) ، لأنه لو كان مصدّرًا لم يحسن دخول « الكاف » أعني كاف التشبيه فيه. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( لقضي إليهم أجلهم ) . فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: ( لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ) ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله ، بضم القاف من « قضي » ، ورفع « الأجل » . وقرأ عامة أهل الشأم: ( لَقَضَى إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ ) ، بمعنى: لقضى الله إليهم أجلهم. قال أبو جعفر: وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أني أقرؤه على وجه ما لم يسمَّ فاعله، لأن عليه أكثر القراء. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 12 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: وإذا أصاب الإنسان الشدة والجهد ( دعانا لجنبه ) ، يقول: استغاث بنا في كشف ذلك عنه ( لجنبه ) ، يعني مضطجعًا لجنبه. ( أو قاعدًا أو قائمًا ) بالحال التي يكون بها عند نـزول ذلك الضرّ به ( فلما كشفنا عنه ضره ) ، يقول: فلما فرّجنا عنه الجهد الذي أصابه ( مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) ، يقول: استمرَّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء أو تناساه، وترك الشكر لربه الذي فرّج عنه ما كان قد نـزل به من البلاء حين استعاذ به، وعاد للشرك ودَعوى الآلهةِ والأوثانِ أربابًا معه. يقول تعالى ذكره: ( كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون ) ، يقول: كما زُيِّن لهذا الإنسان الذي وصفنا صفتَه ، استمرارُه على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر، كذلك زُيّن للذين أسرفوا في الكذِب على الله وعلى أنبيائه، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به، ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك وبه. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: ( دعانا لجنبه ) ، قال: مضطجعًا. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ( 13 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ولقد أهلكنا الأمم التي كذبت رسل الله من قبلكم أيها المشركون بربهم ( لما ظلموا ) ، يقول: لما أشركوا وخالفوا أمر الله ونهيه ( وجاءتهم رسلهم ) من عند الله، ( بالبينات ) ، وهي الآيات والحجج التي تُبين عن صِدْق من جاء بها. ومعنى الكلام: وجاءتهم رسلهم بالآيات البينات أنها حق ( وما كانوا ليؤمنوا ) يقول: فلم تكن هذه الأمم التي أهلكناها ليؤمنوا برسلهم ويصدِّقوهم إلى ما دعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له ( وكذلك نجزي المجرمين ) ، يقول تعالى ذكره: كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم ، أيها المشركون ، بظلمهم أنفسَهم ، وتكذيبهم رسلهم ، وردِّهم نصيحتَهم، كذلك أفعل بكم فأهلككم كما أهلكتهم بتكذيبكم رسولكم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وظلمكم أنفسكم بشرككم بربكم، إن أنتم لم تُنيبوا وتتوبوا إلى الله من شرككم فإن من ثواب الكافر بي على كفره عندي ، أن أهلكه بسَخَطي في الدنيا ، وأوردُه النار في الآخرة. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( 14 ) قال أبو جعفر يقول تعالى ذكره: ثم جعلناكم ، أيها الناس، خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا ، تخلفونهم في الأرض، وتكونون فيها بعدهم ( لننظر كيف تعملون ) ، يقول: لينظر ربكم أين عملكم من عمل من هلك من قبلكم من الأمم بذنوبهم وكفرهم بربهم، تحتذون مثالهم فيه، فتستحقون من العقاب ما استحقوا، أم تخالفون سبيلَهم فتؤمنون بالله ورسوله وتقرّون بالبعث بعد الممات، فتستحقون من ربكم الثواب الجزيل، كما:- حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) ، ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صدق ربُّنا ، ما جعلنا خُلفاء إلا لينظر كيف أعمالُنا، فأرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار ، والسر والعلانية. حدثني المثنى قال ، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد قال ، حدثنا حماد عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عوف بن مالك رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه: رأيتُ فيما يرى النائم كأن سببًا دُلِّي من السماء ، فانتُشِط رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دُلِّي فانتُشِط أبو بكر، ثم ذُرِع الناس حول المنبر، ففضَل عمر رضي الله عنه بثلاث أذرع إلى المنبر. فقال عمر: دعنا من رؤياك، لا أرَبَ لنا فيها ! فلما استخلف عمر قال: يا عوف ، رؤياك! قال: وهل لك في رؤياي من حاجة؟ أو لم تنتهرني! قال: ويحك ! إني كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ! فقصّ عليه الرؤيا، حتى إذا بلغ : « ذُرِع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع » ، قال: أمّا إحداهن ، فإنه كائن خليفةً. وأما الثانية ، فإنه لا يخاف في الله لومة لائم. وأما الثالثة ، فإنه شهيد. قال: فقال يقول الله: ( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) ، فقد استخلفت يا ابن أم عمر، فانظر كيف تعمل. وأما قوله: « فإني لا أخاف في الله لومة لائم » فما شاء الله. وأما قوله: « فإني شهيد » فأنَّى لعمر الشهادة ، والمسلمون مُطِيفون به! ثم قال : إن الله على ما يشاء قدير. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( 15 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتاب الله الذي أنـزلنَاه إليك ، يا محمد ( بينات ) ، واضحات ، على الحق دالاتٍ ( قال الذين لا يرجون لقاءنا ) ، يقول: قال الذين لا يخافون عقابنا ، ولا يوقنون بالمعاد إلينا ، ولا يصدّقون بالبعث ، لك ( ائت بقرآن غير هذا أو بدّله ) ، يقول: أو غيِّره ( قل ) لهم ، يا محمد ( ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ) ، أي: من عندي. والتبديل الذي سألوه ، فيما ذكر، أن يحوّل آية الوعيد آية وعد ، وآية الوعد وعيدًا والحرامَ حلالا والحلال حرامًا، فأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن ذلك ليس إليه، وأن ذلك إلى من لا يردّ حكمه ، ولا يُتَعَقَّب قضاؤه، وإنما هو رسول مبلّغ ومأمور مُتّبع. وقوله: ( إن أتبع إلا ما يوحى إليّ ) ، يقول: قل لهم: ما أتبع في كل ما آمركم به أيها القوم ، وأنهاكم عنه ، إلا ما ينـزله إليّ ربي ، ويأمرني به ( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) ، يقول: إني أخشى من الله إن خالفت أمره ، وغيَّرت أحكام كتابه ، وبدّلت وَحيه، فعصيته بذلك، عذابَ يوم عظيمٍ هَوْلُه، وذلك: يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتَضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ( 16 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه ، معرِّفَه الحجةَ على هؤلاء المشركين الذين قالوا له : ( ائت بقرآن غير هذا أو بدله ) ( قل ) لهم ، يا محمد ( لو شاء الله ما تلوته عليكم ) ، أي: ما تلوت هذا القرآن عليكم ، أيها الناس ، بأن كان لا ينـزله عليَّ فيأمرني بتلاوته عليكم ( ولا أدراكم به ) ، يقول: ولا أعلمكم به ( فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله ) يقول: فقد مكثت فيكم أربعين سنة من قبل أن أتلوَه عليكم ، ومن قبل أن يوحيه إليّ ربي ( أفلا تعقلون ) ، أني لو كنت منتحلا ما ليس لي من القول، كنت قد انتحلته في أيّام شبابي وحَداثتي ، وقبل الوقت الذي تلوته عليكم؟ فقد كان لي اليوم ، لو لم يوح إليّ وأومر بتلاوته عليكم ، مندوحةٌ عن معاداتكم ، ومتّسَعٌ، في الحال التي كنت بها منكم قبل أن يوحى إلي وأومر بتلاوته عليكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ولا أدراكم به ) ، ولا أعلمكم. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ) ، يقول: لو شاء الله لم يعلمكموه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ( لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ) ، يقول: ما حذَّرتكم به. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ، وهو قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله أفلا تعقلون ) ، لبث أربعين سنة. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ) ، ولا أعلمكم به. حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، أنه كان يقرأ: ( وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ ) ، يقول: ما أعلمتكم به. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ولا أدراكم به ) ، يقول: ولا أشعركم الله به. قال أبو جعفر: وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن ، عند أهل العربية غلطٌ. وكان الفرّاء يقول في ذلك : قد ذكر عن الحسن أنه قال: ( وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ ) . قال: فإن يكن فيها لغة سوى « دريت » و « أدريت » ، فلعل الحسن ذهب إليها. وأما أن تصلح من « دريت » أو « أدريت » فلا لأن الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحتا ولم تنقلبا إلى ألف ، مثل « قضيت » و « دعوت » . ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها، لأنها تضارع « درأت الحد » ، وشبهه. وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز فيهمزون غير المهموز. وسمعت امرأة من طيّ تقول: « رثَأْتُ زوجي بأبيات » ، ويقولون: « لبّأتُ بالحجّ » و « حلأت السويق » ، فيغلطون، لأن « حلأت » ، قد يقال في دفع العطاش، من الإبل، و « لبأت » : ذهبت به إلى « اللبأ » لِبَأ الشاء، و « رثأت زوجي » ، ذهبت به إلى « رثأت اللبن » ، إذا أنت حلبت الحليب على الرائب، فتلك « الرثيثة » . وكان بعض البصريين يقول: لا وجه لقراءة الحسن هذه لأنها من « أدريت » مثل « أعطيت » ، إلا أن لغةً لبني عقيل : « أعطَأتُ » ، يريدون: « أعطيت » ، تحوّل الياء ألفًا، قال الشاعر: لَقَــدْ آذَنَــتْ أَهْـلُ الْيَمَاَمَـةِ طَيِّـئٌ بِحَــرْبٍ كَنَاصَـاةِ الأَغَـرِّ المُشَـهَّرِ يريد: كناصية، حكي ذلك عن المفضّل، وقال زيد الخيل: لَعَمْـرُكَ مَـا أَخْشَـى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَا عَـلَى الأَرْضِ قَيْسِـيٌّ يَسُـوقُ الأَبَاعِرَا فقال « بقا » ، وقال الشاعر : لَزَجَــرْتُ قَلْبًــا لا يَـرِيعُ لِزَاجِـرٍ إِنَّ الغَــوِيَّ إِذَا نُهَــا لَــمْ يَعْتِـبِ يريد « نُهِي » . قال: وهذا كله على قراءة الحسن، وهي مرغوب عنها، قال: وطيئ تصيِّر كل ياء انكسر ما قبلها ألفًا، يقولون: « هذه جاراة » ، وفي « الترقوة » « ترقاة » و « العَرْقوة » « عرقاة » . قال: وقال بعض طيئ: « قد لَقَت فزارة » ، حذف الياء من « لقيت » لما لم يمكنه أن يحوّلها ألفًا ، لسكون التاء ، فيلتقي ساكنان. وقال: زعم يونس أن « نَسَا » و « رضا » لغة معروفة، قال الشاعر: وَأُبْنِيْـتُ بِـالأَعْرَاض ذَا الْبَطْـنِ خالِدًا نَسَــا أوْ تَنَاسَــى أَنْ يَعُـدَّ المَوَالِيَـا ورُوي عن ابن عباس في قراءة ذلك أيضًا روايةٌ أخرى، وهي ما:- حدثنا به المثنى قال ، حدثنا المعلى بن أسد قال ، حدثنا خالد بن حنظلة عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس : أنه كان يقرأ: ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ ) . قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نستجيزُ أن نعدوها ، هي القراءة التي عليها قراء الأمصار: ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ ) ، بمعنى: ولا أعلمكم به، ولا أشعركم به. القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ( 17 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين الذين نسبوك فيما جئتهم به من عند ربّك إلى الكذب: أيُّ خلق أشدُّ تعدّيًا ، وأوضع لقيله في غير موضعه، ممن اختلق على الله كذبًا ، وافترى عليه باطلا ( أو كذب بآياته ) يعني بحججه ورسله وآيات كتابه؟ يقول له جل ثناؤه: قل لهم : ليس الذي أضفتموني إليه بأعجب من كذبكم على ربكم ، وافترائكم عليه ، وتكذيبكم بآياته ( إنه لا يفلح المجرمون ) ، يقول: إنه لا ينجح الذين اجترموا الكفر في الدنيا يوم القيامة ، إذا لقوا ربّهم، ولا ينالون الفلاح. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 18 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ويعبُد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك ، يا محمد صفتهم ، من دون الله الذي لا يضرهم شيئًا ولا ينفعهم ، في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها ( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ، يعني: أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: ( قل ) لهم ( أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ) ، يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟ وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السماوات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السماوات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما؟ وذلك باطلٌ لا تعلم حقيقته وصحته، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون ، وأنها لا تشفع لأحد ، ولا تنفع ولا تضر ( سبحان الله عما يشركون ) ، يقول: تنـزيهًا لله وعلوًّا عما يفعله هؤلاء المشركون ، من إشراكهم في عبادته ما لا يضر ولا ينفع ، وافترائهم عليه الكذب. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 19 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان الناس إلا أهل دين واحد وملة واحدة فاختلفوا في دينهم، فافترقت بهم السبل في ذلك ( ولولا كلمة سبقت من ربك ) ، يقول: ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قوما إلا بعد انقضاء آجالهم « لقضي بينهم فيما فيه يختلفون » يقول: لقضي بينهم بأن يُهلِك أهل الباطل منهم، وينجي أهل الحق . وقد بينا اختلاف المختلفين في معنى ذلك في « سورة البقرة » ، وذلك في قوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ، [ سورة البقرة: 213 ] ، وبينا الصواب من القول فيه بشواهده ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) ، حين قتل أحدُ ابني آدم أخاه. حدثني المثنى قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، بنحوه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه. القول في تأويل قوله : وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 20 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون: هلا أنـزل على محمد آيةٌ من ربه يقول: عَلَمٌ ودليلٌ نعلم به أن محمدًا محق فيما يقول؟ قال الله له: ( فقل ) يا محمد ( إنما الغيب لله ) ، أي : لا يُعلم أحدٌ يفعل ذلك إلا هو جل ثناؤه، لأنه لا يعلم الغيب وهو السرُّ والخفيّ من الأمور إلا الله ، فانتظروا أيها القوم ، قضاءَ الله بيننا ، بتعجيل عقوبته للمبطل منا ، وإظهاره المحقَّ عليه، إني معكم ممن ينتظر ذلك. ففعل ذلك جل ثناؤه فقضى بينهم وبينه بأن قتلهم يوم بدرٍ بالسيف. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ ( 21 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا رزقنا المشركين بالله فرجًا بعد كرب ، ورخاء بعد شدّة أصابتهم. وقيل: عنى به المطر بعد القحط، و « الضراء » : وهي الشدة، و « الرحمة » : هي الفرج. يقول: ( إذا لهم مكر في آياتنا ) ، استهزاء وتكذيبٌ ، كما:- حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إذا لهم مكر في آياتنا ) قال: استهزاء وتكذيب. . . . قال: حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. وقوله: ( قل الله أسرع مكرًا ) يقول تعالى ذكره: ( قل ) لهؤلاء المشركين المستهزئين من حججنا وأدلتنا ، يا محمد ( الله أسرع مكرًا ) ، أي : أسرع مِحَالا بكم ، واستدراجًا لكم وعقوبةً، منكم ، من المكر في آيات الله. والعرب تكتفي ب « إذا » من « فعلت » و « فعلوا » ، فلذلك حُذِف الفعل معها. وإنما معنى الكلام: ( وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ) ، مكروا في آياتنا فاكتفى من « مكروا » ، ب « إذا لهم مكر » . ( إن رسلنا يكتبون ما تمكرون ) ، يقول: إن حفظتنا الذين نرسلهم إليكم ، أيها الناس ، يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا. القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 22 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي يسيركم، أيها الناس ، في البر على الظهر وفي البحر في الفلك ( حتى إذا كنتم في الفلك ) ، وهي السفن ( وجرين بهم ) يعني: وجرت الفلك بالناس ( بريح طيبة ) ، في البحر ( وفرحوا بها ) ، يعني: وفرح ركبان الفلك بالريح الطيبة التي يسيرون بها. و « الهاء » في قوله: « بها » عائدة على « الريح الطيبة » . ( جاءتها ريح عاصف ) ، يقول: جاءت الفلك ريحٌ عاصف، وهي الشديدة. والعرب تقول: « ريح عاصف ، وعاصفة » ، و « وقد أعصفت الريح ، وعَصَفت » و « أعصفت » ، في بني أسد، فيما ذكر، قال بعض بني دُبَيْر: حَـتَّى إِذَا أَعْصَفَـتْ رِيـحٌ مُزَعْزِعَـةٌ فِيهَـا قِطَـارٌ وَرَعْـدٌ صَوْتُـهُ زَجِـلُ ( وجاءهم الموج من كل مكان ) يقول تعالى ذكره: وجاء ركبانَ السفينة الموجُ من كل مكان ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) ، يقول: وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق ( دعوا الله مخلصين له الدين ) ، يقول: أخلصوا الدعاء لله هنالك ، دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها، كما:- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: ( دعوا الله مخلصين له الدين ) ، قال: إذا مسّهم الضرُّ في البحر أخلصوا له الدعاء. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة في قوله: ( مخلصين له الدين ) ، « هيا شرا هيا » تفسيره: يا حي يا قوم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا كان الضر لم يدعوا إلا الله، فإذا نجاهم إذا هم يشركون . ( لئن أنجيتنا ) من هذه الشدة التي نحن فيها ( لنكونن من الشاكرين ) ، لك على نعمك ، وتخليصك إيانا مما نحن فيه ، بإخلاصنا العبادة لك ، وإفراد الطاعة دون الآلهة والأنداد. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( هو الذي يسيركم ) فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ ) من « السير » بالسين. وقرأ ذلك أبو جعفر القاري: ( هُوَ الَّذِي يَنْشُرُكُمْ ) ، من « النشر » ، وذلك البسط، من قول القائل: « نشرت الثوب » ، وذلك بسطه ونشره من طيّه. فوجّه أبو جعفر معنى ذلك إلى أن الله يبعث عباده فيبسطهم برًّا وبحرًا وهو قريب المعنى من « التسيير » . وقال: ( وجرين بهم بريح طيبة ) ، وقال في موضع آخر: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [ سورة يس: 41 ] فوحد . والفلك: اسم للواحدة ، والجماع ، ويذكر ويؤنث. قال: ( وجرين بهم ) ، وقد قال ( هو الذي يسيركم ) فخاطب ، ثم عاد إلى الخبر عن الغائب. وقد بينت ذلك في غير موضع من الكتاب ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وجواب قوله: ( حتى إذا كنتم في الفلك ) ( جاءتها ريح عاصف ) . وأما جواب قوله: ( وظنوا أنهم أحيط بهم ) ف ( دعوا الله مخلصين له الدين ) . القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 23 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنُّوا في البحر أنهم أحيط بهم ، من الجهد الذي كانوا فيه، أخلفوا الله ما وعدُوه، وبغوا في الأرض، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه ، من الكفر به ، والعمل بمعاصيه على ظهرها. يقول الله: يا أيها الناس ، إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم ، وإياها تظلمون. وهذا الذي أنتم فيه ( متاع الحياة الدنيا ) ، يقول: ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم. وعلى هذا التأويل، « البغي » يكون مرفوعًا بالعائد من ذكره في قوله: ( على أنفسكم ) ويكون قوله ( متاع الحياة الدنيا ) ، مرفوعًا على معنى: ذلك متاع الحياة الدنيا، كما قال: لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ ، [ سورة الأحقاف: 35 ] ، بمعنى: هذا بلاغ. وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم، لأنكم بكفركم تكسبونها غضبَ الله، متاع الحياة الدنيا، كأنه قال: إنما بغيكم متاعُ الحياة الدنيا، فيكون « البغي » مرفوعًا ب « المتاع » ، و « على أنفسكم » من صلة « البغي » . وبرفع « المتاع » قرأت القراء سوى عبد الله بن أبي إسحاق ، فإنه نصبه ، بمعنى: إنما بغيكم على أنفسكم متاعًا في الحياة الدنيا، فجعل « البغي » مرفوعًا بقوله: ( على أنفسكم ) ، و « المتاع » منصوبًا على الحال. وقوله: ( ثم إلينا مرجعكم ) يقول: ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم، وذلك بعد الممات يقول: فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ( 24 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما مثل ما تباهون في الدنيا وتفاخرون به من زينتها وأموالها ، مع ما قد وُكِّلَ بذلك من التكدير والتنغيص وزواله بالفناء والموت، كمثل ماءٍ أنـزلناه من السماء، يقول: كمطر أرسلناه من السماء إلى الأرض ( فاختلط به نبات الأرض ) ، يقول: فنبت بذلك المطر أنواعٌ من النبات ، مختلطٌ بعضها ببعض، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: ( إنما مَثَل الحياة الدنيا كماء أنـزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) ، قال: اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس ، كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار، وما يأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي. وقوله: ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) يعني: ظهر حسنها وبهاؤها ( وازينت ) ، يقول : وتزينت ( وظن أهلها ) ، يعني: أهل الأرض ( أنهم قادرون عليها ) ، يعني: على ما أنبتت. وخرج الخبر عن « الأرض » والمعنى للنبات، إذا كان مفهوما بالخطاب ما عُنِي به. وقوله: ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارًا ) ، يقول: جاء الأرض « أمرنا » ، يعني : قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات إما ليلا وإما نهارًا ( فجعلناها ) ، يقول: فجعلنا ما عليها ( حصيدًا ) يعني: مقطوعة مقلوعة من أصولها. وإنما هي « محصودة » صرفت إلى « حصيد » . ( كأن لم تغن بالأمس ) ، يقول: كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتةً قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس. وأصله: من « غَنِيَ فلان بمكان كذا ، يَغْنَى به » ، إذا أقام به، كما قال النابغة الذبياني: غَنِيَــتْ بِـذَلِكَ إِذْ هُـمُ لَـكَ جِـيرَةٌ مِنْهَــا بِعَطْــفِ رِسَــالَةٍ وَتَـوَدُّد يقول: فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم وزخارفها، فيفنيها ويهلكها كما أهلك أمرُنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها ، حتى صارت كأن لم تغن بالأمس، كأن لم تكن قبل ذلك نباتًا على ظهرها. يقول الله جل ثناؤها: ( كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون ) ، يقول: كما بينَّا لكم أيها الناس ، مثل الدنيا وعرّفناكم حكمها وأمرها، كذلك نُبين حججنا وأدلَّتنا لمن تفكَّر واعتبر ونظر. وخصَّ به أهل الفكر، لأنهم أهل التمييز بين الأمور ، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشُّبَه في الصدور. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) ، الآية، : أي والله، لئن تشبَّثَ بالدنيا وحَدِب عليها ، لتوشك الدنيا أن تلفظه وتقضي منه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وازينت ) ، قال : أنبتت وحسُنَت . حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: سمعت مروان يقرأ على المنبر هذه الآية: ( حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا ) ، قال: قد قرأتها، وليست في المصحف. فقال عباس بن عبد الله بن العباس: هكذا يقرؤها ابن عباس. فأرسلوا إلى ابن عباس فقال: هكذا أقرأني أبيُّ بن كعب. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة: ( كأن لم تغن بالأمس ) ، يقول : كأن لم تعشْ ، كأن لم تَنْعَم. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول : في قراءة أبيّ : ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ وَمَا أَهْلَكْنَاهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) واختلفت القراء في قراءة قوله: ( وازينت ) . فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: ( وَازَّيَّنَتْ ) بمعنى: وتزينت، ولكنهم أدغموا التاء في الزاي لتقارب مخرجيهما، وأدخلوا ألفا ليوصل إلى قراءته، إذ كانت التاء قد سكنت ، والساكن لا يُبْتَدأ به. وحكي عن أبي العالية ، وأبي رجاء ، والأعرج ، وجماعة أخر غيرهم ، أنهم قرءوا ذلك: ( وَأَزْيَنَتْ ) على مثال « أفعلت » . قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك: ( وَازَّيَّنَتْ ) لإجماع الحجة من القراء عليها. القول في تأويل قوله تعالى : وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 25 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لعباده: أيها الناس ، لا تطلبوا الدنيا وزينتَها، فإن مصيرها إلى فناءٍ وزوالٍ ، كما مصير النبات الذي ضربه الله لها مثلا إلى هلاكٍ وبَوَارٍ، ولكن اطلبوا الآخرة الباقية، ولها فاعملوا، وما عند الله فالتمسوا بطاعته، فإن الله يدعوكم إلى داره، وهي جناته التي أعدَّها لأوليائه، تسلموا من الهموم والأحزان فيها، وتأمنوا من فناء ما فيها من النَّعيم والكرامة التي أعدَّها لمن دخلها، وهو يهدي من يشاء من خلقه فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم، وهو الإسلام الذي جعله جل ثناؤه سببًا للوصول إلى رضاه ، وطريقًا لمن ركبه وسلك فيه إلى جِنانه وكرامته، كما:- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: « الله » ، السلام، ودارُه الجنة. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( والله يدعو إلى دار السلام ) ، قال: « الله » هو السلام، ودارُه الجنة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، قيل لي: « لتنم عينُك، وليعقِل قلبك، ولتسمع أُذُنك » فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذني. ثم قيل: « سيّدٌ بنى دارًا، ثم صنع مأدُبة، ثم أرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار ، وأكل من المأدبة ، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب الداعي ، لم يدخل الدار ، ولم يأكل من المأدبة ، ولم يرضَ عنه السيد » ، فالله السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم « . » حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ، ذكر لنا أن في التوراة مكتوبًا: « يا باغي الخير هلمّ ، ويا باغي الشرِّ انتَهِ » . حدثني الحسين بن سلمة بن أبي كبشة قال ، حدثنا عبد الملك بن عمرو قال ، حدثنا عباد بن راشد، عن قتادة قال ، حدثني خُلَيد العَصَريّ، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجَنَبَتَيْها ملكان يناديان، يسمعُه خلق الله كلهم إلا الثَّقلين : « يا أيها الناس هلمُّوا إلى ربِّكم، إنّ ما قلَّ وكفى خير مما كثر وأَلْهَى » . قال: وأنـزل ذلك في القرآن في قوله: ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: إني رأيت في المنام كأنَّ جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا ! فقال: اسْمَع سمعتْ أُذنك، واعقل عَقَل قلبك، إنما مَثَلك ومَثَل أمتك ، كمثل ملك اتخذ دارًا ، ثم بنى فيها بيتًا ، ثم جعل فيها مأدُبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه . فالله الملك، والدار الإسلام، والبيتُ الجنَّة، وأنت يا محمد الرسولُ، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها. القول في تأويل قوله تعالى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: للذين أحسنوا عبادَة الله في الدنيا من خلقه ، فأطاعوه فيما أمر ونَهَى ، ( الحسنى ) . ثم اختلف أهل التأويل في معنى « الحسنى » ، و « الزيادة » اللتين وعدهما المحسنين من خلقه. فقال بعضهم: « الحسنى » ، هي الجنة، جعلها الله للمحسنين من خلقه جزاء « والزيادة عليها » ، النظر إلى الله. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن أبي بكر الصديق: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. حدثنا سفيان قال ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه الله. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد قال: في هذه الآية: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: « الزيادة » ، النظر إلى وجه الرحمن. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم بن نذير، عن حذيفة: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) قال: النظر إلى وجه ربهم. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا شريك قال: سمعت أبا إسحاق يقول في قول الله: ( وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه الرحمن. حدثني علي بن عيسى قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا أبو بكر الهذلي قال: سمعت أبا تميمة الهُجَيْمِيّ ، يحدِّث عن أبي موسى الأشعري قال: إذا كان يومُ القيامة بعث الله إلى أهل الجنة مناديًا ينادي: « هل أنجزكم الله ما وعدكم » ! فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامة، فيقولون: نعم! فيقول: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، النظرُ إلى وجه الرحمن. حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال: أخبرنا أبو تميمة الهجيمي قال، سمعت أبا موسى الأشعري يخطب على منبر البصرة يقول: إن الله يبعث يوم القيامة مَلَكًا إلى أهل الجنة فيقول: « يا أهل الجنة ، هل أنجزكم الله ما وعدكم » ! فينظرون، فيرون الحليّ والحُلل والثمار والأنهار والأزواجَ المطهَّرة، فيقولون: « نعم، قد أنجزنا الله ما وعدنا » ! ثم يقول الملك: « هل أنجزكم الله ما وعدكم » ؟ ثلاث مرات، فلا يفقدون شيئًا مما وُعِدوا، فيقولون: « نعم » ! فيقول: « قد بقى لكم شيءٌ، إن الله يقول: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، ألا إن الحسنى الجنة، والزيادة النظرُ إلى وجه الله » . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني شبيب، عن أبان، عن أبي تميمة الهجيمي: أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث يوم القيامة مناديًا ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أوّلهم وآخرهم: « إن الله وعدكم الحسنى وزيادةً، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن » . حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. وقرأ: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ ، قال: بعد النظر إلى وجْه ربهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة قال، أخبرنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: ( وزيادة ) ، قال: قيل له: أرأيت قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ؟ قال: إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة فأُعطوا فيها ما أُعْطُوا من الكرامة والنعيم، قال: نودوا : « يا أهل الجنة ، إن الله قد وعدكم الزيادة، فيتجلى لهم » قال ابن أبي ليلى: فما ظنك بهم حين ثَقُلت موازينهم، وحين صارت الصُّحف في أيمانهم، وحين جاوزوا جسر جهنم ودخلوا الجنة، وأعطوا فيها ما أعطوا من الكرامة والنعيم؟ كل ذلك لم يكن شيئًا فيما رأوا!. . . . . قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر ، وسليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. . . . . قال: حدثنا الحجاج ، ومعلّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ قال لهم: إنه قد بقي من حقكم شيءٌ لم تُعْطَوْه! قال: فيتجلى لهم تبارك وتعالى. قال: فيصغر عندهم كل شيء أعطوه. قال: ثم قال: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه ربهم، ولا يرهقُ وجوههم قترٌ ولا ذلةٌ بعد ذلك. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، النظر إلى وجه الله. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا هوذة قال ، حدثنا عوف، عن الحسن في قول الله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، النظر إلى الربّ. حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ ، وأهلُ النارِ النارَ، نودوا: « يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا » ! قالوا: ما هو؟ ألم تبيّض وجوهنا، وتُثْقِل موازيننا، وتُدخلنا الجنة، وتُنْجِنَا من النار؟ فيكشف الحجابُ، فيتجلى لهم، فوالله ما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ولفظ الحديث لعمرو. حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب قال، تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: « إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهل النار النار، نادى منادٍ: » يا أهل الجنة، إنّ لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكُمُوه « . فيقولون: » وما هو؟ ألم يُثقل الله موازيننا، ويبيِّض وجوهنا؟ ثم ذكر سائر الحديث نحو حديث عمرو بن علي ، وابن بشار، عن عبد الرحمن. . . . . قال، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. . . . . قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، بلغنا أن المؤمنين لما دَخلوا الجنة ناداهم منادٍ: إن الله وعدكم الحسنى وهي الجنة، وأما الزيادة، فالنظر إلى وجه الرحمن. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عجرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: الزيادة، النظرُ إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى. . . . . قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط قال: « الحسني » ، النضرة و « الزيادة » ، النظر إلى وجه الله. حدثنا ابن البرقي قال ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، سمعت زهيرًا، عمن سمع أبا العالية قال ، حدثنا أبيّ بن كعب: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن قول الله ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: الحسنى: الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله. وقال آخرون في « الزيادة » ، بما:- حدثنا به يحيى بن طلحة قال ، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: « الزيادة » ، غرفة من لؤلؤة واحدةٍ لها أربعة أبواب. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه، نحوه، إلا أنه قال: فيها أربعة أبواب. . . . .قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم بن عتيبة، عن علي رضي الله عنه، مثل حديث يحيى بن طلحة، عن فضيل ، سواءً. وقال آخرون: « الحسنى » واحدةٌ من الحسنات بواحدة و « الزيادة » ، التضعيف إلى تمام العشر. ذكر من قال ذلك. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: هو مثل قوله: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ، [ سورة ق: 35 ] ، يقول: يجزيهم بعملهم، ويزيدهم من فضله. وقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ، [ سورة الأنعام: 160 ] . حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن علقمة بن قيس: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال قلت: هذه الحسنى، فما الزيادة؟ قال: ألم تر أن الله يقول: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ؟ حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول في هذه الآية: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: الزيادة: بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف. * وقال آخرون: « الحسنى » حسنة مثل حسنة و « الزيادة » زيادة مغفرة من الله ورضوان. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( للذين أحسنوا الحسنى ) ، مثلها حسنى « وزيادة » ، مغفرة ورضوان. وقال آخرون: « الزيادة » ، ما أعطوا في الدنيا. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ، قال: « الحسنى » ، الجنة « وزيادة » ما أعطاهم في الدنيا ، لا يحاسبهم به يوم القيامة. وقرءوا : وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا ، [ سورة العنكبوت: 27 ] ، قال: ما آتاه مما يحب في الدنيا، عجل له أجره فيها. وكان ابن عباس يقول في قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى ) ، بما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( للذين أحسنوا الحسنى ) ، يقول: للذين شهدوا أن لا إله إلا الله. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وَعَد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى ، أن يجزيهم على طاعتهم إيّاه الجنة ، وأن تبيض وجوههم، ووعدهم مع الحسنى الزيادة عليها. ومن الزيادة على إدخالهم الجنة أن يكرمهم بالنظر إليه، وأن يعطيهم غُرفا من لآلئ، وأن يزيدَهم غفرانا ورضوانًا، كل ذلك من زيادات عطاء الله إياهم على الحسنى التي جعلها الله لأهل جناته. وعمّ ربنا جل ثناؤه بقوله: ( وزيادة ) ، الزيادات على « الحسنى » ، فلم يخصص منها شيئًا دون شيء، وغير مستنكَرٍ من فضل الله أن يجمع ذلك لهم، بل ذلك كله مجموع لهم إن شاء الله. فأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يُعَمَّ ، كما عمَّه عز ذكره. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 26 ) قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله: ( ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ) ، لا يغشى وجوههم كآبة، ولا كسوف ، حتى تصير من الحزن كأنما علاها قترٌ. و « القتر » الغبار ، وهو جمع « قَتَرَةٍ » ومنه قول الشاعر: مُتَــوَّجٌ بِــرِداءِ المُلْــكِ يَتْبَعُــهُ مَـوْجٌ تَـرَى فَوْقَـهُ الرَّايـاتِ وَالْقَتَرَا يعني ب « القتر » الغبار. ( ولا ذلة ) ، ولا هوان ( أولئك أصحاب الجنة ) ، يقول: هؤلاء الذين وصفت صفتهم ، هم أهل الجنة وسكانها ، ومن هو فيها ( هم فيها خالدون ) ، يقول : هم فيها ماكثون أبدًا ، لا تبيد ، فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمخرجين فتتنغَّص عليهم لذَّتُهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. وكان ابن أبي ليلى يقول في قوله: ( ولا يرهق وجوههم قتر ) ما:- حدثنا محمد بن منصور الطوسي قال ، حدثنا عفان قال ، حدثنا حماد بن زيد قال ، حدثنا زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: ( ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ) ، قال: بعد نظرهم إلى ربِّهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج ، ومعلَّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، بنحوه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: ( ولا يرهق وجوههم قتر ) ، قال: سوادُ الوجوه. القول في تأويل قوله تعالى : وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: والذين عملوا السيئات في الدنيا، فعصوا الله فيها، وكفروا به وبرسوله ( جزاء سيئة ) ، من عمله السيئ الذي عمله في الدنيا ( بمثلها ) ، من عقاب الله في الآخرة ( وترهقهم ذلة ) ، يقول: وتغشاهم ذلة وهوان، بعقاب الله إياهم ( ما لهم من الله من عاصم ) ، يقول: ما لهم من الله من مانع يمنعهم ، إذا عاقبهم ، يحول بينه وبينهم. وبنحو الذي قلنا قوله: « وترهقهم ذلة » قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( وترهقهم ذلة ) ، قال: تغشاهم ذلة وشدّة. واختلف أهل العربية في الرافع ل « الجزاء » . فقال بعض نحويي الكوفة: رُفع بإضمار « لهم » ، كأنه قيل: ولهم جزاء السَّيئة بمثلها، كما قال: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، [ سورة البقرة: 196 ] ، والمعنى: فعليه صيام ثلاثة أيام، قال: وإن شئت رفعت الجزاءَ بالباء في قوله: ( جزاء سيئة بمثلها ) . وقال بعض نحويي البصرة: « الجزاء » مرفوع بالابتداء، وخبره ( بمثلها ) . قال: ومعنى الكلام: جزاء سيئة مثلها، وزيدت « الباء » ، كما زيدت في قوله: « بحسبك قول السُّوء » . وقد أنكر ذلك من قوله بعضُهم ، فقال: يجوز أن تكون « الباء » في « حسب » [ زائدة ] لأن التأويل: إن قلت السوء فهو حسبك فلما لم تدخل في الخبر، أدخلت في « حسب » ، « بحسبك أن تقوم » : إن قمت فهو حسبك. فإن مُدح ما بعد « حسب » أدخلت « الباء » ، فيما بعدها ، كقولك: « حسبك بزيد » ، ولا يجوز « بحسبك زيد » ، لأن زيدًا الممدوح ، فليس بتأويل خبَرٍ . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يكون « الجزاء » مرفوعًا بإضمارٍ، بمعنى: فلهم جزاء سيئة بمثلها، لأن الله قال في الآية التي قبلها: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ، فوصف ما أعدَّ لأوليائه، ثم عقب ذلك بالخبر عما أعدّ الله لأعدائه، فأشبهُ بالكلام أن يقال: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة، وإذا وُجِّه ذلك إلى هذا المعنى ، كانت الباء صلة للجزاء. القول في تأويل قوله تعالى : كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 27 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات ( قِطَعًا من الليل ) ، وهي جمع « قطعة » . وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ما:- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر ، عن قتادة: ( كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا ) ، قال: ظلمة من الليل. واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى: ( قطعًا ) فقرأته عامة قراء الأمصار: ( قِطَعًا ) بفتح الطاء ، على معنى جمع « قطعة » ، وعلى معنى أنَّ تأويل ذلك: كأنما أُغشِيَت وَجْه كل إنسان منهم قطعةٌ من سواد الليل، ثم جمع ذلك فقيل: كأنما أغشيت وجوههم قطعا من سواد، إذ جُمِع « الوجه » . وقرأه بعض متأخري القراء: « قِطْعًا » بسكون الطاء، بمعنى: كأنما أغشيت وجوههم سوادًا من الليل، وبقيةً من الليل، ساعةً منه، كما قال: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ، [ سورة هود: 81 /سورة الحجر: 65 ] ، أي: ببقية قد بقيت منه. ويعتلُّ لتصحيح قراءته كذلك، أنه في صحف أبيّ: ( وَيَغْشَى وُجُوهَهُمْ قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمٌ ) . قال أبو جعفر : والقراءة التي لا يجوز خلافها عندي ، قراءةُ من قرأ ذلك بفتح الطاء، لإجماع الحجة من قراء الأمصار على تصويبها ، وشذوذ ما عداها. وحسبُ الأخرى دلالةً على فسادها، خروج قارئها عما عليه قراء أهل أمصار الإسلام. فإن قال لنا قائل: فإن كان الصواب في قراءة ذلك ما قلت، فما وجه تذكير « المظلم » وتوحيده، وهو من نعت « القطع » ، و « القطع » ، جمع لمؤنث؟ قيل : في تذكير ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون قَطْعًا من « الليل » . وإن يكون من نعت « الليل » ، فلما كان نكرةً ، و « الليل » معرفةً ، نصب على القَطْع، فيكون معنى الكلام حينئذ: كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل المظلم ثم حذفت الألف واللام من « المظلم » ، فلما صار نكرة وهو من نعت « الليل » ، نصب على القطع. وتسمي أهل البصرة ما كان كذلك « حالا » ، والكوفيون « قطعًا » . والوجه الآخر : على نحو قول الشاعر: * لَوْ أَنَّ مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا * والوجه الأوّل أحسن وجهيه. وقوله: ( أولئك أصحاب النار ) ، يقول: هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهلُ النار الذين هم أهلها ( هم فيها خالدون ) ، يقول: هم فيها ماكثون. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ( 28 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويوم نجمع الخلق لموقف الحساب جميعًا، ثم نقول حينئذ للذين أشركوا بالله الآلهةَ والأندادَ: ( مكانَكم ) ، أي: امكثوا مكانكم، وقفوا في موضعكم، أنتم، أيها المشركون، وشُركاؤكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الآلهة والأوثان ( فزيّلنا بينهم ) ، يقول: ففرقنا بين المشركين بالله وما أشركوه به . [ من قولهم: « زِلْت الشيء أزيلُه » ، إذا فرّقت بينه ] وبين غيره وأبنته منه. وقال: « فزيّلنا » إرادة تكثير الفعل وتكريره، ولم يقل: « فزِلْنا بينهم » . وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه: ( فَزَايَلْنَا بَيْنَهُمْ ) ، كما قيل: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ ، [ سورة لقمان: 18 ] ، والعرب تفعل ذلك كثيرًا في « فعَّلت » ، يلحقون فيها أحيانًا ألفًا مكان التشديد، فيقولون: « فاعلت » إذا كان الفعل لواحدٍ. وأما إذا كان لاثنين ، فلا تكاد تقول إلا « فاعلت » . ( وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ) ، وذلك حين تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ ، لما قيل للمشركين: « اتبعوا ما كنتم تعبدون من دون الله » ، ونصبت لهم آلهتهم، قالوا: « كنا نعبد هؤلاء » !، فقالت الآلهة لهم: ( ما كنتم إيانا تعبدون ) ، كما:- حدثت عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: يكون يومَ القيامة ساعةٌ فيها شدة ، تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدون، فيقال: « هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله » ، فتقول الآلهة: « والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل ، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا » ! فيقولون: « والله لإيّاكم كنا نعبد » ! فتقول لهم الآلهة: فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ . حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ( ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم ) ، قال: فرّقنا بينهم ( وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون ) ! قالوا: بلى ، قد كنا نعبدكم! فقالوا : ( كفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) ، ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نتكلم! فقال الله: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ، الآية. وروي عن مجاهد، أنه كان يتأول « الحشر » في هذا الموضع، الموت. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن الأعمش قال: سمعتهم يذكرون عن مجاهد في قوله: ( ويوم نحشرهم جميعًا ) ، قال: الحشر: الموت. قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بتأويله، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه يقول يومئذ للذين أشركوا ما ذكر أنه يقول لهم، ومعلومٌ أن ذلك غير كائن في القبر، وأنه إنما هو خبَرٌ عما يقال لهم ، ويقولون في الموقف بعد البعث. القول في تأويل قوله تعالى : فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ( 29 ) قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره ، مخبرًا عن قيل شركاء المشركين من الآلهة والأوثان لهم يوم القيامة، إذ قال المشركون بالله لها: إياكم كنا نعبد ( كفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم ) ، أي إنها تقول: حسبُنا الله شاهدًا بيننا وبينكم ، أيها المشركون، فإنه قد علم أنّا ما علمنا ما تقولون ( إنا كنا عن عبادتكم لغافلين ) ، يقول: ما كنا عن عبادتكم إيانا دون الله إلا غافلين، لا نشعر به ولا نعلم، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) ، قال: كُلُّ شيء يعبد من دون الله. حدثني المثنى قال ، حدثني إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: ( إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) ، قال: يقول ذلك كُلُّ شيء كان يُعْبد من دون الله. القول في تأويل قوله تعالى : هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( 30 ) قال أبو جعفر : اختلفت القراء في قراءة قوله: ( هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ ) ، بالباء، بمعنى: عند ذلك تختبر كلّ نفس ما قدمت من خيرٍ أو شٍّر. وكان ممن يقرؤه ويتأوّله كذلك ، مجاهدٌ. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ) ، قال: تختبر. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة وبعض أهل الحجاز: ( تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) ، بالتاء. واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله. فقال بعضهم: معناه وتأويله: هنالك تتبع كل نفس ما قدَّمت في الدنيا لذلك اليوم. وروي بنحو ذلك خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من وجْه وسَنَدٍ غير مرتضى أنه قال: يَمْثُل لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله يوم القيامة، فيتَّبعونهم حتى يوردوهم النار. قال: ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت ) . وقال بعضهم: بل معناه: يتلو كتاب حسناته وسيئاته. يعني يقرأ، كما قال جل ثناؤه: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ، [ سورة الإسراء: 13 ] . وقال آخرون: « تَتْلو » تعاين. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( هنالك تَتْلو كل نفس ما أسلفت ) ، قال: ما عملت. تتلو: تعاينه. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القراء، وهما متقاربتا المعنى. وذلك أن من تبع في الآخرة ما أسلفَ من العمل في الدنيا، هجم به على مَوْرده، فيخبر هنالك ما أسلفَ من صالح أو سيئ في الدنيا، وإنّ مَنْ خَبَر من أسلف في الدنيا من أعماله في الآخرة، فإنما يخبرُ بعد مصيره إلى حيث أحلَّه ما قدم في الدنيا من علمه، فهو في كلتا الحالتين مُتَّبع ما أسلف من عمله ، مختبر له، فبأيتهما قرأ القارئ كما وصفنا ، فمصيبٌ الصوابَ في ذلك. وأما قوله: ( وردّوا إلى الله مولاهم الحق ) ، فإنه يقول: ورجع هؤلاء المشركون يومئذٍ إلى الله الذي هو ربهم ومالكهم ، الحقّ لا شك فيه ، دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الآلهة والأنداد ( وضل عنهم ما كانوا يفترون ) ، يقول: وبطل عنهم ما كانوا يتخرَّصون من الفرية والكذب على الله بدعواهم أوثانهم أنها لله شركاء، وأنها تقرِّبهم منه زُلْفَى، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وردوا إلى الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ) ، قال: ما كانوا يدعون معه من الأنداد والآلهة، ما كانوا يفترون الآلهة، وذلك أنهم جعلوها أندادًا وآلهة مع الله افتراءً وكذبًا. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ( 31 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الأوثانَ والأصنامَ ( من يرزقكم من السماء ) ، الغيثَ والقطر ، ويطلع لكم شمسها ، ويُغْطِش ليلها ، ويخرج ضحاها ومن الأرض أقواتَكم وغذاءَكم الذي ينْبته لكم ، وثمار أشجارها ( أَمَّنْ يملك السمع والأبصار ) يقول: أم من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم التي تسمعون بها : أن يزيدَ في قواها ، أو يسلبكموها ، فيجعلكم صمًّا، وأبصاركم التي تبصرون بها : أن يضيئها لكم وينيرها، أو يذهب بنورها ، فيجعلكم عُمْيًا لا تبصرون ( ومن يخرج الحي من الميت ) ، يقول: ومن يخرج الشيء الحي من الميت ( ويخرج الميت من الحي ) ، يقول: ويخرج الشيء الميت من الحيّ. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين من أهل التأويل، والصواب من القول عندنا في ذلك بالأدلّة الدالة على صحته ، في « سورة آل عمران » ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. ( ومن يدبر الأمر ) ، وقل لهم: من يُدبر أمر السماء والأرض وما فيهن ، وأمركم وأمرَ الخلق ؟ ( فسيقولون الله ) ، يقول جل ثناؤه: فسوف يجيبونك بأن يقولوا : الذي يفعل ذلك كله الله ( فقل أفلا تتقون ) ، يقول: أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم ربًّا غيرَ من هذه الصفة صفتُه، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئًا ، ولا يملك لكم ضرًا ولا نفعا، ولا يفعل فعلا؟ القول في تأويل قوله تعالى : فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( 32 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لخلقه: أيها الناس، فهذا الذي يفعل هذه الأفعال، فيرزقكم من السماء والأرض ، ويملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت والميت من الحي، ويدبر الأمر; ( الله ربُّكم الحق ) ، لا شك فيه ( فماذا بعد الحق إلا الضلال ) ، يقول: فأي شيء سوى الحق إلا الضلال ، وهو الجور عن قصد السبيل؟ يقول: فإذا كان الحقُّ هو ذا، فادعاؤكم غيره إلهًا وربًّا، هو الضلال والذهاب عن الحق لا شك فيه ( فأنى تصرفون ) ، يقول: فأيّ وجه عن الهدى والحق تُصرفون ، وسواهما تسلكون ، وأنتم مقرُّون بأن الذي تُصْرَفون عنه هو الحق؟ القول في تأويل قوله تعالى : كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ( 33 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما قد صُرِف هؤلاء المشركون عن الحق إلى الضلال ( كذلك حقت كلمة ربك ) ، يقول: وجب عليهم قضاؤه وحكمه في السابق من علمه ( على الذين فسقوا ) ، فخرجوا من طاعة ربهم إلى معصيته وكفروا به ( أنهم لا يؤمنون ) ، يقول: لا يصدِّقون بوحدانية الله ولا بنبوة نبيه صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( 34 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد ( هل من شركائكم ) ، يعني من الآلهة والأوثان ( من يبدأ الخلق ثم يعيده ) ، يقول: من ينشئ خَلْق شيء من غير أصل، فيحدث خلقَه ابتداءً ( ثم يعيده ) ، يقول: ثم يفنيه بعد إنشائه، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيَه، فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك لها. وفي ذلك الحجة القاطعة والدِّلالة الواضحة على أنهم في دعواهم أنها أربابٌ ، وهي لله في العبادة شركاء ، كاذبون مفترون. فقل لهم حينئذ ، يا محمد: الله يبدأ الخلق فينشئه من غير شيء ، ويحدثه من غير أصل ، ثم يفنيه إذا شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل الفناء ( فأنى تؤفكون ) ، يقول: فأيّ وجه عن قصد السبيل وطريق الرُّشد تُصْرَفون وتُقْلَبُون؟ كما:- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: ( فأنى تؤفكون ) ، قال: أنى تصرفون؟ وقد بينا اختلاف المختلفين في تأويل قوله: ( أنى تؤفكون ) ، والصواب من القول في ذلك عندنا ، بشواهده في « سورة الأنعام » . القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ( 35 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد لهؤلاء المشركين ( هل من شركائكم ) ، الذين تدعون من دون الله، وذلك آلهتهم وأوثانُهم، ( من يهدي إلى الحق ) يقول: من يرشد ضالا من ضلالته إلى قصد السبيل، ويسدِّد جائرًا عن الهدى إلى واضح الطريق المستقيم؟ فإنهم لا يقدرون أن يدَّعوا أن آلهتهم وأوثانهم تُرشد ضالا أو تهدي جائرًا. وذلك أنهم إن ادَّعوا ذلك لها أكذبتهم المشاهدة ، وأبان عجزَها عن ذلك الاختبارُ بالمعاينة. فإذا قالوا « لا » وأقرُّوا بذلك، فقل لهم. فالله يهدي الضالَّ عن الهدى إلى الحق ( أفمن يهدي ) أيها القوم ضالا إلى الحقّ، وجائرًا عن الرشد إلى الرشد ( أحق أن يتبع ) ، إلى ما يدعو إليه ( أَمَّنْ لا يهدِّي إِلا أن يُهدى ) ؟ واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته عامة قراء أهل المدينة: ( أَمَّنْ لا يَهْدِّي ) بتسكين الهاء ، وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك أنهم وجَّهوا أصل الكلمة إلى أنه: أم من لا يهتدي، ووجدوه في خطّ المصحف بغير ما قرءوا ، وأن التاء حذفت لما أدغمت في الدال، فأقرُّوا الهاء ساكنة على أصلها الذي كانت عليه، وشدَّدوا الدال طلبًا لإدغام التاء فيها، فاجتمع بذلك سكون الهاء والدال. وكذلك فعلوا في قوله: وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ، [ سورة النساء: 154 ] ، وفي قوله: يَخِصِّمُونَ ، [ سورة يس: 49 ] . وقرأ ذلك بعض قراء أهل مكة والشام والبصرة « ( يَهَدِّي ) بفتح الهاء وتشديد الدال. وأمُّوا ما أمَّه المدنيون من الكلمة، غير أنهم نقلوا حركة التاء من » يهتدي « : إلى الهاء الساكنة، ، فحرَّكوا بحركتها ، وأدغموا التاء في الدال فشدّدوها. » وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة: ( يَهِدِّي ) ، بفتح الياء، وكسر الهاء ، وتشديد الدال، بنحو ما قصدَه قراء أهل المدينة، غير أنه كسر الهاء لكسرة الدال من « يهتدي » ، استثقالا للفتحة بعدها كسرةٌ في حرف واحدٍ. وقرأ ذلك بعدُ ، عامة قراء الكوفيين ( أَمَّنْ لا يَهْدِي ) ، بتسكين الهاء وتخفيف الدال. وقالوا: إن العرب تقول: « هديت » بمعنى « اهتديت » ، قالوا: فمعنى قوله: ( أَمَّنْ لا يهدي ) : أم من لا يَهْتَدي إلا أن يهدى . قال أبو جعفر: وأولى القراءة في ذلك بالصواب ، قراءةُ من قرأ: ( أَمَّنْ لا يَهَدِّي ) بفتح الهاء وتشديد الدال، لما وصفنا من العلة لقارئ ذلك كذلك، وأن ذلك لا يدفع صحته ذو علم بكلام العرب ، وفيهم المنكر غيره. وأحقُّ الكلام أن يقرأ بأفصح اللغات التي نـزل بها كلامُ الله. فتأويل الكلام إذًا: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع، أم من لا يهتدي إلى شيء إلا أن يهدى ؟ وكان بعض أهل التأويل يزعم أن معنى ذلك: أم من لا يقدر أن ينتقل عن مكانه إلا أن يُنْقل. وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أَمَّنْ لا يهدّي إلا أن يهدى ) ، قال: الأوثان، الله يهدي منها ومن غيرها من شاء لمن شاء. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( أمن لا يهدي إلا أن يهدى ) ، قال: قال: الوثن. وقوله: ( فما لكم كيف تحكمون ) ، ألا تعلمون أن من يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع من الذي لا يهتدي إلى شيء ، إلا أن يهديه إليه هادٍ غيره، فتتركوا اتّباع من لا يهتدي إلى شيء وعبادته ، وتتبعوا من يهديكم في ظلمات البر والبحر ، وتخلصوا له العبادة فتفردوه بها وحده ، دون ما تشركونه فيها من آلهتكم وأوثانكم؟ القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ( 36 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ظنا، يقول: إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته، بل هم منه في شكٍّ وريبة ( إن الظن لا يغني من الحق شيئًا ) ، يقول: إن الشك لا يغني من اليقين شيئًا ، ولا يقوم في شيء مقامَه، ولا ينتفع به حيث يُحتاج إلى اليقين ( إن الله عليم بما يفعلون ) ، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون ، من اتباعهم الظن ، وتكذيبهم الحق اليقين، وهو لهم بالمرصاد، حيث لا يُغني عنهم ظنّهم من الله شيئًا . القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 37 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى من دون الله، يقول: ما ينبغي له أن يتخرَّصه أحد من عند غير الله. وذلك نظير قوله: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [ سورة آل عمران: 161 ] ، بمعنى: ما ينبغي لنبي أن يغلَّه أصحابُه. وإنما هذا خبرٌ من الله جل ثناؤه أن هذا القرآن من عنده، أنـزله إلى محمد عبده، وتكذيبٌ منه للمشركين الذين قالوا: « هو شعر وكهانة » ، والذين قالوا: « إنما يتعلمه محمد من يحنّس الروميّ » . يقول لهم جل ثناؤه: ما كان هذا القرآن ليختلقه أحدٌ من عند غير الله، لأن ذلك لا يقدر عليه أحدٌ من الخلق ( ولكن تصديق الذي بين يديه ) ، أي : يقول تعالى ذكره: ولكنه من عند الله أنـزله مصدِّقًا لما بين يديه، أي لما قبله من الكتب التي أنـزلت على أنبياء الله ، كالتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله التي أنـزلها على أنبيائه ( وتفصيل الكتاب ) ، يقول: وتبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفرائضه التي فرضها عليهم في السابق من علمه يقول: ( لا ريب فيه ) لا شك فيه أنه تصديق الذي بين يديه من الكتاب وتفصيل الكتاب من عند رب العالمين، لا افتراءٌ من عند غيره ولا اختلاقٌ. القول في تأويل قوله تعالى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 38 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: افترى محمد هذا القرآن من نفسه فاختلقه وافتعله؟ قل يا محمد لهم: إن كان كما تقولون إني اختلقته وافتريته، فإنكم مثلي من العَرب، ولساني مثل لسانكم، وكلامي [ مثل كلامكم ] ، فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن. و « الهاء » في قوله « مثله » ، كناية عن القرآن. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى ذلك: قل فأتوا بسورة مثل سورته ثم ألقيت « سورة » ، وأضيف « المثل » إلى ما كان مضافًا إليه « السورة » ، كما قيل: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [ سورة يوسف: 82 ] يراد به: واسأل أهل القرية. وكان بعضهم ينكر ذلك من قوله ، ويزعم أن معناه: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ، أن « السورة » إنما هي سورة من القرآن، وهي قرآن، وإن لم تكن جميع القرآن. فقيل لهم: ( فأتوا بسورة مثله ) ، ولم يقل: « مثلها » ، لأن الكناية أخرجت على المعنى أعني معنى « السورة » لا على لفظها، لأنها لو أخرجت على لفظها لقيل: « فأتوا بسورة مثلها » . ( وادعوا من استطعتم من دون الله ) ، يقول: وادعوا، أيها المشركون على أن يأتوا بسورة مثلها مَنْ قدرتم أن تدعوا على ذلك من أوليائكم وشركائكم ( من دون الله ) ، يقول: من عند غير الله، فأجمِعُوا على ذلك واجتهدوا، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بسورةٍ مثله أبدًا. وقوله: ( إن كنتم صادقين ) ، يقول: إن كنتم صادقين في أن محمدًا افتراه، فأتوا بسورة مثله من جميع من يعينكم على الإتيان بها. فإن لم تفعلوا ذلك ، فلا شك أنكم كَذَبَةٌ في زعمكم أن محمدًا افتراه، لأن محمدًا لن يَعْدُوَ أن يكون بشرًا مثلكم، فإذا عجز الجميع من الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثله، فالواحد منهم عن أن يأتي بجميعه أعجز. القول في تأويل قوله تعالى : بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ( 39 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين يا محمد ، تكذيبك ولكن بهم التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه ممَّا أنـزل الله عليك في هذا القرآن، من وعيدهم على كفرهم بربهم ( ولما يأتهم تأويله ) ، يقول: ولما يأتهم بعدُ بَيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعّدهم الله في هذا القرآن ( كذلك كذب الذين من قبلهم ) ، يقول تعالى ذكره: كما كذب هؤلاء المشركون ، يا محمد ، بوعيد الله، كذلك كذّب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم ( فانظر كيف كان عاقبة الظالمين ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر ، يا محمد ، كيف كان عُقْبى كفر من كفر بالله، ألم نهلك بعضهم بالرجفة ، وبعضهم بالخسْف وبعضهم بالغرق؟ يقول: فإن عاقبة هؤلاء الذي يكذبونك ويجحدون بآياتي من كفار قومك، كالتي كانت عاقبة من قبلهم من كفرة الأمم، إن لم ينيبوا من كفرهم ، ويسارعوا إلى التوبة. القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ( 40 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن قومك ، يا محمد ، من قريش ، من سوف يؤمن به يقول: من سوف يصدِّق بالقرآن ويقرُّ أنه من عند الله ( ومنهم من لا يؤمن به ) أبدًا ، يقول: ومنهم من لا يصدق به ولا يقرُّ أبدًا ( وربك أعلم بالمفسدين ) يقول : والله أعلم بالمكذّبين به منهم، الذين لا يصدقون به أبدًا، من كل أحدٍ ، لا يخفى عليه، وهو من وراء عقابه. فأما من كتبتُ له أن يؤمن به منهم ، فإني سأتوب عليه. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ( 41 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن كذبك ، يا محمد ، هؤلاء المشركون، وردُّوا عليك ما جئتهم به من عند ربك، فقل لهم: أيها القوم ، لي ديني وعملي ، ولكم دينكم وعملكم، لا يضرني عملكم ، ولا يضركم عملي، وإنما يُجازَى كل عامل بعمله ( أنتم بريئون مما أعمل ) ، لا تُؤْاخذون بجريرته ( وأنا بريء مما تعملون ) ، لا أوخذ بجريرة عملكم. وهذا كما قال جل ثناؤه: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [ سورة الكافرون: 1- 3 ] . وقيل: إن هذه الآية منسوخة، نسخها الجهاد والأمر بالقتال. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم ) الآية، قال: أمرَه بهذا ، ثم نَسَخه وأمرَه بجهادهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ ( 42 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ومن هؤلاء المشركين من يستمعون إلى قولك ( أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ) ، يقول: أفأنت تخلق لهم السمع ، ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به، أم أنا؟ وإنما هذا إعلامٌ من الله عبادَه أن التوفيق للإيمان به بيده لا إلى أحد سواه. يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما أنك لا تقدر أن تسمع ، يا محمد ، من سلبته السمع، فكذلك لا تقدر أن تفهم أمري ونهيي قلبًا سلبته فهم ذلك، لأني ختمتُ عليه أنه لا يؤمن. القول في تأويل قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ ( 43 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المشركين، مشركي قومِك، من ينظر إليك ، يا محمد، ويرى أعلامك وحُججَك على نبوتك، ولكن الله قد سلبه التوفيقَ فلا يهتدي، ولا تقدر أن تهديه، كما لا تقدر أن تحدِث للأعمى بصرًا يهتدي به ( أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ) ، يقول: أفأنت يا محمد ، تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك ، فلا يوفَّقون للتصديق بك أبصارًا ، لو كانوا عُمْيًا يهتدون بها ويبصرون؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك، ولا يقدر عليه أحدٌ سواي، فكذلك لا تقدر على أن تبصِّرهم سبيلَ الرشاد أنت ولا أحدٌ غيري، لأن ذلك بيدي وإليّ. وهذا من الله تعالى ذكره تسليةٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم عن جماعةٍ ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذب، وتعزية له عنهم، وأمرٌ برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 44 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله لا يفعل بخلقه ما لا يستحقون منه، لا يعاقبهم إلا بمعصيتهم إيّاه، ولا يعذبهم إلا بكفرهم به ( ولكن الناس ) ، يقول: ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم ، باجترامهم ما يورثها غضبَ الله وسخطه. وإنما هذا إعلام من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه لم يسلُبْ هؤلاء الذين أخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم لا يؤمنون الإيمانَ ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم وإخبارٌ أنه إنما سلبهم ذلك باستحقاقٍ منهم سَلْبَه، لذنوبٍ اكتسبوها، فحق عليهم قول ربهم، وطبع على قلوبهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 45 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب، كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم، ثم انقطعت المعرفة ، وانقضت تلك الساعة يقول الله: ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ، قد غُبن الذين جحدوا ثوابَ الله وعقابه وحظوظَهم من الخير وهلكوا ( وما كانوا مهتدين ) يقول: وما كانوا موفّقين لإصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله ، لأنه أكسبهم ذلك ما لا قِبَل لهم به من عذاب الله. القول في تأويل قوله تعالى : وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ( 46 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإما نرينّك ، يا محمد ، في حياتك بعضَ الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك من العذاب ( أو نتوفينك ) قبل أن نريك ذلك فيهم ( فإلينا مرجعهم ) ، يقول: فمصيرهم بكل حال إلينا، ومنقلبهم ( ثم الله شهيد على ما يفعلون ) ، يقول جل ثناؤه : ثم أنا شاهد على أفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا، وأنا عالم بها لا يخفى عليّ شيء منها، وأنا مجازيهم بها عند مصيرهم إليّ ومرجعهم ، جزاءهم الذي يستحقُّونه، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم ) ، من العذاب في حياتك ( أو نتوفينك ) ، قبل ( فإلينا مرجعهم ) . حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. القول في تأويل قوله تعالى : وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 47 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكل أمة خلت قبلكم ، أيها الناس ، رسول أرسلته إليهم، كما أرسلت محمدًا إليكم ، يدعون من أرسلتهم إليهم إلى دين الله وطاعته ( فإذا جاء رسولهم ) ، يعني: في الآخرة، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم ) ، قال: يوم القيامة. وقوله: ( قضي بينهم بالقسط ) ، يقول قضي حينئذ بينهم بالعدل ( وهم لا يظلمون ) ، من جزاء أعمالهم شيئًا ، ولكن يجازي المحسن بإحسانه . والمسيءُ من أهل الإيمان ، إما أن يعاقبه الله ، وإما أن يعفو عنه، والكافر يخلد في النارِ. فذلك قضاء الله بينهم بالعدل، وذلك لا شكّ عدلٌ لا ظلمٌ. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( قضي بينهم بالقسط ) ، قال: بالعدل. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( 48 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ويقول هؤلاء المشركون من قومك ، يا محمد ( متى هذا الوعد ) ، الذي تعدنا أنه يأتينا من عند الله؟ وذلك قيام الساعة ( إن كنتم صادقين ) ، أنت ومن تبعك ، فيما تعدوننا به من ذلك. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( 49 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: « قل » ، يا محمد، لمستعجليك وعيدَ الله، القائلين لك: متى يأتينا الوعد الذي تعدنا إن كنتم صادقين؟ ( لا أملك لنفسي ) ، أيها القوم، أي : لا أقدرُ لها على ضرٍّ ولا نفع في دنيا ولا دين ( إلا ما شاء الله ) ، أن أملكه، فأجلبه إليها بإذنه. يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: فإذْ كنت لا أقدر على ذلك إلا بإذنه ، فأنا عن القدرة على الوصول إلى علم الغيب ومعرفة قيام الساعة أعجز وأعجز، إلا بمشيئته وإذنه لي في ذلك ( لكل أمة أجل ) ، يقول: لكل قوم ميقاتٌ لانقضاء مدتهم وأجلهم، فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم ( لا يستأخرون ) ، عنه ( ساعة ) ، فيمهلون ويؤخرون، ( ولا يستقدمون ) ، قبل ذلك، لأن الله قضى أن لا يتقدم ذلك قبل الحين الذي قدَّره وقضاه. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ( 50 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بياتًا، يقول: ليلا أو نهارا، وجاءت الساعة وقامت القيامة ، أتقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم؟ يقول الله تعالى ذكره: ماذا يستعجلُ من نـزول العذاب، المجرمون الذين كفروا بالله، وهم الصالون بحرِّه دون غيرهم، ثم لا يقدرون على دفعه عن أنفسهم؟ القول في تأويل قوله تعالى : أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ( 51 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أهنالك إذا وقع عذابُ الله بكم أيها المشركون « آمنتم به » ، يقول: صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيها التصديق، وقيل لكم حينئذ: آلآنَ تصدّقون به، وقد كنتم قبل الآن به تستعجلون، وأنتم بنـزوله مكذبون؟ فذوقوا الآن ما كنتم به تكذّبون. ومعنى قوله: ( أثم ) ، في هذا الموضع: أهنالك ، وليست « ثُمَّ » هذه هاهنا التي تأتي بمعنى العطف. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ( 52 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( ثم قيل للذين ظلموا ) ، أنفسهم ، بكفرهم بالله ( ذوقوا عذاب الخلد ) ، تجرّعوا عذابَ الله الدائم لكم أبدًا، الذي لا فناء له ولا زوال ( هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) ، يقول: يقال لهم: فانظروا هل تجزون، أي : هل تثابون ( إلا بما كنتم تكسبون ) ، يقول: إلا بما كنتم تعملون في حياتكم قبل مماتكم من معاصي الله. القول في تأويل قوله تعالى : وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ( 53 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويستخبرك هؤلاء المشركون من قومك ، يا محمد ، فيقولون لك: أحق ما تقول ، وما تعدنا به من عذاب الله في الدار الآخرة جزاءً على ما كنا نكسِب من معاصي الله في الدنيا؟ قل لهم يا محمد : « إي وربي إنه لحق » ، لا شك فيه، وما أنتم بمعجزي الله إذا أراد ذلك بكم ، بهربٍ ، أو امتناع، بل أنتم في قبضته وسلطانه وملكه، إذا أراد فعل ذلك بكم، فاتقوا الله في أنفسكم. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 54 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أن لكل نفس كفرت بالله و « ظلمها » ، في هذا الموضع، عبادتُها غيرَ من يستحق عبادته، وتركها طاعة من يجب عليها طاعته ( ما في الأرض ) ، من قليل أو كثير ( لافتدت به ) ، يقول: لافتدت بذلك كلِّه من عذاب الله إذا عاينته وقوله: ( وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ) ، يقول: وأخفتْ رؤساء هؤلاء المشركين من وضعائهم وسفلتهم الندامةَ حين أبصرُوا عذاب الله قد أحاط بهم، وأيقنوا أنه واقع بهم ( وقضي بينهم بالقسط ) ، يقول: وقضى الله يومئذ بين الأتباع والرؤساء منهم بالعدل ( وهم لا يظلمون ) ، وذلك أنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا بجريرته ، ولا يأخذه بذنب أحدٍ، ولا يعذِّب إلا من قد أعذر إليه في الدنيا وأنذر وتابع عليه الحجج. القول في تأويل قوله تعالى : أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( 55 ) قال أبو جعفر: يقول جل ذكره: ألا إنّ كل ما في السموات وكل ما في الأرض من شيء ، لله مِلْك، لا شيء فيه لأحدٍ سواه . يقول: فليس لهذا الكافر بالله يومئذٍ شيء يملكه فيفتدي به من عذاب ربّه، وإنما الأشياء كلها للذي إليه عقابه. ولو كانت له الأشياء التي هي في الأرض ثم افتدى بها ، لم يقبل منه بدلا من عذابه ، فيصرف بها عنه العذاب، فكيف وهو لا شيء له يفتدى به منه ، وقد حقَّ عليه عذاب الله؟ يقول الله جل ثناؤه: ( ألا إن وعد الله حق ) ، يعني أن عذابه الذي أوعد هؤلاء المشركين على كفرهم حقٌّ، فلا عليهم أن لا يستعجلوا به ، فإنه بهم واقع لا شك ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) ، يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون حقيقةَ وقوع ذلك بهم، فهم من أجل جهلهم به مكذِّبون. القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 56 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله هو المحيي المميت ، لا يتعذّر عليه فعلُ ما أراد فعله من إحياء هؤلاء المشركين إذا أراد إحياءهم بعد مماتهم ، ولا إماتتهم إذا أراد ذلك، وهم إليه يصيرون بعد مماتهم ، فيعاينون ما كانوا به مكذبين من وعيدِ الله وعقابه. القول في تأويل قوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( 57 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لخلقه: ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ) ، يعني : ذكرى تذكركم عقابَ الله وتخوّفكم وعيده ( من ربكم ) ، يقول: من عند ربكم ، لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يفتعلها أحد، فتقولوا: لا نأمن أن تكون لا صحةَ لها. وإنما يعني بذلك جلّ ثناؤه القرآن، وهو الموعظة من الله. وقوله: ( وشفاء لما في الصدور ) ، يقول: ودواءٌ لما في الصدور من الجهل، يشفي به الله جهلَ الجهال، فيبرئ به داءهم ، ويهدي به من خلقه من أراد هدايته به ( وهدى ) ، يقول: وهو بيان لحلال الله وحرامه، ودليلٌ على طاعته ومعصيته ( ورحمة ) ، يرحم بها من شاء من خلقه، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى، وينجيه به من الهلاك والردى. وجعله تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين به دون الكافرين به، لأن من كفر به فهو عليه عمًى، وفي الآخرة جزاؤه على الكفر به الخلودُ في لظًى. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( 58 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) يا محمد لهؤلاء المكذِّبين بك وبما أنـزل إليك من عند ربك ( بفضل الله ) ، أيها الناس ، الذي تفضل به عليكم، وهو الإسلام، فبيَّنه لكم ، ودعاكم إليه ( وبرحمته ) ، التي رحمكم بها، فأنـزلها إليكم، فعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه، وبصَّركم بها معالم دينكم، وذلك القرآن ( فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه ، والقرآن الذي أنـزله عليهم، خيرٌ مما يجمعون من حُطَام الدنيا وأموالها وكنوزها. وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني علي بن الحسن الأزدي قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري في قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) ، قال: بفضل الله القرآن ( وبرحمته ) أن جعَلَكم من أهله. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال ، حدثنا فضيل، عن منصور، عن هلال بن يساف: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) ، قال: بالإسلام الذي هداكم، وبالقرآن الذي علّمكم. حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا ابن يمان قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف: ( قل بفضل الله وبرحمته ) ، قال: بالإسلام والقرآن ( فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، من الذهب والفضَّة. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته ) ، قال: « فضل الله » ، الإسلام، و « رحمته » ، القرآن. حدثني علي بن سهل قال ، حدثنا زيد قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته ) ، قال: الإسلام والقرآن. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف مثله. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال، مثله. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) ، أما فضله فالإسلام، وأما رحمته فالقرآن. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: ( قل بفضل الله وبرحمته ) ، قال: فضله: الإسلام، ورحمته القرآن. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( قل بفضل الله وبرحمته ) ، قال: القرآن. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( وبرحمته ) ، قال: القرآن. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: ( هو خير مما يجمعون ) ، قال: الأموال وغيرها. حدثنا علي بن داود قال ، حدثني أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: ( قل بفضل الله وبرحمته ) يقول: فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) ، قال: بكتاب الله ، وبالإسلام ( هو خير مما يجمعون ) . وقال آخرون: بل « الفضل » : القرآن و « الرحمة » ، الإسلام. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، قال: ( بفضل الله ) ، القرآن، ( وبرحمته ) ، حين جعلهم من أهل القرآن. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا جعفر بن عون قال ، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: « فضل الله » ، القرآن، و « رحمته » ، الإسلام. حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون، قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته ) قال: ( بفضل الله ) القرآن، ( وبرحمته ) ، الإسلام. حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) ، قال: كان أبي يقول: فضله القرآن، ورحمته الإسلام. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( فبذلك فليفرحوا ) . فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار: ( فَلْيَفْرَحُوا ) بالياء ( هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) بالياء أيضًا على التأويل الذي تأولناه ، من أنه خبر عن أهل الشرك بالله. يقول: فبالإسلام والقرآن الذي دعاهم إليه ، فليفرح هؤلاء المشركون، لا بالمال الذي يجمعون، فإن الإسلام والقرآن خيرٌ من المال الذي يجمعون، وكذلك:- حدثت عن عبد الوهاب بن عطاء، عن هارون، عن أبي التيّاح: ( فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) ، يعني الكفار. ورُوي عن أبيّ بن كعب في ذلك ما:- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أسلم المنقري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب : أنه كان يقرأ: ( فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) ، بالتاء. حدثني المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الأجلح، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب ، مثل ذلك. وكذلك كان الحسن البصري يقول: غير أنه فيما ذُكر عنه كان يقرأ قوله: ( هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) ، بالياء; الأول على وجه الخطاب، والثاني على وجه الخبر عن الغائب. وكان أبو جعفر القارئ، فيما ذكر عنه، يقرأ ذلك نحو قراءة أبيّ ، بالتاء جميعًا. قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار من قراءة الحرفين جميعًا بالياء: ( فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) لمعنيين: أحدهما: إجماع الحجة من القراء عليه. والثاني: صحته في العربية، وذلك أن العرب لا تكاد تأمر المخاطب باللام والتاء، وإنما تأمره فتقول: « افعل ولا تفعل » . وبعدُ، فإني لا أعلم أحدًا من أهل العربية إلا وهو يستردئ أمر المخاطب باللام، ويرى أنها لغة مرغوب عنها ، غير الفراء، فإنه كان يزعم أن الّلام في الأمر [ هي البناء الذي خلق له ] ، واجهتَ به أم لم تُوَاجِهْ، إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجَه ، لكثرة الأمر خاصةً في كلامهم، كما حذَفوا التاء من الفعل. قال: وأنت تعلم أن الجازم والناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوله الياء والتاء والنون والألف، فلما حُذِفت التاء ذهبت اللام ، وأُحدِثَت الألف في قولك: « اضرب » و « افرح » ، لأن الفاء ساكنة، فلم يستقم أن يستأنف بحرف ساكنٍ، فأدخلوا ألفًا خفيفة يقع بها الابتداء، كما قال: ادَّارَكُوا ، [ سورة الأعراف: 38 ] و اثَّاقَلْتُمْ ، [ سورة التوبة: 38 ] . وهذا الذي اعتلّ به الفراء عليه لا له، وذلك أن العَرب إن كانت قد حذفت اللام في المواجَه وتركتها، فليس لغيرها إذا نطق بكلامها أن يُدْخِل فيها ما ليس منه ما دام متكلِّمًا بلغتها. فإن فعل ذلك ، كان خارجًا عن لغتها، وكتابُ الله الذي أنـزله على محمد بلسانها، فليس لأحدٍ أن يتلوه إلا بالأفصح من كلامها، وإن كان معروفًا بعضُ ذلك من لغة بعضها، فكيف بما ليس بمعروف من لغة حيّ ولا قبيلة منها؟ وإنما هو دعوى لا تثبتُ بها [ حجّة ] ولا صحة . القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ( 59 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( قل ) يا محمد لهؤلاء المشركين: ( أرأيتم ) أيها الناس ( ما أنـزل الله لكم من رزق ) ، يقول: ما خلق الله لكم من الرزق فخَوَّلكموه، وذلك ما تتغذون به من الأطعمة ( فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) ، يقول: فحللتم بعضَ ذلك لأنفسكم، وحرمتم بعضه عليها، وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرِّمونه من حُروثهم التي كانوا يجعلونها لأوثانهم، كما وصفهم الله به فقال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [ سورة الأنعام: 136 ] . ومن الأنعام ما كانوا يحرّمونه بالتبحير والتسيبب ونحو ذلك، مما قدّمناه فيما مضى من كتابنا هذا. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد ( آلله أذن لكم ) بأن تحرِّموا ما حرَّمتم منه ( أم على الله تفترون ) ، : أي تقولون الباطل وتكذبون؟ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله: ( قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) وهو هذا. فأنـزل الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ الآية [ سورة الأعراف: 32 ] . حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبى قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ( قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم ) إلى قوله: ( أم على الله تفترون ) ، قال: هم أهل الشرك. حدثني القاسم، قال، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: ( فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) ، قال: الحرث والأنعام قال ابن جريج قال ، مجاهد: البحائر والسُّيَّب . حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) قال: في البحيرة والسائبة. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) ، الآية، يقول: كل رزق لم أحرِّم حرَّمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم ، آلله أذن لكم فيما حرمتم من ذلك ، أم على الله تفترون؟ حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) ، فقرأ حتى بلغ: ( أم على الله تفترون ) ، وقرأ : وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا [ سورة الأنعام: 139 ] ، وقرأ: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ حتى بلغ: لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا [ سورة الأنعام: 138 ] فقال: هذا قوله: جعل لهم رزقًا، فجعلوا منه حرامًا وحلالا وحرموا بعضه وأحلوا بعضه. وقرأ: ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ ، أيّ هذين حرم على هؤلاء الذين يقولون وأحل لهؤلاء، نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا ، إلى آخر الآيات، [ سورة الأنعام: 144 ] . حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا ) ، هو الذي قال الله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا إلى قوله: سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ، [ سورة الأنعام: 136 ] . القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ( 60 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما ظن هؤلاء الذين يتخرَّصون على الله الكذبَ فيضيفون إليه تحريم ما لم يحرّمه عليهم من الأرزاق والأقوات التي جعلها الله لهم غذاءً، أنَّ الله فاعلٌ بهم يوم القيامة بكذبهم وفريتهم عليه؟ أيحسبون أنه يصفح عنهم ويغفر؟ كلا بل يصليهم سعيرًا خالدين فيها أبدًا ( إن الله لذو فضل على الناس ) ، يقول: إن الله لذو تفضُّل على خلقه بتركه معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا ، وإمهاله إياه إلى وروده عليه في القيامة ( ولكن أكثرهم لا يشكرون ) ، يقول: ولكن أكثر الناس لا يشكرونه على تفضُّله عليهم بذلك ، وبغيره من سائر نعمه. القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ( 61 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( وما تكون ) ، يا محمد ( في شأن ) ، يعني: في عمل من الأعمال ( وما تتلوا منه من قرآن ) ، يقول: وما تقرأ من كتاب الله من قرآن ( ولا تعملون من عمل ) ، يقول: ولا تعملون من عمل أيها الناس ، من خير أو شر ( إلا كنَّا عليكم شهودًا ) ، يقول: إلا ونحن شهود لأعمالكم وشئونكم ، إذ تعملونها وتأخذون فيها. وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي القول عن ابن عباس وجماعة. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( إذ تفيضون فيه ) ، يقول: إذ تفعلون. وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تشيعون في القرآن الكذبَ. ذكر من قال ذلك: حدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: ( إذ تفيضون فيه ) ، يقول: تشيعون في القرآن من الكذب. وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تفيضون في الحق. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( إذ تفيضون فيه ) ، في الحق ما كان. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأنه تعالى ذكره أخبر أنه لا يعمل عباده عملا إلا كان شاهدَه، ثم وصل ذلك بقوله: ( إذ يفيضون فيه ) ، فكان معلومًا أن قوله: ( إذ تفيضون فيه ) إنما هو خبرٌ منه عن وقت عمل العاملين أنه له شاهد لا عن وَقْت تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، لأن ذلك لو كان خبرًا عن شهوده تعالى ذكره وقتَ إفاضة القوم في القرآن، لكانت القراءة بالياء: « إذ يفيضون فيه » خبرًا منه عن المكذبين فيه. فإن قال قائل: ليس ذلك خبرًا عن المكذبين، ولكنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أنه شاهده إذْ تلا القرآن. فإن ذلك لو كان كذلك لكان التنـزيل : ( إذ تفيضون فيه ) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم واحدٌ لا جمع، كما قال: ( وما تتلوا منه من قرآن ) ، فأفرده بالخطاب ولكن ذلك في ابتدائه خطابَه صلى الله عليه وسلم بالإفراد ، ثم عَوْده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ، [ سورة الطلاق: 1 ] ، وذلك أن في قوله: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ، دليلا واضحًا على صرفه الخطابَ إلى جماعة المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم مع جماعة الناس غيره، لأنه ابتدأ خطابه ، ثم صرف الخطابَ إلى جماعة الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم. وخبرٌ عن أنه لا يعمل أحدٌ من عباده عملا إلا وهو له شاهد ، يحصى عليه ويعلمه كما قال: ( وما يعزب عن ربك ) ، يا محمد ، عمل خلقه، ولا يذهب عليه علم شيء حيث كان من أرض أو سماء. وأصله من « عزوب الرجل عن أهله في ماشيته » ، وذلك غيبته عنهم فيها، يقال منه: « عزَبَ الرَّجل عن أهله يَعْزُبُ ويَعْزِبُ » . لغتان فصيحتان، قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء. وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما واستفاضتهما في منطق العرب، غير أني أميل إلى الضم فيه ، لأنه أغلب على المشهورين من القراء. وقوله: ( من مثقال ذرة ) ، يعني: من زنة نملة صغيرة. يحكى عن العرب: « خذ هذا فإنه أخف مثقالا من ذاك، أي: أخفُّ وزنًا. » و « الذرّة » واحدة : « الذرّ » ، و « الذرّ » ، صغار النمل. قال أبو جعفر: وذلك خبَرٌ عن أنه لا يخفى عليه جل جلاله أصغر الأشياء، وإن خف في الوزن كلّ الخفة، ومقاديرُ ذلك ومبلغه، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه، وكم مبلغ ذلك . يقول تعالى ذكره لخلقه: فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربَّكم عنكم، فإنّا شهود لأعمالكم، لا يخفى علينا شيء منها، ونحن محصُوها ومجازوكم بها. واختلفت القراء في قراءة قوله: ( ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) . فقرأ ذلك عامة القراء بفتح الراء من ( أَصْغَرَ ) و ( أَكْبَرَ ) على أن معناها الخفض، عطفًا بالأصغر على الذرة ، وبالأكبر على الأصغر، ثم فتحت راؤهما ، لأنهما لا يُجْرَيان. وقرأ ذلك بعض الكوفيين: [ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ ] رفعًا، عطفًا بذلك على معنى المثقال، لأن معناه الرفع. وذلك أن ( مِنْ ) لو ألقيت من الكلام ، لرفع المثقال، وكان الكلام حينئذٍ: « وما يعزُب عن ربك مثقالُ ذرة ولا أصغرُ من مثقال ذرة ولا أكبرُ » ، وذلك نحو قوله: مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ، و غَيْرُ اللَّهِ ، [ سورة فاطر: 3 ] . قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ بالفتح ، على وجه الخفض والردّ على الذرة، لأن ذلك قراءة قراء الأمصار ، وعليه عَوَامٌّ القراء، وهو أصحُّ في العربية مخرجًا ، وإن كان للأخرى وجهٌ معروفٌ. وقوله: ( إلا في كتاب ) ، يقول: وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله ( مبين ) ، عن حقيقة خبر الله لمن نظر فيه. أنه لا شيء كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جل ثناؤه فيه، وأنه لا يعزُب عن الله علم شيء من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( وما يعزب ) ، يقول: لا يغيب عنه. حدثني محمد بن عمارة قال ، حدثنا عبد الله قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس: ( وما يعزب عن ربك ) ، قال: ما يغيب عنه. القول في تأويل قوله تعالى : أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن أنصار الله لا خوف عليهم في الآخرة من عقاب الله، لأن الله رضي عنهم فآمنهم من عقابه ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. و « الأولياء » جمع « ولي » ، وهو النصير، وقد بينا ذلك بشواهده. واختلف أهل التأويل فيمن يستحق هذا الاسم. فقال بعضهم: هم قومٌ يُذْكَرُ الله لرؤيتهم ، لما عليهم من سيما الخير والإخبات. ذكر من قال ذلك: حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان قال ، حدثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، قال: الذين يُذْكَرُ الله لرؤيتهم. حدثنا أبو كريب وأبو هشام قالا حدثنا ابن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن أبي الضحى، مثله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، قال: الذي يُذْكَر الله لرؤيتهم. . . . . قال، حدثنا ابن مهدي وعبيد الله، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن أبي الضحى قال: سمعته يقول في هذه الآية: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، قال: من الناس مَفَاتِيح ، إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم. . . . . قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن سَهْل أبي الأسد، عن سعيد بن جبير، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن « أولياء الله » ، فقال : الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله. . . . . قال، حدثنا زيد بن حباب، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن عبد الله: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، قال: الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم . . . . قال، حدثنا أبو يزيد الرازي، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر اللهُ. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا فرات، عن أبي سعد، عن سعيد بن جبير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن « أولياء الله » ، قال: هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله. . . . . قال، حدثنا الحسين قال ، حدثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام، عن عبد الله بن أبي الهذيل في قوله: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، الآية، قال: إن ولي الله إذا رُئِي ذُكِر الله. وقال آخرون في ذلك بما:- حدثنا أبو هاشم الرفاعي قال ، حدثنا ابن فضيل قال ، حدثنا أبي عن عمارة بن القعقاع الضبي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله عبادًا يغبطهم الأنبياء والشهداء! قيل: من هم يا رسول الله؟ فلعلنا نحبُّهم! قال: هم قوم تحابُّوا في الله من غير أموالٍ ولا أنساب، وجوههم من نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله! قالوا: يا رسول الله ، أخبرنا من هم وما أعمالهم؟ فإنا نحبهم لذلك! قال: هم قوم تحابُّوا في الله بروح الله ، على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوا الله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ هذه الآية: ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال ، حدثنا يحيى بن حسان قال ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال ، حدثنا شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يأتي من أفْنَاء الناس ونوازع القبائل ، قوم لم تَصل بينهم أرحام متقاربة، تحابُّوا في الله ، وتصافَوْا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور ، فيجلسهم عليها، يفزع الناس فلا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. » قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: « الولي » أعني « ولي الله » هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها، وهو الذي آمن واتقى، كما قال الله الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: ( ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ، من هم يا ربّ؟ قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ، قال: أبى أن يُتَقَبَّل الإيمان إلا بالتقوى. القول في تأويل قوله تعالى : الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 63 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين صدقوا لله ورسوله، وما جاء به من عند الله، وكانوا يتَّقون الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. وقوله: ( الذين آمنوا ) من نعت « الأولياء » ، ومعنى الكلام: ألا إن أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فإن قال قائل: فإذ كان معنى الكلام ما ذكرت عندك، أفي موضع رفع ( الذين آمنوا ) أم في موضع نصب؟ قيل: في موضع رفع. وإنما كان كذلك ، وإن كان من نعت « الأولياء » ، لمجيئه بعد خبر « الأولياء » ، والعرب كذلك تفعل خاصة في « إنّ » ، إذا جاء نعت الاسم الذي عملت فيه بعد تمام خبره رفعوه فقالوا: « إن أخاك قائم الظريفُ » ، كما قال الله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ، [ سورة سبأ: 48 ] ، وكما قال: إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ ، [ سورة ص: 64 ] . وقد اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك، مع أن إجماع جميعهم على أن ما قلناه هو الصحيح من كلام العرب. وليس هذا من مواضع الإبانة عن العلل التي من أجلها قيل ذلك كذلك. القول في تأويل قوله تعالى : لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( 64 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: البشرى من الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لأولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون. ثم اختلف أهل التأويل في « البشرى » ، التي بشر الله بها هؤلاء القوم ما هي؟ وما صفتها؟ فقال بعضهم: هي الرؤية الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن شيخ، عن أبى الدرداء، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له. حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال: أخبرنا الأوزاعي قال، أخبرني يحيى بن أبي كثير قال ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سأل عبادةُ بن الصامت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك أو قال: غيرك. قال: هي الرؤية الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له. » حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو داود عمن ذكره، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي الرؤية الصالحة يراها المسلم أو تُرى له. حدثنا أبو قلابة قال ، حدثنا مسلم قال ، حدثنا أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. حدثنا ابن المثنى، وأبو عثمان بن عمر قالا حدثنا علي بن يحيى، عن أبي سلمة قال: نُبّئت أن عبادة بن الصامت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، فقال: سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. حدثني أبو السائب قال ، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، قال: سأل رجلٌ أبا الدرداء عن هذه الآية فقال: لقد سألتني عن شيء ما سمعت أحدًا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة الجنة. حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ، حدثنا عثمان بن سعيد، عن سفيان، عن ابن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، فقال: ما سألني عنها أحدٌ منْذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرَك، إلا رجلًا واحدًا! سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلها الله غيرك إلا رجلًا واحدًا، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال ، حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، سمع عطاء بن يسار يخبر، عن رجل من أهل مصر: أنه سأل أبا الدرداء عن: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، ثم ذكر نحو حديث سعيد بن عمرو السكوني، عن عثمان بن سعيد. حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال ، حدثني يحيى بن سعيد قال ، حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأحموسيّ، عن حميد بن عبد الله المزني قال: أتَى رجلٌ عبادةَ بن الصامت فقال: آية في كتاب الله أسألك عنها، قول الله تعالى: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ؟ فقال عبادة: ما سألني عنها أحدٌ قبلك! سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مثل ذلك: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، الرؤيا الصالحة يراها العبدُ المؤمن في المنام أو تُرَى له . حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أبو بكر قال ، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الحسنة، هي البشرى ، يراها المسلم، أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي صالح قال، قال أبو هريرة: الرؤيا الحسنة بشرى من الله، وهي المبشِّرات . حدثنا محمد بن حاتم المؤدب قال ، حدثنا عمار بن محمد قال ، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » ، الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو تُرَى له وهي في الآخرة الجنة. حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا محمد بن يزيد قال ، حدثنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن أبي السَّمْح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » الرؤيا الصالحة يُبَشَّر بها العبد جزء من تسعة وأربعين جزءًا من النبوّة. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد بن صفوان، عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، فقد عرفنا بشرى الآخرة، فما بشرى الدنيا؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءًا أو ستين جزءًا من النبوة. حدثنا علي بن سهل قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، حدثنا أبو عمرو قال ، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » ، فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ من أمتي قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. حدثنا أحمد بن حماد الدولابي قال ، حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، عن أم كرز الكعبية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت النبوّة وبقيت المبشّرات. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الأعمش، عن ذكوان، عن رجل، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » ، قال: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل كان بمصر ، قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، فقال أبو الدرداء: ما سألني عنها أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، وفي الآخرة الجنة. . . . . قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي الدرداء قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، قال: ما سألني عنها أحد غيرُك، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء في قوله: « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » ، قال: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له، وفي الآخرة الجنة. . . . . قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح قال ابن عيينة: ثم سمعته من عبد العزيز، عن أبي صالح السمان عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: « لهم البشرى في الحياة الدنيا » ، قال: ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلت عليَّ إلا رجلٌ واحدٌ، هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار: أنه سأل رجلا من أهل مصر فقيهًا ، قدم عليهم في بعض تلك المواسم، قال قلت: ألا تخبرني عن قول الله تعالى ذكره: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ؟ قال: سألت عنها أبا الدرداء، فأخبرني أنه سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا أبي، عن علي بن مبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) قال: « هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له. » حدثني المثنى قال ، حدثنا مسلم بن إبراهيم وأبو الوليد الطيالسي قالا حدثنا أبان قال ، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت، قال: قلت: يا رسول الله، قال الله تعالى: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك أو : أحدٌ من أمتي قال: « هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرَى له. » . . . . قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال ، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، قال: سمعت أبا الدرداء، وسئل عن: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، قال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: هي الرؤيا الحسنة يراها الإنسان أو تُرَى له. . . . . وقال: ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن أبي الدرداء أو ابن جريج ، عن محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: هي الرؤيا الصالحة. . . . . وقال ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: هي الرؤيا يراها الرجل. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح. . . . . قال، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن طلحة القناد، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد المسلم لنفسه أو لبعض إخوانه. قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: الرؤيا من المبشِّرات. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: « ما سألني عنها أحدٌ من أمتي منذ أنـزلت عليّ قبلك ! قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل لنفسه أو تُرَى له. » . . . . قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن العوام، عن إبراهيم التيمي، أن ابن مسعود قال: ذهبت النبوة، وبقيت المبشِّرات! قيل: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. قال، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، فهو قوله لنبيه: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ، [ سورة الأحزاب: 47 ] . قال: هي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن أو تُرَى له. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا محمد بن حرب قال ، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن عطاء في قوله: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: هي رؤيا الرجل المسلم يبشَّر بها في حياته. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث أن درَّاجًا أبا السمح حدثه ، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) : الرؤيا الصالحة يبشَّر بها المؤمن ، جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة. حدثني يونس قال، أخبرنا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه في هذه الآية: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا حميد بن عبد الله: أن رجلا سأل عبادة بن الصامت عن قول الله تعالى: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) ، فقال عبادة: لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ قبلك، ولقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني فقال لي: يا عبادة لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ من أمتي! تلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو تُرى له. وقال آخرون: هي بشارة يبشَّر بها المؤمن في الدنيا عند الموت. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، وقتادة: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: هي البشارة عند الموت في الحياة الدنيا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يعلى، عن أبي بسطام، عن الضحاك: ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، قال: يعلم أين هو قبل الموت. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: « أن الملائكة التي تحضره عند خروج نفسه، تقول لنفسه: اخرجي إلى رحمة الله ورضوانه » . ومنها: بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل، كما قال جل ثناؤه: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ الآية ، [ سورة البقرة: 25 ] . وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمه جل ثناؤه : أن ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) ، وأما في الآخرة فالجنة. وأما قوله: ( لا تبديل لكلمات الله ) ، فإن معناه: إن الله لا خُلْفَ لوعده ، ولا تغيير لقوله عما قال، ولكنه يُمْضي لخلقه مواعيدَه وينجزها لهم، وقد:- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب، عن نافع قال: أطال الحجاج الخطبة، فوضع ابن عمر رأسَه في حِجْري، فقال الحجاج: إن ابن الزبير بدّل كتاب الله! فقعد ابن عمر فقال: لا تستطيع أنت ذاك ولا ابن الزبير ! لا تبديل لكلمات الله! فقال الحجاج: لقد أوتيت علمًا إن نفعك! قال أيوب: فلما أقبل عليه في خاصّة نفسه سكَتَ. وقوله: ( ذلك هو الفوز العظيم ) ، يقول تعالى ذكره: هذه البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة « وهي الفوز العظيم » ، يعني الظفر بالحاجة والطَّلبة والنجاة من النار. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 65 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزنكَ ، يا محمد ، قول هؤلاء المشركين في ربهم ما يقولون، وإشراكهم معه الأوثان والأصنام فإنّ العزة لله جميعًا، يقول تعالى ذكره: فإن الله هو المنفرد بعزة الدنيا والآخرة ، لا شريك له فيها، وهو المنتقم من هؤلاء المشركين القائلين فيه من القول الباطل ما يقولون، فلا ينصرهم عند انتقامه منهم أحدٌ، لأنه لا يُعَازُّه شيء ( هو السميع العليم ) ، يقول: وهو ذو السمع لما يقولون من الفرية والكذب عليه، وذو علم بما يضمرونه في أنفسهم ويعلنونه، مُحْصًى ذلك عليهم كله، وهو لهم بالمرصاد. وكسرت « إن » من قوله: ( إن العزة لله جميعًا ) لأن ذلك خبرٌ من الله مبتدأ، ولم يعمل فيها « القول » ، لأن « القول » ، عني به قول المشركين، وقوله: ( إن العزة لله جميعًا ) ، لم يكن من قِيل المشركين، ولا هو خبرٌ عنهم أنهم قالوه. القول في تأويل قوله تعالى : أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ ( 66 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن لله يا محمد كلَّ من في السموات ومن في الأرض ، ملكًا وعبيدًا ، لا مالك لشيء من ذلك سواه. يقول: فكيف يكون إلهًا معبودًا من يعبُده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام، وهي لله ملك، وإنما العبادة للمالك دون المملوك، وللرب دون المربوب؟ ( وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ) ، يقول جل ثناؤه: وأيُّ شيء يتبع من يدعو من دون الله يعني: غير الله وسواه شركاء. ومعنى الكلام: أيُّ شيءٍ يتبع من يقول لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبًا، والله المنفرد بملك كل شيء في سماء كان أو أرض؟ ( إن يتبعون إلا الظن ) ، يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك ودعواهم إلا الظن، يقول: إلا الشك لا اليقين ( وإن هم إلا يخرصون ) ، يقول: وإن هم إلا يتقوّلون الباطل تظنِّيًا وتَخَرُّصا للإفك ، عن غير علمٍ منهم بما يقولون. القول في تأويل قوله تعالى : هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ( 67 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنّ ربكم أيها الناس الذي استوجب عليكم العبادة، هو الرب الذي جعل لكم الليل وفصله من النهار، لتسكنوا فيه مما كنتم فيه في نهاركم من التَّعب والنَّصب، وتهدءوا فيه من التصرف والحركة للمعاش والعناء الذي كنتم فيه بالنهار ( والنهار مبصرًا ) ، يقول: وجَعَل النهار مبصرًا، فأضاف « الإبصار » إلى « النهار » ، وإنما يُبْصَر فيه، وليس « النهار » مما يبصر، ولكن لما كان مفهوما في كلام العرب معناه، خاطبهم بما في لغتهم وكلامهم، وذلك كما قال جرير: لَقَـــدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْـلانَ فِي السُّرَى وَنِمـتِ , وَمَـا لَيْــلُ الْمَطِـيِّ بِنَائِـمِ فأضاف « النوم » إلى « الليل » ووصفه به، ومعناه نفسه، أنه لم يكن نائمًا فيه هو ولا بَعِيره. يقول تعالى ذكره: فهذا الذي يفعل ذلك هو ربكم الذي خلقكم وما تعبدون، لا ما لا ينفع ولا يضر ولا يفعل شيئًا . وقوله: ( إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) ، يقول تعالى ذكره: إن في اختلاف حال الليل والنهار وحال أهلهما فيهما ، دلالةً وحججًا على أن الذي له العبادة خالصا بغير شريك، هو الذي خلق الليل والنهار ، وخالف بينهما، بأن جعل هذا للخلق سكنًا، وهذا لهم معاشًا، دون من لا يخلق ولا يفعل شيئًا ، ولا يضر ولا ينفع. وقال: ( لقوم يسمعون ) ، لأن المراد منه: الذين يسمعون هذه الحجج ويتفكرون فيها ، فيعتبرون بها ويتعظون. ولم يرد به : الذين يسمعون بآذانهم ، ثم يعرضون عن عبره وعظاته. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ( 68 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون بالله من قومك ، يا محمد: ( اتخذ الله ولدًا ) ، وذلك قولهم: « الملائكة بنات الله » . يقول الله منـزهًا نفسه عما قالوا وافتروا عليه من ذلك: « سبحان الله » ، تنـزيهًا لله عما قالوا وادَّعوا على ربهم « هو الغني » يقول: الله غنيٌّ عن خلقه جميعًا، فلا حاجة به إلى ولد، لأن الولد إنما يَطْلُبه من يطلبه ، ليكون عونًا له في حياته وذكرًا له بعد وفاته، والله عن كل ذلك غنيٌّ، فلا حاجة به إلى معين يعينه على تدبيره ، ولا يبيدُ فيكون به حاجة إلى خلف بعده ( له ما في السموات وما في الأرض ) ، يقول تعالى ذكره: لله ما في السموات وما في الأرض مِلْكًا ، والملائكةُ عباده وملكه، فكيف يكون عبد الرجل وملكه له ولدًا؟ يقول: أفلا تعقلون أيها القوم خطأ ما تقولون؟ ( إن عندكم من سلطان بهذا ) ، يقول: ما عندكم أيها القوم ، بما تقولون وتدّعون من أن الملائكة بنات الله ، من حجة تحتجون بها وهي السلطان أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته وصحته، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه ، جهلا منكم بما تقولون ، بغير حجة ولا برهان؟ القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ( 69 ) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ( 70 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) يا محمد ، لهم إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ، فيقولون عليه الباطل، ويدّعون له ولدًا لا يُفْلِحُونَ ، يقول: لا يَبْقَون في الدنيا ، ولكن لهم متاع في الدنيا يمتعون به، وبلاغ يتبلغون به إلى الأجل الذي كُتِب فناؤهم فيه ( ثم إلينا مرجعهم ) ، يقول: ثم إذا انقضى أجلهم الذي كتب لهم ، إلينا مصيرهم ومنقلبهم ( ثم نذيقهم العذاب الشديد ) ، وذلك إصلاؤهم جهنم ( بما كانوا يكفرون ) بالله في الدنيا، فيكذبون رسله ، ويجحدون آياته. ورفع قوله: ( متاع ) بمضمر قبله إما « ذلك » ، و إما « هذا » . القول في تأويل قوله تعالى : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ( 71 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( واتل ) على هؤلاء المشركين الذين قالوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، من قومك ( نبأ نوح ) ، يقول: خبر نوح ( إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي ) ، يقول: إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشقّ عليكم، ( وتذكيري بآيات الله ) ، يقول، ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك ( فعلى الله توكلت ) ، يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم ، وتذكيري بآيات الله ، فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي ، وهو سَنَدي وظهري ( فأجمعوا أمركم ) ، يقول: فأعدُّوا أمركم ، واعزموا على ما تنوُون عليه في أمري. يقال منه: « أجمعت على كذا » ، بمعنى: عزمت عليه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « من لم يُجْمِع على الصوم من الليل فلا صَوْم له » ، بمعنى: من لم يعزم، ومنه قول الشاعر: يَـا لَـيْتَ شِعْـرِي وَالْمُنَـى لا تَنْفَــعُ هَلْ أَغْـدُوَنْ يَوْمًــا وَأَمْـرِي مُجْمَــعُ وروي عن الأعرج في ذلك ما:- حدثني بعض أصحابنا ، عن عبد الوهاب ، عن هارون، عن أسيد، عن الأعرج: ( فأجمعوا أمركم وشركاءكم ) ، يقول: أحكموا أمركم ، وادعوا شركاءكم. ونصب قوله: ( وشركاءكم ) ، بفعل مضمر له، وذلك: « وادعوا شركاءكم » ، وعطف ب « الشركاء » على قوله: ( أمركم ) ، على نحو قول الشاعر: وَرَأَيْــتِ زَوْجَــكِ فِــي الْـوَغَى مُتَقَلِّــــدًا سَــــيْفًا وَرُمْحَـــا فالرمح لا يُتَقلَّد، ولكن لما كان فيما أظهر من الكلام دليلٌ على ما حذف، اكتفي بذكر ما ذكر منه مما حذف ، فكذلك ذلك في قوله: ( وشركاءكم ) . واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأته قراء الأمصار: ( وَشُرَكَاءَكُمْ ) نصبًا، وقوله: ( فَأَجْمِعُوا ) ، بهمز الألف وفتحها، من : « أجمعت أمري فأنا أجمعه إجماعًا. » وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ) ، بفتح الألف وهمزها ( وَشُرَكَاؤُكُمْ ) ، بالرفع على معنى: وأجمعوا أمركم، وليجمع أمرَهم أيضًا معكم شركاؤكم. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك قراءةُ من قرأ: ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ) ، بفتح الألف من « أجمعوا » ، ونصب « الشركاء » ، لأنها في المصحف بغير واو، ولإجماع الحجة على القراءة بها ، ورفض ما خالفها، ولا يعترض عليها بمن يجوز عليه الخطأ والسهو. وعني ب « الشركاء » ، آلهتهم وأوثانهم. وقوله: ( ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) ، يقول: ثم لا يكن أمركم عليكم ملتبسًا مشكلا مبهمًا. من قولهم: « غُمَّ على الناس الهلال » ، وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبيَّنوه، ومنه قول [ العجاج ] : بَــلْ لَـوْ شَـهِدْتِ النَّـاسَ إِذْ تُكُمُّـوا بِغُمّــةٍ لَــوْ لَــمْ تُفَــرَّجْ غُمُّـوا وقيل: إن ذلك من « الغم » ، لأن الصدر يضيق به ، ولا يتبين صاحبه لأمره مَصدرًا يَصْدُرُه يتفرَّج عليه ما بقلبه، ومنه قول خنساء: وَذِي كُرْبَـةٍ رَاخَـى ابْنُ عَمْرٍو خِنَاقَه وَغُمَّتَــهُ عَــنْ وَجْهِــهِ فَتَجَـلَّتِ وكان قتادة يقول في ذلك ما: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( أمركم عليكم غمة ) ، قال: لا يكبر عليكم أمركم. وأما قوله: ( ثم اقضوا إليّ ) ، فإن معناه: ثم أمضوا إليّ ما في أنفسكم وافرغوا منه، كما:- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون ) ، قال: اقضوا إليّ ما كنتم قاضين. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ( ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون ) ، قال: اقضوا إليّ ما في أنفسكم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله: ( ثم اقضوا إليّ ) . . فقال بعضهم: معناه: امضوا إلي، كما يقال: « قد قضى فلان » ، يراد: قد مات ومَضَى. وقال آخرون منهم: بل معناه: ثم افرغوا إليّ، وقالوا: « القضاء » ، الفراغ، والقضاء من ذلك. قالوا: وكأنّ « قضى دينه » من ذلك ، إنما هو فَرَغ منه. وقد حُكي عن بعض القراء أنه قرأ ذلك: ( ثُمَّ أَفْضُوا إِلَيَّ ) ، بمعنى: توجَّهوا إليّ حتى تصلوا إليّ، من قولهم: « قد أفْضَى إليّ الوَجَع وشبهه » . وقوله: ( ولا تنظرون ) ، يقول: ولا تؤخرون. من قول القائل: « أنظرت فلانًا بما لي عليه من الدين » . قال أبو جعفر: وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه نوح عليه السلام لقومه: إنه بنُصرة الله له عليهم واثق ، ومن كيدهم وبوائقهم غير خائف وإعلامٌ منه لهم أن آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع، يقول لهم: أمضوا ما تحدّثون أنفسكم به فيَّ ، على عزم منكم صحيح، واستعينوا مع من شايعكم عليّ بآلهتكم التي تدْعون من دون الله، ولا تؤخروا ذلك ، فإني قد توكلت على الله ، وأنا به واثق أنكم لا تضروني إلا أن يشاء ربي. وهذا وإن كان خبرًا من الله تعالى عن نوح، فإنه حثٌّ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على التأسّي به، وتعريفٌ منه سبيلَ الرشاد فيما قلَّده من الرسالة والبلاغ عنه. القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 72 ) يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نبيه نوح عليه السلام لقومه: ( فإن توليتم ) ، أيها القوم ، عني بعد دعائي إياكم ، وتبليغ رسالة ربي إليكم ، مدبرين، فأعرضتم عمّا دعوتكم إليه من الحقّ ، والإقرار بتوحيد الله ، وإخلاص العبادة له ، وترك إشراك الآلهة في عبادته، فتضييعٌ منكم وتفريطٌ في واجب حق الله عليكم، لا بسبب من قبلي، فإني لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرًا ، ولا عوضًا أعتاضه منكم بإجابتكم إياي إلى ما دعوتكم إليه من الحق والهدى، ولا طلبت منكم عليه ثوابًا ولا جزاءً ( إن أجري إلا على الله ) يقول جل ثناؤه: إن جزائي وأجر عملي وثوابه إلا على ربي ، لا عليكم ، أيها القوم ، ولا على غيركم ( وأمرت أن أكون من المسلمين ) ، وأمرني ربي أن أكون من المذعنين له بالطاعة ، المنقادين لأمره ونهيه ، المذللين له، ومن أجل ذلك أدعوكم إليه ، وبأمره آمركم بترك عبادة الأوثان. القول في تأويل قوله تعالى : فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ( 73 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فكذب نوحًا قومه فيما أخبرهم به عن الله من الرسالة والوحي « فنجيناه ومن معه » ممن حمل معه في « الفلك » ، يعني في السفينة « وجعلناهم خلائف » ، يقول: وجعلنا الذين نجينا مع نوح في السفينة خلائف في الأرض من قومه الذين كذبوه بعد أن أغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، يعني حججنا وأدلتنا على توحيدنا، ورسالة رسولنا نوح. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: « فانظر » ، يا محمد كيف كان عاقبة المنذرين « وهم الذين أنذرهم نوحٌ عقابَ الله على تكذيبهم إياه وعبادتهم الأصنام. يقول له جل ثناؤه: انظر ماذا أعقبهم تكذيبهم رسولَهم، فإن عاقبة من كذَّبك من قومك إن تمادوا في كفرهم وطغيانهم على ربهم ، نحو الذي كان من عاقبة قوم نوح حين كذبوه. » يقول جل ثناؤه: فليحذروا أن يحلّ بهم مثل الذي حلّ ، بهم إن لم يتوبوا. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ( 74 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم، فأتوهم ببينات من الحجج والأدلّة على صدقهم، وأنهم لله رسل، وأن ما يدعونهم إليه حقّ ( فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل ) ، يقول: فما كانوا ليصدّقوا بما جاءتهم به رسلهم بما كذب به قوم نوح ومن قبلَهم من الأمم الخالية من قبلهم ( كذلك نطبع على قلوب المعتدين ) ، يقول تعالى ذكره: كما طبعنا على قلوب أولئك فختمنا عليها، فلم يكونوا يقبَلون من أنبياء الله نصيحتَهم، ولا يستجيبون لدعائهم إيّاهم إلى ربهم ، بما اجترموا من الذنوب واكتسبوا من الآثام كذلك نطبع على قلوب من اعتدى على ربّه فتجاوز ما أمره به من توحيده، وخالف ما دعاهم إليه رسلهم من طاعته، عقوبة لهم على معصيتهم ربَّهم من هؤلاء الآخرين من بعدهم. القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ( 75 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الذين أرسلناهم من بعد نوح إلى قومهم، موسى وهارون ابني عمران ، إلى فرعون مصر وملئه ، يعني: وأشراف قومه وسادتهم ( بآياتنا ) ، يقول: بأدلتنا على حقيقة ما دعوهم إليه من الإذعان لله بالعُبُودة، والإقرار لهما بالرسالة ( فاستكبروا ) ، يقول: فاستكبروا عن الإقرار بما دعاهم إليه موسى وهارون ( وكانوا قومًا مجرمين ) ، يعني: آثمين بربهم ، بكفرهم بالله. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ( 76 ) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ( 77 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ( فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا ) ، يعني: فلما جاءهم بيانُ ما دعاهم إليه موسى وهارون، وذلك الحجج التي جاءهم بها، وهي الحق الذي جاءهم من عند الله ( قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ) ، يعنون أنه يبين لمن رآه وعاينه أنه سحر لا حقيقة له ( قال موسى ) ، لهم: ( أتقولون للحق لما جاءكم ) ، من عند الله ( أسحر هذا ) ؟ . واختلف أهل العربية في سبب دخول ألف الاستفهام في قوله: ( أسحر هذا ) ؟ فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت فيه على الحكاية لقولهم ، لأنهم قالوا: ( أسحر هذا ) ؟ فقال: أتقولون: ( أسحر هذا ) ؟ وقال بعض نحويي الكوفة: إنهم قالوا : « هذا سحر » ، ولم يقولوه بالألف، لأن أكثر ما جاء بغير ألف. قال: فيقال: فلم أدخلت الألف؟ فيقال: قد يجوز أن تكون من قِيلهم وهم يعلمون أنه سحر، كما يقول الرجل للجائزة إذا أتته: أحقٌّ هذا؟ وقد علم أنه حق. قال: وقد يجوز أن تكون على التعجّب منهم: أسحر هذا؟ ما أعظمه! قال أبو جعفر: وأولى ذلك في هذا بالصواب عندي أن يكون المفعولُ محذوفًا، ويكون قوله: ( أسحر هذا ) ، من قيل موسى ، منكرًا على فرعون وملئه قولَهم للحق لما جاءهم: « سحر » ، فيكون تأويل الكلام حينئذ: قال موسى لهم: ( أتقولون للحق لما جاءكم ) وهي الآيات التي أتاهم بها من عند الله حجة له على صدقه سحرٌ، أسحرٌ هذا الحقّ الذي ترونه؟ فيكون « السحر » الأوّل محذوفًا ، اكتفاءً بدلالة قول موسى ( أسحر هذا ) ، على أنه مرادٌ في الكلام، كما قال ذو الرمة. فَلَمَّـا لَبِسْـنَ اللَّيْـلَ , أَوْ حِينَ نَصَّبَت لَـهُ مِـنْ خَـدَا آذَانِهَـا وَهْـوَ جَـانِحُ يريد: أو حين أقبل، ثم حذف اكتفاءً بدلالة الكلام عليه، وكما قال جل ثناؤه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ [ سورة الإسراء: 7 ] ، والمعنى: بعثناهم لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ فترك ذلك اكتفاء بدلالة الكلام عليه، في أشباه لما ذكرنا كثيرة ، يُتْعب إحصاؤها. وقوله: ( ولا يفلح الساحرون ) ، يقول: ولا ينجح الساحرون ولا يَبْقون. القول في تأويل قوله تعالى : قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ( 78 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال فرعون وملؤه لموسى: ( أجئتنا لتلفتنا ) ، يقول: لتصرفنا وتلوينا ( عمّا وجدنا عليه آباءنا ) ، من قبل مجيئك ، من الدين. يقال منه: « لفت فلانٌ [ عنق فلان » إذا لواها، كما قال رؤبة ] : *لَفْتًا وَتْهِزِيعًا سَواءَ اللَّفْتِ* « التهزيع » : الدق، و « اللفت » ، اللّي، كما:- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : ( لتلفتنا ) ، قال: لتلوينا عما وجدنا عليه آباءنا. وقوله: ( وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) ، يعني العظمة، وهي « الفعلياء » من « الكبر » . ومنه قول ابن الرِّقاع: سُــؤْدَدًا غَــيْرَ فَــاحِش لا يُــدَا نِيـــهِ تِجِبَّـــارَةٌ وَلا كِبْرِيـــاءُ حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) ، قال: الملك. . . . . قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد: ( وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) ، قال: السلطان في الأرض. . . . . قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني، عن مجاهد قال: الملك في الأرض. . . . . قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: ( وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) ، قال: الطاعة. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وتكون لكما الكبرياء في الأرض ) قال: الملك. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد قال: السلطان في الأرض. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال كلها متقارباتُ المعاني، وذلك أن الملك سلطان، والطاعة ملك، غير أن معنى « الكبرياء » ، هو ما ثبت في كلام العرب، ثم يكون ذلك عظمة بملك وسلطان وغير ذلك. وقوله: ( وما نحن لكما بمؤمنين ) ، يقول: « وما نحن لكما » يا موسى وهارون « بمؤمنين » ، يعني بمقرِّين بأنكما رسولان أرسلتما إلينا. القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ( 79 ) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ ( 80 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لقومه: ائتوني بكل من يسحر من السحرة، عليم بالسحر ( فلما جاء السحرة ) ، فرعونَ قال موسى: ( ألقوا ما أنتم ملقون ) ، من حبالكم وعصيِّكم. وفي الكلام محذوف قد ترك، وهو: « فأتوه بالسحرة، فلما جاء السحرة » ، ولكن اكتفى بدلالة قوله: ( فلما جاء السحرة ) ، على ذلك، فترك ذكره. وكذلك بعد قوله: ( ألقوا ما أنتم ملقون ) ، محذوفٌ أيضًا قد ترك ذكرُه، وهو: فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى ، ولكن اكتفى بدلالة ما ظَهَر من الكلام عليه، فتُرك ذكره. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ( 81 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ألقوا ما هم ملقوه ، قال لهم موسى: ما جئتم به السحر. واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق ( مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ) على وجه الخبر من موسى عن الذي جاءت به سحرة فرعون ، أنه سحرٌ. كأن معنى الكلام على تأويلهم: قال موسى: الذي جئتم به أيّها السحرة ، هو السحر. وقرأ ذلك مجاهد وبعض المدنيين والبصريين: ( مَا جِئْتُمْ بِهِ آلسِّحْرُ ) على وجه الاستفهام من موسى إلى السحرة عما جاؤوا به، أسحر هو أم غيره؟ قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب ، قراءة من قرأه على وجه الخبر لا على الاستفهام، لأن موسى صلوات الله وسلامه عليه ، لم يكن شاكا فيما جاءت به السحرة أنه سحر لا حقيقة له ، فيحتاج إلى استخبار السحرة عنه ، أي شيء هو؟ وأخرى أنه صلوات الله عليه قد كان على علم من السحرة، إنما جاء بهم فرعون ليغالبوه على ما كان جاءهم به من الحق الذي كان الله آتاه، فلم يكن يذهب عليه أنهم لم يكونوا يصدِّقونه في الخبر عمّا جاءوه به من الباطل، فيستخبرهم أو يستجيز استخبارهم عنه، ولكنه صلوات الله عليه أعلمهم أنه عالم ببطول ما جاؤوا به من ذلك بالحق الذي أتاه ، ومبطلٌ كيدهم بحَدِّه . وهذه أولى بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخرى. فإن قال قائل: فما وجه دخول الألف واللام في « السحر » إن كان الأمر على ما وصفت ، وأنت تعلم أن كلام العرب في نظير هذا أن يقولوا: « ما جاءني به عمرو درهمٌ والذي أعطاني أخوك دينار » ، ولا يكادون أن يقولوا : الذي أعطاني أخوك الدرهم وما جاءني به عمرو الدينار؟ قيل له: بلى، كلام العرب إدخال « الألف واللام » في خبر « ما » و « الذي » إذا كان الخبر عن معهود قد عرفه المخاطَب والمخاطِب، بل لا يجوز إذا كان ذلك كذلك إلا بالألف واللام، لأنّ الخبر حينئذ خبرٌ عن شيء بعينه معروف عند الفريقين، وإنما يأتي ذلك بغير « الألف واللام » ، إذا كان الخبر عن مجهول غير معهود ولا مقصود قصدَ شيء بعينه، فحينئذ لا تدخل الألف واللام في الخبر. وخبرُ موسى كان خبرًا عن معروف عنده وعند السحرة، وذلك أنها كانت نسبت ما جاءهم به موسى من الآيات التي جعلها الله عَلَمًا له على صدقه ونبوته ، إلى أنه سحرٌ، فقال لهم موسى: السحرُ الذي وصفتم به ما جئتكم به من الآيات أيها السحرة، هو الذي جئتم به أنتم ، لا ما جئتكم به أنا. ثم أخبرهم أن الله سيبطله. فقال: ( إن الله سيبطله ) ، يقول: سيذهب به، فذهب به تعالى ذكره ، بأن سلط عليه عصا موسى قد حوّلها ثعبانًا يتلقَّفه ، حتى لم يبق منه شيء ( إن الله لا يصلح عمل المفسدين ) ، يعني: أنه لا يصلح عمل من سعى في أرض الله بما يكرهه ، وعمل فيها بمعاصيه. وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: ( مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ ) . وفي قراءة ابن مسعود: ( مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرٌ ) ، وذلك مما يؤيد قراءة من قرأ بنحو الذي اخترنا من القراءة فيه. القول في تأويل قوله تعالى : وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( 82 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن موسى أنه قال للسحرة: ( ويحق الله الحق ) ، يقول: ويثبت الله الحق الذي جئتكم به من عنده، فيعليه على باطلكم، ويصححه « بكلماته » ، يعني : بأمره ( ولو كره المجرمون ) ، يعني الذين اكتسبوا الإثم بربِّهم ، بمعصيتهم إياه. القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ( 83 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلم يؤمن لموسى ، مع ما أتاهم به من الحجج والأدلّة ( إلا ذرية من قومه ) خائفين من فرعون وملئهم. ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرية في هذا الموضع. فقال بعضهم: الذرية في هذا الموضع: القليل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ( فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه ) ، قال، كان ابن عباس يقول: « الذرية » : القليل. حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، « الذرية » ، القليل، كما قال الله تعالى: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [ سورة الأنعام: 133 ] وقال آخرون: معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزمان، لأن الآباء ماتوا وبقي الأبناء، فقيل لهم « ذرية » ، لأنهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل إليهم موسى عليه السلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله تعالى: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، قال: أولاد الذين أرسل إليهم من طول الزمان ، ومات آباؤهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ) ، قال: أولاد الذين أرسل إليهم موسى ، من طول الزمان ومات آباؤهم. حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن الأعمش: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) ، قال: أبناء أولئك الذين أرسل إليهم ، فطال عليهم الزمان وماتت آباؤهم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم ) ، قال: كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل ، من قوم فرعون يسير، منهم : امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه. وقد روي عن ابن عباس خبرٌ يدل على خلاف هذا القول، وذلك ما:- حدثني به المثنى قال ، حدثنا أبو صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ( ذرية من قومه ) ، يقول: بني إسرائيل. فهذا الخبر ، ينبئ عن أنه كان يرى أن « الذرية » في هذا الموضع ، هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون. قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية، القولُ الذي ذكرته عن مجاهد، وهو أن « الذرية » ، في هذا الموضع أريد بها ذُرّية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل، فهلكوا قبل أن يقرُّوا بنبوته لطول الزمان، فأدركت ذريّتهم ، فآمن منهم من ذكر الله ، بموسى. وإنما قلت : « هذا القولُ أولى بالصواب في ذلك » ، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكرٌ لغير موسى، فَلأن تكون « الهاء » ، في قوله : « من قومه » ، من ذكر موسى لقربها من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليلٌ ، من خبرٍ ولا نظرٍ. وبعدُ، فإن في قوله: ( على خوف من فرعون وملئهم ) ، الدليلُ الواضح على أن الهاء في قوله: ( إلا ذرية من قومه ) ، من ذكر موسى، لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام ، « على خوف منه » ، ولم يكن ( على خوف من فرعون ) . وأما قوله: ( على خوف من فرعون ) ، فإنه يعني على حال خوف ممن آمن من ذرية قوم موسى بموسى فتأويل الكلام: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه ، من بني إسرائيل ، وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم. وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل: « فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه » ، لأن الذين آمنوا به إنما كانت أمهاتهم من بني إسرائيل، وآباؤهم من القبط، فقيل لهم « الذرية » ، من أجل ذلك، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم: « أبناء » . . والمعروف من معنى « الذرية » في كلام العرب: أنها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرجال والنساء، كما قال جل ثناؤه: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ، [ سورة الإسراء: 3 ] ، وكما قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ثم قال بعد: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ، [ سورة الأنعام: 84، 85 ] ، فجعل من كان من قبل الرجال والنساء من ذرية إبراهيم. وأما قوله: ( وملئهم ) ، فإن « الملأ » : الأشراف. وتأويل الكلام: على خوف من فرعون ومن أشرافهم. واختلف أهل العربية فيمن عُني بالهاء والميم اللتين في قوله: ( وملئهم ) ، فقال بعض نحويي البصرة: عُني بها الذرية. وكأنّه وجَّه الكلام إلى: ( فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، على خوف من فرعون ) وملأ الذرِّية من بني إسرائيل. وقال بعض نحويي أهل الكوفة: عني بهما فرعون. قال: وإنما جاز ذلك وفرعون واحد، لأن الملك إذا ذكر بخوفٍ أو سفر أو قدوم من سفر ، ذهب الوهم إليه وإلى من معه. وقال: ألا ترى أنك تقول: « قدم الخليفة فكثر الناس » ، تريد ، بمن معه « وقدم فغلت الأسعار » ، لأنك تنوي بقدومه قدوم من معه. قال: وقد يكون أن تريد أن بـ « فرعون » آل فرعون، وتحذف « الآل » ، فيجوز، كما قال: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ، [ سورة يوسف: 82 ] ، يريد أهل القرية، والله أعلم. قال: ومثله قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ، [ سورة الطلاق: 1 ] . قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: « الهاء والميم » عائدتان على « الذرية » . ووجَّه معنى الكلام إلى أنه : على خوف من فرعون، وملأ الذرية لأنه كان في ذرية القرن الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيًا وأمه إسرائيلية. فمن كان كذلك منهم، كان مع فرعون على موسى. وقوله: ( أن يفتنهم ) ، يقول: كان إيمان من آمن من ذرية قوم موسى على خوف من فرعون « أن يفتنهم » بالعذاب، فيصدّهم عن دينهم، ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله. وقال: ( أن يفتنهم ) ، فوحَّد ولم يقل: « أن يفتنوهم » ، لدليل الخبر عن فرعون بذلك : أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه ، لما قد تقدم من قوله: ( على خوف من فرعون وملئهم ) . وقوله: ( وإن فرعون لعال في الأرض ) ، يقول تعالى ذكره: وإن فرعون لجبّارٌ مستكبر على الله في أرضه « وإنه لمن المسرفين » ، وإنه لمن المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به ، وجحودُه وحدانية الله ، وادّعاؤه لنفسه الألوهة ، وسفكه الدماء بغير حِلِّها. القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ( 84 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى نبيِّه لقومه: يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانية الله، وصدقتم بربوبيته ( فعليه توكلوا ) ، يقول: فبه فثقوا، ولأمره فسلموا، فإنه لن يخذل وليّه، ولن يسلم من توكل عليه ( إن كنتم مسلمين ) ، يقول: إن كنتم مذعنين لله بالطاعة، فعليه توكلوا. القول في تأويل قوله تعالى : فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 85 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقال قوم يا موسى لموسى: ( على الله توكلنا ) ، أي به وثقنا، وإليه فوَّضنا أمرنا. وقوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، يقول جل ثناؤه مخبرًا عن قوم موسى أنهم دعوا ربهم فقالوا: يا ربنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين، ولا تمتحنهم بنا‍‍! يعنون قوم فرعون. وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سألوه ربَّهم من إعاذته ابتلاء قوم فرعون بهم. فقال بعضهم: سألوه أن لا يظهرهم عليهم، فيظنُّوا أنهم خيرٌ منهم ، وأنهم إنما سُلِّطوا عليهم لكرامتهم عليه وهوان الآخرين. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا يظهروا علينا ، فيروا أنهم خير منا. حدثني المثنى قال ، حدثنا الحجاج قال ، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن أبى مجلز في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: قالوا: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خيرٌ منّا. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تسلّطهم علينا ، فيزدادوا فتنة. وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تسلطهم علينا فيفتنونا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، لا تسلطهم علينا فيفتنونا. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تسلطهم علينا فيضلونا. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، مثله وقال أيضًا : فيفتنونا. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: « لو كانوا على حقّ ما سُلِّطنا عليهم ولا عُذِّبوا » ، فيفتتنوا بنا. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: « لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا » ، فيفتتنوا بنا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله: ( لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، قال: لا تصبنا بعذاب من عندك ولا بأيديهم ، فيفتتنوا ويقولوا: « لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا » . حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ) ، لا تبتلنا ربنا فتجهدنا ، وتجعله فتنة لهم ، هذه الفتنة. وقرأ: فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ، [ سورة الصافات: 63 ] ، قال المشركون ، حين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويرمونهم، أليس ذلك فتنة لهم وسوءًا لهم، وهي بلية للمؤمنين؟. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن القوم رغبوا إلى الله في أن يُجيرهم من أن يكونوا محنة لقوم فرعون وبلاءً، وكلُّ ما كان من أمر كان لهم مصدَّة عن اتباع موسى والإقرار به ، وبما جاءهم به، فإنه لا شك أنه كان لهم « فتنة » ، وكان من أعظم الأمور لهم إبعادًا من الإيمان بالله ورسوله. وكذلك من المصدَّة كان لهم عن الإيمان: أن لو كان قوم موسى عاجلتهم من الله محنةٌ في أنفسهم ، من بلية تنـزل بهم، فاستعاذ القوم بالله من كل معنى يكون صادًّا لقوم فرعون عن الإيمان بالله بأسبابهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 86 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونجِّنا يا ربنا برحمتك، فخلِّصنا من أيدي القوم الكافرين ، قوم فرعون، لأنهم كان يستعبدونهم ويستعملونهم في الأشياء القَذِرة من خدمتهم. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ( 87 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتًا. يقال منه: « تبوَّأ فلان لنفسه بيتًا » ، إذا اتخذه. وكذلك تبوَّأ مصْحفًا « ، إذا اتخذه ، » وبوأته أنا بيتًا « : إذا اتخذته له. » ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: واجعلوا بيوتكم مساجدَ تصلُّون فيها. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) . فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان ، عن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: مساجد. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال ، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: أمروا أن يتخذوها مساجد. . . . . قال حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال ، حدثنا زهير قال ، حدثنا خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا يَفْرَقُون من فرعون وقومه أن يصلُّوا، فقال لهم: ( اجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: اجعلوها مسجدًا حتى تصلوا فيها. حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: خافوا ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شبل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا لا يصلون إلا في البِيَع، وكانوا لا يصلون إلا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. . . . . قال، حدثنا جرير عن ليث، عن مجاهد قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: مساجد. . . . . قال، حدثنا أحمد بن يونس قال ، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا يصلون في بيوتهم يخافون. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زيد بن الحباب، عن أبي سنان، عن الضحاك: ( أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ) ، قال: مساجد. حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: قال أبي اجعلوا في بيوتكم مساجدكم تصلُّون فيها، تلك « القبلة » . وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا مساجدكم قِبَل الكعبة. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يعني الكعبة. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ) ، قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: لا نستطيع أن نظْهرَ صلاتنا مع الفراعنة! فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قِبَل القبلة. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قال ابن عباس في قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، يقول: وجِّهوا بيوتكم ، « مساجدكم » نحو القبلة، ألا ترى أنه يقول: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [ سورة النور: 36 ] . حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: قِبَل القبلة. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( بيوتكم قبلة ) ، قال: نحو الكعبة، حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلةً الكعبة يصلون فيها سرًّا. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، ثم ذكر مثله سواء. . . . . قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ) ، مساجد. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد: في قوله: ( أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا ) ، قال: مصر، « الإسكندرية » . حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: وذلك حين منعهم فرعون الصلاة، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم ، وأن يوجهوا نحو القبلة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( بيوتكم قبلة ) ، قال: نحو القبلة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا إسحاق، عن أبي سنان، عن الضحاك: ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا ) قال: مساجد ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: قبل القبلة. وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضًا. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، قال: يقابل بعضها بعضًا. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، القول الذي قدمنا بيانه، وذلك أن الأغلب من معاني « البيوت » وإن كانت المساجد بيوتًا البيوت المسكونة ، إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد. لأن « المساجد » لها اسم هي به معروفة ، خاصٌّ لها، وذلك « المساجد » . فأمّا « البيوت » المطلقة بغير وصلها بشيء ، ولا إضافتها إلى شيء، فالبيوت المسكونة. وكذلك « القبلة » الأغلب من استعمال الناس إيّاها في قبل المساجد وللصلوات. فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نـزل به ، دون الخفيّ المجهول ، ما لم تأت دلالة تدل على غير ذلك ولم يكن على قوله: ( واجعلوا بيوتكم قبلة ) ، دلالةٌ تقطع العذرَ بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا. وكذلك القول في قوله ( قبلة ) ( وأقيموا الصلاة ) ، يقول تعالى ذكره: وأدوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها. . وقوله: ( وبشر المؤمنين ) ، يقول جل ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام: وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله ، يا محمد ، المؤمنين بالثواب الجزيل منه. القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 88 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال موسى يا ربَّنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم وهم « الملأ » « زينة » ، من متاع الدنيا وأثاثها ( وأموالا ) من أعيان الذهب والفضة ( في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ) ، يقول موسى لربه: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك ليضلُّوا عن سبيلك. واختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: ( لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) ، بمعنى: ليضلوا الناسَ، عن سبيلك ، ويصدّوهم عن دينك. وقرأ ذلك آخرون: ( لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ) ، بمعنى: ليضلوا هم عن سبيلك، فيجورُوا عن طريق الهدى. فإن قال قائل: أفكان الله جل ثناؤه ، أعطَى فرعون وقومه ، ما أعطاهم من زينة الدنيا وأموالها ، ليضلوا الناس عن دينه أو ليضلُّوا هم عنه؟ فإن كان لذلك أعطاهم ذلك، فقد كان منهم ما أعطاهم لذلك، فلا عتب عليهم في ذلك؟ قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت. وقد اختلف أهل العلم بالعربية في معنى هذه « اللام » التي في قوله: ( ليضلوا ) . فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ربنا فَضَلوا عن سبيلك، كما قال: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ، [ سورة القصص: 8 ] ، أي فكان لهم وهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا وحزنًا، وإنما التقطوه فكان لهم. قال: فهذه « اللام » تجيء في هذا المعنى. وقال بعض نحويي الكوفة: هذه « اللام » ، « لام كي » ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم ، كي يضلوا ثم دعا عليهم. وقال آخر: هذه اللامات في قوله : ( ليضلوا ) و لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا ، وما أشبهها بتأويل الخفض: آتيتهم ما أتيتهم لضَلالهم والتقطوه لكونه لأنه قد آلت الحالة إلى ذلك. والعرب تجعل « لام كي » ، في معنى « لام الخفض » ، و « لام الخفض » في معنى « لام كي » ، لتقارب المعنى، قال الله تعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ [ سورة التوبة: 95 ] أي لإعراضكم، ولم يحلفوا لإعراضهم، وقال الشاعر: سَــمَوْتَ وَلَـمْ تَكُـنْ أَهْـلا لِتَسْـمُو وَلَكِــنَّ المُضَيِّــعَ قَــدْ يُصَــابُ قال: وإنما يقال: « وما كنت أهلا للفعل » ، ولا يقال « لتفعل » إلا قليلا. قال: وهذا منه. قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنها « لام كي » ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه، ويضلوا عن سبيلك عبادَك، عقوبة منك. وهذا كما قال جل ثناؤه: لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ، [ سورة الجن: 16- 17 ] . وقوله: ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) ، هذا دعاء من موسى، دعا الله على فرعون وملئه أن يغير أموالهم عن هيئتها، ويبدلها إلى غير الحال التي هي بها، وذلك نحو قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ، [ سورة النساء: 47 ] . يعني به: من قبل أن نغيرها عن هيئتها التي هي بها. يقال منه: « طَمَسْت عينَه أَطْمِسْها وأطمُسُها طَمْسًا وطُمُوسا » . وقد تستعمل العرب « الطمس » في العفوّ والدثور ، وفي الاندقاق والدروس، كما قال كعب بن زهير: مِـنْ كُـلِّ نَضَّاحَـةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ عُرْضَتُهَـا طَـامِسُ الأَعْـلامِ مَجْهُول وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك في هذا الموضع. فقال جماعة منهم فيه مثل قولنا. ذكر من قال ذلك: حدثني زكريا بن يحيى بن زائدة قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثني ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: بلغنا عن القرظي في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: اجعل سُكّرهم حجارة. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن محمد بن كعب القرظي قال: اجعل سكرهم حجارة. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا يحيى بن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ( اطمس على أموالهم ) قال: اجعلها حجارة. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس في قوله: ( اطمس على أموالهم ) ، قال: صارت حجارة. حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: بلغنا أن زروعهم تحوَّلت حجارة. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: بلغنا أن حَرْثًا لهم صارت حجارة. حدثني المثنى قال ، حدثنا قبيصة بن عقبة قال ، حدثنا سفيان: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: يقولون: صارت حجارة. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق. قال: حدثنا يحيى الحماني قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: صارت حجارة. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: بلغنا أن حروثًا لهم صارت حجارة. حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: جعلها الله حجارةً منقوشة على هيئة ما كانت. حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: قد فعل ذلك، وقد أصابهم ذلك، طمَس على أموالهم، فصارت حجارةً، ذهبهم ودراهمهم وعَدَسهم ، وكلُّ شيء. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أهلكها. ذكر من قال ذلك: حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، قال: أهلكها. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ، مثله. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( ربنا اطمس على أموالهم ) ، يقول: دمِّر عليهم وأهلك أموالهم. وأما قوله: ( واشدد على قلوبهم ) ، فإنه يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح بالإيمان، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وقال موسى قبل أن يأتي فرعون: « ربنَا اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم » ، فاستجاب الله له، وحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق، فلم ينفعه الإيمان. حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ( واشدد على قلوبهم ) ، يقول: واطبع على قلوبهم ( حتى يروا العذاب الأليم ) ، وهو الغرق. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واشدد على قلوبهم ) ، بالضلالة. . . . . قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( واشدد على قلوبهم ) ، قال: بالضلالة. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: ( واشدد على قلوبهم ) ، يقول: أهلكهم كفارًا. وأما قوله: ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ، فإن معناه: فلا يصدقوا بتوحيد الله ويقرُّوا بوحدانيته ، حتى يروا العذاب الموجع، كما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فلا يؤمنوا ) ، بالله فيما يرون من الآيات ( حتى يروا العذابَ الأليم ) . حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. . .. . قال ، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحاق، قال: سمعت المنقري يقول: ( فلا يؤمنوا ) ، يقول: دعا عليهم. واختلف أهل العربية في موضع: ( يؤمنوا ) . فقال بعض نحويي البصرة: هو نصبٌ، لأن جواب الأمر بالفاء ، أو يكون دُعاء عليهم إذ عصوا . وقد حكي عن قائل هذا القول أنه كان يقول: هو نصبٌ ، عطفًا على قوله: ( ليضلوا عن سبيلك ) . وقال آخر منهم، وهو قول نحويي الكوفة: موضعه جزمٌ ، على الدعاء من موسى عليهم، بمعنى: فلا آمنوا، كما قال الشاعر: فَـلا يَنْبَسِـطْ مِنْ بَيْن عَيْنَيْكَ مَا انزوَى وَلا تَلْقَنِـــي إِلا وَأَنْفُــكَ رَاغِــمُ بمعنى: « فلا انبسط من بين عينيك ما انـزوى » ، « ولا لقيتني » ، على الدعاء. وكان بعض نحويي الكوفة يقول: هو دعاء، كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا. قال: وإن شئت جعلتها جوابًا لمسألته إياه، لأن المسألة خرجت على لفظ الأمر، فتجعل : ( فلا يؤمنوا ) ، في موضع نصب على الجواب، وليس يسهل. قال: ويكون كقول الشاعر: يَــا نَــاقُ سِـيرِي عَنَقًـا فَسِـيحَا إِلَـــى سُـــلَيْمَانَ فَنَسْـــتَريحَا قال: وليس الجواب يسهلُ في الدعاء ، لأنه ليس بشرط. قال أبو جعفر:والصواب من القول في ذلك ، أنه في موضع جزم على الدعاء، بمعنى: فلا آمنوا وإنما اخترت ذلك لأن ما قبله دعاءٌ، وذلك قوله: ( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) ، فإلحاق قوله: ( فلا يؤمنوا ) ، إذ كان في سياق ذلك بمعناه أشبهُ وأولى. وأما قوله: ( حتى يروا العذاب الأليم ) ، فإنّ ابن عباس كان يقول: معناه: حتى يروا الغرق وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك من بعض وجوهها فيما مضى. حدثني القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال ابن عباس: ( فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) ، قال: الغرق. القول في تأويل قوله تعالى : قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ( 89 ) قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عن إجابته لموسى صلى الله عليه وسلم وهارون دعاءهما على فرعون وأشراف قومه وأموالهم. يقول جل ثناؤه: ( قال ) الله لهما : ( قد أجيبت دعوتكما ) ، في فرعون وملئه وأموالهم. فإن قال قائل: وكيف نسبت « الإجابة » إلى اثنين و « الدعاء » ، إنما كان من واحد ؟ قيل: إن الداعي وإن كان واحدًا ، فإن الثاني كان مؤمِّنًا، وهو هارون، فلذلك نسبت الإجابة إليهما، لأن المؤمِّن داعٍ. وكذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة في قوله: ( قد أجيبت دعوتكما ) ، قال: كان موسى يدعو، وهارون يؤمن، فذلك قوله: ( قد أجيبت دعوتكما ) . وقد زعم بعض أهل العربية ، أن العرب تخاطب الواحد خطاب الاثنين، وأنشد في ذلك: فَقُلْـــتُ لِصَــاحِبي لا تُعْجَلانَــا بِــنزعِ أُصُولِــهِ وَاجْــتَزَّ شِـيحَا حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا زكريا بن عدي، عن ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قال: ( قد أجيبت دعوتكما ) قال: دعا موسى، وأمن هارون. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي وزيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب قال: دعا موسى، وأمَّن هارون. . . . . قال: حدثنا أبو معاوية، عن شيخ له، عن محمد بن كعب قال: دعا موسى وأمّن هارون. حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: ( قد أجيبت دعوتكما ) ، قال: دعا موسى، وأمن هارون. قال، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وعبد الله بن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: دعا موسى وأمَّن هارون، فذلك قوله: ( قد أجيبت دعوتكما ) . حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن عكرمة في قوله: « قد أجيبت دعوتكما » قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن، فذلك قوله : ( قد أجيبت دعوتكما ) . حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: ( قد أجيبت دعوتكما ) لموسى وهارون قال ابن جريج: قال عكرمة: أمّن هارون على دعاء موسى فقال الله: ( قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ) . حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: كان هارون يقول: آمين فقال الله: ( قد أجيبت دعوتكما ) فصار التأمين دعوة صار شريكه فيها. وأما قوله: ( فاستقيما ) ، فإنه أمرٌ من الله تعالى لموسى وهارون بالاستقامة والثبات على أمرهما ، من دعاء فرعون وقومه إلى الإجابة إلى توحيد الله وطاعته، إلى أن يأتيهم عقاب الله الذي أخبرهما أنه أجَابَهما فيه ، كما:- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: ( فاستقيما ) : فامضيا لأمري، وهي الاستقامة قال ابن جريج : يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة. وقوله: ( ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون ) ، يقول: ولا تسلكانّ طريق الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي، فإن وعْدي لا خلف له، وإن وعيدي نازلٌ بفرعون وعذابي واقع به وبقومه. القول في تأويل قوله تعالى : وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ( 90 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جاوزوه ( فأتبعهم فرعون ) ، يقول: فتَبعهم فرعون ( وجنوده ) . يقال منه « أتْبَعته » و « تبعته » ، بمعنى واحد. وقد كان الكسائي فيما ذكر أبو عبيد عنه يقول: إذا أريد أنه أتبعهم خيرًا أو شرًّا فالكلام « أتبعهم » بهمز الألف، وإذا أريد : اتبع أثرهم ، أو اقتدى بهم ، فإنه من « اتّبعت » مشددة التاء غير مهموزة الألف. ( بغيًا ) على موسى وهارون ومن معهما من قومهما من بني إسرائيل ( وعدْوًا ) ، يقول: واعتداء عليهم، وهو مصدر من قولهم: « عدا فلان على فلان في الظلم ، يعدو عليه عَدْوًا » مثل « غزا يغزو غزوا » . وقد روى عن بعضهم أنه كان يقرأ: ( بَغْيًا وَعُدُوًّا ) ، وهو أيضًا مصدر من قولهم: « عَدَا يَعدُو عُدُوًّا » ، مثل : « علا يعلو عُلُوًّا » . ( حتى إذا أدركه الغرق ) يقول: حتى إذا أحاط به الغرق وفي الكلام متروك ، قد ترك ذكره لدلالة ما ظهر من الكلام عليه ، وذلك: « فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا فيه » فغرقناه ( حتى إذا أدركه الغرق ) . وقوله: ( قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) ، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل فرعون حين أشفى على الغرق ، وأيقن بالهلكة: ( آمنت ) ، يقول: أقررت، ( أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) . واختلفت القراء في قراءة ذلك. فقرأ بعضهم ، وهو قراءة عامّة المدينة والبصرة: ( أَنَّهُ ) بفتح الألف من « أنه » ، على إعمال « آمَنْتُ » فيها ونصبها به. وقرأ آخرون: ( آمَنْتُ إِنَّهُ ) بكسر الألف من « إنه » على ابتداء الخبر. وهي قراءة عامة الكوفيين. والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد قال: اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف، وهم اثنان وسبعون، وخرجوا مع موسى من مصر حين خرجوا وهم ست مائة ألف، فلما أدركهم فرعون فرأوه قالوا: يا موسى أين المخرجُ؟ فقد أدركنا ، قد كنا نلقى من فرعون البلاء؟ فأوحى الله إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرْق كالطود العظيم ، ويبس لهم البحرُ، وكشف الله عن وجه الأرض، وخرج فرعون على فرس حِصان أدهَم على لونه من الدُّهم ثمان مائة ألف سوى ألوانها من الدوابّ، وكانت تحت جبريل عليه السلام فرسٌ ودِيق ليس فيها أنثى غيرها ، وميكائيل يسوقهم، لا يشذُّ رجل منهم إلا ضمّه إلى الناس. فلما خرج آخر بني إسرائيل ، دنا منه جبريل ولَصِق به، فوجد الحصان ريح الأنثى، فلم يملك فرعون من أمره شيئًا ، وقال: أقدموا ، فليس القومُ أحقَّ بالبحر منكم! ثم أتبعهم فرعون ، حتى إذا همّ أوّلهم أن يخرجوا ، ارتطم ونادى فيها: ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) ، ونودي: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . حدثنا محمد بن المثنى قال ، حدثنا محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: وعن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يرفعه أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن جبرائيل كان يدسُّ في فم فرعون الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله. حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال ، حدثنا أبي قال ، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « جعل جبرائيل عليه السلام يدسُّ أو: يحشو في فم فرعون الطين ، مخافة أن تدركه الرحمة. » حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن كثير بن زاذان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل: يا محمد ، لو رأيتني وأنا أغطُّه وأدسُّ من الحَالِ في فيه ، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له! يعني فرعون. حدثني المثنى قال ، حدثنا حجاج قال ، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما أغرق الله فرعون قال: ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) ، فقال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حَالِ البحر وأدَسِّيه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة . حدثني المثنى قال ، حدثني عمرو، عن حكام قال ، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما قال فرعون « لا إله إلا الله » ، جعل جبريل يحشو في فيه الطين والتراب. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: أخبرني من سمع ميمون بن مهران يقول في قوله: ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) ، قال: أخذ جبرائيل من حمأة البحر فضرب بها فاه أو قال: ملأ بها فاه مخافة أن تدركه رحمه الله. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا الحسين بن علي، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: خطب الضحاك بن قيس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن فرعون كان عبدًا طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق قال: ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) ، قال الله: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . . . . . قال، حدثني أبي، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن فرعون لما أدركه الغرق جعل جبريل يحشو في فيه التراب خشية أن يغفر له. . . . . قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن عيسى بن المغيرة، عن إبراهيم التيمي: أن جبريل عليه السلام قال: ما حسدتُ أحدًا من بني آدم الرحمة إلا فرعون، فإنه حين قال ما قال ، خشيت أن تصل إلى الربّ فيرحمه، فأخذت من حَمْأة البحر وزَبَده ، فضربت به عينيه ووجهه. . . . . قال، أخبرنا أبو خالد الأحمر، عن عمر بن يعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال جبريل عليه السلام: لقد حشوت فاه الحمأة مخافة أن تدركه الرحمة. القول في تأويل قوله تعالى : آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ( 91 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره ، معرِّفًا فرعون قبح صَنيعه أيّام حياته وإساءته إلى نفسه أيام صحته، بتماديه في طغيانه ، ومعصيته ربه ، حين فزع إليه في حال حلول سَخطه به ونـزول عقابه، مستجيرًا به من عذابه الواقع به ، لما ناداه وقد علته أمواج البحر ، وغشيته كرَبُ الموت: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ له، المنقادين بالذلة له، المعترفين بالعبودية الآن تقرُّ لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة، وتخلص له الألوهة، وقد عصيته قبل نـزول نقمته بك ، فأسخطته على نفسك ، وكنت من المفسدين في الأرض ، الصادِّين عن سبيله؟ فهلا وأنت في مَهَلٍ ، وباب التوبة لك منفتح ، أقررت بما أنت به الآن مقرٌّ؟ القول في تأويل قوله تعالى : فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ( 92 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لفرعون: اليوم نجعلك على نَجْوةٍ من الأرض ببدنك، ينظر إليك هالكًا من كذّب بهلاكك ( لتكون لمن خلفك آية ) ، يقول: لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك، ، فينـزجرون عن معصية الله ، والكفر به والسعي في أرضه بالفساد. و « النجوة » ، الموضع المرتفع على ما حوله من الأرض، ومنه قوله أوس بن حجر: فَمَــنْ بِعَقْوَتِــهِ كَــمَنْ بِنجْوَتِــهِ وَالمُسْــتَكِنُّ كَـمَنْ يَمْشِـي بِقِـرْوَاحِ وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. *ذكر قال ذلك: حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد وغيره قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: إنه لم يمت فرعون! قال: فأخرجه الله إليهم ينظرون إليه مثل الثور الأحمر. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن سعيد الجريري، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد قال وكان من أكثر الناس أو : أحدث الناس عن بنى إسرائيل؛ قال: فحدّثنا أن أول جنود فرعون لما انتهى إلى البحر ، هابت الخيلُ اللِّهْبَ . قال: ومثل لحصان منها فرس وَديق، فوجد ريحها أحسبه أنا قال: فانسلَّ فاتَّبعته . قال: فلما تتامّ آخر جنود فرعون في البحر ، وخرج آخرُ بني إسرائيل ، أُمر البحر فانطَبق عليهم، فقالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون، وما كان ليموت أبدًا! فسمع الله تكذيبهم نبيَّه، قال: فرمى به على الساحل كأنه ثور أحمرُ، يتراءاه بنو إسرائيل. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: ( فاليوم ننجيك ببدنك ) ، قال: « بدنه » ، جسده ، رمى به البحرُ. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،: ( فاليوم ننجيك ببدنك ) ، قال: بجسدك. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. حدثنا تميم بن المنتصر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال ، حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما جاوز موسى البحرَ بجميع من معه، التقى البحرُ عليهم يعني على فرعون وقومه فأغرقهم، فقال أصحاب موسى: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه! فدعا ربّه فأخرجه فنبذه البحر ، حتى استيقنوا بهلاكه. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: ( فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ) ، يقول: أنكر ذلك طوائف من بني إسرائيل، فقذفه الله على ساحل البحر ينظرون إليه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( لتكون لمن خلفك آية ) ، قال: لما أغرق الله فرعون لم تصدِّق طائفة من الناس بذلك، فأخرجه الله آيةً وعظةً. حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي السليل ، عن قيس بن عباد ، أو غيره، بنحو حديث ابن عبد الأعلى، عن معمر. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: ( فاليوم ننجيك ببدنك ) ، قال: بجسدك. قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، بلغني عن مجاهد: ( فاليوم ننجيك ببدنك ) ، قال: بجسدك. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كذّب بعض بني إسرائيل بموت فرعون، فرمى به على ساحل البحر ليراه بنو إسرائيل، قال أحمر: كأنه ثور . وقال آخرون: تنجو بجسدك من البحر ، فنخرجه منه. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ( فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ) ، يقول: أنجى الله فرعون لبني إسرائيل من البحر، فنظروا إليه بعد ما غرق. فإن قال قائل: وما وجه قوله: ( ببدنك ) ؟ وهل يجوز أن ينجيه بغير بدنه، فيحتاج الكلام إلى أن يقال فيه ( ببدنك ) ؟ قيل: كان جائزًا أن ينجيه بهيئته حيًّا كما دخل البحر. فلما كان جائزًا ذلك قيل : ( فاليوم ننجيك ببدنك ) ، ليعلم أنه ينجيه بالبدن بغير روح، ولكن ميّتًا. وقوله: ( وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون ) ، يقول تعالى ذكره: ( وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا ) ، يعني: عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة والألوهة لنا خالصةٌ ( لغافلون ) ، يقول: لساهون، لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ( 93 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أنـزلنا بني إسرائيل منازلَ صِدْق. قيل: عني بذلك الشأم وبيت المقدس. وقيل: عُنِي به الشأم ومصر. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا المحاربي ، وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: ( مبوّأ صدق ) ، قال: منازل صدق، مصر والشأم. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( مبوَّأ صدق ) ، قال: بوّأهم الله الشأم وبيت المقدس. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ) ، الشام. وقرأ: إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [ سورة الأنبياء: 71 ] وقوله: ( ورزقناهم من الطيبات ) ، يقول: ورزقنا بني إسرائيل من حلال الرزق وهو ( الطيب ) . وقوله: ( فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ) ، يقول جل ثناؤه: فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل، حتى جاءهم ما كانوا به عالمين. وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم مجمعين على نبوّة محمدٍ والإقرار به وبمبعثه ، غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبًا عندهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم وآمن به بعضهم، والمؤمنون به منهم كانوا عددًا قليلا. فذلك قوله: فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه نبيًّا لله فوضع ( العلم ) مكان ( المعلوم ) . وكان بعضهم يتأول ( العلم ) ههنا ، كتابَ الله ووحيَه. ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: ( فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ) ، قال: ( العلم ) ، كتاب الله الذي أنـزله ، وأمره الذي أمرهم به، وهل اختلفوا حتى جاءهم العلم بغيًا بينهم ؟ أهل هذه الأهواء، هل اقتتلوا إلا على البغي قال: و « البغي » وجهان: وجه النفاسة في الدنيا ومن اقتتل عليها من أهلها، وبغى في « العلم » ، يرى هذا جاهلا مخطئًا ، ويرى نفسه مصيبًا عالمًا، فيبغي بإصابته وعلمه عَلَى هذا المخطئ. وقوله: ( إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربَّك ، يا محمد ، يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل فيك يوم القيامة ، فيما كانوا فيه من أمري في الدنيا يختلفون، بأن يدخل المكذبين بك منهم النار ، والمؤمنين بك منهم الجنة ، فذلك قضاؤه يومئذ فيما كانوا فيه يختلفون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم. القول في تأويل قوله تعالى : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ( 94 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما اخترناك فأنـزلنا إليك ، من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوّتك قبل أن تبعث رسولا إلى خلقه، لأنهم يجدونك عندهم مكتوبًا ، ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، من أهل التوراة والإنجيل ، كعبد الله بن سلام ونحوه ، من أهل الصدق والإيمان بك منهم ، دون أهل الكذب والكفر بك منهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، قال: التوراة والإنجيل، الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فآمنوا به، يقول: فاسألهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، قال: هو عبد الله بن سلام، كان من أهل الكتاب ، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) قال: هم أهل الكتاب. حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول: ( فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، يعني أهل التقوى وأهلَ الإيمان من أهل الكتاب، ممن أدرك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم. فإن قال قائل: أوكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من خبَرِ الله أنه حقٌّ يقين ، حتى قيل له: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ؟ قيل: لا وكذلك قال جماعة من أهل العلم. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك ) ، فقال: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سويد بن عمرو، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، قال: ما شك وما سأل. حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير ومنصور، عن الحسن في هذه الآية، قال: لم يشك صلى الله عليه وسلم ولم يسأل. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل. فإن قال: فما وجه مخرج هذا الكلام ، إذنْ ، إن كان الأمر على ما وصفت؟ قيل: قد بيّنا في غير موضع من كتابنا هذا ، استجازة العرب قول القائل منهم لمملوكه: « إن كنت مملوكي فانته إلى أمري » والعبد المأمور بذلك لا يشكُّ سيدُه القائل له ذلك أنه عبده. كذلك قول الرجل منهم لابنه: « إن كنت ابني فبرَّني » ، وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه، وأنّ ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم، وذكرنا ذلك بشواهده، وأنّ منه قول الله: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، [ سورة المائدة: 116 ] ، وقد علم جل ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك. وهذا من ذلك، لم يكن صلى الله عليه وسلم شاكًّا في حقيقة خبر الله وصحته، والله تعالى ذكره بذلك من أمره كان عالمًا، ولكنه جل ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضًا، إذْ كان القرآن بلسانهم نـزل. وأما قوله: ( لقد جاءك الحق من ربك ) الآية، فهو خبرٌ من الله مبتدأ. يقول تعالى ذكره: أقسم لقد جاءك الحق اليقين من الخبر بأنك لله رسولٌ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحّة ذلك، ويجدون نعتك عندهم في كتبهم ( فلا تكونن من الممترين ) ، يقول: فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك وحقيقته. ولو قال قائل: إن هذه الآية خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بها بعضُ من لم يكن صحَّت ، بصيرته بنبوته صلى الله عليه وسلم ، ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه، تنبيها له على موضع تعرف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه، كما قال جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ، [ سورة الأحزاب: 1 ] ، كان قولا غيرَ مدفوعةٍ صحته. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 95 ) قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تكونن يا محمدُ، من الذين كذَّبوا بحجج الله وأدلته، فتكون ممن غُبن حظه ، وباع رحمةَ الله ورضاه ، بسَخَطه وعقابه. القول في تأويل قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ( 96 ) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ( 97 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين وجبت عليهم يا محمد « كلمة ربك » ، هي لعنته إياهم بقوله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ، [ سورة هود: 18 ] ، فثبتت عليهم. يقال منه: « حق على فلان كذا يحقُّ عليه » ، إذا ثبت ذلك عليه ووجب. وقوله : ( لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ) ، يقول: لا يصدقون بحجج الله، ولا يقرُّون بوحدانية ربهم، ولا بأنك لله رسول ( ولو جاءتهم كل آية ) ، وموعظة وعبرة ، فعاينوها ، حتى يعاينوا العذاب الأليم، كما لم يؤمن فرعون وملؤه، إذ حقَّت عليهم كلمة ربّك حتى عاينوا العذاب الأليم، فحينئذ قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ، [ سورة يونس: 90 ] ، حين لم ينفعه قيلُه، فكذلك هؤلاء الذين حقت عليهم كلمة ربك من قومك من عبدة الأوثان وغيرهم، لا يؤمنون بك فيتبعونك ، إلا في الحين الذي لا ينفعهم إيمانهم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: ( إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ) ، قال: حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة : ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) ، حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه. القول في تأويل قوله تعالى : فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ( 98 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره: فهلا كانت قرية آمنت؟ وهي كذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ. ومعنى الكلام: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب ، ونـزول سَخَط الله بها ، بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه، فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيّه، واستحقاقه سَخَط الله بمعصيته إلا قوم يونس، فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نـزول العقوبة وحلول السخط بهم. فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نـزول العذاب بساحتهم، وأخرجهم منهم، وأخبر خلقه أنه نفعهم أيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم. فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت من أن قوله: ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ) ، بمعنى : فما كانت قرية آمنَت ، بمعنى الجحود، فكيف نصب « قوم » وقد علمت أن ما قبل الاستثناء إذا كان جحدًا كان ما بعده مرفوعًا، وأن الصحيح من كلام العرب: « ما قام أحدٌ إلا أخوك » ، و « ما خرج أحدٌ إلا أبوك » ؟ قيل: إن ذلك فيما يكون كذلك إذا كان ما بعد الاستثناء من جنس ما قبله، وذلك أن « الأخ » من جنس « أحد » ، وكذلك « الأب » ، ولكن لو اختلف الجنسان حتى يكون ما بعد الاستثناء من غير جنس ما قبله ، كان الفصيح من كلامهم النصبُ، وذلك لو قلت: « ما بقي في الدار أحدٌ إلا الوتدَ » ، و « ما عندنا أحدٌ إلا كلبًا أو حمارًا » ، لأن « الكلب » ، و « الوتد » ، و « الحمار » ، من غير جنس « أحد » ، ومنه قول النابغة الذبياني: عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ ثم قال: إِلا أَوَارِيَّ لأيًـــا مَـــا أُبَيَّنُهــا وَالنُّـؤْي كَـالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَـةِ الجَلَدِ فنصب « الأواري » إذ كان مستثنى من غير جنسه. فكذلك نصب ( قوم يونس ) ، لأنهم أمة غير الأمم الذين استثنوا منهم ، ومن غير جنسهم وشكلهم ، وإن كانوا من بني آدم. وهذا الاستثناء الذي يسميه بعض أهل العربية الاستثناء المنقطع، ولو كان ( قوم يونس ) بعض « الأمة » الذين استثنوا منهم ، كان الكلام رفعًا، ولكنهم كما وصفت. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها ) ، يقول: لم تكن قرية آمنت فنفعها الإيمان إذا نـزل بها بأس الله، إلا قرية يونس. قال ابن جريج: قال مجاهد: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها كما نفع قوم يونس إيمانهم إلا قوم يونس. حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) ، يقول: لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قريةً كفرت ثم آمنت حين حضرها العذابُ، فتُرِكت، إلا قوم يونس ، لما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة ، ولبسوا المسوح ، [ وفرقوا ] بين كل بهيمة وولدها، ثم عجُّوا إلى الله أربعين ليلةً. فلما عرف الله الصِّدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلَّى عليهم. قال: وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرضِ الموصل. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ( إلا قوم يونس ) ، قال: بلغنا أنهم خرجوا فنـزلوا على تل ، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ، يدعون الله أربعين ليلة ، حتى تاب عليهم. حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: غشَّى قوم يونس العذابُ، كما يغشِّي الثوبُ القبرَ. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن صالح المري، عن قتادة، عن ابن عباس: إن العذاب كان هبط على قوم يونس، حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، فلما دَعَوْا كشف الله عنهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وإسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا ) ، قال: كما نفع قوم يونس. زاد أبو حذيفة في حديثه ، قال: لم تكن قرية آمنت حين رأت العذاب فنفعها إيمانها، إلا قوم يونس متعناهم. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال ، حدثنا رجل قد قرأ القرآن في صدره ، في إمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فحدّث عن قوم يونس حين أنذر قومه فكذّبوه، فأخبرهم أن العذاب يصيبهم ، وفارقهم . فلما رأوا ذلك وغشيهم العذاب ، [ لكنهم ] خرجوا من مساكنهم ، وصعدوا في مكان رفيع، وأنهم جأروا إلى ربهم ودعوه مخلصين له الدين : أن يكشف عنهم العذاب ، وأن يرجعَ إليهم رسولهم. قال: ففي ذلك أنـزل: ( فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ) ، فلم تكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها ، إلا قوم يونس خاصة. فلما رأى ذلك يونس، [ لكنه ] ذهب عاتبًا على ربه ، وانطلق مغاضبًا وظنّ أن لن يُقدرَ عليه، حتى ركب في سفينة ، فأصاب أهلَها عاصفُ الريح فذكر قصة يونس وخبره. حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال: « لما رأوا العذاب ينـزل ، فرَّقوا بين كل أنثى وولدها من الناس والأنعام، ثم قاموا جميعًا فدعوا الله ، وأخلصوا إيمانهم، فرأوا العذاب يكشف عنهم. قال يونس حين كشف عنهم العذاب: أرجع إليهم وقد كذَبْتُهم! وكان يونس قد وعدهم العذاب بصبح ثالثةٍ، فعند ذلك خرج مغضبًا وساء ظنُّه. » حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: لما أرسل يونس إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه. قال: فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبِّحهم، فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذبًا ، فانظروا، فإن بات فيكم فليس بشيء ، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم. فلما كان في جوف الليل أخذ عُلاثَةً فتزوّد منها شيئًا ، ثم خرج، فلما أصبحوا تغشَّاهم العذاب ، كما يتغشَّى الإنسان الثوبَ في القبر، ففرقوا بين الإنسان وولده ، وبين البهيمة وولدها، ثم عجُّوا إلى الله فقالوا: آمنا بما جاء به يونس وصدّقنا! فكشف الله عنهم العذاب، فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا ، قال: جَرَّبوا عليّ كذبًا! فذهب مغاضبًا لربه حتى أتى البحر. حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال ، حدثنا ابن مسعود في بيت المال ، قال: إن يونس عليه السلام كان قد وعد قومه العذاب ، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرَّقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله واستغفروه . فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا ، وكان من كذب ولم تكن له بيِّنةٌ قُتِل، فانطلق مغاضبًا. حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح قال ، حدثنا صالح المرى، عن أبي عمران الجوني، عن أبي الجلد جيلان قال: لما غشّى قوم يونس العذاب ، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له: إنه قد نـزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال: قولوا : « يا حيُّ حين لا حيَّ، ويا حي محييَ الموتى، ويا حيُّ لا إله إلا أنت » ! فكشف عنهم العذاب ، ومُتِّعوا إلى حين. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: بلغني في حرف ابن مسعود: « فلولا » ، يقول ( فَهَلا ) . وقوله: ( لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) ، يقول: لما صدّقوا رسولهم ، وأقروا بما جاءهم به بعد ما أظلّهم العذاب وغشيهم أمْرُ الله ونـزل بهم البلاء، كشفنا عنهم عَذَاب الهوان والذلّ في حياتهم الدنيا ( ومتعناهم إلى حين ) ، يقول: وأخَّرنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبة، وتركناهم في الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم ، ووقت فناء أعمارهم التي قَضَيْتُ فَنَاءها. القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 99 ) قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكر لنبيه: ( ولو شاء ) ، يا محمد ( ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا ) ، بك، فصدَّقوك أنك لي رسول ، وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له ، حقٌّ، ولكن لا يشاء ذلك، لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولا أنه لا يؤمن بك ، ولا يتّبعك فيصدقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور ، إلا من سبقت له السعادةُ في الكتاب الأوّل قبل أن تخلق السموات والأرض وما فيهن، وهؤلاء الذين عجبوا من صِدْق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره ، ممَّن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا ) ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ، [ سورة يونس: 100 ] ، ونحو هذا في القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميعُ الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأَوّل ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاء في الذّكر الأول. فإن قال قائل: فما وجه قوله: ( لآمن من في الأرض كلهم جميعًا ) ، فـ « الكل » يدل على « الجميع » ، و « الجميع » على « الكل » ، فما وجه تكرار ذلك ، وكل واحدة منهما تغني عن الأخرى؟ قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك: فقال بعض نحويي أهل البصرة: جاء بقوله « جميعًا » في هذا الموضع توكيدًا ، كما قال: لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ، [ سورة النحل: 51 ] ، ففي قوله: « إلهين » دليل على « الاثنين » . وقال غيره: جاء بقوله « جميعًا » بعد « كلهم » ، لأن « جميعًا » لا تقع إلا توكيدًا، و « كلهم » يقع توكيدًا واسمًا، فلذلك جاء ب « جميعًا » بعد « كلهم » . قال: ولو قيل إنه جمع بينهما ليعلم أن معناهما واحد ، لجاز ههنا. قال: وكذلك: إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ، العدد كله يفسر به، فيقال: « رأيت قومًا أربعة » ، فلما جاء « باثنين » ، وقد اكتفى بالعدد منه ، لأنهم يقولون: « عندي درهم ودرهمان » ، فيكفي من قولهم: « عندي درهم واحد ، ودرهمان اثنان » ، فإذا قالوا : « دراهم » قالوا : « ثلاثة » ، لأن الجمع يلتبس ، و « الواحد » و « الاثنان » لا يلتبسان، ثم بُنِي الواحد والتثنية على بناء [ ما ] في الجميع، لأنه ينبغي أن يكون مع كل واحدٍ واحدٌ، لأن « درهمًا » يدل على الجنس الذي هو منه، و « واحد » يدل على كل الأجناس. وكذلك « اثنان » يدلان على كل الأجناس، و « درهمان » ، يدلان على أنفسهما، فلذلك جاء بالأعداد ، لأنه الأصل. وقوله: ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ، يقولُ جل ثناؤه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: إنه لن يصدقك يا محمد ، ولن يتبعك ويقرّ بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدّقك، لا بإكراهك إياه ، ولا بحرصك على ذلك ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) لك ، مصدقين على ما جئتهم به من عند ربك؟ يقول له جل ثناؤه: فاصدَعْ بما تؤْمر ، وأعرض عن المشركين الذين حقَّت عليهم كلمة ربّك أنَّهم لا يؤمنون . القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ( 100 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وما كان لنفس خلقتُها من سبيل إلى تصديقك ، يا محمد ، إلا بأن آذن لها في ذلك، فلا تجهدنّ نفسك في طلب هداها، وبلِّغها وعيدَ الله ، وعرِّفها ما أمرك ربك بتعريفها، ثم خلِّها، فإن هداها بيد خالقها. وكان الثوري يقول في تأويل قوله: ( إلا بإذن الله ) ، ما:- حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان في قوله: ( وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ) ، قال: بقضاء الله. وأما قوله: ( ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) ، فإنه يقول تعالى ذكره: إن الله يهدي من يشاء من خلقه للإيمان بك يا محمد، ويأذن له في تصديقك فيصدقك ويتبعك، ويقرّ بما جئت به من عند ربك ( ويجعل الرجس ) ، وهو العذابُ، وغضب الله ( على الذين لا يعقلون ) ، يعني الذين لا يعقلون عن الله حججه ومواعظه وآياته التي دلّ بها جل ثناؤه على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وحقيقة ما دعاهم إليه من توحيد الله ، وخَلْع الأنداد والأوثان. حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: ( ويجعل الرجس ) ، قال: السَّخَط. القول في تأويل قوله تعالى : قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ( 101 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد ، لهؤلاء المشركين من قومك، السائليك الآياتِ على صحّة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انظروا ، أيها القوم ، ماذا في السمواتِ من الآيات الدّالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله ، من شمسها وقمرها، واختلافِ ليلها ونهارِها، ونـزول الغيث بأرزاق العبادِ من سحابها وفي الأرض من جبالها ، وتصدُّعها بنباتها، وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبَّرتم موعظة ومعتبرًا، ودلالةً على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك ، ولا له على تدبيره وحفظه ظهير يُغْنيكم عما سواه من الآيات. يقول الله جل ثناؤه: ( وما تُغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) ، يقول جل ثناؤه: وما تغني الحجج والعبر والرسل المنذرة عبادة الله عقابه ، عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء ، وقضى لهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار ، لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدِّقون به. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ؟ القول في تأويل قوله تعالى : فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ( 102 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، محذِّرًا مشركي قومه من حلول عاجل نقمه بساحتهم نحوَ الذي حلَّ بنظرائهم من قبلهم من سائر الأمم الخالية من قبلهم ، السالكة في تكذيب رسل الله وجحود توحيد ربِّهم سبيلَهم: فهل ينتظر ، يا محمد ، هؤلاء المشركون من قومك المكذِّبون بما جئتهم به من عند الله، إلا يومًا يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذي كانوا على مثل الذي هم عليه من الشرك والتكذيب ، الذين مضوا قبلهم فخَلَوْا من قوم نوح وعاد وثمود؟ قل لهم ، يا محمد، إن كانوا ذلك ينتظرون: فانتظروا عقابَ الله إياكم ، ونـزول سخطه بكم، إني من المنتظرين هلاككم وبوارَكم بالعقوبة التي تحلُّ بكم من الله. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتاده،قوله: ( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ) ، يقول: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم قوم نوح وعادٍ وثمود. حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: ( فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) ، قال: خوَّفهم عذابه ونقمته وعقوبته، ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمرٌ أنجى الله رسله والذين آمنوا معه، فقال الله: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ . القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ( 103 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل ، يا محمد ، لهؤلاء المشركين من قومك : انتظروا مثل أيام الذين خلوا من قبلكم من الأمم السالفة الذين هلكوا بعذاب الله، فإن ذلك إذا جاء لم يهلك به سواهم، ومن كان على مثل الذي هم عليه من تكذيبك، ثم ننجّي هناك رسولَنَا محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن آمن به وصدّقه واتبعه على دينه، كما فعلنا قبل ذلك برُسلنا الذين أهلكنا أممهم ، فأنجيناهم ومن آمن به معهم من عذابنا حين حقّ على أممهم ( كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ) ، يقول: كما فعلنا بالماضين من رسلنا فأنجيناها والمؤمنين معها وأهلكنا أممها، كذلك نفعل بك ، يا محمد، وبالمؤمنين ، فننجيك وننجي المؤمنين بك ، حقًّا علينا غير شك. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( 104 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل ، يا محمد ، لهؤلاء المشركين من قومك الذين عجبوا أن أوحيت إليك : إن كنتم في شك ، أيها الناس ، من ديني الذي أدعوكم إليه ، فلم تعلموا أنه حقّ من عند الله: فإني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عني شيئًا ، فتشكُّوا في صحته. وهذا تعريض ولحنٌ من الكلام لطيفٌ. وإنما معنى الكلام: إن كنتم في شك من ديني، فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل شيئًا ولا تضر ولا تنفع. فأما ديني فلا ينبغي لكم أن تشكُّوا فيه، لأني أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إن شاء ، وينفعهم ويضرُّهم إن شاء . وذلك أن عبادة من كان كذلك لا يستنكرها ذو فطرة صحيحة. وأما عبادة الأوثان فينكرها كل ذي لبٍّ وعقلٍ صحيح. وقوله: ( ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ) ، يقول: ولكن أعبد الله الذي يقبض أرواحكم فيميتكم عند آجالكم ( وأمرت أن أكون من المؤمنين ) ، يقول: وهو الذي أمرني أن أكون من المصدّقين بما جاءني من عنده. القول في تأويل قوله تعالى : وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( 105 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، و « أن أقم » و « أن » الثانية عطفٌ على « أن » الأولى. ويعني بقوله: ( أقم وجهك للدين ) ، أقم نفسك على دين الإسلام ، ( حنيفًا ) مستقيمًا عليه، غير معوَجّ عنه إلى يهوديةٍ ولا نصرانيةٍ، ولا عبادة وثن ( ولا تكونن من المشركين ) ، يقول: ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه الآلهةَ والأندادَ ، فتكون من الهالكين. القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ( 106 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تدع ، يا محمد ، من دون معبودك وخالقك شيئًا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام. يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفًا ضرَّها، فإنها لا تنفع ولا تضر « فإن فعلت » ، ذلك ، فدعوتها من دون الله ( فإنك إذًا من الظالمين ) ، يقول: من المشركين بالله، الظالمي أنفُسِهم . القول في تأويل قوله تعالى : وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ( 107 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يصبك الله ، يا محمد ، بشدة أو بلاء ، فلا كاشف لذلك إلا ربّك الذي أصابك به ، دون ما يعبده هؤلاء المشركون من الآلهة والأنداد ( وإن يردك بخير ) ، يقول: وإن يردك ربك برخاء أو نعمة وعافية وسرور ( فلا رادّ لفضله ) ، يقول: فلا يقدر أحدٌ أن يحول بينك وبين ذلك ، ولا يردّك عنه ولا يحرمكه; لأنه الذي بيده السّرّاء والضرّاء ، دون الآلهة والأوثان ، ودون ما سواه ( يصيب به من يشاء ) ، يقول: يصيب ربك ، يا محمد بالرخاء والبلاء والسراء والضراء ، من يشاء ويريد ( من عباده وهو الغفور ) ، لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته ( الرحيم ) بمن آمن به منهم وأطاعه ، أن يعذبه بعد التوبة والإنابة. القول في تأويل قوله تعالى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ( 108 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ( قل ) ، يا محمد ، للناس : ( يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم ) ، يعني: كتاب الله، فيه بيان كل ما بالناس إليه حاجة من أمر دينهم ( فمن اهتدى ) ، يقول: فمن استقام فسلك سبيل الحق، وصدّق بما جاء من عند الله من البيان ( فإنما يهتدي لنفسه ) ، يقول: فإنما يستقيم على الهدى، ويسلك قصد السبيل لنفسه، فإياها يبغي الخيرَ بفعله ذلك لا غيرها ( ومن ضل ) ، يقول: ومن اعوج عن الحق الذي أتاه من عند الله، وخالف دينَه، وما بعث به محمدًا والكتابَ الذي أنـزله عليه ( فإنما يضل عليها ) ، يقول: فإن ضلاله ذلك إنما يجني به على نفسه لا على غيرها، لأنه لا يؤخذ بذلك غيرها ، ولا يورد بضلاله ذلك المهالكَ سوى نفسه. ولا تزر وازرة وزر أخرى ( وما أنا عليكم بوكيل ) ، يقول: وما أنا عليكم بمسلَّط على تقويمكم، إنما أمركم إلى الله، وهو الذي يقوّم من شاء منكم، وإنما أنا رسول مبلّغ أبلغكم ما أرسلتُ به إليكم. القول في تأويل قوله تعالى : وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ( 109 ) قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتبع ، يا محمد وحي الله الذي يوحيه إليك ، وتنـزيله الذي ينـزله عليك، فاعمل به، واصبر على ما أصابك في الله من مشركي قومك من الأذى والمكاره ، وعلى ما نالك منهم ، حتى يقضي الله فيهم وفيك أمره بفعلٍ فاصلٍ ( وهو خير الحاكمين ) ، يقول: وهو خير القاضين وأعدل الفاصلين . فحكم جل ثناؤه بينه وبينهم يوم بَدْرٍ، ، وقتلهم بالسيف، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فيمن بقي منهم أن يسلك بهم سبيل من أهلك منهم ، أو يتوبوا ويُنيبوا إلى طاعته، كما:- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ( وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) ، قال: هذا منسوخ ( حتى يحكم الله ) ، حكم الله بجهادهم ، وأمره بالغلظة عليهم . آخر تفسير سورة يونس   -=-========-

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق